:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يناير 23، 2013

الجبل البارد

من الصعب الحديث عن حياة هان شان بقدر من اليقين، لأنّ هناك أساطير كثيرة نُسجت حوله. ومع انه لا احد يعرف اسمه الحقيقيّ ولا متى عاش ولا أين أو كيف مات، إلا أن هناك من يرجّح انه عاش خلال حكم سلالة تانغ الصينية التي شهدت الآداب والفنون الصينية تحت حكمها ازدهارا لم يسبق له مثيل.
وقد ارتبط اسم هذا الرجل بمجموعة من القصائد بعنوان الجبل البارد. وألهمت تلك القصائد أجيالا من الشعراء في الصين وكوريا واليابان وغيرها.
يقال إن هان شان كان عالما وشاعرا وموسيقيّا ورسّاما. وقد تعلّم في صباه الأدب والرياضيّات والتاريخ. وهناك إشارات كثيرة إلى انه بدأ حياته في عائلة طيّبة وموسرة. ورغم انه تزوّج وأنجب أطفالا، إلا انه كان يشعر بأن الحياة تجاوزته وأنه لم يحقّق فيها شيئا. ومع مرور الزمن أصبح لا يرى في العالم الحديث سوى الجشع والفساد والجهل. وعندما بلغ الثلاثين من عمره جمع كتبه وحاجيّاته وذهب إلى مكان بعيد يقع على مسيرة يومين من بحر الصين الشرقيّ يقال له الجبل البارد. هناك عاش الشاعر سنواته الباقية كناسك متجوّل وضيف على الطبيعة.
واعتمادا على بعض ما يرد في قصائده، فإن هان شان قضى بقيّة عمره في كهف بالجبال. وعندما توفّي كان قد عاش أكثر من مائة وعشرين عاما. كان الشاعر يقضي وقته في قراءة كتب الأوّلين وكتابة الأشعار على الصخور وعلى جذوع الأشجار المعمّرة وفي جمع الغذاء والحطب، أو في زيارة صديقيه الوحيدين، وهما شاعران كانا يعيشان في معبد يقع على مسافة يوم من الجبل البارد. وهذان الشخصان هما الوحيدان اللذان يذكرهما في قصائده.
وبعد وفاته بأعوام طويلة، وُجدت القصائد مكتوبة على الصخور في جبال تيان تاي على الساحل الجنوبيّ لـ شانغهاي. وقد جُمعت الأشعار ونُشرت في كتاب، وسرعان ما انتشرت واشتهرت بعد أن تُرجمت إلى لغات عديدة.
قصائد الجبل البارد بسيطة ومباشرة، لكنّها جميلة وتعكس حالة من الشفافية والصفاء الذهنيّ. ومعظم القصائد عبارة عن وصف للمكان ولجمال الطبيعة، بينما يمكن إدراج البعض الآخر في خانة الرحلة الروحيّة.
صحيح أننا لا نعرف الكثير عن هان شان أو عن حياته. لكنّ قراءة أشعاره تشي ببعض ملامح شخصيّته، كما أنها توفّر للقارئ فرصة للدخول إلى جنّة الشاعر ومشاركته تجربته.

  • بين ألف غيمة وعشرة آلاف جدول، يعيش هنا رجل خمول. في النهار، يتجوّل فوق الجبال الخضراء. وفي الليل، يعود لينام إلى جوار المنحدر. الربيع والخريف يمضيان سريعا. لكنّ عقلي في حالة سلام، متحرّرا من الغبار والأوهام.
  • قبل ثلاثين عاما، ولدتُ في هذا العالم. قطعت عشرة آلاف ميل. وبجوار الأنهار حيث ينمو العشب الأخضر الكثيف، ووراء الحدود حيث تتطاير الرمال الحمراء، أتناول جرعات الدواء بحثا عن الحياة الأبدية دون جدوى. أقرأ الكتب وأردّد أغاني التاريخ. واليوم أجيء إلى الجبل البارد كي أسند رأسي على جدول وأغسل أذنيّ.
