:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • "المعمار" هو اسم اللوحة التي فوق، والتي رسمها بول كلي في عام 1923 كجزء من سلسلة لوحات "المربّعات السحرية" التي تتناول الأنماط والأشكال البسيطة والتضاريس. وتتكوّن اللوحة من نمط منتظم لمربّعات ذات ألوان مختلفة ومتمايزة.
    ويُنظر إلى هذا العمل على نطاق واسع باعتباره انعكاسا لطبيعة الإيقاع والتكرار والتشابه كما يراها الفنّان. في ذلك الوقت، كان الموسيقيّ النمساوي أرنولد شوينبيرغ قد وضع نظاما ثوريا جديدا في الموسيقى يتألّف من 12 نغمة. والكثير من النقّاد يعتبرون "المعمار" انعكاسا لفكرة شوينبيرغ الكميّة والمنطقية للموسيقى باعتبارها كيانا هندسيّا ورياضيّا وليست فقط مشاعر وتأمّلات. وقد نُظر الى عمل الرجلين في ذلك الوقت على أنه مبتكر للغاية ومختلف تماما.
    ويقال إنه لم يستكشف فنّان آخر مجال الأشكال الهندسية الأوّلية بمثل ما فعل كلي. فقد استخدم الهندسة، ليس فقط من أجل خلق حقائق تصويرية نقيّة، ولكن أيضا لشرح الحياة العضوية. وفي عام 1930، كتب ناقد يُدعى رينيه كريفيل قائلا: إن أبسط الموادّ والكلمات أو الألوان تعمل كوسيط بين العالم الخارجي والمتلقّي. والشعر هو اكتشاف العلاقات غير المتوقّعة بين عنصر وآخر. والرسّام الذي يجد الشعر في أكثر أشكال الهندسة جفافاً يستطيع أن يعرف كيف يصعد الى السطح بعد أن يغوص".
    وهناك من رأى في سلسلة "المربّعات السحرية" انعكاسا للنهج الفلسفي الرومانسي الذي كان كلي يتبنّاه تجاه الحياة. فقد كان يعتقد أن الكون الذي نراه ما هو الا مظهر وانعكاس لشيء آخر. ويمكن أن تكون المربّعات في اللوحات رمزا للكون ككل، فهي كتل بِناء تبدو ذات قيمة وأهمية جوهرية.
    ناقد آخر يُدعى وِل غرومان قارن سلسلة المربّعات السحرية بالبحث الموسيقي المعاصر، وخاصّة نظام النغمات الاثنتي عشرة الذي ابتكره شونبيرغ، فقال: وجدت بين أوراق كلي ورقة صغيرة عليها مخطّط لإحدى لوحاته. كانت الأرقام مكتوبة في المربّعات، وسلسلة من الأرقام تسير أوّلاً في اتجاه واحد ثم في الاتجاه الآخر متقاطعةً مع بعضها البعض. وعندما تُجمع الأرقام على طول الخطوط الأفقية والرأسية، يصبح المجموع متساويا، كما هو الحال في المربّع السحري الشهير".
    في بحثه النفسي عن الأشكال الهندسية الأكثر بدائية والبنية الداخلية للمادّة ومصفوفاتها وأشكالها الإيقاعية، يجد كلي مبدأ فعّالاً للتنظيم يقوم على نفس الأساس الذي ينهض عليه الكائن الخلاق والكون المخلوق. إنه يعمل بجد على اكتشاف إيقاع "الطبيعة العظيمة" ثم يضعه كحركات غريزية أو مراكز حضرية.
    وكان كلي قد قال مرّة ان الفنّ البصري لا يبدأ بمزاج أو فكرة شعرية، بل ببناء شكل أو أشكال متعدّدة أو بتناغم عدد قليل من الألوان أو الظلال، أو بحساب للعلاقات المكانية. وكانت لوحاته المربّعة قد بدأت بمربّعات من الألوان المتناثرة في أشعّة الشمس. ثم أصبح بعضها مصحوبة بمثلثّات توحي بالأسقف وبأنصاف دوائر تلمّح إلى قباب المنازل أو المساجد التي رآها أثناء زيارته للمغرب.
    وقد أصبحت لوحاته هذه أكثر تعقيداً، حيث تكرّرت كأشكال هندسية صغيرة على القماش بما يشبه الهيروغليفية، مع تلاعب بدرجات الألوان. وبينما كان يبحث عمّا أسماه "الإيقاع البصري"، أصبحت رسوماته الخطّية أكثر تجريبية، أحياناً على خلفية بيضاء، وأحياناً أخرى على قماش ملوّن. وأصبحت الخطوط المعقّدة والمتكرّرة، مثل النوتات الموسيقية، تقترن بعناوين مثل "عمارة الغابات" و"منظر لمحمية جبلية" و"معبد منحوت في الصخر" أو "أسماك في سيل".
