:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، يونيو 17، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • إحدى قصصي المفضّلة من الأساطير اليونانية قصّة "كلايتي وهيليوس"، ربّما لأنها لا تتضمّن تحوّلا أو موتاً عنيفا أو انتقاماً دامياً. كما أنها تُعتبر مثالا لكيفية امتزاج المشاعر الإنسانية مع الطبيعة. فعندما تصبح عاطفة الحبّ عظيمة بحيث لا يعود احتواؤها ممكنا داخل الإنسان، فإنها تتّخذ لها شكلا جديدا في الطبيعة.
    كانت "كلايتي" واحدة من الحوريّات المولودات لإله البحر أوقيانوس وزوجته تيثيس. وقد وقعت في حبّ هيليوس إله الشمس ورمز النور، الذي كثيرا ما يظهر في الرسم بجمال مذهّب وهو يجرّ عربة الشمس عبر السماء.
    عاشت كلايتي طوال حياتها وهي معجبة بهيليوس وتنظر إليه من بعيد. لكنه لم يقبل حبّها، وبدلا من ذلك وقع في حبّ امرأة من البشر تُدعى ليوكوثيا بعد أن ذهب لرؤيتها متنكّرا.
    كلايتي الغيورة تكتشف علاقة ليوكوثيا وهيليوس وتخبر والدها، فيثور غضبا ممّا اعتبره انتهاكا لعفّة ابنته ويأمر بدفن ليوكوثيا حيّة. وعندما يعلم هيليوس بهذا، يتملّكه حزن شديد ويحرق شجرة مُرّ عطِرة على قبر ليوكوثيا تحيّة لذكراها. وبعد ذلك، يتجاهل كلايتي ويهجرها تماما.
    بعد هجران هيليوس لها، أصبحت كلايتي تتجنّب الناس والأمكنة. كانت فقط تجلس على الأرض وتحدّق في اتجاه واحد فقط؛ في المسار السماويّ الذي يتبعه هيليوس. طوال اليوم كانت تنظر إلى الشمس. وتدريجيّا أصبح جسدها متجذّرا في الأرض ووجهها متّجها نحو الشمس، وتحوّلَ شعرها إلى بتلات ذهبية وجسدها إلى جذع. وأخيرا، تحوّلت كلايتي إلى زهرة، وبدأ الناس يطلقون عليها اسم "الزهرة التي تنظر إلى الشمس" أو عبّاد الشمس.
    وكان هذا شكلا من أشكال التحوّل الذي يظهر كثيرا في الأساطير اليونانية القديمة، وكان بمثابة أداة لإصلاح حبّ كلايتي، ولتخليد ألمها وانتظارها اليائس على هيئة نبات أبدي. وهكذا ولدت زهرة عبّاد الشمس كرمز لجروح الحبّ والشوق الدائم.
    عبّاد الشمس هو أيضا رمز للانتظار. وما دام الزمن لا يتوقّف، فإن الشمس تشرق مرّة واحدة على الأقل في اليوم. وهذا الانتظار هو استعارة لحبّ لا يمكن بلوغه ورمز لشوق لا ينتهي. والفكرة تتكرّر كثيرا في الشعر الغنائي القديم وفي روايات الرومانسية الحديثة وتؤكّد على استمرار العاطفة وثبات الذاكرة.
    الإسم العلمي لعبّاد الشمس هو (Helianthus annuus). و"هيليوس" تعني الشمس و"أنوس" تعني النبات السنوي في الأساطير. وفي بعض أجزاء اليونان، تنتشر حدائق تحمل اسم كلايتي، وهناك أيضا مهرجانات يُعتبر عبّاد الشمس رمزها الرئيسي. كما تظهر هذه الأزهار كثيرا كمنحوتات ترمز إلى دورة الحياة.
    وفي الرسم، غالبا ما صُوّرت كلايتي من قبل رسّامي ما قبل الرافائيلية والرمزية في القرن التاسع عشر. كما وُظّف شعرها الطويل ووجهها المشمس كرموز للحزن الكلاسيكي. وبهذه الطريقة، تجاوزت قصّة كلايتي وعبّاد الشمس التقليد الأسطوريّ البسيط لتصبح إرثا عاطفيّا يربط بين المشاعر الإنسانية والطبيعة ومنظومات الرموز المتوارثة منذ آلاف السنين.
  • ❉ ❉ ❉


  • "الخمسة الكبار" كان اسما لمجموعة من خمسة ملحّنين روس بارزين عاشوا في سانت بطرسبورغ في القرن التاسع عشر وعملوا معا من عام ١٨٥٦ إلى عام ١٨٧٠ لتأليف نمط موسيقي كلاسيكي وطني مميّز. كانت المجموعة تتألّف من الموسيقيين بالاكرييف وسيزار كوي وموسورسكي وريمسكي كورساكوف وبورودين.
    وقد اتخذ هؤلاء الموسيقيون من أسلوب "فرانز ليست" أساسا لبُنية فضفاضة تشبه القصيدة السيمفونية، وبذا تمكّنوا من تجنّب القوانين الغربية الصارمة في شكل السوناتا، وركّزوا بدلا من ذلك على محتوى الموسيقى وليس على قوانين التناظر الشكلية.
    وكانت إحدى الملامح المميّزة للخمسة هي اعتمادهم على الاستشراق، فألّفوا العديد من الأعمال "الروسية" في جوهرها والشرقية في أسلوبها. والخيط الشرقي في الموسيقى الكلاسيكية الروسية يظهر كعلامة أو مجاز، أو كجغرافيا متخيّلة، أو فانتازيا تاريخية. وقد انجذب الموسيقيون الروس إلى الثقافات الشرقية لأن روسيا بلد مترامي الأطراف وذو ثقافات متعدّدة.
    ومن أمثلة الموسيقى الشرقية الروسية مقطوعة البيانو "إسلامي" لبالاكرييف و"الأمير ايغور" لبورودين و"شهرزاد" لكورساكوف و"صور في معرض" لموسورسكي. وقد استلهم بالاكرييف فكرة كتابة موسيقى "إسلامي" بعد رحلة له إلى القوقاز. ويقول في إحدى رسائله: الجمال المهيب للطبيعة الخلّابة هناك وجمال السكّان المتناغم معها تركت في نفسي انطباعا عميقا. وقد تعرّفت هناك على أمير شركسي مسلم كان يزورني باستمرار ويعزف ألحانا شعبية على آلته الموسيقية الشبيهة بالكمان. وأحد هذه الألحان يُدعى "إسلامي"، وهو لحن راقص أسعدني كثيرا فبدأت بتأليفه للبيانو".
    كان الاستشراق قد أصبح في الغرب، وعلى نطاق واسع، أحد أبرز ملامح الموسيقى الروسية وسمة من سمات الشخصية الوطنية الروسية. وبصفته زعيم "الخمسة"، شجّع بالاكرييف استخدام الموضوعات والتناغمات الشرقية لتمييز موسيقاهم "الروسية" عن السيمفونية الألمانية.
    وهناك عملان روسيان رئيسيان يهيمن عليهما الاستشراق بالكامل، هما المتوالية السيمفونية المسمّاة "عنتر" لريمسكي كورساكوف وقصيدة "تمارا" السيمفونية لبالاكرييف. وتدور أحداث "عنتر" في شبه الجزيرة العربية قديما وتمزج بين اسلوبين مختلفين من الموسيقى، الغربية "الروسية" والشرقية "العربية".
    في مذكّراته، يقدّم ريمسكي كورساكوف الصورة التالية لمجموعة الخمسة الكبار:
    كانت أذواق الجماعة تميل نحو غلينكا وشومان والرباعيات الأخيرة لبيتهوفن. ولم يكونوا يكنّون كبير احترام لماندلسون، بينما كانوا يعتبرون موزارت وهايدن عتيقين وساذجين، ويوهان سيباستيان باخ متحجّرا. وشبّه بالاكرييف شوبان بسيّدة مجتمع عصبية. وكان بيرليوز موضع تقدير كبير منهم، وقالوا القليل عن فاغنر. وكانوا يعترفون بسمعة روبنشتاين كعازف بيانو، ولكنهم كانوا يعتقدون أنه لا يمتلك موهبة ولا ذوقاً كملحّن.
    وقد أثّر أعضاء مجموعة الخمسة على العديد من كبار الملحّنين الروس الذين جاءوا بعدهم، مثل غلازونوف وبروكوفييف وسترافينسكي وشوستاكوفيتش. كما أثّروا أيضا على الملحّنين الرمزيين الفرنسيين مثل موريس رافيل وكلود ديبوسي من خلال لغتهم النغمية الجذرية.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات...
    ◦ عادةً، أذهب إلى الغابة وحدي، بلا صديق، فجميعهم مبتسمون ومتحدّثون، وبالتالي غير مناسبين. لا أرغب حقّا في أن يشاهدني أحد وأنا أتحدّث إلى طائر أو أعانق شجرة سنديان عتيقة. لديّ طريقتي في الصلاة، ولديك طريقتك. علاوة على ذلك، عندما أكون وحدي يمكنني أن أختفي. يمكنني الجلوس على قمّة كثيب رملي ساكناً كشجرة حتى تمرّ الثعالب بلا اكتراث. أستطيع سماع الورود وهي تغنّي بصوت يشبه الهمس. إذا سبق لك أن ذهبت إلى الغابة معي، فلا بدّ أنني أحبّك كثيرا. ميري أوليفر
    ◦ ولدتُ عام 1939، ونُشرتْ رواية "مزرعة الحيوانات" عام 1945. وقرأتها في سنّ التاسعة. كانت ملقاة في المنزل، وظننتها كتابا عن الحيوانات الناطقة. والقول بأنني شعرت بالرعب من هذا الكتاب هو أقلّ من الحقيقة. كان مصير حيوانات المزرعة قاتما، والأغنام غبيّة للغاية. الأطفال يتمتّعون بإحساس قويّ بالظلم، وكان الشيء الذي أزعجني في الرواية أكثر من سواه هو عبارة: كانت الخنازير حقيرة وكاذبة وغادرة". مارغريت آتوود
    ◦ هل المعرفة مفيدة؟ وهل يجب أن تكون مفيدة أصلا؟! هناك اقتباس يتكرّر كثيرا من تشوانغ تزو فيلسوف القرن الرابع قبل الميلاد، يقول فيه: يعرف جميع الناس ميزة كونهم مفيدين، ولكن لا أحد يعرف ميزة كونه عديم الفائدة". كان تزو يعتقد أنه في عالمنا الفوضوي، يمكن لأصحاب السلطة أن يتلاعبوا بسهولة بمن يتمتّعون بالموهبة والطموح، بل قد يحولّونهم الى حملان جاهزة للتضحية. وفي المقابل، من المرجّح أن يكون أولئك الذين يفتقرون إلى الموهبة أو الطموح محميين من الأذى لأنه لا أحد يكترث بهم. ومع ذلك، عندما يقتبس الناس هذا القول اليوم، فإنهم غالبا ما يفعلون ذلك خارج السياق، ما يجعل دلالاته أوسع وأكثر غموضا. هو آنيان
    ◦ نزلنا من السيارة لنستنشق الهواء، وفجأة غمرتنا السعادة عندما أدركنا أن في الظلام من حولنا عشبا أخضر عطِرا ورائحة سماد طازج ومياها دافئة. نحن في الجنوب! لقد رحل الشتاء! أضاء فجر خافت براعم خضراء على جانب الطريق. أخذتُ نفَسا عميقا، عوى قطار مسرعاً عبر الظلام. خلعت قميصي وابتهجت. جاك كيرواك
    ◦ ويل لك يوم يُقال إنك انتهيت من لوحة! هل تنتهي اللوحة؟ يا له من هراء! إنهاؤها يعني التخلّص منها، قتلها، تخليصها من روحها، توجيه ضربة قاضية لها؛ أسوأ ضربة للرسّام وللوحة على حدّ سواء. بيكاسو
    ◦ يعتبرنا الآخرون متفوّقين بسبب ثقافتنا وميولنا الفكرية؛ فتقنياتنا تمكّننا من قيادة السيارات واستخدام برامج معالجة النصوص والسفر لمسافات طويلة جوّا. ويعيش بعضنا في منازل مكيّفة ونستمتع بوسائل الإعلام. نعتقد أننا أذكى من سكّان العصر الحجري، ولكن كم من البشر المعاصرين يستطيعون العيش بنجاح في الكهوف، أو يعرفون كيفية إشعال النار في الحطب للطهي، أو صنع الملابس والأحذية من جلود الحيوانات، أو صنع الأقواس والسهام التي تُطعم أسرَهم؟ جيمس لوفلوك
    ◦ صداقة مستحيلة مع شخص اندثر ولا وجود له إلا في حروف مصفرّة. نزهات طويلة بجانب جدول تخفي أعماقه أواني خزفية. أحاديث عن الفلسفة مع طالب خجول أو ساعي بريد. عابر سبيل بعيون فخورة لن تعرفه أبدا. صداقة مع هذا العالم تزداد كمالاً لولا رائحة الدم المالحة. ذلك الرجل العجوز الذي يرتشف قهوته في سان لازار والذي يذكّرك بشخص ما. وجوه عابرة في القطارات المحليّة. وجوه سعيدة لمسافرين متّجهين ربّما إلى حفلة راقصة رائعة أو إلى قطع رأس. وصداقة مع نفسك، فأنت في النهاية لا تعرف من أنت. آدم زاغايوسكي

  • Credits
    leadingmusicians.com
    paleothea.com

    السبت، يونيو 14، 2025

    كلمات الزعيم


  • كان دان جورج زعيما لإحدى قبائل الهنود الحمر وممثّلا وموسيقيّا وشاعرا. وُلد في شمال فانكوفر عام ١٨٩٩ وتوفّي عام ١٩٨١. وقد كتب هذه الكلمات ونشرها في مارس ١٩٧٢، ولم تلبث أن تحوّلت كلماته إلى نموذج للأدب السياسي الرفيع والدعوة الى التسامح والقبول والثقة.

