:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات رمبراندت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات رمبراندت. إظهار كافة الرسائل

السبت، أغسطس 02، 2025

نصوص مترجمة


  • أحيانا نميل إلى اعتبار الإرهاب ظاهرةً خاصّة بعصرنا. ومع ذلك، فقد قُدّمت شخصيات روّاد الإرهاب المعاصر، أي الفوضويين والعدميين، في الأدب الروائي قبل نشوب أيّ من الحربين العالميتين. فروايتا" الشياطين" لفيدور دوستويفسكي "1871" و"العميل السرّي" لجوزيف كونراد "1907"، وهما من روائع الروايات الحديثة المبكّرة، تتناولان الثوّار السرّيين. وتشكّل رؤى هذين الكاتبين قراءة شيّقة لكلّ من يواجه صعوبة في فهم الفظائع العشوائية والعقلية الكامنة وراءها.
    غير أن الروايتين متناقضتان تماما في بعض الجوانب. فـ "الشياطين "تتّسم بطابعها الحادّ الذي يتأرجح بين الكابوس والمرح، بينما تتسم "العميل السرّي" بنبرة أكثر رصانة وكآبة. وشخصيات "الشياطين" أكثر وقصّتها أطول بكثير من سرد كونراد الأكثر تركيزا. لكن ما يجمع الروايتين هو أنهما تُصدران حكما قاسيا على من يسعون إلى اختصار طريق التغيير المجتمعي عبر العنف. وثوّار دوستويفسكي وكونراد مختلّون عقليّا ومنبوذون ومنقطعون عن الدراسة ومبذّرون وأرواحهم تائهة وعملهم لا يثمر خيرا.
    والروايتان مأساويتان، حيث يموت عدد كبير من شخصياتهما الرئيسية في النهاية. واليأس والانتحار قاسمان مشتركان بينهما، وكذلك موت الأبرياء والضعفاء. وتحتوي كلّ من الروايتين على شخصية مصابة بخلل إدراكي وتعاني من سوء حظّها بالتورّط مع أشخاص غير مناسبين.
    كان دوستويفسكي كاتبا متديّنا بعمق ومؤمنا بالخير الفطريّ في كلّ إنسان. وبرأيه عندما يرتكب الناس الشرّ، لا يكون ذلك لأنهم أشرار، بل لأنهم وقعوا تحت تأثير الشرّ أو الباطل.
    رواية "الشياطين "تدور أحداثها في قرية روسية، وتروي قصّة الفوضى التي ألحقتها عودة المهاجرين من الغرب بحياة المدنيين. فقد جلبوا معهم أفكارا ثورية من الخارج تتعارض مع كلّ ما هو روسي ومقدّس. وهذه الأفكار هي "الشياطين" المقصودة في عنوان الرواية. وقد اقتبسه دوستويفسكي من قصّة وردت في الإنجيل.
    وأحداث الرواية تتمحور حول شابّ يُدعى نيكولاي ستافروجين، اختار أن يجعل من حياته تجربة لإثبات أن الخير والشرّ ليسا سوى تحيّزات. وقد عاش حياة من التدهور الأخلاقي في الخارج، فاغتصب فتاة صغيرة ودفعها إلى الانتحار، ثم حاول موازنة خطئه بعبء بغيض، وذلك بزواجه من امرأة معاقة جسديّا وتعاني من مرض نفسي.
    نظير ستافروجين هو بيوتر فيركوفينسكي، وهو شخص كاذب ومختلّ عقليّا. وعلى عكس ستافروجين، لا يشعر بأيّ ندم على أفعاله، إذ يقتل شخصين ويتسبّب في وفاة ثلاثة آخرين. ثم يفرّ في النهاية غير مكترث بمن جرّهم إلى مشروعه البغيض والعبثي.
