:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات أوفيد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أوفيد. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، مايو 13، 2016

طبيعة كلود لورين


الرسم مهنة فيها نبل وإبداع. وفي الواقع هناك قيمة في فعل الرسم. وأن ترسم معناه أن ترى الأشياء بعينين مختلفتين.
من بين الرسّامين الذين رأيت أعمالهم في مرحلة مبكّرة الفرنسيّ كلود لورين. عاش هذا الرسّام وعمل معظم حياته في ايطاليا. وعندما ترى لوحاته لا بدّ أن تتذكّر فورا مناظر مواطنه الفنّان نيكولا بُوسان.
هذا الأخير قضى، هو أيضا، الجزء الأكبر من حياته في ايطاليا. وقد أصبح الاثنان من الرسّامين الأكثر احترافا في القرن السابع عشر. كما أصبحت طبيعتهما الكلاسيكية ملمحا ثابتا في الرسم الغربيّ.
بُوسان كان يهتمّ في الأساس بتصوير مناظر من العهد القديم، بينما كان لورين منجذبا أكثر إلى الأساطير القديمة. وكلا الاثنين يشتركان في أن لمناظرهما لمسة نحتية لا تخطئها العين.
بالنسبة للورين، قد ترى بعض لوحاته ثم لا تلبث أن تنساها، لكنها سرعان ما تعود مرّة أخرى إلى مركز الذاكرة. الأشخاص فيها يتراجعون إلى الوراء مفسحين المجال للمضمون العاطفيّ والانفعالي.
كما أنها تكشف عن مزاج رائق يركّز على مجاورة الطبيعة. وأنت تتأمّل بعضها تشعر بأن الضوء في الحقول والتلال خاصّ بذلك الوقت من اليوم وبحالة الجوّ نفسها. أما البشر فيها فغالبا ما يلعبون أدوارا ثانوية.
الموضوعات الكلاسيكية والدينية زمن لورين كانت تُعتبر معايير للرسم الراقي. وكان المثقّفون آنذاك يعرفون هذه الأفكار جيّدا ويرون فيها مصدرا لإلهام المناظر العظيمة في الرسم التاريخيّ.
طبيعة لورين المثالية المستمدّة من الأفكار الرومانية والإغريقية شكّلت حافزا للرسّامين الذين أتوا في ما بعد وكذلك لخبراء تشييد الحدائق ومصمّمي المناظر الطبيعية.
كان يرسم عالما مثاليّا من الحقول والمراعي والأودية بجوار القلاع والبلدات. ويمكنك أن ترى في رسوماته أشخاصا في المقدّمة أو في الزوايا، غير أن مواضيعه الحقيقية هي الأرض والماء والسماء. ولا بدّ وأن يلفت انتباهك تناوله المفصّل لرسم الأشجار والأغصان والأوراق.
الأغنياء الذين يشترون لوحاته هذه الأيّام لكي يضمّوها إلى مجموعاتهم الفنّية يُعجَبون على وجه الخصوص بتصويره الفخم لتفاصيل الطبيعة الايطالية.
وهناك العديد من مهندسي ومصمّمي المناظر الطبيعية والحدائق ممّن استلهموا أساليبهم الخاصّة من وحي لوحات لورين عن الأطلال والأشجار في فنّ الإغريق والرومان.
بل إن هناك من يقول إن هذا الرسّام هو المبتكر الفعليّ لأسلوب الحدائق الطبيعية الباروكية. وعادة فإن الأشياء الرئيسية التي تتألّف منها الحدائق هي التماثيل والكهوف الصغيرة والمعابد والمياه والممرّات.. إلى آخره.
لوحته فوق هي احد أشهر أعماله، وفيها يصوّر اينياس، احد أبطال الأساطير الإغريقية، كما رواها فرجيل في "الانيادا" وأوفيد في "التحوّلات".
واللوحة تقدّم منظرا عريضا لميناء جزيرة ديلوس يظهر فيه معمار كلاسيكيّ وبضعة أشخاص. أثيرية وضوء المشهد يعزّزهما منظر السماء الشاسعة الممتدّة الزرقاء والساطعة في الجزء الأماميّ. وفي الوسط لا تظهر سوى بضعة أشجار.


الشجرة الكبيرة في الوسط تقسم الفراغ عموديّا إلى نصفين. وبهذه الطريقة حقّق الفنان توازنا بين الصلابة والخفّة، خالقا انطباعا عن مكان هادئ وآمن. والناظر يرى المشهد من نقطة مرتفعة من فوق، وإلى يسار الرصيف الذي يقع عليه المعبد القريب.
وبهذه الكيفية يدعونا الرسّام لاكتشاف الفراغ الغامض للوحة في اتجاهات متعدّدة ومن خلال طرق وأسطح صورية مختلفة. وعينا المتلقّي تقودانه إلى التلال البعيدة وإلى ما وراء امتداد البحر.
المعبد الذي يظهر في الصورة يؤشّر إلى المهارة التي استخدم فيها لورين المنظور من اجل إيصال شعور بالمسافة وباتساع المنظر الطبيعيّ. وقد وظّف الألوان الباردة كي يخلق وهما بعمق الفراغ وبالحجم المتراجع للأشياء والأشخاص.
الألوان البيضاء والزرقاء والباردة توحي بالبعيد، مقارنة مع البنّي الأكثر دفئا والأخضر الداكن في المقدّمة. والأشجار بألوانها تبدو وكأنها مرتبطة ببرودة السماء ودفء الأرض.
لوحة كلود لورين هذه عن أحد أبطال حرب طروادة يقال أنها كانت اللوحة المفضّلة لملك فرنسا لويس السادس عشر، وربّما كان ذلك الملك يرى في نفسه شيئا من اينياس.
وفرجيل يقدّم هذا البطل وكأنه محميّ من قوّة إلهية. ومثل هذه الفكرة كانت مناسبة لتعزيز مجد ومكانة الملك الفرنسيّ كمندوب أو ممثّل للعناية الإلهية على الأرض.
درس لورين وعمل في روما أثناء عصر الباروك الذي امتدّ حوالي مائة وخمسين عاما. والمعروف أن الباروك نشأ كحركة إصلاح مضادّ مدعوم من الكنيسة. وفي ذلك العصر اتّجه الرسّامون إلى الموتيفات الكلاسيكية واهتمّوا برسم المناظر الطبيعية التي تشبه الحلم. وقد ضغطت عليهم الكنيسة وألزمتهم بأن يكون للوحاتهم سياق دينيّ وبأن تتحدّث إلى الجهّال والعوامّ وليس إلى المتعلّمين.
وبشكل عام، كان فنّ الباروك يركّز على القدّيسين والمادونات وغيرها من القصص الدينية المعروفة. لكن كان رسم الطبيعة وتفاصيل الحياة اليومية ما يزال يحظى ببعض الشعبية. ومن أهمّ السمات التي ميّزت رسم الباروك توظيف الألوان الغميقة والإضاءة المكثّفة والظلال الداكنة من اجل خلق إحساس بالدراما.
وفي حين كان عصر النهضة يُظهر اللحظة التي تسبق حدثا ما، كان فنّانو الباروك يختارون النقاط الأكثر دراماتيكية في الفعل أو الحدث. على سبيل المثال، رسم، أو على الأصحّ نحت ميكيل انجيلو تمثال ديفيد "أو داود" قبل أن يقاتل غولاياث "أو طالوت". وصفات داود، من قبيل قوّته ورغبته في القتال، هي هنا أهمّ من انتصاره.
وإجمالا يمكن القول بأن هدف فنّ الباروك كان استثارة الانفعالات والمشاعر بدلا من التفكير الرشيد والعقلانية الهادئة التي كانت قيما عالية ومرغوبة في عصر النهضة.
ولكي يغذّي رغبة العوامّ في رؤية أفكار نبيلة وسامية، رسم كلود لورين صورا تتضمّن أنصاف آلهة وأبطالا وقدّيسين، على الرغم من أن سنواته العديدة في الرسم تبرهن على انه كان مهتمّا أكثر بتصوير المناظر الطبيعية.

Credits
claudelorrain.org
nationalgallery.org.uk

الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org

الاثنين، مايو 26، 2014

عشاء مع أوفيد/2

"الآن أكملتُ عملا لن يقدر على هدمه غضب جوبيتر، ولا النار ولا الحديد ولا الزمن الذي لا يشبع. فليأتِ، متى شاء، اليوم المحتوم الذي لا حقوق له إلا على جسدي، وليضع حدّا لمسار حياتي الغامض. سيكون اسمي عصيّاً على الفناء. وأينما توغّلَت قوّة روما بعيدا في الأرض التي تسودها، فلسوف يقرؤني الناس".
  • أوفيد، خاتمة كتاب "التحوّلات".

    لا تتوفّر معلومات وافية أو مؤكّدة عن حياة أوفيد. وكلّ ما نعرفه عن حياته الخاصّة مصدره كتاباته. ولعلّ هذه فرصة لسؤال الشاعر عن بعض الأمور المتعلّقة بظروف نشأته الأولى وكيف أصبح شاعرا.
    نعرف، مثلا، أنه ولد عام 43 قبل الميلاد، أي بعد اغتيال يوليوس قيصر بعام واحد. وكانت ولادته في بلدة سالمونا الايطالية لعائلة موسرة. وقد أخذه والده إلى روما لدراسة السياسة والخطابة، لكنه اختار الشعر. وقد تزوّج ثلاث مرّات وطلّق مرّتين قبل بلوغه الثلاثين وأنجب ابنة واحدة. وفي شبابه، سافر إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى أثينا.
    ألّف أوفيد العديد من دواوين الشعر، أحدها عنوانه "رسائل من نساء بطلات"، وهو عبارة عن سلسلة من الرسائل من نساء أسطوريّات إلى أزواجهنّ أو عشّاقهنّ الغائبين. وهناك ديوان ثان بعنوان "فنّ الحبّ"، ويحكي عن قصّة حبّ بطلتها امرأة من الطبقة الرفيعة في روما تُدعى كورينا.
  • ❉ ❉ ❉

    كان أوفيد شاعرا غزير الإنتاج. شخصيّته وكتبه ألهمت في ما بعد كتّابا لاتينيين خبروا، هم أيضا، تجربة النفي مثل سينيكا وبوتيوس. لكن من بين جميع مؤلّفات الشاعر، يُعتبر كتاب "التحوّلات" الأكثر شهرة واحتفاءً. وبراعة أوفيد في هذا الكتاب غير مسبوقة. وبالتأكيد لا يمكن أن أتخيّل لقاءً مع الشاعر دون أن اطرح عليه بعض الأسئلة والملاحظات عن الكتاب.
    عندما تقرأ "التحوّلات"، ستلاحظ أنه يتحدّث عن عالَم يتخلّله إحساس بالحركة وبالتشوّش وغياب النظام. وتسلسل الأحداث فيه محكوم بالصدفة ولا يسير وفق منطق السبب والنتيجة. كما ستلاحظ أن كلّ قصّة من قصص التحوّلات يصاحبها عادة عنف ومعاناة. وهذا يضفي على جميع قصص الكتاب طابعا دراماتيكيّا، بالنظر إلى أن العنف يتضمّن ضحيّة تصرخ وتحتجّ وتبدو بلا حول ولا قوّة.
    والضحايا هم غالبا إناث بريئات يتعقبّهن مغتصبون من الآلهة أو من البشر. والسرد يثير في نفس القارئ إحساسا بالشفقة على الضحيّة عندما تتحوّل إلى شيء آخر، كما لو أن ضغط معاناتها يفوق قدرة البشر على التحمّل.
    ولا بدّ وأن تتساءل وأنت تقرأ الكتاب: كيف يجب أن نتعامل مع هذه التحوّلات، وهي العنصر المحوريّ فيه. ولماذا هذا الإصرار على التحوّل من خلال عملية وحشية؟ وهل يضيف هذا إلى التجربة الإنسانية شيئا؟ ثمّ هل أوفيد يقول هنا شيئا عن طبيعة الإنسان كما يفعل كلّ من هوميروس وهيسيود مثلا في كتاباتهما؟ وهل التأثير المستمرّ لقصيدة التحوّلات يعتمد على فهمٍ ما للحياة أو على تجربةٍ ما وجدها الناس ذات قيمة مثلا؟
    مثل هذه التساؤلات قد تثير اهتمام أوفيد عند طرحها عليه. وقد يكون عنده من الإجابات والملاحظات ما يجلي بعض الغموض.
    وأيضا لا بأس من الاستئناس برأيه حول وجهة النظر الرائجة والتي تقول إن القصيدة لا تقدّم أيّة رؤية خاصّة عن الحياة، وأنها في الأساس عبارة عن احتفال بالعبقرية الأدبيّة للكاتب، وبرهان على المتعة النقيّة للقصص الخيالية التي لا يخالطها دروس أو مواعظ أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    معظم قصيدة التحوّلات يتعلّق بأحداث في منتهى الوحشية. وإذا حاولنا اعتبارها، أي الحوادث، أحداثا حياتية، فإن الكتاب عندئذ يصبح عبارة عن صورة كئيبة ومظلمة عن تصرّفات وطبيعة البشر. أي انه يتضمّن رؤية لا تختلف عن الرؤية المتشائمة والأقدار المشئومة عن العالم في أدب كلّ من هيسيود وسوفوكليس.
    في أعمال هيسيود وهوميروس واسخيليوس وسوفوكليس، للأساطير معان خطيرة. فهي تضيء وترمز لجوانب مهمّة من طبيعة الحياة نفسها، مثل قدرة الآلهة على التدمير وأمزجتها الغاضبة وحبّها وكراهيّتها. والأحداث قد تبدو لاعقلانية ومضحكة وفجائية. لكنّها تُقدّم كرؤى جادّة عن طبيعة الأشياء التي تقع في مركز اهتمامنا، مثل رغبتنا في فهم القوى الأساسية خارج أنفسنا. والأساطير تُوظّف لتربط عالمنا المألوف مع الإحساس بالغموض الذي يساورنا عندما نتأمّل الأشياء التي هي خارج سيطرتنا والتي يستعصي علينا فهمها.
    غير أن أهمّ ملمح مثير للفضول في قصيدة التحوّلات، وهو سبب شهرتها على الأرجح، هو أنها لا تعرض مثل هذه الرؤية اليائسة عن الحياة ولا أثر لها فيها. وبرغم كلّ الوحشية فإن القصيدة توفّر قراءة سارّة وممتعة، بل ويمكن أن نصفها بأنها تحفة هزلية.
    هل سبق لك أن قرأت رواية الكونت دراكيولا؟ صحيح أن أجواءها مخيفة إلى حدّ ما، ولكن قراءتها جميلة وممتعة. وهذه الصفة تنطبق أيضا على "التحوّلات". وهي سمة تستحقّ الدراسة المتعمّقة، لأنها قد تكون أهمّ مؤشّر على الجاذبية القديمة والدائمة لهذا الكتاب.

