:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، أغسطس 28، 2025

نهاية العالم والحلم الأمريكي


تعجّ الثقافة الشعبية الأمريكية بنبوءات عن يوم القيامة وسيناريوهات نهاية العالم وكأننا نعيش في أواخر العصور الوسطى. ووفقا للسينما والتلفزيون، فإن مصّاصي الدماء والمستذئبين والزومبي والكويكبات والغزاة القادمين من الفضاء سيقتحمون الأراضي الأمريكية يوماً ما.
في المسلسل التلفزيوني "ثورة"، يتسبّب حدث غامض في توقّف جميع الأجهزة الكهربائية حول العالم عن العمل. ويؤدّي هذا الى نتائج كارثية تتضمّن خسائر فادحة في الأرواح، مثل تحطّم الطائرات على الأرض، وتفكّك جميع المؤسّسات الاجتماعية، وإجبار الناس على الاعتماد فقط على مهاراتهم الشخصية للبقاء على قيد الحياة، وانهيار الحكومات في جميع أنحاء العالم.
كما يؤدّي الحادث الى انقسام الولايات المتحدة إلى عدد من الوحدات السياسية الأصغر، في تعارض واضح مع كلّ ما تعلّمه الأمريكيون عن "أمّة واحدة غير قابلة للتفكّك". وجوهر سيناريوهات نهاية العالم هذه هو أن تتقلّص الحكومة أو تختفي تماما. ويبدو أن تلك المسلسلات تعكس شعورا بأن الحكومة الأمريكية قد تضخّمت أكثر من اللازم وباتت بعيدة جدّا عن هموم المواطنين العاديين ولم تعد تستجيب لاحتياجاتهم ومطالبهم.
وفي الحالات التي يتسبّب فيها الحدث المروّع المتخيَّل حدوثه بحلّ الحكومات، فإن هذه المسلسلات تعيد الناس فعليّا إلى ما يسمّيه المنظّرون السياسيون حالة الطبيعة. وكما لو كنّا نقرأ توماس هوبز أو جون لوك أو جان جاك روسو، نرى كيف يشكّل الناس عقدا اجتماعيا. ولا يعود الجمهور محصورا في المؤسّسات القائمة بالفعل، بل إنه يتمكّن من إعادة تقييمها ومعرفة ما إذا كان يحتاج إليها حقّا، بل قد يرى نفسه أفضل حالا في ظلّ ترتيبات أخرى أو ربّما بدون حكومة على الإطلاق.
في المسلسل التلفزيوني "السماوات المتساقطة"، تدمّر كائنات فضائية غازية الحضارة كما نعرفها، وتقضي على الحكومات في جميع أنحاء العالم. تدور أحداث المسلسل في بوسطن وما حولها، ويُعقد اجتماع في بلدة نيو إنغلاند، حيث تتاح للشخصيات فرصة مناقشة شؤونهم الخاصّة ومسارات العمل في غياب أيّ سلطة سياسية عليا. وقد تُركت الشخصيات لوحدها، إذ دمّرت الكائنات الفضائية، في ضربة قاصمة للحضارة، دوائر الاتصال، وخاصّة الإنترنت الذي يُعدّ مثالا واضحا على التقدّم التكنولوجي الذي طالما لعب دورا مهمّا في صياغة الحلم الأمريكي.
وبطبيعة الحال تفتقد شخصيات "السماوات المتساقطة" شبكة الإنترنت، لكنها تتعلّم العيش بدونها وتستحدث أساليب اتصال أكثر حميمية، وربّما أكثر إرضاءً. ويعدّ فقدان التكنولوجيا الحديثة سمة مميّزة لجميع هذه السيناريوهات الدرامية المروّعة، تعكس علاقة الحبّ والكراهية التي تربط الأمريكيين بآلاتهم وأجهزتهم. وجميع هذه المسلسلات تتبنّى موقفا مناقضا للحداثة بشكل عام، وربّما خيبة أمل حقيقية منها، وإحساسا بأن كلّ التقدّم التكنولوجي الذي يفخر به الامريكيون لم يجعلهم أكثر سعادةً، بل على العكس من ذلك، جعلتهم التكنولوجيا بائسين بنزعها الصفة الشخصية عن علاقاتهم وبتقييدها لحرّياتهم.
ومن الواضح أن شخصيات هذا المسلسل نادمة على فقدان مزايا الحضارة الحديثة. ويتمنّى الكثير منهم لو كان ما يزال بإمكانهم الوصول إلى التكنولوجيا الطبّية المتقدّمة التي كانت متاحة في المستشفيات الكبيرة والرئيسية.
وفي المسلسل تفقد الشخصيات كلّ ما كان يشكّل الحلم الأمريكي، مثل جميع ممتلكاتهم الماديّة ووضعهم الاجتماعي ووظائفهم، وبالطبع منازلهم المرفّهة. ولكن هذا يعني أنه يمكنهم الآن التركيز على بعضهم البعض. فلم تعد الوظائف تشتّت انتباههم وتلهيهم عن التزاماتهم العائلية. وبالنسبة للكبار، أصبحت الأبوّة والأمومة وظيفتهم بدوام كامل. وبعد أن كانوا في الماضي معتادين على أن يضعوا حياتهم المهنية قبل حياتهم العائلية، أصبحوا الآن مستعدّين للتضحية بأيّ شيء من أجل أطفالهم.
