أقف الآن على مشارف السبعين. أنظر إلى الماضي واتأمّل كيف انصرمت هذه السنوات سريعا، وما الذي حقّقته خلالها وما الذي لم أحقّقه. البعض يشبّه حياة الإنسان بالسيمفونية الموسيقية. وهذا الوصف دقيق ومقنع إلى حدّ كبير. فالحياة مثل السيمفونية من حيث أن لها بداية ونهاية. كما أنها تحتوي على حركات ومقاطع وأنغام مختلفة ومتنوّعة يشارك في صوغها أناس متعدّدون.
من المفردات التي أتوقّف عندها وتحفّزني على التفكير طويلا كلمة "ممرّات". وهي تعني العبور من مرحلة إلى أخرى أو الانتقال من طور لآخر: طفولة، شباب، نضج، مرض، موت .. وهكذا.
بعض الناس يعتبرون الزواج احد المراحل الرئيسية في الحياة. ولا يفوق هذه المرحلة من حيث الأهمّية سوى إنجاب الأطفال.
والبعض يقيسون حياتهم بالعقود، عندما يتحدّثون عن العشرينات والثلاثينات والأربعينات إلى آخره.
موت الأبوين يشكّل مرحلة حزينة في حياة أيّ إنسان. وهو حدث ينبّه الإنسان إلى انه، هو أيضا، يقترب من هذه التجربة في إطار ما يُسمّى بالحالة الإنسانية.
إن عدم فهم الإنسان لمعنى الحياة قد يعرّضه للعديد من الأمراض والانتكاسات على المستويين الفردي والاجتماعي. عندما كسرتُ حاجز الأربعين، فهمت ما الذي يقصده الناس عندما يتحدّثون عن أزمة منتصف العمر. تخيّل أن تستيقظ ذات صباح لتجد رأسك يمور بالأسئلة المزعجة: كيف كبر الأطفال بهذه السرعة؟ وكيف غفلت عن هذه الحقيقة طوال هذا الوقت؟ كنت اعتقد أنني سأصبح ثريّا عندما ابلغ هذه السنّ. لكن هذا لم يتحقّق. ما الذي كان يتعيّن عليّ فعله بطريقة مختلفة؟ هذه التساؤلات الحائرة تختزل معنى مصطلح أزمة منتصف العمر. والدرس الذي تعلّمته في تلك المرحلة هو أن من المهم أن ندرك انه ليس بمقدورنا تغيير الماضي وأن علينا أن نعيش حياتنا دون إحساس بالندم على ما فات.
هناك عنصر مهمّ في هذا الموضوع يتعلّق بمدى إحساس الإنسان بكونه شابّا حتى عندما يتخطّى سنّ الأربعين. بعض الناس، مثلا، لا يريد ولا يتمنّى أن يظلّ شابّا على الدوام، بل أن يدخل سريعا مرحلة النضوج، أي أن يكبر بسرعة..
احد الشعراء الانجليز التقط هذه الروح عندما نشأ لديه أوّل شكّ حول الأفكار المسيحية. فقد قرأ أن الإنسان عندما يستقرّ به المقام في الجنّة فإنه يرتدّ إلى مرحلة الطفولة. وقدّر الشاعر أن هذه ليست بالفكرة الجيّدة بالنسبة له، لأنه يتطلّع لأن يكون رجلا ناضجا هناك، مع كثير من المتع والمباهج.
إن ما هو أكثر حزنا من الموت المبكّر هو إحساس الإنسان بأن حياته الماضية كانت سلسلة من الدروب الخاطئة والفرص الضائعة. ومن السهل أن تجد اليوم من يقول بكثير من الندم: ما كان ينبغي لي أن اعمل بتلك الوظيفة، أو ما كان يجب أن أتزوّج في سنّ متأخّرة .. إلى آخره.
لا يكاد يوجد إنسان اليوم إلا ويمرّ بما يُسمّى أزمة نهاية العمر، أي عندما يصبح المرء بمواجهة الموت الوشيك ويدرك أن خيباته أكثر من نجاحاته وأنه لا يوجد من الوقت ما يكفي لأن يفعل شيئا لتصحيح المسار.
