:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أغسطس 08، 2025

رحلات باشو

"تسافر الشهور والأيّام عبر الأبدية. وكالرحّالة، تأتي السنوات وتمضي".

كان الشاعر الياباني ماتسو باشو (1694-1644) يشعر أحيانا بالملل من الحياة، فيقوم برحلات طويلة مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل بحثاً عن الإلهام، متأمّلا الطبيعة والمواقع الأثرية المشهورة. كان التجوال بالنسبة له نوعا من التطهير الروحي. ومن المرجّح أنه كان يرغب في خوض تجارب نفسية وروحية أثناء رحلاته في أنحاء البلاد كحاجّ.
وباشو يُعتبر بإجماع كافّة النقّاد ومؤرّخي الأدب تقريبا أهمّ شاعر ياباني في جميع العصور، وإليه تُنسب أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق والتي يقول فيها:
"بركة قديمة
ضفدع يقفز
رذاذ الماء".
وقد عُرف عن باشو تأثّره الكبير بالشعراء الصينيين الكلاسيكيين، كشاعرَي سلالة تانغ الشهيرين "لي باي" و "دو فو" اللذين كان معجبا بهما كثيرا. وكان الشعر الصيني الكلاسيكي يحمل مُثلا عُليا يُتوقّع من الشعراء أن يلتزموا بها، كالحاجة إلى فقدان الثقة بالنفس، وعدم تقبّل ما يُنظر إليه كابتذال اجتماعي، واستعداد الشاعر لمغادرة المجتمع كلّما رأى ذلك ضروريا، والتجوال بحثا عن التواصل مع معلّمي الشعر والتأمّل. ومن الواضح أن هذه المُثل كانت الدافع وراء رحلات باشو العديدة سيرا على الأقدام في أنحاء اليابان.
"لا تتبع آثار الأوّلين
إبحث عمّا
بحثوا عنه".
كان باشو بوذيّا، لكنه كان أيضا شنتويّا وكونفوشيّا وطاويّا في نفس الوقت. تعلّقه الشديد بهذا العالم جعله يتجنّب دخول الأديرة، إلا في زيارات قصيرة للتأمّل. وكان يؤمن بالجميع، ويعامل الدين باحترام بالغ. ومع ذلك، كان لديه من الشكوك ما يكفي تجاه الدين، لذا فضّل الاحتفاظ بآرائه الخاصّة. كان في الأساس شاعرا منجذبا إلى مُثل الشعراء الكلاسيكيين، لكنه كان يستمتع أيضا بحياة الرحّالة.
"لا أحد يسافر
على هذا الطريق إلا أنا
هذا المساء الخريفي"
وفي رحلاته المتعدّدة، كان باشو يرتدي زيّ الراهب، لأنه أراد أن يسافر ككاهن متجوّل، ولأن زيّه كان يحميه من اللصوص، إذ كان الكهنة معروفين بعدم حملهم أيّ ممتلكات ثمينة. ومن خلال مذكّراته عن رحلاته، خلق الشاعر عالما مثاليّا من الرهبان المتجوّلين. وكثيرا ما كان يشاد به كنموذج للشاعر المتديّن/المتجوّل. ويمكن اليوم العثور على أحجار كبيرة منقوشة بقصائده على طول الطرق التي سلكها في تجواله.
"مرضت أثناء الرحلة
وما زلت أتجوّل في البرّية
في أحلامي".
كانت رحلات الشاعر طويلة قادته إلى اثنتي عشرة مقاطعة تقع بين إيدو وكيوتو. من إيدو، اتّجه غربا على طريق رئيسي يمتدّ على طول ساحل المحيط الهادئ. مرّ بسفح جبل فوجي وعبَر عدّة أنهار كبيرة وزار أضرحة الشنتو الكبرى، ثم وصل إلى مسقط رأسه، أوينو، والتقى بأقاربه وأصدقائه.
