:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، أغسطس 04، 2025

قصّة صعود الكومانتشي وأفولهم


كانت الكومانتشي أقوى قبيلة هندية في التاريخ الأمريكي على الإطلاق. وعُرف عن محاربيها براعتهم في القتال بالخيل، لدرجة أنهم سيطروا على مناطق شاسعة في وجه الزحف الإسباني والمكسيكي والتكساسي، رغم قلّة عددهم وعتادهم. وفي أوج مجدهم، بلغ عدد الكومانتشي عشرات الآلاف وكوّنوا قوّة عسكرية ضاربة. لكن عددهم لم يتزايد قط، لأن نمط حياتهم المتنقّل والعنيف أدّى إلى انخفاض معدّلات المواليد وارتفاع معدّلات الوفيات بينهم بسبب خسائر الحرب.
في كتابه "إمبراطورية قمر الصيف"، يروي الكاتب سام غوين الأبعاد المتعدّدة لثقافة محاربي الكومانتشي وصدامهم مع المستوطنين الأوربيين الساعين للاستيلاء على تكساس. وتبدأ القصّة بوصف لإحدى الغارات المبكّرة التي شنّها الكومانتشي على المستوطنين على الحدود في ثلاثينات القرن التاسع عشر. ثم يتتبّع الكاتب الحرب المستمرّة بين الثقافات الأنغلوساكسونية في تكساس، وصولا إلى جهود الحكومة الفيدرالية الأمريكية لترويض الكومانتشي.
وفي الكتاب أيضا نتعرّف على عدد من الشخصيات الرائعة على جانبي هذا الصراع، ونشعر بالفزع من كمية العنف والوحشية من الطرفين. ثم نرى، على مدى عقود من الزمن، كيف تطوّرت النهاية الحتمية لهذه الحرب إلى الهيمنة النهائية للثقافة الأمريكية البيضاء على عالم الكومانتشي في تكساس وفي أجزاء من أوكلاهوما ونيو مكسيكو وكانساس.
في بداية الكتاب، يشرح غوين كيف برز الكومانتشي بين قبائل الأمريكيين الأصليين في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث صارت الخيول الإسبانية الهاربة جزءا من المشهد الأمريكي، وأصبح الكومانتشي في نهاية المطاف أفضل محاربي العالم على ظهور الخيل وأمهر من استخدم الأقواس والسهام في المعارك.
الخيول هي المكوّن الرئيسي لقصّة الكومانتشي، وقد شبّههم بعض المؤرّخين بـ "شعوب الخيول" الأخرى مثل المغول والتتّار والهنغاريين. وقارن بعض علماء الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا هذا الشعب المحارب بثقافة اسبارطا القديمة أو الكِلت والفايكنغ.
ويجادل المؤلّف بأن سرّ نجاح الكومانتشي يكمن في كونهم من بين أمهر الفرسان في تاريخ العالم. لم تكن لديهم فنون أو طقوس القبائل الأمريكية الأصلية الأخرى، بل كانوا يركّزون على تعلّم ركوب الخيل ورمي الأقواس وصيد الجاموس وقتل الأعداء.
ومن خلال مهاراتهم الحربية، طوّر الكومانتشي ثقافة بدوية مبنيّة على الشجاعة في القتال. ولأكثر من قرن، سيطروا على القبائل الأخرى في السهول الجنوبية ودمّروا أكثرها. ولم يكن المحاربون الأوربيون من الإسبان والأمريكيين، المدرّبين على القتال سيراً على الأقدام بمسدّساتهم وبنادقهم، ندّا لهم.
كانت الحياة في قرى الكومانتشي، المخيّمين على ضفاف الجداول أو في الأودية أو قرب الأنهار، مثالية. وعندما كان البيض يهاجمون تلك القرى، كان رجال الكومانتشي يقاتلون بشراسة لصدّ الهجوم أو تحويل مساره للسماح لكبار السنّ والنساء والأطفال بالفرار.
وكان لنشوب الحرب الأهلية الأمريكية تأثير كبير على الحرب التي كانت تُخاض ضدّ الكومانتشي. وعندما انفصلت تكساس عن الاتحاد، أصبحت جزءا من الكونفيدرالية. وكانت الحكومة الكونفيدرالية منشغلة بقتال اليانكيين، فلم تُولِ اهتماما لمحاربة الكومانتشي. وهكذا ظنّ الكومانتشي أنهم سيتنفّسون الصعداء أخيرا، واعتقدوا أن الحرب قد انقلبت لصالحهم، ولو إلى حين.
