:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تولستوي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تولستوي. إظهار كافة الرسائل

السبت، يونيو 21، 2025

معطف لشتاء هذا العالم


ذات مرّة، وصف ناقد روسي قصّة "المعطف" لنيكولاي غوغول، المنشورة عام ١٨٤٢، بأنها أفضل قصّة كتبها إنسان على الإطلاق! وبالتأكيد هي أفضل ما كتبه غوغول". كما وصف الروائي الأمريكي الروسي فلاديمير نابوكوف "المعطف" بأنها "أعظم قصّة روسية قصيرة كُتبت على الإطلاق".
كان غوغول يتمتّع بروح دعابة رائعة وذكاء حادّ، وكان له أسلوبه الخاص والمميّز والساخر في الكتابة. تولستوي ودوستويفسكي كانا يقدّران عمله كثيرا، كما كان هو المعلّم لجميع الروائيين الروس الذين أتوا بعده. وهناك عبارة أصبحت شائعة في الأدب الروسي تقول: لقد خرجنا جميعا من تحت معطف غوغول". وغالبا ما تُنسب إلى دوستويفسكي، إلا أن آخرين يعزونها الى تورغينيف.
تروي "المعطف" قصّة حياة وموت أكاكي باشماشكين، وهو كاتب حكومي فقير يعمل في العاصمة الروسية آنذاك سان بطرسبورغ. كان أكاكي راضيا عن عمله البسيط وراتبه المتواضع. وعلى الرغم من تفانيه في وظيفته، إلا أنه لا يحظى سوى بالقليل من التقدير في قسمه. بل إن الموظّفين الأصغر سنّا يسخرون منه ويطلقون عنه النكات بسبب معطفه البالي والممزّق.
لذا قرّر أكاكي ذات يوم الذهاب الى خيّاط يُدعى بتروفيتش لإصلاح معطفه وترقيع الثقوب فيه، ليجنّبه سخرية زملائه المستمرّة منه، وفي نفس الوقت ليحميه من شتاء سان بطرسبورغ القارس. لكن الخيّاط أخبر أكاكي أن المعطف الرثّ أصبح عصيّا على أيّ إصلاح واقترح عليه شراء معطف جديد. لكن المشكلة أن تكلفة معطف جديد تفوق راتبه الضئيل، لذا قرّر أن يعيش بميزانية محدودة جدّا لتوفير ما يكفي لشراء المعطف. ومع إضافة مبالغ رصيد اجازاته المتراكمة، استطاع أخيرا ادّخار ما يكفي من المال لشراء معطف جديد.
في النهاية، يظفر أكاكي بالمعطف الجديد فيرتديه ويصبح حديث مكتبه في ذلك اليوم. ويقرّر رئيسه إقامة حفل تكريما للمعطف الجديد. لكن أكاكي الذي اعتاد الوحدة يشعر بأنه في غير مكانه. وفي طريق عودته إلى المنزل من الحفلة في وقت متأخّر من الليل، يعترض سبيله لصّان يتعاركان معه ويركلانه في بطنه ويسلبان معطفه بالقوّة ويهربان.
وعندما يعلم زملاؤه بما حدث، يتعاطفون معه ويجمعون بعض المال لمساعدته. وينصح أحدهم أكاكي بأن يستعين بالمسئولين لكي يساعدوه في استعادة معطفه. ويتوجّه أوّلا إلى الشرطي المناوب ويخبره بالواقعة، فيدّعي أنه لم يلاحظ أيّ شيء غير طبيعي في تلك الليلة. ثم يلجأ إلى مفتّش الشرطة الذي يلوم أكاكي على تأخّره في العودة الى بيته ويحمّله المسئولية عن سرقة المعطف. وبعد عدّة محاولات أخرى، لم يتلقَّ أيّ مساعدة من السلطات لاستعادة معطفه المسلوب. وأخيرا، وبناءً على نصيحة زميل آخر، بدأ أكاكي البحث عن جنرال يُعرف بـ"الشخصية المهمّة" كي يساعده. وكان ذلك الشخص قد رُقّي إلى منصبه مؤخّرا وعُرف عنه تقليله من شأن مرؤوسيه والصراخ في وجوههم، لا لسبب سوى تضخيم نفسه أمامهم وتعزيز أهميّته الشخصية.
وعندما يصل أكاكي الى مكتب الجنرال، يأمر بإبقائه منتظرا لساعات. وحين يؤذن له بالدخول، يسأله عن السبب الذي جعله يتجشّم عناء المجيء الى مكتبه ليتحدّث عن "قضيّة تافهة". وهنا يخبره أكاكي عن معاناته. وأثناء حديثه يذكر ملاحظة عابرة عن تقصير أمناء الشرطة الذين طلب مساعدتهم. وهنا يُستفزّ "الشخصية المهمّة" فيثور ويوبّخ أكاكي بقسوة ويسخر منه لعدم اتباعه الإجراءات البيروقراطية الصحيحة قبل مجيئه إليه.


كان تقريع الجنرال لأكاكي وإهانته إيّاه شديدين لدرجة أنه كاد أن يُغمى عليه في مكتبه من شدّة الخوف. وبعد أن يطرده من مكتبه، يمرض أكاكي في بيته وتنتابه حمّى شديدة مع هذيان، ويتخيّل نفسه واقفا مرّة أخرى أمام الجنرال، متحدّثا عن معطفه. في بداية مرضه بالحمّى الخطيرة، كان أكاكي يتوسّل الى "الشخصية المهمّة" أن يهدّئ غضبه ويسامحه، لكن مع اقتراب موته أخذ يلعنه. واستمرّت معاناته مع الحمّى والهلاوس أيّاما إلى أن مات أخيرا.
وبعد موته بأيّام، سرعان ما انتشرت في سان بطرسبورغ أنباء عن ظهور جثّة، عُرف أنها شبح أكاكي، تذرع الشوارع وتخطف معاطف المارّة. الشرطة التي تلقّت بلاغات كثيرة من الأهالي عن تلك الحوادث الغريبة وجدت صعوبة في القبض على الجثّة الشبح. "الشخصية المهمّة" الذي سبق أن أذلّ أكاكي في مكتبه بدأ يشعر بالذنب منذ وفاته لإساءته معاملته. وبينما كان في طريقه لرؤية امرأة ذات ليلة، واجهه الشبح وتعرّف عليه على أنه أكاكي. وتجاوز رعب الجنرال كلّ الحدود عندما رأى فم الجثّة الملتوي وشمّ في ملابسه الممزّقة رائحة القبر الكريهة. وعندما طالبه الشبح بمعطفه، قام بخلعه فورا ورماه في اتجاهه قبل أن يلوذ بالفرار مذعورا.
للوهلة الأولى، تبدو قصّة "المعطف" بسيطة. فبطلها شخص "تافه وصغير"، ولذلك لا يلحظ وجوده أحد، كأنه لم يولد قط ولم يكن له وجود. وهو يطمح في خياطة معطف جديد. وبعد جهد جهيد يحقّق حلمه. لكن في الليلة الأولى يُسرق المعطف. وفي محاولته طلب المساعدة، يواجَه بلامبالاة الجميع، وأحيانا وحشيتهم وفظاظتهم. وكلّ هذا يُفضي به إلى نهاية مأساوية: الموت. لكن بعد وفاته، لا يجد ذلك الشخص البسيط والتعيس الراحة، فينهض من قبره ويتجوّل شبحه في أرجاء المدينة.
في الواقع، أكاكي رجل طيّب وخيّر، لكنه لا يجد السعادة في هذه الحياة. وغوغول يقارن ببراعة ما بين عالمين: المتكبّرون وعديمو الرحمة من علية الناس والأثرياء. ومن جهة أخرى، المظلومون أصحاب القلوب النبيلة الذين لا يتدخّلون في شؤون أحد ولا يريدون إلا أن يعيشوا حياتهم بأقلّ قدر من الشروط والمتطلّبات.
الرجل والمعطف في القصة وفي الحياة لا ينفصلان، المعطف يساوي حياة أكاكي، بل هو رهانه على حياته. وسرقة المعطف تصبح سرقة لحياته نفسها. وعبثية هذه المساواة بين المتاع والبشر، كما يرى غوغول، هي إشارة إلى نزع الصفة الإنسانية عن العالم. فالبطل لا يلفت انتباه زملائه إلا عندما يأتي إلى العمل مرتديا المعطف الجديد، وعندها فقط يدعونه لأوّل مرّة لقضاء وقت ممتع معهم. وعندما يُسرق، يتعاطفون معه ويجمعون المال لمساعدته. يبدو أن المعطف الجديد منحه شيئا من الكرامة والأهميّة.
لا يمكننا إلقاء اللوم على "الشخصية المهمّة" في كلّ ما حدث، فهو لم يجعل أكاكي صغيرا وبلا قيمة، كما أنه لم يسرق معطفه. هو فقط رفض المساعدة في تحقيق العدالة. وقد رفض، ليس لأن ذلك سيضرّ بمصلحته، بل لأن القانون يسهّل تجاهل "الصغار والتافهين" كي يعرفوا مكانتهم. و"الشخص المهمّ" و"الرجل الصغير" هما تماما "حجر الأساس" في القصّة وفي الحياة، حيث لا يملك أيّ شخص مسكين أو فقير سوى أن يضرب رأسه في الجدار إذا ما حاول المطالبة بحقّه. والمشكلة لا تكمن في كون الجنرال شرّيرا وبيروقراطيا، بل في وجود جدار يحوّل البعض إلى "شخصيات مهمّة" والبعض الآخر إلى "بشر صغار".
من جهة أخرى، تبدو "المعطف" قصّة بسيطة عن معاناة انسان عادي يستعيد كرامته الإنسانية، وينتقم من كلّ الإهانات والشتائم التي لحقت به في حياته، ويعاقب النظام الاجتماعي والسياسي الذي دمّر حياته ويهزمه في حياته الثانية الغامضة. وعند التعمّق في القصّة أكثر، سنرى فيها ملخّصا لوضع روسيا في أوائل القرن التاسع عشر ومثالا على قسوة النظام الإقطاعي وبنيته الاجتماعية والاقتصادية وكيف سحق الانسان الفرد.
قصّة غوغول هي أكثر من مجرّد حكاية اجتماعية سياسية عن ضحيةٍ مظلوم يبحث عن العدالة. فهي تخاطبنا اليوم أيضا. وربّما نسأل أنفسنا: كيف نحاول أن نرتدي ملابسنا لمواجهة برد شتاء هذا العالم، أكان المعنى حرفيّا أم مجازيّا؟ كيف نتصرّف عندما تُنزع عنا أغطيتنا "شعورنا بالأمان والراحة"؟ ومتى يصبح السعي وراء الأشياء، حتى تلك الجيّدة والضرورية، نوعا من عبادة الأصنام؟ وهل يمكن أن يصبح تمسّكنا بها جزءا لا يتجزّأ منّا لدرجة أنه يستمرّ إلى ما بعد الموت؟!

Credits
fountainheadpress.com

الأربعاء، يناير 24، 2024

محطّات


  • كان جورج كارلِن (1937 – 2008) ممثّلا كوميديا وناقدا اجتماعيّا أمريكيّا، وقد اشتهر بروح الدعابة السوداء وبأفكاره حول السياسة واللغة وعلم النفس والدين والعديد من الموضوعات المحظورة. كان مراقبا ماهرا وذكيّا للعالم من حوله، وخاصّة للبشر ونقاط ضعفهم. وتجلّت طبيعته العملية والمجتهدة في قدرته على التواصل مع الناس من خلال روح الدعابة الثاقبة والبارعة في كثير من الأحيان.
    ويقال أن الأشخاص الذين يستمعون إليه يبدؤون في كره أنفسهم بعد مرور بعض الوقت لأنه يصوّر أعماقهم بأقصى قدر من الدقة، وفي النهاية يشعرون بأنهم لا يختلفون عن أيّ شخص أحمق آخر على هذا الكوكب. كان يدخل غرفة مليئة بالناس ويلقي بأصعب الحقائق في وجوههم ويهدم كلّ معتقداتهم وتصوّراتهم، ثم يترك الغرفة وهو ما يزال حيّا بل ومحاطا بالتصفيق من الجميع.
    هنا بعض آراء جورج كارلِن المتضمّنة في لقاءاته وفي سيرته الذاتية:
    ○​ لا تقلّل أبدا من قوّة الأشخاص الأغبياء في مجموعات كبيرة.
    ○​ هناك ليال تصمت فيها الذئاب ولا يعوي إلا القمر.
    ○​ يعجبني أن أرى منظر زهرة أو بقعة صغيرة من العشب تنمو في صدع خرسانيّ. إنه عمل بطوليّ للغاية.
    ○​ نحن البشر مهمّون جدّا في نظر أنفسنا. والجميع سوف ينقذون شيئا الآن. "أنقذوا الأشجار، أنقذوا النحل، أنقذوا الحيتان، أنقذوا تلك القواقع." وأعظم غرورا من هذا كلّه: أنقذوا الكوكب! مع اننا لا نعرف حتى كيف نعتني بأنفسنا!
    ○​ لقد مرّ كوكب الأرض بما هو أسوأ بكثير منّا نحن البشر. مرّ بالزلازل والبراكين والصفائح التكتونية والانجراف القارّي والتوهّجات والبقع الشمسية والعواصف المغناطيسية والانعكاس المغناطيسي للقطبين. ومرّ بمئات آلاف السنين من القصف بالمذنّبات والكويكبات والنيازك، والفيضانات وموجات المدّ والجزر والحرائق والتآكل والأشعّة الكونية والعصور الجليدية المتكرّرة. فهل تعتقد ان بعض الأكياس البلاستيكية وبعض علب الألمنيوم ستُحدث فرقا؟ هذا الكوكب لن يذهب إلى أيّ مكان، بل نحن!
    نحن الذين سنذهب. لذا احزموا أمتعتكم. سنذهب بعيدا. ولن نترك الكثير من الأثر هنا. سيظلّ الكوكب هنا بعد ان نكون قد اختفينا منذ زمن طويل. وسوف يشفي وينظّف نفسه، لأن هذا عمله. إنه نظام تصحيح ذاتيّ. سوف يتعافى الهواء والماء وتتجدّد الأرض. نحن مجرّد طفرة فاشلة أخرى، خطأ بيولوجيّ مغلق آخر، طريق تطوّري مسدود. ولسوف يهزّنا الكوكب مثل مجموعة رديئة من البراغيث.
    ○​ الحياة تصبح بسيطة حقّا بمجرّد أن تخلّص نفسك من كلّ ذلك الهراء الذي علّموك إيّاه في المدرسة.
    ○​ من المهمّ في الحياة ألا تهتمّ بشيء. هذا سيساعدك كثيرا.
    ○​ أؤيّد تماما فصل الكنيسة عن الدولة. فهاتان المؤسّستان تفسداننا بما فيه الكفاية، لذا فكلاهما معا موت مؤكّد.
    ○​ لا تعلّموا أطفالكم القراءة فقط. علّموهم أن يتساءلوا عمّا قرأوه وأن يشكّكوا في كلّ شيء.
    ○​ لا يبدو أن الناس يدركون أنه لا يوجد أيّ شفاء أو راحة دائمة على الإطلاق في هذا العالم. لا يوجد سوى فترة توقّف قصيرة قبل الحدث المروّع التالي. وينسى الناس أن هناك شيئا اسمه الذاكرة، وأنه عندما "يُشفى" الجرح فإنه يترك ندبة لا تختفي أبداً.
    ○​ نحن أمّة من الأغنام، وهناك شخص آخر يملك العشب.
    ○​ أعتقد أنه من واجب الممثّل الكوميدي معرفة أين رُسم الخطّ ثم يتجاوزه.
    ○​ بداخل كل ساخر مثالي إنسان مُحبَط.
    ○​ لا أحبّ تقبيل المؤخّرات أو التلويح بالأعلام. أحبّ الأشخاص الذين يخالفون النظام والفردانيين. إعتنق الاستقلالية والفردية والنزاهة. وتجنّب المجموعات بأيّ ثمن. أبقِ دائرتك صغيرة. ولا تنضمّ أبدا إلى مجموعة تحمل اسما. وإذا توجّب عليك الانضمام بشكل لا مفرّ منه الى تجمّع، مثل نقابة أو جمعية تجارية، فلا بأس. لكن لا تشارك. وإذا أخبروك أنك لست لاعبا في الفريق، فهنّئهم على ملاحظتهم!
  • ❉ ❉ ❉

