الثلاثاء، فبراير 24، 2015

محطّات

ايفازوفسكي في الشرق


الشكر الجزيل لكلّ من كتب يسأل عن توقّف المدوّنة خلال الأشهر القليلة الماضية. والواقع انه لم يكن هناك سبب غير الرغبة في التقاط الأنفاس والابتعاد عن الانترنت ومواقع التواصل لبعض الوقت.
أحيانا يحسّ الإنسان بالملل من كلّ شيء، فيبحث عن بعض التغيير الذي يمكن أن يكسر الرتابة ويضفي على الحياة بعض التنوّع والتجديد. ولمن سأل عن تويتر أقول أنني كنت أقوم بتعليق حسابي هناك شهرا بعد شهر. ويبدو أنني نسيت تنشيطه قبل انتهاء مهلة الثلاثين يوما الأخيرة، فتمّ إلغاؤه تلقائيا وتعيّن عليّ التسجيل هناك بحساب جديد. ومرّة أخرى شكرا لكلّ من اهتمّ أو سأل.
في هذه المدوّنة وفي المدوّنة الأخرى، تحدّثت أكثر من مرّة عن فنّ الرسّام الأرمني ايفان ايفازوفسكي. كنت اعرف انه زار تركيا غير مرّة، ثم قرأت في ما بعد انه زار مصر أيضا.
وقد ذهب ايفازوفسكي إلى مصر بصحبة إحدى بناته بعد أن تلقّى دعوة من الخديوي لحضور حفل افتتاح قناة السويس. وهناك رسم عدّة لوحات للنيل والواحات ولأهرامات الجيزة ومُنح شرف أن يكون أوّل رسّام يرسم القناة. وكما هو الحال في جميع أعماله، فإن لوحاته عن مصر مشبعة بالضوء الذي يُضفي على الطبيعة إحساسا عاطفيا وحالما.
ذهب ايفازوفسكي أيضا إلى تركيا زائرا بدعوة من السلطان عبدالحميد. وقد زار اسطنبول بعد ذلك سبع مرّات ورسم فيها بورتريهات للمدينة وكذلك للسلاطين وحاشيتهم. ثم تلقّى ميدالية ذهبية من السلطان العثماني، لكنه رفضها احتجاجا على مذبحة الأرمن عام 1895.
وبعض لوحاته التي رسمها بعد ذلك يمكن اعتبارها احتجاجا على سوء معاملة الأتراك للأرمن. وهناك اليوم أكثر من ثلاثين عملا من أعماله موجودة في القصر الامبراطوري العثماني وفي عدد من المتاحف التركية.
ايفازوفسكي مشهور أيضا بكونه الرسّام المفضّل لمزوّري اللوحات. ولو زرت ييريفان عاصمة أرمينيا، سترى تمثالا طويلا من البرونز لايفازوفسكي في احد ميادين هذه المدينة. وعلى مسافة من التمثال يقع ضريحه الذي نُقشت على شاهده الرخامي عبارة تقول: هنا يرقد ايفان ايفازوفسكي الذي وُلد إنسانا فانيا وترك إرثا خالدا".

❉ ❉ ❉

ماذا تقرأ أو تشاهد؟


خطّ يدك، طريقة مشيك، والألوان التي تختارها، كلّ ذلك يشي بطبيعة شخصيّتك ويدلّ عليك. وكلّ شيء تقوله أو تفعله هو بورتريه شخصيّ أو مفكّرة شخصيّة عنك.
أيضا جزء من شخصيّتك، قد يزيد أو ينقص، تشكّله نوعية قراءاتك. أي أن كلّ ما نقرؤه يصبح مع مرور الوقت جزءا من قناعاتنا وسلوكياتنا ويصوغ مواقفنا وقراراتنا في الحياة سواءً كانت سلبا أم إيجابا.
والحقيقة أن ما ينطبق على القراءة ينطبق على ما نشاهده في التلفزيون أو غيره من وسائل الإعلام والثقافة المختلفة، وحتى على ما نطالعه في الانترنت من أفكار وتصوّرات.
ولهذا السبب، ينبغي ألا نستثمر وقتنا إلا في ما ينفعنا ويثري وعينا ويرقّي سلوكياتنا ويرقّق مشاعرنا. مثلا حاول أن لا تُكثر من مشاهدة نشرات الأخبار التي تعرضها المحطّات الفضائية هذه الأيّام والتي لا تحمل إلا صور عمليات القتل والذبح والتدمير التي يمارسها غالبا مجرمون يتخفّون بلباس الدين.
وعلى جانب القراءة، من الأفضل أن لا نصرف وقتنا في قراءة كتاب ندرك بعد قراءة صفحات منه انه سيترك بصمة سيّئة علينا. وليس المقصود طبعا أن نمتنع عن قراءة الكتب التي تدفعنا إلى مراجعة قناعاتنا وأفكارنا، بل أن نتجنّب ما يعكّر صفونا ويخرّب مزاجنا ويزيد من مساحة التشاؤم في نفوسنا.
ومن وقت لآخر، حاول أن تستمع لموسيقى هادئة أو اقرأ قصيدة شعر وأبهج ناظريك برؤية صورة أو لوحة جميلة.

