:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يوليو 25، 2011

أمام المرآة


هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!

الجمعة، يوليو 22، 2011

محطّات

زجاج النافذة


من اكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الإنسان أن ينظر إلى الناس والأشياء من خلال عيون الآخرين، ومن ثمّ يكوّن تصوّراته وقناعاته بناءً على ما يقوله الآخرون ويفعلونه لا على ما يراه هو ويعتقده.
كنت أتحدّث مع زميل منذ أيّام عن بعض شئون ومشاكل العمل. وأثناء الحديث جاء على سيرة زميل ثالث فوصفه بأنه إنسان متعال وأنانيّ ومتغطرس. قلت له: هل تعرف الرجل عن قرب؟ قال: سبق لي أن تعاملت معه مرّة أو مرّتين. قلت له: حسنا، هل تثق في حكمي على الآخرين؟ قال: نعم. قلت: هذا الرجل الذي تتحدّث عنه أعرفه تمام المعرفة. ومن خلال علاقتي به، لم أرَ منه إلا كلّ خير. بل لا أبالغ إن قلت انه من خيرة الناس الذين التقيتهم وعرفتهم. وكون انك تعاملت معه مرّة أو مرّتين لا يعطيك الحق في أن تُصدر عليه حكما متسرّعا وناجزا فتظلمه وتظلم نفسك". قال: أنا لا اظلمه. تخيّل أن أحدا من زملائه لا يحبّه ولا يضمر له أيّ نوع من الودّ". قلت: من الخطأ أن تحكم على إنسان من خلال ما يقوله الآخرون الذين قد يكونون عرضة للتحامل والأهواء. وأخشى انك عندما تعاملت معه كنت واقعا مسبقاً تحت تأثير ما سمعته عنه. هؤلاء الأشخاص الذين تستشهد برأيهم في الرجل ربّما يضمرون له الحقد والكراهية. وأنت وأنا نعرف انه يشغل وظيفة مهمّة وأنه مقرّب من الإدارة العليا. وهذا لوحده سبب كاف لأن يصبح شخصا محسودا ومكروها".
ثم تذكرّت قصّة ذات مغزى قرأتها منذ بعض الوقت وأعجبتني، لأنها تتضمّن درسا بليغا في طريقة النظر إلى الأشياء والحكم على الآخرين. تتحدّث القصّة عن زوجين شابّين انتقلا للعيش في احد الأحياء الجديدة. وفي صباح اليوم التالي وبينما كانا يتناولان إفطارهما، لمحت الزوجة عبر زجاج النافذة جارتها وهي تنشر غسيل ملابسهم في الخارج. ثم قالت معلّقة: هذه المرأة غسيلها متّسخ. إنها حتى لا تعرف كيف تغسل الملابس". نظر زوجها عبر النافذة وهو صامت. وفي كلّ مرّة كانت المرأة تنشر غسيلها، كانت الزوجة تُبدي نفس الملاحظة.
وبعد شهر، دُهشت الزوجة عندما رأت ملابس نظيفة ولامعة على حبل غسيل جارتها. ثم قالت لزوجها: انظر، لقد تعلّمت كيف تغسل جيّدا. غريبة! ترى من علّمها هذا؟".
فردّ عليها الزوج قائلا: يا عزيزتي، لقد استيقظتُ مبكّرا هذا الصباح وقمت بتنظيف زجاج نافذتنا".
الدرس الذي تقوله لنا هذه القصّة هو أن ما نراه عندما نراقب الآخرين يعتمد على النافذة التي ننظر إليهم من خلالها. فمن الأولى إذن أن ننظّف زجاج نوافذنا ونمسح عنها ما علق بها من غبار وأوساخ كي نرى الناس والأشياء على حقيقتها.
وقريب من هذا المعنى قول الإمام الشافعيّ: وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة، ولكنّ عين السخط تُبدي المَسَاويا".

