:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، سبتمبر 09، 2020

لوحات ناقصة

في عام 1481، تلقّى ليوناردو دا فنشي تكليفا من بعض الرهبان بأن يرسم قصّة الحكماء الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيت لحم لرؤية المسيح الطفل. وبعد أن اعدّ الرسّام بعض الدراسات بدأ رسم اللوحة. لكن عمله فيها توقّف عندما كُلّف برسم "العشاء الأخير"، فترك اللوحة الأولى ناقصة ولم يعد لإكمالها أبدا.
والحقيقة أن فنّانين آخرين من عصور مختلفة مرّوا بنفس هذه التجربة، إذ يحدث أن يبدأ فنّان برسم لوحة معيّنة ثم يتخلّى عنها، إما لنقص المال، أو لانعدام الاهتمام أو الإلهام، أو لتدخّل الصدفة، أو لعدم القدرة على الذهاب إلى نقطة ابعد في الرسم، أو ببساطة لأن الرسّام توفّي فجأة.
بعد الثورة الأمريكية، ذهب الآباء المؤسّسون لأمريكا إلى باريس لعقد مفاوضات سلام مع فرنسا واسبانيا وانغلترا. وكُلّف الرسّام بنجامين ويست بأن يرسم تلك اللحظة التاريخية.
لكن الانغليز رفضوا الجلوس إلى الطاولة لرسمهم، وذلك لإحساسهم بالحرج بسبب هزيمتهم في الحرب. لذا رسم ويست المجتمعين وترك مكان الوفد الانغليزي على الطاولة فارغا لأنهم لم يكونوا هناك.
ورسّام البورتريه الأمريكي المشهور غيلبيرت ستيوارت الذي رسم صورا لأكثر من ألف شخصية، ترك بورتريه جورج واشنطن ناقصا.
وكان قد رسم للرئيس الأمريكي بورتريها ناجحا قبل ذلك. فكلّفته زوجة الرئيس برسم بورتريه ثانٍ له. لكن ستيوارت لم يستطع إكماله لسبب ما. ثم ظهر هذا البورتريه الناقص في ما بعد مطبوعا على ورقة نقدية من فئة الدولار.
ورسّام عصر النهضة الايطالي بارميجيانينو كُلّف ذات مرّة برسم صورة للمادونا وابنها (الأولى فوق). وكان هذا الرسّام معروفا بإتقانه وبراعته. وظلّ يرسم اللوحة إلى أن مات فجأة عام 1540 دون أن يكملها.
وقد قرّر راعيه أن يعلّق اللوحة في الكنيسة كما هي وأمر بأن تُكتب عليها عبارة تقول: القدر المحتوم منع الرسّام من إكمال هذه اللوحة".
والرسّام الفرنسي بول سيزان ترك بعض أجزاء من لوحته "طريق العودة" ناقصة. وقيل إن اختياره لفرشاة غير مناسبة هو ما دعاه إلى ترك اللوحة عند تلك النقطة.
وقال آخرون إن ضعف بصره لم يسعفه في ملاحظة النقص في الصورة. وعندما عرف لم يرغب في أن يتلفها عملا بقاعدة أن القليل يغني عن الكثير.
بعض خبراء الفنّ يقولون إن عدم اكتمال بعض الأعمال الفنّية هو ما يعطيها قيمة وأهمية أحيانا. فهي مثيرة بسبب نقصها لأنها تكشف عن قصص لم يُقدّر لها أن تظهر. كما أنها تقدّم فكرة عن العملية الإبداعية للفنّان وعن السياق التاريخي للعمل، حتى عندما يكون النقص متعمدّا.
المسوّدة الضخمة للوحة "الحكماء الثلاثة" التي تركها دا فنشي ناقصة تقدّم مثالا عن النقص عندما يصبح أداة ثمينة يوظّفها مؤرّخو الفنّ ومدراء المتاحف لسبر أغوار العمل الإبداعي.