    في أوائل عام 1921، انضمّ كلي إلى مدرسة باوهاوس، وهي المدرسة الحكومية الجديدة للفنون والتصميم في فايمر بألمانيا والتي سرعان ما ضمّت كاندنسكي إلى هيئة تدريسها. وغطّت دورات كلي جميع الفنون والحرف اليدوية، من الرسم والتلوين إلى تجليد الكتب والزجاج الملوّن وتصميم المنسوجات. وكانت تلك فترة خصوبة غير عادية في حياته حيث تمكّن من اختبار نظرياته من خلال فنّه وتدريسه.
    ومع تنامي شهرة بول كلي على المستوى العالمي، بدأ صعود النازيّة بانتخاب هتلر مستشارا لألمانيا في مارس 1933، فعُطّلت مدرسة باوهاوس وطُرد كلي من عمله في أبريل 1933. ثم عُرض 17 من أعماله في معرض "الفنّ المنحطّ" النازيّ في ميونيخ. وفي ديسمبر من ذلك العام، فرّ هو وعائلته من ألمانيا إلى مسقط رأسه في بيرن بسويسرا. وكانت السنوات التي تلت ذلك صعبة. ففي عام 1935، أصيب الرسّام بمرض جلدي مميت يُسمّى تصلّب الجلد.
    وفي عام 1940، وهو عام وفاة كلي، رسم شخصا مركّبا من عيدان ثقاب على خلفية حمراء وداخل إطار أسود. ثم كتب خطاب وداعه للعالم وهو عبارة عن بضع كلمات نُقشت على شاهد قبره يقول فيها: لم أعد مقيّدا الآن، لأنني أعيش أيضا مع الموتى، كما هو حال الجنين، أقرب إلى قلب الخلق من المعتاد".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يرى تيم برينكوف أن "الهوبيت" مثال واضح على ما يسمّيه جوزيف كامبل "الأسطورة الواحدة" أو "رحلة البطل". وهذا المفهوم، الذي تستند إليه دراسته التي استمرّت طيلة حياته للأساطير والحكايات من مختلف أنحاء العالم، هو مخطّط سردي مشترك بين العديد من القصص المعروفة. أي أن كلّ الأساطير تقريبا يمكن اختصارها في رحلة البطل.
    ويمكن تقسيم الرحلة التي صاغها كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" الصادر عام 1949، إلى مراحل: يتلقّى البطل دعوة للمغامرة، يلتقي مرشدا ملهِما، يترك وطنه ويواجه العقبات والأعداء والحلفاء، يفشل في تحقيق الهدف، يحاول مرّة أخرى وينجح، وأخيرا يعود إلى أرض الوطن بالمكافأة.
    في رواية الهوبيت لـ توكين (1937)، تنقلب حياة بيلبو باغينز الهادئة الخالية من الأحداث رأسا على عقب بسبب وصول الساحر غندالف المفاجئ، الذي يسأله ما إذا كان يرغب في الذهاب في مغامرة. ولأنه غير راغب في استبدال محيطه المريح بالمجهول العظيم، يرفض بيلبو عرض غندالف.
    ولا يقرّر الهوبيت المتكبّر مرافقتهم ومساعدتهم في استعادة وطنهم المهجور إلا بعد أن يشكّك الأقزام في فائدته. ورغم عدم تأكّده في البداية من قدراته، يثبت بيلبو أنه أهمّ أفراد المجموعة، حيث ينقذهم من الخطر مرارا. وبعد المساعدة في هزيمة التنّين سموغ، يعود بيلبو إلى شاير وهو أكثر حكمةً وسعادةً وثقة.
    لم يغيّر كامبل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القصص القديمة فحسب، بل غيّر أيضا كيفية سرد القصص الجديدة. لكن انتشار اسمه في كلّ مكان كان سبباً في حجب الانتقادات المهمّة التي وُجّهت إلى رحلة البطل. فقد نُشر كتاب "البطل ذو الألف وجه" قبل أكثر من 75 عاماً، في وقت كانت فيه المواقف والظروف الثقافية مختلفة.
    فهل الأسطورة الأحادية حقّاً متجانسة وعالمية كما ادّعى كامبل؟ تشير قائمة من رواة القصص القدامى والمعاصرين الذين انحرفوا عن رحلة البطل إلى أن الأمر ليس كذلك.
