:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 15، 2025

جغرافيا الغابات


تبدأ القصص عادةً عندما يغادر البشر الغابة. ومن أعظم ألغاز شمال أوروبا معركة غابة تويتوبورغ، حيث قضت القبائل الجرمانية بقيادة زعيمها هيرمان على جيش روماني كامل بقيادة جندي يُدعى فاروس، في السنة التاسعة للميلاد. ويقال إن الإمبراطور أوغسطس ركض عبر أروقة قصره وهو يصيح "فاروس، أعد لي فيالقي!". وتذكر الكتب المدرسية أن هذه المعركة آذنت بنهاية التوسّع الروماني. وقد بنى جنود الإمبراطورية فيما بعد جدارا ضخما، يُعرف بجدار ليمز، على طول الضفّة الغربية لنهر الراين لإبعاد المحاربين الجرمان.
وما تزال هذه المعركة أكثر غموضاً حتى من سقوط طروادة. والمرجع الوحيد عنها هو كتابات المؤرّخ الروماني تاسيتوس، وهو مصدر دقيق نسبياً لعصره، ولكن كتاباته ليست معصومة عن الخطأ. ورغم أنه أعطى تاريخاً، فإنه لم يحدّد أبداً موقعاً دقيقاً للمعركة. ولم يُعثر على ساحة المعركة حتى منتصف الثمانينات. وقبل ذلك، كانت تقع في مكان ما بين الأسطورة والتاريخ، ثابتة بدقّة في الزمن ولكنها ضائعة في الجغرافيا الغامضة للغابات.
المكان في الغابة، أيّ غابة، لا يتعلّق بإحداثيات ثابتة بل بنقاط متقطّعة. وكان الأمر كذلك بشكل أكبر قبل اكتشاف البوصلة. فكلّ ما كان بوسع المرء أن يفعله هو الالتزام الصارم بالمسار، إذا كان هناك مسار. وبمجرّد فقدان المسار، لن يكون هناك أمام أو خلف، شرق أو غرب، ولا شمال أو جنوب.
ونظرا لأن الأفق غير مرئي في الغابة، فإن الوقت الوحيد من اليوم الذي يمكننا تحديده من خلال الشمس هو الظهيرة، عندما تكون الشمس فوق الرأس مباشرة. وبخلاف ذلك، لا توجد سوى فترات كبيرة من الوقت: النهار والمساء والليل.
والذين يضلّون طريقهم في الغابة قد يفقدون بسهولة إحساسهم بالساعات والأيّام. فمن الصعب، مثلا، أن نعرف ما إذا كان المرء قد نام للتوّ عشر دقائق أو عشر ساعات أو أنه لم ينم طوال الوقت. وعندما ندخل غابة، فإننا ندخل عالما يتجاوز الزمان والمكان يُعرف في الفولكلور بالعالم الآخر أو أرض الجنّيات أو الأرض الواقعة شرق الشمس وغرب القمر أو الأرض التي تقع وراء الممالك التسع..الخ.
وطبقا للشاعر الروماني فيرجيل، فإن الملكة الفينيقية أليسار وأتباعها وصلوا بعد فرارهم من مدينة صور إلى الساحل الأفريقي. وطلبت أليسار من السكّان الأصليين مساحة من الأرض لا تتجاوز ما يمكن أن يغطّيه جلد ثور. ولما رأى مضيفوها أن هذا لا قيمة له، وافقوا على الفور. ثم قطعت الملكة الجلد إلى شرائح رفيعة وحاصرت قطعة كبيرة من الأرض التي أصبحت فيما بعد مدينة قرطاج العظيمة. ووفقاً لروايات من القرن السابع عشر، استخدم المستعمرون الأوائل في مانهاتن نفس الحيلة، عندما طلبوا من الهنود قطعة أرض يمكن أن يغطّيها جلد غزال، كي يطالبوا بمساحة شاسعة لمنازلهم.
وحتى اليوم، يشعر الناس، بطريقة غريزية، بأن الغابة لا تنتمي إلى أحد، بل إلى الجميع. ولا تزال القوانين في فنلندا وألمانيا والسويد تحظر على المالكين منع الآخرين من السير على الأراضي المشجرة.
وبالنسبة للذين عاشوا بالقرب من أطراف الغابات عندما كانت كثيفة وغير مرسومة على الخرائط، كان خطر الضياع إلى الأبد في الغابة حقيقيّا. وكانت المجتمعات البشرية الأصلية في أوروبّا ما قبل التاريخ عبارة عن مساحات مؤقّتة في الغابة، غالبا ما نشأت بسبب الحرائق. وكانت الغابات نفسها حدودا شاسعة، حيث كانت سيادة القانون والعادات غير مؤكّدة.
ومنذ ذلك الحين كان الضياع في الغابة سبباً في إثارة الرعب والارتباك الذي يتجاوز الخوف الجسدي. ويستحضر دانتي هذا الإحساس في السطور الافتتاحية الأولى للكوميديا الإلهية:
في منتصف طريق حياتنا، وجدت نفسي في غابة مظلمة
إذ ضللت الطريق.
"آه ما أصعب وصف هذه الغابة الموحشة الكثيفة القاسية التي تجدّد ذكراها لي الخوف.
لم يشرح دانتي كيف دخل الغابة المظلمة التي بدأ فيها رحلته. والعلماء يقارنونها بغابة المنتحرين التي زارها لاحقا في الجحيم. هناك، تَحوّل الرجال والنساء إلى أشجار، وكان كلامهم عبارة عن دم يسيل من فرع مكسور. لكن الغابات في ذلك الوقت، بشكل عام، كانت تبدو بالفعل مثل الجحيم، ليس فقط بسبب الظلام، ولكن أيضا لسبب آخر. فقد كان الأشخاص الوحيدون الذين من المحتمل أن يقابلهم المرء هم المشرّدون والمجرمون والمغامرون الذين لاذوا بالغابة فراراً من المجتمع. وقد يكون هناك ناسك قرّر هجر المدنية وأتى للتواصل مع الله.
أما الأرستقراطيون والنبلاء فكانوا يغامرون بالدخول إلى الغابات العميقة فقط من أجل الصيد. وكانوا يفضّلون الصيد في مجموعات كبيرة ومنظّمة. وكان الصيد مصحوبا باحتفالات، وأحياناً بطقوس دينية. وكان وسيلة لتأكيد الشعور بالانتماء إلى المجتمع والنظام الاجتماعي. وعند قتل الطرائد، كانت توزّع بشكل احتفالي، حيث يحصل كلّ فرد على حصّة مناسبة، بدءا من سيّد القصر وانتهاءً بالكلاب.


