:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 16، 2018

موسيقى للكمان والبيانو والأوبو


من الموسيقيين الموهوبين، ولكن الأقل شهرةّ في العالم، المؤلّف النمساويّ فريتز كريسلر الذي كان معروفا خلال العقد الأوّل من القرن العشرين.
كان كريسلر على معرفة شخصية بيوهان برامز، وكانت موسيقاه مشبعة بروح فيينا، مع انه كان أيضا مواكبا للموسيقى الحديثة في زمانه.
ولد في فيينا عام 1875 لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى. لكنه كان دائما يقلّل من أهمية الدين في حياته. وفي ما بعد أظهر مقاومة لا تلين للفاشية الألمانية.
درس كريسلر الموسيقى في معهد فيينا للموسيقى وهو في سنّ السابعة. وكان اصغر تلميذ آنذاك. وقد تعلّم الهارموني والتأليف والعزف على البيانو على يد انطون بروكنر الذي كان أشهر موسيقيّ في النمسا وقتها.
في مرحلة تالية، أسّس مع آخرين فرقة موسيقية للهواة كان من بين المتردّدين على حفلاتها طالب طبّ وعازف كمان يُدعى سيغموند فرويد، الذي سيصبح في ما بعد مؤسّس علم النفس.
ثم تعرّف على عازف البيانو الروسيّ انطون روبنشتاين وعازف الكمان النمساويّ يوسف يواكيم. واعتبر لقاءه بهذين الاثنين أهمّ حدث في حياته وقال انه يَعدِل دراسة خمس سنوات كاملة.
في عام 1889، زار كريسلر أمريكا وذُهل لرؤيته نيويورك. وقد أقام هناك حفلا بمشاركة عازف البيانو الروسيّ سيرغي رحمانينوف.
بدأ كريسلر يكتب الموسيقى مستلهما أساليب مؤلّفين من الماضي مثل الفرنسيّ فرانسوا كوبيرين والألمانيّ كارل ديترز.
وأفضل مؤلّفاته هي عبارة عن قطع قصيرة لا تتجاوز مدّة الواحدة منها الثلاث دقائق، ويغلب عليها الطابع العاطفيّ. لكنّها أصبحت مشهورة جدّا وما تزال من بين المقطوعات الأكثر شعبية في العالم. وهي بالنسبة للكثيرين تختصر كلّ تراث آلة الكمان.
من بين تلك المعزوفات مجموعة من ثلاث قطع صغيرة اسماها "نزوات من فيينا". القطعة الأولى بعنوان متعة الحبّ ، والثانية احزان الحبّ ، أما الثالثة، وهي أشهرها (الفيديو فوق)، فقد اختار لها اسم "روزماري الجميلة".
نُشرت هذه المجموعة عام 1905 وعُزفت بآلات شتّى، كما عُزفت بمصاحبة الاوركسترا مع كمان، وأحيانا مع بيانو.
عاش فريتز كريسلر حياة طويلة ومنتجة. وخدم في الجيش الألمانيّ مرّتين. ورفض أن يعزف في ألمانيا بعد تولّي النازيين السلطة فيها عام 1933. ثم غادر النمسا نهائيا إلى فرنسا بعد أن تعرّض للتهديد رغم تقدّمه في السنّ وقتها.
وفي باريس، حصل على الجنسية الفرنسية، لكنه فضّل الذهاب إلى أمريكا. وفي احد شوارع نيويورك، صدمته حافلة وقضى أسابيع عديدة في غيبوبة. لكنّه شُفي من إصابته ثم حصل على الجنسية الأمريكية عام 1943.
واستمرّ يقيم حفلات موسيقية هناك كان آخرها في قاعة كارنيغي عام 1947. وتوفّي في يناير من عام 1962 عن ستّة وثمانين عاما.

