:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أبريل 29، 2025

حِكَم تشوانغ تزو


سنّارة السمك موجودة بسبب السمك، فبمجرّد أن تحصل على السمكة يمكنك أن تنسى السنّارة. والكلمات موجودة بسبب المعنى، فبمجرّد أن تحصل على المعنى يمكنك أن تنسى الكلمات. أين يمكنني أن أجد رجلا نسي الكلمات حتى أتمكّن من التحدّث معه؟!
تشوانغ تزو

يصف المترجم وعالم الصينيات الراحل بيرتون واتسون شعور من يحاول تفسير أو فهم كتابات تشوانغ تزو (369 - 286) بقوله: كلّما جلست وحاولت أن أكتب بجديّة عن هذا الرجل، ظهر لي في مكان ما في مؤخّرة رأسي وهو يطلق ضحكة مكتومة ساخرا من غطرسة وعبثية هذا المسعى".
ويضيف: إن كتاب هذا الفيلسوف الصيني الذي يتضمّن مزيجا غريبا من الحكايات والقصائد والحوارات والأساطير والتأمّلات الفلسفية الساخرة هو مرآة مرحة لروحك، فهو يهاجم أعمق معتقداتك ويزعزع استقرارك ويجبرك على ألا تأخذ نفسك على محمل الجدّ".
وكون الكتاب مسليّا لا يجعله تافها، بل على العكس، فتشوانغ تزو مهرّج ومهمّته تحسين قرّائه، أو بالأحرى إفادتهم. وعلى الرغم من تفاهة المهرّجين، إلا أنهم كانوا ضروريين للحكومات التي توظّفهم. فبالإضافة إلى توفير الترفيه، كان لديهم ترخيص بانتهاك القواعد وتوفير وسيلة فريدة لتقييد الطغيان من جميع الأنواع. كانوا يتحدّثون بالحقيقة إلى السلطة مثلما يتحدّث بها تشوانغ تزو الى القرّاء. ضحكاته المُداوية تخفّف من حدّة المعتقدات المتحجّرة التي عاشت فترة طويلة دون أن تخضع للتشكيك أو السخرية.
هناك تاريخ موجز لحياة تشوانغ تزو وسيرة ذاتية قصيرة كتبها المؤرّخ الصينيّ العظيم "سيما تشان" بعد مرور حوالي 200 عام على وفاة المعلّم. ويبدو أنه عاش خلال فترة اتّسمت بالاضطرابات السياسية وسُمّيت بفترة الممالك المتحاربة. وقتها، كانت مئات المدارس الفلسفية والفكرية تتنافس وتزدهر في الصين. وكان تشوانغ تزو يتنقّل بين المناطق الهادئة في عقله باحثاً عن فلسفة تخدم زمنه المضطرب.
يقول كاتب صيني معاصر: بينما كان لاو تزو يتحدّث بالأمثال، كان تشوانغ تزو يكتب مقالات فلسفية مطوّلة ومنطقية. وبينما كان لاو تزو يعتمد كليّا على الحدس، كان تشوانغ تزو يعتمد كليّا على الفكر. كان لاو تزو يبتسم، وكان تشوانغ تزو يضحك. كان لاو تزو يعلّم، وكان تشوانغ تزو يسخر. كان لاو تزو يخاطب القلب، وكان تشوانغ تزو يخاطب العقل. كان لاو تزو مثل والت ويتمان، وكان تشوانغ تزو مثل ثورو. كان لاو تزو مثل روسو، وكان تشوانغ تزو مثل فولتير".
وعلى النقيض من كونفوشيوس الذي تتألّف تعاليمه من مجموعة من المبادئ الأخلاقية ونظام عملي للإدارة الجيّدة، فإن تشوانغ تزو كان شخصا مثاليّا. وبحسب سيما تشان، كان تزو يكتب من أجل متعته الشخصية، وقد ترك للأجيال التالية عملا يوفّر فيضا من الجمال الأدبي والأصالة الفكرية. وعلى الرغم من أنه يبدو أحيانا وكأنه تلميذ للاو تزو، إلا أنه قام بتوسيع الطاويّة ونقل تكهّناته إلى عوالم تجاهلها المعلّم لاو تزو.
من العبارات المشهورة المنسوبة لتشوانغ تزو قوله: نحتاج إلى الشجاعة لتغيير ما نستطيع تغييره وتقبّل ما لا نستطيع تغييره، وإلى الحكمة لمعرفة الفرق بينهما. إن الحكمة هي الأساس، واكتسابها رهن بمعرفة أنفسنا والعالم من حولنا والانتباه جيّدا لتجاربنا".
كان تشوانغ تزو يؤمن بأن احترام جميع أشكال الحياة ضروريّ للإنسان. يقول: جميع المخلوقات متساوية في الأهمية، وتستحقّ الاحترام". ويقول: إنه لقدَر مجيد أن يكون المرء عضوا في الجنس البشري، مع أنه جنس مكرّس للعديد من السخافات ويرتكب الكثير من الأخطاء الفادحة".
كان يرى أن محاولة السيطرة على الحياة والتحكّم بها "تُبعد الإنسان عن الانسجام والتوازن، وأنه لا يمكن العثور على السلام في خضم صراع السيطرة، لأن المنظور الروحي الحقيقي يُخبرنا أن الحبّ حرّية".
ومن أفكاره أيضا أن راحة البال لا تأتي من غياب الصراع، بل من تقبّله. "ستظلّ هناك دائما عقبات في طريق الحياة. ومعظمنا في صراع مع الواقع. ولو لم تكن هناك جبال نتسلّقها، لكان العالم صحراء قاحلة خالية من الحياة".
كان تشوانغ تزو مفكّرا جريئا ومضحكا، حادّا ولاذعا، حالما ومرحا، رصينا وجادّا. وقد دُرست المعاني الخفية لرموزه على مدى قرون. ومن آرائه أن الفرح الكامل هو "أن تكون بلا فرح، وإذا سُئلتُ ما الذي يجب فعله وما الذي لا يجب فعله على الأرض لتحقيق السعادة، أجيب بأن هذه الأسئلة ليس لها إجابة ثابتة تناسب كلّ حالة". كما رأى أنه ينبغي لنا أن نتبع طبيعتنا دون الخضوع للضغوط أو القيود الخارجية وأن ندع كلّ شيء يسير في مساره الطبيعي.
عندما توفّيت زوجته، جاءه أحد أصدقائه لتعزيته فوجده يغنّي! ولمّا لامه الصديق على تصرّفه متّهما إيّاه بعدم الوفاء، ردّ تشوانغ تزو: إن العملية التي أوصلت الزوجة إلى الميلاد هي نفسها التي أوصلتها إلى الموت مع مرور الوقت وبسلاسة، مثلما يتحوّل الخريف إلى شتاء والربيع إلى صيف".


وأضاف: لو تجوّلتُ وأنا أبكي وأضرب على صدري على فقدها، لكان ذلك دليلا على أنني لم أفهم شيئا عن الحياة. لم يكن الإنسان في العصور القديمة يعرف شيئا عن حبّ الحياة أو عن كراهية الموت. كان يخرج من الحياة بلا سرور ويعود بلا ضجيج. يأتي بسرعة ويذهب بسرعة، وهذا كلّ شيء. لم ينسَ أين بدأ ولم يحاول معرفة الى أين سينتهي. لقد تلقّى شيئا واستمتع به، نسيه وأعاده مرّة أخرى".
وذات مرّة، عندما طلب منه اثنان من كبار المسؤولين لدى الملك أن يقبل منصب وزير قال لهما: أبلغوا جلالته تحيّاتي وأخبروه أنني سعيد هنا بالزحف في الوحل. إن الرجل الحكيم يعلم أنه من الأفضل أن يجلس على ضفّتي نهر أو بحيرة في جبل بعيد، بدلا من أن يكون امبراطورا على العالم".
وتشوانغ تزو يوصي قارئه بألا يسعى وراء رضا الناس وألا يعتمد على خططه وألا يتخذ قرارات وأن يدع القرارات تصنع نفسها. ويضيف: توقّف عن الرغبة في أن تكون مهمّا، ولا تترك آثار لخطواتك. إن الرجل العاقل يكره أن يرى الناس يتجمّعون حوله ويتجنّب الحشود، لا فائدة تُرجى من دعم الكثير من الحمقى الذين سينتهي بهم المطاف في قتال بعضهم البعض. يا لك من أحمق! بداخلك أعظم كنز في العالم، ومع ذلك تتجوّل طالبا المساعدة من الآخرين!".
يقول توماس ميرتون مؤلّف كتاب "طريق تشوانغ تزو": أحبُّ تشوانغ تزو لأنه على حقيقته، لا يهتمّ بالكلمات والصيغ، بل بالفهم الوجودي المباشر للواقع. فلسفته التي تغوص في صميم الأمور مباشرة أصيلة وعقلانية للغاية. كما أن طريقه غامض لأنه من البساطة بحيث يمكن أن يمضي المرء فيه دون حتى أن يعرف نهايته، فأنت تدخل هذا الطريق بعد أن تترك كلّ الطرق ثم تضيع فيه. أعتقد أنني معذور لمصاحبتي هذا المنعزل الصيني الذي يُشبهني ويشاركني عزلتي الهادئة".
ويضيف: بخيالاته الجامحة، ولغته الفكاهية وهرائه العذب، يُطلق تشوانغ العنان لروحه دون قيود، يختلط بالمجتمع التقليدي، لا يحتقر أمور الكون، ولا يجادل فيما يعتبره الآخرون صوابا أو خطئاً. الكثيرون يعتبرونه بمثابة أفلاطون بالنسبة لسقراط، وبولس بالنسبة ليسوع، ومنسيوس بالنسبة لكونفوشيوس، وأشوكا بالنسبة لبوذا. وتشوانغ تزو يسخر من المبادئ الكونفوشية الجامدة ويدافع عن المعنى لا عن الألفاظ، وعن الحكمة الحقيقية في الحياة اليومية".
ألّف تشوانغ تزو كتابا يحمل اسمه ويُعدّ اليوم أحد النصوص الأساسية للطاوية. كما تُعتبر قصّته "القارب الفارغ" من الكلاسيكيات المعروفة في العالم الطاوي، وهي استعارة رائعة لرسم خريطة لمياه الحياة.
إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية التي يتمتع بها تشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يطّلع على أعماله. ذات مرّة عبّر هايديغر عن إعجابه بالمقطع الذي يقول فيه تشوانغ تزو لمفكّر آخر وهما يسيران على ضفاف نهر: هل ترى كيف تصعد الأسماك إلى السطح وتسبح كما يحلو لها؟ هذا ما تستمتع به الأسماك حقّا". فيردّ صديقه: أنت لست سمكة، فكيف تقول إنك تعرف حقّا ما تستمتع به الأسماك؟!". فيردّ عليه تزو: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف ما الذي يستمتع به السمك؟!"
إن روح الدعابة الراقية والعبقرية الأدبية والبصيرة الفلسفية لتشوانغ تزو واضحة لأيّ شخص يتذوّق أعماله. كان ذا خيال واسع وشخصية نبيلة. ومثله مثل لافونتين الفرنسي، كان يزيّن تعاليمه بمفردات جميلة واستعارات غير عاديّة.
ذات يوم، رأى جمجمة فارغة بيضاء اللون، ولكنها ما زالت محتفظة بشكلها. فضربها بسوطه وقال لها: هل كنتِ ذات يوم رجلا طموحا أوصلته رغباته المفرطة إلى هذا المصير، أو رجل دولة أغرق بلاده في الخراب وهلك في معركة، أو بائسا ترك وراءه إرثا من العار؟! أم أنك وصلتِ إلى هذه الحال من خلال المسار الطبيعي للشيخوخة؟"
وبعد أن انتهى تشوانغ تزو من الحديث الى الجمجمة، أخذها ووضعها تحت رأسه كوسادة، ثم ذهب إلى النوم. وفي الليل، ظهرت له الجمجمة في الحلم وقالت له: لقد تحدّثت بشكل بليغ يا سيّدي، ولكن كلّ ما تقوله لا يشير إلا إلى حياة البشر ومتاعبهم. أما في الموت فلا يوجد شيء من هذا، لا يوجد سيّد أعلى ولا رعيّة أسفل. إن عمل الفصول الأربعة غير معروف. ولا يمكن لسعادة الملك بين البشر أن تتجاوز سعادتنا".
كان تشوانغ تزو يرى أن الناسك الذي يتمتّع بحالة ذهنية هادئة يستطيع أن يصبح واحدا مع الطبيعة، فيحلّق عاليا مع السحب العائمة والطيور. وإذا كان الرسّام يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يضع شخصية بشرية صغيرة في منظر طبيعي مهيب ليُظهر اختلاط الأنا بالطبيعة. وإذا كان الفيلسوف يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتجاوز الزمان والمكان وأن يتماهى مع اللانهائية والخلود.
وإذا كان الإنسان العادي يتمتّع بهذه الحالة الذهنية، فإنه يستطيع أن يتحرّر من الهموم والرغبات والحبّ والخوف. ولأنه واحد مع العالم، فإنه لا يعلّق على نفسه أهمية أكبر من أهميّة حشرة أو حصاة أو نبات ضعيف، ويستطيع أن يتجاوز الحياة والموت. وإذا كان المرء يستطيع أن يعتبر الموت رحلة عودة إلى الوطن، فإن أيّ شيء في هذا العالم لا يشكّل له أهمية كبيرة.
يقال إن الورثة الحقيقيين لفكر وروح تشوانغ تزو هم بوذيّو الزِن الصينيون في فترة تانغ (من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي). لكن تشوانغ تزو استمرّ في ممارسة تأثيره على الفكر الصيني المثقّف بأكمله، حيث اُعتُرف به كواحد من أعظم الكتّاب والمفكّرين في الفترة الكلاسيكية. وممّا لا شكّ فيه أن الطاوية المتطوّرة والصوفية لتشوانغ تزو ولاو تزو تركت بصمة دائمة على الثقافة الصينية بأكملها وعلى الشخصية الصينية نفسها.