وكان جزء من التحدّي الذي يفرضه الصيد هو البقاء معا دائما. وكانت الإثارة التي تصاحب المطاردة مصدرا للخطر أيضا. فمع التركيز على المطاردة، قد يفقد الصيّاد أحيانا أثر رجاله أو موقعه. وقد يجد نفسه منعزلاً في الغابة. والعديد من الحكايات الرومانسية والخيالية تبدأ بهذه الطريقة، حيث يكون الصيّاد منشغلاً بمطاردة أيل أو أرنب أو خنزير برّي، وأثناء ذلك يجد نفسه ضائعا في أعماق الغابة.
وإحدى القصص الشاعرية من هذا النوع هي قصّة لويس التقيّ، الابن الأكبر للإمبراطور شارلمان. فقد رأى لويس وبعض رفاقه في رحلة صيد غزالاً ضخماً بدأ يقودهم إلى أعماق الغابة. ولأن حصان لويس كان الأقوى، سرعان ما ترك الرجالَ الآخرين والكلاب خلفه. وقفز الغزال إلى نهر وبدأ يسبح عبره. وتبعه لويس على حصانه، لكن التيّار العنيف جرفه وفقد وعيه الى أن ألقت به الأمواج على الشاطئ.
وعندما أفاق، كان الليل قد حلّ. واكتشف أنه لم يكن هناك أيّ أثر لحصان أو غزال، ناهيك عن مجموعة الصيد التي كانت ترافقه. ونادى مرارا على جماعته، ولكن الإجابة الوحيدة كانت صوته الذي كان يتردّد بين الأشجار. ولم يكن بوسعه أن يميّز أشكال الأشجار الضخمة في الظلام. كانت أصوات البوم والحيوانات الليلية الأخرى من حوله غير مألوفة لمن لم يسبق له دخول الغابة إلا في النهار.
وأسطورة لويس المتديّن توضح لنا مقدار الخوف والتوجّس المرتبطين بالغابة العميقة في العصور الوسطى. وفي أسطورة أخرى يبدأ البحث عن الكأس المقدّسة عندما يتبع فرسان الملك آرثر غزالا أبيض إلى الغابة.
النظرة إلى الغابة في شمال أوروبّا كانت أكثر إيجابية ممّا كانت عليه في فلورنسا دانتي. وكان دخول الغابة بمثابة تسليم للعناية الإلهية. وفي رومانسيات العصور الوسطى، كان الفرسان الباحثون عن المغامرة غالبا ما يذهبون إلى الغابة دون خطّة ودون اتجاه.
في القصص الخيالية، نتصوّر الغابات وكأنها غير قابلة للعبور. ولكن في الغابات التي لم تمسّها يد الإنسان، قد تحجب الأشجار المظلّلة أشعّة الشمس عن أرض الغابة، فتترك الأرض عارية نسبياً من النباتات. ولكن الغابات قد تصبح غير قابلة للعبور تقريباً عندما تُقطع عمداً بحيث تنمو مرّة أخرى على هيئة فروع متشابكة لا حصر لها، مثل الأشواك.
وفي بعض الأحيان كان السلت الأوائل والألمان أو الأوروبيون يقطعون الغابات بهذه الطريقة، لإنشاء نوع من جدار الدفاع الطبيعي. وقد يخفي هذا الجدار أو يحمي مستوطنة عند الضرورة. وربّما يكون المحارب هيرمان قد استخدم مثل هذه الحواجز في مذبحته للفيالق الرومانية في غابة تويتوبورغ. وقد يكون هذا أيضاً جزءاً من أصل قصّة الجميلة النائمة.
قصّة الجميلة النائمة تمثّل حلما دائما للناس في مختلف ثقافات العالم، من السوّاح إلى الرسّامين الرومانسيين. ويتلّخص الحلم في العثور على الحبّ أو الثروة أو مجرّد الشعور بالانتماء إلى منطقة نائية حافظت على براءتها بأعجوبة عبر العصور. ويميل كلّ من الفولكلور والثقافة الشعبية إلى وضع هذه المملكة الضائعة في ظلام الغابة.
كثيرا ما نتصوّر الغابات عموماً كحالة بدائية. وربّما يعود هذا إلى أن الغابات في أغلب المناطق تعود إلى الحياة كلّما أُهملت الأرض. ولكن الغابات ليست أكثر بدائية من الصحراء أو التندرا أو المراعي.
والواقع أن قصّة الغابات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقصّة البشر. فمع نهاية العصر الجليدي الأخير، منذ حوالي 12 ألف عام، بدأت الغابات والبشر في توسيع نطاقهما إلى حدّ كبير. وانتشرت الأشجار عبر مناطق شاسعة كانت في السابق تندرا أو مغطّاة بالجليد. ونتيجة لهذا أصبح الصيد أكثر صعوبة، لأن الطرائد لم تكن تُرى بسهولة. وبدأ البشر تدريجياً في تطوير الزراعة وتدجين الحيوانات.
كانت الأشجار منذ البداية شريكة ومنافسة للبشر. ومع اتساع مساحاتها، بدأ الناس في قطعها، فأسّسوا مستوطنات مؤقّتة ثم دائمة في الغابات. واستخدموا الخشب على نطاق متزايد كوقود ولصنع مجموعة متنوّعة من الأدوات. ومن المرجّح أنهم كانوا ينامون في تجاويف الأشجار وفي أفواه الكهوف.
من المعروف أن النار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأشجار. والخشب طبعا هو الوقود الرئيسي للنار. ومن الطرق الأساسية لإشعال النار التي استخدمها البشر الأوائل فرك قطع الخشب ببعضها. والنار هي أيضاً وسيلة إزالة الغابات من أجل الاستيطان والزراعة. وحتى غابات القارّة الأميركية تشكّلت وزُرعت على أيدي الهنود الأميركيين من خلال إشعال النيران عمداً لفتح مناطق للصيد.
إن الغابات ليست فقط أعجوبة من عجائب الطبيعة، ولكنها في الوقت نفسه تشكّل نصباً تذكارياً للخيال البشري. إنها اتحاد بين البشرية والعالم الطبيعي، متناغم إلى الحدّ الذي يجعلنا لا نعرف أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر.