    ◦ طوال حياتي، عشت بين ثقافتين مختلفتين. وُلدت في بيئة تؤمن بالعيش في بيوت مشتركة. كان طول منزل جدّي ثمانين قدما، وكان يقع على الشاطئ. وقد سكن جميع أبناء جدّي وعائلاتهم في هذا البيت. كانت غرف نومهم مفصولة بأغطية مصنوعة من الأعشاب، لكن ناراً واحدة مفتوحةً في المنتصف كانت تلبّي احتياجات الجميع من الطعام.
    وفي بيوت كهذه، في جميع أُسر القبيلة، تعلّم الناس العيش معا واحترام حقوق بعضهم البعض. وتَشاركَ الأطفال أفكار الكبار ووجدوا أنفسهم محاطين بأعمامهم وأخوالهم وأبناء عمومتهم الذين أحبّوهم ولم يشكّلوا لهم أيّ تهديد.
    وُلد أبي في منزل كهذا وتعلّم منذ صغره كيف يحبّ الناس ويشاركهم حياتهم. وبالإضافة الى هذا القبول المتبادل، كان هناك احترام عميق لكلّ ما يحيط بهم في الطبيعة. أحبَّ والدي الأرض وجميع مخلوقاتها وكانت الأرض بمثابة أمّه الثانية.
    كانت الأرض وكلّ ما فيها هبةً من الروح الأعظم. وطريقة شكر هذا الإله هي استخدام عطاياه باحترام وحكمة. أتذكّر وأنا صغير صيدي للسمك مع أبي في النهر، وما أزال أتخيّل صورته وقت شروق الشمس فوق قمّة الجبل مع بواكير كلّ صباح.
    أتخيّله واقفا هناك على حافّة الماء، رافعاً ذراعيه فوق رأسه وهو يردّد بهدوء: شكرا لك، شكرا لك". وهذا ترك انطباعا عميقا في ذهني الصغير. ولن أنسى أبدا خيبة أمله عندما رآني ذات مرّة أصطاد السمك من أجل المتعة فقط.
    قال: يا بني، لقد وهبك الروح الأعظم هذه الأسماك لتكون إخوتك، لتطعمك عندما تجوع. لذا يجب أن تحترمها وألا تقتلها لمجرّد المتعة". كانت هذه هي الثقافة التي وُلدت فيها، ولسنوات كانت الشيء الوحيد الذي عرفته وخَبِرته حقّا.
    ولهذا أجد صعوبة في تقبّل الكثير مما أراه من حولي. أرى الناس يعيشون في أكواخ أكبر بمئات المرّات من تلك التي عرفتها. لكن سكّان شقّة لا يعرفون حتى سكّان الشقة المجاورة ولا يكترثون لأمرهم. كما يصعب عليّ فهم الكراهية العميقة السائدة بين الناس.
    من الصعب فهم ثقافة تبرّر قتل الملايين في حروب الماضي، وهي الآن تجهّز قنابل لقتل أعداد أكبر. من الصعب عليّ فهم ثقافة تنفق على الحروب وعلى أسلحة القتل أكثر مما تنفق على التعليم والرعاية الاجتماعية والصحّة والتنمية.

  • من الصعب عليّ فهم ثقافة لا تكتفي بكره إخوانها ومحاربتهم، بل تهاجم الطبيعة وتسيء معاملتها. أرى إخوتي البيض يجوبون مدنهم ويزيلون عنها الطبيعة ويجرّدون التلال من غطائها ويتركون ندوباً بشعة على وجوه الجبال. أراهم يمزّقون الأشياء من حضن أمّنا الأرض كما لو كانت وحشا يرفض مشاركة كنوزه معهم. وأراهم يلقون السمّ في المياه، غير مُبالين بالحياة التي يقتلونها هناك بينما يخنقون الهواء بأبخرة قاتلة.
    أخي الأوربّي أذكى من شعبي، لكنّي أتساءل إن كان قد تعلّم الحبّ أصلا. ربّما لا يحبّ إلا ما يخصّه، لكنه لم يتعلّم أبدا حبّ ما هو خارجه. وهذا بالطبع ليس حبّا على الإطلاق، فالإنسان يجب أن يحبّ الخليقة كلّها وإلا فلن يحبّ شيئا منها. يجب أن يحبّ الإنسان حبّا كاملا وإلا سيصبح أدنى منزلةً من الحيوانات. إن القدرة على الحبّ هي ما يجعل الإنسان أعظم المخلوقات جميعا، فهو وحده من بين جميع الحيوانات قادر على أن يحبّ بعمق.
    يا أصدقائي! ما أشدّ حاجتنا لأن نُحِب وأن نحَبّ. وعندما قال المسيح: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كان يتحدّث عن جوع. ولم يكن جوع جسد، بل جوعا يبدأ في أعماق الإنسان، جوعا للحبّ.
    الحبّ شيء لا بدّ أن نمتلكه أنا وأنت لأن أرواحنا تتغذّى عليه، ولأننا بدونه نصبح ضعفاء. بدون الحبّ يضعف تقديرنا لذواتنا، وبدونه تتلاشى شجاعتنا. بدون الحبّ، لا نستطيع النظر إلى العالم بثقة، بل نلجأ إلى أنفسنا ونبدأ بتدمير ذواتنا شيئا فشيئا.
    أنت وأنا بحاجة إلى القوّة والفرح اللذين ينبعان من إدراكنا أننا محبوبون. بالحبّ نبدع وبه نسير بلا تعب. وبه وحده، نستطيع التضحية من أجل الآخرين.
    كانت هناك أوقات تمنّينا فيها جميعا وبشدّة أن نشعر بيد تطمئننا. وكانت هناك أوقات شعرنا فيها بالوحدة وتمنّينا بشدّة أن تحيطنا ذراع قويّة. لا أستطيع أن أصف لكم كم أفتقد وجود زوجتي عند عودتي من رحلة. كان حبّها أعظم فرح لي وكانت هي قوّتي ونعمتي الكبرى.
    أخشى أن ثقافتنا لا تقدّم الكثير لكم. لكن ثقافتنا تقدّر الصداقة والرفقة ولا تنظر إلى الخصوصية كشيء يستحقّ التمسّك به، لأن الخصوصية تبني الجدران، والجدران تعزّز انعدام الثقة. عشنا في مجتمعات عائلية كبيرة، ومنذ الطفولة تعلّم الناس العيش مع الآخرين.
    لم تقدّر ثقافتنا اكتناز الممتلكات، بل كان حبّ التملّك أمرا مخجلا بين أفراد شعبي. كان الهنديّ ينظر إلى كلّ شيء في الطبيعة على أنه ملك له ويجب أن يشاركه مع الآخرين وأن يكتفي بأخذ ما يحتاجه فقط. الجميع يحبّون العطاء كما يحبّون الأخذ. لا أحد يرغب في الأخذ فقط طوال الوقت.
    لقد أخذنا شيئا من ثقافتكم. وليتكم أخذتم بعض ما في ثقافتنا من جوانب جميلة وطيّبة. وقريبا سيفوت الأوان للتعرّف على بعض ما عندنا، فالدمج قادم إلينا، وقريبا لن تكون لدينا سوى قيمكم.
    لقد نسي الكثير من شبابنا العادات القديمة. وكثيرون خجلوا من عاداتهم الهندية بسبب الازدراء والسخرية. إن ثقافتنا تشبه غزالاً جريحا زحف بعيدا باتجاه الغابة لينزف ويموت وحيدا.
    الشيء الوحيد الذي يمكن أن يساعدنا حقّا هو الحبّ الصادق. يجب أن تحبّوا بصدق وأن تصبروا معنا وأن تشاركونا. وعلينا أن نحبّكم حبّا صادقا يغفر وينسى، حبّا يغفر المعاناة الفظيعة التي جلبتها ثقافتكم علينا عندما اجتاحتنا كموجة هادرة ضربت الشاطئ بعنف. علينا أن نحبّكم حبّا ينسى ويسمو، على أمل أن نلمح في عيونكم حبّا متبادلا مليئا بالثقة والقبول.

    Credits
    strongnations.com

    الجمعة، يونيو 13، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لطالما كان البحر مسرحا للوحوش والقصص الغريبة منذ القدم. وعلى عكس اليابسة، يتحوّل المحيط ويتحرّك باستمرار، مع تيّارات قد تُغيّر مسار السفينة، وعواصف قد تُهدّد بالغرق والحطام. حتى الماء نفسه، ماء البحر والمحيط، غالبا ما يكون باردا ومظلما، وشربه بكميّات كبيرة قد يقتل. فماذا عن الكائنات التي يُعتقد أنها تعيش هناك؟
    وحوش البحر التي سكنت خيال الأوروبّيين في العصور الوسطى وعصر النهضة كانت مخلوقات لها أسنان شرسة وثعابين طويلة تلتفّ حول السفن وحوريّات بحر فاتنة الجمال.
    أسطورة إنسان البحر تعود إلى عام 5000 قبل الميلاد، عندما عبد البابليون إلها له ذيل سمكة يُدعى أوانيس. وعلى الأرجح كان هذا اوّل تصوير لحورية البحر. وفي العصور الكلاسيكية القديمة أيضا، صُوّرت أتارغاتيس، الإلهة الرئيسية لشمال سوريا، كإنسان له جسم سمكة.
    وفي القرون التي تلت ذلك، ادّعى كثيرون رؤية حوريّات بحر. وقيل إنه عندما أبحر كولومبوس عام 1492 من إسبانيا، كانت مهمّته العثور على طريق تجاري غربي إلى آسيا، لكنه بدلا من ذلك اكتشف شيئا أكثر غموضا. ففي يناير من عام ١٤٩٣، وقريبا من جمهورية الدومينيكان، رصدَ ثلاث حوريّات بحر. وكتب عنها وصفا قال فيه: ليست جميلة كما هي في الأذهان، إذ أن لها وجوها تشبه وجوه الرجال". وفي عام ١٦٠٨، ادّعى هنري هدسون أن العديد من بحّارته رصدوا حوريّة بحر بدت كامرأة ذات شعر أسود طويل، لكن ذيلها يشبه ذيل الدلفين.
    وتصف مخطوطة نرويجية تعود إلى القرن الثالث عشر وحشا طويل القامة له أكتاف ولكن بدون أيدٍ، وهو يرتفع من الماء، و"كلّما ظهر الوحش أيقن الرجال أن عاصفة ستتبعه".
    والآن هناك ما يؤكّد أن حوريّات البحر الثلاث التي رصدها كولومبوس عام 1493 كانت خراف بحر، لأن خروف البحر له ثديان في صدره وجسم يتناقص تدريجيا إلى ذيل يشبه السمكة، وقد رُبط دائما بحوريّة البحر. وظنّ كولومبوس والعديد من المستكشفين أن هذه الثدييات المائية كانت حوريّات بحر من لحم ودم. ولم يكن ذلك سوى ضرب من الخيال.
  • ❉ ❉ ❉

  • على الرغم من الاعتراف الذي حظي به الرسّام اندرو وايت من زملائه، إلا أنه واجه انتقادات من جانب التعبيريين التجريديين مثل روثكو وبولوك وغيرهما. ووصفه بعض النقّاد بأنه "فنّان غير معاصر ومكرّس للواقعية الريفية". ولكن مهما كان قدر الحنين إلى الماضي في أعماله، فإنه لا يطالب بالعودة إلى الحقول، بل تتناول لوحاته بدايات الأرض وأسلوب الحياة الذي شكّل جزءاً حقيقياً من تجربته الفنّية.
    وبعض لوحات وايت تتضمّن عناصر وسمات طوطمية، كجذوع الأشجار وحظائر الأبقار والحقول الباهتة. وهو يضفي عليها قداسة وتسامياً، ليس لأنها تشكّل مُثلاً رعوية، بل لأن لها انعكاسات راسخة في أعماق المناظر الطبيعية.
    موضوع الشكل الطوطمي Totemic Figure في فنون أمريكا الشمالية يرتبط أساسا ببدائية معيّنة كرّسها رسّامو مدرسة نيويورك. وقد أخذ هؤلاء من ثقافات السكّان الأصليين عناصر ثقافية وأشكالا تعبيرية معيّنة، مثل الرقصات الطقوسية والمنحوتات وسواها، ووظّفوها في أعمالهم.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • مصطلح اضطراب نقص الطبيعة (Nature-Deficit Disorder) يعني تقلّص استخدام الحواسّ، وصعوبات الانتباه وحالات السمنة وارتفاع معدّلات الأمراض العاطفية والجسدية نتيجة انفصال الانسان عن البيئات الطبيعية. وتُعزى الأسباب الى التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية، كانتشار الاتصالات الإلكترونية وسوء التخطيط الحضري واختفاء المساحات المفتوحة وزيادة حركة المرور في الشوارع وتراجع أهمية العالم الطبيعي في التعليم. وكحلّ للمشكلة يقول العلماء أن علينا أن نعيد اكتشاف أننا جزء من الطبيعة بالوقوع في حبّها. وعندما نحبّها فإننا سنحميها، فالناس يحمون ما يحبّونه وما يشعرون أنهم جزء منه.
    وأوّل من صاغ هذا المصطلح هو ريتشارد لوف في كتابه الصادر عام 2005 بعنوان "آخر طفل في الغابة". وقد أشار إلى أننا جميعا، وخاصّة الأطفال، نقضي وقتا أطول داخل البيوت، ما يجعلنا نشعر بالغربة عن الطبيعة، وربّما نصبح أكثر عرضة للمزاج السلبي أو قلّة القدرة على التركيز.
    العلماء يقولون إن البشر، باعتبارهم كائنات بيولوجية، يتكيّفون مع التواجد في بيئات معيّنة للجري واللعب والصيد وما الى ذلك. ويضيفون إن البيئة المزدهرة والغنيّة بالحياة البرّية تفيد الصحّة البدنية والنفسية. فالأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الطبيعة يكونون أكثر نشاطا ومرونة ذهنية ويتمتّعون بصحّة أفضل.
    المساحات الطبيعية المفتوحة تُعدّ شريان حياة مهمّا للآلاف. لذا سَنّت بعض الدول قوانين تؤكّد على حقّ الإنسان في بيئة نظيفة وصحّية، وضرورة أن يُحمى هذا الحقّ لضمان صحّة ورفاهية الأجيال القادمة. وجعل البيئة الصحّية حقّا قانونيا سيُمكّن الناس من تشكيل المساحات الحضرية بما يتناسب مع احتياجاتهم وظروفهم، وسيمكّن السلطات المحليّة من دعم المجتمعات المحليّة من خلال مساعدتها على حماية هذه المساحات، وتوفير الوصول إلى الطبيعة حيثما دعت الحاجة.
    إن الخروج من البيت لممارسة أيّ نوع من المشي مفيد لصحّتك. تجوّل على طول قناة أو ضفّة نهر وراقب الطيور، أو توجّه إلى أقرب حديقة وتأمّل الأشجار العتيقة الضخمة هناك. اخلع حذاءك وجواربك واشعر بالعشب تحت قدميك، أو استلقِ وتأمّل حركة السحب. تحدَّ نفسك بمغادرة المنزل أو المكتب وقضاء بعض الوقت في أوّل بقعة صغيرة تجدها من الطبيعة، سواءً كانت رقعة قاحلة أو أرضا عشبية. في كلّ الأحوال، لا تنسَ أن تُبقي جزءا من الطبيعة قريبا منك. حتى لو لم تكن لديك حديقة، فإن زراعة النباتات المنزلية أو تركيب وحدة لتغذية الطيور على النافذة سيساعدك على الشعور بمزيد من التواصل مع العالم الطبيعي، مع كلّ ما يجلبه لك من خير وفائدة.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات..
    ◦ كيف يمكن لشخص أن يكون هنا في يوم ثم يرحل فجأة في اليوم التالي؟! الصديق العظيم شخص نعتزّ به، سواءً بقي معنا في هذه الحياة أو انتظرَنا في الحياة الأخرى. وأفضل أصدقائنا يعرفون أننا كنّا نحبّهم في حياتهم وسنستمرّ في تذكّرهم بقلوبنا بعد رحيلهم. صحيح أنهم رحلوا عن أنظارنا لكنهم لم يرحلوا أبدا عن قلوبنا. حبّ الصديق القريب من القلب لا ينتهي بالموت، بل يستمرّ إلى الأبد. مجهول
    ◦ عملي في الكتابة لم يكن احتمالا ولا خيارا، كما قد تُقرّر أن تكون محاميا أو طبيب أسنان. حدث ذلك فجأة عام ١٩٥٦، بينما كنت أعبر ملعبا للكرة في طريق عودتي من المدرسة. ألّفت قصيدة في رأسي ثم دوّنتها، وبعد ذلك أصبحت الكتابة كلّ ما أرغب به.
    ومن خلال المجلات الأدبية وبعض أساتذتي اكتشفت بابا مخفيّا. كان أشبه بباب في تلّة جرداء شتوية أو عشّ للنمل. في الخارج، بالنسبة للمراقب غير المطّلع، لم تكن هناك حياة تُرى، لكن إذا وجدتَ الباب ودخلت، ستكون هناك حركة عارمة. كان هناك عالم مصغّر كامل من النشاط الأدبي يجري أمام عينيّ مباشرة. مارغريت آتوود
    ◦ لا أخشى الموت، أخشى المعاناة، وأخشى الشيخوخة، لكن خوفي الآن تضاءل بعد أن عايشتُ شيخوخة أبي الهادئة والهانئة. أخشى الضعف وغياب الحبّ. لكن الموت لا يخيفني. لم يُخِفني في شبابي وظننتُ حينها أن ذلك يعود إلى كونه بعيدا. حتى الآن وقد بلغتُ الستّين، لم يأتِ الخوف بعد. أحبّ الحياة، لكنها أيضا كفاح ومعاناة وألم. وأعتبر الموت راحة مستحقّة. كارلو روفيلي
    ◦ قد لا تتحكّم في جميع الأشياء التي تحدث لك، ولكن يمكنك أن تقرّر ألا تضاعف من تأثيراتها. حاول أن تكون قوس قزح في سحابة شخص آخر. لا تتذمّر. أبذل قصارى جهدك لتغيير ما لا يعجبك. إن لم تستطع التغيير، غيّر طريقة تفكيرك. قد تجد حلّا جديدا. مايا انجيلو
    ◦ غايا أو الأرض، كما أراها، ليست أمّا حنونة تتسامح مع المخالفات، وليست فتاة هشّة رقيقة في خطر من بشر وحشيين. إنها صارمة وقوية، تُبقي العالم دافئا ومُريحا لمن يلتزمون بالقواعد، لكنها قاسية في تدميرها لمن يخالفها. جيمس لوفلوك
    ◦ لا أستطيع كتابة تاريخ مدينتي، مع أن أهلها وأفكارها وأشجارها وجدرانها وحرّيتها ومطرها، كلّها تشغلني. تفتنني الجدران بشتّى أنواعها، فالمساحة التي نسكنها ليست محايدة، بل تشكّل وجودنا. المناظر الطبيعية تتسلّل إلى أعماقنا وتترك أثرا، ليس فقط على شبكية العين، بل على أعمق طبقات شخصيّاتنا.
    تلك اللحظات التي ينكشف فيها لون السماء الرماديّ المزرقّ فجأةً بعد هطول مطر غزير، تبقى معنا، وكذلك لحظات التساقط الهادئ للثلوج. وقد تنضمّ الأفكار إلى الثلج من خلال حواسّنا وأجسادنا لتلتصق بجدران المنازل. وبعد ذلك، تختفي المنازل والأجساد والحواسّ والأفكار. لكن لا أستطيع كتابة تاريخ المدينة، كلّ ما أستطيعه هو محاولة استعادة بضع لحظات وأماكن وأحداث وبضعة أشخاص أحببتهم. آدم زاغايوسكي

