:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، يوليو 26، 2020

الذئب والإنسان

سمعت مؤخّرا قصّة غريبة رواها شخص على لسان شخص آخر. قال: ذهبت في احد الأيّام بمعيّة صديق لتفقّد حظيرة لنا في خلاء قريب. وعندما وصلنا إلى المكان، وجدنا الحارس في حال من الخوف والارتباك. سألته ما الخبر فقال: داهمَنا ذئب وانتزع خروفا واتجه به إلى الجبل ليأكله". فتناولت الرشّاش والمنظار ومضيت أنا وصديقي لاقتفاء اثر الذئب.
وبعد دقائق رأيناه واقفا بجوار صخرة عالية. كان يقضم قطعا من لحم الخروف ويضعها أمام ذئب آخر بدا كبيرا وعاجزا كان واقفا بالقرب منه. فقال صديقي: أرجوك ألا تقتله، هذا الواقف إلى جواره إمّا أن يكون والده أو أمّه، والذئاب معروفة ببرّها بوالديها. قلت: لا بدّ أن اقتله، إذ لا يجوز أن يفتك بحلالنا ثم نتركه". وعندما رآني الذئب اصوّب الرشّاش باتجاهه، لم يهرب بل اخذ ينظر إلينا بصمت. ثم استدار ليحمي بجسمه الذئب الآخر.
وصاح بي صديقي ثانية يرجوني ألا أقتله ويعدني بدفع ثمن الخروف. لكنّي ضغطت على الزناد وأطلقت رصاصة قتلت الذئب على الفور. ثم اقتربنا من الذئب الكبير الذي كان يعوي بألم وحرقة ويدور حول جثّة الذئب القتيل. وعندما تيقّن من مقتله، ألقى بنفسه من ذلك العلوّ الشاهق منتحرا.
وعلى ما يبدو فعل ذلك بدافع من شعوره بالقهر وعجزه عن حماية رفيقه. يقول الرجل: حدثت هذه القصّة منذ خمسة وثلاثين عاما. وطوال هذه الفترة تزوّجت ثلاث مرّات طمعا في ولد، لكن لم اُرزق بذريّة أبدا. وما زلت أرى تلك الحادثة في منامي إلى اليوم. وقد أدركت أن الله عاقبني على فعلتي تلك بحرماني من النسل. ومن وقتها حرّمت على نفسي قتل أيّ حيوان أو مخلوق لأيّ سبب وتحت أيّ ظرف".
العلاقة بين الإنسان والذئب علاقة إشكالية منذ القدم. وعلى الدوام، ظلّ البشر ينظرون إلى الذئاب كأكثر المخلوقات شرّا وخبثا. ومع مرور الزمن، كانت سمعتها تسوء أكثر فأكثر. كانت على الأخص أعداءً للرعاة. ورغم أنها لم تكن تهاجم الإنسان، إلا أنها كانت تصطاد الماشية. وقد وصف الشاعر الروماني فرجيل في "الإنيادا" كيف أن مجرّد عواء ذئب كان يزرع الرعب والهلع في قلوب الأغنام والرعاة.
وتذكر بعض الروايات كيف أن سكّان إحدى القرى دأبوا على نصب شراك في الأرض في محاولة للامساك بذئبة كانت تفتك بقطعانهم. ومع ذلك استمرّوا يفقدون أغنامهم كلّ ليلة.
كانت الذئاب تشكّل هاجسا قويّا في مخيّلة الأقدمين، ولطالما اعتبروها نقيضا للخير والحضارة ورمزا للجوانب السيّئة في طبيعة الإنسان. وكلّ من كان يهدّد نظام المجتمع أو يتجاوز أعرافه كان يوصف بالذئب.
في صالة بأحد المتاحف الأوربية ستفاجأ بذئب. ليس ذئبا حقيقيا، بل صورة من القرن الخامس عشر. هذه اللوحة الصغيرة تصوّر مشهدا من حياة فرانسيس الأسيسي. تقول أسطورة انه عندما كان هذا الكاهن يعيش في بلدة غوبيو في بداية القرن الثالث عشر، كانت البلدة هدفا لهجمات ذئب مسعور. في البداية، كان يُغير على حظائر الماشية. لكن لم يمرّ طويل وقت حتى أصبح يشتهي لحم البشر. ولم يكن احد يجرؤ على فتح بوّابات البلدة، ناهيك عن أن يغامر بوضع قدميه خارجها.
وبمجرّد أن اقترب فرانسيس وبعض أتباعه من المكان الذي يكمن فيه الذئب حتى كشّر عن أنيابه. وهنا أمره الناسك بأن يهدأ "بحقّ الربّ". فهدأ الذئب لبرهة ثم تطلّع إلى فرانسيس قليلا قبل أن يخطو باتجاهه ويريح رأسه في حضنه. وقد عرض عليه الكاهن اتفاقا بأن يتوقّف عن تهديد الأهالي مقابل أن يُقدّم له من الطعام ما يكفيه كلّ يوم. وقد رفع الذئب مخلبه موافقاً. وعندما عاد الناسك إلى الأهالي المذهولين، طلب منهم توثيق ذلك الاتفاق كتابة وإنفاذه.
الفنّان الذي رسم اللوحة، واسمه ستيفانو دي كونسولو، ركّز على عنصر "المعجزة" في الحكاية. لكن هناك ما هو أكثر. فمقابل تعبيرات السكّان المبالغ فيها، يبدو الذئب هادئا أكثر من اللازم. ورغم أن العشب في الخلفية ما يزال مفروشا بعظام وأشلاء ضحاياه، إلا أن الذئب يبدو وكأن لا علاقة له بتلك الأشياء.