Credits
vocal.media

الخميس، مارس 13، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • تخيّل أنك تمشي في غابة، وفجأة يصيبك سهم. هذا السهم الأوّل يُمثّل الألم والصعوبات الحتمية التي نواجهها جميعا في الحياة: ألم جسدي وألم عاطفي وفقد وكفاح الخ. وهو أمر لا مفرّ منه وغالبا ما يكون خارج سيطرتنا.
    لكن هل ستطلق سهما ثانيا على نفسك؟ هذا ما نفعله عادةً دون وعي عندما نتفاعل مع ألم السهم الأوّل بشكل مدمّر. هذا السهم الثاني يُمثّل ردّ فعلنا على الألم الأوّلي: الغضب والخوف والشفقة على النفس وتصوير الذات كضحية، أي العقلية السلبية التي نضيفها إلى الجرح الأصلي. وغالبا ما يُؤلمنا السهم الثاني أكثر بكثير من ألم السهم الأوّل.
    الحكمة هنا هي أنه رغم أننا لا نستطيع دائما التحكّم في الظروف المؤلمة التي تواجهنا، إلا أننا نستطيع التحكّم في كيفية استجابتنا لها. هل نزيد الوضع سوءا بالتركيز عليه وتضخيمه والشعور بالأسف على أنفسنا، أم نواجهه بشجاعة ونتقبّله ونصمد؟
    كلّنا نتعرّض لتلك السهام الأولى باستمرار: ضغوط العمل والخلافات مع الأقارب والمشاكل الصحّية ونحو ذلك. لكن، لدينا الخيار في أن نطلق على أنفسنا سهما ثانيا من السلبية واليأس، أو أن نختار مواجهة تحدّيات الحياة بعقلية إيجابية وبعزيمة وتعاطف مع الذات.
  • ❉ ❉ ❉

  • إنها مجرّد لوحة لطائر محبوس في قفص. ومع ذلك، أصبحت لوحة "طائر الحسّون" لفنّان القرن السابع عشر الهولندي كارل فابريتيوس رمزاً شعبيّاً. وقد تعاظمت شهرة هذه اللوحة بفضل رواية الكاتبة دونا تارت "الحسّون الذهبي". ومع ذلك فإن القصّة الحقيقية للوحة والرجل الذي رسمها أغرب من الخيال.
    الناقد جوناثان جونز يشير الى أن الطيور احتلّت منذ زمن طويل مكانة مهمّة في مختلف الثقافات. فمن الدين إلى الفنّ إلى السينما إلى السياسة، كانت الطيور رمزا للأمل والموت والرغبة والشجاعة والبعث والقوّة والحكمة والتحوّل والسعادة والسلام. فهي تجلب لنا البهجة والفرح والراحة والأمان".
    لكن من المحتمل أن معاصري فابريتيوس ربطوا طائر الحسّون بالرمزية المسيحية، فهو يظهر كثيرا في اللوحات الدينية. و"بسبب اللون الأحمر، لون الدم، على رأسه وعادته في أكل الشوك، كان من المفترض أن يذكّر الناس بالصلب وتاج الأشواك".
    ويذكر جونز أن القسوة العفوية التي اتسم بها موت هذا الرسّام، أي فابريتيوس، تسلّط الضوء بشكل غريب على فنّه. فالطائر الذهبي "يجلس في قفص في منزل هولندي، مقيّداً من قدميه، ككائن أليف لا مكان له ليذهب إليه. ويكشف التاريخ الموجود على اللوحة، 1654، أنه رسمها في العام الذي قُتل فيه. ولكن "حتى دون أن نعرف ذلك، فإننا نشعر بحزنها الغامض".