    وفيركوفينسكي لا تربطه أيّ علاقة عاطفية بأيّ شخص آخر سوى ستافروجين، لأنه يعتقد بأن هذا الشخص مفيد في قيادة ثورته. وفيركوفينسكي مقتنع بأن الدمار الذي يسعى لإشعاله في هذه البلدة الصغيرة يمكن تكراره مع مرور الوقت في جميع أنحاء روسيا، ما سيؤدّي إلى قلب النظام الاجتماعي "الاستبدادي". وهو لا يبالي إن كان الانقلاب سيُكلّف ملايين الأرواح ويقول: مائة مليون رأس، هكذا يصرخون. ولكن لماذا الخوف إذا كان الاستبداد سيأكل بعد مائة عام خمسمائة مليون رأس وليس مئة مليون؟!" لفيركوفينسكي قدرة استثنائية ومرعبة على التلاعب بالآخرين وتسخيرهم للكذب الذي وقع هو نفسه فيه.
    والعدميون عند دوستويفسكي مجموعة متنوّعة: حمقى يتلاعب بهم مختلّ عقليّا لتحقيق غاياته المروّعة والخيالية وأرواح مضلّلة كان من الممكن أن يحقّقوا الخير في هذا العالم لولا إغوائهم بالفكر الثوري. وجميعهم مثيرون للشفقة باستثناء فيركوفينسكي الذي ظلّ جامدا في شخصيته حتى النهاية.
    ودوستويفسكي في الرواية لا يدافع عن مجتمعه، أي روسيا القيصرية في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يدّعي كمالها، وإنما يقصر اهتمامه في" الشياطين"على أولئك الذين يسعون إلى تقويض استقرار الدولة القومية من خلال سفك الدماء.
    ويردّد كونراد هذا الشعور في رواية "العميل السرّي"، التي تدور أحداثها بعد نحو ثلاثين عاما من الفترة التي تغطّيها رواية "الشياطين"، في لندن في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين. وفوضويو كونراد أقلّ إثارةً للإعجاب من عدميي دوستويفسكي. فهناك كارل يوندت، الذي أعلن نفسه إرهابيا وهو في الحقيقة رجل عجوز هزيل في حالة صحّية متدهورة. وهناك ميكايليس الذي أُطلق سراحه بعد مشاركته في عملية هروب من السجن أسفرت عن مقتل شرطي.
    والعضو الخطير الوحيد بين هؤلاء هو البروفيسور، وهو شخص منعزل ومهووس هدفه الرئيسي في الحياة هو تطوير "المفجّر المثالي". كما أنه مجرّد من أيّ عاطفة ومعتاد على الفقر والعزلة ومتمسّك تماما بأحلامه التدميرية. وكونراد يُصوّره كرجل مظلوم في مجتمع لم يدرك مواهبه وشخص مجروح يسعى للتعويض عن ذلك بلعب دور خارج الحياة العادية.
    والبروفيسور هو من وفّر المادّة اللازمة للحدث المحوري في القصّة، وهو انفجار مرصد غرينتش. وقد اتضح أنه عمل فاشل من قِبل العميل السرّي الذي يحمل عنوان الرواية.
    ومثل دوستويفسكي، يركّز كونراد على البعد الإنساني أكثر من البعد السياسي ويرسم صورة مقنعة تماما للشخصيات العادية غير السياسية في قصّته. فهم أناس حقيقيون يعيشون حياة حقيقية وتربطهم علاقات صادقة ولا يسع أيّ قارئ إلا أن يتعاطف معهم.
    ووجهة نظر كونراد هي أن الناس العاديين هم من يعانون الكثير من المشقّة والألم، وهم من تُدمّر حياتهم ويُحرمون حتى من حقّهم في الأمان، بينما تستمرّ الحكومات وأجهزة الدولة في العمل بغضّ النظر عن كلّ ذلك. مارك هاركن
