:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايكو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ايكو. إظهار كافة الرسائل

الأحد، يوليو 13، 2025

حكايات المصارعين والأباطرة


الكولوسيوم هو المدرّج الروماني الذي كانت تُقام على أرضه مباريات المصارعة الدامية بين البشر والوحوش "من أجل متعة الشعب والامبراطور!". وأبلغ وصف أدبي قرأته عن هذا المَعلم المشهور كان وصفا لكاتب معاصر زار المكان فجرا وقال انه خُيّل إليه أنه سمع هدير آلاف الرومان المتحمّسين وصرخات آلاف القتلى وتأوّهاتهم أثناء لحظات احتضارهم في ذلك المحشر الضيّق والمروّع.
الغريب أن المصارعين المحكومين بالإعدام، قبل أن يقاتل بعضهم بعضا أو يُلقى بهم الى الحيوانات المفترسة والمجوَّعة، كان يُطلب منهم أن يقفوا أمام المنصّة الإمبراطورية ويردّدوا عبارة: السلام عليك أيها الإمبراطور! نحن الذين على وشك الموت نحيّيك!"
كان الرومان يحبّون تلك المباريات الدامية. وفي حال ما إذا خسر مصارع، فإن من حقّ الجمهور المستمتع بالقتل وسفك الدماء أن يقرّر بقاءه أو موته، وذلك بخفض إبهامه أو رفعه وسط الهتافات والتصفيق.
الكولوسيوم عبارة عن تاريخ مظلم ووحشيّ وغارق في القسوة والعنف. وما بدأ كألعاب رياضية تحوّل إلى وحشية مفرطة ارتُكبت ضدّ ضحايا كثيرين، بينهم أسرى حرب ومواطنون منفيّون ومجرمون ونساء.
وعلى مدى خمسة قرون طويلة، أنفق الأباطرة ببذخ على تلك العروض التي شملت مئات الآلاف من مسابقات المصارعة ومبارزة الحيوانات، والمسرحيات الكلاسيكية، والإعدامات الحيّة والانتحارات. وكان بعض أباطرة روما يشاركون شخصيّا في تلك الفعاليات.
كانت الحيوانات تُحشر عمدا في غرف وأقفاص صغيرة لكي يزداد عنفها ووحشيّتها. وكانت النمور والأسود والفهود والأفيال والتماسيح تُجلب حيّةً من شمال أفريقيا والبحر المتوسّط لاستخدامها في تلك المباريات الوحشية. وقد أدّى صيد الرومان لتلك الحيوانات من أجل المتعة إلى تدمير الحياة البرّية في مواطنها وانقراض الكثير منها.
كان الكولوسيوم فضاءً مجوّفا عملاقا ومليئا بالدماء والجثث. ومن الغريب أن غالبية الرومان القدماء لم يكونوا يشعرون بأيّ أسف أو تأنيب للضمير وهم يتابعون أنشطته اللاإنسانية. بل إن الأباطرة، باستثناء ماركوس أوريليوس، والمثقّفين كانوا حريصين على استمرار عمليات التعذيب تلك، باعتبارها وسيلة سهلة للسيطرة على الجماهير وإلهائها.
عندما تقرأ عن الفظائع التي كانت تحدث آنذاك في حلبات روما، وفي الكولوسيوم خصوصا، لا بدّ أن تتساءل كيف تسنّى للرواقيين من أمثال اوريليوس وسينيكا أن يمتلكوا مثل تلك العقليات المتحضّرة وأن يكتبوا أفكارهم الإنسانية الجميلة، على الرغم من أنهم عاشوا في مثل تلك البيئة المجنونة التي تحتفي بقتل وتعذيب البشر والحيوانات، بالإضافة الى ما شهده سينيكا نفسه من جرائم الدائرة القريبة من نيرون؟!