في كثير من الأحيان، كانت صور رياح الخريف وصراخ القردة تُستخدم بوفرة في الشعر الصيني لخلق شعور بالحزن. وبينما يواصل باشو سرد رحلته، يستشهد بالشاعر الصيني "دو مو" من القرن التاسع قائلا: كان القمر يُرى بالكاد، وكان الظلام ما يزال يخيّم على سفح الجبل. ركبوا خيولهم قبل صياح الديوك، والسياط لا تزال معلّقة على ظهورهم. عندما وصلتُ إلى جبل شياويون، تشتّتت أفكاري فجأة. ثم تذكّرتُ قصيدة دو مو "الرحيل المبكّر" التي يقول فيها:
أتركُ السوط معلّقا، وأنا أثق في مشية الحصان. لم يعد ممكنا سماع صوت الديوك على مسافة أميال. مشينا بين الأشجار، وكنت لا أزال أحلم، وفي منتصف الحلم تساقطت عليّ الأوراق فجأة".
ثم يصف باشو بدقّة كيفية سفره وعلاقته بالعالم الديني:
ليس لديّ سيف في حزامي، بل حقيبة متسوّل حول عنقي، وفي يدي مسبحةٌ بها 18 خرزة. رأسي حليق ووجهي أشبه بوجه الراهب، لكني علماني. لست راهبا، لكن من يحلقون رؤوسهم يعامَلون كبوذيين ولا يُسمح لهم بدخول الأضرحة".
كانت رحلاته مجزية. التقى باشو في الطريق بالعديد من الأصدقاء القدامى والجدد. وألّف عددا من قصائد الهايكو والرينكو عن تجاربه خلال رحلاته، بما في ذلك تلك التي جُمعت في ديوان "شمس الشتاء". كما كتب أوّل يوميات سفر له: "سجلّات هيكل عظمي معرّض للعوامل الجوّية" و"الطريق الضيّق إلى أعماق الشمال". وخلال كلّ تلك التجارب، كان باشو يتغيّر تدريجيا. في جزء من اليوميات، يظهر الهايكو التالي الذي كتبه في نهاية العام:
"مضى عام آخر
قبّعة سفر على رأسي
وصنادل من القشّ على قدمي".
في تلك الرحلة، زار باشو مسقط رأسه حيث يعيش أخوه وأخته. وهناك أراه أخوه ضفائر من شعر والدته التي توفّيت قبل ذلك بعام. وكتب باشو يقول: عدنا إلى مسقط رأسنا في سبتمبر. كان العشب مغطّى بالثلج، ولم يعد لقبر أمّي من أثر. كلّ شيء قد تغيّر. لم يستطع أخي، بشعره الأبيض وبالتجاعيد على جبينه، إلا أن يشير إلى أننا ما زلنا على قيد الحياة. ثم فتح حقيبة التذكارات وقال: إكراما لشعر أمّي الأبيض، دعونا نبكي"!
واصل باشو ومرافق له رحلتهما، فوصلا إلى مكان يصطاد فيه الصيّادون سمك السلمون. وركبا قاربا وعبرا النهر إلى كاشيما، حيث كان معلّم باشو يعمل رئيسا لكهنة أحد المعابد. ودُعيا لقضاء الليل هناك. وهطلت الأمطار طوال الليل. لكن في الفجر، صفَت السماء قليلا، فأيقظ باشو الجميع. بالنسبة له، كان ضوء القمر المصحوب بصوت المطر تجربة روحية. لكنه شعر بخيبة أمل لأنه لم يستطع رؤية البدر. ظلّت السحب المتحرّكة تحجب المشهد، وبدا كما لو أن القمر نفسه يتحرّك بسرعة:
"القمر يتحرّك سريعا
بين قمم الأشجار
وأنا أُمسكُ بالمطر"
في عام ١٦٨٧، نشر باشو كتابا بعنوان "ملاحظات على حقيبة سفر". وهذه الفقرة منه تلخّص فلسفته جيّدا ويتحدّث فيها عن نفسه:
بين مئات العظام وفتحات الجسم البشري التسع، هناك "راهب نزِق". إنه رقيق جدّا لدرجة أنه يمكن أن يَتلف بسهولة. لطالما أحبَّ الشعر الجامح، وهو الرذيلةٌ التي أصبحت هاجسه طوال حياته. أحيانا كان يملؤه اليأس ويحاول تجاهل كتبه المقدّسة. وأحيانا كان يشعر بفخر لبلوغه قمما سامية. كان دائما متردّدا ومفرطا في الحماس. وفي مرحلة ما، حاول تهدئة نفسه باحتمال أن يحقّق نجاحا دنيويا، لكن الشعر وضع حدّا لطموحاته".
