كان ويلفريد ثيسيغر من أوائل الرحّالة الغربيين الذين وصلوا إلى الجزيرة العربية في نهاية الأربعينات من القرن الماضي. ولم يكن عرب الجزيرة يرحّبون بمجيء المسيحيين الباحثين عن النفط.
وكان ثيسيغر يشكّل إلى حدّ ما تهديدا لعرب البادية الذين أحبّهم، ربّما لأنه كان يعكف على وضع الخرائط الجغرافية التي ستفتح أرضهم للعالم فيما بعد.
يقول هذا الرحّالة البريطاني في نهاية كتابه الشهير الرمال العربية: "عندما كنتُ مع العرب كنت أتمنى فقط أن أعيش مثلما يعيشون. وبما أنني رحلتُ عنهم الآن فإنني مطمئن إلى أن مجيئي إليهم لم يغيّر من نمط الحياة التي كانوا يحيونها. لكنّي اشعر بالأسف لأنني أدركتُ أن الخرائط التي وضعتها ساعدت آخرين ربّما تكون لهم غايات أخرى في أن يزوروا تلك البلاد ويفسدوا أهلها الذين أضاءت روحهم الصحراء ذات مرّة كشعلة من لهب.
في ذلك الوقت كان يعيش في الجزيرة العربية حوالي سبعة ملايين عربي ربعهم من البدو الذين يربّون الجمال ويعيشون مترحّلين في الصحراء التي تغطي معظم مساحة الجزيرة العربية. ولم يتغيّر نمط حياتهم إلا بالكاد على امتداد سنوات طوال.
ومع ذلك، ففي اقلّ من 40 سنة تغيّر كلّ شيء وأدّى اكتشاف النفط إلى تدفّق الثروات على المنطقة، ولم يستطع البدو الإبقاء على نمط معيشتهم القديم ولم تعد المدن بحاجة إلى قطعان الجمال التي كانوا يربّونها.
يقول ثيسيغر: "كان البدوي دائما إمّا كريما جدّا أو بخيلا لدرجة لا تصدّق، إمّا صبورا للغاية أو منفعلا سريع الغضب، إمّا شجاعا وإما جبانا. وعلى الأرجح لا يوجد شعب أو مجموعة عرقية في العالم يمكن أن تجمع كل هذا القدر من الصفات المتناقضة وبمثل تلك الدرجة من الحدّة والتطرّف.
ويصف ثيسيغر في كتابه مغامراته في الربع الخالي. وكانت أولى محاولاته لعبور تلك الصحراء المترامية الأطراف في عام 46-1947 م عندما اقنع الدكتور اوفاروف عميد مركز أبحاث الجراد في لندن بأن يسمح له بالعودة إلى عُمان والربع الخالي لرسم بعض الخرائط عن المنطقة.
وكان بيرترام توماس قد سبق ويلفـريد ثيسيغر إلى هناك. والواقع أن توماس كان قد اكتسب احترام رجال البادية من خلال طبيعته الودودة وسخائه وعزيمته. وعندما أتى ثيسيغر بعد ذلك بسبعة عشر عاما لقي حفاوة وترحيبا، ربّما لأنه كان عاش في كنف القبيلة التي سبق لـ توماس أن عاش بين ظهرانيها.
غادر ثيسيغر صلالة على ساحل المحيط الهندي متجها نحو الشمال الشرقي. وكان قد قرّر عبور الطرف الشرقي للربع الخالي. وسافر بمعيّته خمسة أشخاص كل منهم يمتطي جملا، وكان لديهم ما يكفي من السلاح والذخيرة.
كان ثيسيغر سعيدا بصحبة الرجال الخمسة، خاصةً صديقيه الحميمين بن قبينة وبن غبيشة اللذين كانا يسمّيانه مبارك. لكنه لم يكن عربيا ولا مسلما على كل حال. وكان أقسى امتحان يواجههم هو أن يعيشوا في وئام وألا يدعوا الغضب أو نفاد الصبر يسيطر عليهم. وكان ثيسيغر يدرك أن من السهل استفزازه واستثارته، لكن ذلك سيكون خطأه لا خطأ رفاقه.
وبدا أن الرحلة ستكون عصيبة. وكان دليلهم محمّد العوف الذي يعرف الطريق جيّدا عبر الرمال.
كان محمّد يمشي ويرفع يديه بالدعاء ويتلو آيات من القرآن الكريم. لقد كان إيمانهم بالله قويّا جدّا. وقد يكون ذلك هو العامل الذي منحهم القدرة على العيش والبقاء في تلك البيئة القاسية.
وفي 12 ديسمبر وبعد مضي أربعة عشر يوما على بدء رحلتهم وصلوا إلى ظفارة وبئر الخبا.
لسنوات عديدة كانت رمال الربع الخالي تشكّل بالنسبة لـ ثيسيغر تحدّياً نهائياً عسير المنال. وكان يتذكّر الشكوك والمخاوف والإحباط ولحظات اليأس.
يقول ثيسيغر: "بالنسبة للآخرين تبدو رحلتي قليلة الأهمية. وأقصى ما يمكن أن تتمخّض عنه بضع خرائط غير دقيقة إلى حدّ ما. لكنها بالنسبة لي كانت تجربة شخصية، والمكافأة كانت رشفة من ماء نظيف وكان ذلك يكفيني.