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعد حوالي 140 عاما من رسم رمبرانت لآخر لوحة له في عام 1669، وهي صورة حزينة للمسيح الطفل في المعبد، وكانت على حامل الرسم الخاص به عندما توفّي، شعرت بأن بيتهوفن كان يعمل على نفس الموضوعات الطهرانية التي عمل عليها أعظم رسّام عاش على الإطلاق. وجلست أفكّر في رجل، على عكس بيتهوفن، مات مفلسا مهزوما ومحروما من الناس الذين أحبّهم ومنبوذا من قبل منتقديه ووحيدا في مرسمه الفارغ. وفكّرت أيضا في التحدّيات التي يفرضها التزام الفنّان بالإبداع بأيّ ثمن، والتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها بين الحياة والموت، والحياة التي يقضيها الفنّان في قياس التوازن الدقيق بين الخسارة والفداء.
    ما من شك في أننا محظوظون برؤية صور رمبراندت الشخصية. صِدقُه الوحشي والذي لا يرحم في تصوير نفسه يتجاوز الزمن، وهو جوهر الفن. إن عيون رامبرانت تحدّق فينا بحنان وتعاطف وحزن وشفقة وفهم وتأمّل في الذات. وهو يخبرنا بما يعنيه أن تكون إنسانا. الجسد ينتابه الوهن ويرتخي، والعينان الصغيرتان قد رأتا كلّ شيء ولم يفاجئهما شيء والجسد ضعيف، ومهما كانت الملابس باهظة الثمن فإنها تنكمش وتضيق تحت ثقل أعباء الوجود.
    عندما أشعر بالملل والانسداد الفنّي والعاطفي، أذهب إلى متحف لألقي نظرة على رمبرانت وأخرج منه محصّنا ومنغمسا في الحياة. وبصفتي رسّاما، كان رمبرانت دائما هو الشخص الوحيد. كان أوّل مشروع لي في مدرسة الفنون منذ 45 عاما عبارة عن نسخة من لوحة "مارغريتا دي غِير، زوجة ياكوب تريب" التي تعود إلى عام 1661 والموجودة في الناشيونال غاليري.
    وقد اعتدت أن أنام كلّ ليلة في غرفة بها نقوش لرامبرانت على الحائط. وسمّيت ابنتي على اسم زوجته الحبيبة ساسكيا. وأقوم برحلات منتظمة إلى كينوود هاوس في لندن لزيارة صورته الذاتية ذات الدائرتين، وإلى متحف رايكس في أمستردام لزيارة "العروس اليهودية"، والتي كانت نسخة طبق الأصل منها في مرسمي منذ بدأت الرسم لأوّل مرّة.
    ذات يوم، اعترفَ فان غوخ لصديق أنه كان سيضحّي بكلّ سرور بعشر سنوات من حياته ليجلس أسبوعين مع كسرة خبز فقط أمام هذه اللوحة. إنها تتحدّث عن الحبّ والحنان. ولكن في أبعادها الثلاثة المضطربة، هي أيضا نموذج لمستقبل الرسم.
    على غرار جاكسون بولوك، يرسم رمبرانت بالجسد والروح، وتعمل السَّكينة التي تثيرها لوحته بقوّة إيمائية نربطها أكثر بالقرن العشرين وليس بالفنّ الهولندي في القرن السابع عشر. إن كلّ عمل من اعمال رمبرانت يلهمنا الشعور والتفكير ورؤية أن معنى الفنّ والحياة هو دفع كلّ ما هو ممكن إلى أقصى حدوده. إذهب وانظر! روبن ريتشموند

