صديقي، الذي يفاخر دائما "ومعه حقّ" بأنه قرأ كتبا أكثر بكثير ممّا قرأت، حدّثني منذ أيّام عن قائمة الكتب التي يقرؤها منذ بداية شهر رمضان. وقد اختار لقراءاته الرمضانية مجموعة من الكتب القديمة والمعروفة، وذكر في ما ذكر كتبا مثل الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب الجمهورية لأفلاطون والقانون في الطبّ لابن سينا وكتاب التواريخ لهيرودوت، بالإضافة إلى كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.
طبعا أعرف أن صديقي لا يبالغ، وهو بالتأكيد لا يدّعي شيئا ليس فيه، فأنا اعرف انه "دودة كُتُب" من النوع الذي لا يكلّ ولا يملّ من قرض والتهام كلّ ما تقع عليه يده. وهو يقرأ في جميع التخصّصات، ولهذا لا أبالغ إن وصفت ثقافته بأنها موسوعية على مستوى ما.
في اليوم التالي لحديثنا، جلست أفكّر في ما سمعته منه، ومرّت بذهني أسماء بعض الكتب القديمة والمشهورة التي ظللت احلم بقراءتها يوما ما، ولم يتسنّ لي تحقيق ذلك بسبب كثرة الأعمال والمشاغل. وكلّ تلك الكتب التي ذكرها لي صديقي هي من الكتب التي يبدو أنني اكتفيت بالسماع عنها دون أن يسعفني الحظّ والوقت لقراءتها.
ثم خطرت ببالي بعض الأسئلة عن جدوى قراءة مثل هذه النوعية من الكتب الآن، وبعضها قديم جدّا يعود إلى أكثر من ألفي عام، وكيف أن مضمون بعضها قد لا يكون ذا صلة بواقع العالم الذي نعيش فيه اليوم. وبطبيعة الحال فإن مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ملحّة جدّا بحيث أنها تتطلّب عمليّا كلّ الوقت والطاقة التي يمكن أن نكرّسها للقراءة المعاصرة والجادّة.
والسؤال ليس عن قيمة الكتب القديمة، إذ قد تكون لها قيمة عند المتخصّصين، ولكن عن جدوى قراءتها هذه الأيّام. مثلا، ما فائدة قراءة كتاب الجمهورية لأفلاطون أو كتاب العقد الاجتماعي أو كتاب هيرودوت في عالم تطوّرت فيه نظريات السياسة وتغيّرت جذريا طبيعة دراسة التاريخ والعلوم التي تتناول دراسة المجتمع والدولة وأنظمة الحكم؟
وما فائدة قراءة كتاب في الطبّ أو في الفلك ألّفه أناس عاشوا قبل أكثر من ألف عام وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم متقادمة بعد أن عفا عليها الزمن ونسختها الطفرات المتسارعة من المعارف والنظريات والابتكارات المستجدّة التي نراها من حولنا كل يوم؟
وأيضا ما جدوى قراءة كتب ابن بطّوطة أو ماركو بولو عن عجائب وأساطير العالم القديم؟ أيّ فائدة معرفية يمكن أن تعود علينا الآن من قراءة مثل هذه النوعية من الكتب التي لا شكّ كانت عظيمة في وقتها، لكنها الآن تُعتبر بسيطة وساذجة بنظر البعض؟ وأليس من الأفضل قراءة كتب لها علاقة بالحاضر وبهموم وقضايا اليوم؟
من بين أهمّ من ناقشوا مثل هذه الأسئلة الكاتب الأمريكي مورتيمر ادلر الذي كان فيلسوفا ومنظّرا في التربية وفي طرق التعليم. تخيّل ادلر ذات مرّة جامعة تتألّف هيئة تدريسها من مشاهير الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين. فمثلا هيرودوت وثوسيداديس يدرّسان في هذه الجامعة تاريخ اليونان. وغِيبون يحاضر في سقوط روما. وأفلاطون يعطي دورة في الميتافيزيقيا أو الغيبيات. وفرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل يناقشان منطق العلم. وأرسطو وسبينوزا وإيمانويل كانت يتناولون المسائل الأخلاقية. ومكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك يتحدّثون في السياسة.
