:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، فبراير 17، 2016

سهرة مع السهروردي


بعض الشخصيات من عالم الإسلام الصوفيّ لن تندم على قضائك ساعات معها، تقرأ عن حياتها وتستمتع بأشعارها، وأثناء ذلك تلج إلى عصرها وتتأمّل عالم الأفكار والتصوّرات الذي أنتجته.
والسهْرَوَرْدي، المولود في سهْرَوَرْد في مقاطعة زنجان من أعمال أذربيجان، هو احد تلك الشخصيات الملوّنة والمبهرة. وهو مشهور، خاصّة، بفلسفة الإشراق. ولهذا يلقّبه المؤلّفون الذين كتبوا عن سيرة حياته وأشعاره وعن مأساة موته بـ "حكيم الإشراق". وفلسفته تستند إلى فكرة مؤدّاها أن الله تعالى هو نور الأنوار ومصدر جميع الكائنات.
وأنت تقرأ سيرة السهروردي ومأساة مقتله لن تجد فيها اختلافا كبيرا عن سيرة غيره من الشخصيات اللامعة التي انتهت نهايات مأساوية. في البدء يضيق به الحُسّاد والكارهون بعد أن يصبح قريبا من الملك أو السلطان الذي يصطفيه ويقرّبه لعلمه وفضله. ثم لا يلبث هؤلاء أن يشوّهوا صورته ويحرّضوا عليه العوامّ والدهماء وأنصاف العلماء كي يزيحوه عن طريقهم.
في البداية، عندما وصل السهروردي إلى حلب قادما من العراق، رحّب به كبير علمائها الشيخ افتخار الدين واستقبله في قصره. وقد لمس فيه الشيخ علما ورجاحة عقل وحسن منطق، فقرّبه منه وأكرمه.
ولم يلبث السهروردي أن حظي باستقبال ورعاية مماثلين من لدن الملك الظاهر، حاكم حلب وابن صلاح الدين الأيّوبي.
وقد عرف هذا الملك قدر السهروردي وعدّه من أفاضل الرجال، فلم يكترث كثيرا لما يقوله عنه حسّاده ومناوئوه. لكن الوشايات والأخبار المغرضة تصل إلى صلاح الدين نفسه المعروف بكرهه للفلاسفة وأهل المنطق. وقد رسم هؤلاء عنه عند صلاح الدين صورة لرجل مهرطق وعدوّ للشريعة وخوّفوه من احتمال أن يُفسد السهروردي عقيدة ولده.
وبقيّة القصّة معروفة في كتب التاريخ. شيئا فشيئا استطاع خصوم السهروردي حبك خيوط مؤامرتهم حوله وأوغروا عليه صدر صلاح الدين والقضاة بعد أن اتّهموه بالكفر والضلال.
بعض المصادر التاريخية تقول انه بعد مناظرة طويلة مع العلماء، وأكثرهم من خصومه، حكموا عليه بالقتل. وقد خُيّر بين الموت قتلا بالسيف أو تجويعا. فاختار الأخيرة لأنها اقرب لما يتمنّاه النسّاك وأهل الزهد عادة. وقد وُضع في مكان منقطع ومُنع عنه الطعام والماء أيّاما إلى أن مات. ويقال إن الظاهر، الذي انصاع مضطرّا لفتوى العلماء، بكى عليه كثيرا بعد وفاته وندم اشدّ الندم لأنه لم يفلح في إقناع والده بأن يُبقي على حياته.
أمضيت مع السهروردي ليلتين قرأت خلالهما كتابا عن حياته وبعض مقالات ودراسات هنا وهناك. وطبعا بإمكان كلّ إنسان أن يختلف أو يتفق مع أفكاره، لأنها كانت مثيرة للجدل في زمانه وظلّ الناس مختلفين حولها من قديم وإلى اليوم.
لكنّي أحبّ أشعار السهروردي أكثر من أفكاره، بل إنّي اعتبر قصائده من أجمل عيون الشعر الصوفيّ والعربيّ بعامّة.
مَن منّا، مثلا، لم يقرأ ويستمتع بقصيدته الحائيّة المشهورة التي تفيض ألفاظها ومعانيها رقّة وجمالا والتي يقول فيها:
أبــــــــدا تــــحـــنّ إلـــيــكــم الأرواحُ " .. " ووصـــالــكــم ريــحــانــهـا والـــــــرّاحُ
وقــلـوب أهـــل ودادكـــم تـشـتاقكم " .. " وإلــــــى لـــذيــذ لــقـائـكـم تـــرتــاحُ
وارحــمــتــا لـلـعـاشـقـيـن تــكـلـفـوا " .. " ســتــر الـمـحـبّـة والــهــوى فــضّــاحُ
بــالـسـرّ إن بــاحـوا تُــبـاحُ دمـاهـمـو " .. " وكـــــذا دمـــــاء الـعـاشـقـين تــبــاحُ
وإذا هــمـو كـتـمـوا تــحـدّث عـنـهمو " .. " عــنــد الــوشـاة الـمـدمـع الـسـفّـاحُ
عودوا بنور الوصل في غسق الدجى " .. " فــالـهـجـر لــيــل والــوصــال صــبــاحُ
لا ذنــب لـلـعشّاق إن غـلـب الـهوى " .. " كـتـمـانهم فـنـمـى الــغـرام فـبـاحـوا
سـمـحوا بـأنـفسهم ومــا بـخـلوا بـها " .. " لـــمّـــا دروا أن الــســمــاح ربــــــاحُ
ودعـاهـمـو راعـــي الـحـقائق دعــوة " .. " فــغـدوا بــهـا مـسـتـأنسين وراحـــوا
ركـبـوا عـلـى سـنـن الـوفاء ودمـعهم " .. " بـــحــر وحــــادي شــوقـهـم مــــلاحُ
أفـنـاهمو عـنـهم وقــد كُـشفت لـهم " .. " حُـــجُــب الــبــقـا فــتـلاشـت الأرواحُ
قــم يــا نـديـم إلــى الـمـدام وهـاتها " .. " فَــبِــحَـانـهـا قــــــد دارت الأقــــــداحُ