من الآلات الموسيقية ذات الصوت الجميل الاوبو. يمكنك سماع أنغام هذه الآلة في العديد من أغاني فيروز مثل هذه ، وفي الكثير من المقطوعات الكلاسيكية مثل هذه القطعة المشهورة لتشايكوفسكي.
والاوبو آلة نفخية ذات مبسم مزدوج مصنوعة من الخشب غالبا، وهي تُستخدم كثيرا في الاوركسترا وفي موسيقى الغرفة وموسيقى الأفلام.
ولا يُعرف أصل هذه الآلة ولا منشؤها أو من ابتكرها. لكن يرجَّح أن أوّل ظهور لها كان في منتصف القرن السابع عشر.
وكان الاوبو هو الآلة المعتمدة في موسيقى الفرق العسكرية إلى أن حلّت مكانها آلة الكلارينيت. والعزف على الآلة أو تعلّمها يعتبر مهمّة صعبة وتتطلّب الكثير من المران والتدريب. ومن أشهر من ألّفوا أعمالا لهذه الآلة "كونشيرتوهات غالبا" جوزيف هايدن وسامويل باربر وباخ وألبينوني وغيرهم.
ومن الموسيقيين المعاصرين الذين ألّفوا أعمالا للاوبو الموسيقيّ الايطاليّ اينيو موريكوني الذي كتب قطعة احتفى بها النقّاد والجمهور طويلا ووُصفت "بالخالدة".
وقد ألّفها لتكون الموسيقى التصويرية الأساسية لفيلم "المهمّة" (1986) الذي يتناول أعمال المبشّرين اليسوعيين الإسبان في أمريكا الجنوبية في القرن الثامن عشر.
اسم القطعة "اوبو غابرييل"، وهي موسيقى حزينة ولا تخلو من وقار وروحانية. في الفيلم، تبدأ الموسيقى بوصول البطل ، وهو كاهن يُدعى غابرييل، إلى طبيعة تضمّ شلال مياه، ثم يبدأ العزف على آلته الاوبو في محاولة لاستمالة وخطب ودّ السكّان المحليين من الهنود الحمر.
كانت قبائل غوراني الهندية تراقب الراهب عن بعد. وعندما سمعوا صوت الآلة الموسيقية التي يعزفها بدؤوا في الاقتراب منه وهم مذهولون من أنغامها المجهولة. وكان الهنود يعرفون الآلات الهوائية ويستخدمونها، لكن ترتيب ونظام النوتات الغريب في عزف الكاهن أزعج زعيمهم لأنه لا يتناسب مع موسيقاهم القبلية. وكان ذلك بالنسبة لهم نذير شؤم بالتغيير الوشيك الذي سيطرأ على أسلوب حياتهم.
وهنا يتقدّم زعيمهم ويأخذ الآلة من الكاهن ويكسرها. والغريب أن تلك الحادثة مثّلت بداية العلاقة بين الكاهن والقبائل الهندية.
موريكوني هو ولا شكّ احد أعظم مؤلّفي موسيقى الأفلام. وكان قبل "المهمّة" قد ألّف موسيقى لمئات الأفلام. لكن موسيقاه لهذا الفيلم هي التي جلبت له شهرة عالمية واسعة بعد أن فازت بجائزة أفضل موسيقى فيلم. وقد مزج في هذه القطعة عدّة أساليب وتأثيرات موسيقية، ففيها مثلا كورال دينيّ وقرع طبول قبليّ وما إلى ذلك.
عُزفت هذه القطعة عديدا من المرّات وأدّتها الكثير من الفرق السيمفونية، بقيادة موريكوني نفسه أحيانا. كما استخدمت المغنيّة سارا برايتمان هذه المقطوعة لأغنيتها نيللا فانتاسيا . ونظرا للمرّات الكثيرة التي قُدّمت بها الموسيقى على آلات غير الاوبو، صارت تُسمّى أحيانا تشيللو غابرييل أو اورغن غابرييل الخ.
مدّة الموسيقى في الفيلم حوالي دقيقتين وهي تعطي انطباعا بالشاعرية مع شيء من الرسمية، لذا لم يكن مستغربا أن أصبحت تُعزف بكثرة في حفلات الزواج حول العالم.