    لا شكّ أن جزءاً من جاذبية الأسطورة الواحدة ينبع من التأثيرات المتنوّعة التي تأثّر بها كامبل. فأثناء دراسته في باريس وميونيخ، رأى بعض لوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، الفنّانين اللذين نظرا إلى ما هو أبعد من موضوعاتهما لفهم كيفية إدراك الناس للعالم. كما أهتمّ بالمحلّلين النفسيين سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذين كتبا عن العمليات العقلية التي تقع غالبا خارج نطاق فهمنا وسيطرتنا كأفراد.
    وبعد أن تعرّف كامبل على الفلسفة والأساطير الهندوسية، لاحظ بسرعة أوجه التشابه السردية والموضوعية بين التقاليد الأوروبية والآسيوية. وكان الأمر اللافت للنظر بنفس القدر هو الصلة الدائمة التي اكتسبتها هذه الحكايات القديمة بالنسبة لرواة القصص المعاصرين مثل جيمس جويس، الذي تُعتبر روايته المشهورة "يوليسيس" إعادة تصوّر حديثة لرواية هوميروس التي نالت استحسانا مماثلاً.
    هذه التأثيرات المتنوّعة وذات الصلة أقنعت الباحث الشابّ كامبل وبطريقة ما أن "جميع الأساطير والملاحم مرتبطة في النفس البشرية، وأنها مظاهر ثقافية للحاجة إلى تفسير الحقائق الاجتماعية والكونية والروحية".
    شعبية الأسطورة الأحادية في الغرب يمكن تفسيرها أيضاً من خلال تأكيدها على الفردية، أو فكرة أن الناس قادرون على تحويل أنفسهم وإعادة تشكيل العالم على صورتهم نتيجة للتطوّر الشخصي.
    وكان كامبل - والكلام لبرينكوف - يعتقد أن عناصر الأسطورة الأحادية تتحدّث مباشرة إلى اللاوعي الجماعي، أي إلى الصور والقيم التطوّرية المدفونة في أعماق النفس البشرية، وبالتالي فهي مشتركة بين البشر كلّهم، بغضّ النظر عن الفترة التاريخية التي يولدون فيها أو الثقافة التي ينتمون إليها. ولهذا السبب، أشار كامبل إلى الأحلام باعتبارها "أساطير شخصية" والأساطير باعتبارها "أحلاماً شخصية". وكان يعتقد أن الأسطورة الأحادية تجسيد تجريدي للنموّ، فالبطل الذي يقتل التنّين هو استعارة لمواجهة انعدام الأمن والعيوب التي نعاني منها والتغلّب عليها.
    وفي حين يمكن تلخيص سرديات مثل قصّة موسى في سفر الخروج والمعركة بين موردوك وتيامات في أساطير الرافدين على أنها رحلات أبطال، فإن العديد من الحكايات القديمة الأخرى، مثل أوديب والحكايات الشعبية، بل ومعظم أساطير الخلق لا يمكن اعتبارها كذلك.
    لم تكن ثقافات العالم القديم تمتلك آلهة ووحوشاً فريدة فحسب، بل كانت تمتلك أيضاً تقاليد سردية متميّزة. فأشكال السرد الهندية مثلا تختلف كليّا عن الأشكال الغربية. ولو شاهدتَ فيلماً من إنتاج بوليوود، فستلاحظ أنه في لحظة ما قد يتحوّل الفيلم إلى قصّة رومانسية، ثم يتحوّل إلى فيلم إثارة، ثم إلى فيلم موسيقي، ثم يتحوّل إلى فيلم فنون قتالية، وهو ما قد يربك الجمهور الغربي، ولكنه طبيعي تماماً بالنسبة للجمهور الهندي.
    وتزعم بعض الباحثات النسويات أن العديد من الشخصيات البطولية في الأساطير والأدب ليست مثيرة للإعجاب كما كانت في السابق، وأن الاهتمام الذي يُبديه باحثون مثل كامبل لهذه الشخصيات يعادل تمجيد العنف والعدوان والهياكل الاجتماعية الأبوية. وهذا انتقاد قاسٍ، رغم أن له ما يبرّره. فكتاب "البطل ذو الألف وجه" يركّز على الأبطال الذكور الذين يسعى العديد منهم إلى إنقاذ أميرة.
    وبصرف النظر عمّا تعتقده بشأن كامبل وعمله، لا يمكن إنكار أن رواة القصص المعاصرين يبتعدون تدريجيّا عن الأسطورة الأحادية. فبدلاً من قبول رحلة البطل بشكل أعمى، يفضّل العديد من صنّاع الأفلام الآن تفكيكها وإنشاء قصص عن شخصيات تبدو وكأنها أبطال، لكنها تتحوّل إلى أشرار أو تنانين وما الى ذلك.

