الأحد، أغسطس 31، 2014

عشرة أيّام في التلال/3

ترى، ماذا لو كانت السعادة، بما في ذلك السعادة الجنسية، فضيلة أخلاقية في حدّ ذاتها؟ في العصور الوسطى، كان الملل أو السبات الروحيّ أو الكآبة، تُُعتبر خطيئة. ويُفترض بك كإنسان أن تحبّ عالم الربّ. وهناك العديد من الأشياء والناس والحوادث في كتاب بوكاتشيو، من قبيل الأزهار التي ترفع وجوهها لأشعّة الشمس والسفن التجارية التي تمخر عباب البحار والراهبات اللاتي يتناوبن على ممارسة الجنس مع البستانيّ، والتي يمكن اعتبارها تأكيدات أو تمظهرات لهذا الحبّ. وشخصيّات بوكاتشيو، بحسب ألبيرتو مورافيا أيضا، خاصّة وحيوية جدّا وكما لو أن المؤلّف نفسه كان يغار منها.
في ديكاميرون أيضا هناك قدر كبير من التسامح والقناعة وحسن النوايا. الزوج المخدوع لا يعاني كثيرا. ومثال هذا قصّة فيروندو، الفلاح الثريّ. رئيس الدير يكتشف أن زوجة فيروندو رائعة الجمال، فيعطيه جرعة منوّمة ويحبسه في زنزانة. ثم يذهب لمغازلة واجتذاب الزوجة. وعندما يستيقظ فيروندو يخبره راهب أرسله رئيس الدير بأنه، أي فيروندو، موجود الآن في البرزخ ليقضي فترة عقوبة مؤقتة هناك.
وبعد عام تصبح زوجة فيروندو حاملا من رئيس الدير. ويتمّ إعادة فيروندو إلى بيته. وبعدها يحكي لجيرانه كيف كان الحال في البرزخ. وبينما يسألونه عن أحوال أقاربهم الذين التقاهم هناك، يروي لهم قصصا رائعة من نسج خياله وهم يؤمنون بما يقول. ومع مرور الأيّام، يصبح فيروندو رجلا مهمّا في بلدته. أما الزوجة ورئيس الدير فيواصلان لقاءاتهما الغرامية من وقت لآخر. ويصبح كلّ شخص قانعا بما عنده.
ويروي ديونيو "احد أبطال الرواية" قصّة أليبيك، وهي فتاة بسيطة وجميلة في الرابعة عشرة من عمرها تتمنّى أن تتفقّه في تعاليم المسيحية. لذا تذهب الفتاة إلى الصحراء للبحث عن ناسك يعلّمها كيف تخدم الربّ بأفضل طريقة. وفي الطريق يصدّها العديد من النسّاك لخوفهم من أن تغريهم وتوقعهم في الخطيئة. وأخيرا تعثر الفتاة على ناسك يُدعى روستيكو يقبلها ضيفة عنده "لأنه يريد أن يثبت لنفسه انه يتمتّع بإرادة حديدية تعصمه عن الوقوع في الخطيئة".
لكن في الليلة الأولى من إقامة الفتاة عنده، لا يستطيع أن يكبح رغبته، فيراودها عن نفسها. وعندما يكتشف أنها عذراء، يخبرها أن "أقدس ما يمكن أن يفعله هو أن يرسل الشيطان إلى الجحيم". ثم يعلّمها كيفية الاتصال الجنسي. في البداية تشعر أليبيك بشيء من الانزعاج، لكن سرعان ما تجد أن "إرسال الشيطان إلى الجحيم" أمر ممتع للغاية وأن روستيكو غير قادر على إشباع رغبتها المتزايدة.
ثم تموت عائلة الفتاة عندما يحترق بيتهم، وتُستدعى إلى المدينة كي تأخذ نصيبها من التركة، وتُزفّ إلى رجل موسر يدعى نيربال. غير أن أليبيك تتردّد في ترك "حياتها المقدّسة" رغم سعادة الناسك بالتخلّص منها.

