:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات خواطر. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، سبتمبر 17، 2025

الطريق إلى أوكسيانا/1


في عام ١٩٣٧، نشر الرحّالة والمستكشف الانغليزي روبرت بايرون كتابه "الطريق إلى أوكسيانا"، الذي وثّق فيه رحلاته في الشرق الأوسط وأفغانستان وبلاد فارس. واعتُبر الكتاب من أكثر كتب الرحلات تأثيرا.
كان الهدف من رحلة بايرون زيارة الكنوز المعمارية في المنطقة، والتي كان على دراية واسعة بها، كما يتّضح من ملاحظاته على طول الطريق. وقد اختلط بايرون مع السكّان المحليين وتفاوض على وسائل النقل، بما في ذلك السيّارات والخيول والحمير، لنقله أثناء رحلته. كما واجه الحرّ والبرد والجوع والعطش.
كلمة "أوكسيانا" في عنوان الكتاب تشير إلى الاسم القديم للمنطقة الواقعة على طول الحدود الشمالية لأفغانستان. وقد شبّه أحد الكتّاب أهميّة الكتاب في أدب الرحلات بأهمية كتاب "يوليسيس" في الرواية وديوان "الأرض اليباب" في الشعر. بينما وصفه آخر بأنه "تحقيق في أصول الفنّ الإسلامي مقدّم في أحد أكثر كتب الرحلات تسليةً في العصر الحديث".
في الكتاب يأخذ بايرون القرّاء في رحلة شيّقة عبر بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى خلال أوائل القرن العشرين، يمزج فيها بين عين المؤرّخ وروح الرحّالة. وما يرويه ليس مجرّد مذكّرات رحلة، بل نسيج غنيّ من التجارب الإنسانية، حيث يجوب قلمه الآثار القديمة والأسواق الصاخبة، مجسّدا السحر الخالد للأراضي البعيدة والسعي الدائم وراء المعرفة والجمال.
وقد قدّمت رحلاته الواسعة منظورا فريدا لمناطق كانت، حتى ذلك الوقت، غير مألوفة إلى حدّ كبير للجمهور الغربي. ومن المؤسف أن مسيرة بايرون الواعدة انتهت مبكّرا بوفاته عن عمر يناهز 35 عاما خلال الحرب العالمية الثانية. لكن إرثه ما يزال ماثلا للعيان من خلال كتاباته المُلهِمة.
لم تكن العمارة، بالنسبة لبايرون، مجرّد مبانٍ، بل كانت تاريخا حيّا وسردا محفورا في الحجر والطوب. ومن خلال تفاعله مع المؤرّخين والحرفيين والسكّان المحليين، سعى إلى كشف خبايا الزمن والاقتراب من جوهر الحضارات التي ازدهرت في تلك المناطق.
وأفغانستان، خاصّة، تشكّل فصلا آسرا في رحلة المؤلّف الطويلة. فبينما كان يجوب المناظر الطبيعية الوعرة في ذلك البلد، وجد نفسه في أرض كانت أصداء التاريخ فيها تتردّد في الهواء وبدت وكأنه لم يمسسها العالم الحديث تقريبا. وتبرز هيرات، إحدى أهمّ مدن أفغانستان التاريخية، كنقطة محورية في رواية بايرون.
فيما يلي بعض فقرات مترجمة من الكتاب مع بعض التصرّف..

  • دمشق، 12 سبتمبر
    هنا الشرق في فوضى عارمة. تطلّ نافذتي على شارع ضيّق مرصوف بالحصى، اختفت منه رائحة التوابل والبهارات مؤقّتا في نسمة هواء باردة. إنه الفجر. الناس يتحرّكون، أيقظهم صوت المؤذّن العالي من مئذنة صغيرة في الجهة المقابلة، وأجابه آخرون من بعيد. سيبدأ بعد قليل صخب الباعة ووقع حوافر الخيل.
    الجامع الأموي، رغم ترميمه بشكل كامل بعد حريق عام ١٨٩٣، يعود تاريخه إلى القرن الثامن. رواقه الكبير متناسق وذو إيقاع مهيب على طريقته الإسلامية المجرّدة. وبينما تُلقي الشمس بجزء منها على الجدار الخارجي للمسجد، يمكن للمرء أن يتخيّل أوّل روعة من الأخضر والذهب، عندما أشرقت الساحة بأكملها بتلك المشاهد السحرية التي ابتكرها الخيال العربي لتعويض جفاف الصحراء الأبدي.

  • دمشق، 13 سبتمبر
    انضمّ إلينا شابّ يهودي. حدث هذا لأن في الفندق نادلا يشبه هتلر، وعندما علّقت على ذلك، انفجر اليهودي والمدير والنادل نفسه في نوبة ضحك. وبينما كنّا نعبر أرضا مغبرّة خرّبها القصف الفرنسي، رأينا عرّافا يخطّ علامات على صينية رمل، بينما كانت امرأة فقيرة وطفلها النحيل ينتظران خبرا عن مصير الطفل. وعلى مقربة منّا كان عرّاف آخر يجلس بلا مبالاة.
    انحنيت. وضع قليلا من الرمل في راحة يدي وطلب منّي أن أنثره على الصينية. ثم رسم ثلاثة أسطر من كتابة غامضة على الرمل، وراجعها مرّة أو مرّتين. وتوقّف وهو يفكّر، ثم نطق بهذه الكلمات: لديك صديق تحبّه ويحبّك. سيبعث إليك بعد أيّام بمبلغ من المال لتغطية نفقات رحلتك. ثم سينضمّ إليك لاحقا. أتمنّى لك رحلة موفّقة".

  • بعلبك، 18 سبتمبر
    بعلبك هي انتصار الحجر. الحجر له لون الخوخ ومعلَّم بالذهب المحمر وذو ملمس مرمري. والفجر هو الوقت المناسب لرؤيته؛ للنظر إلى الأعمدة الستّة، عندما تتألّق الألوان الذهبي والخوخي والأزرق بإشعاع متساوٍ. حتى القواعد الفارغة التي لا تحمل أيّ أعمدة لها هويّة حيّة تباركها الشمس إذ تواجه أعماق السماء البنفسجية.
    أُنظر إلى الأعلى، إلى هذه الأعمدة الضخمة، إلى التيجان المكسورة والكورنيش الكبير، كلّها تطفو في الزرقة. أُنظر فوق الجدران، إلى بساتين الحور الخضراء ذات السيقان البيضاء، ومن فوقها إلى لبنان البعيد، بريق من البنفسجي والأزرق والذهبي والوردي. أُنظر على طول الجبال إلى الفراغ؛ إلى الصحراء، ذلك البحر الصخري الخالي. اِرتشف الهواء العليل، لامس الحجر بيديك، ثم انعطف، أيها السائح، إلى الشرق.

  • بغداد، 27 سبتمبر
    بغداد هي العاصمة التي يتوقّعها المرء من هذه الأرض المفضّلة إلهيّا. إنها كامنة في ضباب طيني. نزلنا في فندق يديره آشوريون، أناس بائسون وذوو طباع حنونة، ما زالوا في حالة من الخوف على حياتهم. وكان هناك شخص واحد فقط، شابّ سريع الغضب يُدعى داود، رفع أسعار جميع السيّارات المتّجهة إلى طهران ووصف قوس المدائن بطريقة رائعة.
    ليس من المريح أن نتذكّر أن بلاد ما بين النهرين كانت ذات يوم غنيّة وخصبة بالفنّ والابتكار، ومضيافة جدّا للسومريين والسلوقيين والساسانيين. لكن في القرن الثالث عشر دمّر هولاكو نظام الريّ. ومنذئذٍ وحتى اليوم، ظلّت هذه البلاد أرضا محرومة من ميزة الطين الوحيدة، وهي تخصيب النباتات.
    المتحف هنا محروس، ليس لحماية كنوز أور، بل خشية أن يتلف الزوّار نُحاس خزائن العرض بالاتكاء عليها. ولأن المعروضات ضئيلة الحجم، كان من المستحيل رؤية كنوز أور. على الجدار الخارجي، نصب الملك فيصل لوحة تذكارية لغيرترود بيل. ظننت أن فيصل أراد أن يقرأ الناس النقش، فتقدّمت لأفعل. وعندها صاح بي أربعة رجال شرطة وجرّوني بعيدا. سألت مدير المتحف عن سبب ذلك. فأجابني بحدّة: إذا كنتَ قصير النظر، يمكنك الحصول على إذن خاص".
    كان المال في انتظاري هنا، كما أنبأني العرّاف في دمشق.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كرمنشاه، 29 سبتمبر
    على طول الطريق المؤدّي إلى خانقين، هبّت علينا عاصفة غبار حارقة، ولاح في الأفق صفّ من التلال. ثم اجتزنا منحدرا صغيرا وعدنا إلى السهل. كان هذا يحدث كلّ خمسة أميال، حتى أعلنت واحة من الخضرة القاحلة عن دخولنا للمدينة.
    توقّفنا في قصر شيرين ساعة أخرى، بينما منحتنا الشرطة تصريحا لطهران. وامتدّت أمامنا بانوراما شاسعة من سفوح التلال المستديرة حول أطلال الساسانيين، متلألئةً هنا وهناك بأضواء كهرمانية. ومن بعيد، ارتفعت سلسلة جبال شامخة أصبحت في النهاية أسوارا حقيقية.
    انطلقنا صعودا وهبوطا عبر الهواء النقيّ المنعش إلى سفوح الجبال، ثم صعدنا إلى ممرّ بين قمم صنوبرية متعرّجة امتزجت بزخارف النجوم. وعلى الجانب الآخر كانت "كاريند"، حيث تناولنا العشاء على أنغام الجداول والصراصير، مطلّين على حديقة من أشجار الحور المغسولة بالمطر.

  • طهران، 2 أكتوبر
    لم يكن السائق يرغب في المبيت في همدان، بل أراد النوم في قزوين. كان كطفل يفضّل دمية على أخرى. ولإنهاء الجدل الذي بدأ يشارك فيه موظّفو الفندق، ذهبت إلى "تك بستان" صباحا. لا بدّ أن أكثر من نحّات قد عمل في كهوف هذه البلدة. للملائكة فوق القوس وجوه قبطية وستائرهم منخفضة ورقيقة كميدالية برونزية من عصر النهضة. وفي الخلف يقف تمثال ضخم لملك راكب، تُذكّرنا قسوة ملامحه بنصب تذكاريّ للحرب الألمانية. هذا نموذج ساسانيّ بامتياز. ومن الصعب تصديق أن هؤلاء الفنّانين كانوا فُرسا على الإطلاق.

  • طهران، 4 أكتوبر
    كانت رحلة اليوم مليئة بالبهجة. صعدنا وهبطنا الجبال، وتجاوزنا السهول الشاسعة، وتصاعدت دوّامات هائلة من الغبار تتراقص كالشياطين فوق الصحراء، فأوقفت سيّارتنا الشيفروليه، ولمحنا من بعيد جرّة فيروزية اللون تتمايل على حمار. كان صاحبها يسير بجانبها مرتديا أزرق باهتا. ولما رأيته تائها في تلك البقعة الصخرية الشاسعة، فهمت لماذا يفضّل الفرس اللون الأزرق.
    دعانا الوكيل المحلّي لشركة النفط الأنغلوفارسية، لتناول العشاء. استقبلنا في غرفة بيضاء طويلة ذات سقف مطليّ ببراعة. حتى الأبواب والنوافذ كانت مغطّاة بقماش موسلين أبيض. الأثاث يتألّف من سريرين نحاسيين مزوّدين بدعّامات من الساتان وحلقة من الأرائك الصلبة المنجّدة بالأبيض. وأمام كلّ منها طاولة صغيرة عليها أطباق من البطّيخ والعنب والحلويات. كان يقوم على خدمتنا رجل ذو لحية رمادية يرتدي معطفا أصفر فاتحا، وكان مضيفنا يناديه "آغا".

  • تبريز، 11 أكتوبر
    بينما كان مرافقي يلتقط لي صورة وأنا جالس في الخلف، تقدّم شرطي وقال إن التصوير ممنوع. كان السائق آشوريّا من بلدة قريبة من بحيرة أرومية، وبجانبه كانت تجلس معلّمة آشورية عائدة من مؤتمر تبشيري في طهران. وقد أمتعتنا بشرائح من السفرجل. كانا مهتمّين جدّا بمعرفتي بمار شمعون، ونصحاني ألا أتحدّث عن ذلك في تبريز، نظرا للاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون في ذلك الوقت.

  • مراغة، 16 أكتوبر
    سافرنا هذا الصباح لأربع ساعات، وبدت بحيرة أورمية في الأفق كشريط أزرق وفضّي، تمتدّ من خلفه الجبال. أبراج الحمام المربّعة المثقوبة من الأعلى منحت هذه القرى مظهرا محصّنا. بينما أحاطت بها أشجار كروم العنب وبساتين السنجق ذات الأوراق الرمادية الضيّقة وعناقيد الفاكهة الصفراء الصغيرة.
    مراغة نفسها ليست بتلك الجاذبية. شوارعها العريضة المستقيمة شُقّت عبر الأسواق القديمة، ما أفقدها طابعها المميّز. رافقنا طفل يتكلّم الفارسية إلى المسؤولين المعنيين الذين أرونا بدورهم قبرا جميلا متعدّد الأضلاع من القرن الثاني عشر، يُعرف باسم ضريح والدة هولاكو. وهو مبنيّ من طوب أحمر أرجواني مزخرف بنقوش.

  • فيش بوبليك، 19 أكتوبر
    غيوم صغيرة تلمع في زرقة السماء. ارتفعنا فوق منحدرات هادئة ومنها إلى مشهد بانورامي لأرض رملية متدحرجة تؤوي قرى ذات أبراج. ومن بعيد رأينا تلالا مخطّطة باللونين الوردي والليموني ومحاطة بأزهار الليلك وسرب من الفراشات الصفراء. وفي الأسفل، اقترب منا فارس وقال: السلام عليكم".

  • نيشابور، 14 نوفمبر
    طلع الفجر كابتسامة اخترقت سماء الليل العاصف الممطر. أكلت قطعة جبن وجزءا من صدر دجاجة شهرود. وانبثقتْ من الصحراء المظلمة شجرتا صفصاف ومقهى شاي. اجتمعنا حول نار، بينما كان أهل المكان يحاولون بيعنا خرَزا وسغائر ونردا مصنوعا من حجر أخضر ناعم. كانوا يرتدون بلوزات روسية قرمزية وينحدرون من أصول جورجية.
    ومن مسافة رأينا غيوما تحلّق منخفضة. القرى النادرة هنا هجرها الناس. وحول قلاعها المدمّرة تتجمّع تلك الأشكال القديمة: خلايا النحل الذائبة تحت المطر. كانت تذوب هكذا منذ فجر التاريخ، وعندما يأتي الصيف تنهض من جديد. تتدفّق الجداول في فيضان قرمزي عبر الأزقة المسوّرة إلى الحقول، ومنها إلى الصحراء. ويصبح المسار نفسه مجرى مائيّا.

