وغالبا ما يسيء الغربيون فهم صفات مثل البساطة والفراغ والغموض على أساس أنها تفتقر إلى شيء ما. لكن في اليابان، تشير هذه الصفات ذاتها إلى النضج والثراء الروحي، فهناك الكثير مما يمكن اكتشافه في الفراغ. مثلا، في الغرب تُحفظ كتل الزهور المتفتّحة بإحكام في مزهرية مع رشّات من أوراق الشجر لملء الفراغات بينها. لكن في اليابان، يركّزون على إبراز السمات الفردية للزهرة أو الورقة أو الفرع المفرد. كما أن المساحة الفارغة المحيطة مهمّة بقدر أهمية الزهرة نفسها، لأن المساحة تحمل طاقة ومساحة للتنفّس والنموّ. وينظر اليابانيون إلى المساحة الفارغة بشكل عام على أنها مليئة بالإمكانيات.
في القرن التاسع عشر، ومع وصول التجّار الغربيين، انتشر فنّ اليابان الفريد في العالم. وبدأنا نرى جوانب من التصميم الياباني في الأعمال العظيمة لفنّانين عالميين مثل فان غوخ وكلود مونيه وجون ويسلر وإدوار مانيه وغيرهم. وعلى الرغم من تأثّرها بالتجارة الدولية، تمكّنت اليابان الحديثة من الحفاظ على قيمها التقليدية المميّزة. فللوهلة الأولى، تبدو طوكيو ذات التقنية العالية والمليئة باللوحات الإعلانية وحشود الركاب المتعّجلين، فوضوية. لكن تحت السطح الحضري، بين ناطحات السحاب، لا يزال من الممكن العثور على تلك الكنوز الهادئة، حيث الأضرحة والمعابد ومقاهي الشاي بحدائقها الهادئة إلى جانب الحياة العصرية. دان كيتنغ
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
ويؤكّد أنصار فلسفة أخرى أن هذه الحياة ليست سوى انعكاس باهت لحدث آخر لا يُنسى. ونحن لا نعرف عدد التحوّلات المحتملة التي ربّما مرّ بها العالم بالفعل. ولديّ انطباع متزايد بأن الزمن غير موجود، هناك فقط مساحات مختلفة، محصورة داخل بعضها البعض وفقا لقياسات مجسّمة أعلى، وبينها يتنقّل الأحياء والأموات. وكلّما فكّرت في الأمر أكثر، زاد اعتقادي بأننا - نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة - في عيون الموتى، كائنات غير حقيقية، مرئية فقط في ظلّ ظروف معيّنة.
وعلى عكس "إلياس"، الذي طالما ربط المرض والموت بالابتلاء والعقوبة العادلة والشعور بالذنب، روى "إيفان" قصصا عن موتى ضربهم القدر قبل أوانهم وأدركوا أنهم حُرموا ممّا يستحقّونه، فحاولوا العودة مجدّدا إلى الحياة. قال "إيفان": لو رأيتهم لحسبتهم للوهلة الأولى أشخاصا عاديين. لكن عند التدقيق، كانت وجوههم تتشوّش أو تومض قليلا عند أطرافها. وكانوا أقصر قليلا ممّا كانوا عليه في الدنيا، لأن تجربة الموت تُضعفنا مثلما تنكمش قطعة الكتّان عند غسلها لأوّل مرّة. وينفريد سيبالد
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
واستكشافها بكاميرا مثبّتة على حامل ثلاثي يُعدّ من أقوى التجارب التأمّلية التي حظيتُ بمتعة عيشها. هناك شعور لا يوصف بالعمق في تجربة الانغماس الجسدي في غابة طبيعية أو بدائية قديمة. والأمر أشبه ما يكون برحلة عبر الزمن، عودة إلى ماض منسي، ورحلة إلى مستقبل خيالي.
لكن للأسف، تتعرّض هذه الأماكن الثمينة لضغوط أكثر من أيّ وقت مضى. وقد صوّرتها لغرض وحيد هو الحفاظ على معالمها الأساسية. ويمكن اعتبار هذه الصور شهادات بصرية قيّمة لأماكن عذراء بحقّ، لم يطَلها أيّ تأثير بشري، في أجمل فوضى جمالية يمكن العثور عليها.
عند دخولي إلى هذه الغابات المنسيّة، يغمرني شعور آسر. إنها جنّةٌ برّيةٌ بحقّ، حيث أتوقّف وأتنفّس هواءً رطبا منعشا وأتأمّل الأشجار البدائية والطحالب والنباتات الهوائية أو المتسلّقات المتدلّية. وهذه المتاحف الحيّة تزخر بأنواع انقرضت في أماكن أخرى، من نباتات وحيوانات فريدة.
تتصاعد نفحات من الضباب بين النباتات، وتتساقط قطرات من قمم الأشجار، ويمكن سماع أو رؤية حياة برّية مراوغة من جهات مختلفة. أتجوّل بصمت ودهشة في هذه الأماكن، باحثا باهتمام دائم عن الزاوية المثالية للصورة. ويتطلّب هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي جميع الحواسّ والتجارب. لكن الجهد المبذول في هذه الأماكن الاستثنائية يستحقّ كلّ هذا العناء. فريدريك ديموز
❉ ❉ ❉
وتكون الرسائل والديبلومات والشهادات الأكثر إثارةً للإعجاب عديمة الفائدة إذا كتب خبير تحليل الخطوط في تقريره عن الشخص: "ضعيف في مهارات التعامل مع الآخرين" أو "لديه نقص في القدرة التنظيمية". ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يتم التحقّق من كفاءة هؤلاء الخبراء وصحّة تقييماتهم من خلال تحليل خطوطهم؟ فيسلافا شيمبوريسكا
❉ ❉ ❉
والملح هو الصخر المعدنيّ الوحيد الذي يأكله الإنسان ويقدّر قيمته. كما أنه واحد من أقدم وأكثر التوابل الغذائية انتشارا. والملح له طبيعة مزدوجة، حافظ ومفسد، وهو أيضا مطهّر ومكوّن للقرابين الاحتفالية. كما كان الملح ذات يوم وحدة لتبادل القيمة. وخلال العصر الروماني، كان الملح يُستخدم كعملة، حيث كانت رواتب الجنود تُدفع على شكل قطع من الملح المضغوط، وكلمة راتب باللاتينية أتت من salarium التي تعني نقود الملح، ومن هنا عبارة: أن يكون المرء جديرا بالملح".
علاقة الإنسان بالملح ولّدت معاني شعرية وأسطورية هائلة، لا سيّما عندما روّج لها الطبيب الكيميائي باراسيلسوس، الذي أكّد أن من يفهم الملح ومحلوله يمتلك حكمة القدماء. لذلك "ضع كلّ اعتمادك على الملح، ولا تعتبر أيّ شيء آخر ذا أهمية، لأن الملح في حدّ ذاته هو السرّ الأكثر أهميّة الذي اعتقد جميع الحكماء أن من المناسب إخفاءه. وفي الاستخدام الكنسي والكيميائي، يُعدّ الملح رمزا للحكمة وللشخصية المتميّزة أو المختارة، كما في "أنتم ملح الأرض".
❉ ❉ ❉