كلّما قرأت القصيدة السابقة بمفرداتها الجزلة وصورها البديعة تذكّرت قصيدة الحلاج الرائعة التي يقول فيها:
والله مـا طـلعتْ شـمسٌ ولا غـربت " .. " إلا و حــبّــك مــقــرون بـأنـفـاسـي
ولا خــلـوتُ إلـــى قـــوم أحـدّثـهم " .. "إلا وأنـــت حـديـثي بـيـن جُـلاسـي
ولا هممتُ بشرب الماء من عطش " .. " إلا رَأَيــتُ خـيالا مـنك فـي الـكاسِ

ويقول السهروردي في قصيدة أخرى:
رقّ الزجاج ورقّت الخمرُ " .. " فتشابها فتشاكل الأمرُ
فـكـأنها خـمـر ولا قـدحُ " .. " وكـأنـها قـدح ولا خـمرُ!

وفي قصيدة ثالثة يقول:
على العقيق اجتمعنا " .. " نـحـن وسُـود الـعيون
إن مـتّ وجـدا عليهم " .. " بـأدمـعي غـسّـلوني
نـوحـوا عـليّ وقـولوا " .. " هــذا قـتـيل الـعيون!

ومن شعره في الحكمة:
بـــلاءٌ لَـيـسَ يُـشـبِههُ بَــلاء " .. " عَداوَة غَير ذي حَسَب وَدينِ
يُـبيحك مـنه عـرضاً لم يَصُنهُ " .. " ويَرتَع منكَ في عِرض مَصون

وقوله:
تــولّـت بـهـجة الـدنـيا " .. " فـكـلّ جـديـدها خـلقُ
وخــان الـناس كـلّهمو " .. " فــلا ادري بـمـن أثــقُ
رأيـت مـعالم الـخيرات " .. " سُــدّت دونـها الـطرقُ
فـلا حـسب ولا نسب " .. " ولا ديــــن ولا خُــلــقُ
فلست مصدّق الأقوام " .. " فـي شيء ولو صدقوا

وقوله أيضا:
لا يمنعنّك خفض العيش في دَعَةٍ " .. " مـــن أن تــبـدّل أوطــانـا بـأوطـانِ
تـلـقى بـكـلّ بـلاد إن حـللتَ بـها " .. " أهـــلا بــأهـل وإخــوانـا بــإخـوانِ