  • Credits
    theartstory.org
    faithinnature.co.uk

    الأربعاء، يونيو 11، 2025

    تاريخ متفائل للبشرية


    يعتقد الكثيرون أن الحضارة الإنسانية هي مجرّد قشرة تُخفي تحتها مزيجا غامضا وكريها من المشاعر والعواطف والرغبات العدوانية المكبوتة، وأن في داخل كلّ إنسان شرّا يجب الحذر من إيقاظه كي يبقى الجنّي في القمقم.
    المؤرّخ الهولندي روتغر بريغمان يحاول في كتابه "تاريخ متفائل للبشرية" نقض هذه الفكرة ونفي الافتراض القائل بأن البشر أشرار بطبيعتهم، مؤكّدا أن العالم ما يزال بخير، فعندما تحلّ كارثة، فإن الناس "يهرعون لمساعدة بعضهم بعضا حتى لو خاطروا بحياتهم".
    وبرأيه حدث مثل هذا الشيء بعد أن غمر إعصار كاترينا مدينة نيو أورلينز بالمياه، إذ نشرت الصحف وقوع بعض حوادث العنف، ولكن الأهم من ذلك أن المدينة اكتسحتها موجات غامرة من الشهامة والإحسان والانسانية. وهذا دليل آخر على أن الأزمات تُظهر أفضل ما لدى البشر من صفات وخصال. "عندما تقع أزمة، كأن تسقط القنابل أو ترتفع مياه الفيضان، نصبح نحن البشر في أفضل حالاتنا."
    ويشير المؤلّف الى خرافة سائدة مفادها أن البشر بطبيعتهم أنانيّون وعدوانيون وسريعو الذعر. وهذا ما يُطلق عليه أحيانا "نظرية القشرة الخارجية"، وملخّصها أن الحضارة ليست سوى قشرة رقيقة تتشقّق عند أدنى استفزاز. ويعلّق بقوله: العكس هو الصحيح، إختر طريق التعاطف وستدرك أن خيطا رقيقا هو ما يفصلك عن الغرباء. التعاطف يأخذك إلى ما هو أبعد من ذاتك، حتى لا يصبح القريب أكثر أهمية من بقيّة العالم. وإلا لماذا تخلّى بوذا عن عائلته؟ ولماذا أوصى يسوع تلاميذه بترك آبائهم وأمّهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم وإخوتهم وأخواتهم؟!
    ويشير الكاتب إلى أن أوّل ما يجب فهمه عن الجنس البشري هو أننا، من الناحية التطوّرية، ما زلنا أطفالا. فنحن كنوع، لم نظهر إلا للتوّ. تخيّل لو اختزلنا تاريخ الحياة على الأرض لعام واحد فقط قياسا للأربعة مليارات عام. بحلول منتصف أكتوبر تقريبا من العام، كانت البكتيريا تحتفظ بالمكان لنفسها. ولم تظهر الحياة كما نعرفها ببراعمها وأغصانها وعظامها وأدمغتها إلا في نوفمبر. أما نحن البشر فقد دخلنا إلى الوجود في 31 ديسمبر من العام، حوالي الساعة 11 مساءً. ثم قضينا حوالي ساعة نتجوّل كصيّادين وجامعين للغذاء، ولم نخترع الزراعة إلا في الساعة 11:58 مساءً. وكلّ ما نسمّيه "تاريخاً" حدث في الثواني الستّين الأخيرة قبل منتصف الليل: الأهرامات والقلاع والمحرّكات البخارية والسفن الصاروخية وما الى ذلك.
    وخلافا لداروين، يذكر بريغمان أن البشر لم يتطوّروا على مبدأ البقاء للأصلح، بل على مبدأ البقاء للأكثر تعاطفا وودّا. ويضيف: لقد أصبحنا جرواً بشريّا (Homo Puppy)، فأدمغتنا صارت أصغر من أدمغة بعض أسلافنا، وأسناننا وفكوكنا أكثر طفولية. ويعود ذلك جزئيّا إلى أننا أصبحنا بارعين في التعاون. لقد بتنا آلات تعلُّم اجتماعية للغاية. وقد ولدنا لنتعلّم ونتواصل ونلعب، وهذا ما يجعلنا أقوياء كنوع.
    وبحسب الكاتب، كان التكديس والاكتناز من المحرّمات في مرحلة الصيّادين وجامعي الثمار. وعلى مدار معظم تاريخنا، لم نكن نجمع الأشياء لأنفسنا، بل نتشاركها مع الآخرين. وقد أثار هذا دهشة المستكشفين الأوروبّيين الذين أبدوا استغرابهم من كرم الشعوب التي قابلوها. كولومبوس مثلا قال عن بعض الأمم التي قابلها في رحلته الى العالم الجديد: عندما تطلب شيئا ممّا عندهم، فإنهم لا يرفضون أبدا، بل يعرضون مشاركته مع أيّ شخص".
    ثم يشير الكاتب الى أن "الجرو البشري" يمتلك هوائيّا موجَّها باستمرار الى الآخرين. فنحن بارعون في التواصل مع الغير ونستمتع بذلك، بوعي وبلا وعي على حدّ سواء، وتتسرّب المشاعر من أجسادنا طوال الوقت بانتظار أن تلتقطها الجِراء الأخرى. وتحتاج عقولنا إلى التواصل بنفس الطريقة التي تحتاج بها أجسادنا إلى الطعام.


    ولا يتّفق المؤلّف مع نظرية غوستاف لوبون في كتابه "علم نفس الجماهير" التي تقول إن سلوك الإنسان المتحضّر ينهار أثناء الكوارث ويتحوّل الى لصّ وخارج عن القانون، مثل اعتقاد هتلر أن قصف مدن انغلترا بكثافة سيُضعف الروح المعنوية البريطانية بسهولة.
    ومع ذلك، فإن تعاطي سكّان لندن مع بعضهم البعض أثبت عكس ذلك، واتّسم بالشجاعة والاهتمام المتبادل في مواجهة خطر مروّع. وكان تشرشل وآيزنهاور قد اقتنعا بحجّة لوبون، مع أن قصفهما المكثّف للمدن الألمانية أسفر عن النتيجة نفسها، وهي تعميق الروابط المجتمعية وتعزيز الروح المعنوية والتضامن بين الألمان.
    ويذكر بريغمان أنه في السنوات التي كان روسّو يؤلّف فيها كتبه، أقرّ بنجامين فرانكلين بأنه "لا يمكن لأيّ أوروبّي ذاق طعم الحياة الوحشية أن يتحمّل العيش في مجتمعاتنا بعد ذلك". ووصف كيف أن الرجال والنساء البيض "المتحضرّين" الذين أسرهم الهنود وأطلقوا سراحهم فيما بعد كانوا دائما ينتهزون أوّل فرصة سانحة للهروب مرّة أخرى إلى الغابات.
    لقد هرب المستعمرون إلى البرّية بالمئات، بينما نادرا ما حدث العكس. ومن يلومهم؟! فبعيشهم كهنود، تمتّعوا بحرّيات أكثر مما كانوا يتمتّعون به كمزارعين ودافعي ضرائب. أما بالنسبة للنساء، فكانت الجاذبية أكبر. قالت امرأة مستعمِرة اختبأت من مواطنيها الذين أُرسلوا "لإنقاذها": هنا، ليس لي سيّد. سأتزوّج إن شئت وأعود عزباء متى شئت. هل توجد امرأة عزباء مستقلّة مثلي في مدنكم"؟"
    ويقول الكاتب إن البشر كائنات جماعية، فنحن ننجذب بشدّة لمن يشبهوننا، ولا نحبّ، بل قد نشعر بالاشمئزاز من الغرباء. حتى الأطفال يظهرون هذا السلوك. ومن هنا تبدأ كراهية الأجانب. ويضيف أن افتراضاتنا عن بعضنا البعض لها تأثير. فإذا اعتقدنا أن معظم الناس طيّبون، فسنعامل بعضنا البعض بشكل أفضل ممّا لو اعتقدنا أن هناك مشكلة ما في معظمهم. كما أن افتراضاتنا تحدّد أفعالنا، ويتجلّى ذلك فيما يُعرف بتأثير بيغماليون، وخلاصته أنه إذا عاملَ المعلّم الأطفال كما لو أنهم أذكياء، فسيصبحون أذكياء فعلا. والعكس صحيح.
    ويشير المؤلّف إلى حنّة آرندت باعتبارها واحدة من الفلاسفة النادرين الذين اعتقدوا أن معظم الناس في أعماقهم طيّبون، وأكّدت أن حاجتنا كبشر إلى الحبّ والصداقة أكثر من أيّ ميل نحو الكراهية والعنف.
    ويضيف: عندما ننعزل في خنادقنا، نفقد رؤية الواقع. ويغرينا الاعتقاد بأن أقليّة صغيرة محرِّضة على الكراهية تمثّل البشرية جمعاء، مثل حفنة من متصيّدي الإنترنت المجهولين المسؤولين عن معظم الإساءات على تويتر والفيسبوك".
    ومع ذلك، يدرك بريغمان أن البشر ليسوا ملائكة، وهم لا يتصرّفون بخبث إلا إذا غُسلت أدمغتهم. وحتى في معسكر أوشفيتز، اعتقد النازيّون أن التاريخ يقف الى جانبهم. وكان أدولف آيخمان، وهو أحد أبرز مخطّطي الهولوكوست، قد أقنع نفسه بأنه قام بأعمال عظيمة ستعجب بها الأجيال. لقد تصرّف النازيّون بفظاعة، لكنهم ظنّوا أنهم يفعلون الخير. والشرّ المتخفّي في صورة الخير كثيرا ما يغوي البشر. "وهذا ليس عذرا، ولكنّه تفسير".
    ويتضمّن الكتاب أيضا بعض الأجزاء المتعلّقة بالقيادة. فيذكر الكاتب أنه غالبا ما يعتقد أصحاب السلطة أن الناس أنانيّون، لأنهم هم أنفسهم أنانيون. ويستشهد بأبحاث تُظهر أن بعض أصحاب السلطة يتصرّفون كما لو كانوا يعانون من تلف دماغي. إنهم "أكثر اندفاعا وأنانية وتهوّرا ووقاحة وغرورا ونرجسية ووقاحة من الأشخاص العاديّين، وهم يغشّون أكثر ويستمعون أقلّ ولا يهتمّون كثيرا بوجهات نظر الآخرين".
    علماء النفس لديهم مصطلح يُسمَّى "متلازمة العالم اللئيم"، وهو يشير الى أن الأشخاص الذين شاهدوا الكثير من الأخبار أصبحوا أكثر تشاؤما وأكثر قلقا، بل وأكثر اكتئابا. وعاما بعد عام، يصوغ الساسة أكداسا هائلة من التشريعات، مفترضين أن معظم الناس ليسوا صالحين. وعواقب هذه السياسة هي عدم المساواة والشعور بالوحدة وانعدام الثقة.
    والحلّ الذي يقترحه بريغمان يتمثّل في التخلّص من التسلسلات الهرمية. فمن الخطأ الفادح، برأيه، أن يشرف المديرون على الموظّفين، لأنهم لن يقوموا بعملهم إذا تُركوا لوحدهم. والناس يجب أن يُتركوا أحرارا في التصرّف بناءً على دوافعهم الذاتية.
    قد يبدو عنوان الكتاب "تاريخ متفائل للبشرية" مبالغا فيه بعض الشيء، لكنه متقن الأسلوب والبحث ويستحقّ القراءة على نطاق واسع، لأنه يدفع الناس إلى إعادة النظر في افتراضاتهم الشخصية عن رفاقهم من البشر. وقد تعمّق المؤلّف في الأرشيفات الأصلية للتجارب النفسية التاريخية، مثل تجارب ستانلي ميلغرام وفيليب زيمباردو، ووجد أن العديد من استنتاجات هذين وغيرهما في علم النفس خاطئة. ويتساءل: ماذا لو عاملتَ كلّ شخص تقابله كما لو أنه إنسان صالح؟!

