:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مايو 20، 2011

أغاني الحبّ والحرب

غالبية الكتابات التي ظهرت عن أفغانستان خلال العقود الثلاثة الأخيرة هي إمّا عن تاريخ ذلك البلد أو عن حركة طالبان أو عن الإسلام كثقافة. غير أن هذا الكتاب مختلف من حيث انه يحاول رسم صورة عن حياة وواقع النساء في أفغانستان.
عنوان الكتاب "أغاني الحبّ والحرب: شعر النساء الأفغانيّات"، وفيه يورد مؤلّفه الشاعر والأكاديميّ الأفغاني سيّد بهاء الدين مجروح مجموعة من القصائد المسمّاة باللاندي، وهي أشعار ارتجلتها وغنّتها آلاف النساء الأفغانيات المجهولات على مرّ قرون. وهذه القصائد ذات بنية بسيطة وتستخدم لغة سهلة ومباشرة، كما أنها تتّبع قواعد محدّدة في نظم الشعر البشتوني الشفهي.
ويمكن القول إن هذه الأشعار عبارة عن أغنيات للأرض، فهي تحتفل بالطبيعة والجبال والأنهار والفجر والضياء. لكنها بنفس الوقت أغنيات عن الحرب والشرف والعار والحبّ والجمال والصراع والمنفى والموت. أشعار نساء البشتون ظلّت تقال وتتوارث عبر الأجيال. نساء القرى كنّ يرتجلن هذه القصائد وهنّ يردن ينابيع الماء أو يمارسن الرقص والغناء في حفلات الزفاف، وكأن هذه الأشعار صدى لذاكرتهنّ الجماعية.
وما فعله المؤلّف هو انه جمع هذه القصائد من أفواه النساء في وديان وجبال أفغانستان وفي مخيّمات اللجوء في باكستان وغيرها من الأماكن. وبنشره هذه القصائد في كتاب، يكون المؤلّف قد أعطى صوتا لآلاف النساء المجهولات وسمح للقارئ بالدخول إلى أعماق قلب وعقل المرأة الأفغانية.
ومن الواضح أن هذه الأشعار لا تمجّد الحبّ الصوفي. كما أنها لا تعبّر عن أيّ تطلّع من أي نوع إلى السماء أو التفاني في حبّ الإله أو الثناء على السيّد المطلق. لكنّ فيها براعة وعمقا ومأساوية وقسوة في بعض الأحيان. وربّما بسبب هذه القسوة الموجعة والنفَس الصادق، أصبحت هذه القصائد مفهومة ومعروفة عالميّا.
في الفصل الأوّل من الكتاب، يتحدّث المؤلّف عن التشكيل العشائري لمجتمع البشتون الذي يدار بالكامل وفقا للقيم الذكورية وما يُعرف بقانون الشرف. وبطبيعة الحال فإن هذا الواقع يفرض بيئة قاسية يصعب على النساء تحمّلها.
ويشير المؤلّف إلى أن الحبّ في مجتمع البشتون يُعتبر من التابوهات أو المحرّمات. فالشباب من الجنسين لا يمكن أن يروا ولا أن يحبّوا أو يختاروا بعضهم بعضا. والزواج في كلّ الأحوال تقرّره وترتّبه سلطة العشيرة. أحيانا يُختار للمرأة صبيّ صغير أو رجل عجوز كزوج. وإذا كانت الفتاة غير محظوظة فإنها قد تقع في حبّ رجل لا يحظى بموافقة العشيرة. وعندها يصبح هذا خطئا فادحا تعاقَب عليه بالقتل أحيانا.
قمع النساء الأفغانيات وقهرهنّ معنويا تسبّب في إحداث معاناة لا توصف. الرضّع من الإناث وأمهاتهنّ يُقابلن بالازدراء والعار ويعشن حياة من التبعية والذلّ. وتمردّهن ضدّ هذه الرموز القبلية وضد الظلم والتهميش وإساءة الكرامة لا يأتي إلا من خلال الانتحار أو نظم الأشعار والأغاني التي تجد فيها النساء متنفّسا للتعبير عن إحباطهنّ وسخطهنّ على مجتمع الرجال..
"انظر إلى هذا الطغيان الرهيب! انه يضربني ثم يحرّم عليّ البكاء".
"أيّها الناس القساة! تسمحون لرجل عجوز أن يقودني إلى سريره، ثمّ تسألونني لماذا أبكي وأمزّق شعري"!
"يا إلهي! مرّة أخرى تُجهِّز لي ليلة مظلمة. ومرّة أخرى ارتعش من الرأس إلى القدمين لأنه يتوجّب عليّ أن أنام على سرير أكرهه".
الشعر في هذه المجموعة ينقل غضب وألم النساء الأفغانيات وإحساسهنّ بالموت البطيء. فهنّ مقيّدات بقيم مجتمع أصوليّ ينظر إليهنّ كمواطنين من الدرجة الثانية. وهنّ منذ الولادة محكوم عليهنّ بالموت. لكن عقولهنّ ترفض القيود المفروضة من الذكور وقلوبهنّ تفيض بكلمات الحبّ والعاطفة بلا مقابل. وفي موضوع الحبّ الممنوع، لا تتردّد نساء البشتون في التعبير عن شغفهنّ بصراحة قد تبدو مرعبة أحيانا..
"فمي لك، إلتهمه ولا تخف. هو ليس مصنوعا من السكّر الذي قد يذوب".
"حبيبي يريد مني أن اقبّله بين الشجيرات الكثيفة. وأنا اقفز من فرع إلى فرع لأقدّم له فمي".
"تعال وقبّلني دون تفكير في الأخطار. ماذا يهمّ لو قتلوك! الرجال الحقيقيون يموتون دائما من اجل حبّ امرأة جميلة".
"أعطني يدك يا حبيبي ولنذهب إلى الحقول كي نتبادل الحبّ أو نسقط معا تحت ضربات الخناجر".
"إذا غفوتَ، لن تظفر سوى بالهباء. أنا منذورة للذين يسهرون عليّ الليل كلّه".
والكثير من هذه الأشعار بقدر ما هي نوع من الفاكهة المحرّمة التي أكلت منها نساء البشتون بوفرة وعن طيب خاطر، بقدر ما هي أيضا تعبير عن التحدّي والسخرية من هيمنة الذكور..
"أنا الجميلة المستلقية إلى جانبك. فمي جاهز، وذراعاي ممدودان لك، وأنت كالجبان تسمح للنوم بأن يستولي عليك".