وفي هذه الجامعة، يمكنك اخذ سلسلة من الدورات في الرياضيات والفلسفة من اقليدس وديكارت، وسيضاف إليهما كلّ من برتراند راسل ووايتهيد في نهاية المطاف. كما بإمكانك الاستماع إلى توما الاكويني ووليم جيمس وهما يتحدّثان عن طبيعة الإنسان والعقل البشري، وربّما يقوم بالتعليق على محاضراتهما جاك ماريتان.
وإن كنت متخصّصا في الاقتصاد فستستمع إلى محاضرات من كلّ من آدم سميث وريكاردو وكارل ماركس وماكلوهان مارشال. بينما يناقش جون ديوي المشاكل الاقتصادية والسياسية للديمقراطية الأمريكية ويحاضر لينين عن الشيوعية.
وإذا كان تخصّصك في الفنون، فستكون على موعد مع محاضرات في النحت والرسم يلقيها ميكيل انجيلو وليوناردو دا فينشي، ومحاضرات أخرى عن ليوناردو نفسه، حياته وفنّه، يلقيها فرويد!
ثم يتساءل ادلر: تُرى من منّا لا يرغب في الذهاب إلى هذه الجامعة التي تضمّ كلّ هذه الأسماء المفكّرة واللامعة؟
طبعا أعرف أن صديقي لا يبالغ، وهو بالتأكيد لا يدّعي شيئا ليس فيه، فأنا اعرف انه "دودة كُتُب" من النوع الذي لا يكلّ ولا يملّ من قرض والتهام كلّ ما تقع عليه يده. وهو يقرأ في جميع التخصّصات، ولهذا لا أبالغ إن وصفت ثقافته بأنها موسوعية على مستوى ما.
في اليوم التالي لحديثنا، جلست أفكّر في ما سمعته منه، ومرّت بذهني أسماء بعض الكتب القديمة والمشهورة التي ظللت احلم بقراءتها يوما ما، ولم يتسنّ لي تحقيق ذلك بسبب كثرة الأعمال والمشاغل. وكلّ تلك الكتب التي ذكرها لي صديقي هي من الكتب التي يبدو أنني اكتفيت بالسماع عنها دون أن يسعفني الحظّ والوقت لقراءتها.
ثم خطرت ببالي بعض الأسئلة عن جدوى قراءة مثل هذه النوعية من الكتب الآن، وبعضها قديم جدّا يعود إلى أكثر من ألفي عام، وكيف أن مضمون بعضها قد لا يكون ذا صلة بواقع العالم الذي نعيش فيه اليوم. وبطبيعة الحال فإن مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ملحّة جدّا بحيث أنها تتطلّب عمليّا كلّ الوقت والطاقة التي يمكن أن نكرّسها للقراءة المعاصرة والجادّة.
والسؤال ليس عن قيمة الكتب القديمة، إذ قد تكون لها قيمة عند المتخصّصين، ولكن عن جدوى قراءتها هذه الأيّام. مثلا، ما فائدة قراءة كتاب الجمهورية لأفلاطون أو كتاب العقد الاجتماعي أو كتاب هيرودوت في عالم تطوّرت فيه نظريات السياسة وتغيّرت جذريا طبيعة دراسة التاريخ والعلوم التي تتناول دراسة المجتمع والدولة وأنظمة الحكم؟
وما فائدة قراءة كتاب في الطبّ أو في الفلك ألّفه أناس عاشوا قبل أكثر من ألف عام وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم متقادمة بعد أن عفا عليها الزمن ونسختها الطفرات المتسارعة من المعارف والنظريات والابتكارات المستجدّة التي نراها من حولنا كل يوم؟
وأيضا ما جدوى قراءة كتب ابن بطّوطة أو ماركو بولو عن عجائب وأساطير العالم القديم؟ أيّ فائدة معرفية يمكن أن تعود علينا الآن من قراءة مثل هذه النوعية من الكتب التي لا شكّ كانت عظيمة في وقتها، لكنها الآن تُعتبر بسيطة وساذجة بنظر البعض؟ وأليس من الأفضل قراءة كتب لها علاقة بالحاضر وبهموم وقضايا اليوم؟
من بين أهمّ من ناقشوا مثل هذه الأسئلة الكاتب الأمريكي مورتيمر ادلر الذي كان فيلسوفا ومنظّرا في التربية وفي طرق التعليم. تخيّل ادلر ذات مرّة جامعة تتألّف هيئة تدريسها من مشاهير الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين. فمثلا هيرودوت وثوسيداديس يدرّسان في هذه الجامعة تاريخ اليونان. وغِيبون يحاضر في سقوط روما. وأفلاطون يعطي دورة في الميتافيزيقيا أو الغيبيات. وفرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل يناقشان منطق العلم. وأرسطو وسبينوزا وإيمانويل كانت يتناولون المسائل الأخلاقية. ومكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك يتحدّثون في السياسة.