Credits
archive.org
plato.stanford.edu

الأحد، أبريل 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه "الضوء الأخير"، يذكر ريتشارد لاكايو بعض الفنّانين الذين عاشوا طويلا وجعلوا من الشيخوخة مرحلة انتصار وابتكار. وكلود مونيه كان أحد هؤلاء. في العديد من لوحاته التي أنجزها في نهايات حياته، ومن بينها مجموعة من ثماني لوحات كبيرة الحجم لزنابق الماء، استطاع ان يكسر التقاليد المتّبعة في تصوير المناظر الطبيعية.
    في بعض هذه اللوحات تخلّى الرسّام عن المنظور ونقاط التلاشي، وركّز بدلا من ذلك على سطح بركته في بلدة جيفرني، ورسم مشهدا يُظهر الماء دون أيّ أرض تُضفي عليه طابعا محدّدا. ونتيجة لذلك، قد تبدو بعض هذه اللوحات محيّرة وتجريدية.
    كان مونيه يبتكر نوعا جديدا كليّا من الفضاء التصويري. فالبِركة مرآة تُرينا السماء والأشجار التي تعلوها، وفي نفس الوقت هي غشاء تطفو عليه زنابق الماء. كما أنها نافذة على الأعماق تنبض بالحياة وبخيوط طويلة من الطحالب والأعشاب المتموّجة. وكلّ ضربة فرشاة عليها أن تشير إلى بُعد أو أكثر من تلك الأبعاد المتشابكة.
    ونفس هذه الفكرة تنطبق على الإسباني فرانسيسكو دي غويا. فلو كان هذا الرسّام الكبير قد مات في أوائل الستّينات من عمره، لكان ما يزال يُذكر باعتباره فنّانا بارعا في رسم الصور الشخصية فحسب، ولكن ليس باعتباره واحدا من أكثر الفنّانين تأثيرا في جميع العصور.
    من نواحٍ عديدة، أسهم طول العمر في تعزيز استمرارية غويا. وبعض أروع أعماله وأكثرها شهرةً، كلوحاته السوداء الغريبة وسلسلة نقوشه المرعبة عن "كوارث الحرب"، أُنجزت في العقدين الأخيرين من حياته.
  • ❉ ❉ ❉

  • السمة المشتركة الأكثر شيوعا في القصص الخيالية هي انها تبدأ عادةً بالعبارة الافتتاحية "كان يا ما كان"، التي تتجاوز اللغة العربية واللغة الانغليزية (Once upon a time) الى عدد كبير من لغات العالم.
    ويُعزى أوّل ظهور لهذه العبارة في كتب القصص الى قصّة إنغليزية بعنوان" حياة وآلام القدّيسة جوليانا" التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1225.
    وحقيقة أن كلّ اللغات تقريباً لديها عبارة واحدة مثل هذه، تبدأ بها القصص الخيالية وتزيل من تلك القصص أيّ أثر للحاضر والماضي، ليست مصادفة. بل إنها في الواقع تخدم غرضاً مفيدا، لأنها بحسب الكاتبة ماريا كونيكوفا تخلق "مسافة وغموضاً" وتوفّر "دعوة للخيال والتخيّل" وتتيح للقرّاء أن يعرفوا على الفور أن القصّة ستزدهر بالخيال وستنتهي نهاية سعيدة.
    ومن الأسباب الأخرى لرواج العبارة أن بدء قصص الخيال بكلمات نمطية يجعل القرّاء يدركون على الفور نوع القصّة التي ستدور حولها الأحداث، تماما كالمعلومات التي يتلقّاها المشاهد في الثواني القليلة الأولى من مشاهدة فيلم للرسوم المتحرّكة.
  • ❉ ❉ ❉

  • "على شَفا الفناء التام في الله، هناك منطقة من الارتباك العذب، شعور بالتواجد في أماكن متعدّدة في آن واحد، ونطق لجمل متعدّدة، غموض مذاب وهشّ وشبه فارغ، وجهل عميق يبدو فيه السلوك التقليدي الهادئ ضرباً من الجنون".
    قصائد الرومي ليست حدائق مصغّرة وأنيقة، بل هي أشبه ما تكون "بلوحات على الطراز التركماني، مليئة بالحركة المفاجئة والزهور والشجيرات الغريبة والشياطين والحيوانات الناطقة"، على حدّ وصف المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كان ذئب يلتهم حيوانا قتَلَه، وفجأةً علِقت عظمة صغيرة من اللحم في حلقه، فلم يستطع بلعها. شعر الذئب بألم شديد وراح يركض جيئةً وذهابا وهو يئنّ ويتأوّه باحثا عن شيء يخفّف الألم. وتوسّل لكلّ من قابلهم بأن يُخرجوا العظمة من حلقه قائلا: من يساعدني سأفعل له أيّ شيء يطلبه".
    وأخيرا وافق طائر "كرَكي" على المحاولة، وطلب من الذئب أن يستلقي على جنبه وأن يفتح فكّيه قدر استطاعته. ثم أدخل رقبته الطويلة في حلق الذئب، والتقط العظمة بمنقاره وأخرجها. ثم قال الكركي للذئب: والآن هل تتكرّم بإعطائي المكافأة التي وعدتني بها؟".
    ابتسم الذئب وكشّر عن أنيابه وقال: إرضَ بنفسك، لقد وضعتَ رأسك في فم ذئب وأخرجته سالما، فاشكر الله على ذلك". ومنذ ذلك الوقت والناس يستخدمون عبارة "من فم الذئب"، دلالةً على الشيء الذي ينطوي فعله على مخاطرة كبيرة.
  • ❉ ❉ ❉

  • في العصر الذهبي للفنّ المادّي "أي اللارقمي"، كانت لوحة الموناليزا، بابتسامتها الغامضة، تجتذب الحشود من كلّ حدب وصوب. وكان الناس ينتظرون دورهم بصبر وقلوبهم تنبض بالإثارة لمجرّد الوقوف أمام تلك اللوحة الصغيرة الآسرة. وكانت ضربات ليوناردو دافنشي تحمل في طيّاتها قصّة تكشف عن دقّة الفنّان وإتقانه للعبة الضوء والظلّ.
    كان الفنّ تجربة حميمة تتفاعل معها كلّ الحواسّ. وكانت كلّ ضربة للفرشاة أشبه بضربة على قماش عقل الناظر. وكانت ضربات فينسنت فان غوخ الجريئة والمتموّجة يتردّد صداها في عالمه الداخلي المضطرب، في حين كانت ضربات فرشاة مونيه الدقيقة تدعونا إلى المناظر الطبيعية الهادئة التي يصوّرها خياله. وكان استخدام رمبراندت المعبّر للضوء والظلّ ينقلنا إلى أعماق المشاعر الإنسانية.
    عندما يقف المرء أمام لوحة، يدور حوار بينه وبين العمل الفنّي. حيث تتتبّع العين الخطوط والألوان وتنتبه للتفاصيل الدقيقة وتبحث فيها عن معنى وتتخيّل كيف تتدفّق الألوان المائية وتتداخل معا في تناغم رقيق وكيف يمتصّ الورق حيوية الألوان مثل روح عطشى تتشرّب الجمال، وكيف تنزلق الفرشاة بسلاسة على السطح فتخلق مناظر طبيعية خلابة وصورا آسرة تلتقط جوهر اللحظة.
    كانت زيارة المعارض الفنّية تجربة تتجاوز قطع الفنّ المعروضة لتمتدّ الى الهندسة المعمارية والجوّ الذي يحتضن العمل الفنّي. وأصبحت عظمة المتاحف وقاعاتها الأنيقة مسارح لسيمفونية من الإبداع، حيث الممرّات المقوّسة والأرضيات المبلّطة وغيرها من العناصر الفنّية الجاذبة.
    الآن تغيّرت تجربة الفنّ. فقد أصبحت المنصّات الرقمية مستودعات ضخمة لعدد لا يُحصى من الرسوم التوضيحية واللوحات والصور الفوتوغرافية. وبمجرّد تمرير إصبعك، تمرّ الصور أمام عينيك في تتابع سريع ويصبح تأثيرها عابرا وزائلا. ويضيع العمق والملمس وتَجسّد الفنّ في شاشات أجهزتنا البكسلية.
    لا شكّ أن اللوحات الرقمية تتمتّع بسحر خاص. فهي تتيح لك الاستمتاع الفوري، مع القدرة على تصحيح الأخطاء بنقرة زرّ واحدة واستكشاف مجموعة واسعة من الأدوات والتأثيرات. كما أنها جعلت الفنّ متاحا لجمهور أوسع. ولكن وسط هذه الراحة، فقدنا شيئا مهمّا، فقد ولّت أيّام التفكير في اللون المثالي وخلط الألوان بعناية لتحقيق اللون المطلوب. ولم يعد بوسعنا أن نتلذّذ بفوضى الإبداع الفنّي التي من شأنها أن تملأ الغرفة بالشغف. لقد حلّت الشاشات الأنيقة والأقلام محلّ التجربة الملموسة للعمل بالوسائط المادّية.
    وبينما نحتضن مزايا الفنّ الرقمي، يتعيّن علينا أن نتوقّف لنتأمّل الكنوز غير المحسوسة التي قد نتركها وراءنا. إن المادّية التي يتّصف بها الفنّ التقليدي، بما يتضمّنه من نسيج ملموس وضربات فرشاة دقيقة وحضور كبير، يتمتّع بجاذبية معيّنة لا يمكن تكرارها في عالم الفنّ الرقمي.
    في سعينا نحو التقدّم، يتعيّن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نفقد شيئا ثمينا عندما ننتقل إلى عالم الرقمية؟ هل نضحّي بثراء الفنّ المادّي ولمسته الإنسانية المتأصّلة والارتباطات العميقة التي يمكن أن يثيرها؟ وبينما نتنقّل في المشهد الفنّي المتطوّر باستمرار، يجب أن نحقّق التوازن ونحافظ على جوهر أشكال الفنّ التقليدية مع احتضان الإمكانات التي يجلبها الفنّ الرقمي.

  • Credits
    worldwidewords.org
    meer.com

    الجمعة، أبريل 25، 2025

    القدّيسة المنتقمة


    في بدايات العصور الوسطى، سيطر الڤايكنغ على طرق التجارة الروسية وزوّدوا أوروبّا الغربية بالفضّة الإسلامية لقرنين من الزمان. ووفقاً لبعض المؤرّخين، قبلت مجموعة من الڤايكنغ بقيادة أمير حرب يُدعى ريوريك دعوةً من اتّحاد القبائل السلاڤية والفنلندية "للحضور وتولّي الحكم عليهم". كان السلاڤ والفنلنديون في حالة حرب فيما بينهم، واحتاجوا إلى طرف محايد لإحلال السلام والنظام في بلدهم.
    وفي عام 862، وصل ريوريك وعشيرته إلى شمال غرب روسيا وأقاموا قواعد لسلطتهم في عدّة مدن. وبحلول عام 879، استولى أوليغ، أحد أفراد عشيرة ريوريك، على كييڤ معلناً أنها ستكون "أمّ المدن الروسية".
    أمضى أوليغ وخليفته إيغور ولايتهما في إخضاع القبائل الواقعة على طول منابع الأنهار الرئيسية، فأخضعوا كلّ قبيلة لنظام جباية ضرائب بدائي، حيث كان أمراء كييڤ يجمعون "الجزية" على شكل فراء وشمع وعسل وعبيد من مختلف القبائل. وكانت الغنائم تُرسل إلى كييڤ، حيث تُحزم في زوارق كبيرة مصنوعة من جذوع الشجر وتُنقل كلّ ربيع عبر نهر الدنيبر إلى البحر الأسود.
    كانت الوجهة النهائية للأسطول التجاري هي القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية. وبالطبع أدرك الأباطرة البيزنطيون خطر فتح أبواب عاصمتهم أمام حشود الڤايكنغ الذين كانوا بحاجة إلى إقناع القسطنطينية بفوائد التجارة السلمية معهم. وبناءً عليه، هاجم "الڤايكنغ الروس" القسطنطينية خمس مرّات (860 – 944) في أقلّ من قرن. ونتج عن هذه الحملات توقيع معاهدات تجارية بين كييڤ والقسطنطينية.
    في تلك الفترة، كانت تعيش في بلاط كييڤ امرأة تُدعى "أولغا"، أو هيلغا في اللغة الإسكندنافية، وكانت شاهدة على بعض تلك الأحداث. وقد انضمّت هذه المرأة إلى عائلة ريوريك عندما تزوّجت من إيغور عام 903. وبينما لا يُعرف سوى القليل عن سنواتها المبكّرة، يُذكر أنها ولدت في بسكوف، وهي بلدة تقع على الحدود الإستونية الروسية. ولم يرد ذكر أولغا مرّة أخرى حتى عام 942، عندما أنجبت ابن إيغور، سفياتوسلاف.
    لكن الأكيد أن حياة أولغا تغيّرت فجأةً بوفاة زوجها إيغور العنيفة على يد إحدى قبائله الخاضعة له. ففي عام 945، سعى إيغور ورجال حاشيته إلى مستوى معيشي أفضل، فابتزّوا جزيةً ضخمةً على غير العادة من قبيلة سلافية تُدعى الدريڤليان وتسكن منطقة مروج وغابات في شمال غرب كييڤ. وعندما لم يرضَ إيغور بالمبلغ الضخم الذي جُمع، قرّر العودة لأخذ المزيد من المال. ولمّا علم زعيم الدريڤليان بقرب وصوله، حذّر رجاله قائلاً: إذا تسلّل ذئب بين الغنم، فسيأخذ القطيع كلّه شاةً بعد أخرى، ما لم يُقتل. وإن لم نقتله الآن فسيُبيدنا جميعا".
    ثم نُصب لإيغور كمين محكم وقُتل. كانت أفعال الدريڤليان ردّ فعل منطقيّا على تصرّفات إيغور، فقد كان قد جمعَ الجزية السنوية بالفعل. وعودته للحصول على المزيد من الجزية بهذه السرعة كانت انتهاكا للتقاليد أفقدَ إيغور شرعيّته عند رعيّته الخاضعين له.
    كان خليفة إيغور، سفياتوسلاف، ما يزال طفلاً، ما استلزم تولّي أمّه الأرملة، أولغا، الوصاية على العرش. وكان لا بدّ من اتخاذ إجراءات فورية ضد الدريڤليان لأنهم هدّدوا المملكة والسلالة على حدّ سواء. ويُعدّ تعامل أولغا مع المتمرّدين، والمعروف بـ "انتقام أولغا"، أحد أكثر الأحداث إثارةً في تاريخ السلاڤ الشرقيين.
    بعد دفن إيغور تحت تلّ كبير خارج عاصمة الدريڤليان، قرّر أميرهم التقدّم بطلب الزواج من أولغا بهدف السيطرة على الصغير سفياتوسلاف. والتقت أولغا بوفد الدريڤليان خارج أبواب كييڤ، وأجابت بأنها مهتمّة بالعرض، لكنها ترغب في تكريم الوفد في حفل عام في اليوم التالي، حيث سيُنقلون في قواربهم. وشعر الدريڤليان بالرضا، فانسحبوا إلى معسكرهم.
    وبناءً على أمر أولغا، أمضى الكييڤيون الليل في حفر خندق عميق في مدينتهم. وفي اليوم التالي، حضر وفد الدريڤليان بملابس فاخرة، مطالبين بنقلهم إلى المدينة على متن قواربهم الخشبية. ووفقاً للخطّة، أُلقيت القوارب في الخندق ودُفن الرجال أحياءً. ثم أرسلت أولغا إلى أمير الدريڤليان تطلب فرقة من أفضل رجاله لمرافقتها إلى عاصمة الدريڤليان.
    ولم يكن أميرهم على علم بالمذبحة التي حلّت بوفده الأول، فامتثل لرغبات عروسه المستقبلية. وعندما وصل أفضل رجاله إلى كييڤ، دعتهم أولغا للاستحمام قبل رؤيتها. ولكن بمجرّد دخولهم الحمّام الكبير، أُضرمت فيه النار وأُحرق الرجال أحياءً. ثم انطلقت أولغا إلى عاصمة الدريڤليان، وبينما كانت تقترب من أبواب المدينة، طلبت الأرملة الحزينة إقامة "وليمة جنازة" عند التلّ الذي دُفن تحته إيغور.
    وبينما كانوا لا يزالون غافلين عن مصير الوفود التي سبق أن أرسلت إلى كييڤ، انضم إليها الدريڤليان بسعادة في وليمة كبيرة تناولوا فيها كميّات وفيرة من المشروبات الكحولية. وعندما تمكن منهم السُكر، ذبحت أولغا وجيشها أكثر من خمسة آلاف دريڤلياني ثمل. لكن خطّتها بالانتقام منهم لم تنته بعد.
    ففي العام التالي، غزت أرض الدريڤليان نفسها. وفي معركة أخيرة، حاصرت عاصمتهم. وبعد عام، عرض الدريڤليان دفع الجزية، لكن لم يكن لديهم عسل ولا فراء، فماذا عساهم يقدّمون لها؟ طلبت أولغا ثلاث حمامات وثلاثة عصافير من كلّ بيت. وعند استلامها، علّق رجالها خرقة مغمّسة بالكبريت على أقدام كلّ طائر. وعندما عادت الطيور إلى أعشاشها في البيوت، أشعلت النار في المدينة وهلك الدريڤليان في منازلهم، وبذا اكتمل انتقام أولغا.