  • Credits
    paulklee.net
    bigthink.com

    السبت، يناير 04، 2025

    مونيه في لندن


    في نفس العام الذي نصبَ فيه كلود مونيه لأوّل مرّة حامل لوحاته في سافوي بلندن، كتب اوسكار وايلد مقالة قال فيها: يرى الناس الضباب، ليس لأن هناك ضباباً، بل لأن الشعراء والرسّامين علّموهم الجمال الغامض لمثل هذه التأثيرات. ربّما كان الضباب موجوداً منذ قرون في لندن، وأتجرّأ على القول أنه كان موجوداً بالفعل. ولكن لم يرَه أحد، ولهذا السبب لا نعرف عنه شيئاً. لم يكن موجوداً الى أن اخترعه الفن."
    الناقد جوناثان جونز يذكر أن كلود مونيه، الرسّام الشغوف بالجمال، جاء إلى لندن في زيارات متكرّرة بين عامي 1899 و1901 "لتجربة القبح". ولم يسبق للرسّام في حياته أن استخدم فرشاته في رسم أيّ شيء غير جذّاب. كان ضوء المدينة في فجر القرن العشرين مليئا بالضباب الدّخاني ومسموما بالتلوّث الناجم عن الصناعات التي اكتظّت على ضفاف نهر التيمز. وكان مونيه قد زعم أنه يعشق ضوء لندن، لكن هذه اللوحات تثبت أنه فهم ما جعلها غريبة للغاية: الثروة الملوّثة لأوّل دولة صناعية في العالم.
    لوحات مونيه عن لندن لا تحمل أيّ إحساس بالفكرة الانطباعية الكلاسيكية المتمثّلة في الترفيه الحضري. فبينما يرقص الباريسيون ويشربون ويتنزّهون في الفنّ الانطباعي، لا يبدو أن سكّان لندن الذين رسمهم مونيه لديهم أيّ وقت لذلك. فالعمّال يعبرون جسر واترلو بلا نهاية، في لوحة تلو الأخرى، أو يُنقلون في قطارات ركّاب تنفث الدخان داخل وخارج تشيرينغ كروس.
    وإحدى أكثر لوحات مونيه هذه إثارةً للإعجاب هي لوحته بعنوان "جسر واترلو، تأثير ضوء الشمس في الضباب"، وهي تنويع على لوحته الأشهر "انطباع، شروق الشمس". في اللوحة نرى الشمس البرتقالية الساطعة ترسل خطوطاً حمراء متوهّجة تخترق التموّجات الخفيفة لنهر التيمز تحت ضباب برونزي غامض. وبينما يمكن تمييز أشكال القوارب والبشر، تتحوّل تفاصيل الحياة الحديثة إلى حلم صباحي ضبابي.
    ذات يوم نجح مونيه في جعل المدينة الحديثة تبدو وكأنها جنّة. لكن لوحاته عن لندن توحي بجحيم حضري. ويتحوّل تكراره لنفس المناظر من فندقه إلى كابوس في حدّ ذاته. فكلّ منها يلتقط التباينات في الضوء. ولكن يا له من ضوء: لوحة متغيّرة من الأصفر والرمادي والأرجواني، مريضة وكئيبة، يتخلّلها دوماً الضباب والدخان.


    ويذكّر جونز بأنه سبق للفنّانين الفرنسيين أن رأوا لندن جحيماً. ففي كتاب "لندن: رحلة حجّ" المنشور عام 1872، يتأمّل الفنّان غوستاف دوريه الأحياء الفقيرة والمحرومة في المدينة ويرسم لها 180 نقشاً بمرافقة نصّ للكاتب وليام جيرولد. وفي باريس يصوّر الفنّانون المدينة باعتبارها مدينة للحواسّ. أما لندن فكانت "بمثابة الحفرة القذرة التي تختبئ فيها قسوة العالم الرأسمالي الجديد". فهل كان مونيه، الذي صوّر هذه المدينة، أي لندن، من فندقه، سائحاً يغرق في الضباب الدخاني؟!"
    كان مونيه يرسم ما يراه، ومعظم ما يراه كان عبارة عن ضباب. والأشكال الغامضة للحافلات والأشخاص والقطارات تكافح لتصبح حقيقية، لكي تُرى. يتسلّل الدخان إلى عينيه ويصبح الضوء المشوّه ذو الألوان الغريبة شيئا في حدّ ذاته بدلاً من أن يكون وسيلة لإضاءة الأشياء. والمدينة غير الحقيقية تغيّر فنّه، حيث يفقد طريقه في ضبابها.
    في لندن، في "مبنى البرلمان" وفي "عمود ضوء الشمس في الضباب"، لا يوجد شيء حقيقي. فضوء الشمس ينقسم من كرة ذهبية مكسورة إلى شعاع لا نهائي من اللون الوردي والبنفسجي، تضيء الضباب من الداخل، قبل أن تتفجّر في شظايا على نهر التيمز. وصورة ويستمنستر الزرقاء تطفو في الضباب المشعّ، إنها قلعة دراكيولا أو مجموعة من دور الأوبرا.
    وإذا كان الرسّام قد ألمح إلى فاغنر في "انطباع، شروق الشمس"، فها هو ذا يكمل دورة "الخاتم" ويملأ السماء الضبابية والمياه المخدّرة بألحان غامضة تعلو ببطء. ثم هناك الشيء الأكثر غرابة. فالبرلمان في لوحة مونيه لا يقف على أرض صلبة. بل إن موجات الطلاء تكتسح جوانبه وكأنه سفينة في بحر. كما أنه لا يوجد أعلى ولا أسفل، فالانعكاسات الأرجوانية في النهر تعكس الأبراج القوطية.
    كانت الفترة الأخيرة من حياة مونيه واحدة من أكثر الفترات تألّقا في تاريخ الفن. وكانت زنابق الماء التي رسمها تنعي قتلى الحرب العالمية الأولى وتُلهم الانطباعية التجريدية. ولوحاته هذه تشير بقوّة الى أن كلّ شيء بدأ هنا. فهي تتيح لك رؤية اللحظة التي تَحوّل فيها فنّان عظيم إلى حداثيّ عظيم. وكان ضوء لندن القذر هو الذي ساعده على رؤية ما وراء المرئي.