وفي هذه الجامعة، يمكنك اخذ سلسلة من الدورات في الرياضيات والفلسفة من اقليدس وديكارت، وسيضاف إليهما كلّ من برتراند راسل ووايتهيد في نهاية المطاف. كما بإمكانك الاستماع إلى توما الاكويني ووليم جيمس وهما يتحدّثان عن طبيعة الإنسان والعقل البشري، وربّما يقوم بالتعليق على محاضراتهما جاك ماريتان.
وإن كنت متخصّصا في الاقتصاد فستستمع إلى محاضرات من كلّ من آدم سميث وريكاردو وكارل ماركس وماكلوهان مارشال. بينما يناقش جون ديوي المشاكل الاقتصادية والسياسية للديمقراطية الأمريكية ويحاضر لينين عن الشيوعية.
وإذا كان تخصّصك في الفنون، فستكون على موعد مع محاضرات في النحت والرسم يلقيها ميكيل انجيلو وليوناردو دا فينشي، ومحاضرات أخرى عن ليوناردو نفسه، حياته وفنّه، يلقيها فرويد!
ثم يتساءل ادلر: تُرى من منّا لا يرغب في الذهاب إلى هذه الجامعة التي تضمّ كلّ هذه الأسماء المفكّرة واللامعة؟
الشرط الوحيد للقبول في هذه الجامعة العظيمة أن تدفع رسما بسيطا. وهذا الرسم لا علاقة له بالمال من قريب أو بعيد، بل يتمثّل في شرط واحد فقط: أن تتوفّر لديك المقدرة والرغبة في القراءة والمناقشة.
والجامعة متاحة للجميع، أي لكلّ من يرغب في أن يتعلّم ويناقش، وهي متوفّرة لكلّ شخص راغب وقادر على أن يتعلّم على يد معلّمين من ارفع مستوى.
ثم ينتقل ادلر لمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا وهو: هل ثمّة جدوى من قراءة "الكتب العظيمة" التي تتعامل مع مشاكل وهموم العصور الغابرة؟ وهل هناك أيّة قيمة، عدا الأهمية التاريخية، في قراءة الكتب التي كُتبت في ثقافات قديمة وبسيطة؟
ويجيب بقوله: الناس الذين يشكّكون، أو حتى يحتقرون دراسة الماضي وأعماله، عادة ما يفترضون أن الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأننا بالتالي لا يمكن أن نتعلّم شيئا مفيدا من الماضي. ولكن هذا غير صحيح، فبإمكاننا أن نتعلّم الكثير من تشابه واختلاف القيم الآن وفي الماضي.
لقد حدث تغيير هائل في ظروف حياة الإنسان وفي معرفتنا بالسيطرة على عالم الطبيعة منذ العصور القديمة. القدماء لم يكن لديهم العون ولا البصيرة التي تتوفّر في بيئتنا التقنية والاجتماعية الحالية، وبالتالي هم لا يملكون مشورة يقدّمونها لنا لتعيننا على حلّ المشاكل التي نواجهها اليوم.
ولكن على الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تختلف باختلاف الزمان والمكان، إلا أن الإنسان يظلّ هو الإنسان. ونحن والقدماء نشترك في نفس الطبيعة البشرية، وبالتالي في بعض التجارب والمشاكل الإنسانية المشتركة.