    كيف نفهم هذه الرواية التي تبدو خيالية وصعبة التصديق؟!
    لا ينبغي أن تُؤخذ حكايات العصور الوسطى المبكّرة عن الأرامل الحزينات في طريق الحرب على محمل الجدّ، إذ أنها استُخدمت كأداة أدبية من اجل الترفيه. وفي حالة أولغا، كان الهدف إظهار التحوّل الأخلاقي الكبير الذي حدث لها بعد اعتناقها المسيحية فيما بعد. ومن خلال وصف وحشية أولغا الوثنية، أبرز الكُتّاب الرهبان القوّة الإعجازية للتحوّل، تماما مثلما نسب الكُتّاب البوذيون أعمال القمع الوحشية إلى الإمبراطور الهندي "أشوكا" قبل اعتناقه المسيحية وتثمينه اللاحق لفكرة "الأهيمسا" أو اللاعنف.
    ومع ذلك، لا يعني هذا أن القصّة في أيّ من الحالتين أو كليهما محض خيال. إذ يوجد دليل مستقلّ على اغتيال إيغور الذي يُروى أنهم "أسروه ثم ربطوه بجذوع الأشجار ومزّقوه إلى نصفين". ومن المؤكّد أن الانتقام العسكريّ أعقب ذلك. ورغم هذا، تلعب قصّة انتقام أولغا دورا آخر كرمز أدبيّ يعيد تمثيل الطقوس الجنائزية الوثنية الإسكندنافية. فدفْن أفراد وفد الدريڤليان وهم أحياء في قواربهم، مثلا، يحاكي طقس الڤايكنغ في الدفن على متن السفن، حيث كان المتوفّى يُدفن غالبا في قارب مع قربان شعائري.
    وإحراق الوفد التالي في الحمّام يمثّل طقوس التطهير بالنار. وقتل جيش أولغا خمسة آلاف من العدوّ وهم مخمورون يمثّل طقس الوليمة الجنائزية المصحوبة بقربان. ومن المعروف أن أرامل المحاربين الإسكنديناڤيين كنّ يمارسن "الساتي"، أي عادة إحراق المرأة لنفسها عند موت زوجها، لكن هذا لم يكن خيارا متاحا لأولغا بسبب صغر عمر ابنها على الحكم.
    في عام 954، سافرت أولغا إلى القسطنطينية، حيث اتخذت خطوة تاريخية بالغة الأهمية كأوّل امرأة من عائلة ريوريك تعتنق المسيحية. ووفقا لبعض المصادر، أُعجب الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع بجمال الأميرة الكييڤية وذكائها، لدرجة أنه "أشار إلى أنها جديرة بالحكم معه في مدينته". وأجابت أولغا بأن هذا غير ممكن لأنها وثنية، "وإذا رغب في تعميدها فعليه القيام بذلك بنفسه، وإلا فإنها لن تقبل التعميد".
    وأجرى بطريرك المدينة مراسم التعميد وكان الإمبراطور بمثابة العرّاب لأولغا. وبعد التعميد، ذكّر الإمبراطور أولغا بعرضه للزواج منها. ففكرت مليّا في الأمر ثم قالت: كيف تتزوّجني بعد أن عمّدتني وسمّتني ابنتك؟ هذا محرّم بين المسيحيين كما تعلم أنت بنفسك". وعادت أولغا إلى كييڤ بمباركة من البطريرك مع هدايا ثمينة من الإمبراطور على هيئة "ذهب وحرير وفضّة ومزهريات متنوّعة".
    ويبدو أن أولغا كانت على علم بالتهديد المحتمل لاستقلال كييڤ خلال زيارتها للقسطنطينية. ويتضح تردّدها في رفضها الذكيّ لعرض الإمبراطور البيزنطيّ الزواج منها. وبهذه الطريقة، تجنبّت الغزو البيزنطي لكييڤ من خلال الزواج. وهذا كان واضحا من خلال سعيها الى مطالب محدّدة، مثل تعزيز الامتيازات التجارية، وربّما بناء كنيسة تتمتّع باستقلال ذاتي.
    لم يتحقّق هدف أولغا في إنشاء مؤسّسة كنسية في كييڤ إلا في عهد حفيدها ڤلاديمير. لكن فشلها ساهم على الأرجح في الحفاظ على استقلال كييڤ عن القسطنطينية. ويبدو أيضا أن نخبة المحاربين في كييڤ قاومت الدين الجديد. إذ يُروى أن أولغا قدّمت المسيحية الى ابنها سفياتوسلاف بقولها: لقد تعلّمت معرفة الله وأنا سعيدة بذلك. وإذا عرفتَ هذا فستفرح". فردّ عليها بقوله: كيف لي وحدي أن أقبل ديناً آخر؟ سيسخر مني أتباعي".
    في عام 962، بلغ سفياتوسلاف سنّ الرشد وبدأ حكمه في كييڤ. ومثل والده، كان الحاكم الشابّ محاربا، فدمّر دولة الخزر في منطقة الفولغا السفلى وحاول توسيع أراضي مملكته إلى بلغاريا في نهر الدانوب السفلي، ما أدخله في صراع مع الإمبراطور البيزنطي. وقد حكمت أولغا كييڤ في غياب ابنها الطويل، واهتمّت بأبنائه الصغار. وبعد ستّ سنوات، أثارت حرب سفياتوسلاف ضدّ الإمبراطورية هجوما شاملاً على كييڤ من قبل حلفاء البيزنطيين، أي الأتراك.
    كان الحصار الذي تلا ذلك طويلا، وتحمّل شعب كييڤ، بقيادة أولغا، الكثير من المشاقّ بينما بقي سفياتوسلاف في بلغاريا. واضطرّت أولغا، التي كانت قد أصبحت مسنّة، إلى الفرار بالقارب عبر نهر الدنيبر مع أحفادها. ثم عاد سفياتوسلاف، الذي بدا نادما على ما حدث، إلى كييڤ وطرد الجيش التركيّ منها. وتوفّيت أولغا بعد ذلك بوقت قصير بسبب تقدّمها في العمر. وكانت قد أمرت بأن ترتَّب لها جنازة وفقا للطقوس المسيحية.
    كان العقدان اللذان أعقبا وفاة أولغا فترة اضطرابات وعدم استقرار لابنها وأحفادها. ففي عام 972، قُتل سفياتوسلاف، بينما كان يواصل حروبه ضدّ الإمبراطورية البيزنطية، على يد الأتراك الذين احتفلوا بانتصارهم عليه بصنع كأس شرب مذهّب من جمجمته. وخاض أبناء سفياتوسلاف الثلاثة حربا أهلية طويلة فيما بينهم، أسفرت عن مقتل اثنين منهم وصعود الثالث، ڤلاديمير، حاكما أوحد على كييڤ.
    كان ڤلاديمير في بداية حكمه وثنيّا متديّنا. وقد رأى فرصة لتعزيز مكانته بتقوية علاقته بالإمبراطورية البيزنطية في أواخر القرن العاشر، عندما كان الإمبراطور يخوض حربا أهلية واحتاج إلى قوّات تدعم حملته في شبه جزيرة القرم.
    وفي مقابل الدعم العسكري، عُرض على ڤلاديمير الزواج من أخت الإمبراطور البيزنطي، وهو شرف عظيم لم يُمنح إلا لقلّة قليلة من الأجانب. ولم يهتم الإمبراطور بحقيقة أن ڤلاديمير متزوّج من ثلاث نساء ولديه ثلاثمائة جارية. كما منحه الإمبراطور حرّيةً واسعةً في تأسيس كنيسة رسمية في كييڤ. ولا شكّ أن اعتناق ڤلاديمير للمسيحية الأرثوذكسية عام 988 واعتمادها دينا رسميّا لمملكة كييڤ قد كفّر عن خطيئة الأمير كونه "وثنيّا ضالّا".
    رغم أن اولغا كانت قد فشلت أثناء حياتها في إقناع ابنها وأحفادها باعتناق المسيحية، إلا أن ذكرى إخلاصها للأرثوذكسية في سنواتها الأخيرة لعبت دورا لا يُستهان به في تحوّل العائلة في نهاية المطاف إلى المسيحية البيزنطية. وبعد قرون، ذكر كتّاب العصور الوسطى تقوى أولغا العميقة مرارا وتكرارا في كتاباتهم، فوصفوها بـ "أولغا القدّيسة" التي كانت "امرأة في الجسد، إلا أنها امتلكت شجاعة رجل" وبأنها "مشرقة بين الكفّار كلؤلؤة في الوحَل".

    Credits
    ebsco.com
    oldnorse.org

    الأربعاء، أبريل 23، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كيف انتقل الناس، في فترة زمنية قصيرة نسبيّا، من الشعور برعب حقيقي من الجبال إلى شعور بالنشوة في المرتفعات الجبلية الشاهقة؟ وكيف انتقل الشعراء من وصف الجبال بـ "الأورام والبثور" إلى استخدام تشبيهات إيجابية للجبال واعتبارها من تجليّات المجد الإلهي؟
    تذكر مارجوري نيكلسون في كتابها "من كآبة الجبال إلى مجدها" أن معظم الشعراء الذين تغنّوا بالجبال لم يفعلوا ذلك عن تجربة شخصية، بل ربّما كان تأثّرا بروح العصر الذي عاشوا فيه. ومن هؤلاء الشعراء الرومانسيون الذين نظروا الى الجبال بمزيج من مشاعر الرهبة والافتتان.
    وبالنسبة للشعراء والكتّاب الإنغليز في القرن السابع عشر، كانت الجبال عبارة عن نتوءات قبيحة تشوّه الطبيعة وتهدّد تناسق الأرض، كما كانت رموزا لغضب الله. لكن بعد أقلّ من قرنين من الزمان، تغنّى الشعراء الرومانسيون بجمال الجبال وارتفاعاتها الشامخة التي تسمو بالروح البشرية الى النشوة الإلهية.
    وتتناول المؤلّفة النهضة الفكرية في نهاية القرن السابع عشر التي أحدثت تحوّلا في النظرة الى الجبال من كونها عنصرا لا يجلب الا الكآبة والحزن الى عنصر يذكّر بسموّ الله وجلاله.
    كما تدرس أعمال كتّاب مختلفين من القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وتتتبّع أسباب هذا التغيير الجذري في إدراك الجبال وعملية حدوثه. وتقتبس من كلام الناقد جون راسكين قوله: يبدو أن الإغريق، كفنّانين، لم يكونوا على دراية بوجود الجبال في العالم. لقد صوّروا بشرا وخيولا ووحوشا وطيورا وجميع أنواع الكائنات الحيّة، ولكن لم يرسموا جبلا واحدا".
    وبحسب نيكلسون، لم تصبح الجبال الرموز الروحية التي نعرفها اليوم إلا في القرن الثامن عشر بين الشعراء والرسّامين الإنغليز، عندما بدأت هذه التشكيلات الطبيعية العالية والمنحوتة في إثارة مشاعر الرهبة والإجلال. وقبل ذلك، كان الناس ينظرون الى القمم الضخمة بتجاهل وخوف ويعتبرونها خشنة وقبيحة ومثيرة للاشمئزاز وعائقا أمام حركة الانسان.
    وفي القرن الحادي والعشرين، بدأنا نستمتع بوفرة من الصور التي تحتفي بكلّ قمّة جبل على وجه الأرض وتصوّر الجبال وهي محاطة بسحب هائلة تتخلّلها أشعّة الشمس أو وهي مشبعة بألوان تثير البهجة والسرور.
    وتذكّر المؤلّفة أن الصينيين أدركوا القيمة الجمالية للجبال قبل الأوروبيين بزمن طويل، بل لقد ابتكروا فنّ رسم المناظر الطبيعية في القرون الأولى قبل الميلاد، كما طوّروا تقليدا يحتفي بالقمم الجبلية الوعرة والأشجار والمعابد فيها. وقد استقى شعراء وحكماء الصين المعرفة والإلهام من هذه المشاهد في مطلع الألفية الأولى، أي قبل أكثر من ألف عام من اكتشافات الكُتّاب الإنغليز.
    وخلال السبعة عشر قرنا الأولى من العصر المسيحي خيّمت ظلمة الجبال على أعين البشر بسبب ما تعلّموه في المدارس وما سمعوه في الكنائس وما قرأوه في الكتب، لدرجة أن الشعراء لم يروا الجبال ولو للحظة وهي بكامل تألّقها ومجدها الذي اعتادت عليه أعيننا الآن.
  • ❉ ❉ ❉

  • ذات مرّة، وقعت جريمة قتل في بروكلين بأمريكا تسبّبت في إنهاء حياة رجل وغيّرت حياة رجل آخر إلى الأبد. الرجل الذي غيّرت حياته يُدعى ديريك هاميلتون. كان عمره 17 عاما عندما أُلقي القبض عليه بتهمة القتل. وكان هذا مرعبا بالنسبة له، لأنه لم يرتكب أيّ جريمة في حياته. وظنّ أن الحقيقة ستظهر في المحاكمة، لكن هذا لم يحدث.
    فقد رفض القاضي شهادة الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه إثبات براءته. وأُدين هاميلتون وحُكم عليه بالسجن 25 عاما. ثم استأنف القضية وتمّت تبرئته. لكن بعد ثمانية أشهر فقط، أُلقي القبض عليه مجدّدا بتهمة القتل وحُكم عليه ظلما بالسجن المؤبّد.
    وفي السجن، بدأ هاميلتون دراسة المحاماة وقرأ ما استطاع من كتب القانون. ثم درس قضيّته وقضايا عشرات السجناء الآخرين الذين أُدينوا ظلماً. ورغم أن 30 عاما سُرقت من حياته بلا مبرّر، إلا أنه استطاع مساعدة عدد لا يُحصى من الآخرين بخبرته القانونية التي اكتسبها بالعزيمة والمثابرة. وهو اليوم حرّ طليق.
    معظم الناس الذين يكملون محكوميّاتهم يذهبون الى المجهول وينشغلون بمداواة جروحهم. لكن ديريك لم يفعل ذلك. وهو معروف اليوم بأنه أكثر محامي السجون نشاطا وأحد أهمّ الأشخاص الذين يحاولون إصلاح العدالة الجنائية في أمريكا. وبفضل جهوده، تمكّن من إطلاق سراح ما يزيد على 100 شخص أُدينوا ظلما.
    وفي مقابلة معه، سُئل هاميلتون كيف تجاوزَ شعوره بالغضب والإحباط فقال: لا أظنّ أنني تجاوزت ذلك الشعور، إلا أنني قرّرت تحويله إلى شيء آخر".
    قصّة ديريك هاميلتون تعكس أحد المفاهيم الأساسية في الرواقية، وهو فنّ الرضوخ الذي يعلّم الإنسان تقبّل الأمور الخارجة عن سيطرته بدلا من مقاومتها. والرضوخ لا يعني قبولا سلبيّا ولا استسلاما، بل يعني تَقبُّل الوضع والبحث عن طريقة ما للتغلّب عليه.
    كان الرواقيون يعتقدون أن الكون يحكمه نظام عقلاني وإلهي يُشار إليه عادة باسم "لوغوس" أو القدَر. وأنه بينما لا نستطيع التحكّم في الأحداث الخارجية عندما تُلقي بنا الأقدار في مهبّ الريح، إلا أننا نستطيع ضبط ردود أفعالنا تجاهها وخوض تحدّيات الحياة بصبر وحكمة وأناة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • ينتمي إرنست لودڤيك كيرشنر إلى مجموعة من الفنّانين الألمان الذين استخدموا الإمكانيات التعبيرية للألوان والأشكال والتوليفات ووظّفوا هذه العناصر في الرسم لتصوير الحياة الحضرية الحديثة في أوائل القرن العشرين.
    وُلِد كيرشنر في ألمانيا عام 1880 وقضى معظم طفولته في فرانكفورت. وعندما تخرّج من المدرسة الثانوية حصل على جائزة أفضل طالب فنون. ثم بدأ دراسة الهندسة المعمارية في دريسدن ولاحقا في ميونيخ. درس أعمال الانطباعيين ثم أسّس مع زملائه الطلاب في دريسدن جمعية الفنّانين التعبيريين المسمّاة "الجسر" عام 1905.
    كان فنّانو هذه المجموعة يسعون إلى أصالة التعبير التي أحسّوا انها فُقدت بسبب ابتكارات الحياة العصرية. وقد تأثّر هؤلاء الفنّانون بالمدرسة الوحوشية وبالرسّام النرويجي إدڤارد مونك في تركيزهم على استكشاف الإمكانيات التعبيرية للألوان والأشكال والتوليف وتوظيفها في رسم صور الحياة المعاصرة.
    كان العديد من الفنّانين أعضاء "الجسر" يشعرون بالنفور من التصنيع ويرون أن الحياة العصرية تُبعد المجتمع عن السلوك الأصيل للعصور السابقة وأنه ينبغي تناول هذا الأمر في لوحاتهم. وقد ألهم التعبيريون الألمان نظرائهم في أوربّا الذين كانوا يحتقرون السلع المصنّعة التي حلّت مكان التقنيات التقليدية، ما أدّى إلى انخفاض الجودة والإبداع لصالح انخفاض الأسعار.
    في مراسلاته مع بعض أصدقائه، كتب كيرشنر أنه وجد دريسدن مكانا مثيرا للاهتمام ويزخر بشخصيات غير عادية تناسب تماما تصويره لحياة المدينة. وقد وجد هذه المدينة مزدحمة وشعر بأنه مضطرّ للسماح لها بأن تغمره وتأخذه في أيّ اتجاه تختاره.
    في الفترة من 1913 إلى 1916 رسم كيرشنر سلسلة من المشاهد لمدينة برلين، ولكن هذه اللوحة لشارع في دريسدن مكتظّ بالمشاة وبعربة ترام هي أحد أعماله الايقونية والمهمّة. ومن الواضح أن موضوعها هو الحشود الصاخبة والأضواء النابضة بالحياة في المدينة الحديثة.
    الشارع في الصورة مزدحم ويشعّ توتّرا. والجميع فيه منعزلون ووجوههم شبحية وأشبه ما تكون بالأقنعة وعيونهم فارغة. ضربات الفنّان الجريئة والمعبّرة والتجسيد المشوّه للشخصيات تثير شعورا بالاضطراب والحركة والطاقة المحمومة للحياة الحضرية في أوائل القرن العشرين.
    وبعض الشخصيات في اللوحة تبدو وكأنها تتقدّم باتجاه الناظر بوجوه تخلو من التعبيرات، بينما يبدو آخرون وكأنهم يبتعدون مديرين ظهورهم. وتحت أقدام المشاة يظهر شارع "ورديّ"، ولأنه لا يوجد ضوء أو ظلال في اللوحة، فإن الشارع يضيف الى المشهد شعورا بالاختناق.
    واختيارات الرسّام للألوان تعزّز الانطباع بأن الحياة في المدينة يمكن أن تكون مزدحمة ومزعجة ومليئة بالقلق. هكذا يرى كيرشنر الحياة العصرية في المدينة: لهاث لا يهدأ وبشر بتعابير شبحية ونظرات تائهة. وبإمكانك أن تجد شيئا مثل هذا في لوحات مونك التي صوّر فيها حياة المساء في شوارع أوسلو.
    في عام 1913، وبعد مشاجرة بين أعضائها، حُلّت جمعية الجسر. وبعدها بعامين أدّى كيرشنر الخدمة العسكرية الإلزامية، وأثناء ذلك أصيب بانهيار عصبي، ثم عانى مرارا من الاكتئاب، ما ترك آثارا على فنّه. وفي عام ١٩٣٣، صنّف النازيون لوحاته بأنها "فنّ منحط"، ثم باعوا أو أتلفوا المئات منها. وفي عام ١٩٣٨، انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه.
  • ❉ ❉ ❉

