في أسفار روبرت بايرون، كما يسجّلها في كتابه، يصبح تقاطع الحضارات نقطة محورية لتقديم رؤى غنيّة ومتعدّدة الطبقات في نسيج الثقافات التي يصادفها. وبينما يجوب الأراضي التي كانت تاريخيا مفترقَ طرق للإمبراطوريات والتجّار والأفكار، فإنه يلاحظ باستمرار اندماج وتمازج التقاليد والعمارة والفن وأساليب الحياة المتنوّعة عبر الزمان والمكان.
شيملا، 16 نوفمبر
صباح كسول، جبال وسماء زرقاء وسلسلة من التلال.
بدت الجبال في غاية الجمال ونحن نمرّ عبر الحدائق والبساتين وصولا إلى سفوح التلال الجرداء. وبدا جبل "ديمافند" مغطّى بالثلوج والسماء المظلمة. واستطالت ظلالنا واندمجت في ظلّ واحد ضخم فوق السهل بأكمله. وغمرت المياه التلال السفلية والعليا والقمم نفسها. واستدارت الخيول، وغربت الشمس خلف سحابة، ثم عادت للظهور تحتها.
في المساء قادنا خادم يحمل فانوسا ورقيّا ارتفاعه ثلاثة أقدام إلى منزله عبر متاهات المدينة القديمة. كان الضيوف الآخرون أميرا قاجاريّا وزوجته نشئا في هونغ كونغ. وقد انزعجا من اضطرارهما لتناول الطعام على الأرض. كان المنزل صغيرا لكن برج الرياح الصغير وفناءه الغارق أضفيا عليه لمسة مميّزة.
في الصباح، سلكنا خطّا مستقيما بين سلاسل جبال متوازية. وأطلّت قبّة السلطانية على الصحراء. هناك وجدنا بلاد فارس مختلفة. على بعد أميال قليلة من الطريق الرئيسي، استُبدلت القبّعة البهلوية الحديثة بالقبّعة القديمة على شكل خوذة والتي تظهر في نقوش برسيبوليس. كان معظم القرويين يتحدّثون التركية. أخذنا من مقهى الشاي وعاءً من اللبن ورغيف خبز بحجم خيمة.
طوس، 18 نوفمبر
كانت طوس، موطن الفردوسي، موجودة قبل مشهد التي نشأت حول رفات الإمام الرضا. التلال تُفصح عن معالم المدينة القديمة. جسر عتيق بثمانية أقواس يمتدّ على النهر. وينتصب ضريح ضخم مقبّب بلون أوراق الورد الذابلة قبالة الجبال الزرقاء. لا أحد يعلم من يخلّد هذا الضريح، مع أنه قد يكون بُني في القرن الثاني عشر. وهو وحده الذي نجا من روائع طوس المعمارية. لكن في العام المقبل ستحلّ الذكرى الألف لميلاد الفردوسي.
وهكذا ستكون طوس، الصامتة طويلا بين الجبال والصحراء، مسرحا لمناسبة مهمّة. سيُكشف النقاب عن نصب تذكاريّ للشاعر يقع على الأرجح في موقع قبره الذي سيُغطّى بحجر أبيض يقوم على درج واسع وأمامه بركة طويلة محاطة بصفوف من الأشجار. وعندما تنتهي المراسم، ولا يُسمع سوى رنين أجراس الماعز مرّة أخرى، سيجد عشّاق الفردوسي راحة وامتنانا في هذا الضريح البسيط.
كاريز، 19 نوفمبر
في السهل، أحاطت حقول خشخاش الأفيون بالقرى الهادئة. كانت أوراقها الخضراء النضرة تلتمع على سماء غائمة. تَراقصَ برق أرجوانيّ في الأفق. كانت السماء قد هطلت بالفعل. وفي الصحراء، كنّا نشمّ رائحة شوك الجمل العطرية كما لو كان مشتعلا. وامتزجت أزهار الترمس الصفراء مع كتل كبيرة من السوسن البنفسجي والأبيض. كانت "كاريز" نفسها تعجّ برائحة نفّاذة وحلوة كأزهار الفاصوليا، لكنها أكثر هدوءاً وشاعرية. خرجتُ لأحاول تحديد مكانها. نادتني أزهار الأفيون، متوهّجة في الغسق كمصابيح ثلجية.