في أحد كتبه، يشير سينيكا إلى مناسبة شهيرة، عندما أُجبر أشخاص محكوم عليهم بالإعدام على قتال مجموعة من الأفيال في الساحة. كان عدد الأفيال عشرين، وكان مبارزوها من البشر مسلّحين بالرماح. وقد قاتل أحد هذه الحيوانات ببسالة نادرةً، وعندما شُلّت قوائمه بفعل ضربات الرماح، زحف على جحافل الأعداء وانتزع دروعهم من أيديهم وألقاها في الهواء. وقد أسعدت هذه الحيوانات المتفرّجين بمناوراتها التي لا يتقنها سوى سحرة بارعون.
كما وقعت حادثة عجيبة أخرى، بحسب سينيكا، فقد قُتل فيل بضربة واحدة ووصل الرمح الذي أصابه تحت عينه إلى الأجزاء المهمّة من رأسه. وحاولت مجموعة الأفيال كلّها اختراق السياج الحديدي الذي يحاصرها، ما تسبّب في إحداث اضطراب شديد بين الناس. لكن الأفيال عندما فقدت كلّ أمل في الهروب، حاولت كسب عطف الجمهور من خلال لفتات متوسّلة، وندبت مصيرها بنوع من العويل، ما أثار حزن الناس، فانفجروا في البكاء ونهضوا في هبّة واحدة واستمطروا اللعنات على رؤوس منظّمي تلك المقتلة الرهيبة.
يقول أحد الكتّاب المعاصرين: لقد قطعت البشرية شوطا طويلا منذ أيّام الكولوسيوم. ومع ذلك لا نهاية للأهوال التي يُلحقها البشر ببشر آخرين. والنسخة العالمية الحالية من "الألعاب" الرومانية القديمة هي سلسلة الحروب الغاشمة التي نشهدها اليوم، وآخرها حرب الإبادة في غزّة.
كنت أتوقّع أن يكون امبيرتو ايكو قد كتب وصفا او انطباعا ما بلغته الساخرة والبليغة عن تاريخ الكولوسيوم، لكن لم أجد شيئا باستثناء إشارة عابرة عن المكان وردت في رواية "اسم الوردة"، حيث ذكره باعتباره "أحد رموز الماضي".
لكن فولتير كتب جملة طريفة عن هذا المعلَم يقول فيها: لقد بنى الرومان القدماء أعظم روائعهم المعمارية لتتقاتل فيها الوحوش البرّية". وعندما زار غوته المكان لم يلاحظ فيه سوى ضخامته "لدرجة أن المرء لا يستطيع أن يحفظ صورته في ذاكرته"، كما قال.
المخرج الإنغليزي الشهير ريدلي سكوت أراد تصوير فيلمه Gladiator أو المصارع في داخل الكولوسيوم، لكنه أُبلغ بأن التصوير ممنوع في الداخل. فاضطرّ لبناء نسخة مصغّرة من المبنى في مالطا. كما أنشأ حديقة حيوانات حقيقية جلبَ لها مجموعة من الأسود والنمور والدببة والذئاب والفيلة والفهود، أي الحيوانات التي كان الرومان يزجّون بها لمقاتلة البشر في الكولوسيوم.
أما المخرج السينمائي فيديريكو فيليني فكتب يقول: في فيلم "روما" أردت أن أجسّد فكرة أن روما القديمة تقع تحت روما اليوم. وهذا ما يثير حماسي. تخيّل نفسك في ازدحام مروري في الكولوسيوم!".
الكولوسيوم قديم جدّا، أقدم حتى من سور الصين العظيم. لكن الأكروبوليس وستونهنج وهرم الجيزة أقدم منه بكثير. وهناك جهود حثيثة تبذل الآن وأعمال ترميم مكثفة تجري لإعادته الى الحياة وجعله مكانا لاستضافة الأنشطة الثقافية، من مسرحية وموسيقية، بعيدا عن مباريات الموت وسفك الدماء.

Credits
thecolosseum.org

الاثنين، نوفمبر 25، 2024

كبريت مينيرڤا


لقد توصّلت إلى اقتناع بأن العالم كلّه لغز. وقد أصبح هذا اللغز مرعبا بسبب محاولاتنا المجنونة لتفسيره كما لو أنه حقيقة.
أومبيرتو إيكو

❉ ❉ ❉

كان أومبيرتو إيكو (1932 - 2016) شخصية رائدة في أدب ما بعد الحداثة وأحد مؤسّسي علم العلامات الحديث، وهو معروف على نطاق واسع بعمله في علم الجمال وفلسفة اللغة. كما أنه مشهور عالميّا برواياته الخيالية، وخاصّة "اسم الوردة" الصادرة عام 1980، والتي تحوّلت عام 1986 الى فيلم سينمائي بنفس الاسم من بطولة شون كونري.
وبالإضافة الى عمله كمحاضر جامعي وروائي وصحفي، كان إيكو يكتب للصحف الإيطالية مقالات مثيرة يتناول فيها مواضيع كثيرة ولا يجمع بينها شيء، مثل الهواتف المحمولة والانترنت ومقدّمي البرامج والمسلسلات التلفزيونية وجماعة فرسان الهيكل وتويتر والقراصنة والمهرجانات الأدبية والخطّ العربي وستيفن هوكينغ ومسابقات الأغاني وعيد الهالووين وسائقي سيّارات الأجرة وجيمس بوند وغير ذلك.
وباعتباره مدخّنا قديما، اعتاد إيكو تدوين ملاحظاته وأفكار مقالاته على الغطاء الداخلي لعلب الكبريت. وفيما بعد جُمعت تلك المقالات في كتاب باسم "علبة كبريت مينيرڤا" على اسم علامة تجارية قديمة. كانت المقالات مرتجلة وقاسية وحادّة، وكلّ منها ناريّ ومتفجّر مثل أعواد الثقاب المشتعلة، ما دفع المخرج السينمائي المشهور پاولو پازوليني لانتقاده بقوله: يعرف إيكو كلّ ما يمكن معرفته ويقذفه في وجهك بأكثر الطرق لامبالاة وكأنك تستمع إلى روبوت".
كان ايكو في مقالاته يكشف ببراعة عمّا يرى أنه سخيف ومتناقض في السلوك الإنساني المعاصر، كقوله: البعض ينتقدون الحجاب والشادور، بينما يعشقون السيّدة العذراء المحجّبة، ليس فقط في الكنيسة بل وفي آلاف التحف الفنّية من عصر النهضة". ومثل قوله: هناك الان هوس سياسي بالاعتذار عن الفظائع التي ارتُكبت في القرون الماضية، لكن من ينبغي له أن يطلب العفو عن حادثة الصلب؟ وبما أن المسيح قُتل تحت سلطة روما، فإنه لا مسئول عن الصلب سوى رئيس الدولة الحالي في إيطاليا (وكان آنذاك شيوعيّا).
سخرية إيكو ساحرة وذكاؤه مبهر. ومع ذلك، كان يعبّر من وقت لآخر عن بعض المشاعر غير السارّة. ففي حديثه عن الأشخاص المنغمسين في هواتفهم إلى الحدّ الذي يجعلهم يصطدمون بك في الشارع، يصف كيف أدار ذات مرّة ظهره عمداً لامرأة تقترب منه، فسمح لها بالاصطدام به، ثم هنّأ نفسه عندما ارتطم هاتفها بالرصيف. وأضاف: أتمنّى فقط أن يكون الهاتف قد انكسر، وأنصح كل من يمرّ بنفس الموقف أن يفعل ما فعلته. ثم يتساءل هل كان ليحسّ بنفس الشعور لو كانت المرأة منحنية على كتاب أثناء سيرها؟!


ثم يكتب كيف أنه أثناء دراسته لتوما الإكويني في الجامعة توقّف عن الإيمان بالله وترك الكنيسة الكاثوليكية نهائيا. ويعلّق: أستطيع القول إن توما الإكويني قد شفاني من الإيمان بأعجوبة".
ويتحدّث في بعض مقالاته الأخرى عن بعض المفارقات في الحياة كقوله: نبشّر بتفوّق الكمبيوتر على القلم والورق، ثم نحوّل الكمبيوتر إلى شاشة لوحية نكتب عليها بقلم!". وأيضا: علّمني والدي ألا آخذ الأخبار على محمل الجد. فالصحف تكذب والمؤرّخون يكذبون والتلفزيون اليوم يكذب، وحتى العلم يكذب أحيانا!".
وفي مقالات أخرى يتناول إيكو مسائل لها علاقة بالأدب والرواية. فعن سبب تأخّره في كتابة الرواية قال: لا أعرف لماذا تأخّرت. لكن هناك علماء قضوا حياتهم كلّها يتمنّون أن يكونوا روائيين. خذ مثلا رولان بارت العظيم. لقد مات وهو يشعر بالمرارة لأنه لم يمارس ما يسمّيه الحمقى "الكتابة الإبداعية"، وكأن أفلاطون وأرسطو لم يكتبا بشكل إبداعي. في الواقع، كان بارت يكتب إبداعا طوال حياته. والحقيقة أن جميع مقالاتي تتمتّع بنوع من البنية السردية. لذا أقول دائما إنني كنت أمتلك دافعا سرديّا. وكنت أُشبِع جزءا من هذا الدافع بسرد القصص لأطفالي، ولكنهم الان كبروا لسوء الحظ".
ويضيف: منذ أصبحت روائيّاً توقّفت عن قراءة أعمال الكتّاب المعاصرين. لأنني لا أستطيع أن أتحمّلهم، وأشعر بالإحباط الشديد إذا كانوا يكتبون أفضل منّي. لذا أقرأ المزيد من أدب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والكثير من الكتب التاريخية".
وفي أحد المقالات كتب يقول: إن إيطاليا دولة ما تزال تؤمن بالخرافات إلى حدّ كبير. فقد تحدّث عدد من العلماء عن طقوس دينية في نابولي رافقتها "معجزة" تتمثل في تحوّل دم أحد القدّيسين الذي قُطع رأسه عام 305 إلى سائل. ووفقا للتقاليد، فإن تحوّل دماء القدّيس المحفوظة في قارورتين يحمي المدينة من الكوارث، مثل الزلازل أو ثورات جبل فيزوف". وقد انتقد إيكو على ملاحظته تلك واتُهم بمحاولة تقويض المعتقدات الدينية لأعداد متناقصة من المؤمنين، ووُصف بأنه "مُفسد للمتعة وساحر يكشف عن حِيَله".
الفكرة التي يتردّد صداها في كلّ كتابات إيكو هي أننا نعيش في عالم يشبه الى حدّ ما جحيم العصور الوسطى. وهو عالم يصعب فهمه، ولكنه في تناقضاته مفتوح دوماً على تفسيرات مختلفة. وحتى أيّامه الأخيرة، لم يتخلّ الكاتب أبدا عن دوره الفكري في محاولة فهم الظواهر الاجتماعية والثقافية المتغيّرة، مسترشداً بالفضول البشري والعقلانية والاعتدال مع قدر كبير من روح الدعابة.

Credits
umbertoeco.com
pierpaolopasolini.net