  • عند الزاوية، لديّ صديق
    في هذه المدينة العظيمة التي لا نهاية لها
    ومع ذلك، تمرّ الأيّام والأسابيع سريعا
    وقبل أن أنتبه، يمرّ عام.
    ولا أرى وجه صديقي القديم أبدا
    فالحياة سباق سريع ومرعب
    هو يعلم أنني أحبّه كثيرا
    كما في الأيّام التي كنت فيها اتّصل به ويتّصل بي.
    كنّا أصغر سنّاً وقتها
    والآن نحن مشغولان ومتعبان.
    سئمنا من هذه اللعبة الحمقاء
    سئمنا من محاولة صنع اسم.
    "غداً" أقول "سأزور "جيم"
    فقط لأُظهِر له أنني ما زلت أفكّر فيه.
    لكن الغد يأتي ويذهب
    والمسافة بيننا تتّسع وتكبر.
    عند الزاوية، على بعد أميال
    "هذه برقية يا سيّدي"
    "توفّي جيم اليوم".
    هذا ما نناله ونستحقّه في النهاية.
    عند الزاوية، صديق فقدناه.
    هينسون تاون

  • Credits
    archive.org
    en.henze-ketterer.ch

    الاثنين، أبريل 21، 2025

    شبَكة بينيلوبي


    في لوحة "بينيلوبي والخاطبون"، يصوّر الفنّان جون وليام ووترهاوس مشهدا داخليّا لمنزل في إيثيكا القديمة باليونان، حيث تجلس "بينيلوبي" زوجة أوديسيوس، مرتديةً ملابس حمراء أمام نولها. وتظهر معها خادمتان تساعدانها في نسجها، كلّ منهما ترتدي لباسا زاهي الألوان. وبينيلوبي تدير ظهرها لنافذتين مفتوحتين يطلّ منهما مجموعة من الرجال الذين يتنافسون على كسب ودّها للزواج منها. وأربعة من هؤلاء يقدّمون لها قيثارة وباقة زهور وصندوق مجوهرات وقلادة عنق.
    ترى ماذا يفعل المرء بعد غياب عشرين عاما عن موطنه وبيته؟ أوديسيوس، زوج بينيلوبي، قضى عشر سنوات مشاركا في حصار طروادة وعشرا أخرى في تجواله. هل يقضي ليلته الأولى بعد عودته في النوم مع زوجته أم في سرد قصّة رحلاته الطويلة عليها؟ طلبَ أوديسيوس مشورة الإلهة أثينا، فنصحته بكلا الأمرين ومنحته وقتا طويلا ولم تكن هناك ليلة كتلك من قبل.
    النظر إلى الحياة البشرية بعيني رجل يحاذر الوقوع في المخاطر أمر مأساوي. لكن النظر إلى الحياة بعيني آلهة جبل الأوليمب لا يخلو من لمسة فكاهية. ومن بين جميع الشعراء، استطاع هوميروس أن يرى الأمر من كلا الزاويتين.
    الأوديسّا قصّة مغامرة، وهي أيضا قصّة حقيقية وعميقة عن البشر وعلاقاتهم؛ العلاقة بين الابن وأمّه والابن وأبيه وبين الرجل وزوجته.. وهكذا. وكلّ هذه الروابط الإنسانية يتناولها هوميروس بتحليل مكثّف قلّما رأينا مثله منذ ثلاثة آلاف عام.
    هوميروس يدرك أن الفوز في أصعب المغامرات البشرية يتطلّب من الإنسان أن يخوض أعتى المعارك. وأثناء تلك المعارك، يسترخي الآلهة الخالدون في قمّة جبل الاوليمب على مقاعدهم الوثيرة، يشربون من كؤوسهم الذهبية، ويبتسمون لغرور وطموح هذه المخلوقات البشرية الصغيرة أسفل منهم، متأمّلين حبّهم وكرههم ورغباتهم ومخاوفهم.
    لعشرين سنة، وبينيلوبي زوجة أوديسيوس الوفيّة تنتظر عودته، راجيةً أن يكون ما يزال على قيد الحياة وأن تتاح لها رؤيته من جديد. لكن ما يزال على أوديسيوس أن يتصالح معها ومع أثينا. الإلهة تحبّه وتعتبره إنسانها المفضّل. ولحسن حظّ أوديسيوس، فإن حبّ أثينا له لا يخالطه غيرة أو كراهية.
    غاب أوديسيوس طويلا وعاد الى موطنه متنكّرا في زيّ رجل متسوّل رثّ الثياب، ليجد أن أكثر من مائة شخص قد استولوا على منزله وأخذوا يتنمّرون على زوجته، وكلّ منهم يخطبها لنفسه ويريدها أن تتزوّجه.
    وخلال فترة غيابه الطويل، بدأ الخاطبون يشكّون في أنه قد مات في طروادة أو أثناء عودته الى الوطن. وتحت ذريعة التودّد إلى بينيلوبي، اتخذوا مقرّ إقامتهم في منزل أوديسيوس وتنافسوا على طلب يد زوجته للزواج. وكانت ملزمة، بموجب قوانين الضيافة في أثينا، بإطعام هؤلاء الأوغاد وتسليتهم. كانوا يتسكّعون حولها ويأكلون في منزلها.
    وبدلا من رفضها لهم، وضعت بينيلوبي خطّة لتأخير قرارها، فزعمت أنها ستختار زوجا بعد أن تنتهي من نسج كفن لتقديمه إلى والد أوديسيوس. ولمدّة ثلاث سنوات، كانت تغزل الكفن نهارا ثم تنكث غزلها ليلا بانتظار عودة زوجها.
    كانت تلعب أمام الخاطبين الثقلاء دور العروس المحتملة والمطيعة، بينما ترسّخ نفسها سرّا في قصّتها الخاصّة. وهي في اللوحة تنحني فوق عملها، لا لتختبئ، بل لتُخفي سعيها للحفاظ على نفسها. كما أنها تدرك ما يحيط بها، لكنها تواصل خداعها المحفوف بالمخاطر. وعندما يعلم الخاطبون من إحدى خادماتها أنها تماطل وتخدعهم، يلحّون عليها باختيار زوج من بينهم على الفور.
    أوديسيوس، من ناحيته، احتاج إلى بعض الوقت ليضع خطّة تمكّنه من التغلّب على أولئك المتطفّلين دون أن يَلحق به أو بأهله أذى. ولو كشف عن هويّته لزوجته، لربّما حدثت عواقب غير متوقّعة، لذا أبقى بمكرٍ هويّته سرّا. كان أيضا يريد أن يتأكّد من أن بينيلوبي ما تزال تريده وأنها لا تخطّط للزواج من أحد أولئك الخاطبين المزعجين.
    نسجُ بينيلوبي كان هِبة من أثينا وكانت له معان متعدّدة في الأوديسّا. فمن ناحية، يمكن فهمه من منظور السرد الشعري للملحمة، لأن أيّ قصّة عظيمة هي في الواقع حكاية منسوجة بالكلمات كالخيوط. وكان نسجها رحلة عبر الزمن وحتى اللحظة التي يعود فيها أوديسيوس. وبتنقّلها ذهابا وإيابا على خيوط النول وفكّها تلك الخيوط نفسها كلّ ليلة، كانت تنسج طريقها إلى الأمام.


    كانت تسافر كلّ يوم على أصابعها متحدّية فكرة أن الحياة تحدث فقط في العالم الخارجي وأنه لا يحدث شيء ذو قيمة خارج أنشطة البشر الجماعية. الكثير من الأرواح العظيمة ازدهرت في زنزانة أو سجن أو ضاحية، لكن يجب أن تكون هناك رؤية لما يحدث وأفكار عميقة لخلق التجربة.
    ونسجُ بينيلوبي ونقضها الصبور يمثّلان مفارقة في رحلاتها. فإلغاء ما فعلته يعني العودة إلى الوراء والبدء من جديد. وفكّ الخيوط هو ما يُبقي القصّة مستمرّة لأنه يتطلّب غزل خيوط جديدة. كما أنه يمثّل استعارة لمواقف وعادات وأُطر ذهنية قديمة. وعمل بينيلوب على النول يعني السفر إلى أعماق الذات حيث تتلاقى الخيوط بطريقة تُشعل نور التجربة العميقة.
    وبينيلوبي تستخدم مهارتها في النسج لغايتين، الأولى إبعاد أولئك الخاطبين المزعجين والثانية خلق شيء ما: نسيج خاص لغرض محدّد؛ كفن مخصّص لقبر حماها. إنها تنسج الموت في الحياة، وبنقضها الكفن كلّ ليلة، فإنها أيضا وبطريقة ما، ترفض احتمال الموت. ووراء كلّ هذا أمل، ورفض بأن تتقبّل فكرة موت زوجها رغم غيابه الطويل.
    وكلّ كشف ليليّ للكفن يعكس حالتها النفسية، فهي ممزّقة بين الرجاء واليأس، لكنها لا تستسلم للهزيمة الكاملة. وبهذا التبديل بين الخيوط، خيطا تلو آخر، تعيد تأكيد ذاتها ووفائها باستمرار. في النهار، كانت تضيف إلى نسيجها بدقّة، وفي الليل، تُفكّ خيوطها، محافِظةً على توازن يجسّد ذكاءها وحكمتها. وهذا الاجتهاد والخداع الذكي يتماشى مع حبّ الإغريق للذكاء والمكر الشديدين.
    في هذه الملحمة الخالدة، تضع بينيلوبي خطّة ماكرة للبقاء على طبيعتها دون أن تنكسر، وفي نفس الوقت تبدع أسلوبها الخاص في سرد قصائد البطلات. وفي حين يُحتفى بأوديسيوس بسبب صراعه مع العالم، يجب الاحتفاء بالقوّة الهادئة لبينيلوبي التي تسخّر الفنّ كاحتجاج وتعلّم الآخرين درسا ثمينا في كيفية العيش بين واقعين والتمسّك بموقفها في حرب نفسية طويلة.
    كثيرا ما تثير الارتباطات الأنثوية بالزينة ونسج الأقمشة مخاوف من الأقنعة والحِيَل. كما أن ارتباط النساء بالقماش يستحضر ارتباطات النسيج كفنّ للخداع. وفي قصّة بينيلوبي، لم يكن النسج مجرّد هواية، بل كان أداة استراتيجية في سعيها نحو الاستقلالية والقوّة الداخلية. وبراعتها تشكّل أساسا للنقاشات حول القدرة على التأثير والمرونة والإيمان في مواجهة تحدّيات الحياة المتقلّبة وإثبات أن البطل الأضعف يمكن أن يقلب الموازين أحيانا دون أن يرفع سيفاً؛ فقط بكرة خيط.
    في لوحته، يحتفي ووترهاوس بـ بينيلوبي كرمز للإخلاص والبراعة. ولأن الفنّان رسم الصورة في انغلترا خلال الحرب العالمية الأولى، يمكن اعتبارها ذات صدى في سياق الحرب. فربّما تشير الى تحوّل الأدوار المنزلية مع إرسال الرجال إلى المعركة، وقد ترمز الى احتفاء الرسّام بصمود النساء ووفائهنّ على الجبهة الداخلية.
    بقيّة قصّة بينيلوبي معروفة، إذ يتصل أوديسيوس الماكر بأبيه العجوز وابنه تيليماكوس ويخطّطوون معا للانتقام من الخاطبين وينتصر أوديسيوس أخيرا عليهم بقتلهم. هل أخطأ أم أصاب في قراره بقتلهم؟ هذه مسألة نسبية وتعتمد على تفسير المرء للعدالة والأخلاق والقيم الثقافية السائدة في ذلك العصر.
    بحسب الأوديسّا، بعد أن يموت الخاطبون، وعند وصولهم إلى هيديز أو العالم السفلي، فإنهم لا يشتكون من أوديسيوس وسيفه العظيم، بل يشتكون من شبَكة بينيلوبي وخداعها لهم.

