:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أكتوبر 04، 2024

تأمّلات تحت أشجار الكرَز


منذ أواخر القرن العاشر، راج في اليابان نوع من الأدب يُسمّى "أدب الأكواخ القشّية"، أو أدب الانعزال، الذي يشبه أسلوب كتابة اليوميات أو المدوّنات الحديثة في هذه الأيّام. وهو نوع من الكتابة المسترسلة التي تسمح لقلم الكاتب بتدوين الأفكار كما ترد الى ذهنه بعفوية وعشوائية والانتقال من موضوع إلى آخر ومن فكرة لأخرى دون ترتيب مسبق. وقد أصبح ذلك التقليد حركة أدبية قائمة بذاتها في أواخر فترة حكم هييان وأوائل فترة كاماكورا في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثالث عشر.
وأصل هذا الأدب أن بعض الأشخاص عندما يتقاعدون من الخدمة العامّة يذهبون الى الجبال ويبنون لهم أكواخا منعزلة ويمارسون هناك العزلة والتواصل مع الطبيعة والتأمّل والكتابة. وأحيانا يأتي قرار العزلة من عدم الرضا عن المعايير المجتمعية كالتعلّق بالبيوت "التي مآلها الزوال"، أو بسبب الضغوط التي تصاحب الفقر. وفي حياة العزلة، يمكن نقل الكوخ بسهولة، ويمكن للمرء أن يتخفّف من الانشغال بحسن المظهر، إذ لن يوجد أحد حوله ليحكم عليه.
وذهاب بعض الأشخاص الى الجبال للعيش في عزلة وممارسة الكتابة المتأمّلة تقليد متجذّر بعمق في "الزِن" الياباني ويرتبط تاريخيّا بممارسات روحية أخرى. وكتابات هؤلاء المنعزلين كثيرا ما تعكس تأثير البوذية على حياتهم اليومية، والتي تؤكّد على أهميّة العزلة وعدم التعلّق بشيء والبقاء قريبا من الطبيعة.
وقد يتضمّن نشاط الكتابة المنعزلة ممارسة فنّ الخط الذي يُنظر إليه باعتباره فعلا تأمّليا، وكذلك كتابة قصائد الشعر "الهايكو غالبا". وهذه الأشكال القصيرة من الكتابة تسمح بالتعبير عن رؤى روحية عميقة بطريقة موجزة. وقد أثّرت الكتابات من هذا النوع بشكل كبير على الفنّ والأدب والجماليات اليابانية وعزّزت قيم البساطة واليقظة وحبّ الطبيعة.
ومن أشهر رموز هذا النوع من الكتابة يوشيدا كينكو الذي كان راهبا ورجل بلاط وخطّاطا وشاعرا وعالم آثار. وبعد تقاعده وابتعاده عن صخب العمل في البلاط الإمبراطوري، قضى كينكو أيّامه وحيداً في كوخ جبلي في كيوتو، وشغل نفسه بتدوين أفكاره على قصاصات من الورق. وبعد وفاته، أُزيلت تلك القصاصات من مكانها وصُنّفت ونُسخت في كتاب بعنوان "كوب من الساكي تحت أشجار الكرز".
وصورة كينكو كما تتجلّى في كتاباته هي صورة راهب وقور يجلس وحيداً في كوخه الصغير، متأمّلا لفائفه وأوراقه وممسكا بريشته بينما يستمع الى تدفّق مياه النهر الذي يجري بالجوار. وعلى الرغم من توقّع الكاتب أن صفحاته سوف تُتلف وغالبا لن يراها أحد، إلا أن تأثيرها على نظرة اليابانيين إلى السلوك والجمال لم يكن بسيطا ولا عابراً على الإطلاق. وفي الحقيقة فإن الكتاب يُعتبر اليوم واحدا من أكثر الأعمال دراسةً في الأدب الياباني، كما أنه يعطينا لمحة عن عالم اليابان في العصور الوسطى.
أفكار كينكو ونصوصه القصيرة المدوّنة في كتابه الصغير هي في معظمها تأمّلات في الحياة وفي لحظات السعادة العابرة وفي الجَمال الموجود في الأشياء البسيطة. وهي تشبه بعض أفكار الفلسفة الغربية ومقولات الحكمة الروحانية القديمة، من قبيل كتابات الرواقيين وغيرهم. وهناك من يشبّهه بباسكال وثورو وايمرسون وسواهم. لكن لكتابه بريقا خاصّا يتمثّل في لغته الرشيقة وأوصافه الشعرية.
ويقال ان كينكو كان شخصا متقلّب المزاج وعاطفيّا وعلى شيء من الزهد. ولم يستطع الفكاك من شوقه الى أسلوب الحياة في الماضي. وفي زمانه لم يكن هناك الكثير من الكتب. وكان يدرك أن الصديق قد يبتعد ويعيش في عالم منفصل، لكن الإنسان الذي يعيش بمفرده مع كتبه ومع أفكاره التي تحلّق متخفّفةً وحرّة يمكنه أن يجد السعادة الحقيقية.
والكاتب يتحدّث عن مشاكل الوجود التي تواجه الإنسان. وهو يفعل ذلك بوعي حديث للغاية. كما أنه مدرك تماما لتلك المشاكل ولعجزه. فهو لا يستطيع حلّها، لذا فهو يكتبها ويضمّنها رؤاه الهادئة والحكيمة.
بعض النقّاد يصفون هذا الكتاب بأنه نسخة مختصرة من رواية "والدن" لثورو، ولكن من منظور ياباني. لكن كينكو كتب خواطره قبل ظهور كتاب ثورو بعدّة مئات من السنين واستوحى مادّته بشكل أساسي من الفلسفة البوذية وليس من فلسفة التسامي. ومع ذلك فكلا الكتابين، أي كتابي كينكو وثورو، يروّجان لأسلوب الحياة المنعزل ويتغنّيان بفضائل الحياة في كوخ ريفي صغير في بيئة طبيعية تتّسم بالبساطة وعيش الكفاف.
السطور التالية تتضمّن بعض كلمات يوشيدا كينكو التي تذكّرنا أنه في خضمّ حالة الاضطراب وعدم اليقين التي تسود هذا العالم، يمكن العثور على الرضا الحقيقي في الحياة البسيطة وفي احتضان اللحظات العابرة وفي البحث عن العزاء في جمال الطبيعة.