    Credits
    rutgerbregman.com
    thephilosopher1923.org

    الاثنين، يونيو 09، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كان رجلان يقيمان في نفس الغرفة في مستشفى، وكلاهما كانا يعانيان من مرض خطير. وكان يُسمح لأحدهما بالجلوس في سريره لمدّة ساعة عصر كلّ يوم لمساعدته في تصريف السوائل من رئتيه. كان سريره بجوار النافذة الوحيدة في الغرفة. أما الآخر، فكان عليه قضاء كلّ وقته مستلقيا على ظهره.
    كان الرجلان يقضيان ساعات طويلة في الحديث مع بعضهما. تحدّثا عن زوجتيهما وعائلتيهما ومنزليهما ووظيفتيهما وانخراطهما في الخدمة العسكرية وأماكن إجازاتهما. وفي عصر كلّ يوم، عندما ينظر الرجل الجالس بجانب النافذة الى خارجها، كان يصف كل ما يراه في الخارج لزميله.
    وبدأ الرجل الآخر الملازم لسريره ينتظر بشوق تلك الفترة التي لا تزيد عن ساعة يوميا لتوسيع عالمه وتلوينه بألوان العالم الخارجي.
    كان رجل النافذة يقول له إنها تطلّ على حديقة تتوسّطها بحيرة خلّابة، بينما يلهو البطّ والبجع في الماء، والأطفال يبحرون بقواربهم الصغيرة، والعشّاق يتمشّون متشابكي الأيدي وسط أزهار من كلّ شكل ولون. وكان يروي له كيف أن الأشجار الباسقة تزيّن المشهد وكيف يبدو منظر المدينة البديع من مسافة. وبينما كان رجل النافذة يصف كلّ هذا بتفاصيل دقيقة، كان الرجل على الجانب الآخر من الغرفة يغمض عينيه ويتخيّل المشهد الموصوف.
    وفي ظهيرة دافئة، وصف الرجل عند النافذة موكبا يمرّ. ومع أن الرجل الآخر لم يسمع الفرقة الموسيقية، إلا أنه استطاع أن يتخيّلها بينما كان رجل النافذة يصفها بكلمات بديعة. وفجأة، خطرت للرجل الملازم لسريره فكرة غريبة فقال في نفسه: لماذا يجب أن يحظى بمتعة رؤية كلّ شيء، بينما لا أتمكّن أنا من رؤية شيء؟! لا يبدو الأمر عادلا.
    وبينما كانت الفكرة تختمر في ذهنه، شعر الرجل المُقعَد بالخجل في البداية. لكن مع مرور الأيّام وغياب المزيد من المناظر، تحوّل حسده إلى استياء، وسرعان ما حوّله إلى كآبة. ثم بدأ يغرق في التفكير ووجد نفسه عاجزا عن النوم. أصبحت الفكرة التي تسيطر على حياته الآن أنه كان ينبغي أن يكون عند تلك النافذة.
    وفي وقت متأخّر من إحدى الليالي، بينما كان رجل النافذة يحدّق في السقف، بدأ يسعل. كان يختنق بالسائل في رئتيه. وفي الضوء الخافت، راقب الرجل الآخر المُقعد في الغرفة زميله الذي يكافح بجانب النافذة وهو يتحسّس زرّ الاستغاثة. كان يستمع من الطرف الآخر من الغرفة، لكنه لم يتحرّك ولم يضغط على زرّه الذي كان سيدفع الممرّضة للركض. وفي أقلّ من خمس دقائق، توقّف السعال والحشرجة ثم ساد صمت تام.
    وفي صباح اليوم التالي، وصلت الممرّضة النهارية لجلب الماء للغسيل. وعندما وجدت جثّة الرجل هامدة عند النافذة، صُدمت وسارعت بالاتصال بموظّفي المستشفى لإخبارهم بالأمر ونقل الجثمان. وبعد ساعات، طلب الرجل الآخر أن يُنقل إلى جوار النافذة. ورحّبت الممرّضة بطلبه، وبعد أن تأكّدت من راحته تركته وشأنه.
    وببطء وإحساس بالألم، استند الرجل المُقعد على مرفقه ليلقي نظرة أولى. أخيرا، سيحظى برؤية كلّ شيء بنفسه. ثم أدار رأسه ببطء وعناء لينظر من النافذة التي تجاور السرير حيث كان يجلس زميله.
    ودُهش عندما اكتشف أنه يقف بمواجهة جدار فارغ!
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • ذات مرّة، تجادلت سلحفاة وأرنب حول أيّ منهما الأسرع. وقرّرا حسم الخلاف بتنظيم سباق، واتّفقا على مسار ثم انطلقا. ركض الأرنب بسرعة لبعض الوقت. ثم، لما رأى أنه متقدّم جدّا عن السلحفاة، فكّر في أن يرتاح قليلا قبل مواصلة السباق. وجلس تحت شجرة وسرعان ما غلبه النعاس ونام. وبعد مضيّ وقت، تجاوزته السلحفاة التي كانت تسير ببطء وعبرت خط النهاية وفازت بالسباق. وعندما استيقظ الأرنب أدرك أنه خسر.
    العبرة الحقيقية فيما حدث ليست في السلحفاة، بل في الأرنب. فقد ارتكب خطأ فادحا عندما آمن بقدراته ثم لم يُثبِتها فعليّا. في الحياة الواقعية، قد تمتلك المهارة الرائعة التي يتّفق عليها الجميع، ولكن يتعيّن عليك إظهارها للفوز وتحقيق الانجاز. النجاح يعتمد على استخدام مواهبك، وليس فقط امتلاكها.
  • ❉ ❉ ❉

  • في نهاية الحرب العالمية الأولى، وأثناء توقيع معاهدة ڤرساي، صرّح فرديناند فوش أحد قادة قوّات الحلفاء خلال الحرب بقوله: هذا ليس سلاما، بل هدنة لعشرين عاما". وبعد عشرين عاما و60 يوما، بدأت الحرب العالمية الثانية التي أصبحت الصراع الأكثر دمويةً وتدميرا في تاريخ البشرية.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض النصائح التي قد تحسّن جودة الحياة:
    إمشِ لمدّة نصف ساعة كلّ يوم. إجلس في صمت لعشر دقائق على الأقل يوميّا. إعلم أن الحياة ليست عادلة، لكنها لا تزال جيّدة وأن الحياة قصيرة جدّا لإضاعة الوقت في كره أيّ شخص. ليس من الضروري أن تنتصر في كلّ جدال، بل وافق على الاختلافات في الآراء والأفكار. تصالح مع ماضيك حتى لا يفسد حاضرك. لا تقارن حياتك بحياة الآخرين، فلكلٍّ ظروفه. ما يعتقده الآخرون عنك أمر لا يعنيك. مهما كان الوضع جيّدا أو سيّئا، فإنه سيتغيّر. الأفضل لم يأتِ بعد، آمِن بهذا. تواصل مع عائلتك كثيرا. تذكّر أنك محظوظ جدّا برغم كل شيء، فلا داعي للتوتّر. إستمتع بالرحلة.
  • ❉ ❉ ❉

  • هناك قاعدة في الفنّ مفادها أنه عندما توضع قواعد، يأتي شخص ما ويكسرها، ثم يوصف بالعبقري. وإذا كان هناك شيء مشترك بين الغالبية العظمى من الفنّانين المشهورين، فهو أنهم كسروا القواعد الراسخة وأحدثوا تغييرا في الثقافة. ويمكن القول إن آخر فنّ ثوريّ ومشهور كان أعمال جاكسون بولوك والفنّانين التجريديين الذين كانوا يفعلون آخر ما يمكن فعله على قماش الرسم؛ أي كسر القواعد الأخيرة.
    أما الفنّانون المشهورون الذين جاءوا بعدهم مثل آندي وارهول، فقد كانوا يسخرون في الغالب من المؤسّسة الفنّية ويكشفون الثغرات في منطقها ويوضّحون مدى سخافتها. وبعد الانتهاء من آخر شيء يمكن القيام به على القماش، بدأ الرسم على الجدران "أو الغرافيتي" وسيطرت الأفلام والتلفزيون على الثقافة.
  • ❉ ❉ ❉

  • الحبّ من طرف واحد يمكن أن يتحوّل إلى بذرة لكتاب جميل وآسر. لذا إذا لم يبادلك شخص ما الحبّ، فاكتب على سبيل النسيان أو السلوان قصيدةً أو سوناتا أو ملحمة أو كتابا، مثلما فعل بترارك ودانتي وغيرهما. كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانتي هو رحلة مقارنة ورفقة واكتشاف؛ رحلة في أعماق الأرض. لكنه أيضا "قصّة حبّ"، ولكن ليس بالمعنى التقليدي.
    بياتريس هي محبوبة دانتي، كان يحبّها من طرف واحد، لكنها أيضا رمز للّاهوت، وهي ضرورية للرحلة عبر الجنّة. بل إنه على عتبة هذا المكان، اضطرّ دانتي إلى ترك مرشده الأوّل ڤيرجيل رمز العقل. لكن للحبّ معنى آخر في الكتاب، ففي السطر الأخير من القصيدة، يقول دانتي إن الحبّ "هو القوّة التي تحرّك كلّ شيء في الكون"، في إشارة إلى محبّة الله.
  • ❉ ❉ ❉

  • في سبعينيات القرن التاسع عشر، قام الجنرال الأمريكي فيليب شيريدان بجولة تفقّدية في ولاية داكوتا، وزار قرية باوني التي أبادتها قبائل السيو. كانت الباوني من بين "قبائل المعاهدة" التي كانت تعمل مع الجيش الأمريكي. وقد أدّى ذلك إلى انتقام رهيب من جانب السيو. وعندما عاد شيريدان شرقا، تحدّث عمّا رآه، ووصف الفظائع التي ارتكبها السيو. وسأله أحد المراسلين: ألم ترَ أيّ هنود صالحين هناك؟" وفي إشارة إلى الباوني القتلى، قال شيريدان: الهنود الصالحون الوحيدون الذين رأيتهم كانوا أمواتا". وقيل إن ذلك الاقتباس الخاطئ تحوّل الى عبارة أصبحت مشهورة وسيّئة السمعة بأن "الهنديّ الصالح الوحيد هو الهنديّ الميّت". وكان كلام شيريدان "الذي لم يقصده" بمثابة بيان ساعدَ في الترويج للإبادة الجماعية ضدّ القبائل الهندية الأصلية.
  • ❉ ❉ ❉

  • في إحدى أشهر قصائدها تقول ميري أوليڤر:
    ماذا لو طار مائة طائر ورديّ الصدر في دوائر حول رأسك؟ ماذا لو دخل الطائر المحاكي معك إلى المنزل وأصبح مستشارك؟ ماذا لو ملأ النحل جدرانك بالعسل، وكلّ ما عليك فعله هو أن تطلب منه ذلك فيملأ لك إناءً؟ ماذا لو انزلق الجدول إلى أسفل التلّ المجاور لنافذة غرفة نومك حتى تتمكّن من الاستماع إلى صلواته البطيئة وأنت تغفو؟
    ماذا لو هتفَت النجوم بأسمائها وركضَت هنا وهناك فوق الغيوم؟ ماذا لو رسمتَ صورة لشجرة، ثم بدأت أوراقها في الحفيف وغرّد طائر بمرح فوق أغصانها الملوّنة؟ ماذا لو رأيت فجأة أن فضّة الماء أكثر إشراقا من فضّة المال؟ ماذا لو رأيت أخيرا أن عبّاد الشمس، الذي يتجه كلّ يوم نحو الشمس، ولا يدري أحد كيف، هو أغلى وأكثر أهميّة من الذهب؟!

  • Credits
    psychologytoday.com
    suite101.com

    السبت، يونيو 07، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لغة الفنّ في بعض الأحيان غامضة. وقد تبدو التلميحات، التي تأخذ هيئة زهور وفواكه وحيوانات وأشياء أخرى، واضحة للعيان، إلا أن معناها لا يُفهم إلا إذا عرفتَ الإشارات التي تبحث عنها. وإحدى متع النظر إلى الفنّ هي اكتشاف نيّة خفيّة في اللوحة، لا تظهر إلا بعد تحديد رموزها وفكّ طلاسمها.
    خذ الليمون مثلا. لطالما كانت هذه الفاكهة موضوعا جذّابا للرسّامين نظرا لقدرتها على لعب دور مزدوج. فالليمون ممتلئ ونابض بالحياة من الخارج، ولكنه يحمل في طيّاته مرارة لاذعة وشيئا من اللذّة في الوقت نفسه. لذا فإن وجود الليمون في لوحة فنّية ينبغي أن ينبّهنا إلى فكرتين متعارضتين: أن الحياة قد تكون رائعة وطريّة، ولكنها قد تكون أيضا مشبعة بالمرارة.
    وللتأكيد على هذه النقطة، غالبا ما يصوَّر الليمون في الرسم وهو شبه مقشَّر، حيث يتلوّى قشره على حافّة طبق لامع، كما في لوحات بعض الرسّامين الهولنديين القدامى.
    كانت رسومات الطبيعة الصامتة الهولندية تفضّل الليمون كموضوع رئيس. ويبدو أن هذه الفاكهة كانت رائجة ومطلوبة في المجتمع الهولنديّ في القرن السابع عشر، ما جعلها نادرة ومألوفة في آن. ولأن الليمون غريب بما يكفي، فقد كان يدلّ بطبيعته على الرفاهية والرخاء، ولم يكن نادرا جدّا لدرجة أن يكون غامضا. فقد كان يستورَد ويُزرع في البيوت الزجاجية والصوبات الزراعية بأعداد كبيرة، كي يأخذ مكانه على موائد الطعام، كما تشهد بذلك كتب الطبخ من ذلك العصر.
  • ❉ ❉ ❉