وفي عام 1869، اكتمل بناء خطّ السكّة الحديد عبر القارّة، الذي يربط الشرق الصناعي بالغرب النامي. ولم يتبقَّ سوى عقبة واحدة هي القبائل الهندية التي تقطن السهول الكبرى.
وبعد بضع سنوات، بدأت عوامل عدّة تتجمّع لتعلن نهاية سيطرة الكومانتشي، كظهور المسدّس السريع الطلقات والبندقية والتزايد المستمر في أعداد المستوطنين الأوربيين الذين انتقلوا إلى تكساس، والذي تزامن تقريبا مع موت الكثير من الكومانتشي بسبب تفشّي أمراض الحصبة والجدري والكوليرا. كما أدّى القتل السريع لقطعان الجاموس على أيدي الصيّادين البيض إلى زيادة صعوبة الصيد والعثور على الغذاء بالنسبة للهنود.
ثم ظهر قادة عسكريون بيض تعلّموا أساليب الكومانتشي واستخدموها ضدّهم وواجهوا تكتيكاتهم بتكتيكات مضادّة وفعّالة. وأخذ الجنرال شيريدان والعقيد ماكنزي وغيرهما من المحاربين ذوي الخبرة والانضباط على عاتقهم بذل كلّ ما في وسعهم لإخضاع الكومانتشي. وبحلول عام ١٨٧٥، كان معظمهم ممّن لم يُقتلوا أو لم يكونوا في محميات عسكرية، قد استسلموا.
النصف الثاني من كتاب سام غوين مخصّص لسرد قصّة زعيم الكومانتشي كوانا باركر ووالدته البيضاء المخطوفة سينثيا آن باركر المتحدّرة من إحدى أبرز العائلات المرموقة في تكساس. وقصّة هاتين الشخصيتين مثيرة وتستحقّ أن تُروى. فقد اختُطفت سينثيا آن في مايو عام 1836 في غارة للكومانتشي على بلدتهم. وتبنّتها القبيلة وهي طفلة وأصبحت في النهاية زوجة لزعيم.
ثم أنجبت المرأة ابنها كوانا باركر الذي برزت صورته أكثر مع نضوجه وتحوّله إلى محارب شجاع يكره الأوربيين لقتلهم والده، وليصبح في النهاية زعيما لأكثر قبائل الكومانتشي بأساً واستقلالية. وقد رفضت والدته مرارا العودة إلى المجتمع الأبيض. وبعد أن استردّتها عائلتها، واصلت محاولات الفرار الى أن عادت أخيرا إلى الشعب الذي أحبّته.
كان كوانا باركر من بين آخر الكومانتشي الأحرار، لكنه اضطرّ أخيرا إلى الاستسلام عام ١٨٧٥. وبعد ذلك، بدأ حياة جديدة كشخصية مشهورة، حيث عاش في منزل ضخم على الطراز الأمريكي مع العديد من زوجاته وأطفاله وأصبح مربّي ماشية وارتدى بدلة وحافظ على شعره طويلا على طريقة الكومانتشي، واستضاف جنودا ورؤساء أمريكيين مثل ثيودور روزيفلت وكسب ثم خسر ثروة صغيرة.


قصّة كوانا باركر هي حلم أيّ روائي، فقد عاش في فترة انتقالية مهمّة وعنيفة. كان قد ولد في السهول مع حرّية شبه مطلقة، وفي النهاية مات في منزل ضخم من طابقين في أوائل القرن العشرين؛ في عصر السيّارات والطائرات. كان مناضلا من أجل الحرّية، لكن عندما رأى أن اللعبة انتهت، تحوّل بمرونة وسايرَ التيّار.
وقد عاش كوانا ووالدته على المناطق الحدودية، متداخلَين بين عرقين وثقافتين ومسارين مختلفين تماما. كانت مصائب سينثيا آن شكسبيرية الطابع، في حين تمكّن ابنها بطريقة ما من لملمة ذاته المتشظيّة، ليعيش كـ كومانتشي وأمريكي وينجح في كلا العالَمين.