  • ثم يلاحظ أن البشر في لوحات فابريتيوس يشعرون بالملل والكسل. ويضرب مثلا لذلك لوحة " منظر لدلفت" التي رسمها الفنّان عام 1652، وفيها يجلس بائع آلات موسيقية متأمّلاً في كشكه بالقرب من جسر على قناة يمتدّ في فراغ رمادي باتجاه وسط المدينة. ويضيف: لا يوجد أحد حول الرجل ولا يوجد زبائن. والبائع الوحيد لديه متّسع من الوقت للتفكير والتأمّل. ومثله كمثل طائر الحسّون، فهو مقيّد هنا في حالته بسبب وظيفته ولا شيء يفعله".
    ثم يتساءل: هل كان فابريتيوس أوّل فنّان يرسم الملل؟ لقد أصبح الملل فيما بعد موضوعا للفنّ الفرنسي في عصر مانيه وديغا. والملل حالة روحية حديثة بامتياز. ومع ذلك، كان هذا الفنّان الهولندي الشابّ يرسم الملل في خمسينات القرن السابع عشر. وهذا المزاج هو الذي يجعل لوحته "طائر الحسّون" تحفة فنّية غريبة ومخيفة.
    ويذكر جونز أن هذا الفنان الموهوب، الذي ولد في عام 1622، لقي حتفه في عام 1654 عندما انفجر مخزن يحتوي على ما لا يقلّ عن 90 ألف رطل من البارود في قلب مدينة دلفت. وقد أودى هذا الحادث العشوائي السخيف بحياته وهو في الثانية والثلاثين من عمره. كانت الجمهورية الهولندية مسلّحة "لحماية استقلالها كما توضح لوحة "الحرس الليلي" لرامبرانت (1642)، لكن انفجار دلفت لم يحدث في معركة أو غزو، بل كان كارثة لا معنى لها، إذ كان هناك شخص مهمل يحمل عود ثقاب."
    ولوحة إيغبيرت فان دير بويل "منظر لدلفت بعد انفجار عام 1654" تصوّر مدينة مدمّرة جزئيّا تحت سماء مليئة بالغيوم والدخان. لقد انقلب عالم المدينة الهولندية المريح رأساً على عقب، فالمنازل تقف مدمّرة بينما تفتح عوارضها المتفحّمة على السماء الباردة، وأشخاص مذهولون يساعدون الجرحى ويبحثون بين الأنقاض، ويظهر صفّ من الأشجار التي جُرّدت من أوراقها بفعل الانفجار الناتج عن الكارثة".

    ❉ ❉ ❉

  • في عشرينيات القرن الماضي، عاش في داغستان رجل ذو إرادة حديدية يُدعى نجم الدين غوتزو. وقد رفض تسليم شعبه للبلاشفة بقيادة لينين وظلّ ثابتا وحازما في معارضته لهم. وبعد أن تراجع إلى جبال القوقاز، تعهّد بعدم تسليم أرضه للشيوعيين أبدا.
    وفشل الشيوعيون في استئصال الزعيم الداغستاني، ولكنهم نجحوا في ذلك عام 1925 عندما بدأوا في عرض المكافآت المالية على المزارعين المحليين الفقراء كي يدلّوهم على مكانه. وقد أخذ بعضهم البلاشفة إلى مخبأ نجم الدين العجوز. وحاصر الجيش الروسي مكانه وأمره بالخروج.
    فغسل وجهه بهدوء وتلا صلواته ثم تفاوض على العفو عن الرجال الذين كانوا معه. وبعد ذلك غادر المنزل، وفي الطريق رأى المزارعين الذين خانوه، فحدّق في عيونهم وتحدّث إليهم قائلا: سأشكوكم الى الله يوم القيامة". ثم استجوب الروس نجم الدين وعذّبوه بوحشية. ومع ذلك، رفض الإدلاء بأيّ معلومات عن رفاقه.
    وعندما سُئل عمّا إذا كانت لديه أيّ كلمات أخيرة قبل أن تُطلق عليه النار، نظر إلى جلّاديه بجسد منهك وقال لهم بصوت حازم: نعم، لديّ بعض الكلمات، قريبا ستصبحون ضحايا لأيديولوجيتكم المتطرّفة!".