الإنسان القديم، تماما مثلنا اليوم، كان يرى شروق الشمس وغروبها ويشعر بهبوب الرياح وهطول المطر، وكانت تتملّكه مشاعر الحبّ والرغبة. كما جرّب النشوة والغبطة، فضلا عن الإحباط وخيبة الأمل وعرف الخير والشرّ.
القدماء يتحدّثون إلينا من وراء القرون، وأحيانا بشكل أكثر مباشرة ووضوحا من بعض كتّابنا المعاصرين. والأنبياء والفلاسفة القدامى، من خلال تعاملهم مع المشاكل الأساسية للبشر الذين عاشوا في تلك المجتمعات، ما يزال لديهم شيء يقولونه ويقدّمونه لنا.
ويضيف ادلر قائلا: صحيح أنه لم يحدث في أيّ عصر سابق أن تعرّضت الحياة على الأرض لخطر الإبادة بحرب نووية. غير أن العصور الماضية أيضا عرفت الحروب والإبادة واستعباد شعوب بأكملها. مفكّرو الماضي كانوا يتأمّلون مشاكل الحرب والسلام وقدّموا اقتراحات تستحقّ الاستماع إليها. شيشرون ولوك، مثلا، أثبتا أن الطريقة المثلى في تسوية النزاعات بين البشر هي من خلال المفاوضات والقانون، في حين اقترح دانتي إنشاء حكومة عالمية تسعى لتكريس السلام والوئام بين أمم الأرض.
وصحيح أيضا أن الناس الذين عاشوا في العصور السابقة لم يواجهوا أشكالا معيّنة من الديكتاتورية التي عرفناها في هذا القرن. ولكنهم مرّوا بتجارب مباشرة مع الاستبداد المطلق وقمع الحرّيات السياسية. وأطروحة أرسطو في السياسة تتضمّن تحليلا معمّقا عن الديكتاتوريات، وكذلك توصية بالتدابير التي يجب اتخاذها لتجنّب الأشكال المتطرّفة من الاستبداد والفوضى.
ونحن اليوم أيضا – يضيف ادلر - يمكننا أن نتعلّم من الماضي وذلك من خلال التمعّن في العناصر التي يختلف بها عن الزمن الحاضر. ويمكننا أن نكتشف ما نحن فيه اليوم من خلال ما أصبحنا نعرفه عن أنماط تفكير وتصرّف الشعوب والأمم التي سبقتنا. وجزء من الماضي، أي ماضينا نحن وأيضا ماضي الجنس البشري بأكمله، يعيش في داخلنا دائما.
ويخلص الكاتب إلى القول إن التفضيل الحصري، إمّا للماضي أو الحاضر، هو شكل من أشكال الغباء والتكبّر والإسراف، وأننا يجب أن نسعى لكلّ ما هو صالح ومفيد في أعمال المعاصرين والسالفين. وعندما نفعل ذلك، سنجد أن الشعراء والفلاسفة القدماء هم بقدر ما معاصرون في عالم العقل لأكثر كتّاب العصر الحاضر فطنة وقوّة ملاحظة.
بل ويمكن القول إن العديد من الكتابات القديمة تتحدّث بصورة أكثر مباشرة إلى تجربتنا وأحوالنا وظروفنا اليوم بأفضل ممّا تفعله بعض أكثر الكتب حداثة ورواجا هذه الأيّام.
والجامعة متاحة للجميع، أي لكلّ من يرغب في أن يتعلّم ويناقش، وهي متوفّرة لكلّ شخص راغب وقادر على أن يتعلّم على يد معلّمين من ارفع مستوى.
ثم ينتقل ادلر لمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا وهو: هل ثمّة جدوى من قراءة "الكتب العظيمة" التي تتعامل مع مشاكل وهموم العصور الغابرة؟ وهل هناك أيّة قيمة، عدا الأهمية التاريخية، في قراءة الكتب التي كُتبت في ثقافات قديمة وبسيطة؟
ويجيب بقوله: الناس الذين يشكّكون، أو حتى يحتقرون دراسة الماضي وأعماله، عادة ما يفترضون أن الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأننا بالتالي لا يمكن أن نتعلّم شيئا مفيدا من الماضي. ولكن هذا غير صحيح، فبإمكاننا أن نتعلّم الكثير من تشابه واختلاف القيم الآن وفي الماضي.