هيرات، 21 نوفمبر
عند اقترابنا من هيرات، ظلّ الطريق من بلاد فارس قريبا تحت الجبال حتى التقى بالطريق من كوشك، حيث انعطف منحدرا نحو المدينة. وصلنا في ليلة مظلمة، لكنها مرصّعة بالنجوم. هذا النوع من الليالي غامض دائما. ففي بلد مجهول، وبعد رؤية حرّاس الحدود المتوحّشين، ولّد ذلك في نفسي إثارة قلّما شعرت بها. وفجأة دخل الطريق بستانا من المداخن العملاقة.
وللحظة، شعرت بالذهول، توقّعت أيّ شيء على الأرض إلا مصنعا، الى أن ظهرت صورة ظلّية لقبّة مكسورة ذات أضلاع غريبة. وفكّرت أنه لا يوجد سوى قبّة واحدة في العالم تماثلها: قبر تيمورلنك في سمرقند. لذا، لا بدّ أن المداخن مآذن. ذهبت إلى الفراش كطفل في ليلة عيد الميلاد، بالكاد أستطيع انتظار الصباح.
هيرات، 22 نوفمبر
عندما حلّ الصباح، صعدت إلى سطح مجاور للفندق، فرأيت سبعة أعمدة زرقاءَ سماوية ترتفع من الحقول الجرداء مقابل جبال رقيقة بلون أصفر، يُلقي الفجر على كلّ منها بريقا ذهبيا باهتا. وفي وسطها، تتلألأ قبّة زرقاء على شكل بطّيخة مقطوعة من فوق. وجمالها يتجاوز مجرّد منظر خلاب. فعند النظر إليها عن كثب، تُضفي كلّ بلاطة وكلّ زهرة وكلّ بتلة من الفسيفساء لمسة من العبقرية. حتى في خرابها، تُخلّد هذه العمارة عصرا ذهبيا. فهل نسيها التاريخ؟ ليس تماما.
اشتهرت منمنمات هيرات في القرن الخامس عشر، باعتبارها مصدرا للرسم الفارسي والمغولي لاحقا. وأنا أسير في الطريق نحو المآذن، شعرت كما يشعر من وقع بصره على كتب "ليفي" المفقودة أو لوحات "بوتيتشيللي" المجهولة. من المستحيل، على ما أظن، التعبير عن مثل هذا الشعور. فالتيموريون بعيدون جدّا عن معظم الناس، ولا يمكن التعلّق بهم. وعلى الرغم من ذلك، كان هؤلاء "الميديتشي" الشرقيون سلالة استثنائية.
هيرات، 23 نوفمبر
جاء إليّ اليوم شخص بنجابيّ ودود يعمل في الخدمة الطبّية الأفغانية ليتابع الأخبار وليصقل لغته الإنغليزية. أخبرته عن مقابلتي مع الحاكم المحلّي، معبّرا عن سروري بالهروب من الشكوك الفارسية إلى هذا الجوّ الأكثر حرّية. فقال: يا سيّدي، ترتكب خطأً فادحا إذا ظننت أنه لا توجد أيّ شكوك هنا. وأقول لك لا تقارن بلاد فارس بأفغانستان في هذا. حاليا يقيم في هذه المدينة عشرون أجنبيا من الهنود والروس، ويعمل حوالي مائة وعشرين مخبرا لمراقبتهم. أتظنّ أنهم لا يراقبونك؟ إنهم يراقبونك الآن من الطابق السفلي. وهم يرونني ويراقبونني طوال الوقت ويعرفون أنني صعدت إلى غرفتك. وأعتقد أن الروس يراقبونك أيضا".
صباح كسول، جبال وسماء زرقاء وسلسلة من التلال.
بدت الجبال في غاية الجمال ونحن نمرّ عبر الحدائق والبساتين وصولا إلى سفوح التلال الجرداء. وبدا جبل "ديمافند" مغطّى بالثلوج والسماء المظلمة. واستطالت ظلالنا واندمجت في ظلّ واحد ضخم فوق السهل بأكمله. وغمرت المياه التلال السفلية والعليا والقمم نفسها. واستدارت الخيول، وغربت الشمس خلف سحابة، ثم عادت للظهور تحتها.
في المساء قادنا خادم يحمل فانوسا ورقيّا ارتفاعه ثلاثة أقدام إلى منزله عبر متاهات المدينة القديمة. كان الضيوف الآخرون أميرا قاجاريّا وزوجته نشئا في هونغ كونغ. وقد انزعجا من اضطرارهما لتناول الطعام على الأرض. كان المنزل صغيرا لكن برج الرياح الصغير وفناءه الغارق أضفيا عليه لمسة مميّزة.