  • كانت الثيوصوفية أحد أكثر الاتجاهات الفكرية شعبية في القرن التاسع، وهي العقيدة التي أسّستها هيلينا بلافاتسكي وتضمّنت عناصر من المسيحية والتصوّف والبوذية.
    وبحسب الكاتبة ناتاشا لفوفيتش، اكتسبت الثيوصوفية الروسية نزعتها المسيحية القويّة وطوباويّتها الاجتماعية. وقوبلت عبارة بلافاتسكي "كما يخلق الله، فإن الإنسان قادر على الابتكار" باستحسان الفنّانين والكتّاب الروس في مطلع القرن العشرين أثناء نهضة الفنون والعلوم الإنسانية والباطنية، والذين كانوا يأملون في خلق واقع جديد بكلماتهم وصورهم.
    مثلا كان سيرغي آيزنشتاين، المخرج السينمائي الكبير، مهتمّا بشكل خاص بالشامانية. وكان دوستويفسكي وتولستوي وسولوفييف وغوركي وماياكوفسكي منجذبين إلى فلسفة نيكولاي فيدوروف، الذي أكّد أن البشرية "يجب أن تعيد إحياء آبائها الموتى من الغبار الكونيّ باستخدام العلم". وتضمّن كتاب الفيلسوف الروسي نيكولاي بيردييف فصولاً عن الإبداع والتصوّف.
    وتضيف لفوفيتش أن هذه المذاهب والحركات انتشرت في الفنّ والفكر بغرض إحياء الثقافة الروسية في ذروة الثورة. وقد جمع الشعراء والكتّاب الرمزيون الروس، مثل بالمونت و بيلي وبلوك، بين الرمزية الأوروبية والأرثوذكسية الروسية واعتبروا الكلمة "كيانا مقدّرا له أن يغيّر العالم".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • أحيانا قد تغني قراءة اقتباس واحد عن مطالعة العديد من الصفحات. الأسطر التالية هي مجموعة من العبارات والأقوال التي قرأتها في أوقات وأماكن مختلفة ووجدت فيها ما يستحقّ التفكير والتأمّل..
    ◦ عندما أجد نفسي غارقا في الحزن على فقدان شخص عزيز، أحاول بسرعة أن أتذكّر أن اهتمامي وأسئلتي يجب أن تنصبّ على ما تعلّمته أو ما لم أتعلّمه بعد من الراحل العزيز، وما هو الإرث الذي تركه ليساعدني في أن أعيش حياة كريمة. مايا انجيلو
    ◦ جميع المهدّئات والمخدّرات والمهلوسات والمنشّطات الطبيعية اكتُشفت منذ آلاف السنين، أي قبل فجر الحضارة. وهذه بلا شكّ من أغرب الحقائق في ذلك السجلّ الطويل من الاحتمالات غير المتوقّعة المعروف باسم التاريخ البشري. من الواضح أن الإنسان البدائي أجرى تجارب على كلّ جذر وغصن وورقة وزهرة وكلّ بذرة وجوزة وتوتة وفطر في بيئته. عِلْم الصيدلة أقدم من الزراعة. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنه حتى في العصر الحجريّ القديم، عندما كان الإنسان لا يزال صيّادا وجامعا للثمار والطعام، كان يقتل أعداءه من الحيوانات والبشر بسهام مسمومة. وبحلول أواخر العصر الحجري، كان يُسمّم نفسه بشكل منهجي. ألدوس هكسلي
    ◦ الحياة ليست مشكلة، فلماذا تطلب حلاً؟! المشكلة الحقيقية تكمن في الاعتقاد بأن السؤال منطقي. آلان واتس
    ◦ لسنوات كنت في منزلي أشعر بأنني محاصَر بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب. نظرت من النافذة آلاف المرّات، ولكن ذات يوم رأيت منقذا غير متوقّع على هيئة طائر صغير يجثم خارج النافذة. أشعل هذا اللقاء شغفي بمراقبة الطيور وانتشلني من اليأس وغرس في حياتي الفرح وحبّ الطبيعة والمغامرة والتواصل. طائر أصفر صغير يرفرف من غصن إلى غصن لفت انتباهي وأثار فضولي، فانحنيت من النافذة لأراقبه وربطني بالطبيعة، وبعالم كامل لم أكن أستطيع رؤيته بسبب ألمي وحزني عندما كنت حبيسة الظلام.
    وبفضل ذلك الطائر أصبحت أكثر فضولا، فاشتريت دليلا إرشاديا وتصفّحت الإنترنت وتواصلت مع أشخاص آخرين لديهم نفس الشغف. لا أستطيع التعبير عن مدى تأثير ذلك الطائر على حياتي، فقد أفرحني وأضاء روحي. التواصل مع الطيور يذكّرنا بالبقاء في اللحظة الراهنة، كما أنها تعلّمنا الكثير وتساعدنا على تجاوز التحدّيات الصعبة. تاما واتس
    ◦ هكذا ستفكّر في كلّ هذا العالم الزائل: كنجمة عند الفجر، أو فقاعة في جدول، أو ومضة برق في سحابة صيفية، أو مصباح متوهّج، أو شبح، أو حلم. سيدارتا غوتاما
    ◦ كلّ لحظة من لحظات وجودنا مرتبطة بماضينا بخيط غريب؛ بالذاكرة. حاضرنا يعجّ بآثار ماضينا. نحن تواريخ أنفسنا؛ سرديات. أنا لست هذه الكتلة اللحظية من اللحم المتّكئة على الأريكة تكتب حرف الألف على حاسوبي المحمول. أنا أفكاري المليئة بآثار العبارات التي أكتبها، أنا مداعبات أمّي واللطف الهادئ الذي عاملني به والدي؛ أنا رحلات مراهقتي؛ أنا ما رسّخته قراءاتي في ذهني؛ أنا أحبّائي، لحظات يأسي، صداقاتي، ما كتبته، ما سمعته؛ الوجوه المحفورة في ذاكرتي. أنا، قبل كلّ شيء، من حضّر لنفسه كوبا من الشاي قبل لحظات، من كتب قبل لحظة كلمة "ذاكرة" على حاسوبه، من كتب الجملة التي أكملها الآن. لو اختفى كلّ هذا، هل كنتُ سأبقى موجودا؟ أنا بهذا العمر، رواية مستمرّة. وحياتي تتشكّل منها. كارلو روفيلي
    ◦ ذات مرّة كتبَ ناقد أن لوحاتي ليس لها بداية ولا نهاية. لم يكن يقصد بذلك مجاملتي. لكنها كانت مجاملة رائعة. جاكسون بولوك
    ◦ تعمل الأيديولوجيات على تخدير تجربتنا المباشرة مع العالم بتضييق قدرتنا على التكيّف معه وعلى فهم الأدلّة والتمييز بين الموثوق منها وغير الموثوق. ومن تجربتي وجدت أن أكثر المفكّرين صرامةً لديهم ميول جينية مرتبطة بكيفية توزيع الدوبامين في أدمغتهم. إن استكشاف العالم مكلّف للغاية معرفيّا، بينما تحاول العديد من الأيديولوجيات إقناعك بأن الالتزام بالقواعد والمسلّمات هو السبيل الوحيد للعيش السليم والأخلاقي. ليور زميغرود
    ◦ الأفكار الجديدة، الهشّة كزهور الربيع، تخدشها أقدام الحشود بسهولة، لكن قد يعتزّ بها المتجوّل المنعزل. فرِد هويل
    ◦ مستيقظ في الليل
    صوت جرّة ماء
    تتكسّر في البرد. باشو

  • Credits
    rijksmuseum.nl
    theosophy.wiki/en

    الخميس، يونيو 05، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • عاش الشاعر "هان شان" في عهد أسرة تانغ الصينية المزدهرة، ويُعتبر من بين أهمّ شعرائها المتميّزين، وكان معاصرا للشاعرين المشهورين لي باي و دو فو. وعلى الرغم من أنه لم يكن معروفا أثناء حياته، إلا أن شهرته نمت بعد وفاته واستمرّت لآلاف السنين وحتى اليوم.
    ويقال إن هان شان فشل عدّة مرّات في العثور على وظيفة مناسبة في العاصمة، وفي النهاية لم يعد لديه ما يدفعه للعودة إلى بلدته.
    وقد لامه إخوته على سوء حظّه كما تجاهلته زوجته. ولمّا أحسّ بأن عالمه كلّه قد انهار وبأن حياته بدأت تغرق في اليأس، قطع كلّ علاقاته الإنسانية وسافر لوحده حاملاً معه الكثير من الذكريات المؤلمة. وفي النهاية اختار العيش وحيدا كناسك في الجبال. ولم يكن لديه مكان ثابت يعيش فيه، لذا كان يتجوّل بين الغابات والجبال، وكتب في عزلته الكثير من الأشعار، وأشهرها قصائد "الجبل البارد".
    فيما يلي بعض تلك القصائد بترجمتي مع بعض التصرّف..
    ◦ تجري المياه على الدوام في الجدول المنعزل، والرياح تهزّ أشجار الصنوبر الطويلة. عندما تجلس هناك نصف يوم، ستنسى مائة عام من الحزن. الزهور جميلة في الفصل الرابع من العام، ولكنّها تتحوّل إلى اللون الأصفر في يوم واحد. لن تستطيع تذوّق طعم الحليب والعسل الصخريّ إلا بعد أن تموت.
    ◦ كيف يأتي الشعر إليّ؟ يأتي متعثّرا فوق الصخور في الليل، ويبقى خائفا خارج نطاق نار المخيّم، فأذهب لمقابلته على حافّة الضوء.
    ◦ ظننتُ أنني سمعت صوت فأس شقّ هدوء الغابة. توقّف الحلم واستيقظت. كنت أحلم في قطار. ولا بدّ أن ذلك كان منذ ألف عام، في قرية جبلية قديمة في اليابان. حشد من الشعراء المتحمّسين والفتيات العازبات. في تلك الليلة، تجوّلتُ في طوكيو كالدبّ، متتّبعا مستقبل ذكاء البشر ويأسهم.
    ◦ كان الناس يبحثون عن الطريق في السحاب، ولكن ذلك الطريق لم يكن موجودا في أيّ مكان. الجبال مرتفعة وشديدة الانحدار، بينما الجداول واسعة وأقلّ رشاقة. الجبال الخضراء أمامنا وخلفنا، والسحب البيضاء في الغرب والشرق. إذا كنت تريد أن تعرف أين يقع مسار السحابة، فإنه موجود في الفراغ.
    ◦ إذا لم يكن لديك ملابس فاذهب وابحث عنها بنفسك، لا تطلب من الثعلب معطفه الفرو. وإذا لم يكن لديك طعام فخذه لنفسك، لا تطلبه من الغنم. استعارة الجلد واللحم تجلب الشعور بالحزن.
    ◦ وسط آلاف الغيوم والأنهار، أتسكّع كعاطل سعيد وأهتف لنفسي. نهارا أجوب جبال الصنوبر، وليلا أنام تحت صخور تحميني. ومع أن الربيع والخريف يمرّان بسرعة، إلا أن عقلي في سلام لا يخنقه الغبار. ما أسعد الحياة التي تتشبّث باللاشيء، ما أهدأها كتدفّق جدول في الخريف.
    ◦ الجبل البارد مليء بالعجائب الخفيّة، ينتاب الخوف من يتسلّقونه. عندما يُشرق القمر تترقرق المياه الصافية، وعندما تهبّ الرياح يتمايل العشب. ومع لمسة المطر يتحوّل كلّ شيء إلى نضارة وحيوية. في الموسم الخطأ لا يمكنك عبور الجدول.
    ◦ مرور الأعوام يأتي بأحزان جديدة، ومجيء الربيع يجلب جمالا جديدا. تبتسم أزهار الجبال للمياه الصافية، ويرقص الدخان الأخضر فوق الصخور والقمم. يقطف طائر الكيوي الفاكهة في الجبال ويحمل مالك الحزين الأسماك في البِركة. يدّعي النحل والفراشات أنها سعيدة، بينما الطيور والأسماك أكثر حزنا. لا أزال أستمتع بصحبة أصدقائي الطيور والحيوانات ولا أستطيع النوم طوال اليوم. قلبي مثل قمر الخريف، صافٍ ومشرق مثل بحيرة زرقاء، لا يوجد شيء يشبهه، كيف يمكنني وصفه؟!
    ◦ القمر بارد، وجسدي مثل طائر الكركي الوحيد. لقد رأيت أناسا في هذا العالم يولدون ثم يموتون. أمس صباحا كنت لا أزال في العشرينات من عمري، بروح قويّة وعقل متوثّب. الآن عمري يزيد عن السبعين، وأشعر بالضعف والإرهاق، تماما مثل زهور الربيع التي تتفتّح في الصباح وتذبل في الليل. أحسد نفسي على فرحة الجبال، على كوني حرّا وبلا قيود. أقضي أيّامي في تغذية جسدي المنهك، وليس لديّ ما أفعله سوى الأفكار الخاملة.
    ◦ ينسحب النُسّاك من عالم البشر وينامون في الجبال في أغلب الأحيان. تنتشر الكروم الخضراء على قمم التلال، وتتردّد أصداء الجداول الصافية. كن راضيا ومرتاحا، هادئا وحرّا. تجنّب التدخّل في شئون الدنيا وحافظ على هدوء عقلك كاللوتس الأبيض. العالم مليء بالمنعطفات والتقلّبات، وعاجلاً أم آجلاً ستتخلّى عن جشعك في الحياة. متى سأتمكّن من الراحة بعد طحن كلّ الحجارة الموجودة في هذه الأرض؟
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كثير من الأحيان، يُفسَّر الفنّ بشكل أكثر شمولاً عندما يُنظر إليه كتصوير للظواهر الرياضية والعلمية في عالمنا المادّي. وقد شكّلت مطبوعات الفنّان السويسري موريتس إيشر الحجرية، التي تُصوّر اللانهائية والنسبية والأشياء المستحيلة، جزءا من الفن، وفي نفس الوقت تُدرّس في أقسام الرياضيات في معظم الجامعات.
    في الدراسات العلمية، تُحلّل أكثر الأحداث إثارةً وتُمثّل بأرقام ورسوم بيانية قاتمة ومجرّدة من كل عناصر الرهبة. وكما هو الحال في الفنّ، كذلك في العلم، حيث لا تُفهم الأعمال الفنيّة المذهلة للفنّان إيشر فهما كاملا إن لم يكن المرء على دراية بالنظريات التي تمثّلها كسياق بصري.
    أبدع إيشر أعمالاً فنيّة فريدة ورائعة تستكشف وتعرض مجموعة واسعة من الأفكار الرياضية. ولم تلقَ أعماله ما تستحقّه من اهتمام إلا في خمسينات القرن الماضي، حيث أقام أوّل معرض له ونشرت صحف مهمّة بعض أعماله واكتسب شهرة عالمية. وكان علماء الرياضيات من بين أشدّ معجبيه بعد أن لاحظوا في أعماله تصويرا رائعا للمبادئ الرياضية. ومن الغريب أنه لم يتلقَّ أي تدريب رسمي في الرياضيات.
    ولو تجوّلتَ اليوم في أقسام الرياضيات بالجامعات، فستجد صور ايشر في كلّ مكان. وستجدها حتى في الكتب الدراسية، لأنها تخاطب علماء الرياضيات خاصّة. ومن منظور اليوم، يفهم هؤلاء العلماء بشكل أوضح ما كان إيشر يرمي اليه في رسوماته، لدرجة أنه يمكن بالفعل كتابة صيَغ رياضية لبعض أعماله واستكشاف الأفكار الكامنة وراءها. والخلاصة هي أن علماء الرياضيات يدركون جمال مواضيعهم وإيشر يُظهر لنا، نحن جمهور المتلقّين، جمال تلك المواضيع.
    كان ايشر مفتونا أيضا بالمفارقات والأشكال "المستحيلة" والتقسيمات المنتظمة، أو ما تُسمّى بالفسيفساء. وقد بدأ هذا الاهتمام في منتصف الاربعينات عندما سافر إلى إسبانيا وشاهد أنماط البلاط المستخدم في قصر الحمراء. وأمضى هناك أيّاما طوالا في رسم تلك الأنماط التي وصفها لاحقا بأنها "أغنى مصدر إلهام استفدت منه على الإطلاق".
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات تُلهم وتحفّز وتثير التفكير والتأمّل. ويمكن لاقتباس أن يعبّر أحيانا عمّا لا تستطيعه كلمات وأحيانا صفحات. هنا مجموعة من العبارات والأقوال التي قرأتها في أوقات مختلفة وأعجبتني.
    ◦ إنه لأمر مرهق أن تتحمّل كلّ هذا العبء. تعلّم أن تفعل كلّ شيء بخفّة. نعم، اُشعر بخفّة حتى لو كنت تشعر بعمق. دع الأمور تحدث بخفّة، وتعامل معها بخفّة. كنتُ جادّا بشكل مبالغ فيه في تلك الأيّام، متزمّتا صغيرا بلا إحساس بالدعابة. إنها أفضل نصيحة أُسديت لي على الإطلاق. حتى عندما يتعلّق الأمر بالموت، لا شيء مرهق أو مثير للشفقة أو مؤكّد، لا بلاغة، لا ارتعاشات، لا شخصية واعية، وبالطبع لا لاهوت، لا ميتافيزيقيا، فقط حقيقة الموت وحقيقة النور الساطع.
    لذا تخلَّ عن أمتعتك وانطلق. هناك رمال متحرّكة من حولك، تسحبك من قدميك، تحاول جرَّك إلى الخوف والشفقة على الذات واليأس. لهذا السبب يجب أن تمشي هكذا بخفّة، بخفّة يا عزيزي، على أطراف الأصابع، بلا أمتعة، ولا حتى حقيبة إسفنجية، خالياً تماما من أيّ أعباء. ألدوس هكسلي
    ◦ السلام في النفس موجود في نفس المكان الذي تجد فيه الاضطراب والمعاناة. لا تجده في غابة أو على قمّة تلّ، ولا يمنحك إيّاه معلّم. حيثما تجد المعاناة، تجد أيضا الخلاص منها. ومحاولة الهروب منها هي في الواقع ركض نحوها. أجان تشاه
    ◦ لماذا يحتاج الناس إلى الخصوصية؟ ولماذا الخصوصية مهمّة؟ في الصين، يعيش كلّ أفراد العائلة معا، الأجداد والآباء والأبناء والبنات وأقاربهم أيضا. يتناولون الطعام معا ويتشاركون كلّ شيء ويتحدّثون في كلّ أمر. الخصوصية تجعل الناس يشعرون بالوحدة، كما أنها تشتّت العائلة. تشياولو غو