  • جاء الحصان، الذي كان مزيّنا بسرجه المبهرج وعاضّاً على لجامه الرغوي، بينما كان صهيله العالي والصاخب يتردّد عبر الجبال القريبة. لم يكن قد قطع مسافة طويلة قبل أن يتجاوز الحمار، الذي كان ينوء تحت عبء ثقيل ويتحرّك ببطء في نفس المسار. وعلى الفور نادى الحصان على الحمار بلهجة متعجرفة ومتغطرسة وهدّده بأن يدوسه ويدفنه في التراب إذا لم يفسح له الطريق. ولم يجرؤ الحمار المسكين الصبور على الاعتراض، فخرج بهدوء من طريقه بأسرع ما يمكن وتركه يمرّ.
    وبعد فترة وجيزة، أصيب الحصان نفسه برصاصة في عينه أثناء اشتباك صاحبه مع العدوّ، ما جعله غير صالح للاستعراض أو أيّ عمل آخر، فجُرّد من حليته الجميلة وبيع لشخص آخر. ثم التقى به الحمار وهو على تلك الحال البائسة وظنّ أن الوقت قد حان للتحدّث اليه فقال: مرحبا يا صديقي، هل هذا أنت؟ حسنا، لطالما اعتقدت دائما أنك ستتخلّى عن كبريائك في يوم من الأيام."
    الدرس المستفاد من هذه الحكاية هو أن الكبرياء والغطرسة أمران غريبان على العظماء حقّا. والذين يُظهرون الغطرسة، بدلاً من الصداقة والشفقة، عندما يتولّون مناصب عالية، لن يواجهوا سوى الازدراء بمجرّد أن تتغيّر حظوظهم في الحياة ويغادروا الجاه او المنصب.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • الرسائل المتبادلة بين الرسّام الروسي إيليا ريبين ومواطنه الروائي ليو تولستوي تلقي بعض الضوء على وجهات نظرهما الفنّية والفلسفية، بالإضافة الى علاقتهما الشخصية.
    كان ريبين وتولستوي معجبين كثيرا ببعضهما البعض. وقد تراسلا في مواضيع مختلفة، بما في ذلك الفنّ والأدب والروحانية والقضايا الاجتماعية. وغالبا ما تناولت رسائلهما دور الفنّ في المجتمع وطبيعة الإبداع والعمليات الفنّية الخاصّة بكلّ منهما.
    وقد رسم ريبين تولستوي في عدّة مناسبات. وأسفرت صداقتهما عن عدّة بورتريهات. وإحدى أبرز تلك اللوحات تعود الى عام 1887 وتصوّر تولستوي وهو يقرأ في ضيعته في ياسنايا بوليانا بموسكو. في هذه اللوحة يظهر تولستوي وهو جالس على كرسي وممسك بكتاب. وهو يظهر كرجل مسنّ ذي لحية بيضاء طويلة ويرتدي لباسا ريفيّا بسيطا يُعرف بالقفطان.
    وتجسّد اللوحة تركيز تولستوي العميق، كما تقدّم صورة للكاتب والفيلسوف المتفاني ذي المعرفة الواسعة والتأثير العالمي. ويضيف استخدام ريبين البارع للضوء والظلّ إلى الصورة عمقا وواقعية كما يسلّط الضوء على ملامح وجه تولستوي ويؤكّد على نظرته الثاقبة والذكيّة.
    واللوحة لا تُعتبر فقط تصويرا بارعا للكاتب، ولكنها أيضا تجسّد جوهر مساعي تولستوي الفكرية وارتباطه بالريف الروسي.
    وعندما عُرضت اللوحة لأوّل مرّة، حظيت باهتمام كبير وثناء من الجمهور ونقّاد الفن. وكان يُنظر إليها على أنها تصوير قويّ وحميم لتولستوي، حيث لم تلتقط مظهره الجسدي فحسب، بل أيضا عمقه الفكري وطبيعته التأمّلية. وحظي اهتمام ريبين الدقيق بالتفاصيل والاستخدام الماهر للضوء والظلّ والقدرة على نقل أجواء دراسة تولستوي بتقدير كبير من قبل النقّاد.
    كما لاقت اللوحة صدى لدى الجماهير بسبب تصويرها لتولستوي كشخصية موقّرة وأيقونة أدبية. كان تولستوي كاتبا مؤثرا للغاية في عصره وقد التقطت صورة ريبين له جوهر عبقريّته الأدبية، بالإضافة إلى دوره كفيلسوف.
    ولا يزال يُحتفل بهذه اللوحة باعتبارها تصويرا مبدعا لتولستوي وعملا مهمّا في تاريخ الفنّ الروسي. وكثيرا ما يعاد استنساخها والإشارة إليها في المناقشات حول حياة تولستوي وأعماله ومساهمات ريبين في فنّ البورتريه.
    المعروف أن ريبين رسم تولستوي في مناسبات أخرى أيضا وطوال فترة صداقتهما وأظهر جوانب مختلفة من مظهر الكاتب وشخصيّته.
    وقد حدث اوّل تبادل للرسائل بين الاثنين عام 1887 عندما بعث ريبين إلى تولستوي رسالة يعبّر فيها عن إعجابه برواية "آنا كارينينا". وردّاً على ذلك، كتب تولستوي رسالة شكر إلى ريبين، يشيد فيها بمواهبه الفنّية ويعبّر عن أفكاره حول الرواية.
    وعلى الرغم من أن المجموعة الكاملة من الرسائل بين الاثنين ليست متاحة على نطاق واسع، إلا أنه يمكن العثور على مقتطفات ومراسلات مختارة منها في السير الذاتية والمنشورات المختلفة لكلّ منهما. وتوفّر هذه الرسائل رؤى قيّمة حول النقاشات الفكرية والفنّية بين اثنين من عمالقة الثقافة الروسية في ذلك العصر.
    يقول ريبين واصفا أحد لقاءاته بتولستوي في أكتوبر عام 1880: في الحقيقة كنت اظنّ انني لن أتمكّن من زيارته. وكنت أخشى أن أشعر بخيبة أمل بطريقة ما، لأنني رأيت أكثر من مرّة في حياتي كيف أن الموهبة والعبقرية لا تتناغم مع الشخصية الحقيقية للكاتب.
    ويضيف: لكن ليو تولستوي كان مختلفا، فهو انسان رائع جدّا، وفي الحياة هو عميق وجدّي كما هو حال إبداعاته. وأمامه شعرت بأنني صبيّ تافه. كنت اريد أن أستمع إليه إلى ما لا نهاية. ولم يكن بخيلاً، فقد كان يتكلّم كثيراً ومن قلبه. وكم تمنّيت لو أستطيع أن اكتب كلّ ما قاله بأحرف ذهبية على ألواح من رخام وأعود لقراءة وصاياه كلّ يوم في الصباح وقبل الذهاب الى النوم.

  • Credits
    ilya-repin.ru

    الأحد، أغسطس 09، 2020

    تشيكوف: نظرة مختلفة

    لأكثر من مائة عام، يجلس رجلان ملتحيان وطاعنان في السنّ على أكتاف الروس الذين ينوءون تحت حملهما الثقيل: تولستوي وديستويفسكي. تولستوي يجلس على الكتف الأيمن وديستويفسكي على الكتف الأيسر، أو العكس.
    العبء الثقافي الذي يمثّله هذان الرجلان ستشعر به بعد لحظات قليلة من لقائك مع أيّ شخص غريب يكون على دراية بسيطة بالأدب الروسيّ. فعندما يعرف انك روسيّ، سرعان ما يهتف: آه تولستوي وديستويفسكي"!
    الميراث الأدبيّ الضخم للرجلين يثقل كواهلنا كـ "رُوس"، بل ويسحقنا بلا رحمة. والمشكلة انه يتوجّب علينا أن نحملهما معنا أينما ذهبنا أو ارتحلنا إلى أن نموت.
    ما من شكّ في أن الرجلين عبقريّان. لكن المحزن أن حجم وعمق كتاباتهما حَجَب بريق كتّاب روس آخرين لا يقلّون أهميّة وموهبة. وأعرف على الأقل كاتبا واحدا ينافسهما، بل ويتفوّق عليهما أحيانا. هذا الكاتب اسمه انطون تشيكوف. وهناك عدد من الأسباب التي تجعل من تشيكوف ندّاً قويّا لتولستوي وديستويفسكي.
    السبب الأوّل هو أن تشيكوف كان كاتبا موجزا. صحيح أن طول أو حجم كتاب ما ليس معيارا صالحا للحكم على جودته وقيمته. فهناك روايات كثيرة طويلة وضخمة، لكنها مملّة وثقيلة، لدرجة انه يتعذّر عليك قراءة بضع صفحات منها. لكن تشيكوف مختلف من هذه الناحية.
    وعندما تقرأ المجلّدات الأربعة لرواية "الحرب والسلام" مثلا، فستقدّر عالياً ميزة الإيجاز والاختصار التي يفتقر إليها تولستوي، وبدرجة اقلّ ديستويفسكي.
    تشيكوف هو ملك القصّة القصيرة. وهو عادةً لا يحتاج سوى لبضعة اسطر وتفاصيل صغيرة ليصوّر قصّة الحياة الكاملة لشخصية من شخصياته، وهي مهمّة تتطلّب من ديستويفسكي أو تولستوي عشر صفحات كاملة من الحشو والإطناب الذي لا لزوم له. وتشيكوف هو الذي قال ذات مرّة جملة مهمّة أصبح الروس يردّدونها كما لو أنها حكمة: الإيجاز هو توأم الموهبة".
    والسبب الثاني هو أن أبطال تشيكوف هم من النوع الذي يسهل عليك أن تتعاطف معهم. والحقيقة أن الأدب الروسيّ حافل بالقصص التي تستثير الحزن وتكسر القلب. لكن الطريقة التي يتعامل بها تشيكوف مع المسألة مختلفة تماما.
    في المقابل، فإن شخصيات تولستوي وديستويفسكي معقدّة جدّا وتعاني كثيرا، وهو أمر مألوف في أدب القرن التاسع عشر. كما أن كتاباتهما تتضمّن أفكارا كثيرة عن الله والحبّ وعن الروح الروسية. وكلّ هذا أصبح نوعا من الكلام المملّ والمزعج.
    وعلى النقيض من شخصيات هذين الاثنين الذين يشبهون أبطال الكتب المقدّسة، فإن أبطال قصص تشيكوف أناس عاديّون، وأحيانا مضحكون ومثيرون للشفقة. لكنهم دائما يحلمون بحياة أفضل، على الرغم من أنهم غارقون في مشاكلهم اليومية.
    وكلّ الطيف الواسع من المشاعر التي يعبّر عنها تشيكوف في قصصه يمكن اختزالها بقوله الساخر: هذا يوم جميل، ولا اعرف ما إذا كان يتعيّن عليّ أن اشرب كوبا من الشاي أو اشنق نفسي".


    السبب الثالث هو أن تشيكوف لا يقدّم في كتبه مواعظ من أيّ نوع، في حين أن لدى تولستوي وديستويفسكي منظومتهما القيمية الصارمة: في حالة ديستويفسكي هناك نسخة متشدّدة من الأرثوذوكسية المُطعّمة بولاء لا يفتر للقيصرية المحافظة. وفي حالة تولستوي هناك الفوضوية السلمية المتطرّفة على طريقة غاندي.
    صحيح أن تلك القيم والمفاهيم لا تهيمن على نثرهما دائما، لكنها تطلّ من كتاباتهما بشكل متواتر ومن حين لآخر. وإن كنت من النوع الذي يكره الخطب والمواعظ الفجّة، فستجد أن من الصعب عليك تقبّلها أو هضمها.
    قال شخص ذات مرّة: عندما اقرأ تولستوي اشعر انه يعبس في وجهي. ورغم انه يقول كلاما صحيحا أحيانا، إلا أن الأمر يظلّ مزعجا".
    لكن هذا لا يحدث مع تشيكوف. فهو لا يقدّم دروسا أو مواعظ أبدا، فقط يحفزّك على أن تظلّ إنسانا نبيلا وصبورا أمام تحدّيات الحياة. وهناك دائما في مسرحياته وقصصه القصيرة بصيص من الأمل، هذا الأمل بشيء ما أفضل يتخلّل جميع أعماله.
    السبب الرابع هو أن تشيكوف كان إنسانا عظيما وصاحب مبدأ. كان يمزج بين الأدب وبين الطبّ مهنته الأولى والأساسية. وقد قال مرّة: الطبّ زوجتي الشرعية والأدب عشيقتي". ولم يكن يدخّر جهدا أبدا في مساعدة جميع الناس، وخاصّة الفلاحين والعمّال الفقراء الذين كان يعالجهم مجّانا.
    في عام 1890، ذهب إلى جزيرة سخالين التي تبعد عن موسكو أكثر من 6400 كيلومتر. وأثناء تلك الرحلة ألّف كتابا عن المعاملة غير الإنسانية التي يتلقّاها السجناء الذين يُرسلون إلى هناك.
    السبب الخامس هو أن تشيكوف معروف عالميّا بسبب إرثه المسرحيّ. وهو يُعتبر احد اكبر الكتّاب الذين تُمثّل أعمالهم بشكل دائم على خشبة المسرح، جنبا إلى جنب مع شكسبير وإبسن وسترندبيرغ. تحفه الأدبية الكبيرة مثل "طائر النورس" و"بستان الكرز" و"الأخوات الثلاث" لا تشيخ أبدا، لأن فيها عمقا ولأنها مفتوحة دوما على مختلف التأويلات.
    كان وسيما، ذكيّا وعطوفا. وفي سنواته الأخيرة، افتتح عيادة لمعالجة ضحايا الكوليرا والمجاعة بالمجّان. كما بنى ثلاث مدارس لمساعدة أبناء المزارعين الفقراء ومدّهم بالتعليم بلا مقابل.
    في عام 1901، تزوّج تشيكوف من ممثّلة كانت قد شاركت في بعض مسرحياته. وبعد 3 سنوات توفّي في ألمانيا وعمره لا يتعدّى الـ 44 بعد معاناة طويلة مع مرض السلّ. وحتى عندما علم بموته الوشيك ظلّ يتصرّف بكرامة، ولم يغادره حسّ الدعابة إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وضرب مثالا ممتازا للشخص الذي لا يشتكي لأحد ولا يتذمّر من الحياة.
    إجمالا كانت كتابات تشيكوف أكثر إمتاعا وتشويقا وواقعية من كتابات كثيرين غيره. وفي النهاية ستجد انك بطل من أبطال تشيكوف ولا يمكن أن تكون بطلا من أبطال تولستوي أو ديستويفسكي ما لم تقتل سيّدة عجوزا بفأس أو تهزم نابليون!

    Credits
    lithub.com
    rbth.com

    الاثنين، مارس 11، 2019

    لينين: الوجه الآخر

    كان فلاديمير لينين وما يزال شخصية مثيرة للجدل في روسيا وخارجها. بعض المؤرّخين وصفوا حكمه بالشموليّ وبالدولة البوليسية. والبعض الأخر وصفوه بديكتاتورية الحزب الواحد. وهناك من يمتدحه لأنه عدّل النظرية الماركسية بحيث جعلها تناسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية في روسيا.
    وبعض كبار مثقّفي اليسار في العالم اليوم مثل فريدريك جيمسون وسلافوي جيجيك يدعون إلى استلهام روح لينين الثورية وغير المهادنة في حلّ مشاكل العالم المعاصر.
    السلطات السوفياتية لم يكن من مصلحتها أن يعرف الناس شيئا عن الجانب المظلم في شخصية لينين. كان هو مهندس الثورة البلشفية وأوّل رئيس للبلاد. وشخصيّته مرتبطة جدّا بالثورة لدرجة أن اهتماماته الثقافية الواسعة كان يتمّ تجاهلها غالبا.
    يقال أن لينين كان حريصا على أن يكون منسجما مع مبادئه. وهذا الشعور تحوّل إلى صلابة لا تلين أثناء الحرب الأهلية، فحارب المؤسّسات والأشخاص الذين كانوا يمثّلونها حتى لو استدعى الأمر تصفيتهم. وكان يعتبر أن هذا ضرورة مؤسفة ويجب تجنّبها قدر الإمكان في ظروف معيّنة.
    كما كان يكره المثقّفين ويحبّ صحبة البسطاء. وأثناء الحرب الأهلية (1918 - 1921) شدّد قبضته على السلطة وقضى على أحزاب المعارضة، كما أمّم البنوك والمصانع ووزّع الأراضي على الفلاحين.
    منتقدو لينين يقولون إن ثورة عام 1917 كانت جزءا من انتقام شخصيّ وانه أراد من خلالها أن يثأر لموت شقيقه الذي اُعدم في سنّ العشرين بسبب ما قيل عن تورّطه في مؤامرة لاغتيال القيصر، أي أن دافع لينين للثورة كان شخصيّا وليس سياسيّا أو أيديولوجيّا.
    وجزء من أسطورته يتمثّل في انه كان شخصا باردا ومنطقيّا. وقد أراد أن يدمّر كلّ شيء ويبدأ من جديد.
    والجانب الآخر من شخصيّته يشير إلى انه كان شخصا يضجّ بالحياة ويتمتّع بروح دعابة عالية. كان يستمتع بالرماية وصيد السمك ولعب الشطرنج ويقرأ لبوشكين وتولستوي.
    ولد فلاديمير لينين في بلدة سيمبريسك على ضفاف نهر الفولغا عام 1870. كان الابن الثاني لزوجين مثقّفين كانا يحبّان الفنون والأدب.
    والده كان مفتّش مدرسة، وقد تمّت ترقيته إلى سلك النبلاء مكافأة له على خدمته للدولة. وكان يمتلك مكتبة كبيرة تضمّ العديد من الكتب لتي تشهد على حبّه للأدب الكلاسيكيّ الفرنسيّ، خاصّة أعمال هوغو وموليير وبلزاك.
    أمّا والدة لينين فتنحدر من عائلة ألمانية مرموقة. وكانت الأمّ تهتمّ بالأدب الألمانيّ، خاصّة أشعار هايني وشيللر. لكنّها أيضا كانت تملك نسخة من الأعمال الكاملة لشكسبير وكتاب "تاريخ الثورة الفرنسية" بلغته الأصلية.
    كما كانت الأمّ تحبّ الموسيقى. وقد زرعت هذا الحبّ في أطفالها بتعليمهم العزف على البيانو. وأظهر لينين نفسه حبّا للموسيقى في عمر مبكّر. وكان يعزف البيانو مع شقيقته. ولطالما حضرا معا حفلات للأوبرا في قازان وسانت بطرسبيرغ أثناء دراستهما الجامعية.
    كما كان أيضا قارئا مواظبا للأدب وأعمال الإغريق والرومان مثل شيشرون واوفيد وهوميروس وغيرهم، بالإضافة إلى كتب الأدب الكلاسيكيّ مثل شعر بوشكين وروايات غونتشاروف وتورغينيف.
    الكاتب مكسيم غوركي يتذكّر أمسية في موسكو كان لينين خلالها يستمع إلى سوناتا بيتهوفن للبيانو رقم 23 والمعروفة بـ باشيناتا بعزف البيانيست الروسيّ ايساي دوبروفين.