في الصباح، سلكنا خطّا مستقيما بين سلاسل جبال متوازية. وأطلّت قبّة السلطانية على الصحراء. هناك وجدنا بلاد فارس مختلفة. على بعد أميال قليلة من الطريق الرئيسي، استُبدلت القبّعة البهلوية الحديثة بالقبّعة القديمة على شكل خوذة والتي تظهر في نقوش برسيبوليس. كان معظم القرويين يتحدّثون التركية. أخذنا من مقهى الشاي وعاءً من اللبن ورغيف خبز بحجم خيمة.
كانت طوس، موطن الفردوسي، موجودة قبل مشهد التي نشأت حول رفات الإمام الرضا. التلال تُفصح عن معالم المدينة القديمة. جسر عتيق بثمانية أقواس يمتدّ على النهر. وينتصب ضريح ضخم مقبّب بلون أوراق الورد الذابلة قبالة الجبال الزرقاء. لا أحد يعلم من يخلّد هذا الضريح، مع أنه قد يكون بُني في القرن الثاني عشر. وهو وحده الذي نجا من روائع طوس المعمارية. لكن في العام المقبل ستحلّ الذكرى الألف لميلاد الفردوسي.
وهكذا ستكون طوس، الصامتة طويلا بين الجبال والصحراء، مسرحا لمناسبة مهمّة. سيُكشف النقاب عن نصب تذكاريّ للشاعر يقع على الأرجح في موقع قبره الذي سيُغطّى بحجر أبيض يقوم على درج واسع وأمامه بركة طويلة محاطة بصفوف من الأشجار. وعندما تنتهي المراسم، ولا يُسمع سوى رنين أجراس الماعز مرّة أخرى، سيجد عشّاق الفردوسي راحة وامتنانا في هذا الضريح البسيط.
في السهل، أحاطت حقول خشخاش الأفيون بالقرى الهادئة. كانت أوراقها الخضراء النضرة تلتمع على سماء غائمة. تَراقصَ برق أرجوانيّ في الأفق. كانت السماء قد هطلت بالفعل. وفي الصحراء، كنّا نشمّ رائحة شوك الجمل العطرية كما لو كان مشتعلا. وامتزجت أزهار الترمس الصفراء مع كتل كبيرة من السوسن البنفسجي والأبيض. كانت "كاريز" نفسها تعجّ برائحة نفّاذة وحلوة كأزهار الفاصوليا، لكنها أكثر هدوءاً وشاعرية. خرجتُ لأحاول تحديد مكانها. نادتني أزهار الأفيون، متوهّجة في الغسق كمصابيح ثلجية.
هيرات، 21 نوفمبر
عند اقترابنا من هيرات، ظلّ الطريق من بلاد فارس قريبا تحت الجبال حتى التقى بالطريق من كوشك، حيث انعطف منحدرا نحو المدينة. وصلنا في ليلة مظلمة، لكنها مرصّعة بالنجوم. هذا النوع من الليالي غامض دائما. ففي بلد مجهول، وبعد رؤية حرّاس الحدود المتوحّشين، ولّد ذلك في نفسي إثارة قلّما شعرت بها. وفجأة دخل الطريق بستانا من المداخن العملاقة.
وللحظة، شعرت بالذهول، توقّعت أيّ شيء على الأرض إلا مصنعا، الى أن ظهرت صورة ظلّية لقبّة مكسورة ذات أضلاع غريبة. وفكّرت أنه لا يوجد سوى قبّة واحدة في العالم تماثلها: قبر تيمورلنك في سمرقند. لذا، لا بدّ أن المداخن مآذن. ذهبت إلى الفراش كطفل في ليلة عيد الميلاد، بالكاد أستطيع انتظار الصباح.
عندما حلّ الصباح، صعدت إلى سطح مجاور للفندق، فرأيت سبعة أعمدة زرقاءَ سماوية ترتفع من الحقول الجرداء مقابل جبال رقيقة بلون أصفر، يُلقي الفجر على كلّ منها بريقا ذهبيا باهتا. وفي وسطها، تتلألأ قبّة زرقاء على شكل بطّيخة مقطوعة من فوق. وجمالها يتجاوز مجرّد منظر خلاب. فعند النظر إليها عن كثب، تُضفي كلّ بلاطة وكلّ زهرة وكلّ بتلة من الفسيفساء لمسة من العبقرية. حتى في خرابها، تُخلّد هذه العمارة عصرا ذهبيا. فهل نسيها التاريخ؟ ليس تماما.