    Credits
    johnwilliamwaterhouse.net
    thearchetypaleye.com

    السبت، أبريل 19، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في مصنع يقع على أطراف المدينة، تعطّلت فجأة إحدى الآلات المهمّة، وساد الارتباك أرجاء المصنع. أومضت الأنوار ودوّت أصوات الإنذار وتوقّفت سيور النقل.
    واتصل مدير المصنع غاضبا بجميع المهندسين الذين يعرفهم. كان معظمهم مشغولين أو مرتبطين بمواعيد. ثم همس أحدهم: هناك شخص واحد يمكنه اصلاح الخلل. وهو معروف بأمرين: إصلاح الأعطال المستحيلة وتقاضي مبالغ طائلة مقابل ذلك".
    لم يضيّع المدير وقتا. اتصل رأسا بذلك الفنّي وطلب منه المجيء على الفور الى المصنع. وبعد نصف ساعة، دخلت سيّارة مغبرّة ومتهالكة إلى موقف سيّارات المصنع، وخرج منها رجل في الخمسينات من عمره، ضئيل وذو شعر أشيب ويحمل صندوق أدوات مكسّرا.
    لم يتحدّث الرجل كثيرا. مشى نحو الآلة مباشرة، دار حولها مرّة واحدة، فحصها ثم نقر عليها بمطرقة مطاطية صغيرة. وبعد بضع طرقات عادت الآلة إلى العمل. هلّل العمال وصفّقوا بينما رمشت عينا المدير في ذهول وقال: أهذا كلّ شيء؟ قال الفنّي العجوز: نعم، ثم استدار مغادرا بعد أن سلّمه الفاتورة.
    فتح المدير الورقة وتفاجأ عندما وجد مكتوبا فيها: عشرة آلاف دولار. دولار واحد لإصلاح الخلل و٩٩٩٩ دولارا لتشخيصه.
    العبرة من القصّة هي أن كميّة العمل ليست عنصرا مهمّا دائما، بل المعرفة والخبرة والبصيرة التي يوظّفها المرء فيه. أحيانا، نقرة واحدة تساوي عمراً من التعلّم.
  • ❉ ❉ ❉

  • عُرف الرسّام السويدي يوجين يانسن (1862-1915) بأسلوبه الفريد وبتصويره لمدينة ستوكهولم بمناظرها الطبيعية والحضرية. وُلد الرسّام في ستوكهولم وقضى حياته كلّها فيها. وعلى الرغم من أنه لم يسافر كثيرا، إلا أنه كان أحد أكثر الرسّامين إبداعا في بلده.
    في شبابه رسم لوحات الطبيعة الصامتة لكسب رزقه واعتمد أسلوبا طبَع مرحلة كاملة من عمله، فاعتمد على اللون الأزرق واختار شكلا تعبيريا فريدا من نوعه وموضوعا مميّزا هو رسم صور بانورامية لـ ستوكهولم.
    وقد أتقن يانسن رؤية هذه المدينة بجزرها ومياهها الممتدّة وفُتن كثيرا بالجوّ الأزرق والأثيري الذي ينبعث منها ليلا والذي أهّلهُ لنيل لقب "الرسّام الأزرق". وقد اعتبر أصدقاؤه أن الضوء الأزرق في صوره له علاقة وثيقة بطريقته في العزف على البيانو. كانت الموسيقى مصدر إلهام مهم له. وليس من المستغرب أن يطلق على العديد من لوحاته الزرقاء اسم "نوكتيرن" الذي استلهمه من شوبان مؤلّفه الموسيقيّ المفضّل.
    عاش يانسن في عزلة نسبية عن أكثر الفنّانين ابتكارا في عصره، ولم يكن على معرفة مباشرة بأعمال فنّانين مثل فان غوخ وغوغان وبيكاسو ومونيه وسيزان. ومع ذلك يمكن ملاحظة أوجه شبه مهمّة بين لوحاته ولوحات معاصريه في أوروبّا. وقيل انه رأى بعض أعمال إدفارد مونك في وقت مبكّر من عام 1894، وقد أثّرت على أعماله اللاحقة. كما كان قريبا من بعض الشخصيات الثقافية والأدبية والفنّية البارزة في بلده، مثل كارل لارسون وريتشارد بيرغ وغيرهما.
    ومع ذلك كثيرا ما قوبلت لوحاته بتشكّك الجمهور والنقّاد والمتاحف. وبالكاد كان يجد من يشتريها لكونها طليعية وثورية. لكن هذا لم يمنعه من الاستمرار والمثابرة. فقد كان فردانيّا وشغوفا ولم يكن على استعداد لتقديم أيّ تنازل عن النهج الذي اختاره.
    لوحته المشهورة "فوق" تُعتبر جزءا من الحركة الرمزية التي تركّز على المزاج والعاطفة بدلا من التجسيد الواقعي. وقد صوّر فيها جمال وجوهر منطقة وسط ستوكهولم المعروفة بـ "ريدارفجاردين"، وذلك بالتركيز على عناصر بعينها مثل مناظر المياه الهادئة والمباني المُضاءة وتفاعلات الضوء في وقت السحَر.
    غالبا ما تتميّز أعمال يانسن بألوانها الناعمة وبخلوّها من الأشخاص، وبتركيزها على جوهر البيئة والصدى العاطفي وتأثيرات الضوء والطابع الأثيري الذي يوحي بالحنين والشاعرية والألفة والتأمّل. كما أنه كثيرا ما يدمج أسلوبه بعناصر من الانطباعية، خاصّة في طريقة إمساكه بالضوء وتأثيراته الحالمة والشاعرية على المشهد الحضري للمدينة.
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • ظللت أفكّر في روعة احتواء هذا العالم على هذا العدد الهائل من الأرواح. في تلك الشوارع، الناس منهمكون في آلاف الأمور المختلفة: مشاكل مالية، مشاكل عاطفية، مشاكل مدرسية. يقعون في الحب ويتزوّجون ويذهبون إلى مصحّات الإدمان ويتعلّمون التزلّج على الجليد ويرتدون نظّارات ويدرسون للامتحانات ويجرّبون الملابس ويقصّون شعورهم ويولدون. وفي بعض البيوت، الناس يشيخون ويمرضون ويموتون، تاركين آخرين يحزنون. كان هذا يحدث طوال الوقت، دون أن يلاحظه أحد، وكان هذا هو الأمر الأهمّ حقّا. جيفري يوجينيدس
  • أظنّ أنّني لن أرى أبدا قصيدة جميلة مثل شجرة. الشجرة ينحني فمها الجائع على صدر الأرض العذب، وتنظر إلى الله طوال اليوم وترفع ذراعيها المورقتين بالدعاء، وربّما تحضن في الصيف "عشّاً" من العصافير في شعرها، وعلى صدرها يتساقط الثلج وتعيش بدفء مع المطر. القصائد هي من صُنع أناس حمقى مثلي، لكن الله وحده قادر على صنع شجرة! جويس كيلمر
  • الألم جزءٌ من الحياة. أحيانا يكون كبيرا، وأحيانا خفيفا، ولكنه في كلا الحالتين جزء من اللغز الكبير، من الموسيقى العميقة، من اللعبة الرائعة. للألم فعلان: يعلّمك ويخبرك أنك على قيد الحياة. ثم يزول ويتركك بعد أن يغيّرك. أحيانا يجعلك أكثر حكمةً، وأحيانا يجعلك أقوى. وفي الحالتين، يترك الألم أثراً لا يُمحى. جيم بوتشر
  • عندما لا تعرف ماذا تفعل، تكون قد وصلت إلى هدفك الحقيقي. وعندما لا تعرف أيّ طريق تسلك، تكون قد بدأت رحلتك الحقيقية! ويندل بيري
  • نحن لا نحلّل الإعلام على المرّيخ أو في القرن الثامن عشر أو ما شابه. نحن نرى بشرا حقيقيين يعانون ويموتون ويعذَّبون ويتضوّرون جوعا بسبب سياساتنا، ونحن كمواطنين في مجتمعات ديمقراطية نشارك فيها بشكل مباشر ونتحمّل مسؤوليتها.
    وما تفعله وسائل الإعلام هو ضمان عدم قيامنا بمسؤولياتنا وأن تُخدم مصالح السلطة، لا احتياجات الشعوب المعذّبة، ولا حتى احتياجات الشعب الأمريكي الذي سيُصاب بالرعب إذا أدرك حجم الدماء التي على يديه بسبب الطريقة التي يتمّ فيها التلاعب به وخداعه. نعوم تشومسكي
  • ❉ ❉ ❉

  • للوهلة الأولى، يشكّل الدكتور سوس والفيلسوف الرواقي سينيكا ثنائيا غريبا. أحدهما يُبهجنا بكلماته المرحة وصوره الخيالية، بينما يُثير الآخر فينا حكمة فلسفية عميقة عمرها ألفا عام. لكن وراء اختلافاتهما الظاهرية تكمن رسالة قويّة ومشتركة، فكلاهما يدعواننا لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع رحلة الحياة، ويذكّراننا بأن أعظم مغامراتنا وإحساسنا بالذات يبدأ من الداخل.
    الدكتور سوس يحثّ القارئ بابتهاج قائلا: جَبَلك ينتظرك، لذا انطلق!". لكنه يحذّرنا من مكان الانتظار، وهو عالَم مجازي يُقصد به التردّد والمماطلة والركود. ويردّد سينيكا هذا الشعور في رسائله، محذرّا من البحث عن السلام في المحيط الخارجي فقط: من يقضي وقته في اختيار منتجع تلو الآخر بحثا عن السلام والهدوء، سيجد في كلّ مكان يزوره ما يمنعه من الاسترخاء". ويؤكّد أن الرضا الحقيقي لا يتحقّق بتغيير بيئتنا، بل يُزرع في داخلنا بالنيّة الواعية والاختيار الموفّق.
    ويركّز كلا المؤلّفين على حقيقة جوهرية، وهي أن أعظم خطر في الحياة ليس الفشل؛ بل الجمود. ويذكّرنا الدكتور سوس بأن مسار الحياة نادرا ما يكون سلسا، لكنه دائما يستحقّ الخوض فيه.
    ويكمل سينيكا هذه الفكرة بالحثّ على اتخاذ إجراءات مدروسة نحو حياة ذات معنى بدلا من انتظار التغيير الخارجي بسلبية. وينصح بأنه لا توجد لحظة خالية من التحدّي وبأن ندرك أن المصائب غالبا ما تظهر فجأة وبأن المرونة من خلال التجربة ضرورية.
    هذان الصوتان يذكّراننا بأن مغامرة الحياة الحقيقية تتطلّب التوازن من خلال الطموح المعزّز بالوعي الذاتي والحماس المقترن بالتأمّل. سوس يدفعنا للأمام بشجاعة، "لكنك ستمضي قدما حتى لو كان الطقس قاسيا، ستمضي الى الأمام حتى لو كان أعداؤك يجوبون الشوارع، ستمضي قدما حتى لو نبحت عليك أخطر الكلاب". أما سينيكا فيرسّخ فينا اليقظة المنضبطة ويعلّمنا أن نستخدم الشدائد وقودا للنموّ لأنه "غالبا ما تمهّد النكسة الطريق لازدهار أكبر، والكثير من الأشياء تسقط لترتفع إلى آفاق أسمى".
    تأمّل حكمة الاثنين مجتمعة: الدكتور سوس يثير الحماس، وسينيكا يقدّم منظورا مستقيما، كلاهما يشجّع على اتخاذ القرارات الحاسمة ويذكّراننا بأننا نمتلك كلّ ما يلزم لتحويل العادي إلى استثنائي.

  • Credits
    musee-orsay.fr/en
    medium.com

    الخميس، أبريل 17، 2025

    الغرفة الحمراء


    من أشهر العبارات المنسوبة إلى هنري ماتيس قوله: هناك دائما زهور للذين يريدون رؤيتها". والمعنى المجازي لكلامه هو أن هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي تملكها ولا يملكها الآخرون، لكنك لا تراها. وأنت تفتقدها أو لا تعرف أنها موجودة لانشغالك بأشياء أخرى. وعندما تُلقي نظرة من حولك، فهذا قد يساعدك على الشعور بالامتنان لها ويذكّرك بأنها مؤقّتة وأنك تحتاج لأن تقدّرها وتعرف أهميّتها الآن وقبل أن تختفي.
    عندما نستكشف فنّ ماتيس أكثر، فإننا لا نكتشف رؤاه الثورية عن اللون والشكل فحسب، وإنما أيضا نتعرّف على أفكاره ورؤيته للحياة بشكل عام. كان شغوفا بالسفر، وكان للأماكن التي زارها تأثير مهم على فنّه. وقد ترحّل كثيرا في أنحاء فرنسا وركّز بشكل خاصّ على الجزء الجنوبي منها الذي ترك علامة واضحة على إدراكه للضوء والألوان.
    في السيرة التي كتبتها هيلاري سبيرلينغ لماتيس، تنقسم حياته الى فصول تحمل أسماء الأماكن التي عاش فيها. وهذا يُثبت أنه كان يستمتع بالانتقال من مكان لآخر أثناء بحثه عن إلهام لأعماله.
    وعندما كان مقتدرا ماليّا، ذهب إلى الجزائر وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والمغرب، كما زار روسيا وإنغلترا وأمريكا. وأمضى بعض الوقت في تاهيتي، حيث أُعجب كثيرا بالبحيرات وبالحياة البرّية الغريبة هناك. وكانت تلك الرحلات مصدر إلهام لبعض أهمّ أعماله.
    وفي لندن، درس أعمال رسّام المناظر الطبيعية الرومانسي وليام تيرنر الذي كان معروفا باستخدامه البارع للضوء والألوان لخلق أجواء وأمزجة.
    سافر ماتيس أيضا إلى كورسيكا والكوت دازور، حيث أصبحت ألوانه أكثر إشراقا. وقد عاش وعمل مع كتّاب وفنّانين بارزين، مثل جان كوكتو وراينر ماريا ريلكا وكلارا ويستهوف وأوغست رودان.
    كان يحبّ الطبيعة والحيوانات، وعلى الأخصّ القطط. كما كان محبّا للطيور وكان لديه حمام أليف كان يشتريه من الباعة على نهر السين. وظهرت بعض هذه الحيوانات والطيور في فنّه.


    في مرسمه في باريس الذي تطلّ نوافذه على حديقة دير، رسم ماتيس في عام 1908 أحد أهمّ أعماله في الفترة من 1908 إلى 1913. وكانت اللوحة "فوق" مخصّصة لتزيّن غرفة الطعام في قصر جامع التحف الروسي المشهور سيرغي شتشوكين في موسكو. كان الأخير تاجر أقمشة وراعيا وفيّا لماتيس. وقد كتب للأخير في عام 1910 يقول: الجمهور ضدّك لكن المستقبل لك".
    تُصوّر اللوحة، التي تَغيّر اسمها فيما بعد الى "الغرفة الحمراء"، منظرا داخل بيت لطاولة مغطّاة بقماش أحمر، وفوقه أوانٍ فيها فواكه وحلويات. وخلف الطاولة نافذة مفتوحة على منظر طبيعي، بينما يظهر على الجدار ورق حائطي مرسوم عليه أنماط وزخارف معقّدة. ويبدو قماش الطاولة الأحمر الفاخر بزخارفه الزرقاء النابضة بالحياة وكأنه يغوص في الحائط ويغطّي على الفضاء الثلاثي الأبعاد للغرفة.
    وللوهلة الأولى، يبدو المنظر غارقا في اللون الأحمر الطاغي، لكن عندما نتمعّن فيه أكثر سنبدأ في فهم التناغم الذي يحقّقه ماتيس باختياره المدروس والمقصود للألوان والأنماط.
    استخدام الرسّام للون الأحمر في الصورة جريء للغاية، إذ يغطّي كامل اللوحة تقريبا. ويقال إن اسمها كان في الأصل "تناغم باللون الأزرق". لكن ماتيس اضطرّ لأسباب إبداعية لتحويل اللون الأزرق إلى أحمر يشعّ طاقة وحياة، وأثبت أن تصرّفه ينمّ عن دراية وذكاء. فلم يُضِف اللون الأحمر حيوية ووهجا إلى المنظر فحسب، بل لقد أدّى الى تسطيح المنظور، ما خلق تأثيرا رائعا ثنائي الأبعاد.
    المنظور المسطّح يعزّز الشعور بالتناغم، وهذه سمة أخرى مميّزة لأعمال ماتيس. وبدلاً من خلق تصوير واقعي للمساحة، ركّز الرسّام على التوازن العام للتوليف باستخدام اللون والنمط بغرض توحيد عناصر اللوحة المختلفة، وهذه شهادة على رؤية الفنّان الثورية واحتفال بروحه المبتكِرة وقدرته على إدراك العالم وتصويره له بطرق جديدة ومثيرة للاهتمام.
    الاستخدام الجريء للألوان، بالإضافة الى المنظور المسطّح ووحدة الشكل، ملمحان يحملان تحدّيا لمعايير الرسم التقليدية. وقد أصبحت اللوحة فيما بعد مصدر إلهام للعديد من الفنّانين وساهمت بشكل كبير في تطوير الفنّ الحديث.