    احد النقّاد قال إن من غير المجدي البحث عن معنى داخلي أعمق قد يكون أوفيد تركه للآخرين في "التحوّلات". فالكتاب يُبقينا دائما عند سطح التفاصيل، ولا يدعونا لنرى إن كانت سلسلة الكوارث هذه تقول أيّ شيء مهمّ عن العالم. انه كتاب يمكن أن نقرأه ونستمتع به دون أن يدفعنا أو يقودنا باتجاه أيّة منظومة من المعتقدات عن العالم أو عن فهمنا للكون.
    وهنا لا بدّ من إعادة طرح هذا السؤال على أوفيد: هل تتضمّن "التحوّلات" موقفا فلسفيّا، فكرة أو رؤية ما عن العالم، وهو ما لا يراه الكثيرون كما أشرنا آنفاً، أم أنها مجرّد قصص مسلّية وممتعة أراد الشاعر من خلالها أن يكشف عن مقدرته السردية ومهاراته الشعرية، بمعنى أن التجربة الجمالية فيها مقدّمة على الدروس أو المواعظ الأخلاقية؟
    من أشهر التحوّلات التي يحكي عنها أوفيد قصّة اوديب الذي تخبر ساحرة والديه بأن طفلهما، أي اوديب، سيكبر وسيقتل والده ويتزوّج أمّه. وعندما يكبر تتحقّق تلك النبوءة المشئومة. وهناك أيضا قصّة ديونيسيوس أو باخوس، وقصّة نرسيس وإيكو (أي الصدى).
    وفي مكان آخر من الكتاب، يتحدّث الشاعر عن قصّة ميداس. وميداس الحقيقيّ في هذا الكتاب هو المؤلّف نفسه. ولمسة الذهب التي لديه هي فنّه الذي يغيّر ويؤثّر. وإنجاز أوفيد يتمثّل في تحويل رؤية مظلمة ومحبطة عن الوجود إلى كوميديا كونية.

    ❉ ❉ ❉

    من جهة أخرى، يمكن اعتبار "التحوّلات" كتابا عن تنوّع وسيولة الكون. وقصصه تذيب التقاليد الأخلاقية وتستكشف الأشياء الغامضة وتلغي الحدود والفوارق بين الرجال والنساء والحيوانات والآلهة والنباتات.
    وهو يستكشف الجندر من نواح كثيرة ومتعدّدة. وكلّ أصحاب نظريات الجندر الحديثة سيجدون في هذا الكتاب مادّة للتنظير. ولابدّ أن تستوقفهم، مثلا، شخصيّة هيرمافرودايت التي هي عبارة عن جنس مختلط، وشخصيّة اتالانتا التي تحبّ الصيد والرياضة مع أنها أنثى، وشخصيّة اخيل الذي يتنكّر على هيئة امرأة مع انه لا يُخفي اهتماماته الذكورية بالأسلحة. نظريّة الشاعر عن المثلية الجنسية مثيرة للاهتمام. فالتحوّلات الجندرية برأيه سببها التغذية وأسلوب الحياة وليس الطبيعة.
    متعة أوفيد القاتمة في رواية هذه القصص تستدعي الكثير من الأسئلة. لكن قصص اللقاءات الجنسية في الكتاب ممزوجة بأسئلة عميقة. مثلا، ماذا يعني أن يكون لديك أفكار ومشاعر محبوسة داخل جسد قابل للتحوّل؟ وما هي النفس؟ وما حدودها؟ وإذا تغيّر شكلك الخارجي، فما الذي يدوم بعد ذلك؟

    ❉ ❉ ❉

    ربّما يتفاجأ أوفيد عندما يعلم انه في العصور الوسطى كان هناك اتجاه لإضفاء سمة أخلاقية على كتاب "التحوّلات". وقد فُرضت عليه تفسيرات وعظية تتوافق مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية في روما في تلك الفترة وأضيف للقصيدة ما ليس فيها. لكن تلك التعديلات لم تنتهك الجوّ العامّ والأفكار التي يتضمّنها الكتاب. أي أن الكنيسة لم تضطرّ لحظر الكتاب خوفا منه، بل احتاجت فقط لأن تكيّفه، وذلك بفرض البناء الذي يناسب رغبات رجال الدين مع الإبقاء على الأسلوب السرديّ.

    ❉ ❉ ❉

    بعض النقّاد يذهبون إلى أن "التحوّلات" يتضمّن رؤية أو فكرة ما ذكرها أوفيد في الخاتمة عندما تحدّث عن الزمن وقدرته التي لا تُقهر. يقول: هناك أمم تصعد إلى القوّة والعظمة، وأمم أخرى تفشل وتسقط. طروادة كانت ذات وقت عظيمة بثرواتها ورجالها، وأعطت عشر سنوات من دم حياتها، والآن انتهت ولم يبق منها سوى الأطلال القديمة ومقابر الأسلاف المهدّمة".
    والمعنى الواضح لهذه العبارة هو أن روما، برغم عظمتها الإمبراطورية، من المحتّم أن تفشل، هي أيضا، وتسقط في النهاية. وفي الخاتمة، يهدي أوفيد كتابه لكلّ من يوليوس قيصر وأوغستوس. لكن وراء هذا الإهداء مفارقة لافتة، إذ أنه يشير ضمنا إلى انه أيّا ما كانت انجازات هذين القائدين السياسيين العظيمين، فإن أعمالهما لن تدوم طويلا.
    وما سيدوم حقّاً هو قصيدة أوفيد نفسها. وخاتمة الكتاب توضّح انه إذا كان التحوّل هو القاعدة في هذه الحياة، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينجو من التحوّل أو التغيير هو العمل الفنّي. في الحياة أو السياسة، ليس هناك ثبات أو دوام للحقيقة. والخلود الوحيد الممنوح لنا، نحن البشر، يأتي من الأدب العظيم، مثل قصيدة أوفيد.

    Credits
    ancient-literature.com
    public.wsu.edu
    poetryintranslation.com

    الجمعة، مايو 23، 2014

    عشاء مع أوفيد

    أحد أصدقاء هذه المدوّنة سألني مؤخّرا: لو أتيحت لك فرصة السفر إلى الماضي واختيار عشر شخصيّات من التاريخ كي تراها وتتحادث معها على العشاء وتطرح عليها بعض الأسئلة، فعلى من سيقع اختيارك؟
    قلّبت هذا السؤال في ذهني لبعض الوقت. وأثناء ذلك عبَرَت رأسي أسماء مثل لا وتسو وباخ وفولتير وهيباتيا وسقراط وكليوباترا ونيتشه وإيسوب وغويا وكاثرين العظيمة وآينشتاين وكونفوشيوس وآخرين.
    لكني فضّلت أن استهلّ هذه السلسلة بحديث من جزأين مع وعن أوفيد.
    أما لماذا أوفيد، فلأنه أوّل من أنزل الآلهة من برجها العاجيّ في أعالي جبل الأوليمب ووضعها في محترفات الرسم وصالونات الأدب والفلسفة. كما انه أوّل من حوّل الميثولوجيا إلى عالم من لحم ودم مع الكثير من روح المرح والدعابة. وأوفيد هو أيضا أوّل من أنتج أدبا خالصا لوجه الأدب، أي بلا دروس ولا مواعظ أخلاقية.
    وكلّ شخص يريد أن يعرف شيئا عن الأساطير الرومانية - الإغريقية، يجب أن يكون قد قرأ كتابه "التحوّلات". وهو عبارة عن ديوان شعر، أو بالأحرى قصيدة طويلة من اثني عشر ألف بيت. وأوفيد يسرد في ثنايا القصيدة قصصا استلهمها من الميثولوجيا الكلاسيكية عن "حالات تَحوُّل" معظمها لبشر وحوريّات يتحوّلون إلى حيوانات ونباتات.
    القصص تسجّل الأحداث منذ بداية خلق الكون وحتى موت يوليوس قيصر اغتيالا. وكلّ قصّة من قصص الكتاب تتضمّن تحوّلا جسديّا. والشخصيّات التاريخية فيه تقتصر على الإمبراطورين يوليوس قيصر واوغستوس اللذين يتحوّلان من إنسانين قابلين للفناء إلى إلهين خالدين.
    كتاب "التحوّلات" لا يعلّمك شيئا عن فهم الحياة والعالم. لكنه يقول لك كيف تستخدم اللغة وموارد الرواية الخيالية بطريقة ممتعة. وفي الكتاب، ينتصر الأسلوب على الجوهر وننتقل إلى شكل جديد من أشكال التعبير الأدبي، شكل يُحتفى فيه بالفنّ من اجل الفنّ فحسب.
    لذا ليس من الصعب أن نفهم سرّ شعبية أوفيد بين الشعراء والفنّانين عبر العصور، بل وحتى بين أولئك الذين يضيفون إلى القصيدة رؤية للعالم أكثر تماسكا واكتمالا.
    نسخة أوفيد من الميثولوجيا تقول إن الماضي لم يكن اكبر من الحياة نفسها، كما لم يكن هناك أبطال. والجنس البشريّ يتألّف من بشر مثلنا، وليست هناك آلهة تشرف على مسار الأحداث أو تمثّل مبادئ كالحقّ أو العدالة.
    أوفيد يرى أيضا أن ليس هناك كون غامض كي نحتفي به أو نقدّسه أو نخاف منه. هناك فقط المتعة التي يمكن أن نشعر بها عند قراءة القصيدة بمعزل عن أيّة معان أو مرجعيات أخلاقية.

    ❉ ❉ ❉

    من اجل الالتقاء بأوفيد، سأفترض أن عليّ أوّلا أن اذهب إلى توميس، أو كونستانزا كما تُسمّى اليوم. وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأسود في ما يُعرف اليوم بـ رومانيا. وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ تأسّست حوالي عام 600 قبل الميلاد.
    أوفيد نفسه يصفها بأنها "ارض شبه مهجورة تقع على الأطراف البعيدة للإمبراطورية الرومانية وبعيدا عن حدود العالم المتحضّر". وقد جرت على أرضها العديد من المعارك والحروب، واحتلّها الرومان عام 29 قبل الميلاد وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، ثم أسموها كونستانتينا تيمّنا باسم شقيقة الإمبراطور الروماني كونستانتين العظيم. وبحسب إحدى الأساطير، فإن جيسون نزل في هذه المدينة مع الارغونوتز بعد عثوره على الفروة الذهبية.
    في توميس أو كونستانزا، سألتقي بأوفيد، وعلى الأرجح سنتناول العشاء معا في احد المطاعم القريبة من متحف المدينة الذي شُيّد أمام بوّابته تمثال للشاعر. وسأحمل معي للشاعر هديّة هي عبارة عن نسخة حديثة من كتاب "التحوّلات"، بالإضافة إلى نسخ من بعض الأعمال التشكيلية المشهورة والمستوحاة من قصص التحوّلات، وكذلك نسخة من لوحة أوجين ديلاكروا التي رسم فيها أوفيد بين السيثيين.
    بداية، أظنّ أن ملامح أوفيد تشبه إلى حدّ كبير ملامحه في التمثال، فهو على درجة من الوسامة، عيناه متفحّصتان وتشعّان بالذكاء، مع طبع يميل إلى الهدوء والتأمّل. وبالتأكيد سيُسرّ الرجل لمرأى النصب الضخم الذي أقيم تكريما له في هذه البقعة البعيدة عن روما.
    وسيُدهش الشاعر ولا شكّ لرؤية الاختلاف الكبير بين توميس اليوم وما كانت عليه عندما كان يعيش فيها قبل حوالي ألفي عام. فبينما كان عدد سكّانها لا يتعدّى المئات آنذاك، فإن عددهم اليوم يتجاوز الـ 400 ألف نسمة، بالإضافة إلى مئات آلاف السيّاح الذين يؤمّون المدينة سنويا للتمتّع بأجوائها المعتدلة وينابيعها المعدنية المشهورة.
    هنا في توميس وبعيدا عن روما، توفّي أوفيد عام 17 ميلادية بعد أن عاش فيها منفيّا ثمان سنوات كاملة. وبطبيعة الحال سأسال الشاعر عن حادثة النفي تلك، وعن السبب الحقيقيّ الذي دعا الإمبراطور اوغستوس إلى اتخاذ قرار بنفيه بعد أن كان مقرّبا منه ومن عائلته.
    الأسباب التي أوردها المؤرّخون كثيرة وأحيانا متناقضة. ومعظم ما كُتب حول قصّة النفي مجرّد تكهّنات واحتمالات. أوفيد نفسه أشار إلى الأسباب تلميحا وبطريقة غامضة غالبا. فهو، مثلا، ذكر في رسائله التي كتبها لبعض أصدقائه في روما أثناء سنوات النفي أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه هو انه "رأى شيئا ما كان ينبغي له أن يراه".
    هذه العبارة دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد بأن الشاعر ربّما كان على علاقة ما بابنة اوغستوس الماجنة "جوليا"، خاصّة بعد أن أصبح احد أفراد الطبقة الضيّقة المحيطة بها.
    وقرار النفي كان بناءً على أوامر شخصية من الإمبراطور ودون العودة إلى البرلمان أو القضاء. وأوغستوس نفسه مات عام 14 ميلادية، أي في الوقت الذي كان أوفيد ما يزال في منفاه. ولسوء الحظ، فإن تيبيريوس الذي خلف اوغستوس على سدّة الحكم لم يُنهِ أو يلغِ حكم النفي.