    وقد عبّر لينين عن إعجابه الشديد بتلك الموسيقى بقوله: لا اعرف شيئا أفضل من باشيناتا. يا لها من موسيقى مذهلة صاغها إنسان خارق. إنني استمع إليها كلّ يوم وهي تشعرني دائما بالكبرياء. وقد يكون من السذاجة الطفولية أن تعتقد أن البشر يمكن أن يصنعوا مثل هذه المعجزات".
    وأضاف: لا استطيع سماع الموسيقى دائما لأنها تؤثّر على أعصابي. ومع ذلك استغرب كيف أن البشر الذين يعيشون في هذا الجحيم القذر، أي الأرض، يمكن أن يخلقوا مثل هذا الجمال. هذه الأيّام لو ربّتَ على رأس إنسان فقد يردّ عليك بقضم يدك".
    وختم لينين ملاحظته تلك بقوله: ولهذا السبب يجب أن تُضرب الرؤوس الصغيرة بلا رحمة، رغم أنني من حيث المبدأ ضدّ ممارسة أيّ عنف على البشر، ويا لها من مهمّة صعبة وشيطانية في آن".
    هل كان لينين يقصد أن الموسيقى رغم جمالها تصرفه عمّا يعتبره نضالا من اجل العدالة في تلك المرحلة؟ اغلب الظنّ انه لم يكن يقصد أن السياسة أهمّ من الموسيقى والفنون. فقد كان يؤكّد دائما على أهمية الثقافة من اجل حياة كاملة وذات معنى، بل وأوصى رفاقه بأن يتفهّموا الفنون البورجوازية وألا يرفضوها. وكان يرى انه من دون عدالة اقتصادية فإن الاستمتاع بالفنون يصبح مجرّد ترف لا تنعم به سوى النخبة أو الطبقة المرفّهة فقط.
    في الذكرى المئوية الأولى لانهيار الإمبراطورية الروسية وقيام الثورة البلشفية، امتنعت جميع محطّات التلفزة الروسية عن إحياء المناسبة بناءً على قرار من الكرملين.
    وبالتالي لم يُذكر اسم لينين ولا أيّ من رفاقه في التغطية الإعلامية. وقد وجّه الرئيس فلاديمير بوتين مستشاريه بأن من غير الضروريّ الاحتفال بذكرى الثورة، فروسيا ليست بحاجة إلى ثورات بقدر ما تحتاج إلى الأمن والاستقرار.
    وبوتين يرى أن انهيار الإمبراطورية لا يعدو كونه مجرّد حدث تاريخيّ ضئيل الأهمّية. والإمبراطورية التي في ذهنه ليست نسخة مصغّرة من إمبراطورية نيكولا الثاني، بل إمبراطورية افتراضية تتضمّن بعض سمات الاتحاد السوفياتي والكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، بالإضافة إلى أفكار السيادة والشعبوية وجوزيف ستالين والانتصار في الحرب العالمية الثانية ورحلة يوري غاغارين إلى الفضاء وقصور كاثرين العظيمة.
    أما أساس إمبراطورية بوتين فمبنيّ على عظمة روسيا الكامنة والمستندة إلى فكرة أن هذا بلد يجب أن يخشاه الآخرون ويحترموه. وليس في أيديولوجيا الإمبراطورية اليوم شيء من الثقافة العظيمة (تولستوي ودستويفسكي والآخرون) أو المجتمع المدنيّ الحقيقيّ. المهم هو إمبراطورية روسية منتصرة، وأيّ شيء لا يتساوق مع هذه الصورة يمكن استبعاده.
    ومن منظور بوتين فإن ثورة 1917 هي أسوأ حدث بالنسبة للدعاية الرسمية الروسية. كما أن قصّة سقوط الإمبراطورية لا تتضمّن أيّة شخصية يمكن لبوتين أن يتماهى معها. فهو ليس ستالين الذي قاد البلاد إلى النصر في الحرب وإن بثمن باهظ، كما انه ليس نيكولا الثاني الذي تنازل عن عرشه وسلّم إمبراطورية، وليس لينين الثوريّ الذي دمّر إمبراطورية.
    وبوتين لا يخفي كراهيته للينين مشيرا إلى انه الرجل الذي وضع قنبلة موقوتة تحت سرير روسيا.
    الإعلام الروسيّ بدوره مملوء بنظريات المؤامرة. فثورة فبراير التي أسقطت القيصر نيكولاي الثاني كانت برعاية وتخطيط من الانجليز. وثورة أكتوبر التي جلبت البلاشفة إلى السلطة موّلها الألمان الذين سهّلوا للينين مهمّة العودة إلى روسيا للمساعدة في إنهاء الحرب العالمية الأولى.

    Credits
    history.com

    الأربعاء، نوفمبر 15، 2017

    حديقة تولستوي

    توفّي تولستوي قبل زهاء المائة عام، أي في العشرين من نوفمبر عام 1910، وأصبح اسمه في العالم مرادفا لعظمة الأدب الروسيّ.
    لكن في روسيا، ما تزال فلسفته ودعوته لنبذ العنف وترجماته المتحرّرة للإنجيل تثير نقاشا واسعا.
    في عام 1910، قرّرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التبرّؤ من الكاتب. وفي الذكرى المئوية لوفاته، رفضت الكنيسة العديد من الالتماسات كي تعيد النظر في قرارها.
    وفي الحقيقة لو كان تولستوي ما يزال حيّا لما انزعج كثيرا من هذا الموقف، فقوّة موهبته منحته فرصة فريدة كي يسلك طريقه الخاصّ ويحتفل بالحياة بكلّ تجلّياتها على طريقته.
    قراءة تولستوي توفّر للمرء متعة عظيمة، وكلّما قرأت له تضاعفت تلك المتعة، فكلماته تولّد روائح وأصواتا واهتزازات في المشاعر والأمزجة. وكلماته أكثر اتّساعا من أيّ عقيدة فلسفية وأكثر أهمّية حتى من الكاتب نفسه.
    في كلّ الأدب، ربّما، لا يوجد كاتب منح العالم أعمالا تثير الإعجاب بقوّتها وبالخوف من صدقها مثلما فعل تولستوي. مارسيل بروست اعتبره والده الروحيّ، وهو يهيمن على أفكاره وعلى أحداث رواياته.
    تولستوي كاتب عظيم، لأنه يمنح الحرّيّة لأبطاله. وهم، إذ يدخلون ذاكرتنا، يصبحون أكثر حيويةً من الحياة نفسها: الحفلة الأولى لناتاشا في "الحرب والسّلام"، سباق الخيول في "آنّا كارينينا"، مرض وموت "إيفان ايليتش"؛ كلّ هذه الأحداث تملأ القارئ بالمتعة وأيضا بالخوف من مواجهة تبعات الوجود نفسه.
    أحيانا يبدو كما لو أن تولستوي وُلد كي يقلب قواعد الأدب رأسا على عقب. وهو لم يكن يميل كثيرا إلى النقاشات الأدبية. ولم يكن يحبّ كتّاباً مثل دانتي وشكسبير وبوشكين، بل أنكر عظمتهم وتناولهم بأحكامه النقدية القاسية.
    كان، مثلا، يرى أن شكسبير لم يكن كاتبا عبقريّا. بل لقد فعل كلّ ما بوسعه لتقويض مكانته في الأوساط الأدبيّة. ووصَف مسرحياته بأنها "رديئة وعديمة المتعة وغير أخلاقية وتفتقر إلى الجاذبية الفنّية". ورغم أن آراءه تلك عن شكسبير لم تكن تلقى تأييدا معتبرا، إلا انه ظلّ متمسّكا بها طوال حياته.
    كما أن موقف تولستوي من بوشكين كان، هو أيضا، مثيرا للجدل. كان يرى أن شاعر روسيا الأشهر لا يستحقّ أن يعامَل ككنز أدبيّ وطنيّ، لأن أشعاره "عديمة القيمة والأهمّية". وما أدّى إلى توسيع الخلاف بينهما أكثر حقيقة أن بوشكين كان مفتونا بشكسبير الذي كان تولستوي يمقته بشدّة.
    وهناك أيضا علاقة تولستوي الملتبسة بأنطون تشيكوف. كان الاثنان صديقين حميمين، وكان كلّ منهما معجبا بكتابات الآخر. لكن هذا لم يمنع تولستوي من انتقاد صديقه بعنف أحيانا.
    يروي تشيكوف انه زار تولستوي في بيته ذات يوم ووجده منهكا بسبب المرض. "تحدّثنا في العديد من المواضيع، ثم أثنى على بعض أعمالي قائلا إنها تستحقّ أن تُقرأ مرارا. لكن بينما كنت أهمّ بالانصراف، أمسك بي من ذراعي ثم قبّلني مودّعا، وهمس لي بصوت خفيض قائلا: أنت تعلم أنّني اكره مسرحياتك. شكسبير كان كاتبا رديئا. وأنا اعتبر أن مسرحياتك أسوأ حتى من مسرحيّاته".

    في رواياته، وصف تولستوي فظائع الحرب، لكن شخصيّته كانت ميّالة للخصام، بدليل علاقته المضطربة مع زوجته صوفيّا اندرييفنا. وأفكاره النباتية وميله لحياة الفلاحين أصبحت فيما بعد مادّة للدعابة.
    ذات مرّة، كتبت اندريه جيد مقالا عن دستويفسكي وكيف أن تولستوي حجب عظمته، لكن مع مرور الوقت فإن النظرة السائدة بين المثقّفين هي أن جبل دستويفسكي كان أعلى من جبل تولستوي".
    كان لدى دستويفسكي أهداف واضحة وأفعال محدّدة. تنفتح الستارة فنرى كيف أن عالَما بلا إله يقود إلى الخطيئة والشرّ، والجريمة تصبح عقابا. وبالمقابل يدفع تولستوي بـ آنّا كارينينا لأن تلقي بنفسها تحت قضبان القطار. ولا يشرح لأيّة غاية. عقوبة؟ مأساة كبيرة؟ مصير امرأة ساقطة؟ تيّار وعي هذيانيّ؟ لا توجد إجابة واضحة، لأن منطق تولستوي يقول: إذهب إلى الشرطة ولا تذهب إلى الكاتب.
    في كتابات دستويفسكي، الحياة تفسد الأفكار مثلما تنفجر قنبلة وتحصد حياة الأمير اندريه بولكونسكي. وروايات تولستوي تخرج من التفاصيل الصغيرة في مفكّرته اليومية، وتتشكّل من النميمة الاجتماعية ومن انطباعات الطفولة وأساطير العائلة. انه يسقي حديقته، ثم تنمو فيها شجرة تطرح فاكهة سماويّة لذيذة وعطرة ولزجة ومتفرّدة.
    الواقعية الاشتراكية حاولت أن تتودّد إلى تولستوي وتمنّت لو تقلّد أسلوبه لكي تقلب به العالم. لكنّه بالتحديد كان كاتبا لا يمكن تقليده. فلكي تكتب مثل تولستوي، يتعيّن أن تكون "كونت" صعب المذاق وفردانيّا.
    في نهاية حياته، أصبح تولستوي ينتقد الثناء المفرط على "الحرب والسّلام" و "آنا كارينينا" قائلا "إن الأمر يشبه أن تثني على طبيب عظيم لأنه يرقص المازوركا".
    هل أساء تولستوي فهم نفسه وطبيعته كمبدع؟
    في النهاية، أصبح "تولستوي الواعظ" في حالة صراع مع "تولستوي الأديب الموهوب". نظريّته عن المقاومة غير العنيفة ألهمت غاندي وكشفت عن الجذور الشرقية للفكر الروسيّ.
    لكن تولستوي الذي أُحبّه هو الإنسان المتشكّك، والمتعلّق بالمتع، والمتحوّل باستمرار. أحبّ وجهه المتغضّن ولحيته الكثّة وبحثه الطفوليّ عن عصا خضراء سحرية في الغابة التي تخبّئ مفتاح سعادة العالم.
    رحيله السرّيّ الأخير من "ياسنايا بوليانا" اُعتبر ذروة الجنون وخلق انطباعا بأن الوقت قد حان كي يلقي الكاتب بنفسه أسفل القطار.
    مؤخّرا زرت ضيعته التي تبعد عن جنوب موسكو مسافة مائة كيلومتر وتجوّلت في منزله متأمّلا أثاثه وبقيّة محتويات عشّه الارستقراطيّ. وفجأة فهمت من أين أتت "الحرب والسّلام". لقد كانت محصّلة للأيّام الطويلة والهادئة التي كان يقضيها في ضيعته الريفية مع طقوس سماور الشاي والمشي في الهواء الطلق.
    عند بوّابة الضيعة كان هناك حارسان. سألتهما إن كانا قرآ "الحرب والسّلام" فأجابا: نعم، في المدرسة".
    بدون تولستوي، كانت الحياة ستبدو أكثر فقرا وشحوبا. عباراته وملاحظاته الملتوية مثل جذور شجرة لم يكتبها لنفسه فقط، وإنّما أرادها أن تكون رسالة للأجيال القادمة أيضا.

    Credits
    online-literature.com

    السبت، سبتمبر 23، 2017

    قراءة الحرب والسّلام

    ربّما تكون قد قرأت رواية "الحرب والسلام" لـ ليو تولستوي. وإن لم تكن قد قرأتها من قبل وتنوي الآن قراءتها، فلا شكّ أن قرارك صائب وفي مكانه.
    لكن ثمّة احتمال بأن تجد من لا يغبطك على اختيارك لهذه الرواية، على أساس أنها طويلة جدّا وفي نفس الوقت صعبة إلى حدّ ما. بالإضافة إلى أنها تتضمّن عددا كبيرا من الشخصيات، ومن المستحيل أن تتذكّر جميع أسمائهم. بل قد تجد من يقول لك إن قراءة تولستوي عموما تجلب الإحباط والملل.
    لكن يمكن الردّ على هؤلاء بأنهم يفوّتون على أنفسهم قراءة احد أفضل الكتب التي اُلّفت على مرّ العصور. وليس صدفة أن كتّابا كبارا مثل بروست وفوكنر ونابوكوف وغيرهم اعتبروا تولستوي كاتبهم المفضّل.
    "الحرب والسلام" نصّ أدبيّ مميّز. صحيح أن قراءة كتاب من أكثر من ألف صفحة تتطلّب جهدا ووقتا. لكن عندما تبدأ في قراءتها ستشعر انك أصبحت مشدودا إلى أحداثها ابتداءً من الصفحات الأولى. وإن كنت قارئا مثابرا، فقد لا تحتاج لأكثر من عشرة أيّام لإكمالها. والمهمّ أن تدوّن أسماء الشخصيّات منذ البداية كي لا تتوه في زحامها.
    لكن لماذا "الحرب والسلام" رواية مهمّة وممتعة في الوقت نفسه؟
    أوّلا: أسلوب تولستوي رائع ومشوّق. وأوصافه للطبيعة والأشخاص والبيوت ليست مجرّد أوصاف ولا حتى مجرّد رموز، بل يمكن أن تكون محطّات في رحلة، أو أعباءً ينبغي التخفّف منها، أو عقبات يتعيّن إزالتها، أو دروسا ينبغي تعلّمها.. وهكذا.
    كما أن تصويره للشخصيات وعلاقاتها البينية جذّاب ومدهش. وكلّ شخصية من شخصيّاته لها حياتها المستقلّة وفضاؤها الخاصّ، وليست مجرّد دمية بيد الكاتب يوجّهها حيث يشاء. والشخصيّات تتوازى وتتقاطع ويؤثّر كلّ منها في الآخر بطريقة منطقية ومقنعة.
    وتولستوي يتحدّث بحرّية، مع حسّ تنبّؤي واستشرافيّ. كما انه يعطي القارئ معلومات أكثر ممّا يطلب، لكنه بنفس الوقت يترك له مجالا لإعمال مخيّلته.
    ثانيا: قصص الحبّ في هذه الرواية جميلة وملهمة. بل إن أفضل القصص الحميمة بين رجال ونساء على الإطلاق ستجدها في "الحرب والسلام". وهناك أيضا التأمّلات العميقة لتولستوي في مسائل الحياة والموت والحبّ والحرب والقدَر. ويقال انه كان هناك على الدوام بداخل الكاتب صراع بين الفنّان الذي يؤمن بظرفية الحياة وبين الداعية الأخلاقيّ الذي يريد أن يعطي للحياة معنى.
    ثالثا: بعض شخصيات الرواية رائعة وتستحقّ التأمّل. مثلا شخصية بيير بيزوكوف، وهو شخص يمكن أن تتماهى معه وأن ترى في نفسك الكثير من سمات شخصيّته. تحوّلاته عظيمة، وهو يعلّمك أن الإنسان خُلق من اجل أن يكون سعيدا، وأن السعادة تكمن في داخلنا، وأن لا أحد ولا شيء في هذا العالم قادر على أن يسلب منّا سعادتنا أو شغفنا بالحياة.