❉ ❉ ❉

سماء الكناري


دانيال لوبيز مصوّر سينمائي اسباني أمضى أكثر من عام في تصوير هذا الفيلم الذي يتضمّن مشاهد من جزر الكناري الاسبانية التي تتميّز بجمال طبيعتها وسحر أجوائها.
المشاهد الليلية وحركة الأرض والقمر والشمس في الفيلم تمنح إحساسا بجلال الطبيعة وتنوّعها.
وقد حرص المصوّر على التقاط مناظر الجبال والأنهار وحركة الغيوم والنجوم من نقطة تعلو سطح البحر بحوالي ألفي متر وبحيث يُخيّل للناظر وكأن الزمن يمضي بسرعة.

❉ ❉ ❉

طريق صخري في بورفيل

كان كلود مونيه يرسم دون كلل أو ملل. وأحيانا كان يرسم في أحوال جويّة سيّئة في محاولة منه لاختبار تحمّله وقوّة ملاحظته.
وكان من عادته أن يقوم كلّ سنة برحلة شتائية تأخذه إلى بعض القرى الواقعة على ساحل النورماندي. كان يختار المواقع على طول الشاطئ الخشن ومن ثمّ ينصب عدّة الرسم مشرفا على البحر من نقطة عالية.
وفي عام 1883 سافر مع صديقه بيير رينوار إلى إحدى قرى منتجع الريفيرا. وهناك وجد رؤية بديلة عن أضواء الشمال الباردة. كما وجد تحدّيا غير مسبوق: الألوان المشعّة لجنوب المتوسط.
وطوال ثلاثة أشهر، كان مونيه يعمل من الفجر إلى الغروب ويرسم أربع لوحات في كلّ مرةّ، في محاولة للامساك بالألوان البديعة التي كان يراها في كلّ مكان حوله.
وبعد ثلاث سنوات ذهب إلى ساحل بريتاني. وهناك اجتذبته التضاريس الصعبة وتشكيلات الصخور الغريبة التي تبرز من البحر.
وإحدى أروع اللوحات التي رسمها في تلك الفترة كانت لوحته بعنوان طريق صخري في بورفيل. هذه اللوحة تخفي داخلها كلّ الهواء والسحر اللذين يخطران بالبال عندما يأتي ذكر الانطباعية.
المشهد الذي أمامنا هو لسيّدتين، واحدة تمسك بمظلّة مفتوحة والأخرى تقف على بعد خطوات منها.
المكان عبارة عن حقل من الزهور البرّية يشرف مباشرة على البحر. وأمام المرأتين منظر رائع لقوارب تتحرّك مبحرة في مياه القنال.
ما يثير الدهشة في هذه اللوحة هو اللون. فالتوليف بأكمله ليس عن السيّدتين وإنما عن اللون. اللافندر والأحمر والأخضر والأزرق كلّها تعمل معا في هذه اللوحة. تستطيع أن ترى امتزاج هذه الألوان في كلّ مكان في هذا المشهد. اللافندر، أو لون أزهار الخزامى، هو الأكثر انتشارا هنا لأنه يمكن أن يُستخدم كلون داكن وفاتح في نفس الوقت. وما يجعل هذا ممكنا أكثر هو سطوع الشمس التي تلقي بضوئها على المشهد، ولكن خارج نطاق الناظر.