  • غازار جاه، 15 نوفمبر
    رأيت هنا لآخر مرّة زهور القطيفة والبتونيا تزيّن بركة في الفناء الخارجي للفندق، مع ورود بيضاء نمت بكثافة كالثلج. وبدلا من صفير رياح الخريف، ترفرف الحمائم حول أشجار الصنوبر وتقضي العائلات عطلتها في الجناح ذي العشرة أضلاع. ومن الشرفة الخارجية، يبدو السهل الواقع بين الجبال والنهر بحراً من الخضرة المتنوّعة والجداول الفضّية. بينما ترسل الشمس حرارة معتدلة من سماء زرقاء وينتشر ذلك العطر الخافت المراوغ الذي استقبلنا أوّل مرّة.
  • الاثنين، سبتمبر 15، 2025

    نصوص مترجمة


  • تُعتبر القطط البرّية من الأنواع المهدّدة بالانقراض في هذه المنطقة. أتذكّر قطّا برّيا أمسكوا به في مكان ما، ولا بدّ أنهم أخضعوه لعشرات التجارب بالحرق قبل أن يقرّروا أخيرا أنه عديم الفائدة لهم، تماما مثل علبة بيرة فارغة. هل تعلم ماذا فعلوا به؟ قرّر أحدهم انه بدلا من أن يترك الحيوان، الذي كان ما يزال يتنفّس بصعوبة، في حاله، حمله من رجليه الخلفيتين وضرب رأسه بالحائط مرارا حتى مات.
    كيف لي أن أنسى ذلك! أنا من طُلب منه تنظيف تلك الفوضى. خيّطت رأس الحيوان وأغلقت عينيه ببطء. المخالب التي كانت فخورة ذات يوم كانت تتدلّى دون حياة. وكلّ هذا العبث والكراهية ملآني بالغضب. إلا أنني لم أكن أعرف كيف أنفجر. كنت مثل جهاز كمبيوتر بدون لوحة مفاتيح، طائر بلا أجنحة. صدّقني، أردت في تلك اللحظة أن أشتبك مع ذلك الشخص، أن أفعل به بعض ما فعله بذلك الحيوان المسكين. م. توبياس
  • ❉ ❉ ❉

  • الذكاء الاصطناعي يستطيع الآن تقليد أيّ صوت بشري. وآخر من قلّد أصواتهم ممثّل إنغليزي يُدعى ستيفن فراي. وقد فعل ذلك بشكل مثالي ومقنع للغاية، بما في ذلك حتى جرس صوته ونبرته وجعلَهُ يقول أيّ شيء. وشعر فراي بالقلق من إمكانية نسخ مهاراته بسلاسة بواسطة آلة. فهو يكسب دخلا إضافيا من عمله في سرد القصص الصوتية، ومنها جميع كتب هاري بوتر. وأبدى انزعاجه من أنه قد يفقد قريبا مصدر رزقه الإضافي، مثل العديد من الفنّانين الآخرين بسبب هذه التقنية.
    ومع ذلك، هناك سبب لئلا يقلق فراي أو غيره من الفنّانين. فحتى أكثر أنواع الذكاء الاصطناعي تقدُّما "يتعلّم" من خلال تدريبه على المعلومات الموجودة، ولا يمكنه تطبيق ما تعلّمه إلا في سياق جديد. الفنّانون يتدرّبون من خلال معالجة المعلومات الموجودة، لكنهم ينجحون، خاصّة الفنّانين العظماء حقّا، في خلق شيء جديد. صحيح أنهم يعملون على مادّة معطاة، لكنهم يبثّون فيها روحا جديدة من خلال إلهامهم.
    ويبقى الذكاء الاصطناعي آلة، شيئا، يعمل على أشياء أخرى. والإبداع في هذه الحالة هو في أحسن الأحوال نوع من المزاوجة الداخلية. ولعلّ هذا تحديدا هو سبب كون الذكاء الاصطناعي نعمة وليس نقمة على الفن. فهو يُجبر الفنّان على أن يكون أكثر تجريباً، وبالتالي يرفع سقف التوقّعات. الذكاء الاصطناعي يلغي دور المقلّدين، لكنه لا يلغي دور الفنّان الحقيقي. دينيس أويل
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • ذات ليلة من ليالي الشتاء، نظرتُ في المرآة فلم أتعرّف على الصورة التي كانت تحدّق بي. لم تكن هناك أيّ إصابة ظاهرة، لكنني شعرت وكأن على جلدي ساحة معركة، قصص محفورة في أعماق صمتي. كان الناس يرون ابتسامتي ومشيتي وعبارة "أنا بخير". لكن لم يرَ أحد الثقل الذي أحمله في روحي كحقيبة قديمة سقطت على جانب الطريق.
    في المدرسة، كنت دائما الطالب الهادئ الذي لا يرفع يده ولا يرفع صوته أو عينيه. كنت أعتقد أحيانا أن الاختفاء يعني الأمان، لكني اكتشفت أنه حتى الظلال ليست آمنة عندما تكون شديدة السطوع لدرجة يصعب كشفها.
    ثم دارت الأيّام وتغيّرت ظروف واستجدّت أخرى، ووجدت نفسي في خضمّ متاهة لم أحسب لها حسابا، بل اُقحمت فيها إقحاما ولم يكن لي علاقة بها من قريب او بعيد.
    ثم حدثت لحظة أحدثت بعض التشقّقات، ليس أمام الناس، ولا على خشبة المسرح، بل في سكون ليلة تساءلت فيها: ماذا لو كان ما حدث اختبارا لي كي أصبح اقوى وأكثر استعصاءً على الكسر وكي يصبح جلدي أكثر سُمكا؟
    وأمسكت بقلم وكرّاس، لا لأتعافى، بل لأتنفّس فحسب. وكلّ كلمة كتبتها كانت خيطا أعادني إلى الوجود. بدأت ندوبي تتحدّث، ليس فقط عن الألم، بل عن كلّ ما نجوت منه. رأيت نقاط قوّة لم أكن أعلم بوجودها. الصمت الذي كان يخنقني أصبح ملاذي الآمن. بدأت أركض وأكتب وأرقص بلا هوادة. وفجأة لم تعد قصّتي جرحا، بل نافذة.
    ولم يعد للذين صنعوا معاناتي وزن ولا قيمة. ندوبي أصبحت نجوما. وبدأتُ أتألّق. أ. عبدالله
  • ❉ ❉ ❉

  • يُعتبر رمز القلب ♥ الأكثر شيوعا على هذا الكوكب بعد الصليب والهلال. وتُستخدم هذه الايقونة كرمز للقلب البشري وكاختصار للمودّة. من الناحية الهندسية، شكل القلب شائع في الطبيعة، إذ يظهر في أوراق وأزهار النباتات المختلفة، وفي الفراولة والكرز والبنجر في مقطعها العرضي. وقد رسمه أسلافنا الأقدمون على جدران الكهوف، لكن ما كان يعنيه لهم ما يزال غير معروف.
    علامة ♥ دخلت إلى الأيقونات الغربية عبر الإغريق، الذين استخدموها لتصوير اللبلاب أو أوراق العنب، رمزي الثبات والتجدّد. أرسطو اعتبر القلب مركز العقل، وساد هذا الرأي حتى أيّام الطبيب الروماني جالينوس، الذي قرّر أنه مسؤول عن العواطف، باستثناء الحبّ الذي مكانه الكبد"!
    اتبع المسيحيون التقاليد اليهودية فيما يتعلّق بالقلب، والتي اعتبرته موطنا لجميع مشاعرنا، لكنهم قرّروا أن الحبّ مفهوم ميتافيزيقي لا علاقة له بعالم الجسد أو أيّ جزء منه. ومع ذلك، فقد اعتمدوا ♥ رمزا للكرمة، الرمز الكلاسيكي للبعث، واستخدموه على قبورهم رمزا لأمل القيامة في أيّام الاضطهاد وعبادتهم السرّية.
    وقبِلَ النبلاء الاوربيّون فكرة أن القلب هو مقرّ المودّة، وأدّى ذلك إلى شيوع ممارسة بين مختلف العائلات المالكة في أوروبّا، بدفن قلوبهم في أماكن مختلفة عن بقيّة رفاتهم. وبينما وُورِيتْ أجسادهم في مقابر عائلية، دُفنت قلوبهم في مكان ارتبطتْ فيه سعادتهم بأشخاص معيّنين. فمثلا، دُفن قلب الملك ريتشارد قلب الأسد في مكان ووُضع باقي جسده عند قدمي والده في مكان آخر. إلا أن هذه الطريقة أثارت غضب الكنيسة، فأصدرت مرسوما عام ١٣١١ ينصّ على أن الروح لا تسكن القلب وحده، بل تتوزّع بالتساوي على جميع أنحاء الجسد.
    في عام 1480، بعد وقت قصير من ظهور المطبعة، بدأ التصنيع التجاري لأوراق اللعب في فرنسا. واستَخدمت البطاقات المطبوعة القلوب كمجموعة ثانية لها بدلا من الكؤوس، التي تمثّل الكأس المقدّسة، والتي كانت تظهر حتى ذلك الحين على مجموعات مرسومة يدويّا. وفي عام 1498، أنتج ليوناردو دافنشي أوّل رسم دقيق لقلب بشري، وصنع نموذجا زجاجيا للعضو. وبعد ذلك بمائتي عام، شرح ويليام هارفي وظيفة القلب البيولوجية بالتفصيل وكيف يعمل كمضخّة لتدوير الدم عبر الشرايين والأوردة.
    وعلى الرغم من أن الناس عرفوا الآن أن قلوبهم لا تبدو مثل تلك الأيقونة الصغيرة، وأن القلب نفسه كان أكثر بقليل من مضخّة، إلا أنهم ما زالوا يفضّلون ربط العضلة النابضة أسفل ضلوعهم بالعاطفة.
    مع تزايد شيوع السكّر في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، انتشر على نطاق واسع صنع الحلويات والمعجّنات والكعك بهذه المادّة الباهظة الثمن حتى ذلك الحين. وكان الكرز، الذي كانت ثماره رمزا للعشّاق لفترة طويلة، والذي يكون مقطعه العرضي على شكل قلب، مكوّنا شائعا وزخرفة لكلّ من البونبون والفطائر. ومع ازدهار المستعمرات الإنغليزية في فرجينيا، وُضعت شرائح الفراولة على الفطائر والكعك على شكل قلب ♥ مع ارتباطات جديدة.
    وفي القرن التاسع عشر، تعزّزت عادة تبادل بطاقات عيد الحبّ مع ظهور البريد. وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت تُرسل ملايين البطاقات سنويا، وكان معظمها يحمل رمز ♥ في مكان ما من تصميمها. وفي عام 1977، كانت نيويورك عاصمة عالمية للثقافة والموقع المفضّل لهوليوود. وسرعان ما ارتدى الناس فيها قمصانا مكتوبا عليها أحبّ نيويورك أو I ♥ NY. وهكذا خُفّف معنى الرمز من حبّ الآخر أو الله أو الأم إلى الحماس لمكان أو نشاط، أي الالتزام العاطفي بمدينة أو فريق كرة قدم.
    وعلى الرغم من ذلك، فقد انتصر في المنافسة الرابطُ العاطفي بين "♥ الذي يعني القلب" و"الشعور بالحبّ أو المودّة"، وانتشر الرمز بسهولة في جميع أنحاء العالم. وقدّرت جمعية بطاقات المعايدة الأمريكية أنه أُرسل أكثر من مليار بطاقة في عيد الحب عام 2009، ما يعني أن ما يقرُب من سدس سكّان الكوكب يختارون رمزا معيّنا للتعبير عن عاطفتهم.
    ومؤخّرا ظهرت أدلّة غير مثبتة بعد تدعم معادلة القلب/الحبّ بين متلقّي عمليات زرع القلب، حيث يزعم بعضهم أنهم مرّوا بتغيّرات سلوكية بعد العملية. فمثلا، هناك قصّة عن امرأة كانت هادئة ومهتمّة بالصحّة واللياقة البدنية، لكنها تحوّلت الى شخصية عدوانية ومتهوّرة وأصبحت مغرمة بتناول البيرة ودجاج كنتاكي اللذين كانت تكرهما عندما كانت تعيش بقلبها الأصلي. لكنهما، أي البيرة والدجاج، كانا المفضّلين لدى الشخص الذي تبرّع لها بقلبه، وهو شابّ في الثامنة عشرة من عمره توفّي في حادث درّاجة، حيث كانت البيرة في دمه وأجنحة الدجاج في أمعائه. وأظهر متلقّو قلوب آخرون تحوّلات جذرية مماثلة في عواطفهم. إ. غيتلي

  • Credits
    harvardartmuseums.org

    السبت، سبتمبر 13، 2025

    البخل المعرفي


    في علم النفس، يُعتبر العقل البشري بخيلا معرفيّا بسبب ميل البشر إلى التفكير وحلّ المشكلات بطرق أبسط وأقلّ جهدا. وكما يسعى البخيل إلى تجنّب إنفاق المال، فإن العقل البشري غالبا ما يميل إلى تجنّب الأمور الصعبة أو بذل جهد معرفي.
    ومنذ بداية تطوّر الإنسان العاقل، دُرّبت أدمغتنا على سلوك طريق المقاومة الأقل لأنه كان ضروريّا للبقاء. وعندما عاش أسلافنا في البريّة، كان الحفاظ على الطاقة أمرا بالغ الأهمية. وكان عليهم الصيد والبحث عن الطعام ومواجهة المنافسين والهروب من الحيوانات المفترسة. وكانت خطوة خاطئة واحدة ربّما تؤدّي إلى الموت.
    اليوم، أصبح العالم أكثر أمانا. لكن الدماغ البشري ما يزال عالقا في العصر الحجري ولم يتغيّر كثيرا منذ أيّام الصيد وجمع الثمار. ولهذا السبب، إن لم تقاوم، سيختار الدماغ أسهل الطرق لحلّ المشاكل.
    البخيل المعرفي Cognitive miser مصطلح صاغته العالمتان سوزان فيسك وشيلي تيلر منذ سنوات، ويعني ميل الدماغ للبحث عن حلول للمشكلات تتطلّب أقلّ جهد ذهني. أي أن عقولنا كبشر بُرمجت على عدم التفكير والبحث دائما عن طرق مختصرة كما لو أن الدماغ لا يعرف سوى طريق واحد.
    لذا يمكنك إلقاء اللوم على "التطوّر" إذا وجدت صعوبة في النهوض من الأريكة والذهاب إلى النادي الرياضي مثلا، أو إذا كنت تؤجّل تنفيذ مشاريع صعبة، أو إن وجدت نفسك تفعل أشياء مثل النوم لوقت متأخّر، أو تناول الوجبات السريعة، أو الاندفاع لشراء ما قد لا تحتاجه. المشكلة أن هذه الأمور السهلة تصعّب الحياة. في البداية تبدو جيّدة، لكنها مع مرور الوقت تسبّب الملل والإحباط والندم.
    هل تميل الى قراءة مختصرات للروايات او الكتب الطويلة بدلا من الكتب والروايات الاصلية وتفضّل أن تقرأ في يوم واحد ما قد يستغرق أسابيع؟ إذن أنت شخص بخيل معرفيّا. والمفروض أننا نحتاج لأن نقرأ بتمعّن أكبر لنتمكّن من تكوين الروابط التي تشكّل أساس التفكير المنطقي وحلّ المشكلات. أما الطرق المختصرة أو القفز إلى النتيجة النهائية فإن من شأنه أن يحرم الأطفال والكبار من مهارات التفكير الاستنتاجي، أي تلك المهارات التي بدونها يصبح الانسان ساذجا ويصدّق بسهولة.
    وإن كنت ممّن يكتفون برؤية الصور وتعتقد أنها تُغني عن آلاف الكلمات فأنت شخص بخيل معرفيّا. صحيح أن الصور وسيلة رائعة لإضافة سياق أو توضيح للكلمات، لكنها لا تكفي بديلا عن الكلمات.
    وإن كنت تفضّل مشاهدة فيلم مأخوذ عن رواية على قراءة الرواية نفسها، فأنت بخيل معرفيّا. صحيح أن بعض الأفلام مبهرة بصريّا ومليئة بالإثارة ويمكن مشاهدتها في أقلّ من ساعتين، كما أن الفيلم يُعدّ أكثر جاذبيةً من الكتاب، لأنه يتطلّب جهدا ذهنيّا أقلّ بكثير من القراءة. غير أن قراءة الكتاب تتضمّن صياغة الكلمات والجمل وإنتاج تصوّراتك الداخلية الخاصّة، وهو ما لا توفّره مشاهدة فيلم.