في القرون الوسطى، تواتر الحديث عن أسطورة الرجل الذئب "أو المستذئب" التي وجدت طريقها إلى الأدب والفن. وتفترض الأسطورة أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
عنف الذئب وطبيعته المتوحّشة كانت حاضرة بقوّة في عقول القدماء. كان يُصوّر كمخلوق أناني ولا عقلاني ومفتقر لأيّ إحساس بالرحمة. وغالبا ما كانت الذئاب تقارن بقدرة بعض البشر على ارتكاب أعمال عنف لا يقرّها العقل. ثم أصبحت هذه الحيوانات رمزا للطغيان والاستبداد.
في كتاب "الجمهورية"، يتحدّث أفلاطون عن رجل أصبح طاغية وأشبه ما يكون بالذئب المتعطّش لطعم الدم. وفي إحدى أساطيره، يتحدّث ايسوب عن ذئب يرفض الاستماع إلى دفاع حمل عن نفسه. ويسوق الراوي تلك الحكاية كنموذج للاستبداد. وفي ملحمة غلغامش، يرفض البطل تودّد عشتار له بحجّة أنها حوّلت عددا من عشّاقها إلى ذئاب. وفي اوديسا هوميروس، يكتشف اوديسيوس أن الساحرة سيرشي فعلت نفس الشيء.
غير أن الذئاب ليست شرّا مطلقا دائما. الرومان كانوا يعتبرونها مخلوقات مقدّسة ويقيمون مهرجانا سنويا على شرفها. وكان محظورا على الناس صيدها.
وقد وضعت العديد من الثقافات الذئاب في صدارة أساطيرها المؤسّسة. وطبقا لأسطورة قديمة، عمد احد الشياطين إلى وضع زارادشت في عرين ذئبة على أمل أن تفترسه، لكنها عاملته برحمة وأحضرت له غذاءً لتطعمه. والشعوب التركية القديمة تزعم أنها تنحدر من ذئبة تُدعى "ارسينا" كانت قد أنقذت طفلا هو جدّهم القديم من قرية دمّرتها غارات الصينيين.
وفي كتاب العهد القديم، استمرّت الذئاب كرمز لكلّ ما هو شرّير في الطبيعة الإنسانية، وأيضا كرمز لأعداء المسيح نفسه. والرسل المزيّفون يصوّرون في نفس الكتاب كذئاب شرّيرة في ثياب حملان. والذين يضطهدون المؤمنين يُنبذون باعتبارهم ذئابا متوحّشة.
وكان لتلك الأفكار مفعول مدمّر. فبسببها انتشر صيد الذئاب في بلدان الشرق والمتوسّط. وفي أرجاء الإمبراطورية الرومانية المسيحية أصبح قتل الذئاب واجبا دينيا. ورغم أن فرانسيس الأسيسي أوصى بالرحمة بالحيوانات، إلا أن هذا لم يغيّر من واقع الحال شيئا.
صيد الذئاب كان منتشرا في الجزر البريطانية. وكان لذلك سبب وجيه هو كثرة الغابات الكثيفة التي كانت تغطّي معظم الجزر والتي أدّت إلى ازدياد أعداد الذئاب. وبسبب وفرة حظائر الماشية، كان هناك دائما ما يكفي من الطعام لتتغذّى عليه. لكن الوحشية التي كانت تُقتل بها الذئاب كانت غير عاديّة.
وفي زمن تالً، أمر إدوارد الأوّل بإبادة الذئاب في مملكته. وبحلول عام 1500، كانت قد انقرضت تقريبا من أراضي بريطانيا. وفي روسيا كانت هناك وفرة من الذئاب. وقد صوّر تولستوي جوانب من طقوس صيدها في رواية "الحرب والسلام". وفي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، لعبت الذئاب دورا مهمّا في قصص مطاردة الساحرات. وفي القرن التاسع عشر، أصبحت تقترن بحكايات مصّاصي الدماء في الرعب القوطي.
ورغم كثرة القصص التي تشيطن الذئب وتصوّر عنفه، إلا أن هناك بالمقابل قصصا أخرى تدلّل على أنه يمكن أن يكون صديقا للإنسان. في الفيديو فوق، تظهر امرأة تعود بعد غياب لترى مجموعة من الذئاب سبق أن ارتبطت بها على مدى عامين. وردّ فعل الذئاب على رؤية المرأة بعد أن غابت عنها شهرين كان غريبا.
فبمجرّد أن جلست على الثلج ورأتها الذئاب، حتى اندفعت باتجاهها من على جانب إحدى التلال ثم أخذت تتنافس على احتضانها وتقبيلها. كانت هذه الذئاب قد ألِفت المرأة بعد أن تعهّدتها بالرعاية منذ أن رأتها في متنزّه في أقاصي شمال النرويج. وقد تصرّفت الذئاب معها وكأنها كلاب وليست جوارح مفترسة. واشتياقها لرفيقتها الإنسانة واعترافها بجميلها كان واضحا وأبلغ من أيّ كلام.
الذئاب عنصر مهم في توازن البيئة. وهي ليست بالضرورة أو دائما مخلوقات شرّيرة تبحث عن الدم. وليس هناك من سبب يمنع البشر من أن يسمحوا لها بأن تعيش معهم بتناغم وسلام.

Credits
wolfworlds.com
historytoday.com