قصّة صعود وأفول الكومانتشي، كما يرويها هذا الكتاب، مثيرة ومكتوبة بشكل جيّد. لكن يجب على المرء أن يكون على استعداد لقراءة ومواجهة مظاهر العنف والوحشية المتجاوزة التي فتحت الغرب الأمريكي أمام المستوطنين والقيم الأوروبية.
وربّما يمتعض القارئ من استخدام الكتاب أحيانا لمفردة "متوحّشين" لوصف الكومانتشي، لكن قد يكون المقصود أنهم كانوا يقاتلون بشراسة، أو ربّما استخدمَ هذه الكلمة في سياق نظرة أعدائهم إليهم. ومع ذلك فالطبيعة البشرية عموما متوحّشة وقاسية حتى في أكثر المجتمعات المسمّاة "متحضّرة".
ومن منظور أوسع، يطرح كتاب "إمبراطورية قمر الصيف" حجّة ذات دلالات سياسية. فعند مناقشة الاستعمار الأوربّي للسكّان الأصليين في أيّ مكان في العالم، يمكن أن يثار جدل حادّ حول الحجج الأخلاقية. وإحداها هي أن الأوروبيين اجتاحوا العالم لأنهم أعلى ثقافة وحرّية من الشعوب المستعمَرة، وما إلى ذلك.
وترى حجّة أخرى أن المستعمرين الأوروبّيين لم يكونوا يتميّزون بالتفوّق الثقافي، بل بكونهم غزاة استغلوا السكّان الأصليين وخدعوهم وارتكبوا بحقّهم مجازر وحشية واتبعوا أساليب ملتوية ولا أخلاقية، مثل خرق المعاهدات والحرب البيولوجية "أي نشر فيروسات الأمراض القاتلة".
وغوين يتبنّى وجهة نظر ثالثة، وهي أننا "كلّنا بشر" والشرّ لا يختصّ شعبا أو أمّة دون غيرها. فهو مثلا يعترف بالوحشية والخداع والعنصرية وارتكاب المجازر التي غالبا ما تَعاملَ بهما الأوربيون على الحدود مع الأمريكيين الأصليين. لكنه يجادل بأن الكومانتشي كانوا بنفس وحشية التكساسيين أو الأمريكيين أو الإسبان. ويضيف أن قصص الكومانتشي الذين يذبحون أهل القرى ويغتصبون النساء ويسلخون فروة الرأس لم تكن أساطير بل حقائق.
وفي ذروة الحروب بين الكومانتشي والتكساسيين والأمريكيين، انخرط كلا الجانبين في عنف متطرّف ضدّ المدنيين، ووُظّف كشكل من أشكال الحرب النفسية. ومن خلال بثّ الرعب في نفوس المستوطنين الأمريكيين، شكّل الكومانتشي عامل ردع قويّ للاستقرار على حدود تكساس. ومن خلال تدمير قرى الكومانتشي، تمكّن الجنود الأميركيون في نهاية المطاف من شلّ قدرة هذا الشعب على مواصلة مقاومتهم.
غير أن الكتاب يتضمّن فقرات قد تُشتمّ منها رائحة العنصرية كمثل قول المؤلّف: كان الصدام المصيري بين المستوطنين من ثقافة أرسطو والقدّيس بولس ودافنشي ولوثر ونيوتن وبين فرسان السكّان الأصليين من سهول الجاموس، كما لو أن الأوّلين كانوا ينظرون إلى الوراء آلاف السنين إلى نسخ من أنفسهم في فترة ما قبل المسيحية وما قبل الأخلاق والبربرية المقيتة."
ومثل قوله: كان جعل الناس يصرخون من الألم أمرا مثيرا ومجزيا بالنسبة للكومانتشي، تماما كما كان تعذيب الضفادع أو نزع أرجل الجنادب أمرا مثيرا ومجزيا للفتيان الصغار في أمريكا الحديثة. ويُفترض أن الفتيان يكبرون ويتجاوزون ذلك، أما بالنسبة للهنود فقد كان جزءا مهمّا من ثقافتهم الراشدة، وهو جزء تقبّلوه دون اعتراض."
وشبيه بهذه الملاحظة قول أندرو جاكسون عام ١٨٣٣: لقد تأكّدت قناعاتي على مدى سنوات عديدة بأن هذه القبائل "الهندية" لا تستطيع البقاء محاطةً بمستوطناتنا وعلى اتصال دائم بمواطنينا. فهي لا تمتلك الذكاء ولا الجدّية ولا العادات الأخلاقية ولا الرغبة في تطوير نفسها، وهي أمور أساسية لأيّ تغيير إيجابي في وضعها. ولأنها نشأت وسط عرق آخر متفوّق دون أن تدرك أسباب دونيّتها أو تسعى للتخلّص منها، فإنها ستخضع بالضرورة لسطوة الظروف وسرعان ما تختفي."