    Credits
    henrimatisse.org
    lrb.co.uk

    الثلاثاء، أبريل 15، 2025

    حديقة الإشراق


    بالنسبة للأوروبيين، وعلى مدى قرون، كان يوانمينغيوان، أو مجمّع القصر الإمبراطوري الواقع شمال غرب بيجين، ملمحاً أساسيا في أحلامهم عن الشرق. كان القصر مكانا للكثير من الخيال والدهشة إلى أن تعرّض للتدمير عام ١٨٦٠ على يد جيش من الإنغليز والفرنسيين. ومن وقتها، أصبح القصر وملحقاته رمزا لاستعباد الصين على أيدي القوى الأجنبية في القرن التاسع عشر، ومن ثمّ محورا للقومية الصينية الحديثة.
    ولم يكن من المستغرب أن يعود الزوّار الأوروبيون القلائل الذين رأوا المكان بالفعل قبل تدميره بروايات مليئة بالعجائب. وقد تفوّق الرهبان والرحّالة في العصور الوسطى على بعضهم البعض في سرد القصص التي تحكي عن جمال القصر والسلطة الهائلة التي كان يتمتّع بها "الخان العظيم".
    بُني قصر يوانمينغيوان، ومعناه بالصينية حديقة الإشراق، على مراحل مختلفة بدءا من أوائل القرن الثامن عشر وحتى تدميره. وكان في البداية ملاذا خلّابا للأباطرة الذين رغبوا في الهرب من حرارة المدينة المحرّمة والالتزامات الرسمية في بيجين.
    كانت الحديقة جنّة على الأرض لأباطرة تشينغ. كانت جميلة، فخمة، ومن صُنْعهم بالكامل وليست إرثا من السلالات السابقة. وقد صُمّمت المناظر الطبيعية لتشبه مشاهد من منطقة وادي اليانغتسي السفلي التي برز منها شعراء ورسّامون وأدباء صينيون مشهورون.
    في القرن الثالث عشر تمكّن التجّار والمبشّرون الأوروبيون من السفر إلى الصين. وكان قصر "الخان العظيم" محطّ اهتمام رواياتهم عن ذلك البلد. والوصف الأكثر شهرة له جاء على لسان ماركو بولو الذي وصل إلى بيجين عام 1266 وقضى هناك حوالي 24 عاما.
    وقد ذكر ماركو بولو أن قصر الإمبراطور ليس مجرّد مبنى واحد، بل مجمّع ضخم تبلغ مساحته حوالي أربعة أميال، ويضمّ بداخله العديد من القصور الرائعة الأخرى، وساحة مسيّجة يعيش فيها الخان مع عائلته. وهناك تلّ اصطناعي مزروع بالأشجار وبحيرة اصطناعية تعبرها جسور. ويمتلئ جزء كبير من المجمّع بالطيور والحيوانات البرّية، بحيث يتمكّن الإمبراطور من مطاردة الطرائد متى شاء دون مغادرة القصر أبدا. وفي وسط المبنى جرّة كبيرة يمكن للزوّار الشرب منها، وهناك مجموعة من تماثيل الطاووس بالإضافة الى أسد أليف يتجوّل بين الصالات.
    كما يذكر ماركو بولو أن أعمدة القصر الأربعة والعشرين صُنعت من الذهب، بينما نُحتت جرّة الشرب من أحجار ثمينة تجاوزَ ثمنها قيمة أربع مدن عظيمة، وكان ثمن كلّ لؤلؤة تزيّن معاطف رجال الحاشية حوالي خمسة عشر ألف فلورين.
    كانت الوفرة والجمال والثراء تعبيرات عن قوّة الإمبراطور الهائلة. وأمام عرشه، كان الزوّار يصمتون ثم يسجدون، مُؤدّين "الكوتو"، أي الركوع ثلاث مرّات والضرب مثلها على الرأس، كما ينصّ بروتوكول البلاط. كان عدد زوّار الخان من الأوروبيين قليلا، ولم يكن لديهم سوى سلوكهم الحسن لدعم مطالبهم المتواضعة بالتجارة والحقّ في التبشير بالإنجيل.
    كان ماركو بولو يلقّب بـ"المليون" لميله الى المبالغة. ولكن سواءً كانت شهاداته صادقة أم لا، كانت هناك حاجة لسرد الكثير من العجائب إذا ما أُريد للقصص أن تجد جمهورا.
    المبشّرون اليسوعيون في الصين اتّبعوا استراتيجية هرمية لتحويل أهل البلاد الى المسيحية. فبعد أن يُقنعوا البلاط الإمبراطوري باعتناق دينهم في البداية، كانوا يأملون لاحقا في تحويل البلاد كلّها الى الدين المسيحي. ولتحقيق هذا الهدف، قدّموا للإمبراطور نماذج متنوّعة من التكنولوجيا والفنون الأوروبية وعرضوا خدماتهم كرسّامين ورسّامي خرائط وعلماء فلك وصانعي ساعات وحتى صانعي مدافع.
    وقد شكّلت رسائل البعثة اليسوعية العائدة إلى فرنسا والمنشورة في باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر، المصدر الأكثر موثوقيةً للمعلومات عن الصين. كانت تلك الرسائل تُقرأ على نطاق واسع، خاصّة من قِبل المدافعين عن الامتيازات الملكية في إنغلترا وفي فرنسا. وأصبحت الصين بالنسبة لفلاسفة مثل فولتير نموذجا للحكم الرشيد والنظام الاجتماعي.
    وسمح تواجد بعض اليسوعيين في قصر الخان العظيم بوضع وصف شامل إلى حدّ ما للقصور والحدائق. وأشهر تلك الاوصاف يرد في رسالة كتبها الفرنسي جان دينيس أتيريه عام 1745 عندما كان يخدم كرسّام في بلاط الامبراطور.
    وقد أوضح أتيريه أن الإمبراطور استلهم لتصميم الحديقة، ولكي تظهر بجمال خاص، معالم من جميع أنحاء الصين والعالم، منها معابد من منغوليا والتبت، وقرية ومشهد لنهر من هونان، وحدائق من سوتشو وهانغتشو، ومجموعة من الأبنية على الطراز الأوروبّي. بل إن القصر كان به نسخة طبق الأصل من شارع صيني عادي مليء بالمتاجر والأكشاك والباعة المتجوّلين والزبائن والمتسوّلين. وكان الإمبراطور يتجوّل في تلك الأرجاء كما يحلو له، وكانت نساؤه يعقدن صفقات مع الخصيان الذين يلعبون دور البائعين.
    لكن أكثر ما كان يلفت الانتباه الفوضى الجميلة و"عدم التماثل" اللذان سيطرا على تصميم المكان. فلم تكن المسارات والجسور العابرة فوق البحيرات مستقيمة بل متعرّجة، ولم تكن الأبواب والنوافذ مربّعة الشكل بل دائرية أو بيضاوية أو على شكل أزهار أو طيور أو أسماك. ورغم أن هذا الوصف قد يبدو ساذجا، إلا أن أتيريه أقرّ بأنه "عندما تراه بنفسك، ستُفكّر بطريقة مختلفة وستبدأ بالإعجاب بالفنّ الذي صُمّم به هذا التباين".
    كانت حديقة القصر، بتنوّعها وشمولها، تمثّل كلّ ما هو موجود: الماضي والمستقبل والمواقع الغريبة والنباتات والحيوانات المذهلة والجبال الشاهقة والمحيطات والريف والمدينة. وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد لهذا الكون البديع والشخص الذي جُمعت له كلّ هذه التسلية. ولأن كلّ شيء كان مرتّبا بتناغم وسلام، كانت الحديقة دليلا واضحا على فضائل حكمه. ومن منظور التصنيفات الجمالية التي كانت شائعة في القرن الثامن عشر، كان كلّ هذا مثيرا للفضول.


    في رسائل اليسوعيين، استُبدلت لغة الجمال والرهبة في العصور الوسطى بانطباعات التعدّدية المبهجة. وتحوّل يوانمينغيوان إلى قصر "روكوكو"؛ إلى خزانة ضخمة مليئة بالتحف الفنّية وبآلات ومؤثّرات وخِدع بصرية.
    ويذكر أتيريه أن هناك خصوبة لا مثيل لها في روح الصينيين. في الواقع "أميل إلى الاعتقاد بأننا فقراء وعقيمون مقارنةً بهم". في حقبة سابقة، كانت هذه الخصوبة دليلاً على الفردوس. وكانت الفردوس أيضا حديقة يتجدّد فيها كلّ شيء باستمرار ودون عناء. وفي حقبة تالية، أصبحت هذه الخصوبة نفسها دليلاً على إنتاجية التربة الصينية وثروات الأسواق الصينية التي كانت تنتظر استغلالها من قبل التجّار الأوروبيين.
    وتمشيّا مع موضة الطراز الصيني، ساهم أتيريه في إلهام إنشاء حدائق بنفس الطراز في جميع أنحاء القارّة. فبعد سنوات قليلة فقط من نشر مذكّراته، بنى فريدريك العظيم منزلا صينيّا في سان سوسيس وشيّدت كاترين العظيمة قصرا صينيا في أورانينباوم وبنى أدولف فريدريك ملك السويد قصرا صينيا في دروتنينغهولم. وفي عام 1761، شيّد المهندس المعماري ويليام تشيمبرز معبدا يبلغ ارتفاعه خمسين مترا في حدائق كيو، بالإضافة إلى "بيت كونفوشيوس".
    كان تشيمبرز قد زار الصين من قبل. ففي شبابه، زار غوانتسو مرّتين في أربعينات القرن الثامن عشر على متن سفن تابعة لشركة الهند الشرقية السويدية. وقد درس هناك العمارة الصينية وفنون الحدائق. وفور عودته إلى أوروبّا، نشر عام ١٧٥٧ كتيّبا بعنوان "فنّ تصميم الحدائق عند الصينيين".
    وأوضح تشيمبرز أن هناك ثلاثة أنواع مختلفة من المشاهد في الحدائق الصينية: المبهج، والمرعب، والساحر". وفي حين أن المبهج والساحر يتوافقان مع تصنيف اليسوعيين، إلا أن تركيزه على المرعب كان أمرا جديدا تماما. وقد أصرّ تشيمبرز على أن هذه المشاهد المروّعة كانت تتضمّن أشجارا مشوّهة مزّقتها العواصف وصخورا متداعية وشلالات جارفة ومبانٍ التهمت النيران نصفها. وصُمّمت هذه المشاهد لاستثارة المشاعر المتسامية.
    وقد عاد تشيمبرز ثانية إلى حديقة الرعب تلك واستخدم قصر يوانمينغيوان كمثال توضيحي. وبعد وصفه للمتع التي تثيرها مسارات الحديقة المتعرّجة العديدة ومناظرها الساحرة، انتقل إلى "مشاهد الرعب": غابات كئيبة، ووديان عميقة لا تصلها الشمس، وصخور قاحلة، وكهوف مظلمة، وشلالات هادرة تتدفّق من الجبال في جميع الأرجاء".
    وفي البساتين "كانت ترفرف الخفافيش والبوم وكلّ طائر جارح وتعوي الذئاب والنمور والضباع في الغابات وتتجوّل الحيوانات شبه الجائعة في السهول وتُرى المشانق والصلبان والعجلات وجميع أدوات التعذيب. وفي أكثر أركان الغابة كآبة، حيث الطرق وعرة ومليئة بالأعشاب، وحيث يحمل كلّ شيء علامات هجرة السكّان، توجد معابد مكرَّسة لملك الانتقام، وكهوف عميقة في الصخور، ومنحدرات تقود إلى مساكن تحت الأرض مُغطّاة بالأغصان والشجيرات العالقة".
    بالطبع، كان وصف تشيمبرز الغريب لـ"حديقة الرعب" هدفا سهلا للسخرية. ومع ذلك، لم يكن من السهل كبح الحساسية التي كان وصف تشيمبرز تعبيرا عنها. فبالنسبة للكتّاب الرومانسيين في مطلع القرن التاسع عشر، كانت عجائب الشرق مصدرا لأحلام اليقظة الغريبة، وكان قصر الإمبراطور الصيني موضوعا مفضّلا.
    في أكتوبر 1797، تناول الشاعر الإنغليزي سامويل تيلر كولريدج جرعة صغيرة من الأفيون ثم قرأ صفحات من حكايات الرحّالة الى الصين في العصور الوسطى، قبل ان يغالبه النعاس. وعندما استيقظ كتب قصيدة تصف جنّة صينية سامية ألهمته الشوق والرهبة:
    "في زانادو أصدر قبلاي خان
    قراراً ببناء قبّة ابتهاج فخمة
    حيث جرى النهر المقدَّس "ألف"
    عبر كهوف لا يستطيع إنسان إدراك مداها
    أسفل إلى بحرٍ لا تطلع عليه شمس
    لذا أُحيطت عشرةُ أميالٍ
    من الأرض الخصبة بأسوار وأبراج
    ووُجدت هناك حدائقُ زاهرة بجداولَ مُتعرِّجة
    حيث أزهر كثير من شجر البخور
    هنا كانت غابات قديمة كالتِّلال
    تحتضن بقعاً خضراءَ مشمسة".
    من الواضح أن كولريدج كان يتحرّك في نفس المجال الشعري الذي تحرّك فيه تشيمبرز. فكهوف كولريدج التي "لا يستطيع إنسان إدراك مداها" ليست بعيدة كثيرا عن "كهوف تشيمبرز العميقة في الصخور". كما لم يبتعد هذا كثيرا عن الرواية التي قدّمها ماركو بولو نفسه ذات مرّة. وما رآه كولريدج في حلمه هو قصر قبلاي خان الذي زاره بولو.
    سياسيّا، يمكن قراءة قصيدة "قبلاي خان" على أنها تخلٍّ عمّا يُسمّى بـ "عبء الرجل الأبيض" ودعوة للمستعمرين والمستعمَرين لتبادل الأماكن. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن تشيمبرز سريعا في التخلّي عن نفسه. فقد أشاد بالصينيين، ليس فقط لرعبهم، ولكن أيضا لبهجة حدائقهم.
    في أغسطس 1793، وصل وفد ديبلوماسي بريطاني بقيادة جورج ماكارتني إلى بيجين بهدف فتح السوق الصينية الضخمة لتجارة السلع البريطانية الصنع. وعند وصولهم إلى القصر الإمبراطوري، متوقّعين بوضوح "تجربة سامية"، شعر الدبلوماسيون بخيبة أمل قويّة. وقال ماكارتني: ما رأيناه لا يرقى إلى مستوى الأوصاف الخيالية التي دسّها لنا الأب أتيريه والسير ويليام تشيمبرز على أنها حقائق".
    وقال شخص آخر في الوفد ان القصور كانت صغيرة ومزخرفة بشكل مبالغ فيه، و"ليست مجرّدة من الأناقة، بل في حال يُرثى لها من الاهمال". وأضاف أن جزءا كبيرا من المباني يتكوّن من أكواخ متواضعة. كما أن مسكن الإمبراطور نفسه وقاعة المحاضرات الفخمة، بعد تجريدهما من التذهيب والألوان الصارخة التي طُليا بها، لا يتفوّقان إلا قليلاً على حظيرة مزارع إنجليزي!". لكنه أشاد بـ "المزهريات الرائعة المصنوعة من اليشب والعقيق و"أرقى أنواع الخزف الياباني"، وآلات القمار، والساعات، والآلات الموسيقية الرائعة".
    في أربعينات القرن الثامن عشر في بريطانيا، بلغت موضة الطراز الصيني ذروتها. وبحلول التسعينات، غالبا ما كانت الأشياء الصينية تُعتبر مبتذلة، على الأقل بين الرجال ذوي الأذواق الكلاسيكية الجديدة. وكان الطراز الصيني، مثله مثل طراز الروكوكو الفرنسي أو العمارة القوطية الجديدة، يُعتبر متشاوفاً وزائفا.
    لم يُظهِر الدبلوماسيون البريطانيون حماسا حقيقيا إلا لحدائق وأراضي القصر الإمبراطوري. وقال ماكارتني واصفا حدائق المنتجع الصيفي الإمبراطوري إنها "من أجمل مناظر الغابات في العالم" وأضاف: عند وصولنا إلى قمّة إحدى التلال، انفتح أمامنا فجأة مشهد يمتدّ لعشرين ميلاً، كان مشهدا غنيّا ومتنوّعا وجميلا وساميا لم ترَ عيناي مثله قط".
    في صباح يوم 7 أكتوبر عام 1860، شقّت القوّات الفرنسية والبريطانية طريقها إلى قصر يوانمينغيوان. وعلى الرغم من أوامر القادة العسكريين، نهبَ الفرنسيون المجمّع، بينما سارع الإنغليز إلى عرض ما تبقى منه للبيع. وبعد عشرة أيّام، أحرقت القوات البريطانية المباني وما تبقّى من محتوياتها بالكامل. وكان لهذا التخريب سياق سياسي وعسكري تمثّل في انعدام انضباط الجيش الفرنسي ورغبة الانغليز في الانتقام من "المعاملة الوحشية" التي تلقّاها مجموعة من الرهائن على أيدي الصينيين.
    كانت القوّات الفرنسية هي التي نفّذت معظم عمليات النهب. لكن القادة الفرنسيين نفوا رسميّا أيّ تورّط لهم، وألقوا باللوم في ذلك على عصابة من الصينيين الذين رافقوا الجيوش الأوروبية.
    كان من بين من شهدوا تلك الأحداث اللورد إلجين الذي كان رجلا محافظا ومتشكّكا في الإمبريالية الجشعة، وكان أيضا من أتباع الشاعر كولريدج. وفي أكسفورد انجذب فكره إلى التكهّنات التجريدية الراقية، وقرأ أفلاطون وميلتون بالإضافة الى كولريدج. ومع ذلك، عندما واجه قصر يوانمينغيوان، أيقن أنه ليس القصر الذي وصفه كولريدج في قصيدته. فلم "يُغمض عينيه خوفا" ولم يشرب "حليب الجنّة". وبدلا من ذلك، شارك في إحراق المكان.
    عندما تطوّرت الأمور إلى فكرة حرق القصر، رفض القادة الفرنسيون أيّ مشاركة. وقال البارون غروس: إننا نتحدّث باستمرار مع الصينيين عن "حضارتنا" وعن "الخيرية المسيحية"، وتدمير القصر سيكون عملاً همجيّاً ومنافقاً".
    أما بالنسبة للجنود العاديين، سواءً البريطانيين أو الفرنسيين، فبمجرّد أن دخلوا بوّابات يوانمينغيوان، بدا وكأنهم في حلم. كانت تلك مملكة سحرية مليئة بكلّ الكنوز التي يمكن تخيّلها. ولم يكن الجنود قلقين مثل قادتهم من احتمال محاسبتهم، فاعترفوا بأفعالهم واستعانوا بخيالاتهم. قال أحدهم: لقد صُعقت وذُهلت ممّا رأيته، فجأة بدت لي ألف ليلة وليلة قابلة للتصديق تماما، كان كلّ شيء أشبه ما يكون بحكاية خرافية".
    وقال آخر: شعرتُ كأنني علاء الدين ممتلئا بالدهشة في قصره المسحور المرصوف بالذهب والألماس. ولوصف ما رأيته سأحتاج إلى إذابة جميع الأحجار الثمينة المعروفة في ذهب سائل ورسم صورة بريشة من الماس تحتوي شعيراتها على جميع خيالات شاعر من الشرق".
    وحدث الدمار النهائي في نوع من الهذيان. ركض الجنود من غرفة إلى أخرى باحثين عن الغنائم. كان هياجا ونهبا معربدا وكأن الجميع قد أصيبوا بجنون مؤقّت. وبدا الأمر كما لو أن الحرب التي تنبّأت بها "أصوات الأسلاف" في قصيدة كولريدج قد وصلت أخيرا، وأن الأوروبيين هم الشياطين الذين ينفّذونها.
    كان الأوروبيون قد وعدوا بـ "بداية جديدة" للصين و"مستقبل مشرق من التقدّم والتجارة الحرّة". لكن كان لا بدّ أوّلا من تدمير العالم القديم، إذ لا سبيل لنشر "الحضارة" إلا من خلال أعمال همجية. وقال بعض الانغليز: كان تدمير قصر الإمبراطور أقوى دليل على قوّتنا المتفوّقة، فقد أسهم في دحض قناعة الصينيين السخيفة بسيادة مُلكهم على العالم. ومع هذا النصر، برز الأوروبيون أخيرا كحكّام للعالم بلا منازع".