❉ ❉ ❉

استراحة موسيقية

❉ ❉ ❉

ابن الرياح

Flute Player
قال المعلّم "وو شي" مخاطبا مجموعة من تلاميذه الصغار الذين تحلّقوا حوله: هل تعرفون ما هذا الشيء؟
صاح الأطفال بصوت واحد: نعم. إنه ناي.
ردّ المعلمّ: أوه هذا صحيح. لكنه أكثر من ناي. إنه رسول. لكن رسول مَن؟ هل تعرفون؟
جلس الأطفال بعيون مفتوحة وهزّوا رؤوسهم جميعا وقالوا: لا.
قال المعلّم وهو يسحب كلماته ببطء: إنه رسول الرياح. هو الذي يحمل لنا جميع القصص والحكايات الرائعة التي تجمعها الرياح من الأشجار والحقول والغابات. أغمضوا عيونكم واستمعوا. إستمعوا إلى الرياح.
وأغمض الأطفال عيونهم واستمعوا بعناية إلى الرياح في حفيف أوراق الشجر، وإلى همساتها في الغابات، وإلى هدهداتها في الحقول، وإلى صريرها واندفاعها بين أشجار الخيزران.
لقد استمعوا إلى كلّ الأصوات الرائعة والعجيبة للرياح.
ثم وضع المعلّم الناي في فمه وبدأ يعزف نغما ناعما ورقيقا. وما لبث أن غيّر اللحن كي يتناغم مع همسات الرياح وعصفها وهدوئها.
وعندما انتهى من عزفه قال الأطفال: ونحن أيضا.
ابتسم المعلم بفرح وناولهم الناي. لكن عندما بدأ العزف لم تصدر عنه سوى أصوات قليلة واهنة لا تشبه النغم الجميل الذي عزفه المعلم للتوّ.
قال الأطفال بخيبة أمل: لا فائدة يا معلّم. إنه لا يحبّنا.
ردّ المعلم: لا يا أبنائي. انه يحبّكم. ما عليكم إلا أن تعلّموه كيف يقصّ عليكم الحكايات التي تريدون سماعها.
ثم أخذ يعلّم تلاميذه واحدا تلو الأخر كيف يعزف، وأعطى لكلّ منهم ناياً.
ولم ينته ذلك النهار حتى كانت الرياح قد بدأت تحكي لهم كثيرا من قصصها الساحرة والمدهشة.