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    وإن كان أطفالك يحبّون الأفلام، فيمكن استخدامها كحافز لتشجيعهم على القراءة، كأن تأخذ طفلك الى السينما في كلّ مرّة ينتهي فيها من قراءة كتاب. أطفال اليوم لا يعرفون سوى الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. وكآباء، علينا التأكّد من أن عاداتهم لا تتحوّل إلى سلوك ضارّ أو إدماني.
    وبالنظر إلى هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي تغمرنا بها الإنترنت، قد تجد أدمغتنا صعوبة في التركيز والانتقال من وظيفة إلى أخرى بكفاءة. هل انتهى زمن الحوار بين البشر؟ ربّما يكون هذا السؤال مبالغا فيه قليلا، لكن الفكرة ليست بعيدة عن الواقع. فبالنسبة للبعض، أصبح الهاتف الذكي بديلا عن المحادثة. ونحن اليوم لا نحتاج فقط الى التواصل الرقمي، بل نحتاج أيضا لمنصّة تواصل أفضل، أي الكلمة المنطوقة.
    إن من الصعب استيعاب فكرة أن المحادثة فنّ في طريقه إلى الزوال، ولكن هل تعاني الكتابة من نفس التدهور؟ ينبغي أن تكون الكتابة "جملا مصاغة بعناية" لا مجرّد كلمات منطوقة مكتوبة. تخيّل ما قد يفكّر به سقراط أو شكسبير أو دوستويفسكي لو عاشوا بيننا اليوم.
    من المؤسف أن نلاحظ اليوم أن بعض أساتذة الجامعات يميلون إلى خفض معايير كتابتهم كي يجاروا عامّة الناس. ومع كلّ تطور تكنولوجي، يبدو أننا نُضعف مهاراتنا "الأساسية" كالقواعد والإملاء والكلام.
    لقد نشأ جيل Z "أي جيل الإنترنت والهواتف الذكيّة" ومع كلّ منهم جهاز محمول في يده. ونتيجةً لذلك، أصبح لديهم ميل وتوقّع بأن يكون كلّ شيء متاحا فورا. كما صار عالمهم يعتمد على التغريدات والمعلومات المختصرة، بدلاً من الجمل المصاغة بعناية والعروض المدروسة والمُحكمة.
    إن من الضروري أن نعلّم أطفالنا مهارات الكتابة الرفيعة. فالمحادثة والكتابة فنّان منفصلان، وكلاهما أساسي بطريقته الفريدة. ويجب أن يظلا متفرّدين لأن كلا منهما يعزّز الإدراك بوسائل مختلفة، وإن كانت بنفس الأهمية.
    إننا جميعا مذنبون بالبخل المعرفي بنسبة أو بأخرى. والقاسم المشترك بين معظمنا هو القدرة على التغيير. ولا يتطلّب الأمر أكثر من اتخاذ قرار واعٍ بتغذية عقولنا بأفضل طريقة ممكنة وبتجنّب الأمور التي تستنزفها. ولنتذكّر أن الدماغ مثل العضلة، كلّما عملنا عليه أكثر، ازداد قوّةً ومناعة.

    Credits
    researchgate.net
    psychologytoday.com

    الخميس، سبتمبر 11، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في إحدى المناطق الشاسعة من المحيط الهادئ، تقع جزيرة مرجانية صغيرة تُسمّى "ايفالوك". بعد الحرب العالمية الثانية، عرضت البحرية الأمريكية أحد أفلام هوليوود على شعب هذه الجزيرة لتسليتهم وتعزيز حسن النيّة معهم. كان الفيلم أكثر شيء عنيف ومروّع شاهده سكّان الجزيرة على الإطلاق. وقد أزعجهم العنف الذي رأوه على الشاشة لدرجة أن بعضهم مرضوا لعدّة أيّام.
    وفيما بعد، جاء أحد علماء الأنثروبولوجيا إلى الجزيرة لإجراء دراسة، وسأله السكّان المحليّون بشكل متكرّر: هل كان ذلك صحيحا؟ هل هناك بالفعل أناس في أمريكا قتلوا أشخاصا آخرين؟!
    يقول بعض العلماء اعتمادا على دراسات أُجريت على قبائل معزولة عن الحياة الحديثة وتتغذّى على النباتات والحيوانات البرّية أن الحرب ليست جزءا فطريّا من الطبيعة البشرية، بل هي سلوك تبنّاه البشر في مراحل متأخّرة من تطوّرهم.
    وافترضَ العلماء أنه منذ حوالي 12 ألف سنة، كان جميع البشر يعيشون في هذا النوع من المجتمعات الذي شكّل حوالي 90 بالمائة من مسارنا التطوّري. ومع انتقال الصيّادين وجامعي الثمار إلى الزراعة، أصبحت المجموعات أكثر إقليمية وصارت بُنيتها الاجتماعية أكثر تعقيدا. ومع استقرار البشر، أصبحت الحرب أكثر هيمنةً وحضورا.
    وذكرت الدراسة أنه إذا ما وُجد أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ عنيفة، فإن العنف في النهاية ثقافي وليس بيولوجيّا. كما دعت إلى وقف النظرة السلبية السائدة للحضارة الحديثة باعتبارها حضارة عنيفة، من خلال إثبات أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ كانت هي أيضا عنيفة بقدر ما ومنخرطة في حروب متكرّرة كانت بعضها مدمّرة للغاية.
    وهناك كتّاب عديدون تناولوا تحديدا استمرار ما أسموه "بالخرافات الخاطئة" التي يردّدها يعض علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع حول صلاح البشر البدائيين. فقد وقعت مذابح وعمليات قتل جماعي بين الإسكيمو و"هنود الغراب" وعدد لا يُحصى من الجماعات الأخرى قبل حوالي 13 ألف عام، أي قبل ايّ اتصال بالأوربيّين. كما تمّ القضاء على قبيلة "السكاكين الصفراء" في كندا بسبب المجازر التي ارتكبها هنود آخرون، واختفت تلك القبيلة نهائيا من التاريخ بعد ذلك بوقت قصير.
    وبالمقابل، أقام أحد علماء الاجتماع مع مجموعة قبلية في غينيا الجديدة. وفي هذه المجموعة، كان جميع الرجال يعيشون في منزل كبير، بينما كانت النساء والأطفال يعيشون في أكواخ فردية. ولم يجد الباحث أن الحرب كانت شائعة بينهم كما لم يشهد أي صراع مع الجماعات المنافسة. وقال إنه وجد أن بعض أكثر الشعوب "بدائيةً" على وجه الأرض كانت في الواقع مسالمة إلى حدّ كبير مقارنةً بالدول الحديثة المتقدّمة.
    وأضاف: كثيرا ما تُصوَّر الشعوب القبلية على أنها "متوحّشة وعنيفة". لكن الحرب لم تكن شائعة كثيرا قبل ظهور الزراعة، أي عندما كان معظم البشر، إن لم يكن كلّهم، يعيشون كباحثين عن الغذاء".
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الرسّام الفرنسي هوبير روبير يحظى بدعم العديد من الرعاة والنقّاد والفنّانين على حدّ سواء في القرن الثامن عشر. كما حظي بإشادة واسعة في الفترة المسمّاة بالحقبة الجميلة. وقد تمتّع روبير بمديح بعض من أهمّ الشخصيات الأدبية الفرنسية، من الفيلسوف دينيس ديدرو الذي أطلق عليه لقب "روبير الأطلال"، إلى إدمون دي غونكور ومارسيل بروست بعد أكثر من قرن.
    وتمكّن الرسّام من تسلّق السلّم الاجتماعي في فرنسا بفضل مهارته الفطرية كفنّان، وأصبح نجما دائم الظهور في الصالونات والفعاليات الاجتماعية المختلفة. وكانت لوحاته علامة تجارية لما يقرب من 50 عاما. وقد عُرفت صوره باسم "كابريتشي"، وهو مصطلح يشير إلى التقاليد الزخرفية لتصوير الآثار المعمارية الخلابة التي تطوّرت في روما الباروكية وبلغت ذروتها بين الرسّامين الإيطاليين مع جيوفاني باولو بانيني، الذي شعر روبير تجاه أعماله بألفة عميقة.
    لكن القرن العشرين لم يكن كريما معه، فقد مرّ أكثر من 80 عاما منذ أن كان موضوعا لمعرض استعادي كبير. لكن معرضا اُقيم للوحاته مؤخّرا في اللوفر صحّح هذا الوضع وأعاد الى الرسّام بعض الاعتبار.
    في عام ١٧٥٤، وفي سنّ الحادية والعشرين فقط، دُعي روبير للانضمام إلى حاشية الكونت دي ستانفيل في روما، حيث استوعب أكبر قدر ممكن من المدينة الخالدة، وأتيحت له فرصة قبوله في الأكاديمية الفرنسية بروما، وهو تكريم لا يُمنح عادةً إلا للقليلين.
    وقد مكث في المدينة أحد عشر عاما أخرى، وخلال تلك العطلة الرومانية وُضعت أسس مسيرة روبرت الفنّية، وهي ركائز ستظهر وتعاود الظهور على الآثار المعمارية التي ملأَت رسوماته ولوحاته طوال حياته. وتشير صوره لفنّانين في بيئاتهم الرومانسية المتداعية إلى أن عالمي الخيال والواقع كانا على خطّ رفيع بالنسبة له. وقد أصبحت مناظره الخيالية عن الآثار الرومانية التي تُصوَّر في الهواء الطلق علامة مميّزة.
    بالنسبة لديدرو، يمكن ترجمة الآثار المرسومة إلى شعر. وقد سلّطت صور روبير الضوء على "الرعب الجميل" الذي اعتبره ديدرو بالغ الأهمية لقوّة هذه الأعمال.
    وعندما رأى الأخير لوحات روبير لأوّل مرّة في الصالون، كتب يقول: الأفكار التي توقظها الآثار في داخلي عظيمة. كلّ شيء يتلاشى، كلّ شيء يفنى، كلّ شيء يمر. وحده العالم يبقى، وحده الزمن يدوم".
    كان هوبير روبير غزير الإنتاج لدرجة أنه من السهل نسيان عدد أعماله. لكن يبقى شيء واحد مهم وواضح، وهو فهمه وتفسيره المذهل للفناء وهشاشة الحياة. وربّما يكون هذا الشعور بالموت والخوف من الضياع هو الذي غذّى حاجته للتواصل الاجتماعي المستمر.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • استلهم عشرون كاتبا بلجيكيا وهولنديا أفكارا وأشعارا من مجموعة الاعمال الفنّية التي يحتفظ بها متحف ماوريتسهاوس في لاهاي. وقد تأمّلوا بعض لوحات القرن السابع عشر من منظور التاريخ البديل ثم جسّدوها في نصوص قصيرة. إميلي بارييل وجدت في لوحة فيرمير "ديانا وحوريّاتها" موضوعا لخاطرة شعرية قالت فيها: ‬
    تريد ديانا أن تعرف لماذا تحوّلت إحدى حوريّاتها إلى شجرة، فيما أصبح الآن موقف سيّارات مهجور في مبنى مكاتب متهالك يعود تاريخه إلى ستّينيات القرن العشرين. في الماضي، تقف الإلهة ديانا في غابة. تنظر إلى تلك البطّة الغريبة هناك. يقف فيرمير حاملا لوحته تحت الأغصان القريبة ومردّدا لحنا. تقول ديانا: كيف يُعقل أن يصدر هذا الضجيج من فم صغير كهذا؟" تهزّ حورياتها رؤوسهن وهنّ يشحذن سهامهنّ للصيد. يمرّ أبوللو مرتديا ملابس رثّة، بدلة من ثلاث قطع.
    تلاحظ إحدى الحوريات أن أبوللو يضع إكليل غار على رأسه. تفتقد دافني بعض الأغصان. كلّ رسّام على مرّ التاريخ صوّرها هي وحورياتها بأجساد ملفوفة بالقماش. تحت الأغصان القريبة، يمزج فيرمير اللون الأخضر الحمضي ليلبّس مواضيعه فساتين. يهزّ أبوللو كتفيه. تستغرق الأصوات النسائية وقتا أطول للوصول إليه. يراقب فيرمير كلّ ما يحدث، ويصوّر أربع حوريات صامتات يحوّلن نظرهنّ عن ديانا، بينما حورياتها يهززن رؤوسهنّ ويسحبن أقواسهن.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ الفقراء لا يدركون أن وظيفتهم في الحياة هي ممارسة الكرم. جان بول سارتر

    ○ كلّ ما يفعله الإنسان في الحياة، حتى الحب، يحدث في قطار سريع يتجه نحو الموت. "تدخين الأفيون" هو الخروج من القطار وهو لا يزال في طريقه، هو الانشغال بشيء آخر غير الحياة أو الموت. ج. كوكتو

    ○ لا أبحث عن البهجة ولا عن المرح. قلبي، بعد سنوات مرهقة من الحداد على الموتى، لم يعد يتقبّل المرح. ثم إن جدران قلعتي مهدَّمة والريح تهبّ باردةً عبر الأسوار والنوافذ المكسورة. أحبّ الظلال وأرغب في أن أكون لوحدي مع أفكاري. برام ستوكر

    ○ الترياق للغباء الجماعي ليس الذكاء فقط، بل الشجاعة في الاعتراف بأنك لا تعرف. سقراط كان أحد أوائل أبطال التفكير النقدي. قال مرّة: الحقيقة الوحيدة هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئا". ولم يكن هذا انتقاصا من الذات، بل دعوة للبقاء فضوليّا ومتواضعا فكريّا ومستمرّا في السؤال، في مواجهة عالم غامض وواسع.
    الجميع يريدون التحدّث، ولكنْ قليلون يريدون الاستماع. المفارقة هي أن المفكّرين الحقيقيين غالبا ما يكونون هادئين، لأنهم يعلمون أن الحكمة لا تنمو من الضوضاء ولكن من الصمت، من التأمّل. وهذا هو السبب بالتحديد وراء تفكير المفكّرين النقديين. وهؤلاء غالبا ما يهمَّشون ويُتجاهلون في ثقافة تكافئ السرعة. التفكير البطيء فرَصُه ضئيلة، لكن لا ينبغي التخلّي عنه. مارشال ماكلوهان

    ○ الأمان في الغالب خرافة، لا وجود له في الطبيعة. وتجنُّبه ليس أكثر أمانا على المدى البعيد من التعرّض المباشر له. الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء. هيلين كيلر

  • Credits
    artic.edu
    mauritshuis.nl

    الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

    نصوص مترجمة


  • كان منشغلا بالفلسفة. وكان دائما يحمل ورقة مخطوطة في يده وسيغارة مشتعلة بين أصابعه. وعندما ينتهي من سيغارة، كان يشعل الأخرى لا شعوريا. ليس للتدخين، بل للتفكير. دخان متواصل. وفي مرحلة ما، أصبحت السيغارة إيقاع أفكاره وسُمّا ينهش رئتيه. كان سبب وفاته سرطان الرئة. لكن الجميع كان يعلم أنه مات من كثرة التفكير.
    هل ثمّة فلسفة هنا؟
    تزامُن التأمّل والتدمير "أو الطبيعة المزدوجة للوجود". الفلسفة هي عمل تعميق أفكار الإنسان، ولكنها بالنسبة لهذا الرجل كانت أيضا عملا من أعمال إنكار الذات. التبغ يشجّع على التأمّل، ولكنه أيضا يستحثّ الموت. حالة وجودية متناقضة حيث تتعايش "المعرفة والموت" و"الاستكشاف والنهاية".
    التفكير هو التفاني حتى الموت. "كلّ فكرة جعلتني أقرب إلى الموت". الفلسفة قد لا تكون هي الحرّية، بل الإدمان على "الأسئلة التي لا يمكن وقفها". السغائر عقد مع الموت. في كلّ مرّة أشعلَ فيها الرجل النار، كان يوقّع على موته. كان يعلم هذا، لكنه لم يُقلع، لأن السغائر بالنسبة له كانت "الميزان الذي يقيس به ثقل الحياة".
    الفلسفة ليست مطاردة الدخان بحثا عن إجابات، بل هي دفن الأسئلة في الدخان. د. ياماشيتا
  • ❉ ❉ ❉