  • Credits
    mcescher.com
    poetryintranslation.com

    الثلاثاء، يونيو 03، 2025

    سينيكا في العالم المعاصر


    في كتابه "إفطار مع سينيكا: دليل رواقيّ لفنّ العيش"، يشير الفيلسوف ديڤيد فيدلر إلى أنه لم يكتشف الفيلسوف الروماني إلا في مرحلة متأخّرة من حياته وأن ما أعجبه فيه، إلى جانب كونه كاتبا عظيما، هو أنه يركّز على قضايا الحياة الواقعية، مثل كيف تتعامل مع الحزن عند وفاة أحد الأحبّة، وكيف تتعامل مع الهموم أو الأفكار المقلقة، حتى تتمكّن من العودة إلى عيش اللحظة بسلام. وما هي الصداقة الحقيقية، ولماذا تعدّ مهمّة جدّا؟ وكيف يمكننا أن نساهم في خدمة المجتمع؟
    ويضيف المؤلّف: منذ سنوات أصبحتْ قراءة سينيكا كلّ صباح بداية رائعة ليومي. وكلّ ما كتبه خالد وباقٍ وما يزال يؤثّر فينا الى اليوم. وهذا ما يجعله يبدو معاصرا. ولأنه كان يتمتّع ببصيرة عميقة في علم النفس البشري، فإن الكثير من قرّاء سينيكا يشعرون بأنه مرشدهم الحكيم. صحيح انه مات منذ مئات السنين، لكن أفكاره ما تزال حيّة الى اليوم. كان خبيرا في البلاغة، وكان يكتب بأسلوب أدبيّ فريد قلّده آخرون، بدءا من عصر النهضة الإيطالية إلى رالف إيمرسون. وهذا الأسلوب الجذّاب هو ما يجعل كتاباته آسرة".
    على مدى الألفي عام الماضية، شهد عالمنا تطوّرا تكنولوجيا هائلا. لكن عندما تقرأ سينيكا، تدرك أن البشر لم يتغيّروا نفسيّا. فنحن، من هذه الناحية، نشبه ما كان الناس عليه في روما قبل ألفي عام، وتساورنا نفس الآمال والتطلّعات والمخاوف التي كانت للرومان القدماء. كما أن لدينا نفس الرغبة في أن نصبح أفضل وأكثر تميّزا. وسينيكا تناولَ كلّ هذا في كتاباته.
    ويذكر فيدلر أنك لو درستَ سينيكا وإبيكتيتوس وماركوس أوريليوس، أي أقطاب المدرسة الرواقية الكبار، فستكتشف أنهم كانوا يعبّرون عن نفس الأفكار إلى حدّ كبير، ولكن كلّ بطريقته الخاصّة، لأنهم كانوا يخاطبون جمهورا مختلفا. وبما أنهم كانوا جميعا رواقيين، فهذا ليس مستغرباً".
    ثم يشير الى أن ارتباط سينيكا بنيرون كان نذير شؤم للفيلسوف. وقد أصبح نيرون إمبراطورا قبل بلوغه السابعة عشرة بقليل. ويُعتقد أن سينيكا وقائد الحرس أدارا الإمبراطورية الرومانية خلال السنوات الخمس الأولى، أي عندما كان نيرون ما يزال في سنّ غضّة.
    وكما هو الحال مع بعض الأثرياء اليوم، اجتذب سينيكا بعض الأعداء لمجرّد أنه كان ثريّا. ورغم أن للثروة فوائد كثيرة، إلا أنه كتب عن مخاطرها وسلبياتها. فمثلا - يقول فيدلر - استكشف كيف يمكن للثروة الطائلة أن تسبّب اختلالا نفسيّا لدى البعض. وقد رأى سينيكا كلّ شيء، بما في ذلك الجشع والإسراف في أعلى مستويات المجتمع الروماني. وخلُص في كتابه "الرسائل" إلى أن الفقير ليس من يملك القليل، بل من يتوق دائما إلى امتلاك المزيد.
    وكان سينيكا واعيا بشكل خاص بالطبيعة الدورية للتجربة الإنسانية. وأشار باستمرار إلى أنه عندما تسير الأمور على ما يرام ويحلّق الناس في أعالي السماء نفسيّا، فإنه يجب عليهم توخّي الحذر والاستعداد للانحدار، لأنه بمجرّد بلوغ الذروة لا مفرّ من السقوط، أو كما قال "الأماكن المرتفعة هي التي تضربها الصواعق".
    وفي مكان من الكتاب يتساءل المؤلّف: هل كان سينيكا مرشدا عظيما للحياة أم للموت؟ ويجيب: كان مرشدا لكليهما، فكان يرى أن كيفية مواجهتنا للموت عند حلوله هي الاختبار النهائي لنا، وقد كتب عن كيفية التغلّب على هذا القلق باستفاضة.


    الرواقيون، بشكل عام، يرون أنه لا يوجد ما يخيف في الموت، فهو مجرّد جزء طبيعي من الحياة سيواجهه كلّ إنسان. وكانوا يرون أنه لا ينبغي لمن هم على فراش الموت ممّن كانوا طيّبين ومحسنين في حياتهم أن يحزنوا أو يندموا على موتهم، بل يجب أن يكونوا ممتنّين للخبرات التي منحتهم إيّاها الحياة.
    وقد كتب سينيكا مرّة يقول أنه خلال كلّ السنوات الماضية التي عشناها كنّا "في قبضة الموت". وقد عاش هو حياته على أكمل وجه كما لو أن كلّ يوم كان يومه الأخير. وكان يتمنّى كلّ ليلة قبل أن ينام أن يشعر بأنه لم يبقَ له شيء لم ينجزه في الحياة. وإذا حالفه الحظّ واستيقظ حيّا في صباح اليوم التالي، كان ينظر إلى كلّ يوم إضافي بامتنان وكهديّة رائعة من الخالق.
    والواقع أن جميع الرواقيين الرومان أكّدوا على أهميّة التأمّل في فنائنا ودعوا إلى تذكّر الموت باستمرار، ليس بطريقة مرَضية، بل بواقعية. وكما قال إبكتيتوس، ليس في الموت ما يخيف وإلا لظنّه سقراط مخيفا أيضا، وما يجعله مخيفا هو اعتقادنا الخاطئ عنه".
    ومن الأسباب الأخرى لتذكّر الموت، بحسب الرواقيين، عدم اعتبار هبة الحياة في اللحظة الراهنة أمرا مسلّما به. وكما قال إبكتيتوس لطلّابه: عندما تنظر إلى زوجتك وطفلك، ذكّر نفسك بأنهما فانيان، وبهذه الطريقة لن تفاجَأ أبدا بموت أحدهما، بل ستشعر بالامتنان لأيّ وقت متبقٍّ لكم معا". وكتب سينيكا كلاما قريبا من هذا عندما قال: بما أننا لا نستطيع الجزم بمدى استمرار أحبّائنا معنا، فلنستمتع بهم الآن بشغف".
    ولعلّ أفضل ختام للموضوع هو التذكير ببعض أشهر أقوال سينيكا التي ضمّنها كتبه ورسائله..
    ◦ ما دمتَ حيّا، تعلّم كيف تعيش.
    ◦ الثروة عبد للحكيم وسيّد للأحمق.
    ◦ ليس من يملك القليل فقيرا، بل من يتوق للمزيد.
    ◦ السعادة الحقيقية هي أن نفهم واجباتنا تجاه الله والإنسان؛ أن نستمتع بالحاضر دون الاعتماد على المستقبل بقلق؛ ألا ننشغل بالآمال أو المخاوف، بل أن نرضى بما لدينا، وهو كافٍ ووفير.
    ◦ ليست المشكلة في أن لدينا القليل من الوقت، بل في أننا نهدر قدرا كبيرا منه.
    ◦ إذا كان ما لديك يبدو غير كافٍ بالنسبة لك، فحتى لو كنت تمتلك العالم كلّه ستظلّ بائسا.
    ◦ عندما يقضي الإنسان كلّ وقته في السفر إلى الخارج، سينتهي به المطاف لأن يكون لديه العديد من المعارف، ولكن ليس الأصدقاء.
    ◦ كلّ هذا التسرّع من مكان إلى آخر لن يجلب لك أيّ راحة، لأنك تسافر برفقة عواطفك الخاصّة، متبوعةً بمشاكلك على طول الطريق.
    ◦ أعتبرك تعيسا لأنك لم تعِش يوما في محنة. لقد عشتَ الحياة دون أن يكون لك خصم، فلا أحد يعرف من أنت ولا ما هي حدود قدراتك.
    ◦ من الممتع أن تكون مع نفسك لأطول فترة ممكنة، شرط أن تنجح في أن تجعل من نفسك شخصا يستحقّ قضاء الوقت معه.
    ◦ إذا كنت تريد الهروب من الأشياء التي تضايقك حقّا، فإن كلّ ما تحتاج إليه ليس أن تكون في مكان مختلف، بل أن تكون شخصا مختلفا.
    ◦ في الحقيقة نحن لا نعيش إلا جزءا صغيرا من الحياة.
    ◦ كلّ من جعل سعادته في يد غيره أو رهناً للظروف الخارجية هو عبد ولو كان ملكاً.

    Credits
    livingideasjournal.com
    stoicinsights.com

    الأحد، يونيو 01، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • بعض اللوحات تصبح رمزية لدرجة يصعب معها تذكّر أنها أعمال رسم. ومن الأعمال التي يصدق عليها هذا الوصف لوحة "القبلة" لغوستاڤ كليمت. فبسبب شعبيّتها الدائمة وتأثيرها الثقافي وإعادة إنتاجها وتقليدها على نطاق واسع على مرّ السنين، ارتقت "أو ربّما انحدرت!" اللوحة إلى عالم لا علاقة له إطلاقا بالسياق الذي رُسمت فيه.
    موضوع اللوحة شخصان متشابكان، رجل وامرأة، يقطران ذهباً منصهراً. الرجل الذي لا يُرى وجهه يحتضن المرأة ويقبّل وجنتها، بينما عيناها مغمضتان وتعابير وجهها جامدة. وهي تلفّ يديها حول عنقه وتتشبّث بيده عند رقبتها.
    بعض النقّاد لاحظوا أن جسد الرجل الذهبي مزيّن بأشكال مستطيلة، بينما جسد المرأة تمثّله أشكال منحنية، وفي هذا استعادة للأشكال الذكورية والأنثوية الكلاسيكية. كما لاحظوا أن هناك شيئا من الاستبداد والعنف في عناق الرجل وشيئا من العجز واليأس والاستسلام من جهة المرأة. هل هي فاقدة للوعي أم أن عينيها مغمضتان في سعادة غامرة؟ هل تردّ عناق الرجل أم تحاول انتزاع يديه؟
    كلّما تأمّلتَ هذه الصورة الأيقونية لفترة أطول، أصبحتْ أكثر قتامةً. وهي تدعونا لتحدّي تصوّراتنا المسبقة عنها. وهناك الكثير من السرديات والتكهّنات المحتملة بشأنها. بعض مؤرّخي الفنّ رأوا أن اللوحة تُصوّر الفنّان نفسه، أي كليمت، وملهمته إميلي فلوغ. كان كليمت قد قابلَ فلوغ لأوّل مرّة عام ١٨٩٢، عندما كان هو في الثلاثين من عمره وفلوغ في الثامنة عشرة. وقد أصبحت مصمّمة أزياء ناجحة وانتقلت مع كليمت الى أوساط المجتمع الراقي في ڤيينا. وقبل وفاته، أوصى لها بنصف ممتلكاته، على الرغم من أنهما لم يتزوّجا قط.
    ومثل العديد من الفنّانين الحداثيين، يُعدّ موقف كليمت تجاه النساء محورا أساسيا في فنّه. ويقال إنه تعامل في العديد من لوحاته مع النساء على أنهن مجرّد زينة، تماما مثل خلفيات صوره وفساتينه المذهّبة والمعقّدة.
    وكليمت ولوحته هذه يحثّان المتلقّي على طرح أسئلة جوهرية وجدّية. لماذا مثلا يُحتفى باللوحة كعمل رومانسي، في حين أن لغة جسد شخصيّتيه غامضة ومزعجة؟
    ربّما يكون ما يستخرجه الفنّانون من ظلال الجنسانية واللاوعي أكثر حيوية وجمالا من كلّ ما هو سطحي وساذج. هل هذه لوحة لرجل مفترس؟ وإن كان الأمر كذلك، فبأيّ معنى؟ أم أنها لوحة لامرأة أنثى حاضرة في لحظتها ومنغمسة فيها؟ أم أنها مصمّمة لنظرة الرجل؟
    إن النظر إلى أيّ قطعة فنّية بعين ناقدة لا يعني التقليل من شأنها أو رفض جودتها، بل إن من شأن ذلك أن يزيد من قدرتنا على تقدير الفنّ ونقده لفهم سياقه مهما كان محفوفا بالمخاطر.
    بعض الكتّاب فسّروا "القبلة" على أنها رمز لعملية الفنّان الإبداعية. ويمكن اعتبار الأنماط المزخرفة وورق الذهب فيها، والتي تذكّر بالفنّ الياباني، استعارةً للعملية الفنّية، حيث يحوّل الفنّان الموادّ الخام إلى شيء جميل وذي معنى. صحيح أن استخدام ورق الذهب يُضفي لمسة من الفخامة والرقي على العمل ويُبقي أثره البصريّ طويلا، لكن البعض يرى أن الزخرفة والتذهيب الزائدين يطغيان على الشخصيتين الرئيسيتين ويقلّلان من التأثير العاطفي للوحة.
    أعمال غوستاڤ كليمت تشكّل العمود الفقري للعديد من مجموعات متاحف ڤيينا. وقد أصبحت هذه اللوحة بالذات رمزا لأسلوبه الفنّي، مع أنه لم يرسم دائما بهذه الطريقة المنمّقة والمتأنّقة.
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