    Credits
    claude-monet.com
    bbc.co.uk

    الجمعة، يناير 03، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • قبل أكثر من ٨٠ عاما، كتب بورخيس قصّة قصيرة بعنوان "مكتبة بابل"، تنبّأ فيها بمستقبل قاتم للإنترنت. حدث هذا قبل زمن طويل من ظهور الانترنت كما نعرفها اليوم. وقد تخيّل الكاتب الأرجنتيني عالَماً يتألّف من عدد لا نهائي من الغرف، وتتضمّن أرفف الكتب في كلّ غرفة مجلّدات تحتوي، كما يتصوّر ساكنوها، على كل ترتيب ممكن للحروف في أبجديتهم.
    لكن، وحسب تعبير عالم النفس روجر كروز، فإن العثور على شيء له معنى في مكتبة بورخيس الخيالية وذات المحتوى الهائل يشبه العثور على "إبرة في كومة من القشّ". فالناس الذين يبحثون في هذه الكتب عن ايّ معلومات تُفصّل مستقبل البشرية ومعنى الحياة، يكتشفون أن الغالبية العظمى من الكتب لا تحتوي إلا على مجموعات من الحروف التي لا معنى لها.
    وطبقا لبورخيس، فإن الحقيقة موجودة هناك، ولكن كلّ الكذب الذي يمكن تصوّره موجود هناك أيضا. وكلّ ذلك ضمن كمية هائلة ولا يمكن تخيّلها من الهراء. وحتى بعد قرون من البحث، لا يُعثر إلا على بضع نِتَف من المعلومات ذات المغزى. وحتى في هذه الحالة، لا توجد طريقة لتحديد ما إذا كانت هذه النصوص المتماسكة حقائق أم أكاذيب.
    ويشير كروز الى أن بعض مؤلّفي روايات الخيال العلمي اليوم يشاركون بورخيس نبوءته المتشائمة عن الانترنت، فيتخيّلون مستقبلا قريبا تصبح فيه الشبكة العالمية ملوّثة بالمعلومات المضلّلة والإعلانات المزعجة لدرجة أنها تصبح غير قابلة للاستخدام إلى حدّ كبير. ولتجاوز هذه المشكلة يلجأ بعض الناس للاشتراك في خدمة الأخبار والمعلومات التي توفّرها بعض المواقع الاخبارية التي تُختار باعتبارها جديرة بالثقة.
    لكن المشكلة هي أن الأثرياء وحدهم هم من يستطيعون تحمّل تكاليف مثل تلك الخدمات المتخصّصة التي توفّر معلومات دقيقة وموثوقة، بينما يُترك معظم البشر لاستهلاك محتوى منخفض الجودة وغير منتظم عبر الإنترنت. ويتّفق كروز مع من يعتبرون الإنترنت أحد الإنجازات العظيمة للبشرية. ولكن مثل أيّ مورد آخر، من المهم التفكير بجديّة في كيفية صيانته وإدارته، حتى لا ينتهي بنا الأمر إلى مواجهة الرؤية الديستوبية التي تَخيّلها بورخيس وغيره من الكتّاب.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في اللوحة التي فوق يصوّر رسّام مجهول "آن بولين"، الزوجة الثانية للملك هنري الثامن والتي أُعدمت في مايو 1536 بناءً على أمر من هنري نفسه. ويعتبر بعض النقّاد صورتها هذه عملاً فنيّا مهمّا وآسراً بأسلوبه الفنّي الفريد وتكوينه المتوازن واستخدامه للألوان وتاريخه الغامض.
    اللوحة تتميّز بالواقعية التفصيلية والدقّة في تصوير ملامح الوجه، حيث تمكن الفنّان من الإمساك بجمال وأناقة بولين من خلال ضربات الفرشاة الناعمة والدقيقة. كما أسهم استخدام تقنية الزيت في إظهار غنى الملمس والألوان وإضفاء واقعية أكبر على العمل.
    رسم الفنّان الشخصية في وسط اللوحة، وهي تنظر مباشرة إلى المتلقّي بتعبيرات هادئة، لكن غامضة. وهي تظهر على خلفية داكنة، ما يؤكّد حضورها ويجعلها الموضوع المهيمن. كما استُخدم الضوء بمهارة كي يُبرز تفاصيل وجه المرأة وملابسها ويخلق شعورا بالعمق والحجم.
    الألوان في هذه اللوحة تلعب دورا مهمّا، إذ استُخدم مزيج من الألوان الدافئة، مع درجات من اللون الذهبي والبنّي التي تُبرز بشرة المرأة الشاحبة وتسلّط الضوء على ملامح وجهها الدقيقة. وتتباين الألوان الزاهية لفستانها مع الخلفية الداكنة لتضفي لمسة من الحيوية والأناقة على العمل.
    وعلى الرغم من أن اللوحة رُسمت في القرن السادس عشر، إلا أن هويّة الفنّان ظلّت دائما لغزا. ويشير بعض مؤرخّي الفن أنها ربما رُسمت من قبل أحد أفراد حاشية هنري الثامن، وهو ما يفسّر الدقّة والعناية التي صُوِّرت بها المرأة. وربّما يكون من رسمها أحد الفنّانين الهولنديين المهاجرين الى لندن آنذاك، لأن أعمالهم كانت الأكثر طلبا وإشادةً. ويقال أيضا أن اللوحة ربّما استُلهمت من صورة معاصرة لآن بولين لم تعد موجودة.
    توصف آن بولين بأنها كانت ذات عنق طويل وفم صغير وعيون سوداء وجميلة. ويفترض بعض مؤرّخي الفن أن الصورة قد تكون رُسمت لها قبيل إعدامها، ما يضيف إليها عنصرا من الحزن والمأساة.
    في مايو 1536، أدينت آن بولين بشكل مثير للجدل بتهمة الخيانة. وسُجنت في برج لندن في نفس المنزل الملكي الذي كانت تنتظر فيها تتويجها قبل ثلاث سنوات. وحُدّد موعد إعدامها في الثامن عشر من نفس الشهر. وفي فجر ذلك اليوم، أدلت آن باعترافها الأخير واحتفلت بالقدّاس وجهّزت نفسها للموت. ويقال إن آخر ما نطقت به قبل إعدامها بالسيف قولها: سمعت أن الجلاد بارع، ورقبتي صغيرة".
    وفي نفس اليوم، وبينما كانت المدافع تعلن موتها، انطلق هنري الثامن بالقارب في مياه التيمز لزيارة خطيبته الجديدة جين سيمور. وأعلن عن نيّته الزواج منها. وفي صباح اليوم التالي عُقدت خطبة الزوجين رسميّا. ونجحت جين سيمور في تحقيق ما فشلت فيه ملكات هنري الأخريات، وهو إنجاب الابن الذي طال انتظاره. لكنها توفّيت في الليلة التالية بسبب مضاعفات ما بعد الولادة، عن 28 عاما.
  • ❉ ❉ ❉