    كان عمر أوفيد قد تجاوز الخمسين عندما نُفي. وكان مشهورا جدّا في روما في ذلك الوقت. بل يمكن القول انه كان آنذاك أشهر شاعر في المدينة بعد انتهاء جيل فيرجيل وهوراس.
    قصائده التي كتبها في منفاه تتضمّن رسائل لأصدقائه وأعدائه في روما. ومن بين تلك القصائد واحدة يعبّر فيها عن يأسه ويدعو لإعادته إلى روما. وهناك أيضا قصائد على هيئة رسائل موجّهة لبعض الشخصيّات في روما وأخرى إلى زوجته وإلى الإمبراطور نفسه. يقول الشاعر في إحدى تلك الرسائل موجّها حديثه إلى شخص ما: أين المتعة في إغماد رمحك في لحمي الميّت؟ ليس في جسدي مكان يحتمل المزيد من الطعنات أو الجراح".
    وفي بعض تلك الرسائل، يحاول أوفيد أن يقنع الإمبراطور بإنهاء نفيه، وذلك من خلال وصفه لحالة الحزن التي يعيشها بعيدا عن الوطن وقسوة الحياة والأخطار في توميس والحالة الاجتماعية والذهنية المتردّية التي يمرّ بها.
    وقد صوّر نفسه في إحدى تلك الرسائل كشخص عجوز ومريض وبعيد عن عائلته ومحروم من مسرّات ومتع روما. بالنسبة لأوفيد، كانت روما هي نبض العالم المتوهّج. والنفي أدّى به إلى حالة من الإحباط واليأس. ومع ذلك، لا ينسى الشاعر أن يمدح الإمبراطور وعائلته ويثني على نجاحه في المعارك والحملات العسكرية، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ترقيق قلبه.
    لقد كُتب الكثير عن واقعة النفي. أوفيد نفسه كتب مرّة يقول إن النفي دمّر عبقريته الشعرية وأن نفيه كان بسبب "قصيدة وخطأ"، وأن ما فعله لم يكن غير قانوني، ولكنه كان "أسوأ من جريمة".
    أشعاره في المنفى مليئة بالإشارات إلى أن ما فعله كان "خطأ تسبّب به الغباء" وأنه فعله عن غير عمد وأن الإمبراطور يدرك ذلك بدليل انه لم يحكم عليه بالقتل ولم يجرّده من الجنسية.
    أوفيد قد لا يجد غضاضة، خاصّة بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال، في أن يبوح بالسبب الحقيقيّ لنفيه. هو لم يتحدّث عن هذا الأمر صراحة أثناء حياته، لأنه كان يؤمّل في أن يُصدر الامبراطور عفوا عنه، وهذا ما لم يحدث.
    وهناك نقّاد كثر يعتقدون أن اوغستوس الذي كان يُقدّم نفسه كحارس للأخلاق الرومانية ربّما كان قد ارتكب زنا المحارم أو جناية أخلاقية ما. وقد يكون أوفيد نفسه قد تورّط بعلاقة مع جوليا ابنة الإمبراطور أو أنه رأى المرأة، أو والدها، في حالة مريبة مع شخص ما. بل إن هناك من يقول إن ثمّة احتمالا في أن أوفيد كان ضالعا في مؤامرة ضدّ الإمبراطور، ولهذا نُفي.
    سأسأل أوفيد أيضا عن ما اعتبره بعض النقّاد محاولة منه لـ "أسطرة" حالة النفي تلك، أي تحويلها إلى أسطورة. وسأسأله كذلك عن رأيه في زعم بعض المؤرّخين بأن نفيه لم يكن حقيقيّا وأنه لم يغادر روما أبدا إلى المنفى وأن أعماله في المنفى لم تكن سوى ثمرة خيال خصب.
    وبالتأكيد أنا لست مع هذا الرأي. فقصّة النفي حقيقية وهناك شواهد كثيرة تدعمها وتؤكّدها. وعلى كلّ حال، لا بدّ من سماع رأي الرجل في بعض ما قيل عنه.

    ❉ ❉ ❉

    ما من شكّ في أن أوفيد سيشعر بقدر كبير من السعادة عندما يرى كيف أن كتاب التحوّلات أثّر في كثير من مشاهير الكتّاب مثل شكسبير ودانتي وميلتون ودي ثيرفانتيس وغيرهم، واستلهمه عدد كبير من الفنّانين الذين رسموا مئات اللوحات التي تصوّر قصصا وردت في الكتاب. وقد أسأله بشكل خاصّ عن رأيه في لوحة الفنّان اوجين ديلاكروا التي صوّر فيها الشاعر وهو في ضيافة السيثيين.
    والسيثيون هم جماعة من الفرس القدماء كانوا يسكنون توميس عندما قدم إليها أوفيد. وقد تناول هيرودوت أسلوب حياتهم في كتابه "التواريخ" ووصفهم بالبدو المترحّلين. وأوفيد نفسه وصفهم بالقبيلة البرّية.
    وأغلب الظنّ أن هذه اللوحة ستثير اهتمام الشاعر على الرغم من انه يظهر فيها واجما وحزينا. وسبب حزنه على الأرجح هو إحساسه بالغربة في هذه الأرض النائية وبعده عن الأهل والوطن. بالإضافة إلى انه عندما حلّ في ضيافتهم لم يكن احد منهم يتكلّم اللاتينية برغم أنهم كانوا تابعين لروما. وهذا أمر فاجأه وأحبطه كثيرا.
    لوحة ديلاكروا هي عبارة عن تناول جميل لفكرة الحضارة مقابل البدائية. وقد رسم السيثيين وهم يعاملون الشاعر بتعاطف وفضول في طبيعة تتضمّن بحيرة وجبالا مغطّاة بالخضرة، مع أكواخ من الخشب توحي بثقافة رعوية بدائية. وقد تفحّص هؤلاء أوفيد باهتمام عندما وصل إلى أرضهم. والبعض الآخر ذهبوا إلى بيوتهم ليحضروا له فاكهة وحليبا.
    فكرة البرّية والإنسان العبقريّ الذي يُساء فهمه كانت احد المفاهيم الأساسية في الحركة الرومانسية التي كان ديلاكروا احد أقطابها. وقد رسم من هذه اللوحة طبعتين وذلك قبل وفاته بعام على الأرجح لحساب صاحب إحدى المجموعات الخاصّة.

    في الجزء الثاني: حديث عن التحوّلات

    السبت، مايو 18، 2013

    الأساطير واللغة 2 من 2

    وُجدت الأساطير مع الإنسان منذ آلاف السنين. وقراءتها تساعدنا على فهم الحياة والتجربة الإنسانية بشكل أفضل وتزيد معرفتنا بالماضي وبالكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت. كما أنها تعلّمنا بأن هناك الكثير من الأديان والثقافات في هذا العالم، وبالتالي تجعلنا أكثر تسامحا وانفتاحا.
    بعض الأساطير أسهمت في صياغة الأديان وفي تشكيل تاريخ العديد من الأقوام والحضارات. وبعضها كان وما يزال مصدرا للكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والأدبية والموسيقية والفلسفية.
    الأساطير القديمة ما تزال تعيش معنا في ثقافتنا ونجد لها مرجعيات في العديد من المفردات والتعبيرات اللغوية المعاصرة.

  • أغاني السيرانات:
    في بعض الأحيان، نسمع أو نقرأ عبارة "أغاني السيرانات". والسيرانات هنّ حوريّات بحر بملامح فاتنة. كنّ يستلقين على الشواطئ للإيقاع بالبحّارة من خلال أغانيهنّ الساحرة التي تصيب عقل من يسمعها بالخبل والذهول. الإغريق المتأخّرون يصفونهنّ كنساء لهنّ أجنحة الطيور، وهي صورة مستعارة من قدامى المصريين.
    أغاني الحوريّات، لفرط جمالها، تصيب العقل بالتشوّش والذهول لأنها تعمل على شلّ قدرة الإنسان على التفكير والحكم العقلاني على الأمور. في الأوديسّا، تحذّر سيرسي اوديسيوس من الاستماع إلى السيرانات لأن أغانيهنّ قد تدفعه إلى الجنون. كما تحثّ بحّارته على ربطه بالسارية وسدّ أذنيه بالشمع كي تكونا منيعتين على الاستماع لتلك الأغاني الساحرة.
    أسطورة السيرانات يبدو أنها موجودة في العديد من ثقافات العالم. في الأسطورة هنّ مخلوقات خطيرة جدّا، ولكنهنّ أيضا يتمتّعن بجاذبية لا تقاوَم. كما يمكن اعتبار قصّتهن أمّاً لجميع الرموز الأسطورية الأنثوية، فهنّ مثيرات وفاتنات وقويّات.
    في جميع الحضارات القديمة تقريبا، كانت الأنثى تُعبد كآلهة، وفي نفس الوقت يُخشى جانبها كشيطان. والسيرانات يجسّدن جوهر السحر الذي تملكه المرأة وتزهو به على الرجل. لكن في الفنّ، فإن الأسطورة تتحدّث إلى الجنسين. وهي، بمعنى ما، تمثّل كلّ تلك الأشياء التي يقضي الإنسان حياته وهو يتجنّبها خوفا، لكنّه يندم على ذلك في النهاية.
    السيرانات نجدها اليوم في العديد من الأعمال الفنّية والأدبية وفي شعار شركة ستاربكس وفي رواية فرانز كافكا بعنوان صمت السيرانات .
    في وقتنا الحاضر، تكتسب أغاني السيرانات معنى مجازيّا. فالساسة الذين يبذلون للناس الوعود السخيّة والبرّاقة كي ينتخبوهم، إنما يعكسون بهذه الوعود معرفتهم بسيكولوجيا الإنسان وميله لتصديق الكلام المنمّق والمعسول. لذا فإن هؤلاء الساسة بارعون في غناء السيرانات، وبالنتيجة فإن الناس يميلون إلى الافتتان بـ "غنائهم" وتصديق وعودهم.

  • حصان طروادة:
    تتحدّث هذه الأسطورة عن إحدى أكثر الحيل شهرة في جميع العصور. الحرب بين الإغريق وأهل طروادة هي الآن في عامها العاشر. الطرواديّون شعروا بالابتهاج عندما استيقظوا في صباح احد الأيّام ليجدوا أن الجيش الإغريقي الذي كان يحاصر مدينتهم قد غادر أخيرا. غير أن الإغريق تركوا وراءهم هديّة غريبة هي عبارة عن حصان خشبيّ عملاق.
    تنفّس الطرواديّون الصعداء لأنهم اعتقدوا أنهم ارتاحوا أخيرا بعد أن خاضوا حربا ضارية وطويلة. وعندما رأوا الحصان الضخم أمام بوّابة مدينتهم ظنّوه رمزا للسلام وتحيّة للإلهة أثينا. لكنّ بعض الأهالي خمّنوا أن الحصان الخشبي قد يكون خدعة وأنه من الأسلم أن يتمّ إحراقه في مكانه.
    عرّاف المدينة، واسمه لوكون، حذّر الملك برايام حاكم المدينة من الحصان قائلا انه مكيدة وليس رمزا للسلام. غير أن بوسيدون، إله البحر، الذي كان يقف إلى جانب الإغريق، أرسل إحدى أفاعي البحر الضخمة كي تقتل لوكون وولديه. برايام ظنّ أن لوكون قُتل لأنه أدلى بنبوءة كاذبة. لذا أمر الملك بإحضار الحصان الخشبيّ إلى داخل أسوار المدينة.
    كان الإغريق قد وضعوا خطّة محكمة بعد عشر سنوات من الحصار الفاشل الذي فرضوه على طروادة. فقد تظاهروا بأنهم تخلّوا عن الحرب وقرّروا العودة إلى ديارهم. لكنهم تركوا ذلك الحصان الخشبيّ خارج الأسوار بعد أن ملئوه بالجند.
    وبعد يوم وليلة من الاحتفالات الصاخبة، انهار الطرواديون من الإنهاك الشديد بسبب إفراطهم في شرب النبيذ. الجنود الإغريق الذين كانوا مختبئين داخل الحصان استغلّوا الوضع وخرجوا من مخبئهم وفتحوا بوّابة المدينة. ثم دخل الجيش الغازي بأكمله إلى داخل المدينة وسوّوا أسوارها بالأرض ثم باشروا في قتل أو أسر جميع سكّانها.
    أسطورة حصان طروادة تحمل رمزيّة رائعة، وهي تعيدنا إلى ماض بعيد كان يخلو تقريبا من اللغة، وإلى مكان كانت فيه الرموز مرتبطة ارتباطا وثيقا بسعي الإنسان للبقاء على قيد الحياة. الحصان هو رمز للحرب، لكنه بنفس الوقت نموذج أصيل لقدرة الإنسان على الابتكار وعلى التدمير. كان حصان طروادة الوسيلة المثلى لحسم نزاع ملحميّ طويل أدّى في النهاية إلى القضاء على حضارة.
    وعلى الرغم من أن هذه القصّة منشؤها التاريخ القديم، إلا أننا ما نزال إلى اليوم نستخدمها في لغة الخطاب اليومي. وعندما نطلق على شيء ما "حصان طروادة"، فإننا نعني أنه حسن المظهر ولكنّه ينطوي على نيّة شريرة بداخله.
    وقد يكون حصان طروادة شخصا أو جماعة ما تحاول الإطاحة بشركة أو بلد أو حكومة من الداخل. كما يمكن أن يُطلق هذا الوصف على مجموعة مخرّبة أو جهاز يتمّ دسّه داخل صفوف العدو، أو على هديّة تُقدّم إلى شخص ما بنيّة الخداع وإيقاع الضرر. وتنويعا على هذا المعنى، تُستخدم هذه العبارة لوصف نوع من برامج الفيروسات التي تبدو قانونية وبريئة في الظاهر، لكنّ تأثيرها مدمّر على جهاز الحاسوب الذي تُنصب عليه.