Credits
classicfm.com

الأحد، مارس 11، 2018

ديرسو اوزالا


ترك المخرج اليابانيّ الكبير اكيرا كيروساوا العديد من الأفلام المهمّة، مثل "راشومون" و"الساموراي السبعة". لكن له أفلاما أخرى اقلّ شهرة، لكنّها لا تقلّ تميّزا عن بقية أفلامه شكلا ومضمونا.
من هذه الأفلام واحد بعنوان "ديرسو اوزالا" من إنتاج يابانيّ روسيّ مشترك. كنت قد شاهدت الفيلم قبل عشرين عاما وما أزال أتذكّر حتى الآن قصّته الجميلة ولقطاته الرائعة وأجواءه المعبّرة. والفيلم يعود إنتاجه إلى عام 1975، وهو أوّل فيلم لكيروساوا ناطق بغير اللغة اليابانية.
موضوع الفيلم يستند إلى كتاب بنفس الاسم لمستكشف روسيّ يُدعى فلاديمير ارسينييف يحكي فيه عن رحلاته العديدة في مطلع القرن الماضي إلى مناطق شرق روسيا النائية، حيث صحراء سيبيريا المثلجة طوال العام. كان يرافق ارسينييف في رحلاته تلك عدد من الجنود، وكانت مهمّته رسم خرائط للجبال والطرق التي يسلكها هو ورفاقه.
وديرسو اوزالا هو اسم دليل عجوز ينتمي إلى جماعة عرقية من البدو الرحّل الذين يعيشون على الحدود الصينية الروسية. وكان ارسينييف ورفاقه قد التقوا بهذا الرجل بالصدفة في إحدى الغابات التي توقّف فيها المستكشف للبحث عن قبر زميل له كان قد دفنه هناك قبل عدّة سنوات.
كان ديرسو اوزالا يعيش لوحده في تلك البرّية. في البداية ظنّوه شخصا ساذجا وغريب الأطوار. لكن في ما بعد تبيّن لهم انه ذكيّ جدّا برغم بساطته وتحفظّه.
وقد اتخذوه دليلا لهم في تلك المجاهل الخطيرة، وبعضها لم تكن قد وطأته قدم إنسان من قبل. وأثناء تلك الرحلات الطويلة والمضنية، نشأت بين ارسينييف وديرسو اوزالا علاقة احترام ومحبّة. وقد أنقذ الرجل حياة ارسينييف أكثر من مرّة، كما حاصرتهما العواصف الثلجية معا عددا من المرّات وكُتبت لهما النجاة بفضل ذكاء ديرسو اوزالا وشجاعته.
واوزالا يفهم الطبيعة جيّدا بعد أن عاش فيها طويلا وأصبح واعيا بطريقة عملها. فهو يتحدّث إلى الماء والنار والمطر كما لو أنها بشر من لحم ودم. كما انه مرتبط روحانيّا بالظواهر الكونية كالشمس والقمر والمطر والرياح.
يضاف إلى ذلك أن ديرسو اوزالا إنسان عطوف وشهم، فهو يصلح الأكواخ وينظّفها جيّدا ثم يترك فيها طعاما ومؤنا قبل أن يغادرها الفريق، كي يستفيد منها المسافرون الذين سيمرّون بالغابات لاحقا.
صُوّر الفيلم على مدى أربع سنوات في نفس الأماكن الجميلة والموحشة التي تحدّث عنها ارسينييف في كتابه. وكيروساوا يصوّر جلال ورهبة سيبيريا في لقطات فخمة وطويلة ومعبّرة. كما انه يصوّر البرد والعواصف كما لم يفعل مخرج من قبل.
عندما ساءت صحّة ديرسو اوزالا وضعُف بصره ووهنت قواه وحواسّه الأخرى نتيجة تقدّمه في السنّ، عرض عليه ارسينييف أن يأخذه ليعيش معه في مدينته. وقد وافق على الفكرة بعد تمنّع، وعاش مع المستكشف لعدّة أشهر في مدينة خاباروفسك.
لكنه لم يتكيّف مع أسلوب الحياة الحديثة في المدينة، إذ لم يكن مسموحا له بإشعال النار أو قطع الأخشاب أو بناء كوخ، ففضّل في النهاية أن يعود إلى الطبيعة وحياة العيش في الغابات.
وقبل أن يرحل، يقدّم له ارسينييف هديّة هي عبارة عن مسدّس جديد. وبعد أيّام، يتلقّى المستكشف برقية تحمل خبر العثور على جثّة رجل عجوز ملقاة على الطريق وأن عليه الحضور كي يتعرّف على صاحب الجثّة، لأنهم وجدوا في جيب سترته بطاقة مكتوبا عليها اسم ارسينييف.
وهناك يكتشف أن الشخص الميّت هو صديقه ديرسو اوزالا وأن شخصا ما، قد يكون لصّا أو قاطع طريق، كَمُن له في الطريق وقتله طمعا في المسدّس الذي كان يحمله.
فيلم "ديرسو اوزالا" هو عن قيمة الصداقة وعن الروح الإنسانية العصيّة على الكسر. وهو في نفس الوقت عن الحبّ والبراءة والتقاء ثقافات مختلفة.
وهو لا يشبه الأفلام التي اعتدنا مشاهدتها، حيث التابلوهات والديكورات الضخمة. فأنت لا ترى فيه سوى الغابات والجبال والثلوج والمطر والعواصف. وكلّ هذه العناصر يوظّفها المخرج بشاعرية وحرفية كإطار لقصّة إنسانية رائعة.