  • كانت فتاة تعمل في مصنع للحوم، وكانت وظيفتها تقطيع اللحم بأحجام مناسبة. وفي أحد الأيّام، وقبل نهاية الدوام بقليل، دخلت إلى مخزن اللحوم المبرّد. وفجأة، أقفل الباب آليّا من الخارج. حاولت جاهدة فتح الباب، لكنها لم تستطع. ولم يكن هناك جدوى من الصراخ، لأن جميع العمّال كانوا قد أنهوا عملهم وغادروا.
    وبدأت الفتاة تتجمّد ببطء من شدّة البرودة. وأصبح الموت وشيكا. واستسلمت لفكرة أنه لا توجد فرصة لبقائها على قيد الحياة. وفجأة وبشكل غير متوقّع تماما، فُتح الباب. وبعد أن تجاوزت الفتاة الصدمة وتمالكت نفسها، سألت الحارس عن السبب الذي دعاه لأن يأتي إلى المخزن بعد انصراف الجميع، فقال: أنا أعمل هنا كحارس أمن منذ أكثر من 30 عاما، ونادرا ما يأتي إليّ شخص كلّ صباح ويقول لي صباح الخير، وعندما يغادر في المساء يلقي عليّ تحية الوداع".
    وأضاف: كان معظم الموظّفين يتصرّفون معي وكأنهم لا يرونني. لكنكِ كنتِ الشخص الوحيد الذي يحرص على أن يراني ويسلّم عليّ بابتسامة لطيفة كلّ يوم. وقد فعلتِ ذلك هذا الصباح أيضا. ولكن بعد الظهر لم أسمع كلمة مساء الخير منك، ففهمت أنك لم تخرجي بعد، وبدأت أبحث عنكِ".
    والعبرة من هذه القصّة هي انه بقدر ما تُحسن الى الآخرين، بقدر ما يعود عليك ذلك بالخير أضعافا وأن "من يفعل الخير لا يعدم جوازيه".
  • ❉ ❉ ❉