❉ ❉ ❉

  • يا له من شعور غريب أصابني عندما أدركت أنني قضيت أيّاماً كاملة أمام زجاجة الحبر هذه، لأنه لم يكن لديّ ما أفعله، وأنا أدوّن أيّ أفكار عشوائية ولا معنى لها قد تخطر ببالي.
  • في صباح أحد الأيّام، بعد تساقط الثلوج بغزارة، كان لديّ سبب لكتابة رسالة إلى أحد معارفي، وعندما كتبتها أهملت ذكر تساقط الثلج. وقد سُررت عندما ردّ قائلا: هل تتوقّع منّي أن أهتمّ بكلمات شخص غبيّ لدرجة أنه يفشل في التساؤل عن كيفية العثور على هذا المشهد الثلجي؟ يا لها من قلّة حساسية مؤسفة!"


  • لقد تخلّيت عن كلّ ما يربطني بالعالم، لكن الشيء الوحيد الذي لا يزال يطاردني هو جمال السماء.
  • حتى مع مرور الزمن، لا يُنسى الميّت بأيّ حال من الأحوال، لكن "الموتى يبتعدون عن بعضهم البعض كلّ يوم"، كما يقول المثل. وهكذا، فعلى الرغم من كلّ الذكريات، يبدو أن حزننا على الراحلين لا يعود قويّا كما كان عند موتهم، حيث نبدأ في الثرثرة بلا مبالاة والضحك مرّة أخرى."
  • إن ترك شيء ما غير مكتمل يجعله مثيراً للاهتمام ويعطي المرء شعوراً بإمكانية النموّ والتجاوز.
  • قال المعلّم لأحد أتباعه: لا ينبغي للمبتدئ أن يحمل سهمين، لأنك ستستخدم السهم الأوّل بلا اهتمام عندما تتذكّر أن لديك سهما ثانيا. يجب أن تكون عازما دائما على إصابة الهدف بالسهم الوحيد الذي معك، وألا تفكّر في أيّ شيء آخر غير هذا.
  • كلّما طال أمَد مكوثك على هذه الأرض، زادت حصّتك من العار! ومن الأفضل أن تموت قبل سنّ الأربعين على أقصى تقدير. وبمجرّد تجاوز هذه السنّ، ينشأ لدى الناس رغبة في الاختلاط بالآخرين دون أدنى شعور بالخجل من حالتهم المزرية.
  • إنه لأمر مريح للغاية أن تجلس بمفردك تحت ضوء مصباح، وأمامك كتاب مفتوح تتواصل من خلال ما هو مكتوب فيه مع شخص عاش في غابر الأزمان ولم تقابله أبدا.
  • في الوقت الحاضر، أنت تُقيَّم وفقا لجمال وجهك. لكن بالنسبة لي فإن الأخلاق والسلوك هما الجمال الحقيقي. لا يهمّ أن تكون جميلا إن لم تكن متمتّعا بأخلاق وخصال طيّبة.
  • الجميع يرغبون في ترك أسمائهم لتتذكّرها الأجيال القادمة. لكن النبلاء وعلية القوم ليسوا بالضرورة أشخاصا طيّبين. إن الإنسان البليد الغبيّ قد يولد في بيت طيّب ويحظى بمكانة عالية ويعيش في قمّة الرفاهية بفضل الصدفة، في حين يختار العديد من الأشخاص الحكماء والصالحين البقاء في وظائف متواضعة ويُنهون أيّامهم دون أن يصادفهم حظّ سعيد.
  • في النهاية، الأشياء التي تفكّر فيها ولا تقولها تتعفّن بداخلك.