لقد فقدت الشخصيات كلّ ما كان يجعل حياتهم تبدو جديرة بالاهتمام، لكنهم اكتشفوا أن عناصر الحلم الأمريكي تلك كانت مُلهيات، وفي أسوأ الأحوال عقبات أمام سعادتهم الحقيقية وشعورهم بالإنجاز. وبعد تحرّرهم من الهموم الماديّة والمؤسّسات الرسمية، أُتيحت لهم الآن فرصة البحث عمّا يجعل الحياة ذات معنى حقيقي، وهو التفاني للأصدقاء وخاصّة للعائلة.
وفي المسلسل التلفزيوني "الموتى السائرون"، ينتشر وباء الزومبي بسرعة في جميع أنحاء العالم، ما يؤدّي إلى إبادة جميع السكّان، باستثناء بقايا من البشر. وفي كلّ سيناريوهات نهاية العالم هذه، فإن أيّ شيء يؤدّي إلى نهاية العالم يؤثر على الأرض بأكملها بشكل أو بآخر في وقت واحد. وما يزعج الناس هو الشعور بأنهم يفقدون السيطرة على حياتهم في عالم من المؤسّسات التي لا تتفاعل مع الناس ولا تهتمّ بأحد. وحقيقة أن كلّ هذا يحدث على نطاق عالمي هو أمر مثير للقلق بشكل خاص.
في هذا المسلسل أيضا يصبح الزومبي رمزا لقوّة العولمة التي تُذيب جميع الفروق الثقافية. ويفقد الزومبي فرديّتهم وحرّية إرادتهم وكلّ ما يجعلهم بشرا. ومن خلال عقلية القطيع التي يتّصفون بها، يصبحون تحديدا نوع البشر الذين تسعى المؤسّسات لإنتاجهم ويمثّلون الرعايا المستسلمين الذين ترغب بهم الحكومات سرّا. وتحويل الناس إلى زومبي هو صورة قويّة لما تحاول الحكومات فعله بمواطنيها، وهو خلق مجتمع متجانس وموحّد عاجز عن التصرّف باستقلالية.
ومن خلال تجريد كلّ المؤسّسات التي تشكّل الحضارة الحديثة، يقدّم لنا مسلسل "الموتى السائرون" ما كان الغرب يقدّمه في الثقافة الشعبية الأميركية: صورة للعيش على الحافّة، ورؤية لما يكون عليه الحال بدون حكومة مستقرّة، ومواجهة تحدّي حماية النفس والأسرة بلا معين، وتعلُّم معنى الاستقلال والاعتماد على الذات.
ويلعب الزومبي الدور المسند تقليديّا للهنود الحمر في أفلام الغرب الأمريكي: جحافل من البرابرة المتربّصين على حدود المجتمع المتحضّر والمهدَّد بالإبادة. ومثل الهنود في العديد من أفلام الغرب، فإن الزومبي مجهولو الهويّة والاسم تقريبا، لا يتكلّمون أبدا، وقد يقتلون عشوائيا، والهدف الواضح هو تبرير إبادتهم جماعيّا. وتشبه رحلة شخصيات هذا المسلسل عبر أراضي جورجيا المدمّرة قوافل عربات أفلام الغرب الأمريكي، فهم يتنقّلون من خطر لآخر ويقاتلون أو يتفاوضون مع الجماعات المتنافسة ويعانون من نقص الإمدادات ويبحثون عبثا عن ملجأ ويؤخّرهم البحث عن رفاق مفقودين ويمزّقهم الخلاف على تحديد وجهتهم.


يشير بعض الكتّاب إلى أن من أسباب وفرة أفلام نهاية العالم حقيقة أن البشر يشعرون بانزعاج عميق من فكرة أن حياتنا لا تشكّل سوى فترة زمنية قصيرة للغاية من تاريخ العالم وأننا نشعر بأننا عالقون في المنتصف. فالكثير حدث قبل ولادتنا، وسيحدث الكثير بعد موتنا. ولفهم هذه الحقيقة المربكة، نبحث عن "نمط متماسك" ونستثمر في فكرة أننا نجد أنفسنا في قلب قصّة.
ويجادل كتّاب آخرون بأننا تبنّينا الاعتقاد بأن بداية الإنسانية كانت فترة ازدهار وتقدّم. أما الفترة الوسطى، وهي العصر الذي نعيش فيه الآن، فتتميّز بـ"الانحطاط"، حيث تراجعَ ما كان جيّدا وأصبح بحاجة إلى "تجديد". وللدخول في عصر جديد، لا بدّ من تحمّل عملية تطهير مؤلمة "أو مرعبة"، ما يتيح لنا تفسير الفوضى و"الأزمة" التي نراها تتكشّف من حولنا. كما تتيح قصص النهاية للأفراد التأمّل في موتهم وفهم حياتهم ومكانهم في الزمن وعلاقتهم بالبداية والنهاية. أيضا هذه الأفلام تسمح للمشاهدين "بالتغلّب على مشاعر الفوضى والارتباك" من خلال تعريضهم لأساليب سردية وسينمائية تغيّر تجاربهم الطبيعية عن الزمان والمكان.