  • سهم كيوبيد:
    لآلاف السنين، ظلّ الناس يتساءلون عن الكيفية التي يقع فيها البشر في الحبّ، أو كيف ينجذبون عاطفيّا إلى بعضهم البعض. وكانوا يعتقدون أن قوى خارجية تضرب ضربتها فجأة وتجرّد الإنسان من إرادته الواعية.
    الدراسات الحديثة تؤكّد أن هناك استجابات فسيولوجية يتمّ تحفيزها بأنواع مختلفة من الكيمياء الداخلية، بما في ذلك الغدد الصمّاء والأدرينالين والاندورفين والأوكسيتوسين.
    اليونانيون القدماء كان لهم تفسيرهم الخاصّ عن سرّ الوقوع في الحب، إذ كانوا يعزون ذلك إلى ما يُعرف بسهم إيروس إله الحبّ. سهم إيروس "أو كيوبيد عند الرومان" يشير ضمنا إلى وجود الفيرومونات وغيرها من الإشارات الفيزيائية والكيميائية.
    لكن ما هو مفقود في هذه الأسطورة في كثير من الأحيان هو حقيقة أن إيروس أو كيوبيد كان له سهمان: احدهما ذهبيّ يجلب الحبّ والجاذبية، والآخر رصاصيّ يُُحدث الكراهية والتنافر.
    أبوليوس يشير إلى هذه الثنائية في روايته الشهيرة عن كيوبيد وسايكي، بينما تتضمّن ترنيمة هوميروس إلى أفرودايت مقطعا يقول إن الحبّ لا يعرف حدودا وأن الإلهة وابنها يضربان جميع المخلوقات الحيّة برغبة غير عقلانية.
    في أوّل مرّة ظهر فيها كيوبيد، وكان ذلك في كتاب التحوّلات لـ اوفيد، استخدم سهمه بطريقة شرّيرة. أبوللو تعمّد إهانته عندما وصفه بأنه ولد سخيف لا عمل له سوى إطلاق السهام. وقد انتقم منه كيوبيد بأن أطلق عليه سهما ذهبيّا ليجعله يقع في الحبّ، كما أطلق سهما آخر، رصاصيّا هذه المرّة، باتجاه دافني الجميلة ليجعلها تخشى الحبّ وتكرهه. لذا فإن أبوللو في القصّة يطارد دافني إلى أن تتحوّل إلى شجرة غار كي تهرب منه، وكلّ هذا بسبب سهام كيوبيد التي لا ترحم.

  • نهر ستيكس المظلم وكعب أخيل:
    كثيرا ما يأتي الحديث عن نهر ستيكس المظلم مترافقا مع الحديث عن كعب أخيل. في الأساطير اليونانية، كان نهر ستيكس حدّا فاصلا بين العالم العلوي للأحياء وعالم الموتى السفلي. كان النهر أسود لدرجة انه يستحيل رؤية أيّ شيء تحت سطحه.
    الإغريق كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تختلف كثيرا عن البشر من حيث أنها، هي أيضا، عرضة للأفكار والمشاعر الشرّيرة. الفارق الوحيد هو أن الآلهة اكبر وأقوى من البشر، كما أنها مستثناة من الشعور بالخوف من الموت.
    كان الموت بالنسبة لليونانيين القدماء شيئا مرعبا. تصوّرهم المأساوي عن أرض الموت الكئيبة هو الذي كان يدفعهم للتعلّق الشديد بالأرض ومباهجها. كانوا يعتقدون أن أرواح البشر بعد موتهم تسكن في منطقة باردة ومظلمة تُدعى هيديز. هناك يقضي الأموات وقتهم في البكاء والتطلّع للعودة إلى الأرض التي تركوها وراءهم.
    عندما تصل أرواح الموتى إلى نهر ستيكس، يتمّ نقلهم في قارب يقوده بحّار عجوز وغامض يقال له كيرون. البحّار لا يتكلّم أبدا إلى أيّ من ركّابه، كما أن أحدا منهم لا يتحدّث معه. صمت الموت يلفّ الجميع منذ اللحظة التي يستقرّون فيها على القارب.
    ويتوجّب على كلّ راكب أن يدفع لـ كيرون أجرا نظير نقله في قاربه. لذا كان اليونانيون يضعون عملة نقدية في فم كلّ شخص يموت. كما أن البحّار لا يحمل سوى أولئك الذي تمّ دفنهم بعد موتهم. ومصير كلّ من لا يفي بهذين الشرطين هو أن يهيم على وجهه على شاطئ النهر بلا هدف لمئات السنين. فيرجيل ودانتي وصفا في وقت لاحق الأرواح وهي تتدافع بشكل محموم ويائس على شاطئ نهر ستيكس للحصول على مكان في القارب.
    عندما تصل الأرواح إلى الشاطئ الآخر، تدخل من بوّابة كبيرة يحرسها كلب له ثلاثة رؤوس. وخلف هذه البوّابة يتمّ إصدار الحكم النهائي، فالأخيار يذهبون إلى الفردوس أو الحدائق السماويّة. أما الأشرار فيُرسلون إلى تارتاروس أو الجحيم، وهو مكان غامض تسكنه الأشباح والظلال والكوابيس.
    بعض علماء النفس يشيرون إلى أن تارتاروس، أو الجحيم، ليست سوى رمز لهذا العالم الذي نتقبّل فيه كلّ شيء ظاهريّا ودون نقد أو تمحيص. أمّا "الأجر" الذي يتقاضاه كيرون من ركّاب قاربه فهو رمز لشرط تخلّي الإنسان عن أي رغبة متبقيّة له في الواقع الماديّ الذي كان يعيش ضمنه قبل موته.
    نهر ستيكس هو رمز للانتقال من حالة الحياة إلى الموت. غير أن مياه هذا النهر هي التي منحت القوّة التي كانت تسعى إليها والدة أخيل لحماية ابنها.
    تذكر الأسطورة أن أخيل كان ابنا لـ ثيتيس، وهي حورية بحر ونصف إلهة. وأبوه كان بيليوس، ملك منطقة في جبل بيليون. وقد سمعت أمّه ذات مرّة كلام ساحرة تتحدّث عن موت أخيل في حرب ستحدث مستقبلا في طروادة. لذا أخذت الأمّ رضيعها إلى أن بلغت به نهر ستيكس المظلم كي تغمره في الماء ليصبح خالدا. كانت تمسك به من كاحله وهي تغمره. لذا أصبح جسده غير معرّض للخطر باستثناء بقعة واحدة فيه هي كعبه.
    لكن في وقت لاحق، مات أخيل قرب نهاية حرب طروادة نتيجة سهم أصابه في كعبه بعد قتله للبطل هيكتور. الأسطورة تشير إلى أن الجرح الذي أصاب أخيل كان مميتا لأن كعبه كان الموضع الوحيد الذي اجتمعت فيه قابليّته للفناء من شتّى أنحاء جسده. أوفيد يشير في "التحوّلات" إلى أن أبوللو هو من حدّد لـ باريس نقطة ضعف أخيل وساعده في مهمّة قتله.
    ومثل العديد من الأساطير، فإن وجود النهر في هذه الأسطورة يحمل رمزيّة خاصّة. فالنهر دائم الجريان ومياهه تتغيّر باستمرار. لذا فإن الأنهار رمز مثاليّ للتحوّلات والانتقال من طور لآخر. بل إنها تمثّل اكبر التحوّلات جميعا: أي الانتقال من الحياة إلى الموت، كما يجسّده نهر ستيكس الذي يجب أن يعبره جميع البشر قبل أن يدخلوا هيديز أو عالم الأموات.
    ورغم أن أسطورة أخيل قديمة جدّا، إلا أنها لم تدخل التداول اللغوي إلا في القرن التاسع عشر. وهي تُستخدم ككناية عن الضعف القاتل أو المنطقة الهشّة والسريعة العطب. وأوّل من استخدمها كان الشاعر الانجليزي سامويل تيلر كولريدج عندما وصف ايرلندا بأنها "الكعب الضعيف لـ أخيل البريطانيّ". هذه الأيّام، لو سمعت مديرا أو مسئولا يتحدّث عن احد أقسام مؤسّسته واصفا إيّاه بأنه "كعب أخيل" المؤسّسة، فالمقصود أن ذلك القسم لا يحقّق مكاسب أو أرباحا وأن بقاءه على هذا الوضع قد يشكّل خطرا على مستقبل الشركة.