  • كما يليق بملحمة حربية، تمتلئ الإلياذة بأمثلة عن الموت بطريقة وحشية. وبعض المجازر المروّعة تُرتكب تحديدا لإرهاب العدو. مثلا، قتلَ أغاممنون قائد القوات اليونانية هيبولوكوس التعيس وقطع ذراعيه ثم ركل جثّته ليقذفها بين حشد من المقاتلين الطرواديين "كجذع شجرة". وضربَ محارب يونانيّ آخر مقاتلا طرواديا في وجهه ثم قطع رأسه ورفعه في الهواء بطرف رمحه، ما تسبّب في إرهاب الطرواديين الآخرين.
    كان العالم القديم يعجّ بالعنف. ولا داعي لأن نقصُر الحديث على هوميروس. فمعظم الأساطير اليونانية تتسم بالعنف بشكل أو بآخر. كما كان الفنّ اليوناني نفسه عنيفا، وبدا كما لو أن بعض الرسّامين كانوا يستمتعون بتصوير الدم والقتل العنيف. ولا يزال العنف يهيمن على العالم الحديث. وهذه مشكلة لا يمكننا حلّها إلا عندما نعتبر حياة كلّ إنسان مهمّة ومتساوية، وكلّ خسارة تستحقّ البكاء. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن نصل إلى تلك المرحلة المستنيرة. جوش برايرز
  • ❉ ❉ ❉

  • إيزابيل آيندي هي المؤلّفة الإسبانية الأكثر قراءةً في العالم. وهي تعرف كيف تروي قصّة مقنعة. روايتها "روحي إينيس" تستند إلى شخصية تاريخية. وقد بُنيت الرواية حول أكبر قدر ممكن من التاريخ المعروف المحيط بإينيس دي سواريز، إحدى أوائل النساء الإسبانيات اللاتي وصلن إلى العالم الجديد في أوائل القرن السادس عشر.
    يُروى الكتاب بضمير المتكلّم، بصوت إينيس كامرأة مسنّة تتذكّر حياتها وتحكي قصّتها لابنة زوجها قبل أشهر قليلة من وفاتها. ومثل إيزابيل آيندي نفسها، فإن إينيس ناجية شرسة وبارعة الحيلة.
    وتبدأ الرواية بحياة دي سواريز المبكّرة في إسبانيا، ثم كيف شقّت طريقها إلى العالم الجديد، البرّي وغير المتحضّر في معظمه، وهو أمر غير مألوف لامرأة في ذلك الوقت. في النهاية، أصبحت زوجة لأحد الغزاة الكبار، بيدرو دي فالديفيا، ورافقته في رحلته الاستكشافية من بيرو إلى المناطق البرّية في الجنوب، لاستكشاف ما يُعرف الآن بتشيلي وغزوها في النهاية.
    تقدّم الرواية قصصا آسرة عن عالم الاستعمار الإسباني المبكّر لبيرو، وتتضمّن ظهور بعض الغزاة الأوائل مثل بيزارو وألماغرو. كما نقف على التوتّر بين الإسبان والإنكا المهزومين بعد أقلّ من جيل من غزو بيزارو لإمبراطورية الإنكا.
    أبرز ما في الكتاب هو وصف إينيس للمصاعب والتحدّيات التي واجهتها هي والغزاة في الوصول إلى تشيلي ومحاولتهم ترسيخ موطئ قدم لهم في مواجهة مقاومة هنود المابوتشي الشرسين. وفي نهاية المطاف، وبعد الكثير من المشقّة والقتال، تمكّنوا من إقامة وجود هشّ أصبح فيما بعد مقعدا للحضارة الإسبانية، بعيدا عن مراكز قوّتهم الأخرى في العالم الجديد.
    يمكن أن تكون هذه الرواية شيّقة وممتعة لمن يهتمّون بالتحدّيات التي واجهها الأوروبيون في بدايات استيطانهم لأمريكا الجنوبية. وتصوير المؤلّفة للسكّان الأصليين وثقافتهم رائع. ويبدو أن آيندي بذلت جهدا كبيرا في البحث كي تحكي قصصهم بأقصى دقّة ممكنة. ج. شولتز
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • رسم الفنّان الفرنسي، الروسي الأصل، مارك شاغال لوحة "سقوط إيكيروس" عام ١٩٧٥، أي في أواخر حياته. وكان شاغال قد عانى من اضطرابات وصدمات نفسية، منها فراره من فرنسا التي احتلّها النازيّون إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤١، والوفاة المبكّرة لزوجته الحبيبة بعد ذلك ببضع سنوات. في هذه اللوحة، يسقط شخص مجنّح من السماء على حشد من الناس في قرية.
    والمنظر هو تجسيد شاغال للأسطورة اليونانية عن إيكيروس الذي صنع له والده أجنحة من الريش والشمع ليتمكّن من الفرار من سجنه في جزيرة كريت. وقد حذّر الأب إيكيروس من الطيران قريبا من الشمس، ولكن ما أن ارتفع إلى السماء حتى غمره شعور بالقوّة والسرعة، فطار أعلى فأعلى الى أن ذاب جناحاه وهوى الى حتفه.
    من اللافت أن أحد أصول كلمة "خطر" يعود إلى الكلمة الإنغليزية الفرنسية daunger التي تعود إلى منتصف القرن الثالث عشر وتعني "الغرور". وكان هذا تذكيرا بأن الخطر والغرور غالبا ما يقترن كلّ منهما بالآخر. لذا كان إيمان إيكيروس بقدرته على التحليق بمفرده دون مراعاة للقيود والإمكانات سبيلا إلى هلاكه. اينوم اوغورو
  • ❉ ❉ ❉

  • "إنها تمطر"، قال الأب لاميرو. وتابع: قبل نصف قرن بالضبط، أتيتُ إلى اليابان في يوم كهذا. في الماضي، كان أباطرة هذا البلد رجالا ذوي مكانة عظيمة، لكن كلّ ذلك تغيّر عندما استولى العسكر على السلطة ونقلوا العاصمة إلى كاماكورا. وتُرك الإمبراطور الشابّ في كيوتو ليقايض توقيعه بالمخلّلات والأرز. كان ذلك في القرن الثالث عشر. ثم في عشرينات القرن العشرين، ذهبت إلى كاماكورا للدراسة في بعض المعابد البوذية".
    توقّف الأب لاميرو لبرهة، وبدا عليه التأمّل. ثم فرك ذراع كرسيّه المصنوع من شعر الخيل وتابع كلامه: بالنسبة لي كانت أفضل السنوات في اليابان هي عشرينات القرن الماضي. كنت شابّا، وعندما وصلت كان كلّ شيء هنا رائعا بالنسبة لي. كانت دراستي في كاماكورا، ولكنني كنت آتي إلى طوكيو في عطلات نهاية الأسبوع، إلى هذا المنزل بالذات، الذي كان مليئا بالقطط.
    كانت طوكيو آنذاك مبنية بالكامل من الخشب، وكلّ ليلة كانت هناك نار على مسافة قريبة سيرا على الأقدام. لا يوجد شيء أكثر تحفيزا من مشاهدة النار عندما تكون صغيرا. في ليالي الجمعة، كنّا نعقد اجتماعاتنا هنا، وإذا ذهبنا لرؤية النار، فإن مناقشاتنا كانت دائما أكثر حيوية. ومنذ الحرب، كنت نباتيّا صارما، باستثناء العسل والبيض. للأرز تأثير خاص على اليابانيين بعد ساعة أو ساعتين من تناوله، وهو بلا شك السبب الرئيسي وراء تفضيلهم للخارج. إدوارد ويتيمور
  • ❉ ❉ ❉

  • لدى الماوري قيم قبلية معيّنة، فما يفيد الجماعة يفيد الفرد، والعكس ليس بالضرورة صحيحا. وفي مجتمع الماوري المثالي، يسود تقاسم الموارد والالتزامات. وغالبا ما تكون التضحية مطلوبة. ويُقدَّر الوفاء تقديرا عاليا، ولا يُحتفى بروح المنافسة إلا في الرياضة، بينما يُحتقر الجشع والأنانية. والنتيجة مجتمع يُهتمّ فيه بالجماعة أكثر من الفرد. ومن نتائج ذلك أيضا أن الماوري، من وجهة نظر البيض، غالبا ما يبدون غير طموحين، بينما يبدو البيض، من وجهة نظر الماوري، قساة ومعزولين وباردِي القلوب. كريستينا تومسون
  • ❉ ❉ ❉

  • كان يا ما كان، كان هناك ولد، عاش في قرية لم تعد موجودة، في منزل لم يعد موجودا، على حافّة حقل لم يعد موجودا، حيث كان كلّ شيء ممكنا. يمكن للعصا أن تكون سيفا، ويمكن للحصاة أن تكون ماسة أو شجرة أو قلعة. كان يا ما كان، كان هناك ولد يعيش في منزل أمام الحقل، وفتاة لم تعد موجودة.
    ابتكرا ألف لعبة. كانت ملكة وهو ملك. في ضوء الخريف، كان شعرها يلمع كإكليل. كانا يجمعان العالم كلّه في حفنات صغيرة، وعندما تُظلم السماء، يفترقان وفي شعرهما أوراق. كان يا ما كان، كان هناك ولد أحبّ فتاة، وكان ضحكها سؤالا أراد أن يقضي حياته كلّها في الإجابة عنه. ن. كراوس

  • Credits
    isabelallende.com/en
    marcchagall.com/fr

    الأحد، سبتمبر 07، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • النثر الأرجواني purple prose مصطلح يُطلق على أيّ كتابة نثرية مزخرفة بشكل مفرط، لدرجة أنها تعطّل تسلسل السرد وتقلّل من تقدير القارئ، بسبب أسلوب الكتابة المبالغ فيه.
    والنثر الأرجواني يتّسم بالاستخدام الزائد للصفات والظروف والاستعارات. وعندما يقتصر هذا النثر على فقرات معيّنة، فإنه يمكن تسميتها بالبقع أو الفقرات الأرجوانية، حيث تكون مختلفة عن بقية العمل.
    كان الشاعر الروماني هوراس أوّل من صاغ عبارة "النثر الأرجواني" في كتابه "فنّ الشعر". فقد كتب ينصح كاتبا شابّا: افتتاحيتك واعدة جدّا. ومع ذلك، تظهر فيها بقع أرجوانيةٌ برّاقة، كما هو الحال عند وصفك بستانا مقدّسا أو مذبح ديانا أو جدولا متعرّجا عبر الحقول أو نهر الراين أو قوس قزح. لكن هذا لم يكن المكان المناسب لهذه الاوصاف. إذا كان بإمكانك تصوير شجرة سرو بشكل واقعي، فهل ستكتب هذا عند تكليفك برسم بحّار وسط حطام سفينة"؟!
    كانت الصبغة الأرجوانية آنذاك باهظة الثمن، وكان ارتداء أيّ ملابس بلون أرجواني يُعدّ دليلا على الثراء. وكان كثير ممّن يريدون الظهور بمظهر ثريّ يضعون قماشا أرجوانيا بين ملابسهم الرخيصة كي يبدوا أكثر ثراءً، ولذلك بدأ يُنظر الى الأرجواني كرمز للبريق والبهرجة.
    وقد تصوّر هوراس شبها بين النسيج الأرجواني في المجتمع والنثر الأرجواني في الكتابة. ثم استخدم الناس وصفه للإشارة الى أيّ نوع من الكتابة يبالغ في التأنّق والفذلكة ليحاول جذب القرّاء. والنثر الأرجواني أعمق من مجرّد كتابة الجمل، بل هو الكتابة البرّاقة من أجل البهرجة فقط، دون إعطاء معنى أو عمق للكتابة.
    إن كنت تمارس الكتابة، فعليك مراجعة عملك باستمرار والتفكير في أيّ أجزاء إضافية ترغب في حذفها. وإذا أفرطت في استخدام لغة سطحية في كتابتك، فقد لا يقتصر الأمر على نفور القرّاء، بل قد يصرفهم عن الفكرة الرئيسية التي تحاول طرحها.
    يمكنك أيضا قراءة كتاباتك بصوت عالٍ لمعرفة عدد الأنفاس التي تحتاج إلى أخذها لإنهاء جملة واحدة، والتي يمكن أن تكون علامة على أنها طويلة جدّا ومليئة بالحشو والكلمات، وبالتالي لا لزوم لها.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعض المعلومات التي ترسخّت في اذهاننا باعتبارها حقائق ومسلمّات، وذلك بفعل التواتر والتكرار، ثبت أنها لا تمتّ للحقيقة بِصلة.
    فمثلا، غير صحيح أن قسطنطين هو الذي أعلن المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. ورغم أنه كان أوّل إمبراطور مسيحي، إلا أن المسيحية لم تُعلن ديانة رسمية للإمبراطورية إلا عام 380، أي بعد وفاة قسطنطين بـ 43 عاما.
    وغير صحيح أيضا أن يوليوس قيصر ولِد بعملية قيصرية، كما أن العمليات القيصرية (Caesarean section) لم تُشتقّ من اسمه. ولو أُجريت له أو لغيره مثل هذه العملية في ذلك الزمن لأودت بحياة الأمّ بسهولة.
    وغير صحيح أيضا أن كولومبوس كان أوّل أوروبّي يزور الأمريكتين، فقد استكشف ليف إريكسون، وربّما غيره من الفايكنج قبله، المناطق الساحلية لأمريكا الشمالية. وأثبتت الآثار أن مستوطنة نورسية واحدة على الأقل أقيمت في نيوفاوندلاند، ما يؤكّد القصّة التي رواها إريك الأحمر في ملحمته.
    وغير صحيح أيضا أن النار أُطلقت على أنف تمثال أبي الهول من قبل قوّات نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر قبل مائتي عام. فقد كان الأنف مفقودا منذ القرن العاشر على أقلّ تقدير.
    وغير صحيح أيضا أن غريغوري راسبوتين قُتل بإطعامه كعكا ونبيذا ممزوجا بالسيانيد، أو بإطلاق النار عليه عدّة مرّات ثم رميه في النهر بعد نجاته من الحادثتين السابقتين. بل أثبت تشريح لجثّته أنه قُتل بطلقات ناريّة فقط. والمصدر الوحيد لقصّة السيانيد هو رواية مبالغ فيها من مذكّرات الأمير فيليكس يوسوبوف، الذي كان شريكا في المؤامرة.
    وغير صحيح أيضا أن رسّامي الخرائط في العصور الوسطى كتبوا على خرائطهم بانتظام عبارة "هنا توجد تنانين hic sunt dracones". كما لا توجد خرائط قديمة تحتوي على عبارة "أراض مجهولة terra incognita"، للإشارة الى أن أرضا ما تعجّ بالوحوش والأفاعي والتنانين وما الى ذلك. هناك خريطتان فقط من تلك الحقبة لمناطق في جنوب آسيا نُقشت عليهما هذه العبارة وتضمّنتا رسوما توضيحية لحيوانات أسطورية أو حقيقية.
    ويُحتمل أن من صمّموا تينكِ الخريطتين كانوا يتوقّعون ظهور العديد من الوحوش المرعبة في الأماكن التي حدّدوها على الخريطتين. ومن بينها بعض الحيوانات التي لا تُعتبر أسطورية اليوم كالفيلة والأسود، لكنها كانت تُعتبر في نظر الناس وقتها شبيهة بالتنانين.
    وغير صحيح أيضا أن سور الصين العظيم هو المَعلم البشري الوحيد الذي يُرى بالعين المجرّدة من الفضاء أو من القمر. فلم يبلِّغ أيّ من روّاد فضاء أبوللو عن رؤية أيّ جسم بشري محدّد من القمر. وحتى روّاد الفضاء الذين يدورون حول الأرض لا يستطيعون رؤية السور العظيم إلا بالمناظير المكبّرة. مع ذلك، يمكن رؤية أضواء المدن بسهولة في الجانب المظلم من مدار الأرض.
    وغير صحيح ما يقال من أن منازل القمر تؤثّر على أصوات الذئاب، وأن الذئاب تعوي عند رؤيتها القمر. والصحيح هو أنها تعوي عادةً لتجميع قطيعها قبل الصيد وبعده ولإطلاق إنذار وللتعرّف على بعضها البعض أثناء العاصفة وللتواصل عبر مسافات شاسعة عند عبور مناطق غير مألوفة.
    وغير صحيح أيضا أن النعامة تدفن رأسها في الرمال للاختباء من الأعداء أو للنوم. وأصل هذا الاعتقاد الخاطئ غير مؤكّد. لكن يُرجَّح أن من روّج له كان المؤرّخ بليني الكبير، إذ كتب أن النعامة "تتخيّل عندما تُدخل رأسها ورقبتها في شجيرة أن جسدها كلّه لا يُرى".
    وغير صحيح أن البشر تطوّروا من أيّ من أنواع الشمبانزي أو أيّ نوع آخر من القردة. ومع ذلك، تطوّر البشر والشمبانزي من سلف مشترك. ويُعتقد أن هذا السلف المشترك الأحدث للإنسان والشمبانزي قد عاش قبل حوالي ثمانية ملايين سنة.
    وغير صحيح أيضا أن الأنهار تتدفّق غالبا من الشمال إلى الجنوب، بل تنحدر في جميع اتجاهات البوصلة، وغالبا ما تغيّر اتجاهها على طول مجراها. والعديد من الأنهار الرئيسية تتدفّق جهة الشمال، بما في ذلك نهر النيل ونهر الراين وغيرهما.
  • ❉ ❉ ❉