  • الحكاية المشهورة "الحمار والبستاني" ظهرت في المصادر اليونانية في العصور الكلاسيكية، وبالتحديد كجزء من أساطير ايسوپ الإغريقي. وهي عن حمار كان يعمل عند بستاني، ولأن البستاني كان يرهقه بشدّة ولا يعطيه سوى القليل من الطعام، فقد توسّل الحمار إلى الإله زيوس أن يخلّصه من البستاني ويعطيه لسيّد آخر. فباعه زيوس إلى خزّاف.
    ثم وجد الحمار أن الوضع الجديد لا يطاق، إذ اضطرّ إلى حمل أثقال أكثر. فاشتكى الى زيوس مرّة أخرى، وفي هذه المرّة رتّب زيوس عملية لشراء الحمار من قِبل دبّاغ. وعندما رأى الحمار نوع العمل الذي يقوم به الدبّاغ قال: يا إلهي! كان من الأفضل لي أن أواصل العمل لدى أسيادي السابقين وأنا جائع! لقد انتهى بي الأمر الآن في مكان لن أحصل فيه حتى على دفن لائق بعد موتي".
    وهناك تنويع آخر على هذه القصّة، إذ يقال إن كبير الرهبان في دير قدّم لرهبانه وجبات من ثلاثة أطباق، لكن الرهبان قالوا: هذا الدير لا يعطينا إلا القليل جدّا من الطعام. فلنصلّ إلى الله كي يموت رئيس الرهبان قريبا". ولسبب ما، مات الراهب بعد فترة وجيزة. وحلّ مكانه راهب آخر، وقدّم لهم الراهب الجديد وجبتين من طبقين، ما أثار غضب وانزعاج الرهبان، لذلك قالوا: الآن يجب أن نصلّي أكثر كي يحرم الله هذا الرجل من حياته لأنه حرمنا من أحد أطباقنا".
    ثم مات رئيس الدير لسبب ما. وحلّ محله راهب ثالث قرّر ان يكتفي الرهبان بطبق واحد فقط. فقال الرهبان الغاضبون: هذا أسوأهم جميعا، إننا الآن نموت جوعا! فلنصلّ إلى الله كي يموت قريبا". ثم قال أحد الرهبان: الآن سأدعو الله أن يمنح هذا الراهب عمرا مديدا وأن يحفظه سالما من أجلنا". تفاجأ الرهبان الآخرون بكلام زميلهم وسألوه عن السبب فقال: أرى أن رئيس الدير الأوّل كان سيّئا، والثاني أسوأ، وهذا الثالث أسوأهم جميعا. وأخشى إن مات أن يكون من سيحلّ مكانه أسوأ منه وعندها سنموت كلّنا جوعا".
    وفي عصر النهضة، أصبحت القصّة أكثر شهرةً، مع عِبرة أو درس يقول بأن تغيير السيّد لا يجلب إلا ما هو أسوأ وأن عدم الرضا المعتاد يجلب دائما الرغبة في التغيير. كما أضاف دي لا فونتين القصّة إلى خرافاته مع تعليق يقول إن العناية الإلهية تفضّل أن تفعل أشياء أكثر أهمية من الاستماع إلى أولئك الذين لا يرضون أبدا".
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا قد يغني اقتباس واحد عن قراءة صفحات. هنا مجموعة مختارة من العبارات والأقوال التي قرأتها في أوقات وأماكن مختلفة وأعجبتني..

    ◦ فجأة انطلقَ صوت من وسط الأعشاب. ووقفتُ ساكنا. وفي نور الصباح الباكر، عرفت أنني لم أسحق بقدمي الكبيرتين أيّ شيء صغير كان يعبر للتوّ في المكان الذي مررتُ به وأنا في طريقي إلى حقول التوت الأزرق. ربّما كان ضفدعا أو خنفساء، وربّما كانت الدودة الوردية الرقيقة التي تؤدّي عملها بإتقان وبدون أطراف أو عيون.
    أحيانا أميل إلى الأمام وأنظر إلى الماء. مياه البِركة مرآة للخشونة والصدق، فهي لا تعكس نظرتي فحسب، بل تعكس أيضا هالة العالم التي تمتدّ إلى الصور من جميع الجهات. طيور السنونو، وهي تغرّد قليلا بينما تطير ذهابا وإيابا عبر البِركة، تحلّق فوق كتفي وعبر شعري. سلحفاة تمرّ ببطء عبر القاع الموحل، تلامس عظم وجنتي. لو سمعت في هذه اللحظة دقّات الساعة، هل سأتذكّر ما هي وما دلالتها؟ ميري أوليڤر

    ◦ ما الذي نعرفه على وجه اليقين عن سقراط؟ ربّما عبارته الشهيرة "الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا"؟ للأسف لا يوجد دليل حقيقي على أنه قال هذا على الإطلاق. فقد ذُكرت العبارة لأوّل مرّة في عمل لشيشرون كُتب بعد أكثر من 300 عام من إعدام سقراط في أثينا عام 399 قبل الميلاد. ومن المفيد دائما تذكير أنفسنا بمدى ضآلة معرفتنا بأكثر الفلاسفة الأثينيين جاذبيةً. فمثل المسيح الذي كان يقارن به كثيرا في العصور القديمة، لم يكتب سقراط شيئا بنفسه، وكان موضوعا لصناعة الأساطير في حياته. وكما وصفته المؤرّخة بيتاني هيوز، مؤلّفة سيرة ذاتية لسقراط، فإن سقراط يشبه كعكة الدونات الدائرية، فهي لذيذة من الخارج، لكن لا يوجد شيء في الوسط. أرماند دانجور

    ◦ حزنت في الماضي، لكنني الآن فقط لمست جوهر الحزن. الآن فقط أدركت وأنا أتحسّس جوانبه المسامية أن لا سبيل للخروج منه. أنا في قلب هذه الدوّامة، وقد أصبحتُ صانعَ صناديق، وداخل جدرانها الصلبة أسجن أفكاري.
    أخيرا، فهمت لماذا يرسم الناس وشوماً لمن فقدوهم. إنها الحاجة إلى إعلان، ليس فقط الفقد بل أيضا الحبّ والاستمرارية. إنه فعل مقاومة ورفض: الحزن يخبرك أن الأمر قد انتهى، وقلبك يخبرك أنه لم ينتهِ. الحزن يحاول حصر حبّك في الماضي، وقلبك يخبرك أنه حاضر. شيماندا أديتشي

    ◦ قم بإجراء تغيير جذري على نمط حياتك وابدأ بعمل أشياء ربّما لم تفكّر فيها من قبل أو كنت متردّدا في فعلها. الكثير من الناس يعيشون في ظروف غير سعيدة، ومع ذلك لا يأخذون زمام المبادرة لتغيير حالهم، لأنهم معتادون على حياة الأمن والامتثال والمحافظة التي قد تبدو وكأنها تمنح المرء راحة البال، ولكن الواقع غير ذلك. ليس هناك ما هو أكثر ضررا لروح المغامرة داخل الانسان من المستقبل الآمن.
    إن الجوهر الأساس لروح الإنسان الحيّة هو شغفه بالمغامرة. ومتعة الحياة تأتي من لقاءاتنا بتجارب جديدة، وبالتالي ليس هناك بهجة أعظم من أن يكون لك أفق متغيّر إلى ما لا نهاية وشمس جديدة ومختلفة لكلّ يوم. فإن كنت ترغب في الحصول على المزيد من الحياة، فيجب عليك أّولا أن تفقد ميلك إلى الأمان الرتيب وأن تتبنّى أسلوب حياة متقلّبا قد يبدو لك في البداية مجنونا أو جامحا. ولكن بمجرّد أن تعتاده سيتبيّن لك بسرعة المعنى الكامل للحياة وجمالها المذهل. جون كراكوير

    ◦ عندما يقول أو يفعل أحدهم شيئا يغضبنا فإننا نعاني. نميل إلى قول أو فعل شيء في المقابل لجعل الآخر يعاني، على أمل أن نخفّف من معاناتنا. نقول لأنفسنا: أريد معاقبتك؛ أريد أن أجعلك تعاني لأنك جعلتني أعاني. وعندما أراك تعاني كثيرا، سأشعر بتحسّن. والكثيرون منّا يميلون إلى تصديق هذه الممارسة الطفولية.
    لكن الحقيقة هي أنه عندما تُسبّب معاناة للآخر، سيحاول هو إيجاد الراحة بجعلك تعاني أكثر. والنتيجة هي تصاعد المعاناة لدى كلا الطرفين. كلاكما بحاجة إلى التعاطف والمساعدة. لا أحد منكما بحاجة إلى العقاب. عندما تغضب، عد إلى نفسك وانتبه جيّدا لغضبك. وعندما يسبّب لك أحدهم معاناة، عد إلى معاناتك وغضبك. لا تقل أو تفعل شيئا. ثيتش نات هان

    ◦ كثيرا ما كنتُ أتمشّى في غابة التنّوب والصنوبر المجاورة والتي بدا أن جمالها وعزلتها الشتوية الرائعة تحميني من هاجس اليأس. كانت أصوات رقيقة بما لا يُوصف تخاطبني من الأشجار: لا يجب أن تتوصّل إلى استنتاجٍ متشائم بأن كلّ شيء في هذا العالم قاسٍ وزائف وشرّير. تعالَ إلينا كثيرا فالغابة تحبّك وفي صحبتها ستجد الصحّة والروح المعنوية العالية من جديد وستُثير فيك أفكارا أسمى وأجمل. روبرت والسر

  • Credits
    gustav-klimt.com
    theguardian.com
    maryoliver.com

    الجمعة، مايو 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • الحزن على فقد إنسان عزيز ورائع لا يجب أن يفوق الفرحة بمعرفته.
    لا أعرف من صاحب هذه المقولة المعبّرة، لكنّي قرأتها في مكان ما وحرصت على حفظها ومحاولة تمثّلها. فهي تساعدنا على تذكّر الأوقات الجميلة والإيمان بأن من نحبّهم ممّن رحلوا عنّا سيظلّون دائما معنا وستبقى ذكراهم العطرة حيّة في قلوبنا حتى نهاية الحياة.
  • ❉ ❉ ❉

  • ولد موسى أساريد في الصحراء الكبرى. كان راعيا لإبل والده قبل أن ينتقل الى باريس. وهو اليوم يدرس إدارة الأعمال في جامعة مونبلييه. في حديث معه، تناول أساريد طبيعة العيش في الصحراء وقارنها بالحياة في عاصمة اوربّية كبيرة فقال: عندما كنت صغيرا، أقنعت والدي بالسماح لي بالذهاب إلى المدرسة. كلّ يوم تقريبا كنت أمشي مسافة 15 كيلومترا. وذات يوم أعطاني المعلّم سريراً لأنام عليه وتكفّلَ شخص آخر بإطعامي.
    أنا من الطوارق، مسلم بلا تعصّب. أرتدي العمامة، وهي نسيج قطني ناعم يسمح لك بتغطية وجهك في الصحراء عندما تهبّ الرمال، وفي نفس الوقت يمكنك من خلاله الرؤية والتنفّس. إنه أزرق وجميل. وبالنسبة للطوارق، الأزرق هو لون العالم ولون السماء ولون سقف بيتنا.
    الطوارق شعب بدويّ قديم من الصحراء، منعزل وفخور بنفسه، "أمراء الصحراء" كما ينادونهم. مجموعتهم العرقية هي الأمازيغية. من عاداتهم، أنك عندما تبلغ السابعة من عمرك، يسمحون لك بالابتعاد عن المخيّم، حتى تتعلّم الأشياء المهمّة: تنفُّس الهواء والاستماع وتركيز البصر والتنقّل بواسطة الشمس والنجوم وترك الجمل يقودك إلى حيث يوجد ماء إن ضللتَ طريقك.
    في الصحراء، كلّ يوم وقبل غروب الشمس، تنخفض درجة الحرارة ويعود الرجال والحيوانات ببطء إلى المخيّم وتَبينُ ملامحهم على خلفية سماء وردية وزرقاء وحمراء وصفراء. إنها لحظة ساحرة يذهب فيها الجميع إلى الخيمة ويغلون بعض الشاي ويجلسون في صمت. إذا كنت وحدك في ذلك السكون فإنك تسمع دقّات قلبك، لا يوجد مكان أفضل لتجد فيه نفسك. "عندنا كلّ شيء صغير يجلب السعادة، كلّ لمسة لها قيمة، نشعر بفرح هائل بمجرّد لمس بعضنا البعض وبكوننا معا"!
    وعن تجربته في العيش في أوربا يقول أساريد: عندما قدمت الى هنا لأوّل مرّة صدمتني بعض الأشياء. رأيت الناس مثلا يلهثون في المطار. في الصحراء لا يركضون إلا إذا جاءت عاصفة رملية! رأيت أيضا ملصقات لفتيات عاريات، لماذا هذا الافتقار إلى الاحترام تجاه المرأة؟! ثم في الفندق رأيت أوّل صنبور في حياتي، كان الماء يتدفّق وشعرت كأنني أريد البكاء، ذلك أن كلّ يوم في حياتي كان يدور حول العثور على الماء! عندما أرى النوافير الزخرفية هنا وهناك، أشعر بألم شديد في داخلي".
    وعمّا يفتقده في باريس يقول: أفتقد حليب الإبل ونار الحطب والمشي حافي القدمين على الرمال الدافئة والنظر الى النجوم كلّ ليلة".
  • ❉ ❉ ❉