    رابعا: "الحرب والسلام" تخلّد حادثة تاريخية مهمّة، وهي حرب روسيا ضدّ نابليون التي انتهت بهزيمة الأخير عام 1812م. والرواية لا تقدّم صورة وردية عن الحرب، لكنها أيضا لا تصوّرها بطريقة مرعبة. كما أنها تعلّمنا بعض الأشياء والدروس عن التاريخ. وتولستوي يصف نابليون من زوايا متعدّدة. وعليك أنت أن تستكشف السياقات التاريخية وتحكم على الأشخاص والأحداث من منظورك الخاصّ.
    خامسا: شخصيات الرواية ليست جامدة بل تتطوّر باستمرار. وستلاحظ وأنت تقرأ كيف أنها تنمو وتتغيّر بتأثير الأحداث والمشاعر والمواقف المختلفة. والكاتب يضع ببراعة كلّ التفاصيل الصغيرة في إطار الصورة الكبيرة.
    سادسا: كلّ شخصية في هذه الرواية تنتشل الأخرى من هاوية العدمية والسقوط. والسعادة تُصوّر على أنها عدوى، والأشخاص الحزانى والمكسورون يستعيدون تفاءلهم وحبّهم للحياة بفعل تعاطف الآخرين ومؤازرتهم.
    سابعا: تولستوي نفسه كان إنسانا فاتنا بحقّ. شخصيّته المركّبة والثريّة تؤهّله لأن يكون هو نفسه بطلا لرواية خيالية. وبلا شكّ كان هو احد الشخصيّات المهمة التي أسهمت في صوغ العالم كما نعرفه اليوم.
    كان تولستوي وطنيّا، لكنه لم يكن قوميّا ولا شوفينيّا. وكان يؤمن بالعبقرية المتفرّدة لكلّ ثقافة وبكرامة كلّ إنسان بصرف النظر عن خلفيّته.
    في شبابه، عاش الكاتب حياة متفلّتة، ثم خضع لمراقبة الأمن الروسيّ. وبعد ذلك أصبح داعية للاعنف والعدالة الاجتماعية. ومع انه ينتمي إلى عائلة ارستقراطية بالغة الثراء، إلا انه كان يحبّ جميع البشر بلا تمييز، وتنازل عن معظم ما يملكه هو وعائلته لصالح الفقراء والمعوزين.
    كان تولستوي دائما يبحث عن الكمال الأخلاقيّ، ودعا إلى مجانية التعليم وحرّية المرأة، كما وقف ضدّ طغيان الدولة والكنيسة وضدّ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
    ثامنا: في هذه الرواية، يتعامل تولستوي مع الغزاة الفرنسيين كبشر محترمين، فلا يسخر منهم ولا يحطّ من شأنهم. صحيح انه يكره نابليون، لكنه يرسم له صورة مثيرة، بل انه يسمح لك بالنفاذ إلى عقل القائد الفرنسيّ، فتحسّ بألمه عندما يزور ميدان المعركة ويرى آلاف الجثث المكدّسة فيشعر بمدى وحشيّته.
    وتولستوي يرى انه لا توجد عظمة في غياب الخير والحقيقة. كما انه يؤمن أن عظمة الأوطان لا تنبع من القوّة، بل من التواضع والاحتفاظ ببوصلة أخلاقية سليمة حتى في أسوأ الأوقات.
    وأخيرا من أروع ما سطّره تولستوي في "الحرب والسلام" عبارته التي أصبحت مشهورة جدّا: أعلى مراتب الحكمة أن يعرف الإنسان انه لا يعرف شيئا".

    Credits
    tolstoytherapy.com

    الجمعة، يناير 06، 2017

    مدن في البال

    طالما تمنّيت، مثل كثيرين، زيارة مدن معيّنة تشكّلت معالمها في الذهن وفي المخيّلة على مرّ السنين. والمدن التي طالما تطلّعت لأن أراها عيانا ولم استطع كثيرة. وقد سافرتُ إليها بعقلي من خلال ما قرأته عنها أو ما سمعته من الناس الذين زاروها.
    هذه السلسلة من المقالات هي عن المدن التي عاشت في الذاكرة والخيال لزمن طويل. وأولى هذه المدن هي سمرقند، والأسباب كثيرة.
    فسمرقند هي مدينة الأساطير، وهي من المدن القليلة التي تنتمي إلى الإنسان في كلّ مكان. وفي ذروة ازدهارها كانت تُسمّى مركز الكون.
    وزيارة هذه المدينة تشبه الانتقال عبر الزمن إلى عالم آخر من السحر والدهشة، عالم القرن الرابع عشر الميلادي.
    أيضا سمرقند مدينة رومانسية بكلّ معنى الكلمة، وربّما أكثر من أيّ مدينة أخرى. وليس من الصعب أن نعرف لماذا اختار مؤلّف أو مؤلّفو "ألف ليلة وليلة" لشهرزاد أن تنسج حكاياتها من قصر في سمرقند.
    في عصرها الذهبيّ، كانت هذه المدينة محطّة رئيسية على طريق الحرير، وكانت القوافل الملوّنة تمرّ من وسطها، مانحةً طريق الحرير سمعته الغرائبية. وكان فيها أناس من أراض وأديان وأجناس مختلفة، كما كانت أعجوبة المعمار الإسلاميّ ومركزا عظيما للعلوم والمعرفة.
    وفي سمرقند يقع الضريح الأسطوريّ لمؤسّس المدينة الملك التركيّ المغوليّ تيمورلنك. وقد زارها ابن بطّوطة وماركوبولو وغيرهما من الرحّالة الذين كتبوا عنها. وفيها أيضا قضى الشاعر عمر الخيّام سنوات من حياته المبكّرة وألّف العديد من قصائده هنا.
    ويقال أيضا أن عبدالله ابن عبّاس، ابن عمّ الرسول الكريم (ص)، ذهب إلى سمرقند كي ينشر الإسلام هناك. لكنه قُتل على يد زارادشتي، وتحوّل قبره إلى مزار يحجّ إليه أهل آسيا الصغرى ممّن لا يستطيعون تحمّل مشقّة الذهاب إلى مكّة. (من الواضح أن هذه أسطورة، إذ المعلوم أن ابن عبّاس توفّي في مدينة الطائف). وفي سمرقند أيضا ولد السلطان بابَر مؤسّس الإمبراطورية المغولية في الهند.
    الاسكندر المقدوني فتح المدينة في العام 329 قبل الميلاد إلى أن طرده منها جنكيز خان. وبعد ألف وخمسمائة عام، أي في القرن الرابع عشر، اتخذ منها تيمورلنك عاصمة لملكه بعد أن أعاد بناءها وجعلها مقصدا للشعراء والرحّالة.
    كان من عادة تيمور أن يأمر بأن تُضاء الأنوار في حديقته الساحرة عند غروب الشمس. وكانت الحديقة تضمّ جسرا صغيرا ونهرا وأشجار رمّان. وفي قصر للحريم يتميّز بأعمدة زرقاء وبلاط رائع يعود تاريخه إلى منتصف القرن التاسع عشر، يمكنك أن تتخيّل السلطان مع زوجاته الأربع ومحظيّاته الكثيرات وهم يجلسون في الشرفات الواسعة.
    وسمرقند ليست عاصمة الأوزبك، بل طاشكند التي شهدت عام 1966 زلزالا عنيفا دمّر معظم أجزائها القديمة. أوزبكستان نفسها أرض مجهولة، غرائبية وأسطورية. هي عبارة عن جزيرة، لكنها غير محاطة بالماء، بل بصحراء وجبال لا تستطيع الفكاك منها.
    وعلى امتداد تاريخ سمرقند الطويل، حكمها الفرس والإغريق والترك والمغول والصينيون والروس. وكانت فيها ستّة أديان.
    وعمر المدينة، مثل روما وأثينا، أكثر من ثلاثة آلاف عام. وفي معظم هذه الفترة، احتلّت سمرقند مركزا مهمّا في منتصف طريق الحرير الذي ربط أوربّا وآسيا وأسهم في رخاء المدينة وتنوّعها. لكنّ هذا أدّى أيضا إلى أن أصبحت هدفا مغريا للغزاة والرحّالة والكتّاب والمغامرين.
    عندما زارها الكاتب الروسيّ تولستوي مع عدد من أصدقائه في نهاية القرن التاسع عشر، امتدح مرافقهم الروسيّ شجاعتهم في المجيء إلى سمرقند رغم مخاطر الطريق. وقد تطوّرت علاقة تولستوي مع "شامل" دليلهم الاوزبكي الوسيم ذي العينين الزرقاوين. لكن الأخير اضطرّ إلى مغادرة المجموعة عند الحدود الصينية. وربّما بسبب رحيله قلّ اهتمام تولستوي بالرحلة وفضّل العودة إلى روسيا.
    المعمار في سمرقند يأخذك إلى الأزمنة القديمة، وهي معروفة بمناراتها الزرقاء وقباب مساجدها الرائعة. الموزاييك المذهّب مع ظلال سائلة من الأزرق، هذا جزء من تراث تيمورلنك في مدينته القديمة.
    وبعد الاحتلال السوفياتي، تمّ ترميم معظم صروح اوزبكستان المعمارية في ما بدا وكأنه إعادة بناء لتاريخ المدينة نفسه.
    وفي سمرقند حيّ اسمه افروسياب، ويُعرف بمدينة الموت. كان هذا الحيّ مركز سمرقند في الزمن القديم، وفيه ارتكب جنكيز خان أسوأ جرائمه. وقد اعتُبر المكان مشئوما لدرجة أن تيمورلنك قرّر ألا يبني فيه.

    أما وسط المدينة فيُسمّى راجيستان، وهو عبارة عن ساحة يقال أنها اكبر ميدان عامّ في آسيا الوسطى. وتتضمّن ثلاث مدارس بُنيت على مدى قرنين، لكنّها اليوم تحوّلت إلى مزارات سياحية.
    المعمار الرائع في ميدان راجيستان ترك بصمته في ما بعد على المعمار الصفويّ والباكستانيّ والهنديّ، وحتى على مسجد سانت بطرسبورغ الكبير. وإحدى خصائص المعمار الإسلامي في سمرقند هو غلبة بلاط السيراميك واللون التركوازي على العديد من صروحها، وهذا واضح خاصّة في مقبرة "شاهي زندا" التي يشاع أن ابن عمّ الرسول الكريم مدفون فيها.
    وسمرقند أيضا تؤوي ضريح اوليغ بيك حفيد تيمورلنك. كان اوليغ فلكيّا وعالم رياضيات بارزا. وقد دعا العلماء كي يعملوا ويعلّموا في سمرقند وحولّها إلى عاصمة ثقافية للمنطقة. كما أسّس مرصدا فلكيا وأعدّ أضخم تصنيف للنجوم منذ بطليموس بعد أن رسم إحداثيات أكثر من ألف نجم. واشتهر عنه قوله "إن الدين يضمحل والممالك تأفل، لكن علم العلماء هو الذي يبقى خالدا إلى الأبد".
    كان اوليغ بيك محاربا شجاعا وحاكما مستنيرا ورجل علم ومعرفة. وقد تحدّى بعض الأفكار الدينية السائدة في زمانه. وكما هو متوقّع، كان هذا سبب سقوطه. فقد أغضبت دراساته وآراؤه ابنه عبداللطيف الذي كان أصوليّا متعطّشا للسلطة، فاستولى على العرش قبل أن يأمر بقطع رأس والده وتدمير مرصده.
    بعد أن دمّر جنكيز خان سمرقند في القرن الثالث عشر، أعاد بناءها تيمورلنك بعد قرن ثم حوّلها إلى مدينة لم يرَ الناس مثلها من قبل واتّخذها عاصمة لملكه. ثم بدأ عددا من الغزوات نتج عنها توسيع حدود امبراطوريته من تركيا والقوقاز إلى الهند. لكن ثمن ذلك كان إبادة أكثر من مليون إنسان، أي خمسة بالمائة من سكّان العالم آنذاك.
    وقد عاد من حملاته في فارس ودمشق وبغداد والقوقاز بأفكار معمارية وغنائم أشبعت شهيّته للبناء. كما أعاد معه أشهر البنّائين والفنّانين من البلدان المفتوحة.
    كان تيمور فاتحا كبيرا، وفي نفس الوقت مدمّرا متوّحشا ونهّابا في كلّ مكان حلّت فيه جيوشه. لكنه بنى مدينة جميلة وتحوّل إلى راع للفنون والآداب. وقد دامت امبراطوريته حوالي مائة وثلاثين عاما.
    ويقال انه بكى ليومين متواصلين حفيده المسمّى محمّد سلطان الذي قُتل في معركة، ثم بنى له ضريحا رائعا تخليدا لذكراه. لكن في النهاية أصبح الضريح مدفنا لتيمور نفسه ولعدد من أفراد سلالته.
    الغريب أن اكبر وأفخم قبر في هذا الضريح ليس قبر تيمورلنك، بل قبر معلّمه الروحي الشيخ مير سعيد بركة، وقد أوصى تيمور أن يُدفن عند قدم قبر معلّمه وفاءً له.
    وفي بعض الأوقات، راجت أسطورة تقول إن كلّ من يجرؤ على فتح قبر تيمور سيُصاب بلعنة وسيحلّ الخراب بأرضه. لذا ظلّ القبر مغلقا لأكثر من خمسمائة عام. لكنّ عالم آثار روسيّا فتح القبر في أربعينات القرن الماضي. وبعد ثلاثة أيّام بدأ الغزو النازيّ لروسيا الذي نتج عنه مقتل ثلاثين مليون إنسان.
    ومن اكبر معالم سمرقند المعمارية الأخرى جامع بيبي خانوم الذي يُعتبر احد اكبر المساجد في العالم، مع تفاصيل وألوان رائعة وأخّاذة. وعلى منارة المسجد كُتبت عبارة غريبة تقول إن البهلوان البارع الذي يتسلّق حبال الخيال لن يصل أبدا إلى قمّة المنارة الممنوعة. وقد بنى تيمور هذا المسجد تكريما لذكرى زوجته المفضّلة بيبي خان، وذلك بعد عودته من حملة بالهند.
    وكان قد ذهب إلى الهند كي يؤدّب سلطانها بسبب تسامحه المفرط مع رعاياه من الهندوس. وأحضر معه من هناك خمسين ألف أسير ومائة فيل استخدمها في بناء المسجد الذي شيّده على الطراز المعماريّ الهندي.
    حفيد تيمور الآخر، أي بابر، فتح الهند بعد ذلك بمائة وثلاثين عاما وأسّس هناك السلالة المغولية التي حكمت ذلك البلد لأكثر من ثلاثمائة عام.
    لكن ماذا بقي من سمرقند القديمة؟ لقد تغيّرت المدينة كثيرا اليوم. وبالتأكيد لن تجد فيها شخصا مثل تيمور الذي يقال انه مات بالانفلونزا، وهي نهاية عبثية لرجل خارق واستثنائي. لكنّ تيمور موجود في كلّ مكان في المدينة بما تركه من صروح ومعالم خالدة.
    أما طريق الحرير القديم فقد تغيّر الآن إلى طريق النفط، بعد أن تحوّلت اثنتان من دول آسيا الوسطى، هما اذربيجان وكازاخستان، إلى دولتين من اكبر منتجي النفط. كما استُبدلت قوافل الجمال بخطوط الأنابيب التي تحمل النفط والغاز إلى أوربّا وروسيا.
    يبلغ عدد سكّان سمرقند اليوم حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ولكنّها في بعض الأوقات - بحسب من زاروها مؤخّرا - تكاد تكون فارغة إلا من أسراب الطيور. وقد أدرجت اليونسكو المدينة قبل خمسة عشر عاما ضمن المدن ذات التراث التاريخيّ والإنساني.