  • كاريتاس، أو المحبّة، هو اسم مقطوعة مشهورة للموسيقيّ الآذاري سامي يوسف أُدّيت على الهواء لأوّل مرّة في قاعة الحفلات الموسيقية الملكية في أمستردام قبل ثلاث سنوات واشتركت في تقديمها فرقتان هولنديتان والفرقة التابعة ليوسف.
    هذا العمل هو جزء من مشروع موسيقيّ أكبر اسمه "عندما تلتقي الدروب". وهو يتنقّل بسلاسة بين الموسيقى الكورالية الغربية والأساليب الموسيقية الشرقية والأندلسية. كما يَعبُر الحدود بين المقامات والايقاعات المختلفة، باستخدام الارتجال والعزف المنفرد على آلات الإرهو الصينية والعود والناي والكمان.
    وفكرة العمل تؤكّد على عمق الحوار بين الحضارات من خلال الموسيقى. وتتردّد في ثناياه باللغات العربية والانغليزية والآذارية كلمات الشاعر الآذاري المتصوّف فضولي من القرن السادس عشر، والشاعرة الألمانية المتصوّفة هيلدغارد بينجن من القرن الثاني عشر، بالإضافة الى مواويل آسرة مستمدّة من أبيات للشاعر الأندلسي أبو الحسن الشُشتري من القرن الثالث عشر والشاعر الصوفي السوري عبد الغني النابلسي من القرن السابع عشر.
    مدّة العمل 16 دقيقة، ومقاطعه الأجمل تبدأ عند الدقيقة السابعة ، حيث تمتزج أنغام الرست الرائعة بالأصوات البشرية التي تلامس الروح. وقد وُصفت كلّ نغمة فيه بأنها "تحمل لمسة إيمان وبريق أمل".

  • Credits
    thewritelife.com
    samiyusuf.art

    الجمعة، سبتمبر 05، 2025

    نصوص مترجمة


  • لست من الذين يقلقون بشأن كلّ شيء. مثل هؤلاء تجدهم حولك وفي كلّ مكان. يتجوّلون في البلاد طوال اليوم، في كلّ دقيقة من اليوم. قلقون بشأن كلّ شيء. قلقون بشأن الهواء، بشأن الماء، بشأن التربة، قلقون بشأن المبيدات الحشرية والمُضافات الغذائية والموادّ المسرطِنة.
    أكثر من 90 بالمائة من جميع الأنواع التي عاشت على هذا الكوكب انقرضت. لم نقضِ عليها نحن، بل اختفت فحسب. هذا ما تفعله الطبيعة. ويوميّا يختفي 25 نوعا. أعني أنه بغضّ النظر عن سلوكنا وكيفية تصرّفنا على هذا الكوكب، فإن 25 نوعا موجودة اليوم ستختفي غدا. دعوها ترحل بسلام. دعوا الطبيعة وشأنها.
    "أنقذوا الأشجار، أنقذوا النحل، أنقذوا الحيتان، أنقذوا المسامير"! ماذا؟ هل يخدعنا هؤلاء الملاعين؟ إنقاذ الكوكب؟! لا نعرف حتى كيف نعتني بأنفسنا. لم نتعلّم كيف نهتم ببعضنا البعض، فهل سننقذ الكوكب اللعين؟!
    لقد سئمت من هذا الهراء، سئمت من يوم الأرض اللعين، سئمت من هؤلاء المدافعين عن البيئة المتغطرسين، هؤلاء الليبراليين البرجوازيين البيض!
    لا يوجد أيّ عيب في الكوكب. الكوكب بخير. بالمقارنة مع البشر، الكوكب بخير. لقد كان هنا منذ أربعة مليارات ونصف المليار سنة. ونحن هنا ما بين مائة ألف ومائتي ألف سنة. ولم ننخرط في الصناعات الثقيلة إلا منذ ما يزيد قليلا عن مائتي عام. مئتا عام، مقابل أربعة مليارات ونصف المليار عام. ومع ذلك يسيطر علينا الغرور لنعتقد أننا نشكّل تهديدا لهذه الكرة الصغيرة الجميلة الزرقاء والخضراء.
    هل تريد أن تعرف كيف حال الكوكب؟ اسأل سكّان بومبي الذين تجمّدوا في أماكنهم بسبب الرماد البركاني، كيف حال الكوكب. واسأل سكّان مكسيكو سيتي أو أرمينيا أو ١٠٠ مكان آخر مدفون تحت آلاف الأطنان من أنقاض الزلازل، إن كانوا يشعرون بأنهم يشكّلون تهديدا للكوكب هذا الأسبوع. وماذا عن سكّان كيلاويا في هاواي، الذين يبنون منازلهم بجوار بركان نشط، ثم يتساءلون عن سبب وجود حمم بركانية في غرف معيشتهم؟!
    سيبقى الكوكب هنا لفترة طويلة جدّا بعد رحيلنا، وسيشفي نفسه بنفسه. سيطهّر نفسه، لأن هذا هو ما يفعله. جورج كارلِن
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

  • بعض الناس يعتبرون ثقافة العطور ثقافة تافهة وبلا روح وليست أكثر من مجرّد آلية سهلة للرأسمالية لجذب المستهلكين من الشباب. ومع ذلك فالعطر في النهاية شأن شخصي كالملابس أو المجوهرات، لأنك تضعه والآخرون يشمّونه عليك، وبالتالي فهو جزء من كيفية تقديم أنفسنا للعالم. وبعض قصص العطور لا تخلو من ذوق وفنّ وطموح وإبداع.
    في مستهلّ عشرينات القرن الماضي، حدث لقاء بالصدفة بين غابرييل شانيل وصديقها ديمتري رومانوف ابن عمّ القيصر الروسي نيكولا الثاني وإرنست بو الكيميائي وصانع العطور المقرّب كثيرا من بلاط سانت بطرسبورغ. وبدأ الثلاثة رحلة إلى الريفييرا الفرنسية، كلّفت خلالها غابرييل شانيل إرنست بو بمشروعها الجديد، وطلبت منه صنع "عطر نسائي لا مثيل له".
    وعبّر بو عن عزمه على صنع رائحة تبتعد عن العطور النموذجية آنذاك التي كانت مستوحاة غالبا من جوهر زهرة واحدة. كانت كوكو شانيل تتطلّع إلى عطر جريء وفريد من نوعه وقادر على استحضار جوهر الأنوثة.
    وفي عام 1921، كانت تستعدّ لتقديم منتجها الجديد لقلّة مختارة في شقّتها في أحد شوارع باريس. وكان المنتج مختلفا كليّا عن المنتجات المعتادة من دار شانيل أو المتوافرة بالفعل في السوق. كان منتجا مبتكرا وغير تقليدي مثل صانعته، وكان من شأنه أن يغيّر قواعد اللعبة إلى الأبد. وسُجّل في التاريخ باسم "عطر شانيل رقم 5".
    الكيميائي الذي ركّب العطر زعم أنه استوحى فكرته من "النسيم المنعش الرائع الذي تبعثه البحيرات والأنهار تحت شمس منتصف الليل". وعندما اختبرت كوكو شانيل التركيبة الأولى من العطر، كلّفت الكيميائي بابتكار شيء أكثر جرأة وبإضافة مكوّنات أخرى مثل جوهر الياسمين وورد مايو ونجيل الهند الهايتي وخشب الصندل وزهر البرتقال وزيت النيرولي العطري وفول التونكا البرازيلي. وبالتالي، جُمع أكثر من ثمانين مكوّنا مختلفا، ما جعل شانيل رقم 5 فريدا من نوعه ولا يشبه أيّ منتج آخر في السوق في غموضه وفي استحالة فكّ شفرته.
    وقد أصبح هذا العطر رمزا للقرن العشرين، ليس فقط بسبب تركيبته الطليعية، ولكن أيضا لتصميمه المميّز: زجاجة سميكة وشفّافة تسمح برؤية اللون الذهبي للعطر وملصق أبيض مربّع بأحرف سوداء وطباعة أنيقة وخالية من الزخارف. وكان هذا متعارضا مع قواعد الموضة في ذلك الوقت، حيث كانت زجاجات العطور عادةً فخمة وبرّاقة ومزخرفة بشكل زائد عن اللزوم.
    كما صُمّمت السدّادة على شكل ماسة، وهو تفصيل مستوحى من ساحة باريسية مشهورة تبعد بضع دقائق فقط مشيا على الأقدام عن مقرّ دار شانيل آنذاك. وقرّرت غابرييل شانيل أن تطلق على العطر هذا الاسم لأنها اختارت إطلاقه في الأسواق في الخامس من مايو 1921، أي خامس يوم من الشهر الخامس من ذلك العام.
    وقد اختُبر العطر من قبل عملاء المجتمع الراقي وأفراد من دائرة المصمّم. وبيع حصريا داخل متجر شانيل. ويُعزى نجاحه الأوّلي إلى المديح الشفهي المؤثّر.
    وفي عام 1924، ارتفع الطلب عليه كثيرا لدرجة أنه اتُخذ قرار بالتحوّل إلى الإنتاج الصناعي. وفي العقود التالية، نشأ صراع قويّ بين المصمّم والشركة، إذ وجدت غابرييل شانيل نفسها تحصل على نسبة منخفضة جدّا من الأرباح التي يدرّها منتجها وحرّية محدودة في اتخاذ القرار.
    كان التأثير الحاسم الذي جعل شانيل رقم 5 أحد أكثر الأشياء رمزيةً في الثقافة الشعبية في القرن العشرين هو المقابلة التي أُجريت مع مارلين مونرو عام 1952. وقد أجابت الممثّلة عن السؤال المشئوم: ماذا تضعين وأنت في السرير؟ فقالت: ماذا أضع في السرير؟! يا له من سؤال! شانيل رقم 5 بالطبع".
    منذ ذلك الوقت، استعانت شانيل بالعديد من الوجوه الشهيرة لحملاتها الاعلانية. ومنذ عام 1959، عُرض العطر في متحف الفنّ الحديث في نيويورك. ثم ضمّنه الفنّان آندي وارهول فيما بعد في بعض لوحاته الشهيرة. كما أُعلن عن العطر في بعض المناسبات الرياضية.
    وهكذا أصبح عطر شانيل رقم 5، الذي ابتُكر عام 1921، وما يزال حتى يومنا هذا بعد أكثر من قرن من ظهوره، العطر الأكثر مبيعا في التاريخ. وحقيقة أنه بيعت منه أكثر من 100 مليون زجاجة هي شهادة على قصّة امرأة شجاعة تمكّنت، في عالم يهيمن عليه الرجال، من النضال من أجل أفكارها ورؤيتها الخاصّة وامتلكت الجرأة لاتّباع شغفها ومعرفة متى تُبحر ضدّ التيّار. مونيكا سبراندو
  • ❉ ❉ ❉

  • في أذهان معظم الناس، لا بدّ أن تكون حياة الكاتب ساحرة ومثيرة. وهي كذلك في بعض الأحيان. فكثيرا ما يلتقي الكاتب بأشخاص مميّزين، ويزور أماكن آسرة، ويفعل أشياء رائعة. لكن لا شيء من هذا يحدث عندما يكون منهمكا في عمله. عندما يكتب، يكون الكاتب أقرب إلى شخص عاديّ. يجلس، لا يقوم حتى بوظيفة الضغط على أزرار لوحة المفاتيح في معظم الأوقات، لأنه خلال معظم وقت الجلوس يكون النشاط داخليّا بالكامل، وبالتالي غير مرئي.
    دعونا نتأمّل الأرقام: أيّ كاتب سريع البديهة يستطيع كتابة 75 كلمة في الدقيقة. إذا كتبتَ بهذا المعدّل من التاسعة إلى الخامسة يوميا، مع استراحة غداء وراحة لعشر دقائق في نهاية كلّ ساعة لتدريب أصابعك، فستنتج ما يعادل روايتين من 75 ألف كلمة كلّ أسبوع.
    ومن الحقائق الملاحظة أن الكتّاب لا ينتجون عادةً روايتين أسبوعيا. بل إن معظمهم لا ينتج حتى روايتين سنويا. لذا، يتضح أن الكتابة ليست مجرّد تدوين الكلمات على الورق، بل هي نشاط آخر مختلف. واسم هذه العملية هو "التفكير".
    تكمن مشكلة مهنة تقضي فيها 95 بالمائة من وقت عملك في التفكير في أنك لا تبدو في الـ 95 بالمائة من الوقت كأنك تعمل، أو حتى تفكّر. ما يفعله الكاتب، عموما، هو مشاهدة التلفاز أو اللعب أو أخذ قيلولة. كان لديّ صديق أو اثنان من غير الكتّاب، أثارت كتابتي فضولهما لدرجة أنهما طلبا مني أن يرياني وأنا أكتب. وبعد عشر أو خمس عشرة دقيقة، هربا إلى غرفة أخرى. وللأسف، يصل الملل بالكاتب أيضا لدرجة يصبح تدوين الكلمات على الورق اختبارا لقوّة الإرادة في مواجهة الملل المزمن. ولهذا يقال إن الكتابة هي فنّ تطبيق التخمين على الواقع.
    الكتابة هي العمل الوحيد الذي أعرف أن زوجتك ستلحّ عليك لتركه. لماذا لا تفعل؟ ها أنت ذا، مستلقيا على أريكة غرفة المعيشة، تعيد قراءة قسم العقارات في الصحيفة اليومية، مع أنك لا تملك أيّ عقارات، كما أن فرص امتلاكها ضئيلة. في هذه الأثناء، غسّالة الأطباق بحاجة إلى إصلاح. كيف لزوجتك أن تعلم أنها إذا قاطعتك الآن، ستُفقدك سلسلة أفكارك التي استغرقت منك أربع ساعات لبنائها؟
    الجانب الآخر من الأمر هو أن زوجتك أحيانا تكون على حق وأنت تتسكّع فحسب. ببساطة، لا توجد طريقة خارجية لمعرفة متى يعمل الكاتب، وربّما حتى الكاتب نفسه لا يعلم. و. جونز