  • Credits
    mauritshuis.nl
    theguardian.com

    الثلاثاء، مارس 11، 2025

    الأنقاض الدائرية


    تخيّل نفسك واقفا على حافّة بحيرة هادئة سطحها أملس يشبه مرآة مثالية تعكس العالم بوضوح. لكن عندما تمدّ يدك لتلمس الماء البارد، فإن التموّجات تشوّه الصورة وتكشف عن العمق والألغاز المخفية أسفل.
    هذه البحيرة تشبه الحياة نفسها، فما تراه على السطح غالبا ما يكون مجرّد انعكاس؛ نسخة مشوّهة من حقيقة أعمق. هل تتذكّر آخر مرّة شعرت فيها بالحرّية الحقيقية دون أن تثقل كاهلك همومك اليومية وتوقّعاتك؟ ربّما كانت لحظات قضيتها في الطبيعة، أو شاركت فيها ضحكة عفوية مع صديق حيث شعرت بتواصل حقيقي وحيوي. ذلك التعبير النقي عن الوجود هو ذاتك الحقيقية بحالتها التلقائية وغير المتصنّعة.
    لكن في كثير من الأحيان فإن هذا الواقع تحجبه شبكة واسعة غير مرئية من الأوهام المنسوجة في خيوط الحياة اليومية. وهي مصمّمة لتشتيت انتباهك وخداعك وإقناعك بتقدير قيمة كلّ ما هو سطحي لكي تخاف من المجهول وتمتثل للقواعد الجاهزة. كما أنها هي التي تشكّل أفكارك ورغباتك ومخاوفك وتبني عالما يبدو حقيقيا ظاهريا، ولكنه غالبا ما يكون متحكّما فيه ومصطنعا.
    هذا هو ملخّص فكرة فيلم "ميتريكس"، أو المصفوفة. وبينما يفترض الفيلم أننا جميعا موجودون في محاكاة كمبيوترية عملاقة، فإن قصّة "الأنقاض الدائرية" لبورخيس تثير احتمال أن نكون مجرّد أشباح في خيال الآخرين، وأن ذكريات وجودنا السابق قد تمّ محوها من أذهاننا.
    وقصّة "الأنقاض الدائرية" يعتبرها النقّاد من أغنى القصص القصيرة الرمزية التي ألّفها الكاتب الأرجنتيني وواحدة من أقوى استكشافاته وأكثرها إيحاءً لطبيعة الواقع والأحلام. كما يمكن تفسيرها باعتبارها قصّة عن الإبداع الفنّي أو عن العالم ومكاننا فيه. أيضا تتميّز "الأنقاض الدائرية" باستخدام بورخيس المذهل للغة واختياره للكلمات وبنثره الذي يترك أثرا سحريّاً على القارئ.
    وكما يشير العنوان، تدور القصّة حول مدرّج دائري لمعبد أثريّ قديم. وتبدأ بعبارة "وإذا توقّف عن الحلم بك"، وتتحدّث عن رجل عجوز، يُشار إليه أيضا باسم الغريب أو الساحر، يغادر منزله في الجنوب ويصل إلى ضفّة نهر، ومن ثم إلى معبد دُمّر بفعل حرائق قديمة، ويظلّ الرجل هناك "من أجل خلق إنسان بقواه السحرية".
    في وسط المعبد الدائري يوجد تمثال حجري يخلّد ذكرى إله غامض. هناك يبني الغريب له مسكنا. ثم ينام ليجد نفسه في الصباح وقد شُفي من جروحه التي أصيب بها أثناء خروجه من مياه النهر الموحلة. ومن أجل تنفيذ رغبته، ينام الساحر بجوار الأطلال، عازما على أن يحلم برجل يظهر إلى الوجود. ونظرا لأنه غير قادر على الإجابة على أيّ أسئلة حول خلفيته وهدفه، فإن هذا المعبد هو أفضل موقع يمكنه العثور فيه على غرضه.
    ثم يحلم الرجل بنفسه ويتخيّل عددا من الطلاب، بعضهم قريبون وبعضهم بعيدون، بملامح واضحة للعيان. ويلقي عليهم محاضرات عن التشريح وعلم الكون والسحر ويستمعون باهتمام من أجل الدخول إلى العالم الحقيقي من خلال حلمه.
    ويستغرق الأمر عامين حتى يتحوّل الانسان الذي حلم به إلى حقيقة. ينظر إليه الساحر وكأنه ابن له. ومع ذلك، يأمره إله النار بإرسال الانسان الذي حلم به إلى معبد آخر، فيسمح له بالرحيل على مضض بعد أن محا ذاكرته أوّلاً. وبهذه الطريقة، لن يعرف الرجل أبدا أنه مجرّد نتاج لأحلام الساحر أو الغريب، بل سيصدّق أنه شخص حقيقي.
    وفي وقت لاحق، يسمع الساحر أن الرجل الذي حلم بوجوده له القدرة على المشي على النار دون أن يحترق. وعندما يشبّ حريق في الغابة ويجتاح المعبد، يتقبّل الساحر الموت بصبر ويمشي وسط النيران، ويدرك أنه لم يصب بأذى وأنه، مثل "ابنه"، كان من نسج خيال شخص آخر وأنه ليس شخصا حقيقيّا.
    وفجأة تصل تأمّلات الغريب إلى نهايتها. في البداية، "ظهرت غيمة بعيدة بعد جفاف طويل، بيضاء كطائر، على تلّ. ثم بالقرب من الجنوب، اتّخذت السماء لوناً وردياً كلون لثّة فهد، ثم جاءت غيوم الدخان التي ألقت بالصدأ على معادن الليل. ثم حصل فرار مرعب للحيوانات المتوحشة. ما حصل قبل مئات السنين، ها هو يتكرّر الآن".
    كانت النار تدمّر خرائب حرم إله النار. وفي فجر بلا طيور، رأى الساحر المحرقة المستعرة تصل إلى الجدران. فكّر للحظة بالالتجاء إلى الماء، لكنه أدرك حينها أن الموت سيتوّج شيخوخته. مشى نحو خرَق اللهب المشتعل، لكنها لم تنهش لحمه، بل ربّتت عليه وغمرته دون حرارة أو إحراق. وبارتياح وخزي ورعب، أدرك أنه هو أيضاً، كان وهماً يحلم به إنسان آخر".
    قصّة "الأنقاض الدائرية" تتناول المواضيع التي تتكرّر في أعمال بورخيس عادةً، وتستند الى مجموعة واسعة من التأثيرات الدينية. وقد لاحظ العديد من النقّاد أن القصّة تبدو وكأنها تكرار لفكرة التقليد الغنوصي المسيحي التي تقول بأن "وراء كلّ خالق يختبئ خالق آخر".
    والشخصية الرئيسية للحالم أو الغريب تستخدم صراحةً لغة الزرادشتية، حيث تعتبر النار أنقى عنصر. كما لوحظ أيضا تشابه القصّة مع الأسطورة اليهودية الكابالية، حيث يتمكّن البشر الفانون من استعادة لحظة الخلق الإلهي للحياة. ويمكن القول كذلك ان القصّة تستند أيضا إلى الفكرة البوذية القائلة بأن العالم وهم.