    Credits
    lonelyplanet.com

    الخميس، يونيو 02، 2016

    عصر تولستوي وتشايكوفسكي


    يزخر الرسم الروسي بالعديد من بورتريهات الكتّاب والموسيقيين والممثّلين ورعاة الفنّ في روسيا. وبعض تلك البورتريهات يعود تاريخها إلى زمن آخر القياصرة، ثمّ الثورة والعهود التي تلتها.
    أحد الكتّاب تأمّلَ في صور هذه الشخصيات الروسية واكتشف انه يندر أن ترى واحدا منها وهو يبتسم. ربّما كان هناك اعتقاد شائع بأن البورتريه مثل الحديث المتوتّر بين الرسّام وجليسه، يمكن أن يقرّبنا من الموضوع أكثر ممّا تفعله الصور الفوتوغرافية الحديثة. وهذا أحيانا صحيح.
    في البورتريه الذي رسمه فاسيلي بيروف لدستويفسكي نقف وجها لوجه مع الروائيّ الكبير. وهو في الصورة يبدو في حالة انحناء ويرتدي جاكيتا بنّيّ اللون، نظراته منسحبة وبعيدة، بينما أصابعه متشابكة. الضوء يلمع على جبينه الفتيّ. وعلى شعره ولحيته ونظراته المتحفّظة ثمّة إحساس بالإنهاك وتركيز داخليّ مثير للاهتمام.
    كان دستويفسكي في ذلك الوقت ما يزال يعيش ذكريات اعتقاله المريرة قبل ثلاثين عاما عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره على خلفية انتسابه لجماعة بتراشيفسكي الراديكالية. وقد سيق إلى معسكرات العمل الشاقّ في سيبيريا واُجبر على الخدمة في الجيش، وهو ما أدّى إلى انهيار صحّته وجرح روحه.
    لكنه مع ذلك استمرّ يكتب ولم تنكسر إرادته أبدا. في هذه الصورة لا يمكنك أن ترى شيئا من آثار المعاناة على وجه وعيني دستويفسكي لأن بيروف منحه خصوصية كاملة. لكن بإمكانك أن ترى وتلمس إحساسه بالأسى وبالمرارة الداخلية. في ذلك الوقت، لم يكن دستويفسكي قد كتب "الجريمة والعقاب". لكن البورتريه ينبئ عن ذلك المستقبل.
    ومن أشهر الصور الروسية الأخرى ذلك البورتريه الذي رسمه نيكولاي جي لتولستوي عام 1884، ويبدو فيه الروائيّ المشهور منحنيا على طاولته ومنكبّا على الكتابة وكأنه لا يشعر بالرسّام الذي يجلس بالقرب منه.
    وهناك أيضا لوحة ايليا ريبين التي رسمها لتورغينيف الذي يبدو في الصورة عجوزا بأنف متورّمة وشعر أشيب. كانت علاقة تورغينيف بريبين مفعمة بالثقة. نظراته القاسية تفاجئنا كما لو أننا مذنبون بنفس درجة ذنب الرسّام المتطفّل. وهذا يثبت كيف أننا يمكن أن نحكم على الصور مدفوعين بأفكارنا المسبقة عن أصحابها. كما أن هذا يطرح سؤالا عن مدى كون هذه الصورة حقيقية.
    وهناك أيضا البورتريه الذي رسمه يوسف براس لأنطوان تشيكوف. وقد رسمه الفنّان عام 1898، أي عندما كان تشيكوف في ذروة عطائه ككاتب مسرحيّ. وفي السنة التالية مُثّلت مسرحيّته "العمّ فانيا" على المسرح لأوّل مرّة.
    تشيكوف يرتدي هنا ملابس مرتّبة، مع ياقة بيضاء وبذلة رمادية. وهو يجلس كما لو انه يريد أن يحكم علينا محاولا استنطاق ما بدواخلنا، بينما يصرّ على أن لا يكشف لنا عن شيء من دخيلته.
    تشيكوف هنا لا يبدو كاتبا بقدر ما يبدو طبيبا "وهي مهنته الأصلية" يصغي باهتمام إلى مرضاه ويشخّص عللهم ويصف لهم الدواء المناسب. كان وقتها في الثامنة والثلاثين، وأمامه فقط ستّ سنوات ليعيشها.


    والحقيقة أن معظم هذه الشخصيات توفّيت في سنّ مبكّرة. ومعظمها ملامحها أوربّية أكثر منها آسيوية.
    ومن أشهر البورتريهات الروسية الأخرى لوحة فالنتين سيروف للمؤلّف الموسيقيّ رمسكي كورساكوف. والموسيقيّ يبدو هنا جالسا وسط فوضى من عشرات الكتب.
    وهناك أيضا واحدة من أقوى الصور، وهي لوحة ريبين التي رسمها للموسيقيّ المعروف موديست موسورسكي عام 1881، وقبل وقت قصير من وفاة الأخير. موسورسكي يبدو في الصورة بأنف حمراء وعينين صافيتين.
    الرسّام ايليا ريبين، بمقاربته الحسّاسة والفائقة لكلّ جلسائه الذين رسمهم، هو بطل البورتريه الروسيّ بلا منازع. كان ريبين ابنا لجنديّ من اوكرانيا. وخلفيّته ليست ممّا يثير الاهتمام.
    لكنه صنع لنفسه سمعة طيّبة في سانت بطرسبورغ التي رسم فيها أعمالا مشهورة مثل تلك اللوحة التي يظهر فيها أشخاص يجرّون قاربا. ورغم أن من كلّفه برسم اللوحة كان رجلا من عائلة الإمبراطور، إلا أنها فُسّرت على أنها هجوم على سوء معاملة العمّال وعلى الظلم الاجتماعيّ ككلّ.
    وبعد ابتعاثه إلى فرنسا التي رسم فيها تورغينيف، عاد ريبين إلى روسيا واستمرّ يرسم بنفس الأسلوب الروسيّ المتميّز.
    في لوحات ايليا ريبين مرح وتعاطف وتفهّم. كما أنها تحتوي على الكثير من الدفء، مثل لوحته التي رسم فيها عازفة البيانو الجميلة صوفي مينتر، تلميذة فرانز ليست اللامعة.
    وبراعته أيضا تتجلّى في رسمه للبارونة فارفارا فون هيلدنباندت بخمارها وقبّعتها الغريبة. وقد رسمها باستمتاع يمكن أن تشعر به من طريقته في تصوير السلسلة المتدلّية حول ذراعها وفي طيّات بلوزتها القرمزية.
    كلّ هذه البورتريهات وغيرها من صور العباقرة الروس ليست سوى جزء من المجموعة الفنّية التي راكمها تاجر الأقمشة بافيل تريتيكوف والتي أصبحت من مقتنيات المتحف الذي يحمل اليوم اسمه.
    وهناك عنصر مهمّ يمكن إضافته إلى هذه القصّة، ويتمثّل في الصداقة التي ربطت تريتيكوف والرسّام ريبين الذي لم يكن يرسم له فحسب، وإنما كان ينصحه بالاستعانة بفنّانين آخرين.
    وقد رسمه ريبين أمام مجموعته كي يتذكّره الناس بعد وفاته. وفي تلك الصورة يظهر تريتيكوف كشخص مختلف ومتحفّظ ومعروف بعاطفته العائلية ومحبّته للأدب والموسيقى والمسرح والرسم.
    كان تريتيكوف حريصا على أن تضمّ الصور في متحفه كافّة نجوم روسيا. وقد بدا إصراره واضحا من خلال قصّته مع بورتريه الموسيقيّ موسورسكي.
    كان هذا الأخير قد وصل إلى ذروة شهرته في العام 1874 عندما انتهى من تأليف أوبرا بوريس غودونوف ومتتابعة البيانو بعنوان صور في معرض . لكن بعد فراغه من كتابة هذين العملين، أدمن موسورسكي على الشراب لأيّام.
    وفي عام 1881 اُدخل المشفى لعلاجه من الإدمان. وعندما سمع تريتيكوف بأن حالته خطيرة، أرسل إليه ريبين كي يرسمه. وكان على حقّ، فما أن انتهى الرسّام من آخر جلسة رسم حتى كان موسورسكي قد مات وهو في سنّ الثانية والأربعين.
    كان ريبين يصف موسورسكي بأنه موهوب بالفطرة ومحارب قروسطيّ، مع مظهر بحّار من البحر الأسود . وهو، أي ريبين، لم يتقاضَ أجرا على تلك اللوحة، بل فضّل أن يتبرّع بأجره لإقامة نصب تذكاريّ للمؤلّف الموسيقيّ.
    هناك أيضا بورتريهان آخران مهمّان في مجموعة تريتيكوف، الأوّل للشاعر نيكولاي غوميليف المقتول عام 1921 بسبب أنشطته الثورية، والثاني لزوجته الشاعرة المعروفة آنا أخماتوفا. وقد رسمت البورتريهين الفنّانة اولغا كاردوفسكايا بأسلوب رمزيّ يذكّر بأسلوب إدفارد مونك.
    وبورتريه الشاعرة يبدو أفضل لأننا نعرف من هي. وتبدو جالسة بكبرياء، بينما تظهر خلفها سماء لامعة. وقد رُسمت أخماتوفا عام 1914 بعد حياة حافلة تعرّضت خلالها للمراقبة والمطاردة. لكن هذا لم يقتل شعرها ولم يُخرس معارضتها الشجاعة للفظاعات التي رأتها.

    Credits
    theguardian.com
    ilyarepin.org

    الثلاثاء، نوفمبر 03، 2015

    ثعالب وقنافذ


    من عادة البشر أن ينجذبوا إلى الحيوانات لسببين: الأوّل لأنها توفّر نافذة رمزية على عالم الإنسان نفسه. والثاني أن الحيوانات تستثير الأفكار وتدفع الإنسان إلى تأمّل أوجه الشبه بينها وبين البشر.
    وفي معظم القصص التي تتضمّن "عنصر حيوان"، يتمّ تقديم الطبيعة في حالة تناغم تامّ مع البشر كما أنها تسهم في تعليمهم دروسا ثمينة ومفيدة.
    وبينما نجد أن القصص الشعبية والفولكلورية التي تحكي عن الثعلب كثيرة ومتواترة، فإنه لا تتوفّر عن حيوان مثل القنفذ سوى القليل من القصص. ومع ذلك فالقنفذ مخلوق ذكيّ، إذ يقال انه يمكن أن يعيش لسبع سنوات، وأحيانا أكثر.
    والحقيقة أن من الأشياء المسليّة مراقبة قنفذ وهو يتجوّل خلسة في الليل بحثا عن طعام أو فريسة. ومن المشاهد التي لا أنساها عن الحياة الفطرية منظر من فيلم ألمانيّ، على ما أذكر، يصوّر صراعا رهيبا بين قنفذ صغير وأفعى كوبرا ضخمة. وبعد نزال دامٍ وعنيف تمكّن القنفذ في النهاية من تهشيم رأس الأفعى ثم مزّق جسدها إلى قطع صغيرة قبل أن يلتهمه.
    وهناك اعتقاد شعبيّ بأن القنافذ تجمع التفّاح والعنب وتحملها إلى مستودعاتها السرّية التي تختارها غالبا بين أكوام الحطب المتراكمة في الحدائق والمزارع.
    وفي الرسومات التي تعود إلى القرون الوسطى، تظهر القنافذ وهي تحمل الفاكهة إلى بيوتها. وهناك رسومات أخرى تصوّر القنفذ وهو يتلذّذ بشرب الحليب. وبعض سكّان القرى الأوربّية ظلّوا يعتقدون أن القنافذ تمتصّ اللبن من أثداء الأبقار. لكن علميّا ثبت الآن أن القنافذ لا تحتمل اللاكتوز.
    الناقد الأدبيّ المشهور ايسايا بيرلين كان قد كتب في خمسينات القرن الماضي مقالا عن الروائي الروسيّ الكبير ليو تولستوي وصفه فيه بأنه "قنفذ كلاسيكيّ"، في إشارة إلى انه كاتب ذو رؤية واحدة متفرّدة وتركيز مكثّف.
    وقد وضع الناقد نموذج تولستوي في مواجهة نموذج آخر من الكتّاب ممّن يسعون لغايات عديدة لا صلة بينها أحيانا، وأحيانا تكون متناقضة ولا يربطها مبدأ أخلاقيّ أو جماليّ.
    بيرلين نفسه اعتمد في مقارنته أو تصنيفه للكتّاب على مقطع من قصيدة للشاعر اليونانيّ القديم اركيلوغوس يقول فيه إن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، بينما القنفذ لا يعرف سوى شيء واحد، لكنه كبير ومهم. وطبعا لا يُعرف إن كان هناك شبه حقيقيّ أو فعليّ بين القنفذ وبين تولستوي.
    ومنذ بضع سنوات، صدرت عن دار غاليمار الباريسية رواية بعنوان "أناقة القنفذ" للكاتبة الفرنسية وأستاذة الفلسفة مورييل باربري. وفي السنة التالية لصدورها، باعت الرواية أكثر من مليوني نسخة وتُرجمت لأكثر من أربعين لغة.
    الرواية تناقش مسائل الحياة والموت وتتناول أسئلة مثل: هل الحياة بسيطة أم معقّدة، منطقية أم متناقضة، وما هي وظيفة الذكاء، ولماذا لدينا فنّ وموسيقى وأدب؟
    ويروي الأحداث شخصان يعيشان في شقّتين تقعان في مبنى بورجوازيّ في باريس. الراوي الأول هو رينيه، عمرها 54 عاما، وتعشق الأدب والفنّ، لكنها تشعر أنها يجب أن تتخفّى في هيئة شخص بلا اسم. تقول رينيه في مكان من الرواية: قد أكون فقيرة باسمي ووظيفتي ومظهري، ولكن في عقلي أنا آلهة لا تُنافَس".
    أما الراوي الثاني فيُدعى بالوما، وهي فتاة غير مستقرّة، لكنها شديدة الذكاء. وبالوما ابنة عائلة من الطبقة الباريسية الرفيعة تعيش بنفس البناية التي تعمل فيها رينيه. ورغم سنّها الغضّ، فإن بالوما ذكيّة جدّا وناضجة عقليّا. كما أنها تعتبر أن الحياة سخيفة ومملّة.
    ومن الواضح أن القنفذ هو رمز لكلّ من رينيه وبالوما، حيث المظهر الخشن يُخفي شيئا من الجمال الداخلي.
    والرواية مكتوبة في سلسلة من الفصول القصيرة تتناوب على كتابتها كلّ من البطلتين. وتبدأ القصّة عندما ينتقل اوزو، وهو رجل أعمال يابانيّ، إلى نفس المبنى الذي تعيش فيه المرأتان ليصبح الثلاثة أصدقاء.
    رواية "أناقة القنفذ" تتضمّن بالإضافة إلى الشخصيّتين الرئيسيّتين عددا من الشخصيات واسعة المعرفة. وهي مليئة بالإشارات إلى الأعمال الأدبية والموسيقية والأفلام واللوحات التشكيلية، كما تمتلئ بالحوارات والتأمّلات الفلسفية. هنا أمثلة منها على سبيل المثال لا الحصر..
  • البشر يرنون بأبصارهم إلى النجوم، وينتهي بهم الأمر في حفرة. وأتساءل أليس من الأسهل أن نعلّم الأطفال منذ البداية أن الحياة ليست سوى ضرب من العبث؟
  • إذا لم يكن لديك سوى صديق واحد، فتأكّد انك أحسنت اختياره.
  • مدام ميشيل لها أناقة القنفذ، من الخارج مغطّى بالأشواك، قلعة حقيقية. ولكن مظهره من الداخل بسيط، إنه مخلوق صغير وكسول على نحو خادع، منعزل بضراوة وأنيق برعب.
  • عندما أكون منزعجا من شيء ما، أبحث عن ملاذ. لا حاجة بي لأن أسافر بعيدا. رحلة إلى ذاكرة الأدب تكفي. إذ أين بإمكان المرء أن يجد صحبة أكثر نبلا ومدعاة للبهجة من الأدب؟
  • نظنّ أننا نستطيع أن نصنع العسل دون أن نشارك النحل مصيره. وحال الإنسان ليس بأفضل من حال النحل المسكين الذي ينجز مهمّته ثم يموت.
  • راحة البال التي يجدها الإنسان في العزلة لا تُعتبر شيئا مقارنة مع السلاسة والانفتاح والانعتاق الذي يجده الإنسان بصحبة رفيق حميم ووفيّ.
  • هنالك قدر كبير من الإنسانية في حبّ الأشجار. جلال الأشجار ولا مبالاتها تُشعرنا نحن البشر كم أننا مخلوقات طفيلية وتافهة تدرج على الأرض.
  • عندما يموت شخص تحبّه، فإن الأمر يشبه احتراق شهاب ناريّ في السماء فجأة، ثم يسود بعده الظلام.
  • الجمعة، فبراير 27، 2015

    خواطر في الأدب والفن

    بين الدبلوماسية والفنّ


    تقول القصّة إن هنري الثامن ملك انجلترا كان يبحث لنفسه عن زوجة جديدة. وقد اخبره بعض المقرّبين منه عن أرملة جميلة، هي كريستينا ابنة ملك الدنمارك الذي تربطه علاقة قربى مع بعض أباطرة روما القدماء.
    في ذلك الوقت، أي حوالي منتصف القرن السادس عشر، لم يكن من المتيسّر دائما أن يرى الرجال النساء اللاتي يريدون الاقتران بهنّ. وكان الملوك والأمراء كثيرا ما يقرّرون زيجاتهم بناءً على صورة للمرأة المراد الزواج منها.
    كان عمر هنري وقتها يقترب من الخمسين، وكان متزوّجا من ثلاث نساء، لكنه كان يفكّر في الاقتران بامرأة رابعة. والأميرة الدنماركية لم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها.
    لكن كان على الملك أن يعرف أوّلا مستوى جمالها ونوعية شخصيّتها. وكان قد سمع عنها كلاما مشجّعا من بعض أفراد حاشيته. لكنه كان بحاجة لشيء ما أكثر من مجرّد السماع. لذا أرسل رسّام البلاط هانس هولبين في مهمّة إلى الدنمارك كي يرى الزوجة الموعودة ويرسمها.
    كانت الدنمارك في ذلك الوقت ما تزال منتمية إلى أفكار القرون الوسطى وكانت فيها طبقة نبلاء قويّة وثقافة فروسية.
    وقد ذهب هولبين إلى الدنمارك ومكث فيها بضعة أسابيع رسم خلالها لوحة من الواقع للأميرة. الصورة التي رسمها لها كانت بديعة بالفعل وتبدو فيها كامرأة جميلة من عصر النهضة ترتدي ملابس حداد وعلى وجهها ابتسامة تشبه الموناليزا.
    ويبدو أن هنري فُتن بملامح المرأة وبجمالها. وعلى الفور طلب يدها، غير أن كريستينا لم تكن في عجلة من أمرها.
    والفكرة التي يتناقلها الناس جيلا بعد جيل وردّدها المؤرّخون وكتّاب السيَر من تلك الفترة هي أن كريستينا رفضت في النهاية الاقتران بالملك البدين والمريض.
    بورتريه كريستينا لهانس هولبين يُعتبر اليوم احد أشهر الصور الملكية في تاريخ انجلترا، وهو من مقتنيات الناشيونال غاليري بلندن. والبورتريه مثال على امتزاج الدبلوماسية باللغة البصرية، وأيضا على المكانة السياسية العالية التي كان الرسّامون يتمتّعون بها في عصر النهضة.

