"عليك أن تستمرّ في كسر قلبك حتى ينفتح."
للسفر من سمرقند إلى بلخ، كان على جلال الدين وعائلته المسير بمحاذاة نهر جيحون. كانت نقطة العبور الطبيعية إلى جانب بلخ من النهر هي مدينة "تِرمذ" المحصّنة، مسقط رأس "برهان" معلّم جلال الدين، الذي قرّر البقاء هناك.
في منتصف الأربعينات من عمره، كان برهان معلّما مكلّفا بمهمّة محدّدة، وهي رعاية جلال الدين علميّا وروحيّا. فكان بذلك شخصيةً محبّبةً ومهمّةً في طفولة الرومي ولم ينافسه في التأثير عليه سوى والده.
في المرحلة الأولى من رحلتهم على طول حدود آسيا الوسطى، كانت قوافل طويلة لا حصر لها من الإبل والبغال تشقّ طريقها عبر الصحاري والسهول المحاطة بالجبال المغطّاة بالثلوج، وتتوقّف في مدن الواحات المحاطة بأشجار النخيل. كانت الأسواق المزدحمة تعجّ بالتجّار الذين يبيعون البطّيخ أو الخيول للمسافرين.
في صباه، استوعب جلال الدين إيقاع تلك الإبل وهي ترسم خطوطها المتعرّجة بين الأعشاب وفي الرمال. كما أصبح يعرف عن ظهر قلب الألحان التي تنتشر في كلّ مكان أثناء الرحلة وتُغنّى لإزجاء الوقت أو تسريع القافلة، مصحوبةً في كلّ خطوة بجلجلة أجراس فضّية تُثبّت بالقرب من آذان الجمال.
وكان سائقو الجمال يردّدون الأغاني التقليدية، غالبا أغاني الحبّ، التي لا تنقطع إلا عند ارتفاع الأذان للصلاة. وكان الناي، أو مزمار القصب، هو الأكثر وضوحا في تلك الألحان، وهو آلة حزينة أصبحت فيما بعد صورة لفنّ الرومي وروحه. "إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين، يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي".
وفي النهاية ستُدمج صور المزامير والإبل والقوافل والنزُل والأهلّة ورمال الصحراء في موضوع الرومي العظيم عن عدم التعلّق، كمثل قوله: أصواتنا مثل أجراس القافلة أو الرعد. أيّها المسافر عندما تتكاثف الغيوم لا تترك قلبك في النُزل".
كانت هذه الرحلة داخلية بقدر ما كانت خارجية، حتى إن كان الرومي ما يزال صبيّا صغيرا ولم يدرك بعد الكثير من تأثيرها. كان يراقب مناظر الطبيعة الخلّابة في جولته في المدن الإسلامية العظيمة آنذاك. والأهم من ذلك أنه كان يتواصل مع أدلّة مهمّة على أصوله الشعرية والثقافية والروحية، لا سيّما في نيشابور وبغداد ومكّة.
كانت نيشابور مركزا جاذبا للشعر التعبّدي وللصوفيين الذين يجاهرون بالفضيحة كممارسة روحية. وكانت بغداد القلب النابض بالحياة الجامعية الإسلامية والتصوّف منذ بداياتهما، ومقرّا للخليفة. وفي مكّة، كان المسلمون من جميع الأعمار يتفكّرون، مرّة واحدة في العمر، في علاقة أرواحهم بالله، وهو أمر شغلَ الرومي منذ نعومة أظفاره كما شغلَ عائلته. وما كان من الممكن تصوّر الرجل الذي أصبح عليه الرومي لولا تلك الأجزاء من هويّته التي اكتشفها في هذه الرحلة التي استمرّت عقدا من الزمان.
كانت المحطّة الأولى لجلال الدين وعائلته نيشابور التي وصلوها على الأرجح في وقت ما من عام 1217. كانت هذه المدينة رابع أكبر عواصم خراسان وأكثرها سكّانا. وكانت أيضا بمثابة استراحة مرغوب بها في مثل هذه الرحلة، إذ كانت الطرق الفرعية من بلخ أكثر تعرّجا وأقلّ صيانةً من الطرق الأوسع المؤدّية إلى بغداد.