    موضوع ذو صلة: نساء الأوديسّا
  • الأحد، أغسطس 12، 2012

    أندروميدا في العالم الحديث

    بحسب كتاب التحوّلات لـ أوفيد، كانت أندروميدا ابنة لكلّ من الملك سيفيوس وزوجته الملكة كاسيوبيا اللذين كانا يحكمان مملكة كانت تقع بالقرب من مدينة يافا على شاطئ البحر المتوسّط.
    وتذكر الأسطورة أن كاسيوبيا كانت امرأة معتدّة بجمالها. وقد بلغ من إعجابها بنفسها أن ادّعت في احد الأيّام أن جمالها يفوق جمال الناريدات، وهنّ مجموعة من حوريّات البحر الفاتنات.
    الحوريّات لم يعجبهنّ غرور كاسيوبيا وافتنانها المفرط بجمالها. لذا طلبن من إله البحر بوسيدون أن يلقّنها درسا في التواضع. ونزولا عند رغبة الناريدات، أرسل بوسيدون وحش البحر الهائل سيتوس لإغراق سواحل المملكة.
    الملك سيفيوس الذي روّعه منظر الفيضان وهو يهاجم أراضي المملكة، دفعته توسّلات الناس لاتخاذ إجراء سريع وحاسم لمعالجة المشكلة. فجمع عددا من سحرة البلاد واستشارهم في ما ينبغي فعله لوقف الخطر الداهم. وأبلغه السحرة أنه ما من طريقة لصدّ الوحش سوى أن يقدّم الملك له ابنته أندروميدا كقُربان.
    وقد اُجبر سيفيوس في النهاية على أن ينفّذ مشورة السحرة. لذا تمّ ربط أندروميدا إلى صخرة على الشاطئ وتُركت هناك ليأكلها الوحش. لكن فجأة ظهر في الأفق البطل بيرسيوس فوق جواده المجنّح. وقد رأى أندروميدا مربوطة إلى الصخرة ومستسلمة لمصيرها المحتوم. كان بيرسيوس ما يزال يرتدي حذائي هيرمِس اللذين استخدمهما في مهمّة قطع رأس ميدوسا.
    أوفيد يخبرنا أن بيرسيوس عندما لمح أندروميدا لأوّل مرّة وهي مصفّدة بالسلاسل ظنّها تمثالا من رخام لشدّة بياضها ولأنها كانت تقف ساكنة مثل تمثال. ولم يدرك أنها إنسان حقيقي إلا بعد أن هبّت الريح فحرّكت خصلات شعرها. وعندما سمع القصّة، عرض على والدها أن ينقذها من براثن الوحش، شرط أن يوافق على تزويجه منها.
    تقول الأسطورة إن بيرسيوس انقضّ على الوحش وقتله وأنقذ أندروميدا. ثم وقع الاثنان في الحبّ وتزوّجا وأنجبا في ما بعد ستّة أطفال.
    بالنسبة للقارئ الحديث، يمكن أن تكون أندروميدا نموذجا نسائيّا مخيّبا للآمال. فهي مجرّد فتاة سلبية بلا حول ولا قوّة تقع في محنة. وهي ليست أكثر من مكافأة لأفعال بيرسيوس البطولية. ويُفترض أن القصّة تعكس الفترة الزمنية القديمة التي ظهرت فيها.
    من المثير للاهتمام أن نقارن بين أندروميدا وسايكي زوجة كيوبيد المُحبّة. من نواح عدّة، تبدو قصّة كلّ من المرأتين شبيهة بالأخرى. فكلاهما جميلة جدّا لدرجة أن ذلك الجمال يثير انزعاج الآلهة. في حالة سايكي، فإن ملامحها الجميلة تثير غضب فينوس إلهة الحبّ والجمال. ووالدا سايكي، أيضا، يتخليّان عن ابنتهما ليأكلها وحش. وبعد ذلك تأخذ القصّة منحى مختلفا.
    الأمر اللافت بالنسبة لـ سايكي هو أنها بطلة قصّتها. إنها تقع في حبّ كيوبيد، تفقده ثم تحارب بقوّة كي تستعيده. وكيوبيد هو مكافأتها النهائية.
    غير أن أندروميدا ليست هي نجمة العرض. إنها ليست حتى بطلة الأسطورة. ونحن غير متأكّدين ما إذا كانت تحبّ بيرسيوس حقّا. وأيضا ليس من الواضح ما إذا كانت راغبة فعلا في أن تتزوّجه فيما لو مُنحت حرّية الاختيار.
    من بين كلّ حكايات السماء الليلية، فإن قصّة أندروميدا تتضمّن أكبر عدد من البروج أو تشكيلات النجوم. فهناك ما لا يقلّ عن ستّ شخصيّات في السماء. وكلّها تذكّرنا بقابليتنا للفناء وبمكاننا في الكون.
    عندما تنتشر نسائم الخريف الباردة في الجوّ، فإن قصّة أندروميدا تحتلّ مركز الصدارة. ففي أواخر شهر سبتمبر، وعندما تتطلّع ناحية الشرق في بدايات الليل، سترى الوحش سيتوس كامناً في الفضاء الضحل فوق الأفق.
    وفي منتصف الطريق إلى السماء، يلوح المربّع الكبير الذي يمثّل بيغاسوس أو الجواد المجنّح. وإلى يساره، تبدو أندروميدا بذراعين ممدودتين وسلاسل تطوّق خصرها. وخلفها، يظهر مربّع آخر في منتصف مجرّة درب التبّانة يمثّل شكل أمّها الملكة كاسيوبيا.
    وأسفل الملكة مباشرة، يلوح طيف البطل بيرسيوس. وفوقه يجلس الملك سيفيوس مكلّلا بتاجه الملكيّ ليكمل الحكاية ويضفي على السماء هالة من المغامرة والرومانسية.
    الجِرم الأكثر إثارة في برج أندروميدا هو مجرّة أندروميدا، المعروفة كذلك باسم M31. والسبب في أنها مثيرة ومذهلة هو أنها قريبة منّا جدّا، مع أن القرب في هذه الحالة صفة نسبية.
    مجرّة أندروميدا تبعد عن الأرض مسافة نصف مليون سنة ضوئية. وهي مسافة كبيرة للغاية وبما يتعذّر على عقل الإنسان إدراكها. يمكننا فقط أن نقول إنها قريبة، لأن جميع المجرّات الأخرى، أي مئات البلايين من المجرّات، هي ابعد منها كثيرا. والسبب الوحيد في انه يمكن رؤيتها من خلال أجهزة الرصد هو أن لمعانها يواكبه تألّق مئات بلايين النجوم التي تحتويها.
    ومن بين تلك الأعداد المهولة من المجرّات التي تملأ أضواؤها سماءنا الليلية، فإن مجرّة أندروميدا هي الوحيدة التي يمكن أن نراها بالعين المجرّدة. وعندما تعرف أين تنظر، فمن السهل تحديد موقعها في قبّة السماء.
    في هذا الكون الذي يتمدّد بلا توقّف، ليس كلّ شيء يتحرّك بعيدا عمّا يجاوره. فمجرّتا درب التبّانة وأندروميدا تتحرّكان باتجاه بعضهما البعض بسرعة فائقة. ويتوقّع العلماء انه خلال بضع مئات ملايين السنين، ستلتحم المجرّتان ببعضهما لتكوّنا مجرّة واحدة. "مترجم".

    الجمعة، أكتوبر 07، 2011

    دومينيكينو: عرّافة كيومي

    كان دومينيكينو احد أشهر وأكثر الرسّامين الايطاليين نفوذا في القرن السابع عشر. وقد اشتهر بلوحاته الكبيرة، وخاصّة لوحته عرّافة كيومي التي رسمها في العام 1617 بناءً على تكليف من الكاردينال شيبيوني بورغيزي. كانت عرّافة كيومي شخصية شعبية جدّا. وكيومي هي اسم بلدة في جنوب غرب ايطاليا يُعتقد أنها أوّل مستوطنة للإغريق في ايطاليا.
    الكاردينال نفسه كان احد جامعي التحف الفنّية الكبار. كما اشتهر برعايته للفنّانين، مثل برنيني وكارافاجيو وغويدو ريني وغيرهم.
    وقد تأثّر دومينيكينو في رسمه لهذه اللوحة بلوحة رافائيل المشهورة سانتا سيسيليا. وعرّافة كيومي تقف في طليعة صفّ طويل من الشخصيّات الأنثوية التي رسمها دومينيكينو بعينيها الواسعتين الصافيتين ونظراتها البعيدة، وهما سمتان مألوفتان في أعمال هذا الرسّام.
    العرّافة التي تصوّرها اللوحة كانت إحدى كاهنات ابوللو وكانت تعيش في مستعمرة يونانية قرب نابولي بـ ايطاليا. وهناك إشارات متعدّدة إلى هذه العرّافة في الأدب الكلاسيكي. فقد ذكرها كلّ من أوفيد في كتاب التحوّلات وفرجيل في ملحمة الانيادا.
    كانت هناك عرّافات كثيرات. لكن يبدو أن هذه العرّافة كانت أكثرهنّ شعبية، وهذا يفسّر كثرة صورها في الرسم الايطالي.
    وقد اشتهرت هذه المرأة بإحدى نبوءاتها التي أشارت فيها إلى أن رجلا ستحمل به امرأة عذراء في اصطبل في بيت لحم. المسيحيون احتفوا بهذه الإشارة واعتبروها بشارة بمولد المسيح. كما أصبحت العرّافة نفسها رمزا مهمّا في المسيحية.
    ومن بين جميع اللوحات التي تصوّر المرأة، يبدو أن لوحة دومينيكينو كانت الأكثر تفضيلا واحتفاءً عند جامعي التحف الفنّية في القرن التاسع عشر.
    وربّما لهذا السبب تنافس الرسّامون في استنساخ اللوحة والنسج على منوالها. وهناك الآن على الأقل سبع عشرة نسخة من لوحة دومينيكينو هذه موجودة في متاحف ومجموعات فنّية عديدة حول العالم.
    دومينيكينو رسم ثلاث لوحات للعرّافة. وتظهر فيها جميعا وهي تعتمر وشاحا وترتدي فستانا من القماش النفيس.
    اللوحة الأشهر من بين اللوحات الثلاث هي التي توجد اليوم في غاليري بورغيزي في روما. وقد رُسمت في العام 1617م. وتظهر فيها المرأة وهي تمسك بمخطوط يُفترض انه يحتوي على تلك النبوءة، بينما يبدو خلفها جزء من آلة كمان.
    كرّس دومينيكينو كلّ حياته لرسم الجداريات الكبيرة، ونادرا ما كان يرسم لوحات صغيرة. كان هذا الرسّام يفضّل العمل في سرّية وعزلة تامّة. ولم يكن يملك مرسما خاصّا به. كما لم يكن مهتمّا بتوقيع اسمه على لوحاته، كما هي عادة الرسّامين في ذلك الوقت.
    في العصور القديمة، طبقا لما تذكره الأساطير، كانت هذه العرّافة تسكن الأضرحة والكهوف وتنطق بأحكام ونبوءات غامضة. وأحيانا كانت تكتب نبوءاتها شعراً على أوراق الشجر ثم تضعها عند حافّة الكهف. وإذا لم يأت احد ليجمعها، فإن الريح تبعثرها ولا يعود ممكنا قراءتها بعد ذلك.
    وفي القرون الوسطى، ركّز الكتّاب على النبوءات المسيحية للعرّافة، التي تنبّأت، حسب فرجيل، بـ "مخلّص أو قادم جديد من السماء". وقد فُسّر ذلك على انه نبوءة بميلاد المسيح أثناء حكم الإمبراطور اوغستوس. لكن بعض المصادر الأدبية تذكر أن فيرجيل إنما كان يشير على الأرجح إلى الشخص الذي كان يرعاه ويقدّر شعره.
    دانتي، وكما هو الحال مع المسيحيين الأوائل، صدّق تلك النبوءة واعتبرها مؤشّرا على ميلاد المسيحية. ولهذا السبب، وكنوع من المكافأة، اختار فرجيل كي يكون مرشده في رحلته إلى العالم السفلي في الكوميديا الإلهية.
    في العام 1932، قام بعض علماء الآثار بإجراء حفريات في الكهف الذي يقال بأن عرّافة كيومي كانت تسكنه. وقد وجدوا أن تضاريس وبُنية الكهف تتوافق مع ما ذكره فرجيل الذي وصفه بأنه كهف تقوم على تخومه مائة بوّابة يندفع عبرها صدى صوت العرّافة وهي تسرد نبوءاتها.
    في عصر النهضة تجدّد الاهتمام بشخصية عرّافة كيومي. ومن أشهر من صوّروها ميكيل انجيلو الذي رسمها في سقف كنيسة سيستين بـ روما.
    وعبر العصور المتعاقبة، ابتُكرت عرّافات أخر ونُسبن إلى أماكن مختلفة في اليونان وليبيا وبابل وإيران وآسيا وأفريقيا، للتدليل على الانتشار الجغرافي للمسيحية.

    الأحد، فبراير 07، 2010

    دايانا و آكتيون: النظرة المحرّمة

    مؤخّرا، اشترى الناشيونال غاليري في لندن لوحة تيشيان دايانا وآكتيون من دوق ساذرلاند بمبلغ خمسين مليون جنيه إسترليني. وقد تمّت الصفقة بعد مساومات طويلة وجدل كثير. المبلغ كبير ولا شكّ. لكن قيل أن اللوحة تستحق. ترى، ما الذي يجعل من هذه اللوحة عملا فنّيا خاصّا ومتميّزا؟
    المقال التالي هو خلاصة لبعض أهمّ الآراء التي تناولت اللوحة بالشرح والتحليل وتحدّثت عن سيرة حياة الرسّام وخلفية اللوحة وسرّ متعتها وغموضها.