    أيضا تتردّد في القصّة فكرة التكرار الدائري للتاريخ التي تناولها بورخيس مرارا. وقد سبق ان تحدّث في احدى قصص مجموعته "ألِف" عن طائفة قديمة كانت تعيش على ضفاف نهر الدانوب وادّعت أن التاريخ عبارة عن دائرة وأنه لا يوجد شيء لم يكن موجودا من قبل وأنه لن يكون هناك أيّ شيء جديد أبدا. وبالنسبة لتلك الطائفة فقد حلّت العجلة والثعبان مكان الصليب.
    وفي الواقع، تمتلئ فصول العهد القديم بمثل هذه الفكرة. مثلا يبدأ "سفر الجامعة" بهذه الكلمات المحيّرة: لا معنى له، لا معنى له!، يقول المعلّم. لا معنى له على الإطلاق! كلّ شيء لا معنى له." ويورد العهد القديم كلاما مشابها لسليمان الحكيم: ما كان سوف يكون مرّة أخرى، ما فُعل سوف يُفعل مرّة أخرى، لا شيء جديد تحت الشمس".
    وبورخيس ليس الكاتب الوحيد الذي قال بالتكرار الدائري للزمن. الفيلسوف ابن عربي أيضا يصف الزمن بأنه دائرة ليس لها بداية ولا نهاية وأن العالم يعاد خلقه باستمرار وأن الزمن يتقلّص إلى اللحظة الحالية، لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال. وبالتالي فإن الزمن، أو اللحظة الحالية، تسير في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالم. وبعبارة أخرى، وحسب ابن عربي، فإن الزمن يدور حول العالم باستمرار وبشكل متكرّر لخلقه وإعادة خلقه مرّة أخرى، وبالتالي فهو دائريّ "ودوريّ" من هذا المنظور الميتافيزيقي.
    في عام 1977، ألقى بورخيس محاضرة ضمّنها بعض أفكاره عن البوذية. فقال إنها لا تعترف بحقيقة الجسد أو الروح، وروى قصّة بوذا، الذي كان اسمه في الأصل سيدهارتا أو غوتاما، الذي أصبح "المستيقظ"، وحصل على "النيرڤانا" بعد جلوسه تحت شجرة في بنارس. وأضاف بورخيس: أصبح غوتاما بوذا، المستنير أو المستيقظ، على عكس بقيّتنا الذين ظللنا نائمين نحلم بهذا الحلم العظيم الذي هو الحياة".
    وبحسب بورخيس، فإن حياتنا حلم لأننا جميعا نحلم به، أو من الممكن أن يكون هناك شخص آخر يحلم بحياتنا. وفي نهاية قصّة " الأنقاض الدائرية "، يشعر الساحر أو الغريب أن شخصا آخر كان يحلم بحياته. وأثناء قراءة القصّة، يسيطر شعور بالحيرة على عقل القارئ. فمن الصعب التمييز فيها أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ الحلم. والقصّة تقدّم مزيجا ضبابيّا من الواقع والأحلام والخيال. ومن خلال هذا يجبر بورخيس قرّاءه على تبنّي سلوك متشكّك تجاه كتاباته، والذي يعتبره صفة أساسية لفعل القراءة الجيّدة.
    في كتابات بورخيس، لا وجود للزمن. ولا يُفترض أن يكون أيّ شيء ثابتا. كما أنه يأخذ قارئه إلى حالة من اللازمنية، ولا يميّز بين الحقيقة والخيال، وهناك إزاحة مستمرّة للمعنى. وهذه السمة واضحة في "الأنقاض الدائرية" أيضا.
    بورخيس يكتب متمتّعا بامتياز التحرّر من حدود الزمن. وهو لا يكتب وفقا للتسلسل الزمني، بل دون الانتباه إلى التمييز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. كما انه ينقل القارئ إلى عالم خيالي يدركه هو. ويبدو أن هذه الأفكار مرتبطة بنظرية آينشتاين. فوفقاً لآينشتاين فإن الزمن ليس موحّداً ومطلقاً. ويمكن للمرء أن يسافر إلى الماضي والمستقبل بسبب أنواع معيّنة من الحركة في الفضاء. وقد أعلن بعض الباحثين، بالإشارة إلى نظرية النسبية لأينشتاين، أن "لا شيء في قوانين الفيزياء يمنع السفر عبر الزمن. قد يكون من الصعب تطبيق هذه الفكرة، لكنها ليست مستحيلةً".
    ويتجلّى تأثير فكرة السفر عبر الزمن في الكثير من كتابات بورخيس. وقصّة "الأنقاض الدائرية" تدور حول مدرج "دائري". وتقع جميع الأحداث المهمة في القصّة في الآثار "الدائرية" لمعبد. والسمة الرئيسية للدائرة هي أنها لا بداية لها ولا نهاية، وأنها لا نهائية. وكلمة "لانهائي" تسحر بورخيس، وهي مرادفة لكلمة "دائرة" أو "دائري".
    ومن بين التفسيرات العديدة لـ "الأنقاض الدائرية" أنها تتحدّث عن الأبوّة الحرفية، إذ يأتي انسان بإنسان آخر يجب أن يعلّمه قبل إرساله ليشقّ طريقه في هذا العالم، مع إدراكه أيضا أنه هو نفسه كان والدا لإنسان آخر، وهو شيء يجب أن يتذكّره، لأننا غالبا ما نفقد التركيز على حقيقة أنه من أجل أن نكون هنا كان علينا أن يُحمل بنا وأن نُصنع من شخصين آخرين. وعلى الرغم من إدراكنا لهذه الحقيقة على مستوى ما، فإننا ندفع بها جانبا على مستوى آخر في حياتنا اليومية.
    هل الآثار الدائرية التي ينام فيها الساحر مجرّد حلم أيضاً؟ لاحظ غلبة الصور الرمادية في القصّة، فالساحر نفسه يوصف بأنه رجل رمادي، في حين أن التمثال الحجري بتحوّله من النار يشبه الآن الرماد. وعلى مستوى ما، فإن الساحر في " الأنقاض الدائرية" هو فنّان "مثل الكاتب"، تساعده أحلامه في خلق وتوجيه فنّان آخر. لقد لاحظ بورخيس ذات يوم أن "كلّ كاتب يخلق أسلافه"، ولكن كلّ كاتب يساعد في خلق خلفائه أيضا.