  • النسّاك يختبئون من البشر. معظمهم يذهبون إلى الجبال للنوم، حيث مزارع الكروم الخضراء. إنهم متحرّرون من كلّ ما يلوّث هذا العالم. وعقولهم نقيّة مثل أزهار اللوتس البيضاء.
  • إن كنتَ تبحث عن مكان ترتاح فيه، فالجبل البارد هو المكان المناسب. النسيم يهبّ عبر أشجار الصنوبر المعتمة. وتحت الأشجار يجلس رجل ابيض الشعر يتمتم فوق نصوصه الطاويّة. عشر سنوات مرّت ولم يذهب إلى البيت. وقد نسي حتى الطريق التي جاء منها.
  • على قمّة الجبل العالية تبدو اللانهائية في كلّ الاتجاهات. القمر المنفرد ينظر إلى أسفل معجباً بانعكاساته في الغدير المتجمّد. وأنا اغنّي، مرتجفاً، لحناً غراميّا للقمر.
  • أتسلّق الطريق إلى الجبل البارد. الطريق إلى الجبل لا تنتهي أبدا. الوديان طويلة ومفروشة بالحجارة، والجداول واسعة ومملوءة بالعشب الكثيف. الطحلب زلِق رغم أن المطر لم يهطل. الصنوبر يتنهّد. والرياح ليس بوسعها أن تكسر أفخاخ العالم وتجلس معي بين الغيوم البيضاء.
  • هل لديّ جسد،أم أن جسدي ليس لي؟ هل أنا أنا، أم أنّني إنسان آخر؟ وأنا أتأمّل هذه الأسئلة، أجلس متّكئا على منحدر، بينما تمضي السنين، حتى ينمو العشب الأخضر بين قدميّ ويلتصق الغبار الأحمر برأسي. والناس الذين يظنّون أني ميّت يأتون بجرار النبيذ والفاكهة ويضعونها قرابينَ حول جثماني.
  • المكان الذي أقضي فيه أيّامي بعيد، أبعد ممّا استطيع وصفه. الكروم البرّي يتحرّك بلا كلام. على من تبكي الوديان؟ لماذا تتجمّع السحب معا؟ عند الظهيرة، وأنا جالس في كوخي، أدرك للمرّة الأولى أن الشمس قد بزغت.
  • رائع هو قلب الشباب المشرق. لكن مع مرور السنوات سيشيخ ذلك القلب. هل العالم مثل هذه الأزهار؟ الوجوه المتوّردة، كيف يمكن أن تدوم؟
  • أجهّز حصاني أمام المدينة المهدّمة التي توقظ أفكار الرحّالة. الحروب القديمة، القبور الدارسة الكبيرة والصغيرة حيث ترتجف عشبة وحيدة وتَعلق أصوات الأشجار الكبيرة إلى الأبد. لن تسمع حتى صرير كفن ضئيل. أشفق على كلّ تلك العظام المنسيّة. في كتب الخالدين، يبقى الناس العاديّون بلا أسماء.
  • ما أحبّه في الجبل البارد هو بُعده. لا أحد يسافر من هذا الطريق. الغيوم تطوّق قمّته. وقرد وحيد يعوي على المنحدر. الحرارة والبرد تغيّران ملامحي، لكن لؤلؤة العقل تبقى في مأمن.
  • الجبل البارد بيت بلا عوارض أو جدران. أبوابه الستّة، إلى اليمين واليسار، مفتوحة. والقاعة هي السماء الزرقاء. جميع الغرف فارغة. الجدار الشرقيّ يفتح على الغربيّ. وفي الوسط،.. لا شيء. في البرد أشعل نارا صغيرة. وعندما أجوع اغلي بعض الخضار.