  • Credits
    ssense.com/en

    الأربعاء، سبتمبر 03، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه بعنوان "نيتشه: حياة حرجة"، يتناول رونالد هايمان حلما رآه الفيلسوف الألماني في منامه في وقت مبكّر من حياته. وينقل عن نيتشه قوله: سمعت موسيقى الكنيسة تعزف في جنازة. وعندما نظرت لأتحقّق مما يحدث، رأيت قبرا ينفتح فجأة ويخرج منه والدي المتوفّى ملفوفاً في كفن. ثم سارع أبي إلى الكنيسة وعاد ومعه طفل صغير يُمسك به من ذراعه.
    رأى نيتشه ذلك الحلم في الخامسة من عمره، في نهاية يناير عام 1850، بعد ستّة أشهر من وفاة والده، القسّ اللوثري، من مرض لِين الدماغ المزمن والمؤلم. ويستمرّ نيتشه في وصف ما حدث: في الصباح أخبرت امّي عن الحلم. وبعد فترة وجيزة، مرض شقيقي الصغير جوزيف فجأة وعانى من تشنّجات قوية ومات خلال بضع ساعات."
    هذا الحلم، وغيره من أحلام نيتشه التي يرويها هايمان في كتابه، سبقت ظهور فلسفة نيتشه بسنوات. وهو يعبّر عن تقدير عميق للقوّة المرعبة للا وعي والشعور المأساوي بالمصير والموت والانفتاح على رؤى من مصادر المعرفة "غير العقلانية".
    ويتحدّث هايمان عن كيف شكّلت تجارب نيتشه المبكّرة مع الأحلام الوقود الذي فجّر إبداعه الفلسفي فيما بعد. في عام 1870، وكأستاذ في جامعة بازل، كتب نيتشه في دفتر ملاحظاته بعض الأفكار عن الأحلام: في نصف الوجود، نحن –كحالمين- فنّانون. وهذا العالم النشط ضروري لنا".
    وكانت تلك الملاحظات بمثابة أساس لأوّل كتبه المنشورة "ولادة المأساة" (1871). القسم الافتتاحي من هذا الكتاب يقدّم فهما للفنّ والفلسفة والتاريخ، وكيف تؤثّر في القوّة الإبداعية للأحلام.
    كتاب هايمان ليس المكان المناسب لاستكشاف تأثير الأحلام على "ولادة المأساة" وغيره من مؤلّفات نيتشه التي كتبها فيما بعد. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن كلّاً من سيغموند فرويد وكارل يونغ كانا على علم بفلسفة نيتشه، وقد نسجا أفكاره مباشرة في نظرياتهما النفسية الجديدة. وإذا كنت تريد أن تفهم فرويد ويونغ بشكل أفضل، فعُد إلى نيتشه وأحلام طفولته.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يُعَدّ ميلتون ايڤري (1885-1965)، رمزا مهمّا في الفنّ الأمريكي. وقد عُرف بموهبته الاستثنائية في الألوان وبساطة أسلوبه. وهو أيضا مثال يُحتذى في بداياته المتأخّرة. لوحات ايڤري تؤثّر عليك بطرق غامضة. في بعضها، خفّف الألوان الزيتية إلى قوام شفّاف كالألوان المائية، بحيث ينساب اللون على السطح في بقع عائمة. وأحيانا كان يخطّ على اللون شقوقا أفقية تشبه بطريقة ما أوراق شجرة خريفية بلون الصدأ. وأحيانا تمتزج ضربات فرشاة أحد الألوان بضربات لون آخر، محدثةً رعشة خفيفة وبريقا داخليّا.
    والشاطئ بالنسبة لـ ايڤري أشبه ما يكون بلوحة قماش. فجميع الأشكال والمناشف وكراسي الاسترخاء مرتّبة كأشكال تجريدية على رمال متعدّدة الألوان. وفي النهاية، تتلاشى هذه الأشكال تماما ويصبح شاطئ البحر راية من أشرطة أفقية صفراء وزرقاء وبرتقالية مشعّة. وليس من الصعب إيجاد تشابه في هذه اللوحات مع مستطيلات روثكو المفعمة بالبهجة.
    لكن ايڤري لم يخترع شيئا لم يرَه. فمهما كانت لوحاته على حافّة التجريد، فهي دائما مجازية: أصدقاء يقرأون، يتحدّثون، يأكلون الخ. كانت شقّته دائما ما تعجّ بزملائه الرسّامين، مع أنه يقال إنه كان يجلس بهدوء بعيدا عنهم مع دفتر رسمه.
    وقد غادر الفنّان وعائلته أمريكا مرّة واحدة فقط، لزيارة أوروبّا عام ١٩٥٢. واللوحات التي استلهمها من تلك الرحلة تتماوج ألوانها الهادئة من البنفسجي والرمادي والأخضر الباهت وتتوازن أشكالها في تركيبات غاية في الأناقة.
    كان ايڤري يردّد دائما: لماذا تتحدّث وأنت قادر على الرسم؟" وتبدو هذه العبارة أشبه بسخرية عابرة وطريقة ذكيّة لإسكات الحضور. كان يؤمن بأن لوحاته تعبّر عن كلّ ما يحتاج إلى قوله، وانتهى الأمر.
    تاريخ الفنّ عبارة عن ساحة معركة بين الأساليب والتيّارات المختلفة. وقد انعكس هذا في فنّ القرن العشرين، من حيث اللون والحجم والعمق والإيهام والسرد، وأصبح فنّا أدبيّا بقدر ما هو جمالي. أما الأسلوب المقابل فيقوم على اللون، كما أنه روحاني بطريقة مختلفة ومتجذّر مباشرةً في الرمزية والحسّ المتزامن وفنّ تسعينات القرن التاسع عشر. هنا تسود وحدة الرسم ويتفوّق التناغم المتداخل بين الشكل واللون على الموضوع. واللوحة نفسها تصبح الموضوع. وكرسّام ألوان، أثبت ايڤري أنه شخصية محورية في فنّ القرن العشرين.
    في عام ١٩٢٦، انتقل الرسّام إلى مجمّع فنّي في مانهاتن. وكان مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا من بين الزوّار المألوفين للمبنى. هنا كان ايڤري يجهّز لوحاته بنفسه ويتعلّم تخفيف أصباغه. وقيل إنه كانت لديه قدرة على جعل الطلاء يدوم لفترة أطول من أيّ شخص آخر. وقد رحّب ايڤري وعائلته بانتظام بفنّانين آخرين في شقّتهم، بمن فيهم روثكو. كان الأخير أصغر منه بـ 18 عاما، وقد استلهم من أعمال ايڤري مباشرة في أعماله.
    وبينما كان روثكو يتحدّث طوال الليل، كان ميلتون يستمع ويرسم ضيوفه. لكنه كان أكثر ثرثرة عندما كان يقرأ بصوت عال. وكان هذا أسلوب عائلته الترفيهي الشائع. وكانت قائمة قراءاتهم تشمل أعمال ميلفيل وبروست وثورو وستيفنز وإليوت.
    ولم يكن من عادة ايڤري أن يناقش أعماله، لكن النقّاد لم يتردّدوا في الحديث عنها. وقد تزايد الحديث عن اسمه في الصحف بدءا من أواخر الخمسينات وحتى وفاته عام ١٩٦٥. وبالنسبة للذين كانوا ينتظرون منه "شيئا كبيرا قادما"، كان ايڤري منفصلا عن الواقع بشكل مزمن. وقد وصل إلى نيويورك بما يمكن تسميته بـ "أسلوب أوروبّي للحداثة" أشبه بـ"ما بعد الانطباعية" الممزوجة بمدرسة نهر هدسون.
    وفي مطلع القرن الماضي، أصبح ايڤري ملوِّنا عندما كان القليلون يرغبون في الألوان. وفي الثلاثينات، صار انطباعيا ضبابيّا عندما كان العالم يبحث عن تفاصيل دقيقة. وفي الخمسينات، كان تجسيديا عندما كان التجريد الشامل هو الموضة السائدة.
    كتب صحفي آنذاك واصفاً عمله: إنه ثمرة موهبة رائعة وطبيعية وإن لم يكن من السهل تعريفها. إنه شاعر وملوّن ومزخرف، وهو متميّز جدّا في كلّ هذه التنويعات. ومع ذلك أفترض أن كونه شاعرا سيكون في النهاية أقوى ادّعاءاته".
    وكتب آخر: إن تمسّك ايفري، موسما بعد موسم، بنظرياته الغامضة، أو المزعجة بعض الشيء، حول الرسم، يُشعر المرء بأنه صادق تماما. ولا بدّ أن هذه الأشكال الغريبة، والمرعبة أحيانا، في أعماله تحمل في طيّاتها شيئا واضحا بالنسبة له".
    لكن الضرر الحقيقيّ الذي لحق بصورة ايڤري جاء من مقارنته بماتيس. فقد اعتبره العديد من النقّاد نسخة أخرى من المعلّم الفرنسي. وكان على دراية بماتيس بالتأكيد. وكتب أحد النقّاد يقول: لقد أراد ماتيس أن يصنع فنّا مريحا كالكرسي المريح، وقد نجح في ذلك. أما ماتيس الأمريكي "يقصد ايڤري" فإن فنّه أقرب إلى السباحة في المحيط قبالة ولاية مين".
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    كالصيادلة، نحضّر خلطات جديدة كلّ يوم، نسكب من إناء إلى آخر. وكما نهبَ الرومان القدماء جميع مدن العالم ليشيّدوا "روماهم"، ننتزع نحن صفوة عقول الآخرين ونقطف أزهار حدائقهم المزروعة لنشيّد مزارعنا العقيمة. ما زلنا ننسج الشبكة نفسها، ونعيد لفّ الخيط نفسه مرارا وتكرارا. ر. بيرتون

    يموت بعض الناس في سنّ الخامسة والعشرين ولا يُدفنون إلا في الخامسة والسبعين. بنجامين فرانكلين

    يتحدّث بعض الناس عن الهجرة والنزوح وما إلى ذلك. وكلّ هذا هراء. كلّنا بشر، كلّنا ثدييات، كلّنا صخور ونباتات وأنهار. الحدود اللعينة مصدر إزعاج كبير. مجهول

    لا ينبغي لأحد أن يكون مجنونا لدرجة اختيار الحرب في زمن السلم. ففي أوقات السلم، يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب، فيدفن الآباء أبناءهم. هيرودوت

    الحياة ليست أمراً سهلاً. لا يمكنك أن تعيشها دون أن تقع في الإحباط والسخرية، إلا إذا كانت أمامك فكرة عظيمة ترفعك فوق البؤس الشخصي وفوق الضعف وفوق كلّ أنواع الغدر والدناءة. ليون تروتسكي

    يمكن لكلّ شخص أن يخلق هدوءه الخاص بشروطه الخاصّة، بعيدا عن تدخّل الكون بأكمله. ما زال الأمر لا يعني لي شيئا أن الأرض والنظام الشمسي يندفعان عبر الفضاء بسرعة 60 ميلا في الثانية، قادمَين من مكان لا أحد يعرف أين وذاهبَين إلى مكان لا يعرفه أحد، طالما أنني ما زلت أستطيع الجلوس في حديقتي وأستمع إلى طنين النحل في فترة ما بعد الظهيرة في الصيف. مجهول

    حُفر تاريخ الإنسان على صخور مصر وخُتم على حجارة آشور ودُفن في رخام البارثينون. وهو يرتفع أمامنا بحضور مهيب في أقواس الكولوسيوم، ويختبئ ككنز دفين وسط غبار المحفوظات والأديرة، ويتجسّد في جميع خيوط الأديان والأعراق والعائلات. تشارلز نيوتن

  • Credits
    moma.org
    theguardian.com

    الاثنين، سبتمبر 01، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • وصل ناسكان مسافران إلى نهر حيث التقيا بامرأة. وخوفا من أن يجرفها التيّار، سألتهما إن كان بإمكانهما حملها كي تعبر النهر. فتردّد أحدهما، لكن الآخر وافق وحملها على كتفيه وعبر بها النهر ثم أنزلها على الضفّة الأخرى. وشكرته المرأة على صنيعه وانصرفت.
    وبينما واصل الناسكان طريقهما لساعات، كان أحدهما غارقا في التفكير والهم. ولم يستطع كتم صمته فقال لرفيقه: يا أخي، تُعلّمنا تربيتنا الروحية أن نتجنّب أيّ احتكاك بالنساء، لكنك حملت تلك المرأة على كتفك!" فأجابه الناسك الثاني: لقد حملتها لساعة ثم وضعتها على الجانب الآخر من النهر. لماذا ما تزال أنت تحملها بعد كلّ هذه الساعات"؟!
    هذه القصّة على بساطتها تحمل رسالة جميلة عن عيش اللحظة. كم مرّة حملنا آلام الماضي، ومعها الشعور بالاستياء، بينما الشخص الوحيد الذي نؤذيه حقًا هو أنفسنا. جميعنا نمرّ بأوقات في حياتنا، حيث يقول لنا الآخرون كلاما غير لائق أو يتصرّفون معنا بطريقة مؤذية. والتوقّف عند هذا كثيرا يُثقل كاهلنا ويستنزف طاقاتنا. والأفضل أن نتخلّى عمّا لم يعد يفيدنا ونركّز على اللحظة الراهنة، لأن "الآن" هو كلّ ما نملكه.
    لقد خالفَ أحد الناسكَين القواعد، ولكن لسبب وجيه. وبمجرّد أن أنجز غايته، وضع المرأة أرضاً وواصل طريقه ولم يُعِر الأمر اهتماما. بينما تذكّر الآخر تصرّف زميله بعد أن أصبح فعلا من الماضي، مع أن الماضي حدث وانتهى ولا يمكن تغييره، ولا فائدة من تذكّره إلا للتعلّم من تجاربه. الحياة تمضي بنا في لمح البصر. وبدلا من الغرق في الماضي واسترجاعه، يجب ممارسة عيش اللحظة الحاضرة حيث نجد السلام والرضا.
    لا بأس من مخالفة القواعد من أجل قضية نبيلة، كما فعل الناسك مع المرأة. المشكلة أن العقل البشري بارع جدّا في عادة الانغماس في الماضي. إنه يعشق التمسّك بالمظالم والجروح القديمة، حتى وإن كان ذلك يسبّب المزيد من المعاناة ويستنزف طاقاتنا ويُضعِف قدرتنا على السعادة في الحاضر.
    هذه القصّة تُظهر أيضا عدم وجود مطْلَقات حقيقية في الحياة، وأن ما يُعتبر فعلا سيّئا قد لا يكون كذلك. وهي تذكّرنا بقصّة الرجل الذي رآه الناس وهو يدفع شخصا مسنّاً بعنف. لكن لم يرَ أحد نجاة المسنّ بأعجوبة من سيّارة مسرعة. أحيانا لا نرى إلا من زاوية واحدة.
    أيضا تعلّمنا القصّة أنه لا يجب أن نُثقل على أنفسنا بأحكام الآخرين الذين يضغطون على خياراتنا. في الحياة الواقعية، الثقة بتصرّفاتنا دون الحاجة إلى موافقة الآخرين أو تدخّلهم تُحرّرنا. ومثل الناسك الإيجابي، فإن اتخاذ خيارات تتوافق مع قيمنا والتخلّي عن طلب موافقة أو استحسان الاخرين باستمرار أمر محبّذ وأساسي.
    كما تشجّعنا القصّة على التخلّص من الأعباء غير الضرورية والتركيز على ما هو أمامنا والتصرّف برحمة وفطنة. ويجب أن نفعل الأشياء التي تبقينا متقدّمين وتمكّننا من توظيف طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي في حياتنا.
    أحيانا قد لا يفهم الآخرون سبب تصرّفك وقد يشكّكون في اختياراتك. لكن إذا شعرت أن الرحمة أمر صائب فلا بأس، حتى لو لم يفهمها الآخرون.
    والآن ما الشيء الذي لا تزال متمسّكا به والذي من الأفضل تركه "على الجانب الآخر من النهر"؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • "نساء بملابس زرقاء" إسم لوحة جدارية مينوية مشهورة اكتُشفت في قصر كنوسوس بجزيرة كريت، ويعود تاريخها إلى حوالي عام 1450 قبل الميلاد.
    تصوّر اللوحة نساءً يرتدين ملابس زرقاء أنيقة، ويشاركن في مناسبة طقوسية أو اجتماعية. وهن يظهرن بتسريحات شعر متقنة ومجوهرات فاخرة ومرصّعة ببذخ، وملابس زرقاء على خلفية مفعمة بالحياة، وكلّ هذه العناصر تقدّم رؤى قيّمة حول الجماليات والأزياء والبنية الاجتماعية للثقافة الإيجية القديمة وتبرز المهارات الفنّية المتطورة للمينويين.
    كما تسلّط الجدارية الضوء على أهمية المرأة في المجتمع المينوي واحتمال أنها ربّما لعبت أدوارا مهمّة في الأنشطة الدينية والاجتماعية. ويؤشّر استخدام الألوان والتفاصيل الطبيعية في اللوحة إلى مستوى عالٍ من الرقي الفنّي، وهو سمة مميّزة لتلك الحضارة. والجدارية تُعدّ نموذجا ممتازا لفنّ الجداريات الرائع الذي كان يزيّن قصور أهالي كريت القدماء.
    ويعود الفضل في ترميم هذه اللوحة وغيرها من جداريات كنوسوس الى خبير يُدعى آرثر إيفانز، الذي قيل إنه بذل جهودا كبيرة لإعادتها الى الحياة، رغم أن ما تبقّى من اللوحات الأصلية لا يتجاوز أحيانا بضع بوصات مربّعة، أما الباقي فهو إعادة بناء وثمرة لخيال مبدع.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ نيتشه محرِّض مجنون كَرّسَت آراؤه المستفزّة مبادئ الفاشية والموت والدمار في العالم. ومع ذلك ما يزال قطيعُه حيّا يُرزق وجنونه يثير العالم الحديث. كما لا يزال الجهل السياسي والفلسفي والروحي هو القناعة التي تؤجّج الاضطرابات في العالم.
    رجل لم تُجدِ ثرثرته الجرمانية المتأمّلة نفعا لأحد، بما في ذلك هو نفسه. وتستطيع النساء أن يدركن مرض الرجل. إذ لم يجد هذا "المفكّر العظيم" امرأة واحدة توافق على الزواج منه. هذا كلّ ما في الأمر. تبّاً لنيتشه ولأقواله! س. اسيري