كان تفكيره منشغلا برحلة العودة وهي بحدّ ذاتها مشكلة كبيرة. إذ لكي يعودوا إلى صلالة كان يتعيّن عليهم أن يسلكوا طريقا واحدا يمرّ عبر عمان التي تبعد 800 ميل. وكان محمّد العوف يدرك أن المشكلة الكبرى هي "مبارك" نفسه. فإذا اكتشف العرب أن بينهم مسيحيا، فإن عمال جمع الضرائب التابعين لابن سعود سيقبضون على أفراد المجموعة كلهم وسيودعونهم السجن. وهنا ينصح الدليل "مبارك" بأن يلتزم الصمت التام وألا يتحدّث إلى أحد.
عندما عبروا عُمان ووصلوا إلى صلالة، أصرّ رفاق ثيسيغر على أن يدخلوا المعسكر دخول الفاتحين. فاستلّوا مسدّساتهم وأفرغوا ما بها من ذخيرة في الهواء. بينما رقص البعض وغنّوا ملوّحين بخناجرهم. وبقي ثيسيغر في صلالة مدّة أسبوع بعد أن نجح في عبور الربع الخالي. وقد راق له جمال صلالة وتميّز حضارتها.
لكنه كان يتطلع إلى العودة للصحراء مجدّدا.
في هذه المرّة كان السفر مريحا مع وفرة في الطعام والماء.
وصل ثيسيغر إلى المكلا في غرّة مايو. ومن المكلا اتجه إلى الحجاز ومكث فيها ثلاثة اشهر. ومن هناك قفل عائدا إلى لندن. لكن الحنين للصحراء ظلّ يراوده على الدوام. غير أن الملك عبد العزيز رفض السماح له بالعودة. ومع ذلك أصرّ ثيسيغر على تحدّي رغبة الملك.
اتصل ثيسيغر بصديقيه القديمين بن قبينة وبن غبيشة وحدّد لهما موعداً للّقاء في حضرموت في أحد أيّام شهر نوفمبر من عام 1947م. وأقنع ثيسيغر بن دقسان بأن يرافقهم كدليل عبر الرمال الغربية للربع الخالي. وكان عليهم أن يقطعوا مسافة 400 ميل من الأرض الجدباء حيث لا ماء ولا أثر للحياة. واستغرقت الرحلة 16 يوما من الترحال عبر الكثبان الرملية الكثيفة ووسط تهديدات مستمرة من قبائل يام.
يقول ثيسيغر في كتابه: "لقد استخففت بالخطر وكنت أتمنى أن يعجب الملك بما أنجزته حتى وإن كان غاضبا.
كانت الكثبان مكتسية بلون الذهب المشوب بالحمرة. لكن الإحساس بالخطر كان يتزايد. وكان الرجال يقظين ومتحفّزين على الدوام.
واستطاعوا عبور الربع الخالي من الجنوب إلى الشمال عبر الطرف الغربي حتى وصلوا إلى الحسا والسليّل. وهناك تمّ اعتقالهم وعوملوا بقسوة.
ووُضع ثيسيغر في عهدة أمير الناحية الذي ما أن سمع عن رحلتهم حتى قال لهم: انتم محظوظون. فالرمال التي قطعتموها ملأى بالعرب، وقد أعطاهم بن سعود حرّية الإغارة والقتل إذا لزم الأمر، ولو تمكّنوا منكم لقتلوكم".
وأرسل الملك عبد العزيز أمرا بالقبض على الإنجليزي وحبس رفاقه. وأمر الأمير ثيسيغر بأن يذهب إلى القلعة. وعندما وصل إلى هناك بمعيّة بن قبينة ُقدّم لهم الشاي والقهوة واللحاف، وُخصّصت للرجلين غرفة في أعلى القلعة. لكن ثيسيغر لم ينم جرّاء المخاوف التي كانت تنتابه. كما بعث في قلبه الرعب دويّ إغلاق باب القلعة الكبير من وقت لآخر.
وفي الصباح ُفتح الباب واطلّ عليهما الأمير مبتسما وهو يقول: لقد أخبرتك بأن كل شيء سيكون على ما يرام. فقد تحدّث عبد الله فيلبي إلى الملك عبد العزيز بالنيابة عنك، وقرّر الملك إطلاق سراحك. وعندما سأل ثيسيغر: إلى أين؟ جاءه الجواب بسرعة: إلى ليلى. ومن هناك إلى ساحل الإمارات المتصالحة.
غادر ثيسيغر ورفاقه صبيحة يوم التاسع والعشرين من يناير متجهين إلى ليلى على بعد 160 ميلا إلى الشرق. وهناك قابل ثيسيغر منقذه فيلبي. لكن كراهية رجال الدين المتشدّدين في المدينة لـ ثيسيغر كانت جليّة وصريحة. فغادر هو ورفاقه ليلى باتجاه أبو ظبي بلا دليل. ولم يكن بحوزتهم شيء باستثناء بوصلة وكرّاس ملاحظات أعطاه لهم فيلبي. وبينما كانوا يستعدّون للمغادرة كان العرب يصيحون فيهم مردّدين: لا تعودوا إلى هنا ثانية!
كتاب ثيسيغر ملئ بالمشاهد الغريبة والقصص المشوّقة، بدءاً من وصفه لرحلة صيد بالصقور مع "زايد"، ومروراً بتجربته في عبور الرمال المتحرّكة على ظهر الجمل ومحاولته رسم خريطة للجبل الأخضر وقصّة الصبي الذي تلبّسته روح شريرة، وانتهاءً بقصص المعارك الدموية وطقوس الختان ووصفه لمشهد قطع رأس أحد المجرمين.
ولم ينسَ ويلفريد ثيسيغر أن يهدي كتابه إلى صديقيه الوفيّين بن قبينة وبن غبيشة.
- مترجم بتصرّف
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .