يقول الكاتب ايريك غيرالدو أنه عندما بحث عن هذه اللوحة، اكتشف أنها غير موجودة في أيّ متحف معروف، كما أنها لا تظهر في كتب الفنّ الشائعة. ثم تبيّن أنها مخفيّة في إحدى مجموعات الفنّ الخاصّة، أي أن قلّة قليلة من الناس هم الذين رأوها عيانا.
ويضيف: إنها واحدة من تلك اللوحات التي تشعر عند اكتشافها وكأنك تعثّرت بسِرّ. وهنا يكمن الجزء المثير للاهتمام فيها. فالفنّان الذي رسمها لم يكن مجرّد رسّام. كان ليون سبيليارت (1881-1946) شابّا بلجيكيّا لا يتجاوز عمره 18 عاما عندما رسم الصورة. وقد عاش في أرقٍ دائم، وكان مهووسا بنيتشه وإدغار آلان بو".
كان سبيليارت يرسم لوحات ليلية يضمّنها رؤى غريبة كانت مرايا لعقله. وقد نتج عن ذلك المزيج الغريب من الشباب والمرض والهوس صور غير عاديّة لدرجة أنها تبدو سابقة لعصرها.
وفنّه عموما يتّسم بغلبة الألوان الداكنة والموضوعات الغامضة والمناظر الطبيعية المهجورة والكثير من الدراما. وقد استخدم في رسم هذه اللوحة حبرا هنديّا مخفّفا وقلم تلوين أسود. هنا لا نرى ألوانا زاهية، فقط الأسود والرماديّ والأبيض وتدرّجاتها. واختيار الفنّان لهذه الألوان ليس مصادفة، لأنه أراد خلق شيء هجين يعكس تماما روحه التجريبية.
لكن ما الذي تعنيه هذه اللوحة حقّا؟ طقوس وثنية؟ لعبة بريئة؟ أم عرض لفنّان معذّب؟!
في ذلك الوقت، أي مطلع القرن الماضي، كانت أوربّا تشهد تحوّلات كبيرة، فالعلم يتقدّم والمدن تنمو والتصنيع يتمدّد ويتّسع. لكن كان هناك في نفس الوقت انجذاب كبير للأحلام والغيبيات واللاعقلانية. وتلك كانت لحظة ولادة الرمزية، وهي حركة فنّية وأدبية تمرّدت على الواقعية والانطباعية. وفي حين سعى بعض الرسّامين إلى تصوير الحياة اليومية، أراد الرمزيون، بمن فيهم سبيليارت، النظر إلى الداخل؛ إلى النفس وعالم اللاوعي.
كان الرمزيون يرون أنه يجب على الفنّانين البحث عن حقيقة أعلى في عملهم. ومثل الرومانسيين من قبلهم، تحوّلوا إلى معجم بصري غنيّ عاطفيّا ومعقّد نفسيّا. وبينما حقّق الرومانسيون ذلك من خلال رسم العالم الطبيعي، اتّبع الرمزيون نهجا أكثر تجريدا. وكما يوحي الاسم، استخدموا لغة "رمزية" لنقل العالم الداخلي للأفكار والمشاعر.
في نفس تلك الفترة، نشر سيغموند فرويد كتابه "تفسير الأحلام" الذي فتح باب اللاوعي على مصراعيه. وفي الموسيقى، قدّم كلود ديبوسيه لأوّل مرّة قطعة موسيقية استلهمها من قصيدة لمالارميه تتحدّث عن "فون" يحلم في منطقة وسيطة بين الواقع والخيال. وفي الأدب، كان إدغار آلان بو ما يزال يؤثّر على جيل كامل من الأدباء بأسلوبه المظلم والكئيب. وكان نيتشه يتحدّى الأخلاق التقليدية بفلسفته المستفزّة وأفكاره الشاطحة.
وقد استوعب سبيليارت كلّ هذا. فحيوانه الأسطوريّ الذي يعزف الناي تحت ضوء القمر مع قطيع من الماعز تبدو كالظِلال، كان انعكاسا لعصر مهجوس بالغموض والرموز وبإعطاء شكل ملموس للأشياء غير المرئيّة.
في الأساطير الرومانية، كان الفون روح الغابات والحقول، وارتبط بالخصوبة والطبيعة البرّية. ونظيره اليوناني، أي الساتير، كان رفيقا لديونيسوس. وكان كلاهما يصوَّر على هيئة مخلوق نصفه إنسان ونصفه ماعز. كان الفون ملحّنا يعزف الناي ويجسّد الفرح والحيوية وأكثر الأشياء والدوافع بدائيةً وجُموحا. ولهذا السبب، كان يُنظر إليه إما كشخصية مرحة وحسّية ومشاكسة، أو ككائن مظلم ومرتبط بالشهوة والشيطان.
وهناك من النقّاد من رأوا أن الفون هو نوع من "الأنا البديلة" لسبيليارت الذي كان مصابا بالأرق ومريضا ومهووسا بآلان بو ونيتشه. وربّما يرمز أيضا إلى الفنّان نفسه الذي يحاول تهدئة مخاوفه وشياطينه الداخلية.
وكلّ هذه العناصر غذت خيال الفنّان بمزيج من الكآبة والفلسفة المتطرّفة والرؤى المظلمة. وليس من المستغرب أن يكون "الفون" المغنّي تحت القمر مولوداً من الأرق المحموم؛ من عقل شخص يعيش بين الواقع والهذيان الليلي. والنتيجة مشهد من عالم آخر ذي طابع شرّير بعض الشيء. سبيليارت نفسه لم يُعطِ تفسيرا واضحا لهذه اللوحة، بل ترك تلك المهمّة للمتلقّي.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
أغنية البجعة The swan song عبارة مجازية يعود أصلها إلى اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد. وتُستخدم للإشارة الى الجهد أو الفعل الأخير الذي يسبق الموت. وأصلها اعتقاد قديم مؤدّاه أن البجعة، المعروفة بصمتها طوال حياتها، تؤدّي أغنية حزينة قبل موتها. وذكرَ العبارة كلّ من اوفيد وفرجيل في كتاباتهما واستلهمها موسيقيّون وشعراء كثُر.
❉ ❉ ❉
○ في حياة المرء، من الصعب مقابلة صديق قديم. يتباعد الناس عن بعضهم البعض مثل النجوم. الليلة يحدث هذا على ضوء شمعة. رجلان كانا شابّين منذ وقت ليس ببعيد، شَعرهما الآن تحوّل إلى بياض. وإذ أكتشفُ أن نصف أصدقائنا قد ماتوا، أشعر بالصدمة ويمتلئ قلبي حزنا.
لم أكن أعرف أن عشرين عاما ستمرّ قبل أن أتمكّن من رؤيتك ثانية. عندما غادرتَ كنتُ ما أزال عازبا. الآن كلّ هؤلاء الأولاد والبنات في صفّ واحد، يحيّون باحترام صديق والدهم القديم، ويسألون أين كنت.
وبينما نتحدّث لبعض الوقت، يقدَّم لي شراب، ويُقطع ثوم ربيعي معمّر في مطر الليل، ويُطهى أرزّ أصفر. يقول مضيفى: الاجتماع صعب، ومع نخْب واحد يشرب كلّ منا عشرة أكواب. لكن عشرة أكواب لا تجعلني ثملا، لذا نشرب لفترة أطول قليلا. ستفرّقنا الجبال غدا، وتظلّ أحوال الدنيا غير مؤكّدة وغير واضحة. دو فو
○ في عالمنا الحديث، يحظى الملل بسمعة سيّئة. نعامله كفايروس يجب علاجه، ومع ذلك قد يكون أحد آخر بوّابات البصيرة المتبقّية. لقد تعلّمت أن أتعايش مع الملل، وأن أتركه يتمدّد ويؤلم قليلا. وكثيرا ما ينفتح شيء ما بعد ذلك الانزعاج الأوّلي. يبدأ ذهني بالشرود، ولكن ليس بلا هدف. ينقّب في الذكريات القديمة، ويربط بين نقاط لم أكن أعلم أنها مترابطة، ويُظهر شظايا من الحقيقة لم أكن أجد وقتا لأستشعرها.