    ○ مع أن العالم مليء بالمعاناة، إلا أنه مليء أيضا بالتغلّب عليها. لذا لا يرتكز تفاؤلي على غياب الشر، بل على إيمان راسخ بغلَبة الخير، وسعي دائم للتعاون معه حتى ينتصر. أحاول جاهدةً تعزيز القوّة التي منحني إيّاها الله لأرى الأفضل في كلّ شيء وفي كلّ شخص، وأجعل هذا الأفضل جزءا من حياتي. هيلين كيلر

    ○ لماذا تحبّ زوجتك؟ لأن أنفها يتنفّس هواءَ عالم أعرفه، لذا أحبّ ذلك الأنف. ولأن أذنيها تسمعان موسيقى قد أغنّيها طوال الليل، لذا أحبّ أذنيها. ولأن عينيها تسرّان بفصول الأرض، ولذلك أحبّ تلكما العينين. ولأن لسانها يعرف السفرجل والخوخ والتوت البرّي والنعناع والليمون الحامض، لذا أحبّ سماعه يتحدّث. ولأنّ جسدها يعرف الحرّ والبرد والتعب، أعرف النار والثلج والألم. راي برادبري

    ○ لم يهيّئني شيء، لا كتب ولا معلّمون ولا حتى والداي. سمعت ألف قصّة، لكن لم يوصف لي هذا المكان من قبل. فهمته عندما رأيته. يسمّيه البعض الصحراء الأمريكية، ويسمّيه آخرون السهول الكبرى. لكن هذه العبارات ابتكرها أساتذة جامعات محاطون بوهم النظام وخيال الصواب والخطأ.
    ولكي تعرف المكان، يتعيّن عليك أن تمشي فيه وتنزف في ترابه وتغرق في أنهاره. حينها سيتضح لك معنى اسمه. إنه جحيم، مع شياطين في كلّ مكان. لكن إن كان هذا جحيما وأنا فيه، فلا بدّ أنني شيطان أيضا، وأنا ميّت بالفعل. السهول ليست لبناء مسكن أو مأوى، فمواردها محدودة. السهول للمتشرّدين والرحّالة ورعاة البقر. مسكنهم سرج، والسماء سقفهم، والأرض لحافهم. من حوارات فيلم 1883

    ○ هل تعلم أن من يخضعون لعملية زرع نخاع العظم تُدمَّر خلايا نخاعهم العظمي وتُستبدل بخلايا المتبرّعين. وفي معظم الحالات، يحتفظون ببعض نخاع عظامهم، أي أن خلايا دمهم تصبح مزيجا من الحمض النووي الخاص بهم وحمض المتبرّع. وفي الحالات الأكثر تطرّفا، تحتوي جميع خلايا دمهم على الحمض النووي الخاص بالمتبرّع فقط. ليس هذا فحسب، بل حتى عند خضوعك لعملية نقل دم، تتحوّل مؤقّتا إلى كائن بشري هجين! ك. ماكفادن

    ○ شكوكية ديفيد هيوم هي من النوع المميت، لأنها جذرية. فنحن، برأيه، لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الشمس ستشرق غدا أم لا، وما إذا كان العالم الخارجي موجودا بالفعل، وما إذا كانت "أنانا" أو ذواتنا لها هويّة. وفي نفس الوقت، فإن شكّه عقيم، لأن جميع هذه الاعتبارات نظرية. فبمجرّد أن يغادر الفيلسوف مكتبه، يصبح متأكّدا من الدرَج الذي ينزله، ويرتّب ملابسه بثقة لليوم التالي. يبدو أن الطبيعة فينا "معقولة" أكثر من عقولنا. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ إن سكّان الجبال، الأكثر نقاءً أخلاقيا، هم أقوى أجسادا ويميلون الى "مضاعفة" الحروف الساكنة ثلاث مرّات. أما سكّان السهول، فبالإضافة إلى كونهم فاسدين أخلاقيّا، فإنهم أيضا منحطّون جسديّا و"يشوّهون" الحروف الساكنة. أنطونيو غرامشي

  • Credits
    metmuseum.org

    السبت، أغسطس 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • هذا البورتريه رسمته الفنّانة المكسيكية فريدا كالو لنفسها عام 1940، وأرادت من خلاله إبراز موضوع الهوية والمشاعر المعقّدة. وفيه تَظهر الرسّامة بشعر قصير بعد أن قصّت شعرها الطويل الذي يظهر متناثرا حولها. الشعر المقصوص يرمز للتمرّد والاستقلالية وتوكيد الفردانية وتحدّي أدوار الجندر التقليدية.
    كما أن الرسّامة ترتدي بدلة وربطة عنق رجالية، بدلاً من الفستان المكسيكي التراثي الذي اعتادت أن تظهر به. وفي هذا أيضا تلميح الى هويّتها الخاصّة، المركّبة والمتعدّدة الأوجه، ورفضها للأعراف المجتمعية.
    في الصورة أيضا، تحمل الفنّانة مقصّا في يد وخصلة شعر باليد الأخرى. وبتناولها المقصّ وقصّ شعرها، تؤكّد استقلاليتها ورفضها لتوقّعات المجتمع التي فُرضت عليها كامرأة. أي أن للمقصّ في اللوحة رمزية قويّة، اذ يجسّد قدرة كالو على التصرّف وتحكّمها بجسدها وهويّتها.
    كانت كالو قد قصّت شعرها بعد شهر من طلاقها من زوجها الرسّام دييغو ريفيرا، ثم رسمت لنفسها هذه اللوحة بعد ذلك بوقت قصير. وفي أعلى الصورة، تظهر نوتة موسيقية مصحوبة بكلمات من أغنية شعبية مكسيكية تقول: انظر، إذا كنتُ أحببتك فذلك بسبب شعرك. الآن وقد أصبحت بلا شعر، لم أعد أحبّك".
  • ❉ ❉ ❉

  • "ضوء القمر الساطع يضيء واجهة السرير
    فيبدو كما لو كان صقيعا على الأرض.
    أنظر إلى الأعلى فأرى القمر اللامع في السماء
    وأنظر إلى الأسفل فأملأ ذهني بذكريات مدينتي".
    قصيدة "لي باي" هذه عنوانها "خواطر في ليل صامت"، وهي من أشهر القصائد الصينية التي كُتبت في عهد سلالة تانغ. والقصيدة قصيرة كما هو واضح ولا تستخدم سوى كلمات قليلة، لكنها مفعمة بالشغف والحنين .وما تزال تدرَّس كجزء من مناهج الأدب الصيني، وكواحدة من أقدم أعمال الشعر الصيني نظرا لبساطتها النسبية واستخدامها المباشر والفعّال للصور الشعرية الوثيقة الصلة بالقيم الكونفوشية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • أُعجب عالم الأنثروبولوجيا جيمس موني بمركزية الماء في عالم الشيروكي. وكان قد أمضى في نهاية القرن التاسع عشر موسما عاش فيه مع بعض الأمريكيين الأصليين في جبال سموكي "الدخان" العظيمة بولاية كارولاينا الشمالية.
    وسجّل موني في دراسة له كيف أن الشيروكي تصوّروا الأرض على أنها "جزيرة كبيرة تطفو فوق بحر من الماء، معلّقة من كلّ من الجهات الأربع الأصلية بحبل يتدلّى من قبّة السماء. وعندما يشيخ العالم ويتآكل، سيموت الناس وتنقطع الحبال، فتغرق الأرض في لجّة المحيط ويعود كلّ شيء إلى الماء".
    كما كتب عن الأهمية الروحية التي يوليها الشيروكي لأنهارهم وجداولهم وبِركهم المحلية وقال إنه كان يذهب مع مجموعة منهم كلّ صباح عند بزوغ الفجر إلى جدول متدفّق، حيث يواجهون شروق الشمس ويغمرون أنفسهم في الماء الجاري، مجسّدين نوعا من الولادة الجديدة. واستنتج أن الذهاب إلى الماء "جزء من طقس لنيل العمر المديد وكسب ودّ النساء والشفاء من مرض مهلك وجلب الرخاء للعائلة مع كلّ عودة للقمر الجديد".
    لعدّة قرون، قبل تهجير شعب الشيروكي قسرا من أوطانهم الأصلية بدءا من عام 1838 خلال معركة درب الدموع، ارتبط نهر تينيسي ارتباطا وثيقا بالشيروكي، لدرجة أن المستوطنين الإنغليز والإسبان والفرنسيين غالبا ما كانوا يشيرون إليه ببساطة باسم "نهر الشيروكي". ومفردة الشيروكي التي تعني النهر، أو "الرجل الطويل"، تستحضر شيئا من الجوهر المقدّس لذلك النهر وغيره من الأنهار التي اعتبرها الشيروكي كيانات حيّة تتمتّع بشخصيّات وسمات فريدة.
    وبينما رأى المستوطنون الأوربّيون في نهر تينيسي مصدرا للفرص الاقتصادية، عارض شعب الشيروكي أيّ تحويل كبير لمجرى النهر أو بناء سدّ فوقه. ومن وجهة نظرهم "فإن ما تفعله عندما تُغيّر مجرى النهر هو تدميره. فالأنهار التي لا تتدفّق وتشكّل بِرَكاً راكدة كبيرة من المياه، كما هو الحال في السدود، تُعتبر مياها ميّتة. وعندها يفقد النهر شخصيته وأهميّته الروحية والشعائرية".
    اليوم، في جبال سموكي، حيث أمضى جيمس موني فترة مع قبيلة شيروكي الشرقية، وحيث فرّ عدد كبير منهم في عهد الرئيس جاكسون لتجنّب التهجير، تتدفّق عشرات الأميال من الجداول المحمية بمحاذاة مناطق غابات هادئة، مارّةً بوسط مدينة شيروكي، بينما تُبذل جهود لتجديد جداول المياه الجبلية.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ إن إضفاء طابع رومانسي على العالم هو ما يجعلنا ندرك سحره وغموضه وعجائبه. ويجب أن ندرّب حواسّنا على رؤية العادي على أنه غير عادي، والمألوف على أنه غريب، والدنيوي على أنه مقدّس، والمحدود على أنه لانهائي. نوفاليس

    ○ لا تحمل معك أثناء ترحالك إلا ما تستطيع حمله دائما: لغات أخرى ومعرفة بالبلدان والشعوب. ولتكن ذكرياتك حقيبة سفرك. ألكسندر سولجينتسين

    ○ قصّة بيرسيوس اليونانية الكلاسيكية هي مظهر مبكّر لحكاية شعبية واسعة الانتشار، صنّفها فلكلوريو القرن العشرين تحت اسم "قاتل التنانين". هل كان هناك بيرسيوس بدائي أنقذ عذراء من تهديد استثنائي، من نوع من التضحية البشرية مثلا؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن ليس من الصعب تخيّل مدى قدَم الحادثة البدائية عن قاتل التنانين.
    فهي منتشرة في ثقافات كثيرة، ولا يمكن تصوّر وجود صلة أدبية بينها وبين اليونان القديمة، حيث نشأت أسطورة بيرسيوس. ومع ذلك، فإن المجموعة المشتركة من الزخارف في النسخ المتعدّدة من الأسطورة تُظهر بوضوح نوعا من العلاقة الوراثية أو الترابط التاريخي. هل نحتاج إلى العودة آلاف السنين قبل أوّل تسجيل لقصّة بيرسيوس للعثور على بيرسيوس البدائي هذا؟ من الأسهل بكثير أن نفهم أن الحكاية الشعبية انتشرت ببساطة وأن أحد مظاهرها كان في اليونان القديمة. ر. أدامز

    ○ لا يرى أيّ فنّان عظيم الأشياء على حقيقتها. لو فعل ذلك، لتوقّف عن كونه فنّانا. مارك توين

    ○ كانوا يُلقّبونه بـ بيتر النَسيان "أي كثير النسيان". في إحدى المرّات، وصل إلى المعهد الموسيقي ولم يجد التشيللو الذي كان يحمله. قال بابتسامة عريضة: ربّما ضاع في الطريق. مشى عائدا إلى غرفته. ولم يجد التشيللو هناك. ثم تذكّر لفافة الخبز التي اشتراها من المخبز المجاور. وكان التشيللو هناك مع الرغيف أيضا. قال بيتر: لديّ ذاكرة قويّة. وأضاف اقتباسا من فيلسوف مشهور: الذاكرة هي القدرة على النسيان". وبنفس الذاكرة، نسي أيضا الأسماء والمواعيد والوعود. نسي المكان الذي ركن فيه سيارته، فاضطرّوا للبحث عنها في نصف المدينة في منتصف الليل. كان ينتظر ساعتين مبكّرا في المطعم الخطأ، وللمرأة الخطأ. وقال إن النسيان هو شرط السعادة. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ أتركْ بابك الأمامي والخلفي مفتوحين. دع الأفكار تأتي وتذهب. فقط لا تقدّم لها الشاي! شونريو سوزوكي

    ○ ما الحياة سوى رقصة من الأشكال الزائلة. أليس كلّ شيء في تغيّر دائم: أوراق الأشجار في الحديقة، ضوء غرفتك وأنت تقرأ هذه الكلمات، الفصول، الطقس، هذا الوقت من اليوم، الأشخاص الذين يمرّون بك في الشارع. وماذا عنّا؟ ألا يبدو كلّ ما فعلناه في الماضي حلما الآن؟ الأصدقاء الذين نشأنا معهم، أماكن الطفولة، تلك الآراء والأفكار التي كنّا نتمسّك بها بشغف مطلق ثم تركناها الآن خلفنا؟ الآن، في هذه اللحظة، تبدو لك قراءة هذا الأسطر حقيقية تماما. لكن حتى هذه الأسطر ستصبح قريبا مجرّد ذكرى. سوجال رينوشي

    ○ إهتمّ بالحياة كما تراها، بالناس والأشياء، بالأدب والموسيقى. فالعالم ثريّ جدّا وينبض بالكنوز الغنيّة وبالأرواح الجميلة والأشخاص المثيرين للاهتمام. هنري ميلر

    ○ قصّة دراكيولا في الثقافة الحديثة كثيرا ما تهيمن عليها مشاهد عنف مروّعة ومعارك ملحمية بين وحوش ذات أنياب حادّة وصيّادين يحملون أوتادا. لكن مصّاص دماء رواية "برام ستوكر" يتميّز ببراعة مقلقة؛ إنه أقرب إلى "مخلّص من الفساد" منه إلى جزّار ملطّخ بالدماء. ولعلّ أفضل تفسير لشخصية "دراكيولا ستوكر" هو أنه مرض خبيث يسلب من يحبّ صفاته الفاضلة ويستبدلها خلسة بشرّ خالص لا يموت.
    في النصف الأوّل من الرواية، يجسّد ستوكر ببراعة الحزن والصدمة المرتبطين بمشاهدة هذه العملية المخيفة والشعور بالعجز عن تغييرها. وفي النصف الثاني، يقدّم عملا جديرا بالثناء بنفس القدر، مُظهرا كيف يمكن للشجعان أن يتّحدوا ويتكاتفوا في أعقاب الخسارة لمنع المزيد من المآسي. مايلز ريمار

