المفكّر السعودي إبراهيم البليهي له عبارة جميلة يقول فيها أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر تحرّره من البرمجة التلقائية وأنه يفقد من إنسانيّته بقدر ذوبانه التلقائيّ في ثقافة الجماعة.
والمجتمعات التي يغيب فيها الاختلاف والتعدّد والتنوّع واحترام الآخر المختلف يشيع فيها بالضرورة الجهل والاستبداد والتطرّف والجمود. وهي لا تحتقر شيئا قدر احتقارها لكلّ عقل يدعو للتطوّر والإبداع والتجديد والابتكار، أي أنها محكومة بما يُسمّى ثقافة القطيع.
اللوحة فوق اسمها "الشرود عن القطيع"، وهي لرسّام بولنديّ مغمور اسمه توماس كوبيرا. قد لا تثير اللوحة اهتمامك للوهلة الأولى لبساطة توليفها ولأن شكلها يذكّرنا بعشرات اللوحات التي ألفنا رؤيتها في بعض برامج الرسوميات. غير أن الرسّام يصوّر فيها، بطريقة عميقة ومثيرة للإعجاب، ماهيّة ثقافة القطيع وتأثيرها على صناعة الذات.
القطيع في اللوحة يأخذ شكل طابور من البشر، ملامحهم زرقاء، كئيبة ومتجمّدة وهم أشبه ما يكونون بقوالب الثلج. الهيئات المتجمّدة لأفراد القطيع قد تكون كناية عن أن نموّهم توقّف عند مرحلة معيّنة، كما أنهم متشابهون وبلا ملامح نتيجة كون أفكارهم وعقلياتهم مقولبة ومسبقة الصنع.
لكن هناك شيئا غريبا في هذه الصورة. إنه الشخص المندفع بقوّة إلى خارج القطيع. هذا هو التفصيل الذي يجتذب العين أكثر من سواه في اللوحة. ومن المثير للانتباه أن الرسّام لوّنه بالأحمر، أو ربّما الأصح أن نقول أن لونه يتحوّل شيئا فشيئا إلى الأحمر؛ لون النار ورمز التحدّي والإصرار والتمرّد.
الرجل إلى أقصى اليمين يظهر انه زعيم القطيع أو رمز السلطة الأبويّة. يبدو هذا الشخص وهو يجاهد مع زميله الآخر إلى يمينه للإمساك بالرجل الخارج وإعادته إلى بيت الطاعة، أي إلى حظيرة القطيع. الواقع أن فعله ليس فقط فعل خروج ولا حتى شرود عن القطيع، حركته حركة انشقاق أو انسلاخ في عنفها وقسوتها. القطيع يشدّه كي يبقى، فيما هو يشقّ طريقه منطلقا بكلّ قوّة للفكاك والانعتاق من الأسر الذي ضاق به.
شكل القطيع الذي يشبه أمواج البحر ربّما قصد الرسّام أن يرمز به إلى طغيان القطيع وجبروته وقدرته على البطش بكلّ من يحاول الخروج على الأعراف المستقرّة والجاهزة.
هذه اللوحة عبارة عن دراسة رائعة عن الذاتيّة وعن بحث الإنسان عن وجه وهويّة في المجتمعات القطيعية أو الشمولية. تأمّل قليلا تعبيرات وجه الرجل، إنها مملوءة بالمعاناة والألم، عيناه تصرخان لكن روحه تقاوم، عينه مثبّتة على شيء يراه من بعيد، قد يكون نجمه الهادي؛ حلمه الذي يريد بلوغه، توقه لأن يصبح إنسانا مختلفا ومتميّزا عن البقيّة.
الهارب من سجن القطيع في اللوحة ربّما يصحّ فيه وصف احد الكتّاب بأنه واحد ممّن قضوا معظم حياتهم وهم يعتقدون بأنهم يدافعون عن أفكارهم وقناعاتهم الخاصّة. ثم اكتشفوا ذات يوم أنهم إنما كانوا يدافعون عن أفكار وتصوّرات زرعها في عقولهم أناس آخرون.
