الزمان مكان سائل. والمكان زمان متجمّد.
- ابن عربيّ
أحد الكتّاب الذي لا أتذكّر اسمه الآن طرح سؤالا فلسفيا بنكهة وجوديّة عندما قال: لماذا نسمّي الماضي ماضياً، ونحن نتذكّره كلّ يوم؟!
هذا التساؤل منطقيّ وفي مكانه تماما. وقد حرّضني على أن أطرح تساؤلا قد يكون مختلفا بعض الشيء ولكنّه ذو صلة بالسؤال السابق. نحن، عندما ننشغل بتذكّر الماضي والحنين إليه، هل يُعتبر هذا سلوكا صحّيا، أم انه مؤشّر على أن ثمّة شيئا ما خطأ في تفكيرنا أو في طريقة حياتنا؟
فكّرت في هذا السؤال كثيرا وخرجت ببعض الأفكار والانطباعات التي قد لا تكون بالضرورة صحيحة، لكنها مطروحة للنقاش والتأمّل على أيّ حال.
أوّلا: قد لا يكون الماضي اسعد من الحاضر بالضرورة، ونحن عندما نتذكّره بشيء من الحنين فقد يكون السبب أن حياتنا الآن قد لا تكون مريحة أو على أفضل ما يُرام. وهناك سبب آخر يتمثّل في أن الإنسان بطبيعته يحنّ إلى أيّام الصبا والطفولة عندما كانت الحياة بسيطة وبريئة وخالية من التعقيدات والمسئوليات.
الإحساس بالحنين، أو ما يُسمّى في الأدب والفنّ بالنوستالجيا، يمكن أن يكون قويّاً جدّا لدرجة انه في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان يوصف ويعالَج باعتباره مرضاً؛ نوعا من الكآبة والحزن. قرأت انه أثناء الحرب الأهلية الأمريكية كان الجنود الذين يشعرون بالحنين لأهلهم وأماكن سكناهم يوصفون بأنهم يعانون من "مرض" النوستالجيا أو الحنين بعد أن يكونوا قد قضوا أشهرا في ميادين القتال.
في ما بعد، وبالتحديد اعتبارا من القرن التاسع عشر، تخلّى هذا المصطلح عن حمولته السلبية أو المَرَضية بفضل بعض الكتّاب والفلاسفة الإنسانويين، وأصبحت النوستالجيا منذ ذلك الحين نوعا من الشعور المتسامي الذي لا يزور إلا كلّ إنسان مرهف الحسّ ومبدع.
المشكلة مع النوستالجيا أو الشعور بالحنين هي انه يمكن أن يكون شعورا كاذبا أو خادعا، ومن ثمّ يتحوّل إلى عبء نفسي وشعوري عندما يعيق إدراكنا بأن هناك إمكانيات أفضل في واقعنا ينبغي استغلالها لتحسين نوعية الحياة التي نعيشها.
والإحساس بالحنين قد يتحوّل أحيانا إلى سلاح خطير من حيث انه يمكن أن يخدعنا ويمنحنا الأعذار والمبرّرات كي نقاوم الواقع الحالي بدلا من محاولة إصلاحه وفهمه، ما قد يؤثّر على حياتنا الحاضرة ويملأها بالمشاعر السلبية والسيّئة.
كلمة نوستالجيا أصلها يونانيّ، وهي مشتقّة من فعل معناه "العودة إلى الوطن". وقد استخدمها هوميروس في الاوديسّا ليصف رغبة اوديسيوس في العودة إلى موطنه في جزيرة إيثيكا. وعندما عاد إلى بيته كانت أشياء كثيرة قد تغيّرت. لكن زوجته بنيلوب كانت ما تزال هناك باقية على العهد ووفيّة ومخلصة له.
هذه الأيّام، وفي هذا العالم الذي يتغيّر كلّ يوم ويصبح شيئا فشيئا أكثر سيولة وازدحاما، ليس بوسع الإنسان أن يعود بسهولة إلى البيت أو الوطن، أي إلى الماضي. وفي أحيان كثيرة، عندما تساورك الرغبة في العودة إلى البيت القديم الذي طالما اشتقت لرؤيته قد تتفاجأ بأنه تغيّر كثيرا عن صورته التي في ذهنك، والأسوأ من هذا والأكثر مدعاة للحزن أن تكتشف أن البيت نفسه لم يعد موجودا.
ربّما نحن الآن بحاجة إلى نوع من الحنين أو النوستالجيا المرشّدة أو الذكيّة؛ نوستالجيا لا تركّز على استحضار الحزن والذكريات والألم بالضرورة، بل تنظر إلى الماضي على انه مرحلة فيها السلبيّ وفيها الايجابيّ، وأن المطلوب ليس احتضان الماضي والتعاطف والتماهي معه، بل الاستفادة من تجاربه ودروسه واستثمارها لجعل الحاضر أكثر سعادة وراحة.
الحزن، الذي هو احد العناصر الملازمة للنوستالجيا، قد يأتي في بعض الأحيان على شكل أغنية أو مقطوعة موسيقية، ولا غرابة في هذا فالحزن والموسيقى صنوان منذ الأزل. وقد وجدت في الأغنية التي فوق احد أفضل الأمثلة التي تعبّر عن هذا المعنى. سماعاً ممتعاً..