    Credits
    borges.pitt.edu
    dokumen.pub

    الأحد، مارس 09، 2025

    ثورو والسكّان الأصليون


    كان هنري ديفيد ثورو مهتمّاً طيلة حياته بالثقافات الأمريكية الأصلية. وشغفه الطويل بالهنود الحمر ما يزال موضوعا متكرّرا ومصدرا دائما للنقاش. كان لديه اهتمام عميق بتاريخ وثقافة السكّان الأصليين، وكان يُنظر إليه من قبل العديد من معاصريه، مثل رالف إيمرسون وناثانيال هوثورن، على أنه "أشبه بالهنود من جيرانه البيض".
    في شبابه، كان ثورو يمسح الأرض بعينيه بحثاً عن شظايا حجرية صغيرة خلّفتها الثقافات القديمة. وعندما زار جزيرة إنديانا، موطن أمّة البينوبسكوت الهندية، كتب الوصف التالي: أخذتنا العبّارة إلى الجزيرة. وعندما غادرنا الشاطئ، لاحظت هنديّاً قصير القامة رثّ المظهر يشبه عاملة غسل الملابس. وهذه الصورة كافية لوضع تاريخ الهنود أمام أعيننا".
    وبدا أن ثورو كان مؤهّلاً لأن يفهم بشكل حدسي الصلة العالمية بين البشر. كان الهندي برأيه يمثل الحالة الطبيعية للإنسان. ولذا اختار أشخاصا من الهنود لمرافقته وإرشاده في رحلاته عبر الغابات، لأنه كان يريد أن يتعرّف على أفكارهم عن كثب. وفي كتابه "غابات مين"، أخبر ثورو قرّاءه أن كلمة "متوحّش" مشتقّة من كلمة لاتينية تعني "الغابات". ومن هنا نعرف سرّ انجذاب ثورو الدائم والطبيعي للغابات والحياة البرّية.
    ومثل غيره من أبناء عصره، كان ثورو يعتقد أن ثقافة الأمريكيين الأصليين في انحدار. وقد خاب أمله فيما تبقّى من مجتمع البينوبسكوت الذي رآه في عام 1846 وكتب يقول: السياسة أصبحت الآن رائجة بين السكّان الأصليين، حتى أنني تصوّرت أن صفّاً من الأكواخ الخشبية، مع رقصة باو واو، وسجين يُعذّب على المحك، سيكون أكثر احتراماً من هذا". كان يرى أن شعب بينوبسكوت يفقدون تلك الصورة الرومانسية للرجل النبيل المتوحّش ويستبدلونها بالسياسة.
    ثورو كان أيضاً مكتشفاً. وقد وجد "فكرة" الهنود مثيرة للاهتمام. يقول روبرت ساير في كتابه "ثورو والهنود الأميركيون": أدرك هنري ثورو أن الهنود هم أناس قضوا حياتهم في الطبيعة، وفيها طوّروا معرفتهم التي كانت متفوّقة على معرفة الرجل الأبيض". ونشأت "فكرته" الأوّليّة عنهم من مجموعة من الأسماء والنظريات المغلوطة التي جمعها مكتشفون آخرون قبله.
    وقد أدرك في وقت لاحق من حياته، وبعد تجاربه في الغابات مع الهنود، أن الهنود أنفسهم كانوا متجذّرين في التقاليد ويرفضون التغيير. وربّما كان هذا أحد أسباب تناقصهم. ولا بدّ أن هذا قد أثار مشاعر مختلطة في نفسه. فمن أجل أن توجد البرّية الحقيقية في البشر، لا بدّ أن يكون البشر غير مروّضين، وأن يكونوا إلى جانب الطبيعة إن لم يكونوا جزءاً منها.
    ويحلّل ساير الصور النمطية الرئيسية عن الهنود كما يلي: كانوا صيّادين منعزلين وليسوا مزارعين، ملتزمين بالتقاليد وغير قابلين للتحسين، أبرياء يشبهون الأطفال وقد أفسدتهم الحضارة، وثنيين خرافيين ومحكوما عليهم بالانقراض".