  • الرغبة الشديدة في المكانة العالية تأتي في المرتبة الثانية من الحماقة بعد الرغبة في الثروة. إننا نتوق إلى أن نترك وراءنا سمعة وشهرة، لكن لو فكّرت في الأمر بجديّة فستعرف أن الرغبة في السمعة الطيّبة ليست أكثر من مجرّد الاستمتاع بثناء الآخرين. لكن لا الذين يمدحوننا ولا الذين يذمّوننا سيبقون طويلا في هذا العالم، ولسوف يرحل حتى الذين يستمعون إلى آرائهم عنّا بعد وقت قصير أيضا. لذا من الذي يجب أن نخجل منه وما نوع التقدير الذي يجب أن نتوق إليه طالما أننا سنموت؟!
  • لو دامت إلى الأبد حياتنا كبشر ولم تذبل وتختفي مثل ندى القبور، لما حرّك هذا العالم مشاعرنا ولما أحببناه. إن الطبيعة الزائلة للأشياء هي التي تجعل هذه الحياة رائعة حقّا.
  • من بين جميع الكائنات الحيّة، الإنسان هو الذي يعيش أطول من غيره. فالذباب يموت قبل حلول المساء، وبعض الحشرات لا تعرف الربيع ولا الخريف لأنها تموت في الصيف. يا له من ترف رائع أن تتذوّق الحياة على أكمل وجه حتى ولو لعام واحد! إن كنت ممّن يندمون باستمرار على انصرام الحياة، فإن ألف عام طويلة ستبدو لك مجرّد حلم ليلة واحدة.
  • من الحماقة أن تكون عبداً للشهرة والثروة، منخرطاً في كفاح مؤلم طوال حياتك دون لحظة سلام وهدوء. ورغم أنك قد تترك وراءك عند وفاتك جبلاً من الذهب مرتفعاً بما يكفي لبلوغ نجمة الشمال نفسها، إلا أنه لن يسبّب سوى المشاكل للذين سيأتون بعدك. ولا جدوى من كلّ تلك الملذّات التي تسعد عيون الحمقى: العربات الكبيرة والخيول المطهّمة والذهب اللامع والمجوهرات، أيّ رجل عاقل سينظر إلى مثل هذه الأشياء على أنها غباء فادح. ألقِ ذهبك بعيدا في الجبال وارمِ جواهرك في الأعماق!
  • حتى الأشخاص الذين يبدون وكأنهم يفتقرون إلى أيّ مشاعر راقية، قد يقولون أحيانا أشياء مثيرة للإعجاب.
  • بدلاً من القبض على اللصوص ومعاقبتهم على جرائمهم، سيكون من الأفضل أن نجعل هذا العالم مكانا لا يعاني فيه الناس من الجوع أو البرد. إن من القسوة أن نجعل الناس يعانون بحيث يضطّرون إلى خرق القانون، ثم نعامل الفقراء كمجرمين. يجب تعريف المجرم الحقيقي على أنه شخص يرتكب جريمة على الرغم من أنه يتغذّى ويلبس بشكل لائق.
  • كقاعدة عامّة، يمكن التعرّف على شخصية الإنسان من المكان الذي يعيش فيه. إن المنزل الذي صقله عدد كبير من العمّال بكل عناية، حيث ترى فيه الأثاث الصيني والياباني الغريب والنادر، وأعشاب وأشجار الحديقة المرتّبة بشكل غير طبيعي، لهو منزل قبيح المنظر وجالب للاكتئاب.