    المكان مغارة في غابة داكنة وكثيفة الأشجار. خلف الغابة سماء ساطعة زرقاء وغائمة. في المغارة، هناك نافورة صغيرة وجدول ماء تستحمّ فيه إلهة الصيد دايانا برفقة وصيفاتها اللاتي يسلّين أنفسهن وهنّ عاريات. الوصيفات مهتمّات بالإلهة وإحداهنّ تنشّف إحدى قدميها بقطعة قماش عند طرف النافورة. وسط هذا المشهد الأنثوي الحميم يندفع آكتيون الصيّاد. يزيح بيده الستارة ويَراهُنّ وهنّ في ذروة مجدهن الجسدي. خطيئة رهيبة أن يرى رجل إلهة متجردة ناهيك عن أن تكون دايانا نفسها، الصارمة العفيفة.
    تيشيان يمسك باللحظة الكارثية في قصّة دايانا وآكتيون التي رسمها بناءً على تكليف من فيليب الثاني ملك اسبانيا في العام 1550م واعتمد في تفاصيلها على ما ذكره اوفيد في كتاب التحوّلات.
    كان تيشيان يعتبر هذا العمل قصيدة بصرية ونوعا من المحادثة مع قصّة أوفيد، أكثر منها محاولة لإعادة بناء المشهد الذي حكى عنه الأخير في كتابه.
    آكتيون صيّاد بريء قاده مصيره المشئوم إلى الغابة. وتيشيان يصوّر في اللوحة ردود فعل النساء وهنّ يرين الرجل الدخيل يقتحم عليهن خلوتهنّ. كما يصوّر حالة الهرج والمرج التي استبدّت بالنساء وهنّ يصرخن ويندفعن لتغطية الإلهة وستر جسدها. لكن دايانا ترتفع فوق مستوى المفاجأة. وجهها تعلوه حمرة الخجل والغضب جرّاء ما حدث وتنظر وراءها باحثة عن سهامها. لكن السهام ليست هناك. لذا تتناول اقرب شيء منها، حفنة من ماء لترشّه بها. تتحدّاه قائلة: الآن إذهب وقل للناس إنك رأيتني متجردة". من الواضح أنها تخشى القيل والقال. لكن الرجل يهرب من المكان بسرعة. وفي الطريق يرى انعكاس صورته في الماء. يريد أن يصرخ لكنّه لا يجد صوته. لقد رأى قرنين يبرزان من رأسه. وعرف انه في طريقه لأن يتحوّل إلى أيل. تلمحه كلابه وهو على تلك الحال، فتهجم عليه وتمسك به. وبينما تمزّق أطرافه وتنهش لحمه، تنادي الكلاب على سيّدها متسائلة لماذا هو غائب عن المشهد الممتع.
    ما فعله تيشيان هو انه ادخل لحظة خاطفة أو إطارا متجمّدا في قصّة اوفيد. وما نراه في اللوحة هو لحظة وصول آكتيون.
    آكتيون يدخل المشهد في لحظة واحدة. وجهه يتحوّل إلى لون قرمزي. يداه تعبّران عن مستوى الصدمة. المرأة القريبة من الستارة تحاول إعادتها إلى وضعها السابق وتلتفت لتنظر إلى سيّدتها في رعب. امرأة أخرى تختبئ وراء عامود. وثالثة تجلس على طرف النافورة مهتزّة وجلة. فقط المرأة السمراء التي تقف خلف دايانا تبدو متماسكة بينما تحدّق في وجهه. الإلهة تترك انطباعا بأنها ترى صورته المنعكسة في الماء.
    بناء هذه اللوحة شُيّد بعناية فائقة كأنما أراد الرسّام دعوة المشاهد للمشاركة في جوّ التوتّر والاضطراب والوقوف مع آكتيون على طرف الغدير.
    بعد لحظات، ستقف دايانا على تلك الساقين الطويلتين وستتناول الإناء الزجاجي الذي يفصل بينهما.
    النظرات يمكن أن تقتل. هذا هو الدرس الذي تقدّمه القصّة. جمجمة الأيل المستقرّة فوق العامود في الخلف تذكّرنا بمسار الأحداث المروّعة التي ستلي تلك اللحظة.
    قصّة دايانا وآكتيون هي واحدة من سلسلة من القصص التي يسردها اوفيد في كتابه والتي يتحدّث من خلالها عن تأثير النظر إلى الأشياء. بعد النهاية المحزنة لـ آكتيون، يحكي اوفيد عن قصّة سيميل. جمال هذه المرأة راق لعيني جوبيتر. وقع في حبّها ثم لم يلبث أن نام معها. كان يحبّها كثيرا وقد وعدها بأن يحقّق لها أيّ رغبة تتمنّاها. في إحدى الليالي طلبت أن تراه وهو في أوج مجده المقدّس مجرّدا من قناعه البشري الفاني. استسلم لطلبها، لكنّه كان يعرف إلى أين ستنتهي الأمور. عندما رأته المرأة في هيئته الحقيقية انفجر جسدها إلى أشلاء صغيرة. أخذ جوبيتر الجنين الذي كان قد نما في بطنها. في ما بعد سيكبر الطفل ويصبح باخوس إله الخمر.
    ثم ينتقل اوفيد إلى قصّة نارسيس الذي وقع في حبّ صورته المنعكسة في الماء وما جلبه عليه ذلك من تعاسة وشؤم.
    النظر خطير ويمكن أن يورد صاحبه المهالك. الجاذبية أيضا خطيرة وقاتلة أحيانا.
    قصّة دايانا وآكتيون رسمها الكثير من الفنّانين. لكن لا احد جسّد الإحساس بالهلاك والدراما المثيرة التي تتضمّنها القصّة بمثل ما فعل تيشيان.
    النظرة، وحتّى اللمحة الخاطفة، يمكن أن تكون شيئا خطيرا في عالم الشعر الغنائي اللاتيني. في كتابه "مراثي الحبّ"، يكتب الشاعر بروبيرتيوس في السطر الأول من أولى قصائد ديوانه يقول: سينثيا كانت أوّل من أسرتني بعينيها. الحبّ قمع نظرتي لما يعنيه الفخر والعناد". نظرة سينثيا في عيني عاشقها ليست نظرة حالمة. بل لمحة نارية أخضعته تماما، كما تقول قصيدة تالية.
    ربّما يذكّرنا هذا بلوحة أخرى لـ تيشيان اسمها الأعمار الثلاثة للإنسان. العاشقان البالغان يجلسان على العشب إلى يسار الصورة ويحدّق كلّ منهما بعمق في عين الآخر.
    دايانا وآكتيون أعطت تيشيان فرصة كبيرة للسعي إلى المجد من خلال أجساد النساء.
    في عصر النهضة الفينيسية الذي كان تيشيان احد روّاده، كانت المحظيات معترفا بهنّ كجزء من المجتمع. وكان الفنّانون يرسمونهن، لكن ليس بطريقة أكثر إثارة من هذه اللوحة. فرشاة تيشيان ترتعش بالرغبة. هذه ليست مجرّد لوحة تصوّر نساء عاريات. بل إنها تذهب إلى أعماقهن، وربّما تمارس الحبّ معهنّ. وهي تضيف تعقيدا وإثراءً لعالم تيشيان المتخيّل.
    المرآة الصغيرة على النافورة، الإناء الزجاجي إلى جانبها، والاهمّ من هذا وذاك المياه الخضراء التي تتحوّل فيها الصور والأشكال إلى نماذج طيفية وغريبة، كلّها عناصر تضاعف من متعة النظر إلى هذه اللوحة.
    الأشياء الناعمة في كلّ مكان. المخمل الأحمر الناعم الذي تجلس عليه دايانا، المناشف، الستارة الوردية الطويلة التي تفشل في إخفاء النساء المستحمّات عن عيني الرجل المتلصص، الأنسجة المخملية المليئة بالإيحاءات الايروتيكية.
    الأشجار والأعشاب والغيوم الزرقاء في السماء تضفي مسحة واقعية على المشهد الميثي.
    أوراق الخريف في اللوحة ربّما تذكّرنا بأن تيشيان كان يتقدّم في السنّ. اللوحة هي احتفاء أخير بالجسد. نظرة أخيرة قبل الصيام الكبير.
    كلب دايانا الصغير النابح يواجه بجسارة كلب آكتيون الأسود الضخم.
    المرأة التي تقف وتعطي ظهرها للناظر تبدو مختلفة عن رفيقاتها. بشرتها زيتونية وعضلاتها ذكورية. الأمر يبدو مثيرا للاهتمام. وصيفة دايانا السمراء هي مثال على عبقريّة الرسّام في التلوين. من عناصر الإبهار في اللوحة سطوع بشرة دايانا اللؤلؤية التي يعمّقها مجاورتها لبشرة المرأة السمراء. هل ضمّن تيشيان اللوحة امرأة سمراء كي يلمّح إلى انه إنما كان في الواقع يصوّر محظيات فينيسيا في زمانه؟ ربّما!

    في ما بعد، رسم تيشيان لوحة أخرى بعنوان موت آكتيون. كان ذلك بتكليف من فيليب الثاني أيضا. لكنّ الرسّام احتفظ باللوحة في محترفه حتى وفاته في العام 1576م. هذه هي اللوحة التوأم لـ دايانا وآكتيون. وهي تتحدّث عن الجزء الثاني من القصّة. كما أنها تعتمد إلى حدّ كبير على رواية اوفيد. لكنّها مفعمة بروح تيشيان الشاعرية والمجنّحة.
    يتحدّث كتاب التحوّلات عن كلاب آكتيون. كلّ واحد منها له اسمه الخاصّ وصفاته المميّزة. وفكرة المشهد تركّز على أن الرجل قُتل على أيدي الكلاب، رفاقه المقرّبين. في هذه اللوحة الأخيرة يصوّر تيشيان آكتيون لحظة هجوم الكلاب عليه وتمزيق جسده بضراوة. ويُفترض أن دايانا غائبة عن المشهد بعد أن أدّت مهمّتها بكفاءة. لكنّها هناك، في مقدّمة اللوحة. هي جزء من الفعل وجوّ الإثارة. الكلاب تبدو كما لو أنها تثِب من جسدها. آكتيون في منتصف المسافة إلى تحوّله. أصبح رأسه رأس أيل، لكنّ بقيّة جسده ما تزال تحمل ملامح إنسان. وتعاطفا مع غضب الإلهة المقدّس، تبدو السماء مظلمة والطقس عاصفا ومياه النهر متقلّبة وثائرة.
    أولى لحظات الرعب بالنسبة إلى آكتيون هي تلك اللحظة التي يرى فيها جسده منعكسا في مياه النهر وهو يتحوّل. في هذه اللوحة عَكْس متقن لمضمون اللوحة الأولى. النظرة المهمّة هنا هي نظرة دايانا. عينها، عين الصيّاد البارع، تحاصر الفريسة آكتيون ولا تتركه قبل أن تُمضي عليه حكمها.
    الطريقة التي وضع بها الرسّام الطلاء في خلفية المنظر الطبيعي المغبرّ والمشوّش تبدو مناسبة تماما لفكرتي الموت والتحوّل.
    كان آكتيون قد تعب من التجوال في الوادي فقصد الغابة كي يروي عطشه من نبعها. تيشيان ادخل دايانا في المشهد، وهي تظهر ممسكة بقوس وكاشفة عن ثديها الأيمن. آكتيون يصرخ في كلابه: أنا سيّدكم. لكن صيحاته تذهب مع الريح والكلاب لا تعبأ بتوسّلاته.
    تيشيان أعطى الحكاية بعدا مأساويا. وثمّة احتمال بأنه ضمّن المشهد اعترافا ذاتيا. فهي تحكي عن رجل يتحوّل إلى وحش عند رؤيته إلهة متخففة وتطارده كلابه كما لو أنها نوازعه الجنسية.
    معنى الصورة، مثل أيّ عمل فنّي عظيم، لا يمكن تحديده تماما. غير أنها تثير إحساسا بالحزن والنهاية. الصورة مثيرة جدّا للمشاعر. ويُحتمل أنها تتضمّن معنى الوداع. أوراق الخريف الذابلة الصفراء التي تثيرها الرياح الباردة تعمّق هذا الإحساس.
    في الأساطير اليونانية القديمة، كان الرجال والنساء يُكافَأون أو يُعاقبون بتحويلهم إلى نجوم وأزهار وأشجار وحيوانات.
    ويرجّح أن اوفيد ألّف التحوّلات في فترة قريبة جدّا من مولد المسيح. وكان الكتاب مصدرا أساسيا لفنّ عصر النهضة بالقدر الذي كان فيه العهد الجديد مصدرا للمسيحية.
    القصص الحزينة عن وحشية الآلهة تجاه الإنسان نقلها الرسّامون إلى لوحاتهم وأضافوا إليها الكثير من الإحساس والعاطفة والحزن وبطريقة لا تختلف كثيرا عن أسلوب تصويرهم لحادثة صلب المسيح.
    اوفيد في قصّة دايانا وآكتيون يعطي النساء أسماءً ويفصّل كثيرا في الحديث عن واجباتهنّ تجاه الإلهة. كما يتحدّث عن الكلاب وأيّها هاجم الرجل أوّلا وكيف وأين عضّته.
    عندما ننظر إلى القصّة ونتأمّل تفاصيلها قد يخطر لنا أن عنف دايانا غير مبرّر. فكلّ ذنب الرجل انه ضلّ الطريق ولم يكن باستطاعته أن يفعل غير ما فعل. الأمر لا يعدو كونه حادثة بسيطة مع شيء من الفضول.
    لوحتا تيشيان عن القصّة يمكن اعتبارهما إسهاما من الفنان في النقاش الذي كان يجري في عصره حول أيّهما أعظم: الرسم أم الشعر؟
    في اللوحة الأخيرة ما يزال آكتيون ممتلكا لعقله ومشاعره ولم يتحوّل بعد بالكامل إلى وحش. وقد أضاف تيشيان شيئا على الحكاية الأصلية. فـ دايانا تستأنف صيدها وكأن شيئا لا يحدث. والطريدة التي تصوّب عليها قوسها تقع خارج حدود الصورة. إنها لا تبالي حتى بإلقاء نظرة أخيرة على آكتيون في محنته رغم انه في نفس اتجاهها.
    تذكر القصّة انه خرج في بداية الأمر مع عدد من أصدقائه للصيد. غير انه ضلّ طريقه. ذلك كان خطأه الوحيد، أي النظر إلى إلهة متجردة. يقول اوفيد: ليس هناك خطيئة في أن يضلّ الإنسان سبيله".
    لقد أخطأ آكتيون. قد يكون ركّز عينيه على نهدي المرأة أو فخذيها. وربّما يكون حاول أن لا ينظر. غير أن دايانا لم تكن مهتمّة بمسألة ما إذا كان مذنبا أم بريئا.
    هي كانت إلهة محتشمة. في تلك اللحظة لم يكن قوسها حاضرا لذا ألقت بالماء، الماء السحري، في وجهه. وبعد وقت قصير من ذلك، أحسّ بالتهاب في وجهه وبأن شيئا ما على وشك أن يبرز في طرفي رأسه.
    حتى صوته فقده عندما أراد أن يخبر الكلاب انه هو. الكلاب في اللوحة تمسك بسيّدها المسكين. هي متحمّسة ونشطة وتفعل ما كان درّبها على فعله.
    الشيء الغريب انك عندما تنظر إلى رأس آكتيون لن تستطيع أن ترى عينيه. تيشيان عُرف ببراعته في تصوير أعماق وانعكاسات العيون. لكنه هنا اختار أن يُعمي آكتيون في ما يبدو وكأنه معادل فنّي لحرمان اوفيد له من الكلام.
    لوحة تيشيان لا تخلو من روح الدعابة. القصّة أساسا هي عبارة عن كوميديا سوداء عن العقاب الذي يتعرّض له المتلصّص. غير أن تيشيان يستمتع بالحضور الفخم لـ دايانا بطريقة احتفالية ومبهجة. لكنْ تظلّ اللوحة حزينة بل ومثيرة للشفقة كثيرا.
    المأساة تظهر في الأشجار أيضا. إنها صفراء شاحبة وخريفية. هي ليست أشجارا شابّة طازجة وخضراء، بل تبدو أشجارا متعبة أضناها التآكل والشيخوخة. لكنّ تلك الأشجار ما تزال جميلة وذات نسيج سميك. بإمكانك أيضا أن تحسّ بالجوّ العاصف وبالنسيم البارد قبل العاصفة وبالسحب المتحوّلة من الرمادي إلى الأصفر وكأنها وعد مشئوم من السماء.
    لوحة موت آكتيون لم تذهب إلى اسبانيا أبدا. ولم تُضمّ إلى مجموعة فيليب الثاني. بل ظلّت في محترف الرسّام إلى أن مات. ويبدو أن هذه اللوحة تتضمّن عنصرا شخصيّا. إنها إحدى اللوحات التي يتحدّث فيها تيشيان عن نفسه. وقد يكون هو آكتيون الذي تتقدّم به السنّ سريعا، الإنسان الشقيّ الواقع تحت رحمة عينيه المتجوّلتين المتفحّصتين دوما.

