فقال ريلكه: إنني لا أستطيع التغلّب على حقيقة أنه في يوم من الأيّام سوف يموت كلّ هذا، كلّ هذه الأشجار والنباتات وكلّ هذه الحياة سوف تتحلّل وتزول".
كان ريلكه يقصد أن زوال الأشياء وعدم ديمومتها هو مشكلة وجودية وأمر حقيقيّ في هذا العالم. وربّما لهذا السبب عندما نكون في حالة حبّ او ابتهاج، فإننا نشعر بحزن غامض نوعا ما. كما أن الأشياء الجميلة يمكن أن تجعلنا حزينين قليلاً في بعض الأحيان، وذلك لأن تلك الأشياء المبهجة تخفي رؤية شيء أكبر، باب مخفيّ مثلا او حفرة نحاذر الوقوع فيها، على الرغم من أن هذا شعور مؤقّت غالباً.
وهذا هو السبب أيضا في أننا نشعر أحيانا بالحنين إلى شيء لم نفقده بعد، لكنّنا نرى أنه في النهاية زائل لا محالة. ما العمل إذن وكيف نستجيب لهذا الشعور؟ هل بعدم الارتباط بالأشياء والمشاعر كما تقول بعض الديانات الشرقية؟ أم بالتظاهر بعدم الاهتمام بحقيقة أن كلّ شيء وكلّ شخص نعرفه سوف يُؤخذ منّا بعيدا في يوم من الايّام؟
إن الحقيقة المتمثّلة في سرعة زوال الأشياء وعدم ديمومتها يمكن مواجهتها بالمزيد من الأدب والأشعار والفنون، وبالتمسّك ببعضنا البعض بقوّة أكبر، وبأن نطيل لحظات الفرح والحبّ والسعادة ونمدّدها إلى أطول وقت ممكن، أو على الأقلّ أن نحاول فعل ذلك.
فرويد وريلكه قدّما لنا نموذجين متعارضين للفقد وكيفية التعامل معه. والاثنان يساعداننا، كلٌ على طريقته، على أن نعيش مراحل الحزن والحداد ونتجاوزها.
فرويد، الإنسانيّ المتفائل، يعتقد أن الزوال السريع للأشياء مساوٍ للنموّ والنضج. وكلّ ما هو غائب الآن هو غائب لسبب ما. والكائن المفقود هو كائن تحوّلي. والغياب أو الفقد هو مجرّد خطوة في عملية التحوّل من طور الى آخر.
أما ريلكه، الشاعر المتشائم، فهو على الضدّ من تفاؤل فرويد. وبرأيه أن بعض الأشياء تُفقد ببساطة، مرّة واحدة وإلى الأبد. كما لا يوجد نموّ ولا تحوّل، بل غياب وفقد فقط. وكلّ ما نحبّه ونعجب به هو مجرّد من قيمته بسبب الانقراض الذي سيكون مصيره والذي لا يترك وراءه شيئاً.
أما الكتاب الذي عدت إليه ثانيةً فكان رواية دوستويفسكي "الإخوة كارامازوف". عندما كنت صغيرا خفت من ثقل الرواية وسرعان ما تخلّيت عنها. ثم عدت اليها في منتصف العمر وأذهلتني حمولتها النفسية، وبقيت الأسئلة الرهيبة التي طرحها إيفان الملحد دون إجابة.
أما الكتاب الذي غيّرني عندما كنت مراهقا فهو كتاب "الجنس الثاني" لسيمون دي بوفوار. وهو عمل نسوي مبكّر ومؤثّر للغاية. وقد صوّرت فيه المؤلّفة التضييق الثقافي على المرأة عبر العصور. لكن بالنسبة لنفسي المتلهّفة، بدا الأمر وكأنه يكشف عن عالم أنثوي داخلي غنيّ أضفى على النساء غموضا أكثر.
أما الكتاب الذي اكتشفته لاحقا في حياتي فهو "البحث عن الزمن الضائع". ولا أعرف لماذا تأخّرت في قراءة بروست حتى بلغت الخمسين من عمري. هذا الكتاب يحتوي على أكثر الاكتشافات حساسيةً وعمقاً ودقّةً عن الحبّ والذاكرة.
❉ ❉ ❉