كانت العائلة قد مرّت لتوّها عبر مساحات طويلة من الأراضي القاحلة المغبرّة التي أصبحت مخبئاً مزعجاً للخارجين عن القانون، مع سهول لا متناهية لا ينعشها في الربيع إلا حفيف العشب الأخضر المزيّن بالخشخاش الأحمر، بينما تنتشر هنا وهناك بيوت طوب مقبّبة ومخيّمات للرعاة الرحّل.
للسفر من سمرقند إلى بلخ، كان على جلال الدين وعائلته المسير بمحاذاة نهر جيحون. كانت نقطة العبور الطبيعية إلى جانب بلخ من النهر هي مدينة "تِرمذ" المحصّنة، مسقط رأس "برهان" معلّم جلال الدين، الذي قرّر البقاء هناك.
في منتصف الأربعينات من عمره، كان برهان معلّما مكلّفا بمهمّة محدّدة، وهي رعاية جلال الدين علميّا وروحيّا. فكان بذلك شخصيةً محبّبةً ومهمّةً في طفولة الرومي ولم ينافسه في التأثير عليه سوى والده.
في المرحلة الأولى من رحلتهم على طول حدود آسيا الوسطى، كانت قوافل طويلة لا حصر لها من الإبل والبغال تشقّ طريقها عبر الصحاري والسهول المحاطة بالجبال المغطّاة بالثلوج، وتتوقّف في مدن الواحات المحاطة بأشجار النخيل. كانت الأسواق المزدحمة تعجّ بالتجّار الذين يبيعون البطّيخ أو الخيول للمسافرين.
في صباه، استوعب جلال الدين إيقاع تلك الإبل وهي ترسم خطوطها المتعرّجة بين الأعشاب وفي الرمال. كما أصبح يعرف عن ظهر قلب الألحان التي تنتشر في كلّ مكان أثناء الرحلة وتُغنّى لإزجاء الوقت أو تسريع القافلة، مصحوبةً في كلّ خطوة بجلجلة أجراس فضّية تُثبّت بالقرب من آذان الجمال.
وكان سائقو الجمال يردّدون الأغاني التقليدية، غالبا أغاني الحبّ، التي لا تنقطع إلا عند ارتفاع الأذان للصلاة. وكان الناي، أو مزمار القصب، هو الأكثر وضوحا في تلك الألحان، وهو آلة حزينة أصبحت فيما بعد صورة لفنّ الرومي وروحه. "إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين، يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي".
وفي النهاية ستُدمج صور المزامير والإبل والقوافل والنزُل والأهلّة ورمال الصحراء في موضوع الرومي العظيم عن عدم التعلّق، كمثل قوله: أصواتنا مثل أجراس القافلة أو الرعد. أيّها المسافر عندما تتكاثف الغيوم لا تترك قلبك في النُزل".
كانت هذه الرحلة داخلية بقدر ما كانت خارجية، حتى إن كان الرومي ما يزال صبيّا صغيرا ولم يدرك بعد الكثير من تأثيرها. كان يراقب مناظر الطبيعة الخلّابة في جولته في المدن الإسلامية العظيمة آنذاك. والأهم من ذلك أنه كان يتواصل مع أدلّة مهمّة على أصوله الشعرية والثقافية والروحية، لا سيّما في نيشابور وبغداد ومكّة.
كانت نيشابور مركزا جاذبا للشعر التعبّدي وللصوفيين الذين يجاهرون بالفضيحة كممارسة روحية. وكانت بغداد القلب النابض بالحياة الجامعية الإسلامية والتصوّف منذ بداياتهما، ومقرّا للخليفة. وفي مكّة، كان المسلمون من جميع الأعمار يتفكّرون، مرّة واحدة في العمر، في علاقة أرواحهم بالله، وهو أمر شغلَ الرومي منذ نعومة أظفاره كما شغلَ عائلته. وما كان من الممكن تصوّر الرجل الذي أصبح عليه الرومي لولا تلك الأجزاء من هويّته التي اكتشفها في هذه الرحلة التي استمرّت عقدا من الزمان.
كانت المحطّة الأولى لجلال الدين وعائلته نيشابور التي وصلوها على الأرجح في وقت ما من عام 1217. كانت هذه المدينة رابع أكبر عواصم خراسان وأكثرها سكّانا. وكانت أيضا بمثابة استراحة مرغوب بها في مثل هذه الرحلة، إذ كانت الطرق الفرعية من بلخ أكثر تعرّجا وأقلّ صيانةً من الطرق الأوسع المؤدّية إلى بغداد.