والأفلام، التي تتناول أحداث دمار عالمي، مثالية لرسائل "البقاء على قيد الحياة". ففيها تحاول الشخصيات إما منع وقوع كارثة وشيكة أو الاستعداد للنجاة من كارثة حتمية. ويضطرّ الناجون الى الكفاح من أجل البقاء في عالم ديستوبي أو شرّير. ويتجلّى هذا الكفاح في تصوير الناجين وهم يبحثون عن الطعام ويتجنّبون العصابات المتجوّلة في عالم ما بعد نهاية العالم ويُظهِرون مهارات خارقة في البقاء والقتال، كمطاردة الحيوانات البرّية وهزم مجموعات قطّاع الطرق الصحراويين.
لكن أحيانا قد تؤدّي هذه الأفلام إلى تدريب المشاهدين على العجز. إذ يبدؤون في التقليل من شأن مشاكلهم عند مقارنة نضالاتهم بأحداث الحياة والموت التي يرونها على الشاشة، ويصبحون أقلّ تحفيزا لإجراء التغييرات اللازمة في حياتهم.
من جهة أخرى، فإن هذه التصوّرات عن نهاية العالم كما تعبّر عنها السينما هي نتاج التركيبة النفسية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للمجتمع الأمريكي. وهي تنتقد الهياكل الاجتماعية القائمة، في محاولة للاستجابة للأزمات الاجتماعية الحالية، وتنظر إلى النظام القائم على أنه فاسد وأناني وجشع ولا يستحقّ الحفاظ عليه أو الاستمرار فيه.
الكاتبة إ. روزن ترى أن قصص نهاية العالم ليست سردا متفائلا حيث يتدخّل الله لتصحيح الأمر وإعادة النظام إلى عالم مضطرب ومكافأة المؤمنين، بل هي قصص تحذيرية تتنبّأ بالاحتمالات القاتمة وتعكس غضب الربّ العقابي والجماعي على عالم منحط. أي أن هذه القصص تفترض أن لا أحد يستحقّ الإنقاذ وأن الجميع يجب أن يعاقَبوا.
النسَخ الجديدة من قصص نهاية العالم تتضمّن انهيار النظام الاجتماعي ومعاقبة خطايا البشر والتشاؤم بشأن قدرة البشرية على إعادة تأهيل نفسها. وعلى عكس قصص نهاية العالم القديمة، لا تفترض القصص الجديدة نهاية سعيدة ولا توجد فيها "معجزة إلهية" ولا أمل في إعادة تأهيل البشر. فالانحطاط كامل لدرجة أن النهاية لا يمكن أن تكون إلا كذلك ولا يوجد شيء بعد هذه النهاية ولا أمل في جنّة جديدة على الأرض، لأنه لا يوجد شيء يستحقّ الإنقاذ". ورسالة هذه الأفلام واضحة: إذا لم يغيّر البشر أساليبهم، فستقع الأحداث التي يرونها على الشاشة وستتسبّب في انقراض الجنس البشري.
وفي بعض هذه الأفلام، لا يقع الحدث المروّع بسبب خطأ بشري أو لامبالاة أو عيب. مثلا، فيلم "حزن" من عام 2011 ينتهي باصطدام كوكب مارق بالأرض على أنغام مقدّمة ريكارد فاغنر لأوبرا تريستان وإيزولدا. هذا الفيلم جريء وغير منضبط ومتشائم. ورسالته هي أن الأرض شرّيرة ولا داعي للحزن عليها ويجب أن تُترك لمصيرها فلن يفتقدها أحد".
الملاحَظ أن جميع التنبّؤات عن نهاية العالم، وعلى مدى آلاف السنين الماضية، يجمعها شيء واحد مشترك، هو أنه لم يتحقّق أيّ منها على الإطلاق. وقائمة هذه التنبّؤات الفاشلة تُعزى إلى الكثير من الأسماء المهمّة، مثل الفيلسوف الروماني سينيكا والمسيحيين الأوروبيين والمورمون والمذنّب هالي وشهود يهوه وبوّابة السماء ونوستراداموس وآخرين.
لكن كلّ هذه النبوءات تحمل أيضا رسالة أعمق، وهي أنه على الرغم من أن نهاية العالم أمر لا مفرّ منه، بعد أن يتجاوز عمر الأرض خمسة مليارات سنة وتموت الشمس، إلا أنه لا يوجد أساس عقلاني أو علمي للاعتقاد بأن تلك النهاية المفترضة أصبحت وشيكة.

Credits
scene360.com
spu.edu