  • يقول عالم الطبيعة الأمريكي سيغيرد اولسون إن الحياة البريّة ضرورة روحية للإنسان وترياق للضغوط العالية للحياة الحديثة ووسيلة لاستعادة الهدوء والتوازن. ويضيف: لقد أصبحتُ أدرك تدريجيّا أهمية تطوير علاقة روحية بالأرض كما فعل السكّان الأصليون وما زالوا يفعلون لقرون.
    لذا عندما يتعلّق الأمر بمسألة البريّة، أو ما كانت عليه الأرض في الأصل قبل أن نخربّها، فإننا نحاول الحفاظ على نقاء هذه الأرض كما أرادها الله لرفاهيتنا الروحية والنفسية. إننا ننتمي إلى الأرض ولا يمكننا فصل أنفسنا عنها. وعندما تفصل نفسك عن الأرض، فإنك تقطع جذورك. والذين يقطعون جذورهم تصبح أرواحهم ضائعة. والعالم مليء بهؤلاء، وهم يبحثون بشكل يائس عن شيء يتمسّكون به".

  • Credits
    thehistorypress.co.uk
    listeningpointfoundation.org

    الأربعاء، يناير 01، 2025

    رحلة الى عالَم هيديز


    هل تتوقّع حقّا أن تتمكّن من سرقة، أو حتى لمس قطرة واحدة من أقدس الينابيع وأكثرها قسوةً؟ حتى الآلهة وجوپ‍يتر نفسه يخافون من مياه ستيكس. ويجب أن تعلم أنه، كما تُقسِم أنت بقوى الآلهة، فإن الآلهة نفسها تقسم دائما بجلال ستيكس.
    * نسر جوپ‍يتر موبّخاً سايكي، التحوّلات لأبوليوس، ١٥٠م.

    ❉ ❉ ❉

    في اللوحة التي فوق، يصوّر الفنّان الفرنسي غوستاف دوريه مشهدا من قصيدة دانتي أليغييري الملحمية "الكوميديا الإلهية". وتصوّر اللوحة جزءا من نهر ستيكس الأسطوري الذي تظهر وسط أمواجه المضطربة العديد من الأرواح المعذّبة والأجساد المتلوّية والمتألّمة.
    وفي وسط المنظر، تظهر شخصيّتا دانتي وڤ‍يرجيل وهما يقفان في قارب يقوده حارس الجحيم شيرون. وفي الخلفية، تظهر طبيعة مظلمة ومتعرّجة وسماء منذرة بالشؤم، تعكس الأجواء المضطربة لمناطق الجحيم في كتاب دانتي. وقد استخدم الرسّام خطوطا تفصيلية ومعبّرة لالتقاط الكثافة الدرامية والعاطفية للمشهد.
    فكرة الغرب الحديثة عن الحياة الأبدية يمكن إرجاع أصولها إلى شعوب بلاد ما بين النهرين القديمة، التي تَصوّرت عالما سفليّا يُعرف باسم أرالو أو إركالا. وكما كان يُعتقد أن السماوات موجودة فعليّا عالياً فوق رؤوس المؤمنين، كان يُعتقد ايضا أن هذا العالم السفلي موجود تحت سطح الأرض. ولم تكن أرض الموتى مكانا سعيدا ولا مخيفا، بل كانت النقيض الروحي للسماوات ونسخة قاتمة من الحياة على الأرض.
    وفي اليونان القديمة كانت الكلمة المعبّرة عن هذا المكان السفلي هي "هيديز". ثم بعد مرور بعض الوقت، أضيف تعقيد آخر إلى هذا المفهوم من خلال فكرة إيجاد وجهة ثانية لأولئك الذين عاشوا حياة فضيلة واستقامة. ثم أصبحت الوجهة الأصلية للموتى أسوأ تدريجيا، وتحوّلت إلى جحيم من النار والظلام.
    وكانت هاتان الحالتان متطرّفتين لدرجة أنه بحلول القرن الخامس الميلادي، كان من الواضح أن خيارا ثالثا بات ضروريا لغالبية البشر الذين لا يستحقّون المكافآت الأبدية للقدّيسين ولكنهم أيضا لا يستحقّون العذاب الأبدي. وكان الحلّ لهذه المشكلة هو المطهر او البرزخ، وهو مكان يمكن فيه قبول المتوسّطين أخلاقيّا لفترة موقّتة ريثما يتطهّرون من الذنوب ويُقبلون في الجنّة في النهاية .
    في الثقافة اليونانية القديمة، كان لمفهوم الموت أهميّة كبيرة وكانت تصاحبه معتقدات وطقوس مختلفة. وكان الإغريق ينظرون إلى الموت كجزء طبيعي لا مفرّ منه من الحياة، وكان فهمهم للحياة الآخرة ورحلة الروح معقّدا بعض الشيء.
    والأساطير اليونانية تقدّم عوالم متعدّدة للحياة الآخرة. فهيديز هو عالَم الموتى، وهو مكان مظلم وكئيب يحكمه إله يحمل نفس الاسم. وهناك أقسام مختلفة داخل هيديز، مثل حقول الإليزيه "أو جِنان الفردوس"، وهي مخصّصة للأبرار والصالحين، وتارتاروس او عالم الجحيم وهو مخصّص للعصاة والفاسدين.
    وكان الإغريق يعتقدون أنه بعد الموت، تترك الروح الجسد وتبدأ رحلتها إلى العالم السفلي. وغالبا ما تتضمّن هذه الرحلة عبور نهر ستيكس بمساعدة الربّان شيرون.