كانت العائلة قد مرّت لتوّها عبر مساحات طويلة من الأراضي القاحلة المغبرّة التي أصبحت مخبئاً مزعجاً للخارجين عن القانون، مع سهول لا متناهية لا ينعشها في الربيع إلا حفيف العشب الأخضر المزيّن بالخشخاش الأحمر، بينما تنتشر هنا وهناك بيوت طوب مقبّبة ومخيّمات للرعاة الرحّل.
في نيشابور، كان الجغرافيّ والرحّالة ياقوت الحموي، قد زار العديد من المدن نفسها التي زارها جلال الدين وعائلته. وقد وصف المدينة في ذلك الوقت تقريباً بأنها كانت لا تزال تعاني من آثار الزلزال الكبير الذي وقع عام 1145، ومن حصار الأتراك الأويغور للمدينة بعد أن أسرَ أهلُها سلطانَهم العظيم سنجر السلجوقي. وباعتباره باني إمبراطورية، أصبح سنجر يمثّل الحكّام الأقوياء في قصائد جلال الدين الرومي.
كان ياقوت لا يزال يجد عجائب رائعة تلفت انتباهه. وقد أشاد بشكل خاص بمناجم الفيروز وبنهر نيشابور الذي يغذّي عشرات المطاحن بالثلوج المذابة من الجبال القريبة. ومع أن المدينة لم تكن من أكثر الأماكن التي زارتها عائلة الرومي شهرةً أو تميّزا، إلا أنها قدّمت أسلوبها الروحاني المتحرّر وشكّلت مشهدا شعريّا جديدا ورائعا على حدّ سواء، وكشف الرومي في النهاية عن تقارب وجدانيّ معها.
وقد رأى جلال الدين بعض متصوّفة نيشابور، وكان أشهرهم أتباع "الملاماتية" أو "طريق اللوم". كانوا يُخفون تقواهم حتى لا يُنظر إليهم على أنهم قدّيسون، وكانوا يسيرون في الشوارع حفاة ويشربون الخمر ويرتدون الحرير المطرّز ويتصرّفون كما لو كانوا آثمين أو مجانين.
وكان أشهر هؤلاء فريد الدين العطّار الذي كان قد تجاوز آنذاك الثمانينات أو حتى التسعينات من عمره. كما كان قد انتهى من كتابة أروع أعماله "منطق الطير"، وهو حكاية مبتكرة وخيالية مكتوبة شعراً عن سرب من الطيور ينطلق في رحلة بحثاً عن الطائر السماويّ الجاثم على أعلى قمّة في سلسلة جبال البُرز شمال إيران.
كانت قصص هذا الكتاب مناسبةً لصبيّ مثل جلال الدين. وقد استجاب لوزنِها العربيّ البسيط واستخدمه لاحقاً في "مثنويّه" الخاص. وعكست قصائده الكثير ممّا كان غنيّا وآسراً في حساسية نيشابور في تلك اللحظة المزدهرة. وخلال إقامة العائلة هناك، قيل إن جلال الدين رفقةَ والده وجد طريقه إلى متجر الأعشاب الذي يديره العطّار داخل سوق مزدحم.
كما قيل أيضا إن العطّار استشرف ببصيرته النافذة مستقبل الطفل الواقف أمامه وتنبّأ لوالده بنبوغه قائلا: سيُشعل ابنك قريبا ناراً في قلوب جميع محبّي الله في العالم". وكهديّة، قدّم الشاعر للصبيّ نسخة من مؤلّفه "كتاب الأسرار". وفي هذه التأمّلات المجرّدة التي يغلب عليها طابع الحكمة، يكشف العطّار أن أسرار العالم مخفيّة قرب عرش الله، وأن اكتشاف هذه الحقائق الأبدية متاح فقط لمن هم على استعداد "لفقدان عقولهم" وشرب ماء الورد الإلهي".