وبحسب بعض النقّاد فإن الصورة غير الكاملة تشبه الأشعّة التي تسمح لك برؤية ما وراء سطح اللوحة كالنُسخ المبكّرة والرسوم الأوّلية والمعمار المؤسّس للصورة.
لكن هناك سؤالا يثار أحيانا وهو متى يُعتبر عمل فنّي ما منتهيا فعلا، وهل يحتاج لأن يبدو منتهيا كي يصبح كاملا وذا معنى؟
معلّمو عصر النهضة مثل دوناتيللو وليوناردو وميكيل انجيلو وغيرهم تركوا لنا بعض أهمّ الأعمال الفنّية غير المنتهية. وليس مصادفة أن الأخيرين بالذات، وهما أعظم فنّاني ذلك العصر، تركا اكبر عدد من اللوحات غير المكتملة.
الصور الناقصة لليوناردو ورفاقه شكّلت سابقة للفناّنين في القرن السادس عشر وما بعده. فقد أصبح من قبيل الموضة أن يترك فنّانون أعمالهم غير كاملة، لدرجة أنه ظهر مصطلح جماليّ جديد هو "نون فينيتو" الذي يعني بالايطالية الصورة غير المكتملة.
وقد قيل إن ميكيل انجيلو وجد في وقت ما أن من المستحيل بالنسبة له أن يعبّر بما فيه الكفاية عن مفاهيم الفخامة والرهبة باستخدام يديه وعدّة النحت. لذا فقد تخلّى عن الكثير من أعماله، بل وأتلف بعضها خوفا من أن يبدو في أعين الناس اقلّ براعةً وإتقانا.
أما ليوناردو فمعروف انه كان يلزمه سنوات لإكمال قطعة فنّية واحدة، لأنه كان يعتقد أن الجودة تأخذ وقتا، وهذا هو السبب في أن معظم أعماله تُركت ناقصة.
في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعلن بعض النقّاد أن بعض لوحات كلود مونيه (مثل اللوحة الثانية فوق) غير كاملة. واتّهم الناقد جون راسكين الرسّام جون ويسلر بأنه لا يرسم شيئا وإنما يكتفي بإلقاء الأصباغ في وجوه الجمهور.
وقد دافع بودلير عن الاثنين بقوله إن الكامل ليس منتهيا بالضرورة وإن المنتهي من حيث التفاصيل قد يفتقد إلى وحدة الشيء الكامل.
وهناك نظرية تقول إن للعمل الفنّي غير المكتمل أو الناقص جمالا فريدا يجعل الناظر يظنّ انه أكثر تلقائية وأكثر أصالة، كما انه يمسك أكثر بالحركة وبالجوهر الداخليّ للشخصية.
ويقول ناقد إن الصورة غير الكاملة تصنع تاريخا بسبب الظروف التي جعلتها تبدو ناقصة، كما أنها تعجب الناس أكثر من غيرها أحيانا لأنها تتيح رؤية الرسوم التمهيدية وأفكار الفنّان الحقيقية.
كان أفلاطون يرى أن الفن مجرّد وهم ويمكن أن يكون خطيرا إذا بدا حقيقيا أكثر ممّا ينبغي.
وفي مراحل مختلفة من تاريخ الفنّ ظهرت أصوات تدعو لإنتاج أعمال فنّية غير مكتملة، وكان ذلك انعكاسا لتغيّر أذواق الناس واختلاف معايير الجمال من عصر لآخر.
وهناك أعمال فنّية تُركت ناقصة عمدا مثل تلك لتي تحدّث عنها الروائي امبرتو ايكو واصفا إيّاها بالأعمال المفتوحة التي تعتمد بنيتها على عدم وجود نهاية. ويدخل ضمن ذلك أعمال بعض الموسيقيين مثل السيمفونية الناقصة لشوبيرت.
ورغم أن كثيرا من الفنّانين لم يكن في نيّتهم أن يرى الناس أعمالهم الناقصة، إلا أن تلك الأعمال تظلّ جديرة بالتقدير لأنها تقول لنا الكثير عن الروح الداخلية لأصحابها.
في عام 1998، بيعت لوحة للرسّام الهولندي بيت موندريان بـ 40 مليون دولار. وكان الرسّام قد ترك هذه اللوحة ناقصة إثر موته المفاجئ في نيويورك عام 1944.

Credits
artsheaven.com