    ❉ ❉ ❉

    استهلالات روائية


    أحيانا تقرأ رواية فيأسرك الاستهلال أو الكلمات الأولى فيها، تجد أنها تضرب على وتر خفيّ ومن ثمّ تحرّضك على الاستمرار في القراءة. العبارة الأولى في أيّة رواية تُعتبر حاسمة ومهمّة جدّا لأنها تثير اهتمام القارئ من جهة، وكثيرا ما توحي بشيء ما من الأسلوب الخاصّ أو المتفرّد للكاتب من جهة أخرى.
    أعظم استهلال قرأته لرواية هو كلمات غارسيا ماركيز التي بدأ بها روايته "مائة عام من العزلة". يكتب ماركيز في مستهلّ هذه الرواية قائلا: بعد سنوات طويلة، وأمام فرقة الإعدام، تذكّر الكولونيل أورليانو بوينديا عصر ذلك اليوم البعيد الذي اصطحبه فيه والده كي يتعرّف على الثلج لأوّل مرّة. كانت ماكوندو يومئذ قرية صغيرة من حوالي عشرين بيتا من القصب بُنيت على ضفّة نهر".
    لاحظ هذا المزج الفريد بين ما هو شخصي وتاريخي، ثم المفارقة بين دلالتي النار "أي الإعدام بالرصاص" والثلج وكيف أن ماركيز جمع بين هذين العنصرين في لحظات الموت، أي تلك اللحظات التي تذوب فيها الفوارق بين المتضادّات.
    هذا الاستهلال حادّ وصادم، ومن الطبيعي أن يطرح القارئ تساؤلات عن السبب في إعدام الكولونيل مثلا، وكيف يمكن أن يكتشف الإنسان شيئا هو في الأصل معروف وموجود في الطبيعة منذ الأزل؟
    ومن أفضل الاستهلالات الأخرى أيضا تلك الجملة الشهيرة التي يبدأ فيها ليو تولستوي روايته "آنّا كارينينا" متحدّثا عن الفرق بين العائلات السعيدة وغير السعيدة بقوله: كلّ العائلات السعيدة تتشابه. لكنّ لكلّ عائلة تعيسة طريقتها الخاصّة في التعاسة."
    فكرة تولستوي مثيرة للاهتمام مع أنها تتطلّب لحظات لاستيعابها وفهمها. واستهلاله الرائع يخبرنا بأن هذه الرواية هي عن الذكريات والعزلة وعن تقلّب الأحوال وتبدّل الأزمنة.

    ❉ ❉ ❉

    بارت: موسيقى متقشّفة


    قبل سبعينات القرن الماضي، كان الايستوني آرفو بارت موسيقيّا ثوريّا يعيش تحت رحمة النظام السوفياتي. ومن وقت لآخر، كان يختبر مستوى الحرّيات الجديدة لعصر ما بعد ستالين من خلال التجريب الموسيقيّ.
    واليوم أصبح بارت معروفا بأسلوبه الموسيقيّ الذي يطلق عليه البعض "التقليلية الصوفية"، والذي يمزج فيه بين أهمّ سمات التقليلية كالتكرار والبساطة النغمية مع إحساس عميق بالتوق الروحي.
    معزوفة بارت بعنوان "مرآة في المرآة" تأخذ السامع إلى عالم من التأمّل والسموّ الروحي من خلال توظيف آلات موسيقية أساسية كالبيانو والكمان والتشيللو.

    ❉ ❉ ❉

    فالادون: من موديل إلى رسّامة


    عندما يتقاطر على منزلك أشخاص مثل تولوز لوتريك ورينوار وبيير دو شافان ليرسموك، فمن المرجّح انك تمتلك شيئا يستحقّ أن ينظر إليه الآخرون.
    وإذا درست أعمال هؤلاء الروّاد الفرنسيين الثلاثة، فسرعان ما سترى الملامح المقدّسة لسوزان فالادون وهي تحدّق فيك وجها لوجه أو ترمقك بنظرة جانبية خفيفة.
    ولدت سوزان فالادون في فرنسا في سبتمبر من عام 1865 لعائلة متواضعة. وقد أجبرتها الظروف على أن تبحث لنفسها عن عمل وهي ما تزال في سنّ المراهقة. وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها، عملت بهلوانة في سيرك. وقد اضطرّها سقوطها من إحدى المراجيح لأن تغيّر مهنتها، فعرضت نفسها على الرسّام بيير بوفي دو شافان لتعمل عنده كموديل في مرسمه في حيّ مونمارتر.
    تخيّل فتاة جميلة وشابّة تعمل لوحدها مع رسّام عاطفي. لنتذكّر انه خلال أعوام الطفرة الانطباعية في باريس القرن التاسع عشر، كانت الموديلات في كثير من الأحيان يؤدّين دور العشيقات لأرباب عملهن. وسوزان لم تكن مختلفة عن البقيّة. كانت معروفة على الخصوص بعلاقاتها الحميمة مع كلّ من رينوار و دو شافان.
    غير أن الآنسة فالادون لم تكن تكتفي بدور الجميلة والمغرية بالنسبة للرسّامين. فخلال الوقت الذي كانت تعمل فيه كموديل، كانت أيضا تولي اهتماما بالموادّ والأساليب التي يستخدمها أرباب عملها. واكتشفت في النهاية أنها تجيد استخدام الألوان وممارسة الرسم. وشيئا فشيئا صارت فنّانة معروفة.
    ومع مرور السنوات، أصبحت مشهورة بسبب استخدامها للألوان الحيّة والتوليف الجذّاب وتمثيلها الجريء للأنثى العارية. كانت ترسم غالبا بالباستيل والألوان الزيتية. واستطاعت أن تحصل على دخل ثابت وسمعة محترمة. وكانت تعرض لوحاتها باستمرار. ثم أصبحت أوّل رسّامة أنثى تلتحق بالجمعية الوطنية للفنون الجميلة.
    إذا لم يكن هذا كلّه كافيا لإقناعك بموهبة وشهرة سوزان فالادون، فقد يفاجئك أن تعرف أن هناك فوّهة بركان خامد على كوكب الزهرة سُمّيت على اسمها تكريما لها واعترافا بمكانتها وموهبتها.

    ❉ ❉ ❉

    أقوال


    هنا بعض العبارات وقصاصات الورق التي قرأتها واحتفظت بها مؤخّرا. بعضها يثير الاهتمام والبعض الآخر يحرّض على التفكير والتأمّل..

  • الناس الذين يحاولون قراءة ما بداخلك لا ينصفونك، لأنهم لا يقدّرون الجهد الذي تبذله دائما كي تصبح إنسانا أفضل، وهي مهمّة صعبة تستحقّ أن تُلاحظ وأن تُقدّر.
    - مارلين روبنسون
  • بعض البشر لا يشعرون بأنهم يؤلمونك، لأنك تسامحهم دائما. ولأنك تسامحهم دائماً فإنهم لا يشعرون بخطئهم. أحيانا تكون صفاتنا الجميلة هي سبب مشاكلنا.
  • مفزع عدد تلك التعاليم الدينية مقارنة بما فعله أجلاف هذا الكوكب من البشر في المائة عام الأخيرة فقط.
  • وإنّي لأهوى النومَ في غيرِ حينهِ
    لعلّ لقاءً في المنام يكونُ
    تُحدّثني الأحلامُ أني أراكمُ
    فيا ليتَ أحلامَ المنامِ يقينُ!
    - قيس لُبنى
  • إذا لم يملأ المسلمون قلوبهم بالحبّ بدل الخوف والغضب، بالعشق بدل الحقد والرّعب، فسيمسون في آخر العهد أمّة بلا عهد؛ مجرّد جوقة من القتلة والمجرمين وقطّاع الطرق والمعتوهين.
  • لا تتعجّب من عصفور يهرب وأنت تقترب منه وفى يدك طعام له. فالطيور، على عكس بعض البشر، تؤمن بأن الحرّية أغلى من الخبز.
    - د. ابراهيم الفقي
  • من مصائبنا نحن العرب أن من يحارب طغاتنا أكثر منهم طغيانا وإجراما بما لا يقاس. لنتصوّر كيف تحارب كلّ من داعش والنصرة نظام الأسد ليقيموا نظاما من عندهم بدلا منه!
  • يا اللي بتبحث عن إله تعبده
    بحث الغريق عن أيّ شيء ينجده
    الله جميل وعليم ورحمن رحيم
    إحمل صفاته وانتَ راح توجده
    - صلاح جاهين
  • يتعلّم الطفل التمايل على أنغام الموسيقى والتصفيق قبل أن يتعلّم كيفيّة تركيب جُملة كاملة. الموسيقى حياة بعكس ما أوهمنا به أعداء الحياة!
  • كيف لأمّة تفكّر ليل نهار في الموت وعذاب القبر أن تنتج أو تتحرّك من مكانها، امّة كلما مسّها ضرّ قالت هذه عقوبة من الله وشرط من أشراط الساعة؟!
  • تعريف الديّوث هو الرجل السويّ المحترم الذي يمنح أسرته حقّ الاختيار وهامشا من الحرّية دون أن يكترث لكلام السعوديين.
  • لا يهمّني ما تؤمن أو ما لا تؤمن به. ما يهمّني هو كيف نستطيع أن نعيش سويّة في مجتمع واحد دون أن يقتل احدنا الآخر.
  • البارحة نايم وفي نومي حلمت
    شايب يناديني ويسألني بذوق
    ما دام ربّي في السما والبشر تحت
    حبّيت أنا اعرف ليه ما نسجد لفوق؟!
  • لماذا يجب أن نقتل الآخرين دفاعا عن الله؟ أليس الله بقادر على أن يتخلّص من أعدائه؟!
  • أجمل ما في حرّية الانترنت أنها في غياب أيّ رقيب عدا الله، تمنحك الفرصة للتعرّف على حصّتك من نبل السلوك وطهارة الضمير.
  • عندما تجد نفسك مضطرّا لإقناع الكثيرين بأن قتل المختلف عنك في الدين أو المذهب جريمة، فتأكّد بأنك تعيش وسط مجرمين.
  • من الواجب تحديد جنس الموت ومعرفة إن كان ذكراً أو أنثى. فإن كان ذكراً وجبت مقارعته حتى النهاية، وإن كان أنثى وجب الاستسلام لها حتى الرمق الأخير.
    - معمّر القذّافي
  • ترى ماذا لو قرّر حفنة من الطليان المتخلّفين إحياء الإمبراطورية الرومانية؟ وماذا لو قرّر أحفاد الاسكندر إحياء إمبراطورية جدّهم؟ هل لاحظتم مستوى الجنون الذي عندنا؟!
  • إن كنت لا ترى غير ما يكشف عنه الضوء ولا تسمع غير ما يعلن عنه الصوت، فأنت في الحقيقة لا تبصر ولا تسمع.
    - جبران
  • انتبه لله الذي في تصوّرك، فقد يكون فقيها وليس إلها!
  • لا تشارك في أيّة ثورة إلا إذا كان قادتها يحملون أقلاماً وآلات موسيقية وأدوات رسم.
  • العِناق هو أن تأتي بعطر وتعود بعطرين!

    Credits
    theguardian.com
    archive.org
    books.google.com
  • الأحد، مارس 09، 2014

    آنيّة مليئة بالعطور


    بعض الناس يحبّون رائحة الشوكولاته والشموع المعطّرة أو أشجار الصنوبر والريحان الطازج. والبعض الآخر يحبّون رائحة السيّارة الجديدة أو الكتب القديمة أو رائحة العشب في نهار صيفيّ ممطر. وهناك من يفضّل رائحة البخور أو القهوة الطازجة أو الزعفران. وهناك، مثلي، من يفضّل الرائحة الليّنة لبرد الشتاء ورائحة الحطب المشتعل ونكهة الزنجبيل والليمون البرّي.
    وقد يتساءل قارئ: وهل للشتاء رائحة؟ والإجابة نعم رغم صعوبة شرحها أو وصفها. صحيح أن الشتاء يمثّل بالنسبة للكثيرين تطرّفا في دورة المواسم، لكنّه يبدو دائما محمّلا بالوعود ومُبهجا للحواسّ. ورائحة يوم شتويّ لا تنفصل عن منظر السماء الصافية الزرقاء والنسيم البارد في الليل وشذى الأزهار البرّية.
    وفي الكثير من الحالات، قد يحبّ شخص هذه الرائحة أو تلك لأنها تعيده إلى الماضي وتستثير في نفسه ذكريات عن أزمنة وأمكنة ووجوه من الأيّام الخوالي.
    وأكثرنا لا بدّ سمعوا عن مارسيل بروست أو قرءوا شيئا من كتاباته، خاصّة روايته المشهورة البحث عن الزمن المفقود التي نُشرت قبل مائة عام من الآن. وأتذكّر أنني ابتعت نسخة من الترجمة العربية لهذه الرواية قبل سنوات. لكنني لم استطع أن أقرأ أكثر من أربعين صفحة منها. وخمّنت أن السبب ربّما يعود إلى أنني عندما قرأتها لم أكن في أفضل حالاتي الذهنية، أو أن السبب عائد إلى الترجمة وكثرة الاستطرادات والجمل الطويلة فيها بالإضافة إلى الشخصيّات الكثيرة في الرواية. وقد تكمن المشكلة في كون بروست نفسه كاتبا نخبويّا، بحسب ما يقوله بعض النقّاد.
    الرواية الأصلية المكتوبة بالفرنسية تتألّف من ثلاثة آلاف صفحة وحوالي مليون كلمة وأكثر من مائتي شخصيّة. وقد كُتبت في سبعة مجلّدات، لكنّ مترجمها إلى العربية اختصرها إلى أربعة مجلّدات فقط.
    والفكرة التي تتمحور حولها الرواية ويتردّد صداها في جميع أجزائها هي أن بعض الروائح يمكن أن تقدح طوفانا من الذكريات عن أشخاص وأمكنة وأشياء أخرى من زمن الطفولة.
    والكاتب يتساءل في أكثر من مكان من الرواية عن السرّ في أن للروائح قدرة على استلهام ذكريات من الماضي ونقلنا إلى أماكن غريبة أو حتى مفاجئتنا بذكريات كنّا نظنّ أننا نسيناها منذ زمن طويل.
    وتبدأ الرواية عندما يغمس الراوي قطعة من البسكويت في كأس من الشاي بنكهة الأعشاب. وعندما يتذوّق نكهة البسكويت والشاي المعطّر يتذكّر فجأة حادثة من الماضي. ومن تلك الذكرى يمضي ليصف قريته والبيت الذي عاش فيه وكذلك الأشخاص الذين عرفهم والتجارب التي عاشها في طفولته وشبابه.
    ومن الأمور الغريبة أن بروست هو أوّل من صاغ مصطلح "الذاكرة اللاإرادية" التي تحدّث عنها في نفس هذه الرواية. وقد فعل هذا مع انه لم تكن لديه أيّة خلفية أبدا عن علم النفس ولم يكن قد قرأ لفرويد أو غيره، كما لم يكن يعرف أيّة مهنة أو تخصّص آخر غير الكتابة.
    كان بروست يرى أن الذاكرة اللاإرادية تحتوي على خلاصة الماضي وأنها ترتكز على ما يُعرف بالصور المتسلسلة، أي أن كلّ ذكرى تطلق لاإراديّا ذكريات أخرى ذات صلة، وكل واحدة من هذه الذكريات مرتبطة بالأخرى.
    والحقيقة أن لا احد يعرف، على وجه اليقين، إن كان الكاتب قد مرّ فعلا بلحظات التجلّي أو التسامي تلك بتفاصيلها التي ذكرها في روايته. غير أن فكرة العلاقة بين الذاكرة والروائح التي تحدّث عنها ما تزال تلهم العلماء وتثير اهتمامهم حتى اليوم.
    الاهتمام بالعلاقة بين علم النفس وحاسّة الشمّ ينمو سنويّا بعد أن ظلّت الأبحاث تركّز على البصر والسمع باعتبارهما الحاسّتين الأكثر تأثيرا على العلوم السلوكية.
    علماء الأعصاب من جهتهم يرون أن حاسّتي الشمّ والذوق قريبتان جدّا من تلك الطبقات البدائية في أدمغتنا. وقد اكتشفوا وجود مناطق في الدماغ تتذكّر المناظر والروائح والنكهات وأصوات بعض التجارب والخبرات. كما وجدوا أن الذكريات التي تطلقها الروائح يمكن أن تكون أكثر تفصيلا وإثارة للانفعال من تلك التي لا ترتبط بنكهة أو رائحة.
    وقد ثبت علميّا أن الذكريات الشعورية عن الأحداث والتجارب تنتشر على امتداد مناطق متعدّدة ومختلفة من الدماغ. تخيّل، مثلا، انك ذهبت إلى الشاطئ ذات يوم للراحة والاستجمام. منظر الأمواج المتكسّرة يتمّ تخزينه في منطقة معيّنة في الدماغ، بينما تُخزّن رائحة العشب البحريّ في منطقة أخرى مختلفة.. وهكذا.