لم ينظر جلال الدين إلى العطّار كشاعر فحسب، بل تقبّل أيضا السلالة الشعرية التي صنعها لنفسه. كان العطّار قد وجد الإلهام والنموذج الأمثل في شخص الحكيم سنائي، وهو شاعر من الجيل السابق في غزنة. وكان سنائي أوّل شاعر بلاط يتوقّف عن كتابة قصائد التملّق لراعيه حتى يتمكّن من ممارسة الشعر العرفاني.
وفيما بعد، قال جلال الدين الرومي موضحاً نسبه الشعري والروحي لطلّابه: من يقرأ كلمات العطّار بعمق، سيفهم أسرار سنائي. ومن يقرأ كلمات سنائي بإيمان، سيفهم كلماتي بشكل أفضل وسيستفيد منها ويستمتع بها".
كان ياقوت لا يزال يجد عجائب رائعة تلفت انتباهه. وقد أشاد بشكل خاص بمناجم الفيروز وبنهر نيشابور الذي يغذّي عشرات المطاحن بالثلوج المذابة من الجبال القريبة. ومع أن المدينة لم تكن من أكثر الأماكن التي زارتها عائلة الرومي شهرةً أو تميّزا، إلا أنها قدّمت أسلوبها الروحاني المتحرّر وشكّلت مشهدا شعريّا جديدا ورائعا على حدّ سواء، وكشف الرومي في النهاية عن تقارب وجدانيّ معها.
وقد رأى جلال الدين بعض متصوّفة نيشابور، وكان أشهرهم أتباع "الملاماتية" أو "طريق اللوم". كانوا يُخفون تقواهم حتى لا يُنظر إليهم على أنهم قدّيسون، وكانوا يسيرون في الشوارع حفاة ويشربون الخمر ويرتدون الحرير المطرّز ويتصرّفون كما لو كانوا آثمين أو مجانين.
وكان أشهر هؤلاء فريد الدين العطّار الذي كان قد تجاوز آنذاك الثمانينات أو حتى التسعينات من عمره. كما كان قد انتهى من كتابة أروع أعماله "منطق الطير"، وهو حكاية مبتكرة وخيالية مكتوبة شعراً عن سرب من الطيور ينطلق في رحلة بحثاً عن الطائر السماويّ الجاثم على أعلى قمّة في سلسلة جبال البُرز شمال إيران.
كانت قصص هذا الكتاب مناسبةً لصبيّ مثل جلال الدين. وقد استجاب لوزنِها العربيّ البسيط واستخدمه لاحقاً في "مثنويّه" الخاص. وعكست قصائده الكثير ممّا كان غنيّا وآسراً في حساسية نيشابور في تلك اللحظة المزدهرة. وخلال إقامة العائلة هناك، قيل إن جلال الدين رفقةَ والده وجد طريقه إلى متجر الأعشاب الذي يديره العطّار داخل سوق مزدحم.
كما قيل أيضا إن العطّار استشرف ببصيرته النافذة مستقبل الطفل الواقف أمامه وتنبّأ لوالده بنبوغه قائلا: سيُشعل ابنك قريبا ناراً في قلوب جميع محبّي الله في العالم". وكهديّة، قدّم الشاعر للصبيّ نسخة من مؤلّفه "كتاب الأسرار". وفي هذه التأمّلات المجرّدة التي يغلب عليها طابع الحكمة، يكشف العطّار أن أسرار العالم مخفيّة قرب عرش الله، وأن اكتشاف هذه الحقائق الأبدية متاح فقط لمن هم على استعداد "لفقدان عقولهم" وشرب ماء الورد الإلهي".
لم ينظر جلال الدين إلى العطّار كشاعر فحسب، بل تقبّل أيضا السلالة الشعرية التي صنعها لنفسه. كان العطّار قد وجد الإلهام والنموذج الأمثل في شخص الحكيم سنائي، وهو شاعر من الجيل السابق في غزنة. وكان سنائي أوّل شاعر بلاط يتوقّف عن كتابة قصائد التملّق لراعيه حتى يتمكّن من ممارسة الشعر العرفاني.
وفيما بعد، قال جلال الدين الرومي موضحاً نسبه الشعري والروحي لطلّابه: من يقرأ كلمات العطّار بعمق، سيفهم أسرار سنائي. ومن يقرأ كلمات سنائي بإيمان، سيفهم كلماتي بشكل أفضل وسيستفيد منها ويستمتع بها".