وهناك حكاية أخرى عن رجل يُقنعه أصدقاؤه بأنه حامل، ويلوم زوجته لأنها تصرّ دائما على أن تركب فوقه أثناء الجماع، ويقول لها: لقد أخبرتك أن هذا سيحدث". ثم يدفع لأصدقائه مبلغا من المال كي يرتّبوا له عملية إجهاض. ويأخذون منه المال وينفقونه على وجبة لذيذة.
لكن ما علاقة هذه القصص بزمن الأزمة؟ السرد يجري في سنوات الطاعون، لكن ليست هناك إشارة في أيّ من هذه الحكايات إلى الأزمة. غير أن القصص جميعها تتحدّث عن حياة جديدة، عن البقاء، وعن النشاط الإنساني الذي سيملأ العالم من جديد. أما الدرس الأخلاقيّ المستفاد من هذه الرواية فهو أن الناس يمكن أن يكونوا سعداء ومبدعين حتى في أسوأ الأوقات، وأن لا شيء يمكن أن يطفئ جذوة الحياة.
الإيطاليون، قبل بوكاتشيو، كانوا يكتبون شكلا متطوّرا من النثر. وكان دانتي أوّل ممارس لهذا النوع من الكتابة. لكن عمله الضخم، الكوميديا الإلهية، مصاغ شعرا وليس نثرا. وقد ألّف دانتي كتابه بلهجة أهل فلورنسا. وكان بوكاتشيو يحبّه لدرجة العبادة.
في عام 1350، وبينما كان بوكاتشيو يكتب ديكاميرون، التقى بترارك الذي كان في ذلك الوقت الكاتب الأكثر شهرة في إيطاليا والممثّل الإيطاليّ لعصر النهضة الإنسانية، أي العودة إلى القيم القديمة والأدب القديم.
وتحت تأثير بترارك، أحسّ بوكاتشيو بالخجل من ديكاميرون. في إحدى الرسائل المتبادلة بينهما يقول بترارك انه لم يُتح له الوقت لقراءة أجزاء من ديكاميرون التي صادفها في طريقه. والحقيقة أنه لم يخصّص وقتا لقراءته، لأن الكتاب بدا له نتاج شباب بوكاتشيو ونتيجة سعيه للحصول على شعبية.
في الفترة الأخيرة من حياة بوكاتشيو، أي في سنوات ما بعد ديكاميرون، عاش في منزل صغير للأسرة في سيرتالدو، وهي بلدة خارج فلورنسا وربّما تكون مسقط رأسه. ومثل والده، لم يتزوّج قطّ، لكنه أنجب عددا من الأطفال غير الشرعيين. وقد اشتكى من عدم توفّر المال الكافي، وذهب في بعض البعثات الدبلوماسية ممثّلا لحكومة فلورنسا، وأنتج عددا من الكتب المرجعية باللاتينية. ولم يكتب مرّة أخرى أبدا قطعة كبيرة من الخيال النثري.
وابتداءً من عام 1350، أي بعد ديكاميرون، مرّ بأزمة دينية. وبحلول عام 1360، كان قد تلقّى "أوامر أو إشارات مقدّسة". ويقال انه أراد إتلاف ديكاميرون بعد أن أصبح يعتقد أنها شيء تافه وقذر. لكن، وقبل بضع سنوات من وفاته، قام بنسخ المخطوطة كلّها بخطّ يده. "وهذه هي النسخة المستخدمة الآن من قبل جميع المحرّرين والمترجمين". ويبدو انه كان ما يزال لديه بقيّة من اعتزاز بهذا الكتاب. وعلاوة على ذلك، لم يكن باستطاعته أبدا سحب الرواية من التداول، لأنها كانت قد أصبحت بالفعل مشهورة.
رواية بوكاتشيو تناولتها السينما في أكثر من عمل، منها فيلم من إخراج بيير باولو باسوليني، وآخر أنتج عام 2007 بعنوان أرض العذراوات . وهناك أيضا فيلم ثالث من عام 1953 بعنوان ليالي الديكاميرون ، ويتضمّن أجزاء متخيّلة من حياة بوكاتشيو مع ثلاث قصص. الفيلم الأخير يتخيّل بوكاتشيو وهو يتتبّع خطى فياميتا إلى الريف محاولا خطب ودّها. وهناك ينسج اثنتين من حكاياته: الأولى عن رجل عجوز يفضّل الفلك على الزواج، والثانية عن تاجر مسنّ يخسر زوجته الشابّة الجميلة في رهان.
في عام 1372، بدأ بوكاتشيو يعاني من مشاكل صحّية بسبب السمنة. وفي ديسمبر من عام 1375، توفّي في بيته بعد فترة قصيرة من وفاة صديقه بترارك.
بوكاتشيو مثال واضح على ذلك النوع النادر من الكتّاب الكبار الذين لا يؤلّفون سوى كتاب واحد عظيم. وديكاميرون يمكن النظر إليه على انه صورة تظهر فيها عشر نساء فلورنسيّات أنيقات بملابسهنّ المطرّزة بالحرير وحللهنّ القشيبة، وهنّ يُمسكن بأيدي بعضهنّ ويؤدّين رقصتهنّ الدائرية الجميلة المعروفة بالكارولا.
وفي منتصف الدائرة، هناك رهبان وتجّار ورسّامون وبغايا يتناولون العشاء ويمارسون الجنس ويركل بعضهم بعضا سقوطا في الحفر. وبعبارة أخرى، فإننا نرى عصر النهضة تحتويه العصور الوسطى مثل كوكب تدور حوله أقماره. انه مشهد جميل وغريب أيضا ونحن نراه من بعيد.

Credits
archive.org
newyorker.com