ويضيف: في النهاية، أدركُ أن المخرج الوحيد هو الاستمرار في الشعر. "من لا يجد في قلبه متّسعا لتفتّح الزهور! يمكن للبشر أن يصبحوا جزءا من الطبيعة. كان ذلك في بداية الشهر حين غاب القمر. كانت السماء غير مستقرّة، وكنت كورقة شجر تتقاذفها الرياح، لا أعرف إلى أين أذهب":
"إنسان بلا مأوى
شخص ما قد يدعوني
أوّل مطر في الشتاء"


عاد ماتسو باشو إلى إيدو في شتاء عام ١٦٩١. رحّب به أصدقاؤه وتلاميذه هناك، وبعضهم لم يروه لأكثر من عامين. وتضافرت جهودهم لبناء كوخ لمعلّمهم الذي تخلّى عن كوخه القديم قبيل رحلته الأخيرة. لكن في هذا الكوخ الأخير، لم يستطع باشو أن ينعم بالحياة الهادئة التي كان يرغب بها. فمن جهة، أصبح عليه الآن أن يعتني ببعض الناس. فقد جاء ابن أخ له مريض ليعيش معه. واعتنى به باشو حتى وفاته بعد ذلك بعامين.
ثم زارته امرأة كان يعرفها في شبابه، وقد تكفّل برعايتها هي أيضا. كانت هي الأخرى في حالة صحّية سيّئة، ولديها العديد من الأطفال الصغار. وبعيدا عن هذه الانشغالات، كان باشو مشغولا للغاية، بسبب شهرته الكبيرة كشاعر. وأراد الكثيرون زيارته، أو دعوته للزيارة. في رسالة يُفترض أنها كُتبت في الشهر الثاني عشر من عام ١٦٩٣، أخبر صديقا أن يؤخّر زيارته له الى وقت آخر. وفي رسالة أخرى كُتبت في نفس الوقت تقريبا، قال بصراحة: أزعجك الآخرون، فلا تهدأ".
وفي ذلك العام، ألّف هذا الهايكو:
"سنة بعد سنة
على وجه القرد
قناع قرد".
وتحمل هذه القصيدة مسحة مرارة غير مألوفة عند باشو. فقد كان غير راضٍ عن التقدّم الذي حقّقه. ومع تزايد مسؤولياته، أصبح تدريجيّا ينزع نحو العدمية. كان قد أصبح شاعرا متجاوزا لانشغالاته الدنيوية، لكنه الآن وجد نفسه منغمسا في شؤون الحياة بسبب شهرته الشعرية. كان الحلّ إما أن يتخلّى عن كونه شاعرا أو أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما.
جربّ باشو الخيار الأوّل، لكن دون جدوى. قال: حاولت التخلّي عن الشعر، والصمت. لكن في كلّ مرّة أفعل ذلك، كان شعري يتسلّل إلى قلبي فيومض شيء ما في ذهني. هذا هو سحر الشعر". لقد أصبح شاعرا أكثر من اللازم. لذا اضطرّ إلى الخيار الثاني: أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما. وهذا ما فعله في خريف عام ١٦٩٣. "كلّما زارني الناس، ينتابني شعور مزعج بفقدان حياتي الخاصّة. الآن لا أجد ما هو أفضل من الاقتداء بـ "صن تشينغ" و"تو لانغ" اللذين انعزلا وراء أبواب مغلقة. سيصبح انعدام الصداقة صديقي والفقر ثروتي. وكرجل عنيد في الخمسين، أكتبُ لأؤدّب نفسي".
في ذلك الوقت كتب هذه القصيدة:
"زهرة الصباح
في النهار
يثبَّت مسمار
على بوّابة الفناء الأمامي".
من الواضح أن باشو كان يتمنّى أن يعجَب بجمال زهرة الصباح دون الحاجة إلى تثبيت مزلاج على بوّابته. ولا بدّ أن كيفية تحقيق ذلك كانت موضوع ساعات طويلة من التأمّل داخل منزله المغلق. وقد حلّ المشكلة بما يرضيه وأعاد فتح البوّابة بعد حوالي شهر من إغلاقها.