اشتهرت منمنمات هيرات في القرن الخامس عشر، باعتبارها مصدرا للرسم الفارسي والمغولي لاحقا. وأنا أسير في الطريق نحو المآذن، شعرت كما يشعر من وقع بصره على كتب "ليفي" المفقودة أو لوحات "بوتيتشيللي" المجهولة. من المستحيل، على ما أظن، التعبير عن مثل هذا الشعور. فالتيموريون بعيدون جدّا عن معظم الناس، ولا يمكن التعلّق بهم. وعلى الرغم من ذلك، كان هؤلاء "الميديتشي" الشرقيون سلالة استثنائية.
جاء إليّ اليوم شخص بنجابيّ ودود يعمل في الخدمة الطبّية الأفغانية ليتابع الأخبار وليصقل لغته الإنغليزية. أخبرته عن مقابلتي مع الحاكم المحلّي، معبّرا عن سروري بالهروب من الشكوك الفارسية إلى هذا الجوّ الأكثر حرّية. فقال: يا سيّدي، ترتكب خطأً فادحا إذا ظننت أنه لا توجد أيّ شكوك هنا. وأقول لك لا تقارن بلاد فارس بأفغانستان في هذا. حاليا يقيم في هذه المدينة عشرون أجنبيا من الهنود والروس، ويعمل حوالي مائة وعشرين مخبرا لمراقبتهم. أتظنّ أنهم لا يراقبونك؟ إنهم يراقبونك الآن من الطابق السفلي. وهم يرونني ويراقبونني طوال الوقت ويعرفون أنني صعدت إلى غرفتك. وأعتقد أن الروس يراقبونك أيضا".
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
توقّفت عربتنا عند تخت سفر "أو عرش المسافر"، وهي حديقة مدمّرة ازداد حزنها الطبيعي مع نهاية عصر يوم خريفي وأوّل صفير لرياح الليل. من الخزّان الفارغ في الأعلى، ينحدر صفّ من البرك والمجاري المائية من شرفة إلى أخرى. وقد بُني هذا المَعْلم الذي تمتّع به السلطان "حسين بايكارا" بالسُخرة. وحتى القرن الماضي، كان هناك جناح وكانت المياه ما تزال جارية.
التقطت أنفاسي وأنا أدخل الممرّ المضاء بنور القمر. أربع بنادق مصوّبة نحوي من أربعة أشباح متّشحين بالبياض، كانوا يجلسون متربّعين في الغرفة المقابلة لغرفتي. استطعت رؤية بريق عيونهم في الظلام تحت عمائمهم البيضاء الباهتة. وكان أربعة آخرون يديرون ظهورهم لي وبنادقهم مسنودة الى النافذة. لا شكّ أنها كانت مجرّد حفلة مسائية ممتعة. لكن صحيفة محلية تحدّثت في الصباح عن اضطرابات ومناوشات تلوح في الأفق.
ألقت جذوع أشجار الصنوبر بظلالها الطويلة على الشارع المقمر. وتحرّكت نسمة هواء داخل فانوس مضاء. نور محمّد، الجندي الذي كان ملتصقا بي، نائم في زاوية من الشرفة. رأسه على بندقيّته المصوّبة نحو أنفي. لقد تناولنا وليمة للتوّ، وعاد "حضرة صاحب" بعد العشاء، مقدّما لنا صينية من القصدير مليئة بالمكسّرات والرمّان. وتبع ذلك تقديم الشاي في أوعية بدلا من الكؤوس، ما جعلني أشعر وكأنني في الصين. وسألني حضرة صاحب: أنت من أين؟" قلت: من إنغلترا." قال: إنغلستان؟ قلت: نعم" سأل: وما هي"؟ قلت: مثل هندوستان."
زرت النصب التذكاري لـ "جوهر شاد"، الزوجة الأثيرة لشاهروك ملك الإمبراطورية التيمورية. ولاحظت اختفاء مئذنتين من المزار سقطتا خلال زلزال عام ١٩٣١. كانت المآذن الأربع مجتمعةً تشير إلى أركان المسجد. وقد بُني المصلّى على نفق جوهر شاد بين عامي ١٤١٧ و١٤٣٧.