    كان تيشيان رسّاما عظيما. كان أمير الرسّامين ورسّام الملوك والأمراء وعامّة الناس. وقد ظلّ الفنانون يتعلّمون منه ويدرسونه ويستمدّون منه الإلهام. فيلاسكيز وروبنز ورمبراندت كانوا بعض أتباعه المخلصين. وأهميّته لا تختلف عن تلك التي لـ ليوناردو ومايكل انجيلو. كان يرتدي قناعا طوال عمره. وقد عاش حياته كلّها في فينيسيا التي كانت في وقته أرقى مدينة في العالم.
    كان مشهورا منذ سنوات عمره الأولى. وقد عرف كبار الكتّاب والشعراء وأرسِل في مهامّ ديبلوماسية. وهذا صقله كثيرا ورفع مكانته وفتح له الباب إلى مجالس الملوك والأمراء.
    ومع ذلك فإن حياته ما تزال مجهولة وغامضة، تماما مثل غموض الكثير من لوحاته.
    ويقال إن تيشيان مات وله من العمر 104 أعوام. ويرجّح أن في هذا مبالغة. في ذلك الوقت - أي قبل حوالي خمسمائة عام - كان كلّ من يعيش حتى الخمسين يعتبر إنسانا محظوظا. جورجيوني، معاصر تيشيان وأحد أنجب تلاميذه، مات بالطاعون وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
    والاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن تيشيان كان بين الثمانين والتسعين عند وفاته.


    Credits
    artnet.com

    الخميس، يناير 07، 2010

    محطّات



    حوالي منتصف القرن الخامس عشر، كان يعيش في نابولي فنّان شابّ ولامع. كان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة وكان اسمه انتونيللو دي ميسينا. وإلى هذا الشابّ يعود الفضل في إدخال تقنية الرسم بالألوان الزيتية إلى ايطاليا والتي أخذها عن الرسّام الهولندي يان فان ايك. لوحة انتونيللو بشارة العذراء كانت الدليل الأقوى على إجادته وإتقانه لتلك الحرفة.
    وقد ولد انتونيللو في ميسينا بـ صقلية وأصبح اسم مدينته ملحقا باسمه فصار انتونيللو دي ميسينا. وأهمّية الرسّام ليست فقط في اختراع وسيط جديد وإنما في ابتكار أسلوب جديد في الرسم.
    في ذلك الوقت كانت الجداريات هي الوسيلة المهيمنة في رسم المناظر والبورتريهات الدينية. كان رسم جدارية يتطلّب ملء الجدار بالجبس المبلّل والأصباغ التي تجفّ بسرعة مع ما ينطوي عليه ذلك من جهد وصبر.
    لكن اللوحات الزيتية لم تكن تتطلّب شيئا من ذلك. إذ كانت تُحمل بسهولة وتستغرق وقتا أطول حتى تجفّ ويلزمها مهارة اقلّ. وفي الحقيقة كان وقت جفافها الطويل نسبيا بمثابة رصيد ثمين بالنسبة للرسّام. فقد كانت تسمح بمزج الألوان إلى ما لا نهاية وجعلها تبدو مشعّة. كما كانت الألوان الزيتية أكثر تسامحا مع الأخطاء من الوسائط اللونية القديمة.
    انتونيللو اثبت إلى درجة لا تصدّق تنوّع استخدام الألوان الزيتية والتأثيرات البصرية الهائلة التي يمكن أن يحقّقها الرسّام من خلال استخدامها.
    وقد كلفه بعض أهالي فينيسيا برسم لوحات وبورتريهات دينية في الكنائس سرعان ما أصبحت تفتن الناس ببريقها الأخّاذ ومرونة شخوصها.
    وهرع إليه رسّامون مثل بيلليني ومانتينا كي يتعلّموا منه الرسم بطريقة أفضل وأكثر سطوعا.
    وفي ما بعد عزا كلّ من جورجيوني وتيشيان الكثير من نجاحهما إلى انتونيللو وتأثيره.
    وانتشرت أعماله بعد ذلك إلى ميلانو حيث تأثّر به الشابّ ليوناردو الذي كان ما يزال وقتها يتلمّس طريقه في الرسم.
    ومن المفارقات الغريبة أن هذا الفنان باكتشافه الألوان الزيتية كان احد العوامل الأساسية في تأجيج تلك العبقرية المدهشة التي اتسم بها الرسم الايطالي خلال ما أصبح يُعرف في العصور التالية بعصر النهضة الشمالية.


    هذه قصّة كلاسيكية، لكنّها معروفة. السؤال: هل يمكن أن يموت الإنسان من كثرة الجنس؟ هذا ما حدث للفنّان الايطالي الموهوب رافائيل، طبقا لكاتب سيرته في القرن السادس عشر جورجيو فاساري.
    يروي فاساري في كتابه "حياة الفنّانين" أن رافائيل، الذي مات في سنّ السابعة والثلاثين وهو في أوج مجده، أسقطته عاطفته المشبوبة. هذا الرأي نجد له صدى في القرون الوسطى التي شاعت فيها فكرة تقول إن صحّة الإنسان تعتمد إلى حدّ كبير على خلق توازن دقيق بين مزاج الإنسان وعواطفه.
    ويقال إن رافائيل جنت عليه كثرة الحركة في السرير. طبعا هذه مجرّد نظرية. لكنّ فاساري يورد تفاصيل عن الحياة العاطفية لـ رافائيل. فالرسّام الشاب والموهوب والوسيم كان شغوفا كثيرا بمحبوبته لدرجة انه أصرّ على أن يُسمح لها بالعيش معه في الفيللا التي كان يسكنها في روما عندما كان مكلّفا برسم بعض جدارياته.
    لا جنس، إذن لا جداريات! هذا كان شرطه. والواقع أن قصّة علاقة رافائيل مع لا فورنارينا كانت مصدر فتنة للفنّانين على مرّ العصور.
    في إحدى لوحاته، يصوّر جوزيف تيرنر رافائيل وهو يكشف عن لوحاته الأخيرة بينما تتبعثر حُليّ "لا فورنارينا" على الأرض. وفي الخلفية تبدو بعض معالم الفاتيكان.
    كان رافائيل الرسّام المفضّل عند الباباوات. والحقيقة أن فكرة أن يمارس رسّام الكنائس الرائع الحبّ مع عشيقته في الفاتيكان كانت كفيلة بإلهاب مخيّلة تيرنر كما فتنت بيكاسو بدرجة اكبر.
    وقبل وفاته بفترة قصيرة، رسم بيكاسو عدّة لوحات يصوّر فيها رافائيل وحبيبته وهما يلهوان بينما يختبئ مايكل انجيلو تحت سريرهما.
    ويبدو أن أسطورة رافائيل الشهواني دوّخت الفنانين. لكن هل يمكن أن تكون القصّة حقيقية؟
    احد الخيارات هو أن نرفض القصّة من أساسها على اعتبار أنها مجرّد حكاية إباحية مثيرة. لكن يتعيّن علينا أن ننظر إلى بورتريه رافائيل بعنوان امرأة متكشفة. ترى، هل هي لا فورنارينا؟
    في قصر باربيريني في روما تقف المرأة مستعرضة جمالها بطريقة كلاسيكية وحميمة في الوقت نفسه. وهي ترتدي ربطة ذراع تعلن من خلالها أنها له. انه إعلان لا ينقصه الغموض عن الرغبة. فهي ليست متجردة مثالية أو بعيدة المنال. لكنها عشيقة الفنّان نفسه.
    الأمر المؤكّد هو أن الجنس لم يقتل رافائيل. بل قد يكون العامل الذي حافظ على بقاء فنّه حيّاً.


    الهدوء الذي يحيط بـ نابولي والاضطرابات "التكتونية" تحتها هي تعبير مثالي عن حقيقة انه لا يمكن الاعتماد على ما تراه أعيننا ظاهريا.
    نظرت ذات يوم إلى لوحة جوزيف رايت اوف ديربي المذهلة بعنوان بركان فيزوف في حالة ثوران. كنت قد تعجّبت قبل ذلك من وابل الأضواء الذهبية والنيران الوردية المنبثقة من ظلمة الغيم والدخان في اللوحة. الفارق بين المنظر الذي رأيته بعينيّ في نابولي وبين صورة البركان في اللوحة كان مبعث حيرة بالنسبة لي.
    فيزوف هو بالتأكيد أشهر بركان في العالم. بيليني الأكبر، عالم الطبيعة القديم، لقي حتفه وهو يراقب ثوران البركان في العام 79 قبل الميلاد والذي تسبّب في تدمير مدينة بومبي بالكامل. وقد وصف ابن أخيه اندفاع البركان في رسالة ما تزال إلى اليوم مرجعا مهمّا لعلماء البراكين.
    بركان فيزوف هو بركان نشط، وما يزال قادرا على نفث الدخان والأبخرة. وقد فعل هذا آخر مرّة في أربعينات القرن الماضي. ويقال إن ثوران البركان تأخّر كثيرا. ليس هذا فقط، بل إن المشهد بأكمله حول نابولي مليء بالحفر والموادّ المنصهرة. فالمدينة تقع على خطّ الصدوع بين إفريقيا وأوربّا، وكانت وما تزال في قلب اهتمامات علماء الجيولوجيا.
    يقول ريتشارد فورتي في كتابه "الأرض" إن منطقة شمال نابولي هي أكثر قابلية للانفجار من فيزوف نفسه. وما يزعج حقّا هو هذا السؤال: إذا كانت هذه التضاريس خطرة جدّا، لماذا لا نستطيع رؤية الأخطار عيانا؟
    أو بتعبير أدقّ: لماذا يصعب علينا أن نتخيّل رؤية فيزوف وهو ينفجر عندما ننظر إليه اليوم؟
    النظر عبر خليج نابولي يحيلنا إلى منظر جميل وهادئ. وهناك جبل مؤطّر وحسن الشكل في مواجهة سماء زرقاء. لا يمكن رؤية دخان أو نار. وسيحتاج الأمر لمعجزة كي تكتشف كم أن سكون المكان مخيف وصمته شرّير.
    اعتقد أن هذا يقول لنا شيئا مهمّا عن وظيفة النظر. فنحن عادة نصدّق ما نراه ونميل إلى أن نعتقد في الوقت نفسه أن النظر بجدّية واهتمام يمكن أن يوفّر لنا اكتشاف الحقيقة.
    غير أن كثيرا من الحقائق هي ببساطة غير مرئية. وهناك مظاهر عديدة خادعة ولا تعبّر عن حقيقة الأشياء.
    وفيزوف، الذي يخفي عنفه تحت مظهره الهادئ، هو كناية واضحة عن أن ما نراه بأعيننا أحيانا لا يمكن الركون إليه لأن الواقع قد يكون غير ذلك.


    رسم تيشيان نساءً عاريات في لوحاته المبكّرة. ثم رسم المزيد من تلك اللوحات في شيخوخته المتأخّرة. لذا يمكن القول إن فنّ هذا الرسّام الايطالي هو في حقيقة الأمر مزيج من شغب الحبّ وسعار الشهوة.
    لوحة ديانا و اكتيان، هذا المهرجان الباذخ من الأضواء والأجساد، هي احد أعظم الأعمال الفنّية الأوربية. كما أنها جوهرة في تاج لوحات هذا الرسّام العظيم والنادر.
    لكن لماذا كرّس الفنّان الفينيسي الكثير من عبقريته للجنس؟
    رسم تيشيان الكثير من اللوحات الدينية والعديد من البورتريهات التي قلّدها الرسّامون الذين جاءوا بعده عبر قرون. لكنّك لا تستطيع تجنّب إغراء تيشيان عندما تنظر إلى مجموعة أعماله الكاملة.
    في إحدى لوحاته المبكّرة يرسم تيشيان شابّين في نزهة مع امرأتين. الرجلان يرتديان ملابس جميلة بينما المرأتان لا ترتديان شيئا. وضعية المرأتين رُسمت بطريقة ذكيّة بحيث تخفي صدرهما.
    لكن قبل أن تستنتج أن تيشيان رجل خجول عليك أن تكمل القراءة. لوحة فلورا توضح أن الإخفاء والكشف بالنسبة للرسّام هما تكتيكان بارعان ضمن لعبة فنّية وحسّية. فلورا ترتدي لباسا ابيض ينحسر عن احد كتفيها ليكشف عن جزء من ثديها. إن ما نراه هنا هو عبارة عن فعل غواية واضح ضمن حركة تصويرية مذهلة.
    في لوحة حبّ مقدس وحبّ دنيوي، يقارن تيشيان بين امرأة جميلة ترتدي ملابس نفيسة وقرينتها التي تكشف عن جسدها بالكامل تقريبا.
    في فينوس اوربينو يرسم الفنّان امرأة مجهولة تضطجع على سريرها كاشفة عن جسدها الذي يبدو في تمام سحره وكماله. صورة حميمية أخرى تأخذك إلى الوراء وقد تثير شجونك. هنا أيضا، كما في كلّ لوحات تيشيان الحسّية، ثمّة حبّ ممزوج برهبة.
    ديانا و اكتيان التي رسمها بعد حوالي عشرين عاما من رسْمه فينوس اوربينو ربّما تكشف عن حنين الرسّام في سنّه المتأخّرة لأجساد النساء. وفي لوحاته المكشوفة التي رسمها قبل ذلك، يبدو تيشيان وكأنه يتعمّد منح الناظر الجسد بكامل امتلائه وجرأته.
    فلورا وفينوس اوربينو صلبتان وحقيقيّتان. جسد الإلهة المستحمّة وأجساد رفيقاتها الأخريات في دايان و اكيتان تبدو أكثر مراوغة وغموضا. انه الجسد بحدّ ذاته وليست النساء اللاتي يظهرن في هذه اللوحة.
    لوحات تيشيان المتكشفة والمثيرة ربّما تعبّر عن تهويمات الفنان وتخيّلاته الفانتازية بعد أن انطفأت عاطفته ودخل خريف العمر.