  • الستائر هي أحد المواضيع المفضّلة عند رينيه ماغريت. وهي ترتبط بأسطورة أخرى حول أصل الرسم ذكرها المؤرّخ بليني الأكبر في أحد كتبه. تتحدّث القصّة عن زيوكسيس الذي كان رسّاما إغريقيا رائدا عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، لكن لسوء الحظ لم تعش أيّ من لوحاته إلى اليوم. قيل إنها كانت صورا واقعية وصغيرة الحجم وانه كان بارعا في توظيف الضوء والظلّ.
    ذات يوم أراد زيوكسيس رسم صورة لهيلين أميرة طروادة وأجمل امرأة في العالم القديم. لكنه لم يجد نموذجا بمثل جمالها. لذا اختار خمسا من أجمل النساء ثم مزج بين ملامحهنّ ليخلق صورته الذهنية عن الجمال المثالي.
    كان زيوكسيس، مع باراسيوس، أشهر رسّامَين في اليونان القديمة. وقد جرت منافسة بينهما لتحديد أيّهما الأفضل وطُلب من كلّ منهما أن يرسم لوحة دون أن يراها الآخر. وعندما كشف زيوكسيس عن لوحته اتضح انه رسم فيها عناقيد عنب بدت واقعية جدّا لدرجة أن الطيور حطّت من السماء لالتقاط بعضها.
    ثم طُلب من باراسيوس أن يزيح الستارة التي تخفي لوحته. ودُهش منافسه والحضور عندما اكتشفوا أن الستارة نفسها كانت عبارة عن لوحة متوهّمة. وفي النهاية فاز باراسيوس بلقب أفضل رسّام لأنه نجح في خداع، ليس الطيور، بل البشر أنفسهم.
    في لوحة ماغريت فوق، نرى زجاج نافذة مكسورا وملقى على الأرض. وفي شظايا الزجاج يمكننا أن نرى انعكاس أجزاء من نفس المشهد مع غروب الشمس. في هذه الحالة، لا تُستخدم الستائر إلا للإشارة الدقيقة إلى تلك الأسطورة. شظايا الزجاج تبدو كما لو أنها يمكن أن تقطعك، ولكن في نفس الوقت تشعر بالرغبة في التقاطها والتعجّب من انعكاس غروب الشمس عليها.
    ماغريت بارع في تحطيم الحقيقة وتجزئتها إلى قطع صغيرة من أجل الكشف عن الطرق التي يمكن من خلالها إعادة تجميعها معا. وبرسمه ستارة واقعية كعمل من اعمال الخداع البصري، يُظهر مهارته الفنّية ويضعها في الوقت نفسه في سياق آخر ساخر.
  • ❉ ❉ ❉

  • في مقابلة معه، أجاب الناقد جيفري يوجينيدس على السؤال التقليدي: لو نظّمت حفل عشاء للكتّاب وطُلب منك دعوة ثلاثة كُتّاب أحياء أو أموات فمن ستدعو؟
    فأجاب: أوّلا سأتصل بشكسبير. وسيسألني: من سيأتي أيضا؟ فأجيبه: تولستوي". فيقول: أنا مشغول هذه الليلة". ثم سأتصل بكافكا فيوافق على الحضور "شرط ألا أدعو تولستوي". فأقول له: لقد دعوتُ تولستوي بالفعل"، وسيأتي كونديرا، وأنتما تجيدان اللغة التشيكية". فيصحّحني كافكا قائلا: أنا أتحدّث الألمانية".
    وعندما يسمع تولستوي عن قدوم كونديرا، ينسحب. لذا اتصلُ أخيرا بجويس الذي كثيرا ما يكون متاحاً. وعندما يصل إلى المطعم، يطلب كافكا طاولة في الخلف، لخشيته من أن يتعرّف عليه أحد. فيقول جويس: إذا كان هناك من سيتعرّف عليه أحد، فهو أنا". ثم ينحني كونديرا ويهمس في أذني: قد يتعرّف علينا الناس أيضا لو تجوّلنا بعصا".
    ويصل النادل ليسأل كافكا عن الأطعمة التي يتحسّس منها، فيناوله قائمة مكتوبة. ثم يستأذن في الذهاب إلى الحمّام. وحالما يذهب، يقول كونديرا: مشكلة كافكا أن ليس له ذيل كافٍ". ونضحك معا. ثم يطلب جويس زجاجة نبيذ أخرى. وأخيرا، يستدير وهو يهمّ بالمغادرة وينظر إليّ من خلال نظارته الداكنة. ويقول: حالياً أقرأ كتابك الجديد".
  • ❉ ❉ ❉

  • الاقتباسات جُمل موجزة ومكثّفة وملهِمة وسهلة التذكّر. ومشاركتها مع الآخرين دليل على أن المقتبس يحبّ القراءة وينشر الفائدة والإيجابية وإعمال العقل. وكالعادة، ومن وقت لآخر، أضع هنا بعض الاقتباسات التي قرأتها في بعض الأماكن وأثارت اهتمامي أو إعجابي، راجياً أن تُعجب القارئ.

    ◦ نحبّ رائحة مطر الصحراء لأن رائحة الوطن تفوح منه عندما يمتزج بالتراب. أتذكّر أننا كنّا نأكل التراب الذي ننحت منه بيوتا وشجرا ونحن صغار. كان طعم التراب كطعم الوطن؛ الوطن الذي نتذكّره على ألسنتنا كلّما افتقدناه. بايرون أسباس

    ◦ يقال أن كلّ الشعر يدور حول الموت. وأعتقد أن في ذلك حقيقة عميقة تتعلّق بكيفية وسبب عيشنا وفنّنا. لقد فقدتُ أشخاصا أعزّاء عليّ في هذا العالم. وهناك لحظات أتذكّرهم فيها وأجد نفسي أبكي بحرقة. أكتب قصائد للتذكّر ولتخليد ذكراهم ولأعبّر عن مشاعر فقدهم كطريقة لي، وللآخرين أيضا، للتنديد بغيابهم. لن أزعم أبدا أن هذا يشفيني، لكن من حسن حظّي أنني أجد لغة لأفعل هذا، وهو ما يريحني. غالبا ما تكون القصائد وسيلة لإلهاء النفس عن الواقع، هناك جمال عظيم في الإلهاء والفن. صناعة الجمال هي بحدّ ذاتها إلهاء. كوامي داوس

    ◦ أُبلغَ مريض يعاني من سرطان الحنجرة عن جهاز أشعّة سينية جديد يمكن أن يعالج حالته. ولم يكن هذا الرجل يجيد القراءة ولا الكتابة ولا يملك أدنى فكرة عن الأدوات أو الممارسات الطبّية. وعندما جلس في عيادة الطبيب لأوّل مرّة ووُضع في فمه جهاز قياس درجة الحرارة، ظنّ أنه يخضع لعلاج بالأشعّة السينية. وأدرك الطبيب ذلك وترك مقياس الحرارة في فم المريض لعشر دقائق ثم اعتذر منه وطلب منه العودة بعد يومين. وبعد ثلاثة أسابيع من الزيارات المتكرّرة والعلاج بمقياس حرارة، اختفى السرطان تماما من جسد الرجل! أويل أندرسن

    ◦ هناك طريقة تعلّمك بها الأرض الاهتمام والصبر والرحمة. إذا أردت أن تستمدّ الفرح والوفرة من الأرض، فعليك أن تقترب منها. عليك أن تعرف البقعة الرطبة والبقعة الجافّة وأن تعرف كيف تقرأ الطقس. وعليك أن تنصت. حينها ستعجب الأرض بك. لكنها ليست حبيبة سهلة المنال، ولا ينبغي لها أن تكون. إنها تقول: كي تملكني عليك أن تفوز بي! ليا بينيمان

    ◦ لا سعادة ولا بؤس في الدنيا. ليس هناك سوى مقارنة حال بأخرى. من ذاق مرارة الحزن العميق هو الأقدر على تذوّق السعادة المطلقة. ولا بدّ أن نشعر بمعنى الموت لنقدّر متع الحياة. عيشوا إذن وكونوا سعداء، يا أبناء قلبي الأعزّاء، ولا تنسوا أبدا أنه إلى أن يكشف الله لنا عن المستقبل، فإن كلّ حكمة إنسانية تكمن في هاتين الكلمتين: انتظروا وتفاءلوا". ألكسندر دوما

  • Credits
    magritte.com
    suite101.com

    الأربعاء، مايو 28، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • من نصائح رجل حكيم: إذا قارنت نفسك بالآخرين، فقد تصبح مغرورا أو متذمّرا، لأنه دائما ما يكون هناك من هو أعظم منك ومن هو أدنى. تجنّب الأشخاص الصاخبين والعدوانيين، فهم مزعجون للروح. استمتع بإنجازاتك وخططك. وحافظ على اهتمامك بمسيرتك المهنية مهما كانت متواضعة، فهي ثروة حقيقية في ظلّ تقلّبات الزمن.
    تَوخَّ الحذر في أعمالك، فالدنيا مليئة بالخداع. ولا تدع هذا يصرفك عن الفضيلة، فكثيرون يسعون إلى مُثل عليا، والحياة في كلّ مكان مليئة بالبطولات. كن على سجيّتك. لا تتظاهر بالحبّ ولا تستخف به، فهو دائم الخضرة كالعشب في وجه كلّ جفاف وخيبة أمل.
    غذِّ قوّة روحك لتحميك من المصائب المفاجئة. لكن لا ترهق نفسك بأوهام قاتمة، فكثير من المخاوف تولد من التعب والوحدة. وإلى جانب الانضباط السليم، كن لطيفا مع نفسك. أنت ابن هذه الأرض، تماما كالأشجار والجبال، ولك الحقّ في أن تكون هنا.
    انطلقْ بهدوء وسط الضجيج والعجلة، وتذكّر أن الهدوء قد يكون في الصمت. وكن على وفاق مع الجميع قدر الإمكان ودون خضوع. تحدّث عن حقيقتك بهدوء ووضوح واستمع إلى الآخرين، حتى البلداء والجهلاء منهم.
    وسواء أكان الأمر واضحا لك أم لا، فإن الكون يسير كما ينبغي. لذا كن في سلام مع الله، أيّا كان تصوّرك له. ومهما كانت أعمالك وطموحاتك في صخب الحياة، حافظ على سلامك الروحي. فرغم كلّ ما في هذا العالم من زيف وتعب وأحلام محطّمة، إلا أنه يظلّ عالما جميلا.
    وأخيرا، كن مبتهجا وابذل جهدك لأن تكون سعيدا.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الوقت خريفا، وكان القمح قد حُصد، والذرة بنيّة اللون ومتماسكة وجاهزة للحصاد. كانت هناك الكثير من البذور المتناثرة على الأرض، وهو ما يعتمد عليه الصيّادون في موسم صيد طيور الدرّاج. وعلى جانب الطريق، كان الصيّادون يتجوّلون في الحقول بألوان برتقالية زاهية. لا تثير هذه الألوان حماسي، ومع ذلك أشعر بانجذاب إليها بحكم التعوّد.
    كانت المهمّة إصلاح مضخّة بحاجة إلى تغيير نظامها الكهربائي. كان الوقت مبكّرا، ودفء الشاحنة أبقاني في حالة من النعاس. وكانت اهتزازات الطريق السريع تحرّك جسدي كلّه.
    ومن طرف عيني، لاحظت انطلاق طائر درّاج من بين العشب الطويل. كان ذا لون بنّي فاتح على خلفية حقول ذرة صفراء صدئة. كان لون الرأس الأزرق المخضر، والأبيض والأحمر حول الرقبة، ولون ريش الذيل ضبابيّا. انطلق فجأة من بين الأعشاب وضرب باب الراكب مُحدثا صوتا.
    ما رأيناه خلفنا كان سحابة عائمة من الريش، تدور كإعصار من تيّار الهواء خلف الشاحنة. فجأة، أشرق اللون الأزرق المخضر من ضوء الفجر الخافت خلفنا. وبدا أن بعض الريش يرتفع أكثر فأكثر، كأنه عامود قبل أن تتوقّف حركته، وبدأ الريش وبعض أجزاء صغيرة من الجسم تتساقط كما تتساقط الأشياء الأخفّ من الهواء.
    تمتم أبي بكلمات مبهمة، ثم بطّأ من سرعته وسار بمحاذاة الطريق السريع. كانت رائحة الريش على بعد أكثر من ربع ميل خلفنا، وما أن توقّفنا حتى فتحت باب الراكب ووجدت أثرا صغيرا لارتطام بالكاد يلاحَظ في الطلاء.
    كان الدرّاج يطير باتجاه موطنه أو بعيدا عنه. لكنه على ما يبدو خرج عن الطريق بتهوّر. لطالما اعتقدت أن وجود شيء جميل يتطلّب نوعا من التهوّر. نجمة، باقة زهور، وجبة معدّة بإتقان. قرأت أن الطلاء الأحمر كان في يوم من الأيام مزيجا من الحشرات، وأن البنّي كان في الأساس تنويعاً على البرتقالي الداكن، ومصنوعا من الكاروتين "صبغ نباتي". في خضمّ ندمي، قرّرت إعادة تجميع ذلك الطائر على القماش، مستخدما خطوطا دراماتيكية مبالغا فيها ومستغلّا قوّة الألوان الزاهية.
    أنا آسف على صدفة المكان وعلى حادثة الموت اللحظي تلك. داستن بارسونز
  • ❉ ❉ ❉

  • الإيمان بحياة بعد الموت كان موضوعا لإحدى مطبوعات فان غوخ الحجرية المتقنة، وقد اختار لها عنوان "عند بوّابة الخلود". رُسمت اللوحة في لاهاي عام ١٨٨٢، وتصوّر رجلاً عجوزاً جالساً أمام نار ورأسه مدفون بين يديه. قبيل وفاته، أعاد فان غوخ رسم هذه الصورة بالزيت أثناء تعافيه في مشفى سان ريمي. ويبدو الشخص المرسوم منحنياً وقبضتاه مضمومتان على وجهه الذي يلفّه الإحباط الشديد. الصورة تنطق بالحزن واليأس الشديدين لولا العنوان الذي اختاره لها فان غوخ، أي "عند بوّابة الخلود". وهي تُظهِر أنه حتى في أعمق لحظات حزن الرسّام وألمه، كان متمسّكاً بإيمانه بالله وبالخلود، وهي الفكرة التي حاول التعبير عنها هنا بوضوح.
  • ❉ ❉ ❉

  • قراءة قصّة قصيرة لبورخيس تشبه قراءة شعر جيّد. فكما هو الحال في القصائد العظيمة، تتطلّب قصصه إعادة القراءة مرارا وتكرارا. وهو يكتب مستخدما أنماطا موسيقية متنوّعة وتعدّد أصوات، على غرار باخ وإيشر. وقصصه متداخلة في مستويات متعدّدة من المعاني المتكرّرة والمتغيّرة توحي دائما بمتاهة متعدّدة الأبعاد، وتأخذك إلى حافّة المعرفة وما بعدها. الشيء السيّئ الوحيد في قراءة بورخيس هو أنه يتركك تشعر بأن لا شيء يستحقّ الكتابة أو يمكن الكتابة عنه بعد أن تقرأه.

  • Credits
    vincentvangogh.org
    dustinparsons.info