لمشاهدة الفيلم:
الجزء الأوّل
الجزء الثاني

Credits
sovietmoviesonline.com

الأربعاء، مارس 07، 2018

جياكوميتّي: سارتر النحت


في عام 1939، وفي احد المقاهي الليلية في باريس، كان يجلس النحّات السويسريّ البيرتو جياكوميتّي (1901-1966). كان المقهى شبه فارغ في تلك الساعة المتأخّرة من الليل. ثم جاء رجل وجلس على المائدة المجاورة.
ولم يلبث أن أمال رأسه ناحية جياكوميتّي وقال: المعذرة، لقد رأيتك هنا مرارا وأظنّ أننا نفهم بعضنا جيّدا". ثم صمت قليلا وأضاف: ليس معي نقود، ولا ادري إن كان بمقدورك أن تطلب لي كوبا من القهوة".
ولم يكن من عادة جياكوميتّي أن يرفض مثل ذلك الطلب. ثم تلا ذلك حديث طويل بدا أثناءه أن الرجلين يفهمان بعضهما بالفعل.
كان جياكوميتّي قد سمع عن جان بول سارتر من قبل، لكن كانت تلك أوّل مرّة يراه فيها عيانا. وسارتر من ناحيته كان قد سمع الكثير عن جياكوميتّي ورأى بعضا من منحوتاته. وكان ذلك اللقاء بداية لعلاقة وثيقة وممتدّة بين الفيلسوف والنحّات.
وقد كتب سارتر بعد ذلك اللقاء مقالا مشهورا بعنوان "البحث عن المطلق"، تحدّث فيه عن جياكوميتّي وامتدح فنّه وأشار إلى انه يطرح أسئلة وجودية عن البشرية وعن هشاشة وغربة الإنسان. وكان النحّات نفسه قد بدأ يرى في أفكاره وفنّه امتدادا للتقاليد الوجودية التي أرساها سارتر.
وبالنسبة للأخير، كانت تماثيل جياكوميتّي مليئة بالمعاني، كما أنها تقف دائما في منتصف المسافة بين الكينونة والعدم.
وقد كتب في مقاله ذاك أن لا احد يشبه جياكوميتّي في إحساسه بسحر الوجوه والحركات ومحاولته أن يغيّر الطريقة التي ننظر بها إلى الآخرين. وأضاف أن النحّاتين ولأكثر من ثلاثة آلاف عام كانوا صامتين دون أن يثيروا ضجيجا وأنهم كانوا ينحتون جثثا لا أكثر.
كما أشار سارتر إلى أن التماثيل الجامدة في المتاحف، بأعينها البيضاء وهيئاتها الساكنة، تتظاهر بأنها تتحرّك، لكن أجزاءها ملحومة بقضبان من حديد. وختم مقاله بالقول: بعد ثلاثة آلاف عام من النحت، فإن مهمّة جياكوميتّي وزملائه المعاصرين ليست أن يضيفوا أعمالا جديدة إلى ما هو موجود في المتاحف، بل أن يثبتوا أن النحت ممكن فعلا".
عندما ترى عملا لجياكوميتّي، ينتابك إحساس بأن هذا الفنّان يتعارك مع نفسه في محاولته العثور على شكل مناسب يعبّر من خلاله عن رؤاه. ومعظم منحوتاته تمنح شعورا بأنها خاصّة ولم تُصنع لكي يراها عامّة الناس.
كان يهتمّ بكل تفصيل في عمله، وطالما دمّر العديد من منحوتاته بعد أن يكون قد اشتغل عليها لأسابيع وأحيانا لأشهر. وكثيرا ما نجح أصدقاؤه في استنقاذ رأس أو ذراع أو ساق تمثال. وكان يتركهم يفعلون هذا ويعود إلى عمله من جديد. وطوال خمسة عشر عاما لم ينظّم معرضا واحدا لأعماله.