    ويعلّق على ذلك بقوله: لكن الوحشية لم تكن وصفا دقيقا للواقع. فلم تكن تستند الى وصف سكّان أميركا الأصليين لأنفسهم، بل إلى الوصف الذي أعطاه لهم الغزاة والمبشّرون والرحّالة الأوربيّون".
    ولم يكن ثورو، باعتباره مكتشفا في القرن التاسع عشر، مبرّأً من الموقف الوحشي. كان هذا الموقف هو الخلفية التي شكّلت موضوع الهنود في ذهنه وشكّلت التاريخ الذي بدأ منه بحثه عن "الهندي".
    وبرأي ساير أن ثورو لم يتحرّك خارج حدود الرؤية المحدودة للوحشية الا بعد تأليفه كتابه "غابات مين" الذي يصفه ساير بانه أهم كتاب له، لأنه "مكتوب عن الهنود" بالفعل. ثم يروي ساير جانبا من مغامرة ثورو في ولاية مين عام 1853. في هذه الرحلة الاستكشافية، كان مرشد ثورو هو جو ايتون، وهو هندي اختير بعناية. وقد أصبح ايتون موضوعا لمراقبة ثورو ودراسته المكثّفة. ويشعر ساير أنه خلال تلك الرحلة، حقّق ثورو خطوات كبيرة تتجاوز الوحشية.
    كانت رحلة لا تقدّر بثمن بالنسبة لتطوّر ثورو، لأنه في ذروة تلك الرحلة تمكّن أخيراً من التمييز بين خشونة الهنود والبيض". واختار أن يقضي الليل في معسكر ثلاثة من الهنود بدلاً من معسكر بعض الحطّابين البيض، وأمضى تلك الليالي في التحدّث مع الهنود تحت السماء وعلى العشب البارد. وبعد الرحلة "شعر ثورو بالراحة في صحبة الهنود وأدرك أهمية الحفاظ على البرّية التي يعتمد عليها الشعراء والهنود".
    وبدا أنه كلّما زاد اتصال ثورو بمرشدي امّة بينوبسكوت، رأى فيهم بشرا وليس مجرّد "هنود". ولم يتزعزع شغفه بالأمريكيين الأصليين أبدا. وقد غيّرت رحلاته إلى غابات مين من تصوّراته لما يعنيه أن تكون أمريكيّا أصليّا في عالم سريع التغيّر.
    ومن خلال اتصاله بأشخاص من شعب البينوبسكوت، اكتشف ثورو وجهة نظر جديدة وأكثر استنارة عن الأمريكيين الأصليين، وانتقل من افتراضاته الساذجة سابقا إلى فهم ينطوي على الاحترام والتبجيل.
    وقد قارن البعض ثورو بالهنود وقالوا إن قدرته على المشي في الطبيعة بين الطيور والأشجار والتحدّث بلغة الحيوانات كانت خارقة. كان الهندي استعارة حيّة لثورو. ولعلّه كان يأمل أن يدفعه تماهيه الشخصي مع أسلوب الحياة "الهندي" إلى مواصلة بحثه عن المقدّس في الحياة. ويُقال إن الكلمات الأخيرة له وهو على فراش الموت كانت: "هندي"، و"موس" وهو نوع من الأيائل المرتبطة بحياة الهنود.
    لكن البعض يلوم ثورو لأنه لم يفعل الكثير للاحتجاج على التهجير المنهجي للسكّان الأصليين. وقد هاجم البعض هذا التناقض متسائلين: كيف يمكن لثورو أن يُظهر احتراما عميقا لمعتقدات الهنود الحمر، وفي نفس الوقت يظلّ صامتا إلى حدّ كبير إزاء الإبادة الجماعية التي حدثت لهم طوال حياته.

    Credits
    thoreau-online.org
    archive.vcu.edu