واستند حلّ باشو هذا إلى مبدأ "الخِفّة"، الذي يمكّن الإنسان الذي انفصل عن أشغال الدنيا من العودة إلى العالم. "يعيش الإنسان وسط الوحل كمتفرّج روحي. لا ينجو من مظالم الحياة، يقف وحيدا، ويبتسم لها فحسب". وبدأ باشو الكتابة على هذا المبدأ ونصح طلّابه بتقليده.
بعد فترة، مرض الشاعر وتساءل مجدّدا عن احتمال وفاته بعيدا عن وطنه. لكنه تعافى وواصل رحلته لرؤية جزيرة ماتسوشيما الشهيرة، والتي تُعتبر إحدى عجائب اليابان الثلاث الكبيرة. ثم توجّه إلى هيرايزومي ليشاهد آثارا تعود إلى عصر هييان. وفي موقع ساحة معركة قديمة سقط فيها قتلى، نظم باشو قصيدة قال فيها:
"برّية من عشب الصيف
تُخفي كل ما تبقّى
من أحلام المحاربين".
بعد أن استعاد باشو توازنه النفسي، بدأ يفكّر في رحلة أخرى. ربّما كان حريصا على نقل مبدأه الشعري الجديد، "الخفّة"، إلى الشعراء خارج إيدو أيضا. وهكذا، في صيف عام ١٦٩٤، سافر غربا على طول ساحل المحيط الهادئ. استراح في أوينو لفترة، ثم زار طلابه في كيوتو وفي مدينة قرب الساحل الجنوبي لبحيرة بيوا.
عاد باشو إلى أوينو في أوائل الخريف ليستريح لشهر تقريبا. ثم غادر إلى أوساكا مع بعض الأصدقاء والأقارب، بمن فيهم ابن أخيه الأكبر. لكن صحّته كانت تتدهور بسرعة، على الرغم من أنه استمرّ في كتابة بعض القصائد الرائعة:
"على غصن عارٍ
يستقرّ غراب
في شفق الخريف".
كانت رحلة باشو تقترب من نهايتها، لكنه وصل أوّلا إلى معبد إيهيجي الشهير، حيث أراد التأمّل قبل التوجّه إلى قلعة هيغوتشي وسماع أولى صيحات إوزّ الخريف. كان القمر ساطعا جدّا في تلك الليلة، وعندما وصل إلى نُزل وسأل صاحبه إن كانت الليلة التالية ستكون بنفس السطوع، أجابه بأن ذلك مستحيل، وقدّم له بعضا من مشروب الساكي. وأراد باشو اغتنام هذه الفرصة لزيارة قبر الإمبراطور "حيث يتسلّل ضوء القمر من بين أشجار الصنوبر وتمتدّ الرمال البيضاء كالثلج أمام الحرم".
ومن بين قصائد الهايكو التي كتبها في تلك الفترة:
"سأموت قريبا
وسيختفي المشهد
بينما تستمرّ الحشرات في هسيسها".
تشير القصيدة إلى إحساس باشو بدنوّ أجله. وبعد ذلك بوقت قصير، اضطجع على فراشه بسبب المرض. وسارع العديد من أتباعه إلى أوساكا وتجمّعوا حول سريره. ويبدو أنه حافظ على هدوئه في أيّامه الأخيرة. كان يعلم تماما أن الوقت قد حان للصلاة، لا لكتابة الشعر. ومع ذلك كان يفكّر في الشعر ليل نهار. أصبح الآن هاجسا، "تعلّقا آثما"، كما كان يسمّيه هو نفسه.
توفّي باشو في سنّ مبكّرة نسبيّا، عن عمر ناهز الخمسين. وكان من الممكن أن يعيش أطول لو اعتنى بنفسه بشكل أفضل. وكانت قصيدته الأخيرة:
"أصبت بالمرض أثناء رحلتي
ولا تزال أحلامي تتجوّل
لكن في حقول ذابلة".

Credits
matsuobashohaiku.home.blog