وبعض من أكثر أفكاري إبداعا، وأكثر اكتشافاتي صدقا، لم تأتِ من بذل المزيد من الجهد، بل من التخلّي عن الماضي. وهناك أبحاث تؤيّد ذلك. فقد وُجد أن الملل يمكن أن يعزّز الإبداع وحلّ المشكلات. وعندما تنتقل أدمغتنا إلى "الوضع الافتراضي"، نبدأ في الوصول إلى طبقات أعمق من التفكير. بمعنى أن الملل لا يُخمد العقل، بل يحرّره. لكن فقط إذا كنّا على استعداد لأن نتحمّله ونتعايش معه. ر. غودوين
○ أكتب الروايات منذ أكثر من أربعين عاماً، ولكني لم أمرّ قطّ بما يُعرف عادة بـ "قفلة الكتابة أو انسداد الأفق الإبداعي". قد يبدو الأمر وكأنني أتمتّع بموهبة هائلة. لكن السبب الحقيقي بسيط جدّا، فأنا لا أكتب أبداً إلا إذا كانت الرغبة في الكتابة ساحقة. وحينها كل ما عليّ فعله هو إطلاق يدي وتركها تحلّق في الهواء، وبعدها تتدفّق الكلمات بلا عناء.
ومنذ البداية، اكتشفت صوتي وأسلوبي الخاصّين، ليس بإضافة ما أعرفه بالفعل ولكن بالاستغناء عنه. فكّر في عدد الأشياء التي نلتقطها في سياق الحياة. سواءً اخترنا أن نسمّيها معلومات كثيرة أو أمتعة زائدة، لدينا هذا العدد الكبير من الأشياء للاختيار من بينها. لذلك عندما نحاول التعبير عن أنفسنا بشكل إبداعي، تصطدم كل هذه الخيارات ببعضها البعض ونتوقّف مثل محرّك متعطّل ونصبح مشلولين. وأفضل ملاذ لنا هو تنقية نظامنا المعلوماتي، من خلال إلقاء كلّ ما هو غير ضروري في سلّة المهملات، لكي نسمح لعقولنا بالحركة بحرّية مرّة أخرى. هـ. موراكامي
○ يمكن لأيّ شخص أن ينظر إلى فتاة جميلة ويراها جميلة. ويمكن للفنّان أن ينظر إلى فتاة جميلة ويرى فيها المرأة العجوز التي ستكونها مستقبلا. ويمكن للفنّان البارع أن ينظر إلى امرأة عجوز ويرى الفتاة الجميلة التي كانت عليها في الماضي. لكن الفنّان العظيم يمكنه أن ينظر إلى امرأة عجوز ويصوّرها كما هي تماما، ويجعل الناظر يرى الفتاة الجميلة التي كانت عليها.
وأكثر من ذلك، يمكن للفنّان العظيم أن يجعل أيّ شخص يرى أن هذه الفتاة الجميلة لا تزال على قيد الحياة وأنها ببساطة سجينة جسدها المنهك. وبإمكان هذا الفنّان أيضا أن يجعلك تشعر بالمأساة التي لا تنتهي، وهي أنه لم تولد فتاة قطّ وشعرت أنها تجاوزت الثامنة عشرة في قلبها مهما فعلت بها السنوات القاسية. ر. هينلاين
Credits
leonspilliaert.be/en
harukimurakami.com
leonspilliaert.be/en
harukimurakami.com