لقد حدث تغيير هائل في ظروف حياة الإنسان وفي معرفتنا بالسيطرة على عالم الطبيعة منذ العصور القديمة. القدماء لم يكن لديهم العون ولا البصيرة التي تتوفّر في بيئتنا التقنية والاجتماعية الحالية، وبالتالي هم لا يملكون مشورة يقدّمونها لنا لتعيننا على حلّ المشاكل التي نواجهها اليوم.
ولكن على الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تختلف باختلاف الزمان والمكان، إلا أن الإنسان يظلّ هو الإنسان. ونحن والقدماء نشترك في نفس الطبيعة البشرية، وبالتالي في بعض التجارب والمشاكل الإنسانية المشتركة.
الإنسان القديم، تماما مثلنا اليوم، كان يرى شروق الشمس وغروبها ويشعر بهبوب الرياح وهطول المطر، وكانت تتملّكه مشاعر الحبّ والرغبة. كما جرّب النشوة والغبطة، فضلا عن الإحباط وخيبة الأمل وعرف الخير والشرّ.
القدماء يتحدّثون إلينا من وراء القرون، وأحيانا بشكل أكثر مباشرة ووضوحا من بعض كتّابنا المعاصرين. والأنبياء والفلاسفة القدامى، من خلال تعاملهم مع المشاكل الأساسية للبشر الذين عاشوا في تلك المجتمعات، ما يزال لديهم شيء يقولونه ويقدّمونه لنا.
ويضيف ادلر قائلا: صحيح أنه لم يحدث في أيّ عصر سابق أن تعرّضت الحياة على الأرض لخطر الإبادة بحرب نووية. غير أن العصور الماضية أيضا عرفت الحروب والإبادة واستعباد شعوب بأكملها. مفكّرو الماضي كانوا يتأمّلون مشاكل الحرب والسلام وقدّموا اقتراحات تستحقّ الاستماع إليها. شيشرون ولوك، مثلا، أثبتا أن الطريقة المثلى في تسوية النزاعات بين البشر هي من خلال المفاوضات والقانون، في حين اقترح دانتي إنشاء حكومة عالمية تسعى لتكريس السلام والوئام بين أمم الأرض.
وصحيح أيضا أن الناس الذين عاشوا في العصور السابقة لم يواجهوا أشكالا معيّنة من الديكتاتورية التي عرفناها في هذا القرن. ولكنهم مرّوا بتجارب مباشرة مع الاستبداد المطلق وقمع الحرّيات السياسية. وأطروحة أرسطو في السياسة تتضمّن تحليلا معمّقا عن الديكتاتوريات، وكذلك توصية بالتدابير التي يجب اتخاذها لتجنّب الأشكال المتطرّفة من الاستبداد والفوضى.
ونحن اليوم أيضا – يضيف ادلر - يمكننا أن نتعلّم من الماضي وذلك من خلال التمعّن في العناصر التي يختلف بها عن الزمن الحاضر. ويمكننا أن نكتشف ما نحن فيه اليوم من خلال ما أصبحنا نعرفه عن أنماط تفكير وتصرّف الشعوب والأمم التي سبقتنا. وجزء من الماضي، أي ماضينا نحن وأيضا ماضي الجنس البشري بأكمله، يعيش في داخلنا دائما.
ويخلص الكاتب إلى القول إن التفضيل الحصري، إمّا للماضي أو الحاضر، هو شكل من أشكال الغباء والتكبّر والإسراف، وأننا يجب أن نسعى لكلّ ما هو صالح ومفيد في أعمال المعاصرين والسالفين. وعندما نفعل ذلك، سنجد أن الشعراء والفلاسفة القدماء هم بقدر ما معاصرون في عالم العقل لأكثر كتّاب العصر الحاضر فطنة وقوّة ملاحظة.
بل ويمكن القول إن العديد من الكتابات القديمة تتحدّث بصورة أكثر مباشرة إلى تجربتنا وأحوالنا وظروفنا اليوم بأفضل ممّا تفعله بعض أكثر الكتب حداثة ورواجا هذه الأيّام.