وأسعد الناس بنظري هم أولئك الذين يشعرون بأنهم أبدعوا في هذه الحياة وأن باستطاعتهم أن ينظروا إلى الوراء فيشعرون بأن الأخطاء التي ارتكبوها كانت ايجابية ومعقولة. البعض منّا قد يبدي أسفه على انه لم يُتح له تعلّم العزف على آلة موسيقية أو إتقان لغة أجنبية معيّنة كي يقرا للكتّاب الذين أحبّهم بلغتهم الأصلية. وهناك من يتمنّى لو انه تمكّن من جمع الكثير من المال في حياته المبكّرة، لأن المال الوفير يحلّ الكثير من المشكلات ويجعل نوعية الحياة أفضل وأسهل.
من المفردات التي أتوقّف عندها وتحفّزني على التفكير طويلا كلمة "ممرّات". وهي تعني العبور من مرحلة إلى أخرى أو الانتقال من طور لآخر: طفولة، شباب، نضج، مرض، موت .. وهكذا.
بعض الناس يعتبرون الزواج احد المراحل الرئيسية في الحياة. ولا يفوق هذه المرحلة من حيث الأهمّية سوى إنجاب الأطفال.
والبعض يقيسون حياتهم بالعقود، عندما يتحدّثون عن العشرينات والثلاثينات والأربعينات إلى آخره.
موت الأبوين يشكّل مرحلة حزينة في حياة أيّ إنسان. وهو حدث ينبّه الإنسان إلى انه، هو أيضا، يقترب من هذه التجربة في إطار ما يُسمّى بالحالة الإنسانية.
إن عدم فهم الإنسان لمعنى الحياة قد يعرّضه للعديد من الأمراض والانتكاسات على المستويين الفردي والاجتماعي. عندما كسرتُ حاجز الأربعين، فهمت ما الذي يقصده الناس عندما يتحدّثون عن أزمة منتصف العمر. تخيّل أن تستيقظ ذات صباح لتجد رأسك يمور بالأسئلة المزعجة: كيف كبر الأطفال بهذه السرعة؟ وكيف غفلت عن هذه الحقيقة طوال هذا الوقت؟ كنت اعتقد أنني سأصبح ثريّا عندما ابلغ هذه السنّ. لكن هذا لم يتحقّق. ما الذي كان يتعيّن عليّ فعله بطريقة مختلفة؟ هذه التساؤلات الحائرة تختزل معنى مصطلح أزمة منتصف العمر. والدرس الذي تعلّمته في تلك المرحلة هو أن من المهم أن ندرك انه ليس بمقدورنا تغيير الماضي وأن علينا أن نعيش حياتنا دون إحساس بالندم على ما فات.
هناك عنصر مهمّ في هذا الموضوع يتعلّق بمدى إحساس الإنسان بكونه شابّا حتى عندما يتخطّى سنّ الأربعين. بعض الناس، مثلا، لا يريد ولا يتمنّى أن يظلّ شابّا على الدوام، بل أن يدخل سريعا مرحلة النضوج، أي أن يكبر بسرعة..
احد الشعراء الانجليز التقط هذه الروح عندما نشأ لديه أوّل شكّ حول الأفكار المسيحية. فقد قرأ أن الإنسان عندما يستقرّ به المقام في الجنّة فإنه يرتدّ إلى مرحلة الطفولة. وقدّر الشاعر أن هذه ليست بالفكرة الجيّدة بالنسبة له، لأنه يتطلّع لأن يكون رجلا ناضجا هناك، مع كثير من المتع والمباهج.
إن ما هو أكثر حزنا من الموت المبكّر هو إحساس الإنسان بأن حياته الماضية كانت سلسلة من الدروب الخاطئة والفرص الضائعة. ومن السهل أن تجد اليوم من يقول بكثير من الندم: ما كان ينبغي لي أن اعمل بتلك الوظيفة، أو ما كان يجب أن أتزوّج في سنّ متأخّرة .. إلى آخره.
لا يكاد يوجد إنسان اليوم إلا ويمرّ بما يُسمّى أزمة نهاية العمر، أي عندما يصبح المرء بمواجهة الموت الوشيك ويدرك أن خيباته أكثر من نجاحاته وأنه لا يوجد من الوقت ما يكفي لأن يفعل شيئا لتصحيح المسار.
وأسعد الناس بنظري هم أولئك الذين يشعرون بأنهم أبدعوا في هذه الحياة وأن باستطاعتهم أن ينظروا إلى الوراء فيشعرون بأن الأخطاء التي ارتكبوها كانت ايجابية ومعقولة. البعض منّا قد يبدي أسفه على انه لم يُتح له تعلّم العزف على آلة موسيقية أو إتقان لغة أجنبية معيّنة كي يقرا للكتّاب الذين أحبّهم بلغتهم الأصلية. وهناك من يتمنّى لو انه تمكّن من جمع الكثير من المال في حياته المبكّرة، لأن المال الوفير يحلّ الكثير من المشكلات ويجعل نوعية الحياة أفضل وأسهل.