    نرسيس، أكثر أبطال الأساطير الإغريقية مأساوية، لم يمت كسير القلب كما يقال، بل انهار في بركة من الدماء بعد أن أقدم على الانتحار، بحسب ما يقوله مخطوط قديم عُثر عليه مؤخرا.
    المخطوط يتضمّن قصيدة قديمة تقول شيئا مختلفا عن ما أورده الشاعر الروماني اوفيد في كتابه التحوّلات.
    والآن يعتقد العلماء أن اوفيد قام بتعديل الأسطورة كي يوسّع جاذبيّتها.
    كان نرسيس شابّا رائع الجمال، لدرجة انه حتى الرجال كانوا يقعون في حبّه. لكنّه كان يحتقر الجنس. كما أن إعجابه المفرط بنفسه جنى عليه في النهاية ولم يورّثه سوى الأسى والخيبة.
    وحسب اوفيد، فإن نرسيس حُكم عليه بأن يحدّق إلى الأبد في صورته المنعكسة في غدير ماء. ثم هام على وجهه إلى أن مات. وبعد أن مات تحوّل إلى أوّل زهرة نرجس نبتت على الأرض.
    ويُعتقد أن الأسطورة ظهرت في المجتمع اليوناني القديم المعروف بتحرّره الجنسي. كان الغرض من اختراع الحكاية التحذير ممّا يمكن أن يحدث للشباب الذين يتميّزون بالجمال وحسن الخلقة إن هم رفضوا تودّد أقرانهم الأكبر سنّاً!
    تقول القصّة إن الكثير من النساء وقعن في حبّ نرسيس، لكنه رفضهن جميعا. إحدى هؤلاء واسمها ايكو "أو الصدى" أصابها كرب شديد نتيجة تمنّعه عنها وانسحبت إلى بقعة مهجورة. وهناك تلاشت تدريجيا إلى أن لم يبق منها سوى همسة حزينة.
    وقد سمعت الإلهة صلوات النساء اللاتي رفضهن ودعواتهن للانتقام منه، فحكمت على نرسيس أن يقع في حبّ صورته المنعكسة في الماء.
    وبالرغم من كون نرسيس شخصية أسطورية في الأساس، إلا انه كان لهذه الأسطورة تأثير هائل على الثقافة الإنسانية وعلى الفنّ والأدب وعلم النفس بشكل خاصّ.

    السبت، ديسمبر 05، 2009

    ربّات الإلهام

    لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
    وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
    ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
    هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
    اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
    الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

    في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
    في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
    كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
    في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
    غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
    ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
    اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
    آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

    دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
    مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
    معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
    الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

    لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
    الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
    والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
    ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

    إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
    ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
    البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
    وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

    آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
    قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
    ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
    أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
    سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

    بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
    غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
    والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
    ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
    إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

    اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
    بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

    لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
    الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
    رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
    الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
    سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
    يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
    فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

    الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
    الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
    لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
    كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
    وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

    عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
    دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
    ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


    Credits
    theguardian.com
    wsj.com

    الثلاثاء، ديسمبر 01، 2009

    مناظر من أركاديا


    استوحى نيكولا بُوسان لوحاته عن أركاديا من الأدب الكلاسيكي وأودع فيها صورا لجمال مثالي وخالد يظهر فيه الشخوص بهيئات نبيلة وبملامح تشبه شكل التماثيل القديمة. وعندما تتأمّل صوره عن الطبيعة الرعوية، سرعان ما تكتشف سحرها وقوّتها التعبيرية الكبيرة والمزاج الشعري والحالم الذي تصوّره.
    ويُعزى الفضل لـ بُوسان في إضفاء مسحة كلاسيكية على الرسم في فرنسا. ومن أجل تلك الغاية، ذهب إلى روما وأقام فيها سنوات طوالا. هناك، وضع رسم الباروك في قلب العالم القديم. لكنه اظهر الجانب المظلم من أركاديا عندما شكّك في التصوّرات القديمة عن بساطة الحياة الرعوية والريفية في اليونان القديمة. كان يرى العالم القديم عالما متخيّلا وكان ينظر إلى أركاديا كمكان ساذج أكثر من كونه مكانا مثاليّا.
    الطبيعة كانت وسيلة بُوسان المفضّلة للتعبير عن أفكاره وقناعاته. وكان يرسمها ليؤكّد على إحساسه بالمكان. وتكثر في صوره مشاهد الرعاة والبحيرات والجبال والأشجار والأوراق التي تذرها الرياح. وفي لوحاته، كلّ عنصر له وظيفة. حتى الظلال لها شخصيّتها المستقلّة داخل البناء العام للوحة. كما أن كلّ شيء يبدو في حالة حركة. فالطبيعة عند الرسّام هي تعبير عن حركة الإنسان وعن عقله الواعي. والغابات في بعض لوحاته تخلو من الطيور والحيوانات ما لم يكن لها دور تلعبه في حياة الإنسان.
    وتُظهر بعض صوره جبالا عظيمة يجلس فوقها أو حولها أشخاص يعزفون الناي ويُخيّل لمن يراهم أنهم هناك منذ آلاف السنين. حتى الأشياء الساكنة والمملّة لها لغتها الخاصّة في لوحاته. فالأفاعي لها ذكاء الإنسان، والأشجار تنمو وتمدّ أوراقها وأغصانها في الجوّ مسرورةً بالمطر وفخورة بالشمس. والكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده حاولوا اقتباس بعض رؤاه الشاعرية عن الريف الايطالي وضمّنوها في أعمالهم. لوحته الطوفان يعتبرها بعض النقّاد من أفضل اللوحات في العالم التي تصوّر طبيعة تاريخية. فكلّ شيء في هذه اللوحة مرسوم في مكانه المحدّد بعناية وبطريقة متناغمة مع بقيّة العناصر.
    وفي صوره إجمالا سمة أخرى لا نراها عند غيره، تتمثّل في هذه المزاوجة المتوتّرة والغريبة بين السماوات الزرقاء والعواصف، بين الحبّ الحميم والموت العنيف. ومشاهده عن العواصف لا تصوّر فقط غضب الطبيعة، بل يمكن اعتبارها تأمّلات فلسفية عن جوانب الحياة التي يصعب التنبّؤ بها. النحّات الايطالي المشهور جيان لورنزو بيرنيني رأى بعض لوحات بُوسان وشبّه تأثيرها بالخطبة العظيمة التي يستمع إليها المرء باهتمام ثم يبتعد عنها في صمت بينما لا يزال مستمتعا بصدى تأثيرها داخل نفسه.
    استلهم بُوسان لوحاته عن طبيعة أركاديا من أشعار أوفيد وفرجيل ومن رحلاته العديدة في ريف روما. في ذلك الوقت، كان كتاب التحوّلات لـ أوفيد احد أشهر الكتب وأكثرها رواجا في أوربّا. وهو يتضمّن قصصا عن حبّ الآلهة وعن تَحوّل البشر إلى نباتات وحيوانات. وكثيرا ما تُفسّر نصوص أوفيد على أنها استعارات مجازية عن دورات الطبيعة. وهذا النوع من القصص هو الأساس الشعري الذي أقام عليه بُوسان فنّه.


    في بعض مناظر الرسّام، تبدو السماء مظلمة والموت متربّصا في كلّ مكان. الموت الذي يكتشفه الرعاة على شاهد قبر كما لو أنهم لم يسمعوا به من قبل. حتى الأساطير التي كان يقدّسها الفنّان تنتهي بالموت دائما. لوحته المسمّاة "طبيعة مع رجل قتلته أفعى" أصبحت موضوعا لكتاب ألّفه ناقد يُدعى تيموثي كلارك بعنوان "مشهد الموت"، استعرض فيه جماليات اللوحة والاستعارات المضمّنة فيها. ويقال إن بُوسان استوحى موضوع هذه اللوحة من مكان موبوء بالأفاعي والحيّات السامّة في منطقة بجنوب شرق روما. والصورة عبارة عن دراسة عن الخوف الذي يثيره مرأى جثّة إنسان ميّت، كما أنها تصوّر، بمعنى ما، انتصار الطبيعة على الإنسان.
    رسومات بُوسان عن الطبيعة تدلّ على قوّة ملاحظته. وهي تشبه نهرا من الأفكار الجميلة التي تمرّ عبر العقل وتستثير الفكر لمحاولة فهمها وحلّ رموزها. كان يؤمن بأن البشر والطبيعة شيء واحد، لأن كلّ منظر طبيعي يحمل دلالة إنسانية. وقد عُرف بمقدرته الكبيرة على أن يخلق لكلّ لوحة جوّاً ومزاجا خاصّا. ولا بدّ وأنه استفاد كثيرا من براعته في استخدام اللون والظل والشكل. ولا يبدو أن هناك من ينافسه في استخدام الضوء الذهبي في لوحته "إلهام شاعر" التي أرادها أن تكون تخليدا لذكرى شاعر راحل، ولا في رسمه الأخّاذ لإحدى الحوريّات وهي تعصر العنب من يدها لتتساقط قطراته في فم ملاك صغير أسفل منها.
    في لوحته "طبيعة يشوبها الهدوء"، نرى منظرا آخر من أركاديا: ريف ومياه صافية وأغنام ترعى. الظلّ يتحرّك من الأشجار باتجاه البحيرة المنعكسة على مائها الساكن صور المباني في الخلفية. حتّى في أركاديا يمرّ الوقت سريعا والنهار يتلوه ليل والليل يعقبه نهار. مزاج اللوحة ناعم، مع أن فيها لمسة حزن خفيفة.
    يمكن القول إن مناظر بُوسان هي نوع من الاحتفال بالحياة والحبّ والشعر. كان يطلب من جمهوره دائما أن يقرأ اللوحة كما يقرأ القصيدة. وذات يوم، رآه أحد أصدقائه وهو يتجوّل على ضفاف نهر التيبر ويرسم المناظر الطبيعية التي كان يحبّها. ونظر إلى منديله فرآه مملوءا بالحجارة الصغيرة وبالأزهار التي كان يأخذها معه إلى البيت ليتأمّلها ويرسمها.
    في لوحة أخرى، يرسم الفنّان زواج اورفيوس ويوريديسي. المكان بقعة أخرى من أركاديا. ملابس الأشخاص جميلة وزاهية. غير أن المبنى الظاهر في خلفية الصورة يبدو حديثا ومألوفا. وهو معلم من معالم روما كان قائما زمن الرسّام. ويظهر في اللوحة وهو ينفث الدخان ويبدو كما لو انه يطير في الهواء. الفكرة هنا هي أن هذه المدينة خالدة. لكن حتّى الأشياء الخالدة نفسها لا تدوم إلى الأبد ومصيرها في النهاية إلى زوال.
    في بداياته، رسم بُوسان لوحات يظهر فيها الأشخاص في حالة من التوق والتطلّع، وأحيانا التأمّل الصامت أو الحزين. غير انه في أواخر حياته رسم مشاهد مظلمة يصعب فهمها أو تفسيرها. حتّى النقاد لم يستطيعوا فكّ شيفرتها مع أنها جميلة وتروق للعين. وبعض المؤرّخين رأوا فيها انعكاسا لإحساس الرسّام بكراهية الشرور التي كان يراها على الأرض. ورسائله في تلك المرحلة تمتلئ بالتعليقات المريرة والغاضبة وهو يرى الاضطرابات السياسية تعمّ أوربا ولا توفّر حتّى بلده الأصلي فرنسا.
    يقول في إحدى تلك الرسائل: هجرَ الناس الفضيلة والضمير والدين. ولا وجود الآن سوى للخداع والرذيلة والمصالح الخاصّة. لقد ضاع كلّ شيء وفقدتُ الأمل في وجود الربّ. فالشرّ كامن في كلّ مكان وفي كلّ شيء". كان بوسان يرسم الأفكار، لذا قيل انه أكثر الرسّامين شاعرية. كما كان يؤمن بأفكار الفلسفة الرواقية التي تدعو إلى كبت الأهواء والانفعالات العاطفية وإخضاع الرغبات لحكم العقل. كما عُرف عنه حبّه للعمارة، خاصّة عندما تكون في حالة خرائب وأنقاض. ولم يكن مستغربا أن يتأثّر به الرومانسيون وفي مقدّمتهم الشاعر الانجليزي جون كيتس الذي كان يعتبره رسّامه المفضّل.

    Credits
    metmuseum.org
    archive.org