الاثنين، يوليو 18، 2011

متاعب الطبقة الوسطى


كيف يمكن أن نعرّف الطبقة الوسطى في أيّ مجتمع؟
في الواقع لا يوجد تعريف شامل ودقيق لهذه الطبقة. لكن عافيتها تُقاس بنسبة ما يكسبه أفرادها من دخل ومدى الاستقرار الماليّ الذي يتمتّعون به. غير أن هذا رهن بتوفّر اقتصاد يحقّق نموّا معقولا ويولّد ثروة يستفيد منها أفراد هذه الطبقة بما يتناسب مع حجمها.
أما العوامل التي تؤثّر على أفراد هذه الطبقة سلباً فكثيرة. لكن أهمّها جشع قطاع الأعمال ووجود نظام تعليمي سيء وتضخّم البيروقراطية وتوزيع الدخل بطريقة غير عادلة.
منظّرو علم الاجتماع السياسي يقولون إن الطبقة الوسطى هي الحاضنة للفئات الحيّة في أيّ مجتمع، من ‏مثقفّين وتكنوقراط ومبدعين.‏
ويقولون أيضا إن اختفاء هذه الطبقة أو تلاشيها من شأنه أن يحكم على ‏أيّ مجتمع بالجمود، لأنها تختزن بداخلها كلّ الأفكار الحيّة التي تحفّز على التغيير والإصلاح والتجديد.‏
ويقال كذلك أن لا استقرار سياسيا أو اقتصاديا من دون طبقة وسطى ‏كبيرة ومنتجة ونشطة ومؤثّرة.‏
قبل فترة، شاهدت رسما كاريكاتيريّا شدّني لبلاغته ودقّة توصيفه ‏للواقع الاجتماعي. الفنّان رسم بناية ضخمة قسّمها إلى ثلاثة ‏طوابق:‏
العلوي: ومداه ضيّق جدّا ويمثّل الطبقة البورجوازية. ‏
والسفلي: وحجمه واسع، بل ويزداد اتّساعا، ويمثّل الطبقة الفقيرة ‏أو من يعيشون حياة الكفاف. ‏
وفي الوسط تستقرّ الطبقة الوسطى التي بدا أنها تضيق وتنكمش باطّراد.‏
أهمّ ما في ذلك الرسم البليغ هو منظر وسط البناية وأسفلها. إذ تبدو ‏الأعمدة والدعامات كما لو أنها تترنّح أو أنها في طريقها إلى الانهيار. ‏
البناء الآيل للسقوط هو رمز ليس فقط للمجتمع، وإنما للدولة أيضا. والمعنى المقصود هو أن تلاشي الطبقة الوسطى لا يصيب المجتمع في مقتل فحسب، بل يمكن أن يؤدّي إلى إضعاف كيان الدولة نفسها ومن ثمّ إلى احتمال اضمحلالها وسقوطها. فاتّساع دائرة الفقر بفعل تآكل الطبقة الوسطى وانتقال أفرادها إلى الطبقة المعدمة من شأنه أن يؤدّي إلى انتشار مشاعر الاستياء والسخط. وقد يمهّد لنشوء حالات من الصراع الطبقي والاضطراب السياسي، مع ما يعنيه ذلك من تهديد لكيان الدولة نفسها.
لا بدّ أن أقول هنا إن ذلك الرسم الكاريكاتيري لا يتحدّث عن بلد أو ‏مجتمع بعينه، وإنما يجسّد واقعا عالميا ماثلا للعيان يستمرّ فيه التفاوت الرهيب في الدخل بين من يملكون ومن لا يملكون. وفيه أيضا ‏يستمرّ انكماش الطبقة الوسطى وبالتالي فقدانها تدريجيا لدورها ‏ومكانتها.‏
ومؤخّرا قرأت أكثر من مقال لكتّاب أمريكيين يحذّرون من أن الطبقة الوسطى الأمريكية أصبحت هي أيضا على حافّة الانقراض. بل إن كاتبة مثل اريانا هافنغتون حذّرت في كتاب صدر لها حديثا بعنوان أمريكا الثالثية من أن الولايات المتحدة قد تتحوّل قريبا إلى دولة من دول العالم الثالث بسبب تخلّي ساستها عن الطبقة الوسطى وخيانتهم لمفهوم الحلم الأمريكي. وقد لاحظت الكاتبة أن الفجوة تتّسع ولا تضيق بين من يملكون ومن لا يملكون. فاثنان وثمانون بالمائة من شركات الأسهم الكبرى هي بيد واحد بالمائة من أفراد الشعب. بينما يعيش عشرون بالمائة من الأطفال تحت خطّ الفقر. كما أن عشرة بالمائة من الأمريكيين يحتكرون نصف الناتج القومي الإجمالي.
لكن هناك من يقول إن الولايات المتحدة قادرة على تصحيح هذا الاعتلال بفضل اقتصادها النشط وجامعاتها القويّة ونظامها المالي الديناميكي والمرن.
المجتمعات الرأسمالية الكبيرة تنجح غالبا في الانتباه للمشكلة ومعالجتها، لأنها تملك الآليات السياسية والاقتصادية والتشريعية التي تصحّح الخلل وتعيد توجيه الأمور إلى مسارها الصحيح.
في دول العالم الثالث، الأمر مختلف في ظلّ غياب الآليات والقوانين، وأحيانا الإرادة السياسية، التي تجرّم الفساد وتكبح التضخّم وتكافح البيروقراطية وتمنع تكدّس الثروة في يد فئة صغيرة من فئات المجتمع بينما البقيّة يعانون غائلة الفقر والبطالة والغلاء.
انكماش وتقلّص الطبقة الوسطى هو ظاهرة عالمية كما أسلفت. لكن آثارها وعواقبها اشدّ على الدول النامية وذات الاقتصاد الريعي. وهي نذير خطر قد لا تكون آثاره فورية وحاسمة، بل قد تستغرق وقتا كي تتّضح وتتبلور.