    بعض الكتّاب يذهبون إلى أماكن غريبة أو يسافرون في رحلات طويلة أو يدمنون على الشراب أو يتناولون المخدّرات أو يفقدون أنفسهم في الجنس. لكن مارسيل بروست اختار أن يذهب إلى الداخل؛ إلى الأرض المجهولة والعوالم غير المعروفة في دواخلنا. وروايته تنظر إلى الزمن كقاتل لا يرحم وإلى الحياة كسلسلة من حالات الفقد.
    من ناحية أخرى، يمكن اعتبار "البحث عن الزمن المفقود" مرثيّة تصف الدمار الذي يصنعه الزمن بالأشياء والناس. كما يمكن اعتبارها بحثا عن الحبّ وعن الذات والهويّة. لكن الرواية تحكي أيضا عن فكرة أكثر قتامة، وهي أن ما نُظهِره من مشاعر وردود فعل ليست سوى جزء بسيط من أنفسنا، أمّا الجزء الأكبر فهو ذلك الذي يظلّ كامنا في اللاوعي لأن أعمالنا الروتينية وعاداتنا اليومية تحجبه عن الظهور وتمنعه من أن يُحفّز أو يستثار.
    والحقيقة انك لا بدّ وأن تُدهش من كثرة الكتب والمقالات الأدبية والرسائل العلمية التي كُتبت عن هذا الكاتب وعن روايته الماراثونية الفريدة. اسم بروست نفسه أصبح صفة في عالم الأدب، إذ يقال أحيانا "أدب بروستي" لوصف أسلوب بروست أو أيّ أسلوب آخر يشبهه، أو لوصف عوالم الطبقة الوسطى الارستقراطية التي تحدّث عنها في أدبه.
    الروائي غريهام غرين كتب ذات مرّة يقول: بروست هو أعظم روائيّ في القرن العشرين، تماما كما كان تولستوي أعظم روائيّ في القرن التاسع عشر. وبالنسبة لأولئك الذين بدءوا يكتبون في نهاية عشرينات أو بداية ثلاثينات القرن الماضي، كان هناك كاتبان كبيران لا مهرب من التأثّر بأحدهما أو كليهما: بروست وفرويد. وكان كلّ منهما يكمّل الآخر".
    وقبل حوالي شهرين كتب ناقد أمريكي مقالا عن رواية بروست قال فيه: لكي تقترب من أجواء رواية بروست، يجب أن تكون متهيّئا شعوريّا. فالجمل طويلة والفقرات ضخمة والرواية نفسها من أطوال الروايات. غير أن بروست يستحقّ المحاولة. فأشخاصه أحياء ويتنفّسون بطريقة تجعلك تشعر بأنهم أصدقاؤك. لكن عليك أن لا تتوقّع أن تجد حبكة أو إثارة، ولا حتّى قصّة بالمعنى التقليدي للكلمة. الأفكار التي تتناولها الرواية تأتي في شكل تأمّلات عميقة عن بعض أهمّ القضايا التي يعالجها الروائيون عادة كالحبّ والرغبة والذاكرة والزمن والموت".
    بروست نفسه كان شخصيّة مثيرة للاهتمام. لم يستطيع الحفاظ على وظيفة واحدة وكانت صحّته على الدوام سيّئة. لكن كان لديه شيء أكثر ارتباطا بالسعادة البشرية. وكان هذا يتمثّل في انه كان دائما ينظر إلى الأشياء بواقعية. كما أنه أيضا كاتب إنساني تستطيع أن تجد في أدبه، ليس فقط جميع أنماط الشخصيّات المختلفة، وإنّما أيضا كلّ أنواع الحالات والعواطف والمشاعر الإنسانية التي يمكنك تخيّلها. وهناك من يلقّبه بشكسبير العالم الداخلي لقدرته على أن يحرّك مشاعر أيّ إنسان بصرف النظر عن خلفيّته أو تعليمه. وكلّ شخص بإمكانه أن يجد في أدبه شيئا من نفسه.
    كان بروست دائم البحث عن الجمال في الطبيعة، وكثيرا ما كان يتوقّف ليشمّ عبير الأزهار ويراقب حبوب اللقاح. كان يقول إن الرحلة الحقيقية ليست في أن ترى طبيعة جديدة، بل في أن ترى بعينين جديدتين. وكان يرى أن ساعة من الزمن ليست مجرّد فسحة قصيرة، بل مزهرية مليئة بالعطور والأصوات والأماكن والمناخات. لذلك فنحن نحمل في داخلنا كنزا من الانطباعات، ولكلّ منها نكهة خاصّة بها تتشكّل من تجاربنا التي تصبح مع مرور الزمن لحظات من ماضينا.
    لم يكن بروست مثقّفا كبيرا، لكنّه كان شخصا ذكيّا بامتياز. كان يركّز اهتمامه على النباتات والناس واللوحات الفنّية. لكنه لم يكن يعبأ كثيرا بالنظريات التي تتحدّث عن علم النبات أو علم النفس أو علم الجمال. وقد قضى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته سجين غرفة نومه. كان ينام في النهار ويكتب ليلا لاستكمال روايته التي عكف على كتابتها طوال عشرين عاما ولم ينجزها إلا قبيل ساعات من وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1922.
    في مكان ما من الرواية، يكتب بروست قائلا: إذا كنّا في كثير من الأحيان نميل لقراءة كتب من زمن آخر، فلأن تلك الكتب هي السجلات الوحيدة التي احتفظنا بها عن أيّامنا السالفة ونتمنّى أن نرى على صفحاتها انعكاسات للوجوه والمساكن والطرقات والغدران التي خبرناها من قبل ولم تعد موجودة".
    وفي مكان آخر، يلاحظ الراوي اختفاء معالم بأكملها من منازل وحدائق وطرقات ثمّ يتساءل: أين ذهب هذا العالم؟ هل تلاشى إلى الأبد؟".
    والإجابة هي أن ذلك العالم ما يزال موجودا، لكن في ذاكرتنا فقط. وما يمنحه حياة جديدة وينقذه من النسيان هو الإبداع الأدبيّ. العمل الفنّي هو ما يسمح لنا بإعادة اكتشاف الزمن المفقود.

    Credits
    proust-ink.com
    authorama.com
    literary-exploration.com

    الأربعاء، مارس 05، 2014

    محطّات

    قاموس الشيطان

    كان امبروز بيرس واحدا من أشهر الكتّاب الساخرين في أمريكا في القرن التاسع عشر. كان يكتب المقالة والقصّة القصيرة والقصيدة، كما كان كاتب عمود يوميّ في العديد من الصحف في زمانه.
    لكن ما أن يُذكر اسم بيرس حتى يأتي إلى الذهن كتابه المشهور قاموس الشيطان الذي ينافس أشهر الأعمال الكلاسيكية الساخرة. وهذا الكتاب عبارة عن إعادة تعريف للكثير من مفردات القاموس الانجليزي بطريقة ساخرة تتناول أحوال المجتمع والسياسة والدين. وكان المؤلّف قد كتب هذه التعريفات تباعا في إحدى الصحف الأسبوعية ثم جُمعت في كتاب عام 1911 ونُشر تحت اسم قاموس الشيطان.
    هنا بعض تعريفات بيرس الساخرة والطريفة..
  • العفو حالة من الأريحية تُظهِرها الدولة تجاه بعض مرتكبي الجرائم الذين تعرف أن معاقبتهم قد تكلّفها غالياً.
  • السلام فترة من الخداع بين جولتين من القتال.
  • الصادق صفة تُطلق على الشخص الأبكم والأمّي!
  • البلادونا كلمة تعني بالإيطالية السيّدة الجميلة، وبالإنجليزية نوع من السمّ القاتل. وهذا مثال صارخ على الهويّة الأساسية لكلّ من اللغتين.
  • فكّر مرّتين قبل أن تتحدّث إلى صديق في حاجة.
  • الإنسان حيوان مهنته الأساسية إبادة الحيوانات من الفصائل الأخرى ومن فصيلته هو.
  • النسيان نعمة يهبها الله للدائنين تعويضا لهم عن افتقارهم للضمير.
  • الإعجاب هو اعترافنا المؤدّب بأن الآخرين يشبهوننا.
  • التاريخ هو سرد مزيّف لأحداث تافهة في الغالب افتعلها حكّام أوغاد وجنود أغبياء.
  • الجمال هو القوّة التي تستطيع من خلالها امرأة أن تسحر عاشقها وترهب زوجها.
  • الحرب هي طريقة الله في تعليم الأمريكيين الجغرافيا!
  • الحبّ جنون مؤقّت لا يشفيه سوى الزواج.
  • المجنون شخص يتمتّع بدرجة عالية من الاستقلال الفكري.
  • المحيط جسم مائيّ يحتلّ ثلثي مساحة عالم صُنع أساسا من اجل بشر لا يملكون خياشيم!
  • التأدّب هو أكثر أشكال النفاق قبولا.
  • الوثنيّ مخلوق جاهل يدفعه غباؤه لعبادة شيء يشعر به ويراه رأي العين!
  • الصبر شكل بسيط من أشكال اليأس يتخفّى في رداء الفضيلة.
  • المسيحيّ شخص يعتقد أن العهد الجديد هو كتاب وحي إلهي يلبّي الاحتياجات الروحية لجاره.
  • السياسة هي فنّ تسيير الشئون العامّة من اجل مكاسب خاصّة.
  • الكافر في نيويورك هو الذي لا يؤمن بالدين المسيحيّ، وفي القسطنطينية هو الشخص الذي يؤمن به.
  • العدميّ شخص روسيّ ينفي وجود أيّ شيء باستثناء تولستوي.
  • المنطق هو فنّ التفكير بما يتّفق مع انعدام قدرة الإنسان على الفهم.
  • الأنانيّ شخص لا يراعي أنانية الآخرين.
  • الشخص الثقيل الظلّ هو ذلك الذي يتكلّم عندما تتمنّى عليه أن يسمع.
  • الاقتباس هو التكرار الخاطئ لكلمات الآخرين.
  • السعادة هي إحساس ينشأ لدى الإنسان نتيجة تأمّله لتعاسات الآخرين.
  • ❉ ❉ ❉

    إفطار في الحديقة

    ربّما لم تسمع باسم ليو بوتز من قبل، مع انه كان احد الرسّامين الذين ارتبطت أسماؤهم بالبدايات الأولى للحركة الانطباعية. كما كان خلال حياته واحدا من الفنّانين الذين لقوا احتفاءً وتكريما من قبل دعاة الفنّ الحديث. وبالإضافة إلى الرسم، عمل بوتز أستاذا في أكثر من جامعة وبلد وكرّس حياته كلّها في سبيل الإبداع وحريّة الفنّ.
    ولد ليو بوتز في يونيو من عام 1869 في منتجع ميرانو شمال ايطاليا. ودرس في أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ ثمّ في أكاديمية جوليان في باريس. وأحد مواضيعه المفضّلة كان رسم الأشخاص، وخصوصا النساء.
    لوحته هذه يمكن اعتبارها مثالا جميلا على الإمساك بسحر أضواء وألوان مناظر الهواء الطلق. وفيها يصوّر ثلاث نساء ورجلا وهم يتناولون الإفطار معا في إحدى الحدائق. جمال الألوان وكذلك التباينات القويّة في ما بينها، والاستخدام المبهر لضوء الشمس هي من أهم سمات هذه اللوحة.
    كان ليو بوتز شخصا كثير الترحال. وقد ذهب بصحبة عائلته إلى أمريكا الجنوبية حيث قضى سنوات في البرازيل كما سافر إلى الأرجنتين والغابات المطيرة.
    وعندما عاد إلى ألمانيا عام 1935، جاهر بعدائه للنظام النازي. وبعد ذلك اعتبره النظام عدوّا للشعب ووصف فنّه بـ "المنحلّ". ثم استُدعي للتحقيق معه عدّة مرّات من قبل الغستابو. وأخيرا اضطرّ إلى ترك ألمانيا خوفا من الاعتقال وقضى السنوات التالية منفيّا في هولندا.
    تأثّر ليو بوتز بأعمال الرسّامين الرمزيين مثل فرانز فون ستاك واكسافير هابرمان. وأثناء إقامته في باريس أعجب بأعمال كلّ من مانيه ورينوار وبوغيرو. وعندما توفّي عام 1940 كان قد أتمّ رسم أكثر من ألفي لوحة.

    ❉ ❉ ❉

    رأس الحصان

    منذ اكتشافه منذ أكثر من قرن، وسديم رأس الحصان يزيّن العديد من كتب الفلك والمطبوعات التي تتحدّث عن الفضاء والكواكب. وكان أوّل من اكتشف هذا السديم وليامينا فليمنغ أستاذة علم الفلك بجامعة هارفارد، وكان ذلك في عام 1888. ومن الواضح أن السديم أخذ اسمه من شكل رأس الحصان في منتصفه. وهو يقع في كوكبة أوريون أو الجبّار ويبعد عن الأرض بحوالي 1500 سنة ضوئية.
    المعروف أن هذا السديم كان وما يزال هدفا مفضّلا للرصد والملاحظة. وقد صوّره تلسكوب هابل الفضائي بتفاصيل مذهلة وباستخدام موجات الأشعّة تحت الحمراء التي لها القدرة على اختراق المواد المتربة التي تحجب عادة المناطق الداخلية من السديم. وهو في هذه الصورة يبرز مثل حصان أو فرس بحر عملاق من وسط أمواج مضطربة من الغبار والغاز. كما انه يبدو منيرا بتأثير الضوء الذي تشعّه نجمة ساخنة بالجوار، بينما تظهر في الخلفية مجرّة درب التبّانة.
    تلسكوب هابل مضى على عمله في الفضاء 23 عاما تمكّن خلالها من إنتاج عدد لا يُحصى من الصور الفلكية المذهلة. وكانت بعض أكثر هذه الصور جمالا وإثارة للاهتمام هي تلك التي التقطها للسُدُم، وهي عبارة عن غيوم بالغة الضخامة تسبح ما بين النجوم وتتألّف غالبا من الغاز والغبار والبلازما.
    بعض العلماء يرون في السُدُم مصانع لإنتاج الكواكب والنجوم الرضيعة. وقد وجدوا باستخدام التلسكوبات أنواعا عديدة وغريبة منها منتشرة في أنحاء الكون. ومساحة بعضها قد تصل إلى عدّة سنوات ضوئية.