ويقال انه لا يمكن لأيّ صورة أو شرح أن يصف جمال تلك المآذن عندما كانت قائمة. لونها الأزرق العنبي مع اللازورد والتلافيف المعقّدة تضفي عليها لمعانا وعمقا. وعلى القواعد التي تدعم جوانبها الثمانية ألواح من رخام أبيض منحوتة بالخط الكوفي. ويمتزج الأصفر والأبيض والأخضر الزيتوني والأحمر الصدئ مع اللونين الأزرقين في متاهة من الزهور والزخارف العربية والنصوص الدقيقة كالنقش على فنجان شاي. كانت الأعمدة مغطّاة بمعيّنات صغيرة على شكل ماسات مليئة بالزهور.
كان والد جوهر شاد، التي يعني اسمها "الجوهرة المبهجة"، غياث الدين أحد النبلاء البارزين من ذوي النفوذ في عهد تيمور. وتحت رعايتها، ارتقت اللغة والثقافة الفارسية إلى مستوى رفيع. وقادت هي وزوجها نهضة ثقافية بفضل رعايتهما السخية للفنون، فاستقطبا إلى بلاطهما فنّانين ومهندسين معماريين وفلاسفة وشعراء يُعتبرون اليوم من ألمع نجوم العالم، وكان من بينهم الشاعر جامي.
وبعد وفاة زوجها عام ١٤٤٧، نصّبت جوهر شاد حفيدها المحبوب على العرش. ولعشر سنوات، أصبحت الحاكم الفعلي لامبراطورية كانت تمتدّ من نهر دجلة إلى سينكيانغ في الصين. وعندما تجاوزت الثمانين من عمرها، أعدمت في يوليو ١٤٥٧ بأمر من السلطان أبو سعيد.
كانت قصص جوهر شاد لا تزال شائعة هنا في القرن الماضي. وهذه القصص لا تتحدّث فقط عن جمالها ولا عن رعايتها للفنون. بالنسبة لأهل هيرات الذين عرفوها ستّين عاما، كانت جوهر شاد شخصيّة مميّزة. وقد جعلها تنوُّع حياتها وعنفُ موتها نموذجا يُحتذى به في عصرها.
على عكس "جوهر شاد"، كان "حسين بايكارا" أكثر من مجرّد اسم. فجسده على الأقل مألوف، إذ رسمه بهزاد ووصفه بابر. كانت عيناه مائلتين ولحيته بيضاء وخصره نحيلا. كان يرتدي الأحمر والأخضر. وعادة ما كان يعتمر قبّعة صغيرة من جلد الحمل. ولكن في أيّام الأعياد كان يرتدي عمامة ثلاثية ملفوفة بشكل عريض ويضع فيها ريشة من مالك الحزين ثم يذهب إلى الصلاة.
كان هذا أقلّ ما يمكن أن يفعله، لأنه في أواخر حياته كان يعاني من الروماتيزم لدرجة أنه لم يكن يستطيع أداء الصلاة كما ينبغي. ومثل صغار الناس، كان يستمتع بتطيير الحمام وحضور مصارعات الديوك والكِباش. وكان شاعرا أيضا، لكنه كان ينشر قصائده باسم مستعار. كان شديد الطبع صاخبا وكان في الحبّ نهما. كان لديه عدد لا يُحصى من المحظيات والأبناء الذين دمّروا سلام الدولة وشيخوخته.
كان حسين بايكارا قد استولى على هيرات بعد عشرين عاما من الفوضى التي أعقبت وفاة شاهروك عام ١٤٤٧، فأعاد إليها السلام أربعين عاما أخرى. وقتها كان "جامي" يغنّي و"بهزاد" يرسم وكان "علي شير نوائي" بطلا للأدب التركي. كانت هيرات ذلك العصر، حين كان الأوزبك يتقدّمون وسمرقند تسقط، هي ما رآه بابر في شبابه. يتذكّر فيما بعد: لم يكن العالم بأسره صالحا للسكنى، كما أصبحت هيرات في عهد السلطان حسين. كانت خراسان، وهيرات قبل كلّ شيء، مليئة بالعلماء والفنّانين الذين لا يضاهَون. وكانت غاية كلّ شخص أن يتقن أيّ عمل يقوم به".