  • حتى لو ركبتَ أسرع سفينة، أو امتطيتَ حصانا يعدو بك ألف ميل، لن تستطيع الوصول إلى بيتي. يقول الناس إن المكان منعزل ومقفر. كهف صخريّ يقوم في عمق الجبال. الغيوم والرعد يدومان طوال اليوم. لستُ كونفوشيوس، وكلماتي لن تفهمها.
  • كلّما ارتفع الدرب، كلّما أصبح أكثر انحدارا. عشرة آلاف طبقة من المنحدرات الخطرة. الجسر الحجريّ زلق بفعل الطحلب الأخضر. وغيمة إثر غيمة تطير في الجوار. الشلالات معلّقة مثل شرائط من حرير. والقمر يرسل ضوءه على البِركة المشرقة. مرّة أخرى، أتسلّق أعلى قمّة. وأنتظر حيث يطير السنونو الوحيد.
  • عجوز ومريض، أكثر من مائة عام. الوجه منهك والشعر أبيض، وأنا ما أزال سعيدا بالعيش في الجبال. شبَح مغطّى بالثياب يرقب السنين وهي تمضي.
  • أجلس القرفصاء على صخرة. الأودية والجداول باردة ورطبة. كم هو جميل أن تجلس في هدوء. المنحدرات ضائعة في الضباب والندى. أرتاح بسعادة في هذا المكان. عند الغسق يصبح ظلّ الشجرة منخفضا. أتطلّع إلى داخل عقلي، وتنبثق زهرة لوتس من وسط الطين الداكن.
  • طوال اليوم وأنا امشي في الغابة وأجمع الطعام. وعند الغسق، أدخل كوخي وأغلق الباب خلفي، أشعل ناراً بفروع ما تزال تحمل أوراقا مجفّفة. وبهدوء، اقرأ قصائد من الجبل البارد. الرياح الغربية تجلب المطر وتكتسح الأرض. وكوخي الصغير يموء تحت وطأة العاصفة. لكنّي أتمدّد ساكنا على الأرضيّة، وأنا أتنفّس وأستمع إلى صوت المطر. ليس في قلبي شكوك يمكن أن تزعج عقلي.
  • عشتُ في الجبل البارد هذه السنوات الثلاثين الطويلة. أمس تذكّرت الأهل والأصدقاء: كان أكثر من نصفهم قد ذهبوا إلى الينابيع الصفراء. تواروا ببطء، مثل نهر عابر، مثل نار أسفل شمعة. الآن، صباحا، أواجه ظلّي الوحيد. وفجأة تمتلئ عيناي بالدموع.
  • لا أستطيع تحمّل أغاني هذه الطيور. الآن سأذهب لأرتاح في كوخي الصغير. أزهار الكرز اكتست لونا قرمزيّا. وريش الصفصاف يتطاير عالياً في الفضاء. وشمس الصباح تلامس القمم الزرقاء. والغيوم الساطعة تغسل الغدران الخضراء. من يعرف أنني خارج العالم المُترب أتسلّق المنحدر الجنوبيّ من الجبل البارد؟!
  • ذات مرّة في الجبل البارد، توقّفت المتاعب. لم يعد العقل مشوّشا أو حائرا. جلست أخربش القصائد على الجرف الصخريّ وآخذ كلّ ما يأتيني مثل قارب منجرف.
  • عندما يرى الناس هان شان، يقولون انه مجنون، وليس لديه ما يستحقّ النظر. يرتدي الأسمال البالية ويختبئ بعيدا. هم لا يفهمون ما أقول، وأنا لا أتحدّث لغتهم. كلّ ما استطيع قوله لأولئك الذين أقابلهم: حاولوا أن تذهبوا إلى الجبل البارد".
  • إن كنت تحتفظ في بيتك بقصائد الجبل البارد، فهي خير لك من الحِكَم البوذيّة. علّقها حيث يمكنك أن تراها، وواظب على قراءتها مرّة بعد أخرى.