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • صديق عزيز أرسل إليّ قبل أيّام عبر البريد الاليكتروني هذه الأغنية التي يقول إن زميلا له وجدها على اسطوانة في بيروت يعود تسجيلها إلى نهاية الستّينات، وهي لمطرب سعوديّ قديم هو عبدالله محمّد. وقد قام صديقه بشرائها ثم أرسلها إليه كهديّة. وهو بدوره يهديها لي. ثم يسأل: ما صحّة ما يقال من أن كلمات الأغنية هي للشاعر الجاهلي امرئ القيس؟
    وأريد أن اشكر صديقي العزيز على هديّته الجميلة وأستأذنه في أن أضعها هنا كي يسمعها المهتمّون بأغاني التراث والموسيقى القديمة، خاصّة مع عدم وجود تسجيل للأغنية على الانترنت بمثل هذا النقاء. وبالتأكيد سبق لي وأن سمعت هذه الأغنية أكثر من مرّة. وعلى حدّ علمي أنها غُنّيت من أكثر من مطرب، منهم محمّد عبده. أمّا عن الكلمات فللأسف لا اعلم عن صاحبها شيئا. غير أنّي استبعد أن تكون لامرئ القيس، لأن الشعر في الأغنية بسيط وليس فيه فخامة وجزالة ألفاظ الشعراء العرب الكلاسيكيين. هذا رأيي وقد أكون على خطأ.


  • فخر الدين العراقي هو احد أعظم الشعراء الصوفيين الذين عاشوا في القرن الثالث عشر. ولد الشاعر في همدان بإيران، وكان كثير الترحال، فسافر إلى الهند وباكستان، ودرس على يد الشيخ الصوفي بهاء الدين زكريا. وفي قونيه في تركيا حضر دروسا للشيخ صدر الدين القوني الذي كان احد تلاميذ الشاعر الصوفيّ المشهور محيي الدين ابن عربي. ثم زار كلا من مصر وسوريا التي توفّي فيها ودُفن إلى جوار قبر ابن عربي في دمشق.
    ألّف فخر الدين العراقي كتابا في العرفان اسماه قصائد العشّاق، وهو عبارة عن مجموعة من أشعار الحبّ الصوفي. وقد تأثّر به العديد من الشعراء، الذين اشتهروا في ما بعد، ومن بينهم الشاعر حافظ.
    كان العراقي يتقن العربية بالإضافة إلى لغته الأمّ، أي الفارسية.

  • الأحد، يوليو 14، 2013

    سوناتا كرويتزر

    سوناتا كرويتزر هو اسم لمعزوفة موسيقية ولرواية ولأكثر من لوحة تشكيلية. ظهر الاسم لأوّل مرّة عندما أطلقه بيتهوفن على إحدى مؤلّفاته الموسيقية. كان اسم المعزوفة في البداية "سوناتا الكمان رقم تسعة". وهي معروفة بطولها وبالجزء الخاصّ فيها الذي يتطلّب عزف الكمان. الحركة الأولى غاضبة إلى حدّ ما، والثانية تأمّلية، والثالثة مندفعة مع شيء من المرح.
    عندما فرغ بيتهوفن من تأليف هذه القطعة أهداها إلى صديقه عازف الكمان جورج بريدجتاور 1778)- 1860)، الذي عزفها مع بيتهوفن في العرض الأوّل لها في مايو من عام 1803 على مسرح إحدى الحدائق في برلين. لكن حدث بعد العزف أن عمد بريدجتاور إلى إهانة سيّدة كان بيتهوفن يحترمها كثيرا. لذا وتحت تأثير شعوره بالغضب، قام بيتهوفن بإزالة اسم بريدجتاور من المعزوفة ووضع بدلا منه اسم رودولف كرويتزر الذي كان واحدا من أشهر عازفي الكمان في ذلك الوقت.
    ومع ذلك، لم يعزف كرويتزر هذه السوناتا أبدا، بل اعتبرها "مزعجة وغير مفهومة". كما انه لم يكن مهتمّا بأيّ من مؤلّفات بيتهوفن، بالإضافة إلى أن الاثنين لم يلتقيا سوى مرّة واحدة فقط وكان لقاءً عابرا.
    ليو تولستوي كان معجبا على ما يبدو بـ سوناتا كرويتزر . فقد اختار الاسم عنوانا لإحدى رواياته التي نشرها في العام 1889م وسرعان ما منعتها السلطات الروسية. الرواية تقدّم حججا لفكرة التعفّف الجنسي، كما تتضمّن وصفا متعمّقا للغضب الناتج عن الغيرة العاطفية.
    مصدر الرواية كان عددا من الرسائل التي تلقّاها تولستوي من امرأة مجهولة كانت توقع رسائلها إليه باسم "سلافيانكا". وكانت تتبادل الأفكار مع الكاتب حول الوضع المروّع الذي وجدت النساء أنفسهنّ فيه في المجتمع الروسي آنذاك.

    وهناك مصدر آخر للرواية هو قصّة رواها لـ تولستوي أحد أصدقائه الذي كان قد سمع مسافرا يتحدّث في القطار عن خيانة زوجته له. وعندما أكمل تولستوي كتابة المسوّدة الأولى، كان صديق للعائلة يدرّس الموسيقى للأطفال في منزل الكاتب. وفي احد الأيّام، سمع الموسيقيّ وهو يعزف سوناتا بيتهوفن هذه. وبعد أدائها، اقترح تولستوي على الرسّام إيليا ريبين، الذي كان حاضرا، أن يساعده في التعبير عن المشاعر التي أثارتها تلك الموسيقى في نفسه.
    تتحدّث الرواية عن امرأة تعيش زواجا بلا حبّ. وهي تعزف سوناتا بيتهوفن مع عازف كمان مفعم بالحياة. وتبدو المرأة كما لو أن عاطفة الموسيقى تحملها بعيدا. تقول وهي تصف تأثير الموسيقى عليها: الموسيقى تجعلني أنسى نفسي وحالتي الحقيقية. إنها تحملني بعيدا إلى حالة أخرى من حالات الوجود، حالة ليست حالتي. تحت تأثير الموسيقى، يساورني إحساس واهم بأنني اشعر بأشياء لا اشعر بها حقّا وبأنني افهم أشياء لا افهمها وبأنني قادرة على فعل أشياء لست قادرة على القيام بها. هل من المسموح به حقّا لأيّ شخص يشعر بمثل هذا الشعور، خاصة إن كان عديم الضمير، أن ينوّم مغناطيسيّا شخصا آخر، ثم يفعل معه ما يشاء؟".
    زوج المرأة، الذي يعاني من الأوهام والغيرة، يقطع رحلة عمل له ويعود إلى المنزل بشكل غير متوقّع بعد منتصف الليل، ليجد زوجته جنبا إلى جنب مع عازف الكمان في غرفة الطعام بكامل ملابسهما، ولكنهما منهمكان في حديث حميم. واقتناعا منه أنها قد خانته، يقوم بقتلها في نوبة من نوبات الغضب.
    ولأن تولستوي يروي هذه القصّة من وجهة نظر الزوج الموسوس والغاضب، فإننا لا نعرف على وجه اليقين ما الذي حدث بين الزوجة البلا اسم وشريكها في عزف السوناتا.
    اللوحة فوق اسمها أيضا سوناتا كرويتزر، وهي لرسّام ايطالي اسمه ليونيللو باليسترييري. درس باليسترييري الرسم في روما على يد دومينيكو موريللي. ثمّ انتقل إلى باريس حيث أصبح جزءا من دائرة من الموسيقيين وربطته صداقة وثيقة مع مواطنه الموسيقيّ والشاعر البوهيمي جوسيبي فانيكولا. ومعظم لوحات الرسّام هي إمّا لموسيقيين أو عن أجواء موسيقية.
    في اللوحة، يتذكّر باليسترييري ليلة قضاها في باريس بصحبة عدد من أصدقائه الموسيقيين وهم يستمعون إلى فانيكولا الذي كان يعزف سوناتا كرويتزر لـ بيتهوفن. والرسّام يصوّر نفسه جانبيّا بينما هو جالس إلى جوار امرأة ويقرأ كتابا.

    الجمعة، أبريل 19، 2013

    مشروع رواية

    لا بد وأن الكثيرين منّا راودتهم ذات يوم فكرة كتابة رواية، على أساس أن لديهم من القصص ومن تجارب الحياة ما يستحقّ أن يُكتب ويطّلع عليه الناس. ومنذ عامين عبرت هذه الفكرة الطفولية رأسي على حين غرّة. وقلت في نفسي: يجب قبل أن اشرع في الكتابة أن اقرأ، بالإضافة إلى ما كنت قرأته من قبل، عشرين رواية على الأقلّ وأن أركّز بشكل خاصّ على أساليب وتقنيّات السرد وأوازن وأقارن في ما بينها وصولا إلى اختيار شكل الكتابة الذي سأعتمده.
    ولأنّني من المعجبين بالفانتازيا التاريخية أو ما يُسمّى أحيانا بالواقعية السحرية، فقد رسمت في ذهني بعض القصص والأمكنة والشخصيات، واخترت بطلا للرواية المتصوَّرة شابّا في الأربعين من عمره اسمه غالب، وهو شخصية متخيّلة وسليل عائلة عريقة تعيش في نيودلهي بالهند، لكن أصولها تعود إلى منطقة القوقاز في آسيا الصغرى.
    وقائع الرواية المفترضة تبدأ بمشهد لغالب وهو يقف متأمّلا قصرا اثريّا على طريق الحرير في إحدى بلدات ما يُعرف اليوم بـ اوزبكستان. القصر مبنيّ على الطراز المغربيّ ويضمّ حديقة واسعة مزروعة بالنباتات الغريبة تتخلّلها تماثيل لأسود ونوافير تغذّيها جداول صغيرة تنساب من الجبال القريبة. هذا المكان يُفترض انه نقطة الانطلاق التي يبدأ منها البطل رواية تاريخ عائلته البعيد وترحال أفرادها من بلد لآخر والصراعات والأدوار والحروب المختلفة التي صنعت أقدار الناس هناك وشكّلت تاريخ تلك المناطق عبر العصور المتعاقبة.
    الشخصيات والقصص التي يُفترض أن تملأ فراغات السرد بعضها متخيّل وبعضها الآخر حقيقيّ، مثل رسّام المنمنمات الفارسيّ نادر الزمان والسلطان بهادور شاه آخر سلالة ملوك المغول الذين حكموا الهند، بالإضافة إلى الأمير غِيراي خان الذي كان حاكما على إحدى خانيّات القرم في القرن السادس عشر.
    مضت على تلك الفكرة فترة ليست بالقصيرة وكنت انتظر توفّر الوقت الذي يسمح بدراسة كلّ ما له علاقة بتاريخ وآداب وثقافة وجغرافيا تلك المناطق قبل الشروع في الكتابة. لكن نظرا للمشاغل والارتباطات الكثيرة، فقد توارت الفكرة من ذهني بعد أن حلّ مكانها اهتمامات أخرى ومع مرور الأيّام نسيتها نهائيّا تقريبا.
    وقبل أيّام، اتّصل بي صديق قديم محيّيا واقترح عليّ أن نلتقي في احد المقاهي كي نشرب القهوة معا ونتحادث في بعض الأمور، فوافقت. وفي الموعد المحدّد التقينا. وبعد السلام والسؤال عن الأحوال قال: أعرف صديقا من الوجهاء. هذا الشخص عاش حياة حافلة بالانجازات والأحداث، وقد عرك الحياة وعركته كما يقال. وهو يفكّر في تسجيل ما تختزنه ذاكرته من أحداث مثيرة وقصص مشوّقة في كتاب على هيئة رواية، لأنه يعتقد أن ما مرّ به في الحياة من تجارب ودروس يستحقّ أن يُدوّن وأن يقرأه ويستفيد منه الناس. وقد سلّمني الرجل شيكا مفتوحا وطلب منّي أن أبحث عن شخص مناسب للقيام بهذه المهمّة، فتذكّرتك وأحببت أن اسمع رأيك في الموضوع.
    قلت: أوّلا أريد أن أشكرك على حسن ظنّك. وثانيا لا اعتقد أنني الشخص المناسب لكتابة رواية. صحيح أنني أحبّ الكتابة، ولكنّني كنت وسأظلّ مجرّد كاتب هاوٍ. ثمّ قلت وأنا أتذكّر مشروع تلك الرواية التي لم يُقدّر لها أن ترى النور: كتابة رواية مسألة في غاية الصعوبة وتتطلّب الموهبة والكثير من الوقت والبحث والجهد.


    قال: هذا صحيح لو انك تريد أن تكتب رواية من لا شيء أو من نقطة الصفر. لكنّ مادّة الكتابة متوفّرة، وأنت لن تخترع أحداثا وقصصا وشخصيّات من عندك، لأنها موجودة بالفعل، وكلّ ما عليك فعله هو أن تصوغ هذه الأحداث والحكايات وترتّبها وتربط في ما بينها كي تأخذ شكل رواية.
    المهم، استمرّ الحديث بيننا حوالي الساعة، وفي النهاية عبّرت له عن أسفي لأنني، بصدق، لا املك الأدوات ولا الامكانيّات التي تؤهّلني للقيام بتلك المهمّة التي طلبها.
    وأنا في طريق العودة إلى البيت، فكّرت في ما دار بيننا من حديث وفي الكيفية التي ينظر بها بعض الناس إلى العمل الروائي. لاحظت، مثلا، أن الكثيرين يستسهلون كتابة رواية ويظنّون، خطئا، انك لكي تكتب رواية فإن كلّ ما يلزمك هو أن تحشد فيها مجموعة من الحكايات والحواديث وانتهى الأمر. في حين أن الرواية تُعتبر من اعقد أشكال الأدب، والذين يجيدون كتابتها قليلون لأنها تتطلّب مستوى عاليا من المهارة والقدرة على الابتكار والتخيّل، مع إلمام بشيء من التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس وما إلى ذلك من معارف وعلوم.
    ولكي تكون رواية ما ناجحة، يجب أن تكون أحداثها منطقية بحيث يمكن تصديقها، وأن تكون مثيرة وممتعة ومسليّة. كما يجب أن تكون للرواية "ثيمة" أو فكرة ما ترتكز عليها، كالصراع بين الخير والشر أو محاولة اكتشاف معنى للحياة.. إلى آخره.
    ولا يقلّ عن هذا أهمية أن يكون من يتصدّى للكتابة شخصا خبيرا في رسم وبناء شخصيّات الرواية بحيث تنمو كلّ شخصية نموّا طبيعيا ومقنعا بما يتناغم مع البناء السرديّ العام للرواية. قبل أسابيع، استمعت إلى حوار مع الكاتبة التشيلية إيزابيل آيندي، وكانت تتحدّث عن روايتها المشهورة بيت الأرواح. ولفت انتباهي قولها أنها عندما فرغت من كتابة تلك الرواية دفعت بنسختها الأوليّة إلى زوجها، وهو مهندس معماريّ، كي يبدي رأيه فيها. فقال لها: الرواية جيّدة ومعقولة. لكنّي لاحظت أن الأشخاص فيها لا يكبرون أبدا، بل يبدون وكأنهم متجمّدون في لحظة ما من الزمن". ثم اخذ ورقة ورسم عليها عدّة خطوط بيانية ودوّن على كلّ خطّ تاريخا محدّدا. وبعد ذلك قام بتوزيع الشخصيات على تلك الخطوط بطريقة تكشف عن التطوّر الزمني لكلّ شخصية. الشاهد من هذا الكلام هو انه حتى الرسم البياني قد يجد من يكتب رواية، خاصّة إن كانت من النوع الذي يتضمّن أحداثا وشخصيّات كثيرة جدّا، حاجة لأن يلمّ به لأنه يساعده في تصوّر المسار الزمني الذي تسلكه كلّ شخصية وتعبر فيه من مرحلة لأخرى.
    ومن الأمور الأخرى المهمّة في كتابة رواية ناجحة، أن يكون استهلالها، أي الأسطر الأربعة أو الخمسة الأولى منها، قويّة ومؤثّرة بحيث تشدّ انتباه القارئ وتحرّضه على متابعة القراءة. ويقال إن الاستهلال القويّ في رواية آنا كارينينا لـ تولستوي هو احد العناصر المهمّة التي دفعت النقّاد لاعتبار هذه الرواية أفضل رواية في العالم. ومن الروايات العالمية الأخرى ذات الاستهلال الرائع والقويّ رواية الكبرياء والهوى لـ جين اوستن.
    قد تقرأ مثلا قصّة قصيرة أو خبرا أو حتى تحقيقا في صحيفة، وربّما تكون عايشت أو سمعت في احد الأيّام قصّة غريبة من صديق أو زميل، وقد تصحو ذات يوم وفي ذهنك بقايا من حلم رأيته في الليلة الفائتة، فتشعر أن ما قرأته أو سمعته أو رأيته فتح بداخلك دروبا وممرّات يمكن أن تقودك إلى شرارة الإلهام التي لطالما انتظرتها لكتابة رواية جميلة ومتميّزة. وبطبيعة الحال، كلّ إنسان يرى في نفسه القدرة والكفاءة يمكنه أن يكتب رواية. ومثل هذا الطموح أو الحلم يمكن تحقيقه وتحويله إلى واقع من خلال القراءة الدائبة والمستمرّة والاستفادة من تجارب الآخرين.