    ويعتمد مصير الروح في الحياة الآخرة على عوامل عدّة، منها أعمال وتصرّفات الشخص المتوفّى أثناء حياته ونوعية الطقوس التي رافقت دفنه. والإغريق كانوا يعتقدون أن روح الشخص لا يمكن أن ترتاح بسلام في الحياة الآخرة دون غسل الجسم ودهنه ثم دفنه بالشكل المناسب.
    وكان الحداد على الموتى جزءا مهمّا من طقوس الحزن التي تضمن رحلة سلمية للروح الى عالم هيديز أو الآخرة، كارتداء الملابس السوداء وقصّ أو تمزيق الشعر وترك عملة معدنية على جسد الميّت لتُدفع لشيرون كرسم لعبور النهر.
    ويؤكّد علماء الآثار أنه في بعض المدافن، وُجدت بالفعل عملات معدنية موضوعة في فم الميّت أو بالقرب منه، واعتُبر هذا تأكيدا على أن لبعض جوانب أسطورة شيرون أصلا في بعض ممارسات الجنائز اليونانية والرومانية، وأن العملات المعدنية تعمل كزادٍ لرحلة الروح.
    ويذكر ڤ‍يرجيل في "الإنيادا" أنه كان على الموتى الذين لم يتمكّنوا من دفع الرسوم لشيرون أو لم يتلقّوا طقوس دفن لائقة أن يتجوّلوا على غير هدى على طول شواطئ ستيكس لمائة عام قبل أن يُسمح لهم بعبور النهر.
    وعبور نهر ستيكس هو رمز للرحلة من عالم الأحياء إلى الحياة الآخرة وانفصال الروح عن الجسد المادّي. وكثيرا ما يُصوَّر النهر على أنه كتلة مائية مظلمة وغامضة، يفصل بين أرض الأحياء وأرض الموتى، ويعكس الطبيعة القاتمة وغير المعروفة للحياة الآخرة. أمّا دور شيرون فهو توجيه الأرواح ونقلها عبر هذه الحدود والعمل كمرشد وحارس لهذا الانتقال.
    وكان أورفيوس، العازف الأسطوري، ممّن نقلهم شيرون بقاربه لاستعادة زوجته من عالم هيديز. وقد سَمح له بعبور نهر ستيكس دون دفع الرسوم المعتادة بعد أن فتنته موسيقاه. ويكشف هذا التعاطف النادر عن جانب أكثر رقّة وإنسانية لشيرون، الذي يُنظر إليه عادةً كشخصية قاسية ولا تعرف الرحمة.
    كان لشيرون تأثير كبير على الفنّ والأدب وعلى الثقافة الشعبية. وظهرت صورته كقائد لسفينة الموتى في عدد لا يُحصى من اللوحات والمنحوتات. وقد اجتذب موضوع عبوره لنهر ستيكس، مصحوبا بأرواح الموتى الى ارض هيديز، اهتمام الكثير من الرسّامين الذين جسّدوه في أعمال فنيّة مختلفة عبر التاريخ.
    وكان الغرض من تلك الأعمال استكشاف مواضيع مثل زوال الحياة وحتمية الموت ولاستثارة شعور بالغموض والتشاؤم والمجهول في نفس الناظر. وغالبا ما تصوّر الأعمال الفنيّة منظرا طبيعيا مهجورا يتضمّن نهرا مظلما وقاربا يقف فيه الربّان أو يجلس، بينما ينهمك في نقل الأرواح الى الآخرة.
    رمزية نهر ستيكس ورجل القارب منعكسة أيضا في مواقفنا الثقافية تجاه الموت والاحتضار. وفكرة عبور النهر للوصول إلى الحياة الآخرة هي مفهوم عالمي يمكن أن نجده في العديد من الثقافات والأديان حول العالم. كما أن صورة شيرون تأكيد على أهمية قبولنا لفكرة فنائنا في النهاية.
    وهذان الرمزان الدائمان في الأساطير اليونانية، أي نهر ستيكس وشيرون، ما يزالان يأسراننا ويلهماننا حتى اليوم. ومن المرجّح أن تظلّ صورتهما جزءا مهمّا من خيالنا الثقافي للقرون القادمة. وقد تجاوزت الصورتان الأساطير اليونانية ودخلت في سياقات ثقافية أوسع وأصبحت ترمز للموت والانتقال والمجهول بإثارتها فضول البشر الأبدي حول ما يكمن وراء هذا العالم.

    Credits
    study.com