    Credits
    worldhistory.org

    الأحد، أبريل 13، 2025

    بونابرت في يافا


    بعض المؤرّخين يشبّهون غزو نابليون بونابرت لفلسطين بمرور نيزك ضخم لم يلبث أن اختفى مُحدثاً دمارا هائلا. كان الجنرال الفرنسي قد انطلق من مصر، وعند وصوله إلى يافا، تغلّب على مقاومة الحامية العثمانية المحلية واجتاح المدينة بقوّة ونهبها وقتل الآلاف من أهلها.
    وفي أعقاب تلك الفوضى، أصيب العشرات من الجنود الفرنسيين بالطاعون.
    في لوحة الرسّام أنطوان جان غروس "فوق"، نرى نابليون البالغ من العمر وقتها 29 عاما وهو يزور برفقة مساعديه جناحا في مستشفى في يافا يتواجد فيه جنود فرنسيون مرضى بالطاعون وبحال من البؤس والمعاناة. ويظهر الجنرال وهو يحاول تهدئة ذعر الجنود ويمدّ يده العارية ليلمس، دون خوف، خُرّاجا ملتهبا لجنديّ مصاب. وخلفه يقف ضابط يضع منديلاً على أنفه لحجب الرائحة، أو ربّما لوقاية نفسه من العدوى.
    أنهى غروس هذه اللوحة المليئة بالاستعارات والرموز في الأشهر التي سبقت تتويج نابليون إمبراطورا على فرنسا في كاتدرائية نوتردام. واليد الممدودة في اللوحة تمثّل يد يسوع التي تشفي من الجذام والعمى والصمم بمجرّد اللمس.
    لكن تلك اللمسة لم تجلب الشفاء لأن الجند كانوا بحاجة إلى أطبّاء، بدليل الجثث المتناثرة. كانت غاية بونابرت إظهار قدرته على رعاية المرضى والسير جنبا إلى جنب مع زملائهم الجنود، وكأنه يقول: انظروا! أنا بشر، لكنّي لا أخشى انتقال العدوى إليّ ولا يجب أن تخافوا أنتم أيضا".
    في المخيّلة الشعبية الاوربّية، يُعتقد أن الطاعون - واستطرادا "كوڤيد" في عصرنا - مرضان ألحقهما الشرق بالغرب. والسبب هو أنه في أوائل القرن الثامن عشر، اختفى الطاعون من أوروبّا الغربية. وبحلول منتصف ذلك القرن، أنشأت عائلة هابسبورغ الملكية حاجزا صحّيا منع الطاعون من الوصول إلى وسط القارّة أيضا.
    لكن الوباء استمرّ في اجتياح الإمبراطورية العثمانية. وتشير موسوعة ديدرو الفرنسية الى أن الطاعون "يأتي إلينا من آسيا، وعلى مدى ألفي عام، انتقلت جميع الأوبئة التي ظهرت في أوروبّا من خلال تواصل المسلمين والعرب والمغاربة والأتراك معنا، ولم يكن لأيّ من أوبئتنا أيّ مصدر آخر".
    واشتهرت إسطنبول، على وجه الخصوص، بأنها مركز للأمراض المعدية. وفي رواية ميري شيلي "الرجل الأخير"، يبدأ وباء مدمّر للعالم من هناك. وكانت لمصر العثمانية سمعةٌ مماثلة، ففي القاهرة تسبّبت جائحة للطاعون عام 1791 في مقتل ثلث عدد السكّان تقريبا.
    ولهذا السبب اعتبر الأوروبيون في زمن نابليون الطاعون "مرضا شرقيّا" أو "تركيّا". وفي هذه الحالة، لم يكن الطاعون الذي أصاب قوّات نابليون مستوردا، بل كان مصدره الأتراك، كما توحي بذلك تفاصيل لوحة غروس. وعلى الرغم من أن جناح المشفى المصوّر في اللوحة كان يقع في دير أرمني، إلا أن الرسّام وضعه فيما يشبه مسجدا محاطا بأروقة على الطراز الإسلامي. وخلف المشهد يرفرف العلم الفرنسي ذو الألوان الثلاثة.


    ومن هذا المنطلق، فإن الإشارة إلى وباء "كوڤيد" قبل سنوات باعتباره "الڤايروس الصيني" لم تكن سابقة. لكن كثيرا ما كانت أصابع الاتهام تُوجّه في الاتجاهين، ففي الإمبراطورية العثمانية كان يُطلق على مرض الزهري اسم "جُدريّ الفرنجة!".
    لكن الرسّام غروس أدخل الى اللوحة عنصرا عقّد ربطه بين الطاعون والشرق. ففي مقدّمة الصورة الى اليمين، يظهر شخص تركي، أو لعلّه عربي، أنيق اللباس وهو يعالج مريضا فرنسيّا. وقد اعتبر الأكاديميون الفرنسيون الشكليون إدراج الفنّان لهذا الشخص عيبا في العمل، لأنه يشتّت انتباه الناظر عن نابليون والجنود العراة.
    من يافا توجّه بونابرت بعد ذلك إلى عكّا وحاصرها، لكن دون جدوى. وفي انسحابه المتسرّع جنوبا، لقي عدد من الجنود الجرحى والمرضى حتفهم على طول الطريق. وعند عودته إلى يافا زار جناح الحجر الصحّي مرّة أخرى. ويقال إنه اقترح على كبير الأطبّاء إعطاء الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون جرعات قاتلة من الأفيون، إذ لا يمكن نقلهم إلى مصر، وإلا "سيقعون بأيدي الأتراك الساديّين". لكن الطبيب رفض ذلك قائلا: مهنتي هي شفاء الناس، لا قتلهم!".
    ومهما كانت حقيقة قصّة الأفيون، فإنها تثير سؤالا يبدو ملحّا اليوم: ما هي التنازلات التي يجب تقديمها في خضمّ نقص الإمكانيات؟ عندما خطّط نابليون لانسحابه، كانت موارده محدودة وأراد حماية جيش ضعيف أصلا. فهل كان عليه أن يخاطر بحياة المرضى المصابين بأخذهم معه والتسبّب في إصابة الجند الأصحّاء؟
    يُعتقد أن هذه اللوحة رسُمت بتكليف من نابليون تحديدا، وذلك لدحض التقارير التي تحدّثت عن الفظائع الفرنسية التي ارتكبت أثناء حصار يافا، وأيضا لنفي قصّة إعطاء مرضى الطاعون أفيوناً قاتلا. وكانت تلك التقارير قد انتشرت في فرنسا وتسبّبت في إثارة غضب الكثيرين.
    في دراسة أوّلية للوحة، يظهر نابليون وهو يحمل جثّة! لكن على ما يبدو، رأى الرسّام أخيرا أنه من غير اللائق أن يبالغ في الدراما لاستدرار المشاعر، فاستبدلها بلمسة الجنرال الحازمة والواثقة للجنديّ المصاب.
    في سبتمبر 1804، عُرضت اللوحة في صالون أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وكانت هي العمل الأبرز في المعرض. وفيما بعد، أُعيد إنتاجها في مطبوعات ونقوش مصغّرة وجدت طريقها إلى جميع أرجاء فرنسا. وفي تلك الأثناء، أصبح دير يافا محطّة نموذجية للسيّاح الفرنسيين.
    كانت اللوحة دعايةً صارخة صوّرت حملة عسكرية كارثية وحوّلت نابليون إلى قائد مقدام لا يعرف الخوف أو التردّد. وكُلّف العديد من الفنّانين الآخرين بإنتاج أعمال مماثلة تمتدح انتصاراته. ولأن حملة فلسطين كانت ضعيفة في تحقيق أيّ نجاح في ساحة المعركة، فقد حلّت لوحة غروس، الذي لم يسافر قطّ إلى الشرق الأدنى، هذه المشكلة وسَدّت النقص.
    كانت رسالة اللوحة واضحة: ربّما لم ينتصر نابليون على الأتراك في فلسطين، لكن ذلك لم يكن ذنبه. ألا ترى الجثث؟! لقد كان يكافح الطاعون"! وعلى الرغم من أن الطاعون كان "عدوّا لم تصله حراب الفرنسيين" بحسب أحد الصحفيين، إلا أن نابليون تغلّب على خوفه ومُنح لمسة إلهية!

    Credits
    napoleon.org
    smarthistory.org

    الجمعة، أبريل 11، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • اسم اللوحة التي فوق "ڤيللا على شاطئ البحر" للفنّان السويسري أرنولد بوكلين من القرن التاسع عشر. وهي واحدة من سلسلة من اللوحات التي تتناول نفس الفكرة مع بعض التعديلات المعمارية البسيطة. وقد عاد بوكلين مرارا لرسم هذه الڤيللا كموضوع، ربّما لارتباطها في ذهنه بذكرى معيّنة أو حادثة ما.
    في الصورة، يظهر شاطئ وأشجار حُور طويلة ومبنى مهجور. وبين الأشجار رواق مظلّل تعلوه تماثيل تطلّ على الأمواج. وهناك امرأة وحيدة، يمكن أن تكون راهبة، ترتدي فستانا أبيض وشالاً أسود وتقف على الشاطئ بينما تتأمّل البحر. ونفس هذه المرأة المنعزلة تظهر في بقيّة لوحات السلسلة، لكن بمظهر مختلف نوعا ما.
    كان بوكلين يميل لرسم الڤيللات الرومانية وغيرها من المناظر الطبيعية في إيطاليا تمشيّا مع الذوق الفنّي السائد آنذاك. و"ڤيللا على شاطئ البحر" تتّسم بغموضها، إذ لا يوجد ما يدلّ على هويّة المرأة ولا سبب وجودها في هذا المكان. وقد تعمّد الرسّام استحضار دلالات مختلفة في هذا العمل الذي يوحي بالحزن والزوال والكآبة.
    ويقال إن هتلر، ولأسباب غير معروفة، استولى على إحدى هذه اللوحات كغنيمة حرب وأضافها لمجموعته الخاصّة. وظهرت اللوحة في صورة فوتوغرافية خلف الزعيم النازي في إحدى المناسبات.
    بعض النقّاد يرون بأن هذه اللوحات ربّما لم تكن قريبة إلى قلب الفنّان بمثل قرب أعماله الأكثر غموضا وقوّة والتي يُعرف بها بوكلين اليوم عن جدارة مثل سلسلة "جزيرة الموتى". وهذه الأخيرة تذكّر بمقبرة فلورنسا الإنغليزية القريبة من مرسمه، حيث دُفنت ابنته. ويقال إن امرأة أرملة هي التي كلّفته برسم أولى لوحات تلك السلسلة وأن تكون ذات أجواء غامضة وحالمة.
    السؤال: لماذا يعود الفنّان إلى رسم نفس الموضوع أكثر من مرّة؟ هناك أكثر من سبب، أحيانا لاستغلال إمكانات موضوع معيّن على أكمل وجه، أو ببساطة لأنه منجذب الى الموضوع. لكن على الأرجح فإن ڤيللا بوكلين هذه تعبّر عن مكان خاص جدّا وخيالي أكثر منه واقعي. وربّما يكون لرسمها مرارا سحر غامض جعل الڤيللا أكثر واقعيةً بالنسبة له.
    رسم أرنولد بوكلين خلال حياته مجموعة واسعة من الأعمال، بما في ذلك المناظر الطبيعية والبورتريهات والأعمال الرمزية. وتتّسم لوحاته عموما بطابعها الحالم والخيالي، وغالبا ما تتضمّن شخصيات ومشاهد غامضة من الأساطير اليونانية.
    تلقّى الفنّان تدريبا في الرسم في أكاديمية دوسلدورف، ثم ذهب الى أنتويرب وبروكسل، حيث نسخ أعمال المعلّمين الفلمنكيين والهولنديين. ثم قصد باريس وعمل في متحف اللوڤر ورسم العديد من المناظر الطبيعية. وفي مارس ١٨٥٠ ذهب إلى روما. كانت معالم العاصمة الإيطالية بمثابة حافز جديد لعقله، حيث أدخل تأثيرات جديدة وشخصيات رمزية وأسطورية في لوحاته. وفي عام ١٨٥٦، عاد إلى ميونيخ وأقام فيها أربع سنوات.
    تأثّر بوكلين بالرومانسية وكثيرا ما مزج صوره المستمدّة من الأساطير بجماليات ما قبل الرفائيلية. والعديد من أعماله تقدّم تفسيرات خيالية للعالم الكلاسيكي أو تصوّر مواضيع أسطورية في بيئات تتضمّن عمارة قديمة. وغالبا ما تستكشف تلك اللوحات الموت والفناء بشكل مجازيّ وفي سياق عالم خيالي وغريب. وأخيرا، ترك بوكلين تأثيرا كبيرا على الحركة الرمزية ولا تزال أعماله تحظى بشعبية كبيرة في أكثر من مكان.
  • ❉ ❉ ❉