❉ ❉ ❉

سحر الرومي

"لا أعرف من أنا، لست مسيحيّا ولا يهوديّا ولا زرادشتيّا، ولست حتى مسلما. لا ارض تمتلكني، لا بحر معروفا أو مجهولا. مكان مولدي هو اللامكان وعلامتي أن لا يكون لي علامة".
وصل جلال الدين الرومي إلى مكان لا ينافَس في عالميّته التي تجاوزت كافّة العقائد والأديان. "قد تجد الحبّ في كلّ الأديان، لكن الحبّ نفسه لا دين له". قصائده مستمرّة في الانهمار مثل مطر أخضر. وقراءتها أو سماعها مغنّاة تجعل الإنسان أكثر حكمة وتواضعا وتسامحا وتفتح عينيه وتساعده على أن يرى العالم بطريقة مختلفة.
"في بيت العاشقين، لا تتوقّف الموسيقى أبدا. الجدران مصنوعة من الأغاني، والأرض ترقص".

❉ ❉ ❉

شيلا: الفنّ العنيف


كان إيغون شِيلا لا يجد سلواه أو راحته في الكلمات رغم انه كان إنسانا شاعريّا. وعندما كانت زوجته تموت بسبب الأنفلونزا، لم يكن قادرا على وصف مشاعره بدقّة. وقد كتب رسالة إلى أمّه يتكهّن فيها بأن زوجته لن تعيش طويلا على الأرجح. لكنه استخدم الفنّ للتعبير عن إحساسه بالفجيعة، فعمل عدّة مخطوطات أوّلية لزوجته خلال آخر عامين من حياتها.
كانت الخطوط في تلك الرسومات سائلة والألوان باهتة. وهذه السمات كانت غريبة على أسلوب شيلا الفنّي المعتاد. وكانت تعكس استقراره العاطفي الذي وجده في حياته مع زوجته. وآخر لوحة له كانت عبارة عن بورتريه لها. وقد ماتت في اليوم التالي، وكانت حاملا في شهرها السادس. وتوفّي هو بعدها بثلاثة أيّام.
وحتى قبل تجربته القاتلة مع الانفلونزا، كان إيغون شيلا قد عرف التعاسة مرارا. فسنواته المبكّرة اتسمت بعلاقته المتوتّرة مع أمّه وبضعفه التعليمي وموت والده الذي كان يعمل مديرا لمحطّة قطار، ثمّ بمعاناة ايغون من مرض السفلس عندما كان في الرابعة عشرة من عمره.
شيلا الأب كان قد أخفى مرضه بالسفلس عن خطيبته، أي والدة إيغون ذات السبعة عشر عاما وقتها. وأوّل ثلاثة أطفال حملت بهم ولدوا ميّتين. أما الطفل الرابع فقد توفّي في سنّ العاشرة بسبب مرض التهاب السحايا، أحد مضاعفات الإصابة بالسفلس.
وكان إيغون أوّل ولد تُكتب له الحياة. وقد كتب إلى أمّه مرّة يقول لها: سأكون الفاكهة التي بعد أن تتحلّل ستترك وراءها حياة خالدة. لذا ينبغي أن تكوني مبتهجة لأنك حملتِ بي".
ملامحه الجسدية، كما تظهر في بورتريهاته التي رسمها لنفسه في مراحل مبكّرة، دفعت البعض إلى الاعتقاد انه هو أيضا ربّما كان مصابا بالسفلس.
عاش إيغون شيلا حياته بوتيرة سريعة. وقد بدأ الرسم وهو طفل، ثم التحق بأكاديمية فيينا للفنون وهو في سنّ السادسة عشرة. ثم أصبح تلميذا لغوستاف كليمت. وفي ما بعد، عندما ضربت الانفلونزا كليمت، رسم له إيغون عددا من البورتريهات وهو على سرير الموت.
وفي مرحلة تالية، خدم في الجيش، ثم عاش قصّة حبّ تحدّث عنها الناس. ثم اعتُقل وأودع السجن، وقبل أن يموت قبل الأوان دخل في علاقة زواج مثمرة.
كان شيلا ينمو دائما كفنّان. واتّبع أسلوبا تعبيريّا يركّز على المشاعر وتفسيرها. كما كان منجذبا إلى كلّ فكرة جدلية وغير تقليدية. والمئات من بورتريهاته الشخصية كانت مزعجة، ولكن عميقة وبليغة في مضمونها.
خطوطه المبالغ فيها وأشكاله غير الواقعية وألوانه المتوتّرة تستدعي حالات إنسانية وجدها الكثيرون مربكة ومؤرّقة.
وخلال مهنته القصيرة في الرسم، كان شيلا منعزلا وهشّا في ذروة احتدام الحرب العالمية الأولى وتفشّي وباء الأنفلونزا. وأشهر بورتريه رسمه لنفسه ربّما كان ذلك الذي يظهر فيه مع نبتة الكريز الأرضي. وقد رسم هذه اللوحة عندما كان في أوج عطائه وإبداعه، أي في عام 1912 عندما أصبح أسلوبه التعبيري في غاية النضج.
هذا البورتريه يمكن قراءته من تعبيرات الوجه والحركات. وفيه قصّ شيلا ذراعيه وجسده. فقط الرأس والكتفان ظاهرة. التحديق بعين واحدة يتحدّى الناظر، وكذلك الشفتان. ربّما يتضمّن هذا البورتريه بعض الأدلّة المبعثرة عن الشخصية. غير أن هناك شيئا واحدا لن نعرفه أبدا، هو ما الذي كان سيحدث لو لم يمت شيلا في سنّ الثامنة والعشرين.
على مرّ العصور، تمكّن الأدب والفنّ من الإمساك بالتوتّر الدرامي العنيف الذي يخلّفه الموت والأمراض الخطيرة عبر التاريخ. وإيغون شيلا أنجز حصّته الخاصّة من هذا بتخليده وجوه وملامح الأشخاص الذين أحبّهم.

Credits
archive.org
artrenewal.org