    ○ الطريقة الوحيدة للتعامل مع عالم غير حرّ هي أن تصبح حرّا تماما، لدرجة أن يصبح وجودك نفسه فعل تمرّد. ألبير كامو

    ○ لا تبحث عن النجاح، فكلّما طاردته وجعلته هدفا، أضعتَه. فالنجاح كالسعادة، لا يُسعى إليه بل يجب أن يأتي من تلقاء نفسه. وهو لا يأتي إلا كأثر جانبي غير مقصود لتفاني المرء في سبيل قضية أعظم منه. وينطبق الأمر نفسه على النجاح: دعه يحدث دون أن تبالي به. أريدك أن تنصت لما يمليه عليك ضميرك وأن تنفّذه على أكمل وجه. عندها ستدرك أن النجاح سيلاحقك على المدى البعيد، لأنك لم تعد تفكّر فيه. فيكتور فرانكل

  • Credits
    chinahighlights.com
    fridakahlo.org

    الخميس، أغسطس 28، 2025

    نهاية العالم والحلم الأمريكي


    تعجّ الثقافة الشعبية الأمريكية بنبوءات عن يوم القيامة وسيناريوهات نهاية العالم وكأننا نعيش في أواخر العصور الوسطى. ووفقا للسينما والتلفزيون، فإن مصّاصي الدماء والمستذئبين والزومبي والكويكبات والغزاة القادمين من الفضاء سيقتحمون الأراضي الأمريكية يوماً ما.
    في المسلسل التلفزيوني "ثورة"، يتسبّب حدث غامض في توقّف جميع الأجهزة الكهربائية حول العالم عن العمل. ويؤدّي هذا الى نتائج كارثية تتضمّن خسائر فادحة في الأرواح، مثل تحطّم الطائرات على الأرض، وتفكّك جميع المؤسّسات الاجتماعية، وإجبار الناس على الاعتماد فقط على مهاراتهم الشخصية للبقاء على قيد الحياة، وانهيار الحكومات في جميع أنحاء العالم.
    كما يؤدّي الحادث الى انقسام الولايات المتحدة إلى عدد من الوحدات السياسية الأصغر، في تعارض واضح مع كلّ ما تعلّمه الأمريكيون عن "أمّة واحدة غير قابلة للتفكّك". وجوهر سيناريوهات نهاية العالم هذه هو أن تتقلّص الحكومة أو تختفي تماما. ويبدو أن تلك المسلسلات تعكس شعورا بأن الحكومة الأمريكية قد تضخّمت أكثر من اللازم وباتت بعيدة جدّا عن هموم المواطنين العاديين ولم تعد تستجيب لاحتياجاتهم ومطالبهم.
    وفي الحالات التي يتسبّب فيها الحدث المروّع المتخيَّل حدوثه بحلّ الحكومات، فإن هذه المسلسلات تعيد الناس فعليّا إلى ما يسمّيه المنظّرون السياسيون حالة الطبيعة. وكما لو كنّا نقرأ توماس هوبز أو جون لوك أو جان جاك روسو، نرى كيف يشكّل الناس عقدا اجتماعيا. ولا يعود الجمهور محصورا في المؤسّسات القائمة بالفعل، بل إنه يتمكّن من إعادة تقييمها ومعرفة ما إذا كان يحتاج إليها حقّا، بل قد يرى نفسه أفضل حالا في ظلّ ترتيبات أخرى أو ربّما بدون حكومة على الإطلاق.
    في المسلسل التلفزيوني "السماوات المتساقطة"، تدمّر كائنات فضائية غازية الحضارة كما نعرفها، وتقضي على الحكومات في جميع أنحاء العالم. تدور أحداث المسلسل في بوسطن وما حولها، ويُعقد اجتماع في بلدة نيو إنغلاند، حيث تتاح للشخصيات فرصة مناقشة شؤونهم الخاصّة ومسارات العمل في غياب أيّ سلطة سياسية عليا. وقد تُركت الشخصيات لوحدها، إذ دمّرت الكائنات الفضائية، في ضربة قاصمة للحضارة، دوائر الاتصال، وخاصّة الإنترنت الذي يُعدّ مثالا واضحا على التقدّم التكنولوجي الذي طالما لعب دورا مهمّا في صياغة الحلم الأمريكي.
    وبطبيعة الحال تفتقد شخصيات "السماوات المتساقطة" شبكة الإنترنت، لكنها تتعلّم العيش بدونها وتستحدث أساليب اتصال أكثر حميمية، وربّما أكثر إرضاءً. ويعدّ فقدان التكنولوجيا الحديثة سمة مميّزة لجميع هذه السيناريوهات الدرامية المروّعة، تعكس علاقة الحبّ والكراهية التي تربط الأمريكيين بآلاتهم وأجهزتهم. وجميع هذه المسلسلات تتبنّى موقفا مناقضا للحداثة بشكل عام، وربّما خيبة أمل حقيقية منها، وإحساسا بأن كلّ التقدّم التكنولوجي الذي يفخر به الامريكيون لم يجعلهم أكثر سعادةً، بل على العكس من ذلك، جعلتهم التكنولوجيا بائسين بنزعها الصفة الشخصية عن علاقاتهم وبتقييدها لحرّياتهم.
    ومن الواضح أن شخصيات هذا المسلسل نادمة على فقدان مزايا الحضارة الحديثة. ويتمنّى الكثير منهم لو كان ما يزال بإمكانهم الوصول إلى التكنولوجيا الطبّية المتقدّمة التي كانت متاحة في المستشفيات الكبيرة والرئيسية.
    وفي المسلسل تفقد الشخصيات كلّ ما كان يشكّل الحلم الأمريكي، مثل جميع ممتلكاتهم الماديّة ووضعهم الاجتماعي ووظائفهم، وبالطبع منازلهم المرفّهة. ولكن هذا يعني أنه يمكنهم الآن التركيز على بعضهم البعض. فلم تعد الوظائف تشتّت انتباههم وتلهيهم عن التزاماتهم العائلية. وبالنسبة للكبار، أصبحت الأبوّة والأمومة وظيفتهم بدوام كامل. وبعد أن كانوا في الماضي معتادين على أن يضعوا حياتهم المهنية قبل حياتهم العائلية، أصبحوا الآن مستعدّين للتضحية بأيّ شيء من أجل أطفالهم.
    لقد فقدت الشخصيات كلّ ما كان يجعل حياتهم تبدو جديرة بالاهتمام، لكنهم اكتشفوا أن عناصر الحلم الأمريكي تلك كانت مُلهيات، وفي أسوأ الأحوال عقبات أمام سعادتهم الحقيقية وشعورهم بالإنجاز. وبعد تحرّرهم من الهموم الماديّة والمؤسّسات الرسمية، أُتيحت لهم الآن فرصة البحث عمّا يجعل الحياة ذات معنى حقيقي، وهو التفاني للأصدقاء وخاصّة للعائلة.
    وفي المسلسل التلفزيوني "الموتى السائرون"، ينتشر وباء الزومبي بسرعة في جميع أنحاء العالم، ما يؤدّي إلى إبادة جميع السكّان، باستثناء بقايا من البشر. وفي كلّ سيناريوهات نهاية العالم هذه، فإن أيّ شيء يؤدّي إلى نهاية العالم يؤثر على الأرض بأكملها بشكل أو بآخر في وقت واحد. وما يزعج الناس هو الشعور بأنهم يفقدون السيطرة على حياتهم في عالم من المؤسّسات التي لا تتفاعل مع الناس ولا تهتمّ بأحد. وحقيقة أن كلّ هذا يحدث على نطاق عالمي هو أمر مثير للقلق بشكل خاص.
    في هذا المسلسل أيضا يصبح الزومبي رمزا لقوّة العولمة التي تُذيب جميع الفروق الثقافية. ويفقد الزومبي فرديّتهم وحرّية إرادتهم وكلّ ما يجعلهم بشرا. ومن خلال عقلية القطيع التي يتّصفون بها، يصبحون تحديدا نوع البشر الذين تسعى المؤسّسات لإنتاجهم ويمثّلون الرعايا المستسلمين الذين ترغب بهم الحكومات سرّا. وتحويل الناس إلى زومبي هو صورة قويّة لما تحاول الحكومات فعله بمواطنيها، وهو خلق مجتمع متجانس وموحّد عاجز عن التصرّف باستقلالية.
    ومن خلال تجريد كلّ المؤسّسات التي تشكّل الحضارة الحديثة، يقدّم لنا مسلسل "الموتى السائرون" ما كان الغرب يقدّمه في الثقافة الشعبية الأميركية: صورة للعيش على الحافّة، ورؤية لما يكون عليه الحال بدون حكومة مستقرّة، ومواجهة تحدّي حماية النفس والأسرة بلا معين، وتعلُّم معنى الاستقلال والاعتماد على الذات.
    ويلعب الزومبي الدور المسند تقليديّا للهنود الحمر في أفلام الغرب الأمريكي: جحافل من البرابرة المتربّصين على حدود المجتمع المتحضّر والمهدَّد بالإبادة. ومثل الهنود في العديد من أفلام الغرب، فإن الزومبي مجهولو الهويّة والاسم تقريبا، لا يتكلّمون أبدا، وقد يقتلون عشوائيا، والهدف الواضح هو تبرير إبادتهم جماعيّا. وتشبه رحلة شخصيات هذا المسلسل عبر أراضي جورجيا المدمّرة قوافل عربات أفلام الغرب الأمريكي، فهم يتنقّلون من خطر لآخر ويقاتلون أو يتفاوضون مع الجماعات المتنافسة ويعانون من نقص الإمدادات ويبحثون عبثا عن ملجأ ويؤخّرهم البحث عن رفاق مفقودين ويمزّقهم الخلاف على تحديد وجهتهم.


    يشير بعض الكتّاب إلى أن من أسباب وفرة أفلام نهاية العالم حقيقة أن البشر يشعرون بانزعاج عميق من فكرة أن حياتنا لا تشكّل سوى فترة زمنية قصيرة للغاية من تاريخ العالم وأننا نشعر بأننا عالقون في المنتصف. فالكثير حدث قبل ولادتنا، وسيحدث الكثير بعد موتنا. ولفهم هذه الحقيقة المربكة، نبحث عن "نمط متماسك" ونستثمر في فكرة أننا نجد أنفسنا في قلب قصّة.
    ويجادل كتّاب آخرون بأننا تبنّينا الاعتقاد بأن بداية الإنسانية كانت فترة ازدهار وتقدّم. أما الفترة الوسطى، وهي العصر الذي نعيش فيه الآن، فتتميّز بـ"الانحطاط"، حيث تراجعَ ما كان جيّدا وأصبح بحاجة إلى "تجديد". وللدخول في عصر جديد، لا بدّ من تحمّل عملية تطهير مؤلمة "أو مرعبة"، ما يتيح لنا تفسير الفوضى و"الأزمة" التي نراها تتكشّف من حولنا. كما تتيح قصص النهاية للأفراد التأمّل في موتهم وفهم حياتهم ومكانهم في الزمن وعلاقتهم بالبداية والنهاية. أيضا هذه الأفلام تسمح للمشاهدين "بالتغلّب على مشاعر الفوضى والارتباك" من خلال تعريضهم لأساليب سردية وسينمائية تغيّر تجاربهم الطبيعية عن الزمان والمكان.
    والأفلام، التي تتناول أحداث دمار عالمي، مثالية لرسائل "البقاء على قيد الحياة". ففيها تحاول الشخصيات إما منع وقوع كارثة وشيكة أو الاستعداد للنجاة من كارثة حتمية. ويضطرّ الناجون الى الكفاح من أجل البقاء في عالم ديستوبي أو شرّير. ويتجلّى هذا الكفاح في تصوير الناجين وهم يبحثون عن الطعام ويتجنّبون العصابات المتجوّلة في عالم ما بعد نهاية العالم ويُظهِرون مهارات خارقة في البقاء والقتال، كمطاردة الحيوانات البرّية وهزم مجموعات قطّاع الطرق الصحراويين.
    لكن أحيانا قد تؤدّي هذه الأفلام إلى تدريب المشاهدين على العجز. إذ يبدؤون في التقليل من شأن مشاكلهم عند مقارنة نضالاتهم بأحداث الحياة والموت التي يرونها على الشاشة، ويصبحون أقلّ تحفيزا لإجراء التغييرات اللازمة في حياتهم.
    من جهة أخرى، فإن هذه التصوّرات عن نهاية العالم كما تعبّر عنها السينما هي نتاج التركيبة النفسية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للمجتمع الأمريكي. وهي تنتقد الهياكل الاجتماعية القائمة، في محاولة للاستجابة للأزمات الاجتماعية الحالية، وتنظر إلى النظام القائم على أنه فاسد وأناني وجشع ولا يستحقّ الحفاظ عليه أو الاستمرار فيه.
    الكاتبة إ. روزن ترى أن قصص نهاية العالم ليست سردا متفائلا حيث يتدخّل الله لتصحيح الأمر وإعادة النظام إلى عالم مضطرب ومكافأة المؤمنين، بل هي قصص تحذيرية تتنبّأ بالاحتمالات القاتمة وتعكس غضب الربّ العقابي والجماعي على عالم منحط. أي أن هذه القصص تفترض أن لا أحد يستحقّ الإنقاذ وأن الجميع يجب أن يعاقَبوا.
    النسَخ الجديدة من قصص نهاية العالم تتضمّن انهيار النظام الاجتماعي ومعاقبة خطايا البشر والتشاؤم بشأن قدرة البشرية على إعادة تأهيل نفسها. وعلى عكس قصص نهاية العالم القديمة، لا تفترض القصص الجديدة نهاية سعيدة ولا توجد فيها "معجزة إلهية" ولا أمل في إعادة تأهيل البشر. فالانحطاط كامل لدرجة أن النهاية لا يمكن أن تكون إلا كذلك ولا يوجد شيء بعد هذه النهاية ولا أمل في جنّة جديدة على الأرض، لأنه لا يوجد شيء يستحقّ الإنقاذ". ورسالة هذه الأفلام واضحة: إذا لم يغيّر البشر أساليبهم، فستقع الأحداث التي يرونها على الشاشة وستتسبّب في انقراض الجنس البشري.
    وفي بعض هذه الأفلام، لا يقع الحدث المروّع بسبب خطأ بشري أو لامبالاة أو عيب. مثلا، فيلم "حزن" من عام 2011 ينتهي باصطدام كوكب مارق بالأرض على أنغام مقدّمة ريكارد فاغنر لأوبرا تريستان وإيزولدا. هذا الفيلم جريء وغير منضبط ومتشائم. ورسالته هي أن الأرض شرّيرة ولا داعي للحزن عليها ويجب أن تُترك لمصيرها فلن يفتقدها أحد".
    الملاحَظ أن جميع التنبّؤات عن نهاية العالم، وعلى مدى آلاف السنين الماضية، يجمعها شيء واحد مشترك، هو أنه لم يتحقّق أيّ منها على الإطلاق. وقائمة هذه التنبّؤات الفاشلة تُعزى إلى الكثير من الأسماء المهمّة، مثل الفيلسوف الروماني سينيكا والمسيحيين الأوروبيين والمورمون والمذنّب هالي وشهود يهوه وبوّابة السماء ونوستراداموس وآخرين.
    لكن كلّ هذه النبوءات تحمل أيضا رسالة أعمق، وهي أنه على الرغم من أن نهاية العالم أمر لا مفرّ منه، بعد أن يتجاوز عمر الأرض خمسة مليارات سنة وتموت الشمس، إلا أنه لا يوجد أساس عقلاني أو علمي للاعتقاد بأن تلك النهاية المفترضة أصبحت وشيكة.

    Credits
    scene360.com
    spu.edu