- ابن عربيّ
أحد الكتّاب الذي لا أتذكّر اسمه الآن طرح سؤالا فلسفيا بنكهة وجوديّة عندما قال: لماذا نسمّي الماضي ماضياً، ونحن نتذكّره كلّ يوم؟!
هذا التساؤل منطقيّ وفي مكانه تماما. وقد حرّضني على أن أطرح تساؤلا قد يكون مختلفا بعض الشيء ولكنّه ذو صلة بالسؤال السابق. نحن، عندما ننشغل بتذكّر الماضي والحنين إليه، هل يُعتبر هذا سلوكا صحّيا، أم انه مؤشّر على أن ثمّة شيئا ما خطأ في تفكيرنا أو في طريقة حياتنا؟
فكّرت في هذا السؤال كثيرا وخرجت ببعض الأفكار والانطباعات التي قد لا تكون بالضرورة صحيحة، لكنها مطروحة للنقاش والتأمّل على أيّ حال.
أوّلا: قد لا يكون الماضي اسعد من الحاضر بالضرورة، ونحن عندما نتذكّره بشيء من الحنين فقد يكون السبب أن حياتنا الآن قد لا تكون مريحة أو على أفضل ما يُرام. وهناك سبب آخر يتمثّل في أن الإنسان بطبيعته يحنّ إلى أيّام الصبا والطفولة عندما كانت الحياة بسيطة وبريئة وخالية من التعقيدات والمسئوليات.
الإحساس بالحنين، أو ما يُسمّى في الأدب والفنّ بالنوستالجيا، يمكن أن يكون قويّاً جدّا لدرجة انه في القرنين السابع عشر والثامن عشر كان يوصف ويعالَج باعتباره مرضاً؛ نوعا من الكآبة والحزن. قرأت انه أثناء الحرب الأهلية الأمريكية كان الجنود الذين يشعرون بالحنين لأهلهم وأماكن سكناهم يوصفون بأنهم يعانون من "مرض" النوستالجيا أو الحنين بعد أن يكونوا قد قضوا أشهرا في ميادين القتال.
في ما بعد، وبالتحديد اعتبارا من القرن التاسع عشر، تخلّى هذا المصطلح عن حمولته السلبية أو المَرَضية بفضل بعض الكتّاب والفلاسفة الإنسانويين، وأصبحت النوستالجيا منذ ذلك الحين نوعا من الشعور المتسامي الذي لا يزور إلا كلّ إنسان مرهف الحسّ ومبدع.
المشكلة مع النوستالجيا أو الشعور بالحنين هي انه يمكن أن يكون شعورا كاذبا أو خادعا، ومن ثمّ يتحوّل إلى عبء نفسي وشعوري عندما يعيق إدراكنا بأن هناك إمكانيات أفضل في واقعنا ينبغي استغلالها لتحسين نوعية الحياة التي نعيشها.
والإحساس بالحنين قد يتحوّل أحيانا إلى سلاح خطير من حيث انه يمكن أن يخدعنا ويمنحنا الأعذار والمبرّرات كي نقاوم الواقع الحالي بدلا من محاولة إصلاحه وفهمه، ما قد يؤثّر على حياتنا الحاضرة ويملأها بالمشاعر السلبية والسيّئة.
كلمة نوستالجيا أصلها يونانيّ، وهي مشتقّة من فعل معناه "العودة إلى الوطن". وقد استخدمها هوميروس في الاوديسّا ليصف رغبة اوديسيوس في العودة إلى موطنه في جزيرة إيثيكا. وعندما عاد إلى بيته كانت أشياء كثيرة قد تغيّرت. لكن زوجته بنيلوب كانت ما تزال هناك باقية على العهد ووفيّة ومخلصة له.
هذه الأيّام، وفي هذا العالم الذي يتغيّر كلّ يوم ويصبح شيئا فشيئا أكثر سيولة وازدحاما، ليس بوسع الإنسان أن يعود بسهولة إلى البيت أو الوطن، أي إلى الماضي. وفي أحيان كثيرة، عندما تساورك الرغبة في العودة إلى البيت القديم الذي طالما اشتقت لرؤيته قد تتفاجأ بأنه تغيّر كثيرا عن صورته التي في ذهنك، والأسوأ من هذا والأكثر مدعاة للحزن أن تكتشف أن البيت نفسه لم يعد موجودا.
ربّما نحن الآن بحاجة إلى نوع من الحنين أو النوستالجيا المرشّدة أو الذكيّة؛ نوستالجيا لا تركّز على استحضار الحزن والذكريات والألم بالضرورة، بل تنظر إلى الماضي على انه مرحلة فيها السلبيّ وفيها الايجابيّ، وأن المطلوب ليس احتضان الماضي والتعاطف والتماهي معه، بل الاستفادة من تجاربه ودروسه واستثمارها لجعل الحاضر أكثر سعادة وراحة.
الحزن، الذي هو احد العناصر الملازمة للنوستالجيا، قد يأتي في بعض الأحيان على شكل أغنية أو مقطوعة موسيقية، ولا غرابة في هذا فالحزن والموسيقى صنوان منذ الأزل. وقد وجدت في الأغنية التي فوق احد أفضل الأمثلة التي تعبّر عن هذا المعنى. سماعاً ممتعاً..