والمجتمعات التي يغيب فيها الاختلاف والتعدّد والتنوّع واحترام الآخر المختلف يشيع فيها بالضرورة الجهل والاستبداد والتطرّف والجمود. وهي لا تحتقر شيئا قدر احتقارها لكلّ عقل يدعو للتطوّر والإبداع والتجديد والابتكار، أي أنها محكومة بما يُسمّى ثقافة القطيع.
اللوحة فوق اسمها "الشرود عن القطيع"، وهي لرسّام بولنديّ مغمور اسمه توماس كوبيرا. قد لا تثير اللوحة اهتمامك للوهلة الأولى لبساطة توليفها ولأن شكلها يذكّرنا بعشرات اللوحات التي ألفنا رؤيتها في بعض برامج الرسوميات. غير أن الرسّام يصوّر فيها، بطريقة عميقة ومثيرة للإعجاب، ماهيّة ثقافة القطيع وتأثيرها على صناعة الذات.
القطيع في اللوحة يأخذ شكل طابور من البشر، ملامحهم زرقاء، كئيبة ومتجمّدة وهم أشبه ما يكونون بقوالب الثلج. الهيئات المتجمّدة لأفراد القطيع قد تكون كناية عن أن نموّهم توقّف عند مرحلة معيّنة، كما أنهم متشابهون وبلا ملامح نتيجة كون أفكارهم وعقلياتهم مقولبة ومسبقة الصنع.
لكن هناك شيئا غريبا في هذه الصورة. إنه الشخص المندفع بقوّة إلى خارج القطيع. هذا هو التفصيل الذي يجتذب العين أكثر من سواه في اللوحة. ومن المثير للانتباه أن الرسّام لوّنه بالأحمر، أو ربّما الأصح أن نقول أن لونه يتحوّل شيئا فشيئا إلى الأحمر؛ لون النار ورمز التحدّي والإصرار والتمرّد.
الرجل إلى أقصى اليمين يظهر انه زعيم القطيع أو رمز السلطة الأبويّة. يبدو هذا الشخص وهو يجاهد مع زميله الآخر إلى يمينه للإمساك بالرجل الخارج وإعادته إلى بيت الطاعة، أي إلى حظيرة القطيع. الواقع أن فعله ليس فقط فعل خروج ولا حتى شرود عن القطيع، حركته حركة انشقاق أو انسلاخ في عنفها وقسوتها. القطيع يشدّه كي يبقى، فيما هو يشقّ طريقه منطلقا بكلّ قوّة للفكاك والانعتاق من الأسر الذي ضاق به.
شكل القطيع الذي يشبه أمواج البحر ربّما قصد الرسّام أن يرمز به إلى طغيان القطيع وجبروته وقدرته على البطش بكلّ من يحاول الخروج على الأعراف المستقرّة والجاهزة.
هذه اللوحة عبارة عن دراسة رائعة عن الذاتيّة وعن بحث الإنسان عن وجه وهويّة في المجتمعات القطيعية أو الشمولية. تأمّل قليلا تعبيرات وجه الرجل، إنها مملوءة بالمعاناة والألم، عيناه تصرخان لكن روحه تقاوم، عينه مثبّتة على شيء يراه من بعيد، قد يكون نجمه الهادي؛ حلمه الذي يريد بلوغه، توقه لأن يصبح إنسانا مختلفا ومتميّزا عن البقيّة.
الهارب من سجن القطيع في اللوحة ربّما يصحّ فيه وصف احد الكتّاب بأنه واحد ممّن قضوا معظم حياتهم وهم يعتقدون بأنهم يدافعون عن أفكارهم وقناعاتهم الخاصّة. ثم اكتشفوا ذات يوم أنهم إنما كانوا يدافعون عن أفكار وتصوّرات زرعها في عقولهم أناس آخرون.