ذات مرّة تحدّث احد أساتذة الأدب الروسي بأسلوب بليغ عن الطريقة التي كان ينظر بها كلّ من دستويفسكي وتولستوي إلى الحياة. وقد توصّل إلى أن شخوص تولستوي يذهبون إلى الحرب ويمرّون بقصص حبّ فاشلة ويعانون من الموت المفاجئ. لكن حياتهم العادية، في تفاصيلها الصغيرة، تظلّ مشوّقة ومثيرة للاهتمام.
بالنسبة لـ دستوفيسكي لا يوجد شيء عاديّ. فالحبّ ينقلب إلى هواجس، والمقامرون والمصروعون والسكارى هم دائما في مركز الأشياء، والرجال يضربون الخيول حتى الموت، والفقر يحوّل حياة الناس إلى ما يشبه الجحيم على الأرض.
والمسألة لا تتعلّق بمَن مِن هذين الروائيين يُعتبر أعظم من الآخر، لأن كليهما عظيمان، بل أيّ منهما تمكّن من تصوير الحياة على حقيقتها؟
يرى دستويفسكي أن الحياة تقرّرها لحظات خطيرة، وأن العالم مدفوع بثورات تأتي من اللاوعي. لكن تولستوي يصرّ على انه رغم أننا قد نتخيّل أن حياتنا تقرّرها لحظات اختيار مهمّة ومتوتّرة، إلا أن الحقيقة هي أن اختياراتنا في النهاية هي نتاج لقرارات صغيرة ولحظات عادية.
وبطبيعة الحال، فإن المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان هي الأكثر أهمّية. وكما يقال أحيانا، فإن الوظيفة الحقيقية للفلسفة هي أنها تعلّمك كيف تموت بطريقة جيّدة.
غير أن الشيء الجيّد هو أننا لا نعلم متى نموت على وجه التحديد. موعد الموت هو المعلومة الأكثر أهمّية عن حياتنا. ومع ذلك فإن المفارقة تكمن في أن جهلنا بتلك المعلومة، على أهمّيتها، يجعلنا نبدو أفضل حالا.
أحد الفلاسفة عاش تسعين عاما. وكان على يقين بأن الإنسان يمكن أن يعيش دائما عشر سنوات إضافية، ما لم يخبره الأطبّاء بخلاف ذلك.
فيلسوف آخر عاش إلى ما فوق الثمانين. وكان من عادته أن يشتري أدوات ولوازم جديدة للمطبخ، لأن هذا يمنحه إحساسا بالمستقبل، رغم أن البعض قد يرون في تصرّفه هذا سلوكا غريبا وساذجا.
في المرحلة الأخيرة من الحياة، من الصعب أن لا تفكّر في الموت. الفيلسوف الإغريقي ابيكوروس كان ينصح أتباعه بالانهماك في المتع والمسرّات، خاصّة الطعام والشراب، أي أن يبحثوا عن الجانب الصافي من الحياة.
وقد وضع لأصدقائه خطّة إصلاح شخصي لمواجهة القلق تتكوّن من ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأوّل: لا تقلق بشأن الموت. فالموت هو نوع من النسيان، حالة لا تختلف عن حياتك قبل أن تولد، فراغ لا نهائي. .
المبدأ الثاني: حاول أن تنسى الألم. فالألم إمّا أن يكون لفترة قصيرة، ومن ثمّ يتلاشى بعد برهة. أو أنه قد يطول ويشتدّ، وعندها لن يكون الموت بعيدا. لذا فإن قلقك ينتهي هنا، لأن الموت كما نعرفه لا يمثّل مشكلة. الموت في حقيقته ليس أكثر من عدَم، ظلام أبديّ أو نوم بلا أحلام.
المبدأ الثالث: لا تضيّع وقتك في محاولة الحصول على الرفاهية، لأن الاستمتاع بها لا يعادل الجهد المبذول من اجل الحصول عليها. ويترتّب على هذا أن الطموح لاكتساب المال أو الشهرة أو السلطة هو طموح لا طائل من ورائه، لأن الجهد المبذول للحصول على هذه الأشياء كبير ومكلّف جدّا ولا يتناسب مع النتيجة المنشودة.