"غداً سيشبع الجياع من عشّاقي عندما أعبر القرية بوجه حزين وبشَعْر مشرع للريح".
"في الليل، الشرفة معتمة والأسرّة كثيرة وخشخشة أساوري، يا حبيبي، تدلّك على الطريق إليّ".
"أصبحت مجنونة أكثر فأكثر. عندما أمرّ بالقرب من ضريح وليّ، أرجمه بالحجارة تكفيرا عن كلّ الأماني التي لم تتحقّق".
"أنا أحبّ. لا اخفي حبّي ولا أنكره، حتى لو اقتلعوا بالسكّين كلّ شاماتي".
وإذا كان قانون الشرف الذكوريّ يشترط طاعة وقبول الأنثى بصمت، فإن نساء البشتون في أوقات الحروب يَقلِبن بدهاء هذا الوضع لصالحهنّ من خلال التعبير عن الازدراء والمناورات الماكرة. فهنّ من يقرّرن كيف يجب أن يتصرّف الرجل وفقا لميثاق شرفه الخاص. فإذا عاد إلى البيت مضروبا في معركة أو مهانا بسبب نزاع، فإنه حتما سيقابَل بالاحتقار والسخرية المتغطرسة من قبل كلّ نساء القرية.
والمرأة هي التي تنصح الرجل بأن يتصرّف كبطل في الحرب. فإذا عاد من ميدان المعركة بجرح في ظهره وليس في صدره، فإن حياته عندئذ لن تكون جديرة بأن تُعاش..
"في المعركة اليوم، أدار حبيبي ظهره للعدوّ. أشعر الآن بالخجل بعد أن كنت قبّلته الليلة الماضية".
"يا حبيبي! إن أدرت ظهرك للعدوّ، فلا تأت إلى البيت مرّة أخرى! إذهب وابحث لك عن ملجأ في أرض بعيدة".
"إذهب أوّلا، يا حبيبي، لتنتقم لدماء الشهداء، وبعدها تستحقّ أن تأوي إلى نهدي".
"إن لم يكن هناك جرح في وسط صدرك فسأظلّ غير مكترثة، حتى لو كان ظهرك مليئا بالثقوب مثل منخل".
"إذا كنت ترتجف بين ذراعيّ هكذا، فماذا أنت فاعل غدا عندما تطلق قعقعة السيوف ألف ومضة"!
"أيّتها الأرض! إن ضريبتك باهظة جدّا. تلتهمين الشباب وتتركين الأسرّة فارغة".
إحدى السمات اللافتة في هذه القصائد هو انه لا يتعيّن عليك أن تكون على دراية بالتاريخ السياسيّ المضطرب لأفغانستان ولا بمعاناة الشعب الأفغاني لتقدّر جمال القصائد. كما لا يُفترض أن تكون على علم بكيفية معاملة النساء أو بمعنى فقدان البيت والوطن لتفهم الأشعار وتتعاطف مع الحزن الذي تختزنه.
ومن خلال مواضيع الحبّ والحرب والموت والشرف والتحدّي وحبّ الوطن، فإن ما يتردّد صداه في قصائد نساء البشتون هو قوّة الشخصية والقدرة على التحمّل وروح الكفاح من أجل البقاء.
بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، ونتيجة للمذابح المروّعة والرعب والدمار الذي أعقب ذلك، اخذ شعر اللاندي منحى أكثر مأساوية. أصبحت التعبيرات موجعة أكثر ولا سيّما في موضوع المنفى والفقد وحبّ الوطن..
"العيش على أرض المنفى هذه يدمّر قلبي. أدعو الله أن يعيدني إلى سفح جبلي الشاهق".
"يا الله! لا تدَعْ أيّ امرأة تموت في المنفى! ستلفظ أنفاسها الأخيرة دون أن تتذكّر اسمك لأنها لا تفكّر سوى في وطنها".
كان سيّد بهاء الدين مجروح شاعرا مشى في طريق التصوّف والفلسفة وكان يعتبر نفسه وريثا للروميّ وعمر الخيّام. لكنه بنفس الوقت كان محاربا شجاعا قاتل من أجل استقلال أفغانستان وتأمين مستقبل لشعبها تُحترم فيه الحقوق والحرّيات.
وقد حصل المؤلّف على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة مونبلييه الفرنسية، ثم عمل معيدا في كليّة الآداب في جامعة كابول. وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1978، ذهب إلى المنفى في بيشاور حيث أسّس المركز الأفغاني للمعلومات. وقد اغتيل مجروح في منزله في بيشاور على يد إرهابيين تابعين لجماعة طالبان في 11 فبراير 1988م.

Credits
poetryfoundation.org
muftah.org