ويمكنك تمييز منحوتات جياكوميتّي بلا عناء وبنفس سهولة التعرّف على تماثيل النحّات البريطانيّ هنري مور التي تتّسم بكثرة الفتحات والتجاويف فيها. فرجال ونساء جياكوميتّي دائما طوال القامة ورفيعو القوام وبالغو الهشاشة. أطرافهم رفيعة جدّا مثل عيدان الثقاب، ورؤوسهم متناهية الصغر لدرجة أنها تبدو بعيدة جدّا في الفراغ. ولمسات أصابع النحّات على أسطحها تمنحها ملمسا خشنا كما لو أنها محروقة أو متآكلة.
وجياكوميتّي لا يتحدّث عن الخلود، بل ولا يفكّر فيه أبدا. وقد قال ذات مرّة لسارتر بعد أن اتلف بعض تماثيله: لقد كنتُ سعيدا بها، لكنها صُنعت لتعيش فقط لبضع لساعات، مثل ومضات الفجر الخاطفة ولحظات الحزن العابرة".
شخصيات جياكوميتّي هي عبارة عن بشر مجهولين ومعقّدين ومنعزلين بشكل لا يُحتمل. وهذا هو جوهر ما تقول به الفلسفة الوجودية. وتماثيله تعكس رؤية حداثة القرن العشرين والتي تتلخّص في أن الحياة الحديثة خاوية بشكل متزايد وخالية من المعنى. وهذه النظرة يؤكّدها قول الفنّان ذات مرّة: إذا جلستَ أمامي لأنحتك، فإنك ستصبح غريبا بالكامل، حتى لو كنت أعرفك".
وقد اختار جياكوميتّي لعمله مادّتين خفيفتين هما الجبس والطين، وهما من أكثر المواد روحانيةً وقابليةً للاختراق. "ليس هناك مادّة اقلّ خلودا وأكثر ضعفا وشبها بالإنسان من الطين".
كان جياكوميتّي مهجوسا برؤوس ووجوه الناس الذين كان يراهم حوله، وهو يتعامل مع الوجوه بعاطفة قويّة وكما لو أنها آتية من عالم آخر.
وقد كان له معجبون كثر، مثل الشاعر جان جينيه الذي كان مفتونا بفنّه وبتقشّفه الغريب واحتقاره للراحة والبذخ. لكن اقرب أصدقائه إلى نفسه كان الروائيّ سامويل بيكيت الذي طالما رافقه أثناء مغامراتهما الليلية في أحياء باريس. ومثل شخصيّات بيكيت، كانت تماثيل جياكوميتّي تعكس نظرة إلى عالم معزول ومغرق في فردانيّته وأنانيّته.
كان جياكوميتّي يتمتّع بروح دعابة عالية، وكان شخصا ناجحا في حياته. لكن عندما تنظر إلى صوره في الانترنت، ستلاحظ انه نادرا ما يبتسم، وكلّ صوره ومقابلاته تحيل إلى شخصية متحفّظة وخجولة.
وبعد مرور أكثر من خمسين عاما على رحيله، ما يزال جياكوميتّي يتمتّع بحضور كبير في المشهد الفنّي العالمي وفي سوق الفنّ اليوم. ففي عام 2010، بيعت إحدى منحوتاته بمبلغ خمسة وستين مليون جنيه استرليني. ثم بيعت منحوتة أخرى له بعنوان رجل يؤشّر بيده بمبلغ مائة وستّة وعشرين مليون دولار، لتصبح أغلى منحوتة بيعت في العالم حتى الآن.

Credits
fondation-giacometti.fr/en
theartstory.org