  • في كتابه الموسوم "قبل أن تبرد القهوة"، يوصي توشيكازو كاواغوتشي قارئه بأن يحاول ما استطاع ان يهدأ قليلا وينتزع نفسه من زحمة الحياة وصخبها ويستمتع بجمال الطبيعة وحميمية القهوة، وبذا يخلق لنفسه لحظات من الصفاء تستحقّ أن يتذكّرها في قادم الايّام.
    والكتاب عبارة عن رواية عن مقهى في طوكيو يوفّر لزبائنه فرصة السفر عبر الزمن الى الوراء، شرط أن يفعلوا هذا قبل أن تبرد قهوتهم. وهذه العودة قد تكون لرؤية أناس رحلوا عنّا أو لتصحيح أخطاء أو لاستكمال أشياء لم تُنجز كما ينبغي أو بما فيه الكفاية.
    يتضمّن الكتاب أربعة فصول، يروي كلّ منها قصّة شخص سافر عبر الزمن لسبب مختلف. والغاية ليست تغيير الحاضر، بل لاستدعاء الذكريات. ويمكن اعتبار الكتاب تأمّلا معمّقا في قِصَر الحياة وأهميّة عيشها بعزيمة وهدوء. كما انه يدعو القارئ إلى التأمّل في نفسه والتفكير في تأثير تجارب الماضي على مساره كشخص وعلى سلامته النفسية. كما يحثّ القارئ على قبول التغيير وتنمية القدرة على التحمّل وبناء حياة ذات معنى.
    كتاب كاواغوتشي أصبح من أكثر الكتب مبيعا في اليابان والعالم. والدرس العميق الذي يقدّمه هو اننا لا نستطيع تغيير الماضي، لكن يمكننا الاستفادة من دروسه لإثراء الحاضر والمستقبل.
    من العبارات الجميلة في الكتاب: لا تؤجّل شيئا إلى وقت لاحق. لاحقا، تبرد القهوة وتفقد الاهتمام ويتحوّل النهار إلى ليل ويكبر الناس ويشيخون. لاحقا، تمضي الحياة وتندم على عدم فعل شيء عندما سنحت لك الفرصة لفعله.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في عام 1971، ذهب ملك أفغانستان محمّد ظاهر شاه للصيد في منطقة غابات شمال شرق البلاد. وأثناء الصيد، عثر بشكل غير متوقّع على أنقاض مستوطنة قديمة. وبعد ثلاث سنوات، بدأت مجموعة من علماء الآثار الفرنسيين بالحفر في الموقع. وما وجدوه كان أحد أهم وأكبر الاكتشافات في التاريخ القديم: بقايا قصر ضخم بالإضافة إلى صالة ألعاب رياضية ومسرح كبير وترسانة ومعبدين. كما عُثر على العديد من النقوش والعملات المعدنية والتحف والأواني الخزفية.
    وقد سُمّي المكان "إي خانوم"، الذي يعني سيّدة القمر باللغة الأوزبكية. وهو يتمتّع بجميع سمات المدينة اليونانية الكلاسيكية. في البداية، كان يُعتقد أن الموقع هو بقايا مدينة الإسكندرية، إحدى المدن العشرين التي بناها الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد. لكن أظهرت الحفريات اللاحقة أن المدينة بُنيت في الواقع عام 260 قبل الميلاد على يد أحد ملوك الإمبراطورية السلوقية. وقد أدّى نشوب الحرب السوفياتية الأفغانية في أواخر السبعينيات إلى توقّف عمليات الحفر. وخلال الصراعات التي أعقبت ذلك في أفغانستان تعرّض الموقع للنهب والتخريب عددا من المرّات.
  • ❉ ❉ ❉

  • من أقوال أحد زعماء الهنود الحمر:
    عندما نريد قتل نبات أو شجرة أو حيوان، يجب أوّلا أن تكون هناك حاجة ماسّة لذلك. ثم يجب أن نستأذن من المخلوق ونشكره. ويجب أن تقام الصلوات والرقصات وغيرها من الطقوس لمزيد من الشكر للكائنات التي قُتلت ولمساعدة الأحياء منها على النموّ والتكاثر. وعندما نحفر الجذور أو نبني المنازل، فإننا نصنع ثقوبا صغيرة. ونهزّ أشجار الجوز والصنوبر ولا نقطعها. ولا نستخدم سوى الخشب الميّت.
    نؤمن أنه عندما يموت إنسان، هناك جسر يتعيّن عليه عبوره ليدخل الجنّة. وعلى رأس الجسر ينتظر كلّ حيوان أو طائر قابله الإنسان في حياته. والحيوانات، بناءً على معرفتها بهذا الشخص، تقرّر أيّ البشر يُسمح لهم بعبور الجسر وأيّهم يُمنع.
    لكن المستعمرين يقتلون الحيوانات والطيور بلا رحمة ويدمّرون الأرض ويقتلعون الأشجار دون اهتمام. تقول لهم الشجرة: لا تفعلوا، أنا أتألّم، لا تؤذوني!". لكنهم يقطعونها. روح الأوربّي تكره الطبيعة. إنهم يفجّرون الأشجار أو يقطعونها، وهذا يؤلمها. الهنود لا يؤذون شيئا، لكن البيض يدمّرون كلّ شيء. كيف لروح الأرض أن تحبّ الأوربّي؟! أينما حلّ هؤلاء، هناك ألم".
  • ❉ ❉ ❉

  • تمكّن محارب ساموراي من الهرب على ظهر حصانه أثناء معركة مع رجال عشيرة أخرى. وأثناء فراره مع جنده، عبروا نهرا فسقط قوس الساموراي في الماء بفعل ركض الحصان القويّ. واستدار ليرى قوسه وهو يطفو، فأوقف حصانه. لكن جنوده صاحوا به أن يتركه، لأن لا وقت لديه للمخاطرة بحياته من أجل قوس. لكن الساموراي لم يكترث بنصحهم وترجّل عن حصانه وخاض في الماء باحثا عن قوسه.
    وفيما بعد قال لجنده: القوس ليس مجرّد خشب وخيوط، بل ثمرة لمئات الساعات من الجهد والعرق الذي بُذل لصنعه. وتركه خلفك سيكون بمثابة عمل لا يليق بمحارب وسيصبح ما فعلته عارا لا يُغتفر عليك وعلى عشيرتك.
    انتهت القصّة هنا. والسؤال: كم من الأشياء التي نتركها وراءنا دون تفكير لأننا لا نعرف قيمتها؟!

  • Credits
    arnoldbocklin.org
    smithsonianmag.com

    الأربعاء، أبريل 09، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في إحدى القرى البعيدة، عاش الأهالي حياة بسيطة ومتواضعة. كان كلّ منهم متحفّظا ومنشغلا بتأمين رزقه. لكن ذات يوم هطلت أمطار غزيرة ومفاجئة. فلجأ القرويون على عجل إلى حانة قريبة. وداخل الحانة، كان هناك أيضا رجل غريب. وعلى الرغم من أنه لم يكن مبلّلاً، إلا أنه كان ينظر إلى أسفل وكأنه يخفي شيئا.
    امتلأ الجزء الداخلي من الحانة بالضحكات المصحوبة بصوت المطر. ونسي أهل القرية سلوكهم المتحفّظ والصامت المعتاد، وأخذوا يتبادلون الأحاديث والمزاح ونمت بينهم علاقة حميمية غامضة. ووجد الرجل الغريب نفسه منجذباً إلى الدائرة. وعندما عُرض عليه مشروب، شعر ببعض الراحة والاسترخاء. ثم تمتم قائلاً: هذه القرية تتغيّر عندما تمطر، أليس كذلك؟"
    في النهاية، عندما توقّف المطر، ودّع أهل القرية بعضهم البعض، حاملين مشاعر دافئة في قلوبهم. وقال الرجل الغريب وهو يغادر: دعونا نلوذ بملجأ يحمينا كلّما أمطرت السماء".
    كانت تلك الكلمات تحمل معنى أكبر من مجرّد تحيّة. كانت تذكيرا لأهل القرية بالروابط التي تشكّلت بينهم أثناء تواجدهم في ملجأ المطر وبأهميّة دعمهم لبعضهم البعض مستقبلا.
    لكن بعد أن غادر الرجل، ارتفع ثانية جدار رقيق بين أهل القرية. نسي الجميع الحميمية اللحظية وعادوا إلى حياتهم اليومية الصامتة. فكّر الرجل بألم أن ملجأ المطر في القرية يشير إلى رابطة عابرة، وليس ارتباطا عميقا. وربّما كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية لأهل القرية. الناس يجتمعون بسبب المطر، ولكن في لحظة سطوع الشمس يبدأون في المشي كلّ في مساره المنفصل.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان المعلّم يحبّ رسم الأسماك ولا يتحمّل أن يراها تُقتل وتُؤكل. لذلك كثيرا ما كان يدفع مالاً للصيّادين مقابل تحرير الأسماك التي اصطادوها. وذات يوم، نام المعلّم أثناء الرسم ورأى في الحلم انه تحوّل الى سمكة وبدأ يلعب مع الأسماك الأخرى في النهر.
    وعندما استيقظ، رسم لوحة للسمكة التي حلم بها. وفيما بعد مرض المعلّم، وبينما كان فاقدا للوعي، منحه إله البحر رغبته في أن يحوّله الى سمكة، مكافأة له على إنقاذه العديد من الأسماك خلال حياته. ولكن عندما أصبح المعلّم سمكة، أمسك به أحد أصدقائه وأكله. وهنا عاد المعلّم إلى جسده البشري ليواجه الصديق الذي أكله ولينتقم منه!
  • ❉ ❉ ❉

  • عُرف سقراط بشجاعته وحكمته في كلّ ما قاله. وكان أيضا عظيما في صمته. كان الوحيد الذي أقرّ لنفسه أنه لا يعرف شيئا.
    يقول نيتشه: أنا معجب بشجاعة سقراط وحكمته، هذا الوحش الساخر عازف المزمار الأثيني، الذي جعل أكثر الشباب غطرسة يرتجفون ويبكون. لم يكن فقط أعقل ثرثار على مرّ العصور، بل كان عظيما بنفس القدر في الصمت.
    تمنّيت فقط لو أنه ظلّ صامتا أيضا في لحظات حياته الأخيرة، لربّما حاز مرتبة أعلى روحيّا. لقد ذهب إلى موته بالهدوء الذي كان يغادر به المنتدى عند الفجر، وأصبح المثل الأعلى الجديد لشباب أثينا من النبلاء".
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • لم يكن الرسّام الروسي كازيمير ماليفيتش ملتزما بالمعايير الفنّية السائدة في زمانه، بل ابتكر تقنيات ثورية ألهمت أجيالا متعاقبة من الفنّانين في جميع أنحاء العالم. وما تزال أعماله تحظى بتقدير كبير حتى بعد مرور سنوات عديدة على رحيله.
    ومن لوحات ماليفيتش المعروفة "رجل إنغليزي في موسكو" التي رسمها عام 1914. ورغم أنها ليست لوحة تجريدية بحتة كأعمال ماليفيتش اللاحقة ذات الملمح "التفوّقي"، إلا أنها تتميّز بتركيز واضح على التجريد والأشكال الهندسية وتمتليء بالنصوص والرموز. فهناك، مثلا، سمكة وسيف معقوف وشمعة وسلّم وسهم أحمر وملعقة حمراء. كما تتضمّن اللوحة أجزاءً من كلمات روسية مثل "جزئي" و"كسوف الشمس".
    وبعض النقّاد يرون أنه قد لا يكون هذا المزيج من الأشياء والكلمات مترابطا، وقد تعني جميعها شيئا ما أو يفترض أنها توحي بشيء. المعروف أن ماليفيتش تأثّر بالأدباء الروس الطليعيين، وقد ضمّن نصوصا روسية ومقاطع نصّية واستعارات في لوحتين له على الأقلّ غير هذه.
    لكن من هو "الرجل الإنغليزي" الذي يظهر في اللوحة مرتديا قبّعة عالية ومعطفا، ونصف وجهه مغطّى بسمكة بيضاء؟! أحد النقّاد يشير الى أن ماليفيتش يروي قصّة رحلة إنغليزي ذهب في زيارة الى موسكو. وفي هذه الحالة، فإن التفاصيل في الصورة تشير إلى ما قد يكون لاحظه هذا الرجل هناك، أي عام 1914، وبالتحديد قبل ثلاث سنوات من الثورة الروسية.
    ويضيف أن العنوان يشير إلى قصاصات بصرية للأشياء التي لاحظتها عين هذا الأجنبي أثناء زيارته. والكلمات المجزّأة والمختلطة تصبح منطقية عندما يلاحظها شخص لا يفهم اللغة. والسيف المعقوف يبدو روسيّ الطراز، وهو شيء يمكن أن يلاحظه أجنبي ويعتبره غريبا.
    لكن هناك أشياء أخرى في اللوحة لا يمكن تفسيرها بسهولة. مثلا لماذا يلفت انتباه رجل إنغليزي في موسكو مرأى سمكة بيضاء أو شمعة مضاءة مثلا؟! يبدو ان الصورة تشير الى عناصر لغز معقّد ومن الصعب تفسيره.
    بالإضافة إلى استلهام ماليفيتش الكولاج التكعيبي، ربّما استوحى أيضا شيئا من أسلوب جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. لكن هناك من يقول إن الإنغليزي ليس إنغليزيا بالضرورة، بل يمكن أن يكون مجرّد استعارة تجمع الشرق بالغرب والمدينة بالريف.
    وأيّا ما كان معنى اللوحة، وسواءً كانت الأشياء غير ذات صلة على الإطلاق أو تحمل نوعا من المعنى الرمزي، يبدو أن "الإنغليزي" في العنوان هو بريطانيّ بلا اسم ويرتدي ملابس أنيقة، وقد جاء إلى موسكو ليراقبها بعيون أجنبي.
    ومع أن المعنى الكامن وراء اللوحة غير مؤكّد ومثير للجدل، إلا أن البعض يعتقد أنها ربّما كانت تعكس شغف ماليفيتش بثقافات أوروبّا الغربية.
  • ❉ ❉ ❉

  • سنموت وهذا ما يجعلنا محظوظين. فمعظم الناس لن يموتوا أبدا لأنهم لن يولدوا أبدا. الأشخاص الذين كان من الممكن أن يكونوا هنا في مكاني لكنهم في الواقع لن يروا نور النهار، يفوقون عدد رمال شبه الجزيرة العربية. ولا شكّ أن هؤلاء الأشباح الذين لم يولدوا يضمّون شعراء أعظم من كيتس وعلماء أعظم من نيوتن.
    نعرف هذا لأن مجموع الأشخاص المحتملين الذي يسمح به حمضنا النووي يفوق بكثير مجموع الأشخاص الحقيقيين. وفي مواجهة هذه الاحتمالات المذهلة، أنا وأنت، في طبيعتنا العادية، نحن هنا. نحن القلّة المتميّزة الذين ربحنا يانصيب الميلاد رغم كلّ الصعاب، كيف نجرؤ على التذمّر من عودتنا الحتمية إلى تلك الحالة السابقة التي لم تنهض منها الغالبية العظمى أبدا؟ ريتشارد دوكينز
  • ❉ ❉ ❉

  • لأنني كسول جدّا وأبعد ما أكون عن الطموح
    تركتُ العالم يدبّر أموره.
    في حقيبتي أرزّ يكفيني عشرة أيّام
    وحزمة أغصان بجانب المدفأة.
    لماذا أتحدّث عن الوهم والتنوير؟!
    أجلسُ مسترخيا
    منصتاً إلى مطر الليل على سطح منزلي
    وساقاي ممدودتان. ريوكان

  • Credits
    kazimir-malevich.org