مكث بابر هنا ثلاثة أسابيع في خريف عام ١٥٠٦. كان يخرج كلّ يوم لرؤية المعالم السياحية على صهوة جواده. هذا الصباح، تبعتهُ ونظرت إلى المباني التي كان يعاينها. لم يبقَ منها الكثير. أطلال سبع مآذن وضريح مهدّم هي كلّ ما بقي من ذلك العصر.
هذه المدينة تدين بوجودها إلى حلم. في عهد السلطان سنجر في القرن الثاني عشر، وصل إلى بلخ خبر من الهند يفيد بوجود قبر علي، الخليفة الرابع، بالقرب منها. أنكر ذلك أحد ملالي المنطقة، الذي كان يعتقد، كما معظم الشيعة، أن قبره في النجف بشبه الجزيرة العربية. عندها ظهر علي للمُلا في المنام وأكّد الخبر. عُثر على القبر وأمر السلطان سنجر ببناء مزار فوقه اكتمل بناؤه عام ١١٣٦ وشكّل نواة المدينة الحالية.
لكن الضريح دُمّر على يد جنكيز خان، فاستُبدل بآخر بناءً على طلب حسين بايكارا الذي كان يشارك في حملة في أوكسيانا في العام السابق. ومنذ ذلك الحين، أصبحت مزار الشريف مزارا دينيا.
توجد حديقة عامّة خارج الفندق، تُزرع فيها زهور السوسن وأنف العجل وزهرة الربيع المسائية. ووُضعت بين الأسِرّة مقاعد صغيرة وسجاجيد من القش، حيث يجلس الناس ويشربون على أنغام الموسيقى التي تعزفها فرقتان موسيقيتان.
في عصر كلّ يوم، وبينما تتجمّع الغيوم على الجبال، يخيّم كسل لا يقاوَم. لماذا هذه الغيوم؟ الجو حارّ بما فيه الكفاية، وكان ينبغي أن ينتهي الصيف منذ أسابيع. لم يُعرف عام كهذا قط. أغلق المطر، الذي هطل ليلة وصولنا، الطريق وسقطت قرية بأكملها في واد.
هذا الصباح، رأينا تنّينا خارج مزار. كان طوله ثلاثة أقدام ونصف، أصفر اللون من الأسفل وبأرجل أربع صغيرة. ضرب ذيله بقوّة ثم ركض إلى حفرة. وبالقرب منه، وجدنا عشّا لطائر طيهوج رملي به ثلاث بيضات.
كانت قبائل من الجنوب تتجه شمالا. أفغان أصليون سمر البشرة ونصف هنود في زيّهم، يمتطون ظهور جمال تتراوح بين مائتين وثلاثمائة. كانت المرتفعات المتقابلة تتوّج قلاعا مهدّمة وأسوارا حصينة. واصطفّت أشجار الرمّان وشجيرات أخرى على حافّة الماء. وفي النهاية، قادنا جسر آخر من الطريق الرئيسي غربا إلى وادي باميان، الذي تألّقت منحدراته الحمراء بلون الراوند وقممه النيلية بمرأى الثلوج المتلألئة في هواء الجبال العليل.
وفجأة، كعشّ دبابير ضخم، لاحت لنا كهوف الرهبان البوذيين العديدة، متجمّعة حول تمثالي بوذا العملاقين. نظرنا لأعلى لنرى التمثالين على بعد ميل يحدّقان كما لو كانا في زيارة مسائية. وسقط برق أصفر وأرجواني من الغيوم، وارتجف الوادي. وتلا ذلك عاصفة مطرية هبّت لساعة. وعندما انقشع المطر، كانت الجبال النيلية قد غطّتها الثلوج.
عندما وصل هوان تسنغ إلى هنا، طليَت تماثيل بوذا بالذهب لتشبه البرونز واحتشد خمسة آلاف راهب في المتاهات المحيطة بها. كان ذلك عام ٦٣٢، أي في نفس العام الذي توفّي فيه النبي محمّد. ووصل العرب إلى باميان قبل نهاية القرن. ويمكن للمرء أن يتخيّل شعور العرب تجاه الرهبان وتجاه أصنامهم في هذا الوادي الأحمر الدموي. ولا بدّ أن نادر شاه ساوره الشعور نفسه بعد ألف عام عندما كسر ساقي تمثال بوذا الأكبر.
Credits
archive.org
archive.org