السؤال الحقيقي والهام: هل مثل هذا الانفصال الكلّي عن الحياة بأسئلتها الكبيرة ودوّاماتها اليومية الصاخبة يمكن أن يوفّر حياة ثريّة بما يكفي لأن تستحقّ أن يعيش الإنسان من اجلها؟
الكثيرون ربّما يقولون نعم. لكنّني لست من بينهم.
بالنسبة لـ دستوفيسكي لا يوجد شيء عاديّ. فالحبّ ينقلب إلى هواجس، والمقامرون والمصروعون والسكارى هم دائما في مركز الأشياء، والرجال يضربون الخيول حتى الموت، والفقر يحوّل حياة الناس إلى ما يشبه الجحيم على الأرض.
والمسألة لا تتعلّق بمَن مِن هذين الروائيين يُعتبر أعظم من الآخر، لأن كليهما عظيمان، بل أيّ منهما تمكّن من تصوير الحياة على حقيقتها؟
يرى دستويفسكي أن الحياة تقرّرها لحظات خطيرة، وأن العالم مدفوع بثورات تأتي من اللاوعي. لكن تولستوي يصرّ على انه رغم أننا قد نتخيّل أن حياتنا تقرّرها لحظات اختيار مهمّة ومتوتّرة، إلا أن الحقيقة هي أن اختياراتنا في النهاية هي نتاج لقرارات صغيرة ولحظات عادية.
وبطبيعة الحال، فإن المرحلة الأخيرة من حياة الإنسان هي الأكثر أهمّية. وكما يقال أحيانا، فإن الوظيفة الحقيقية للفلسفة هي أنها تعلّمك كيف تموت بطريقة جيّدة.
غير أن الشيء الجيّد هو أننا لا نعلم متى نموت على وجه التحديد. موعد الموت هو المعلومة الأكثر أهمّية عن حياتنا. ومع ذلك فإن المفارقة تكمن في أن جهلنا بتلك المعلومة، على أهمّيتها، يجعلنا نبدو أفضل حالا.
أحد الفلاسفة عاش تسعين عاما. وكان على يقين بأن الإنسان يمكن أن يعيش دائما عشر سنوات إضافية، ما لم يخبره الأطبّاء بخلاف ذلك.
فيلسوف آخر عاش إلى ما فوق الثمانين. وكان من عادته أن يشتري أدوات ولوازم جديدة للمطبخ، لأن هذا يمنحه إحساسا بالمستقبل، رغم أن البعض قد يرون في تصرّفه هذا سلوكا غريبا وساذجا.
في المرحلة الأخيرة من الحياة، من الصعب أن لا تفكّر في الموت. الفيلسوف الإغريقي ابيكوروس كان ينصح أتباعه بالانهماك في المتع والمسرّات، خاصّة الطعام والشراب، أي أن يبحثوا عن الجانب الصافي من الحياة.
وقد وضع لأصدقائه خطّة إصلاح شخصي لمواجهة القلق تتكوّن من ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأوّل: لا تقلق بشأن الموت. فالموت هو نوع من النسيان، حالة لا تختلف عن حياتك قبل أن تولد، فراغ لا نهائي. .
المبدأ الثاني: حاول أن تنسى الألم. فالألم إمّا أن يكون لفترة قصيرة، ومن ثمّ يتلاشى بعد برهة. أو أنه قد يطول ويشتدّ، وعندها لن يكون الموت بعيدا. لذا فإن قلقك ينتهي هنا، لأن الموت كما نعرفه لا يمثّل مشكلة. الموت في حقيقته ليس أكثر من عدَم، ظلام أبديّ أو نوم بلا أحلام.
المبدأ الثالث: لا تضيّع وقتك في محاولة الحصول على الرفاهية، لأن الاستمتاع بها لا يعادل الجهد المبذول من اجل الحصول عليها. ويترتّب على هذا أن الطموح لاكتساب المال أو الشهرة أو السلطة هو طموح لا طائل من ورائه، لأن الجهد المبذول للحصول على هذه الأشياء كبير ومكلّف جدّا ولا يتناسب مع النتيجة المنشودة.
السؤال الحقيقي والهام: هل مثل هذا الانفصال الكلّي عن الحياة بأسئلتها الكبيرة ودوّاماتها اليومية الصاخبة يمكن أن يوفّر حياة ثريّة بما يكفي لأن تستحقّ أن يعيش الإنسان من اجلها؟
الكثيرون ربّما يقولون نعم. لكنّني لست من بينهم.