بعض النقّاد أشادوا بهذا الكتاب لـ "عدم تردّده في مواجهة العنف المتأصّل في الكومانتشي"، في حين أن بعض المؤرّخين يتجنّبون ذكر الأفعال غير الأخلاقية للقبائل الهندية من أجل الحفاظ على فكرة المتوحّش النبيل. وهناك روايات مفصّلة عن أساليب التعذيب التي اتبعها رجال الكومانتشي. فقد كان قطع أصابع القدمين واليدين والأعضاء التناسلية للإسبان والأمريكيين وغيرهم من رجال الحدود، وحشوها في أفواه أصحابها ممارسة شائعة بينهم. وكان ترك الجمر الساخن يحرق بطون الأسرى أسلوب تعذيب آخر كثيرا ما لجأوا الى تطبيقه.
وكان من الشائع أن يُقتل جميع الرجال البيض وتُسلخ جلودهم، بينما عانى بعض الأسرى الأحياء من موت أبطأ وأكثر إيلاما. وتعرّضت النساء الأسيرات للاغتصاب الجماعي، وعُذّب الكثيرات منهن وقُتلن. وغالبا ما كان الكومانتشي يتبنّون الأطفال قبل سنّ المراهقة أو يقايضون بهم قبائل أخرى.
لكن المؤلّف لا يقول إن هذه الممارسات ظهرت فقط بعد أن جاء الأوروبيون وجلبوا معهم الحرب للاستيلاء على أراضي السكّان الأصليين. والحقيقة أن الحرب بين القبائل الهندية نفسها لم تكن أبدا بلا دماء، ولم تكن نظيفة أو نبيلة، بل كانت دائما تافهة ووحشية.
وعلى الرغم من أن غوين يستخدم مصطلح "الإمبراطورية" بشكل فضفاض، إلا أن الكومانتشي كانوا "إمبراطورية" بالمعنى الحرفي للكلمة. فقد جاءوا من وايومنغ وهاجروا ببطء نحو الجنوب. وظلّوا لفترة طويلة تحت رحمة القبائل الأخرى، الى أن وصل الإسبان وخيولهم إلى المشهد في مفارقة مريرة.
وبتكييفهم الرائع للخيول مع نمط حياتهم، نما الكومانتشي ليصبحوا قوّة عسكرية وسياسية ضاربة. وكادوا يبيدون بعض القبائل الأخرى مثل الأباتشي والتونكاوا، وأبرموا معاهدات مع قبائل أخرى وعزّزوا ممتلكاتهم في أرض محدّدة عُرفت باسم "كومانتشيريا"، شملت أجزاء من تكساس ونيومكسيكو وكولورادو وأوكلاهوما وكانساس الحالية.
ومن الواضح أن نهاية هذا الكتاب لم تكن احتفالا بانتصار الولايات المتحدة، بل على العكس، بدا كأن الكاتب يشعر بالحزن لاندثار ثقافة الكومانتشي وخسارتهم لأرضهم. ويقول: كانوا محاربين شرسين دافعوا عن أرضهم لسنوات طوال في وجه قوّة ساحقة. ولولا الأسلحة الحديثة لما استطاعت الحكومة الاتحادية إلحاق الهزيمة بهم".
ورغم أن الكتاب دقيق تاريخيّا في معظمه وموضوعيّ إلى حدّ ما ومتعاطف بالتأكيد مع تاريخ شعب الكومانتشي في القرن التاسع عشر، إلا أنه لا يجب أن ننسى في النهاية أنه كُتب من منظور أنغلو أمريكي. ورغم بعض الانتقادات، إلا أنه يمكن اعتبار الكتاب نافذة على حقبة تاريخية مهمّة وعلى شعب فريد من نوعه، حيث يواكب صعودهم إلى ذروة قوّتهم المذهلة ثم سقوطهم في براثن الفقر على مدار نصف قرن، قبل أن يُباد أكثرهم وتختفي ثقافتهم.

Credits
bobsbeenreading.com
dhmontgomery.com