  • Credits
    rembrandthuis.nl
    online-literature.com

    الأحد، يناير 13، 2019

    رمبراندت أم دافنشي ؟

    في هولندا أُعلن رسميّا أن 2019 هو عام رمبراندت. وأكبر المتاحف الهولندية أعلنت عن تنظيم العديد من المعارض احتفالا بمرور ثلاثمائة وخمسين عاما على وفاة رمبراندت في عام 1669.
    لكن رمبراندت ليس وحده المحتفى به هذا العام الذي يصادف أيضا ذكرى مرور خمسمائة عام على وفاة ليوناردو دافنشي في عام 1519.
    والكثير من الكتّاب رأوا في تزامن هاتين المناسبتين فرصة لطرح هذا السؤال: ترى أيّهما أعظم رمبراندت أم دافنشي؟
    قد يكون الرهان الذكيّ على رمبراندت. ففنّه عميق ومأساويّ ومثير للأفكار والمشاعر. يمكن القول أن بورتريهاته هي المعادل الفنّي لمأساة الملك لير. وروح الإنسان على إطلاقه متجسّدة في صوره.
    في المقابل فإن ليوناردو نجم شعبيّ، وهو ما يزال يشغل الناس حتى بعد مرور خمسة قرون على رحيله. وبالتأكيد لن تشعر بالعزلة وسط كلّ ذلك العدد الكبير من الهواتف الذكيّة التي يحملها السيّاح الذين يفدون إلى اللوفر ليقفوا أمام تحفته "الموناليزا".
    البورتريه الذي رسمه رمبراندت لنفسه بعنوان بورتريه شخصيّ مع دائرتين (الصورة فوق) لا يُرجّح أن تراه محاطا بالكثير من الزوّار والكاميرات في ما لو أتيحت لك زيارته في متحف كينوود هاوس في لندن.
    يمكنك هناك أن تحدّق في عيني الرسّام المظلمتين وهما تتأمّلانك. حضوره الواعي يتبدّى من خلال الألوان الهادئة والناعمة.
    انه يستخدم فرشاته ليخلق نفسه وليخلق في نفس الوقت ما يبدو انه خارطة ناقصة للعالم. رمبراندت يبدو نبيلا وغير كامل، يحدّق فيك كما يحدّق شخص متعب في آخر.
    هل أنجز ليوناردو دافنشي شيئا بمثل هذه الدرامية والإنسانية؟
    قصّة ليوناردو تشبه الحكايات الخيالية. وهناك صورة ذهنية عنه في طفولته وهو يشتري الطيور من السوق فقط لكي يحرّرها ويطلقها في الجوّ.
    إن من التجنّي أن تقارن صورة رمبراندت لنفسه بلوحة الموناليزا. أعجوبة ليوناردو الحقيقية هي رسوماته الأوّلية أو اسكتشاته.
    هو لم يكمل سوى القليل من اللوحات، لكنه لم يحلّق عاليا سوى في اسكتشاته. في صفحات متتالية من مفكّرته، رسم ليوناردو دراسات للطيور والطبيعة والآلات والأسلحة والتحصينات، كما بحث في أسرار الطيران.
    لكن أعظم تجليّات دافنشي البصرية هي رسوماته التشريحية. هذه الرسومات هي ردّه على بورتريهات رمبراندت، كما أنها في نفس الوقت معجزات علمية.
    ذات مرّة كتب ليوناردو عن الرعب الذي شعر به عندما قضى ليلة بأكملها في غرفة تشريح محاطا بهياكل الموتى. ومن تلك التجارب أنتج رسومات أعمق من رسومات رمبراندت. وبدلا من أن يتأثّر بملامح وجه، كان ليوناردو يحفر ويقطع بحثا عن البنى الخفيّة للإنسان.
    وليس هناك من عمل فنّي مثير للأحاسيس من رسمه للجنين في بطن أمّه (الصورة فوق). غموض رسوماته المخيفة للرئتين والقلب، ودقّة رسوماته للعين والدماغ تتمتّع جميعها بحساسية شديدة ومبهرة.
    بالتأكيد يمكن اعتبار رمبراندت شكسبير الرسم. لكن ليوناردو هو شكسبير وآينشتاين والأخوان رايت مجتمعين في شخص واحد.

    Credits
    theguardian.com

    السبت، نوفمبر 25، 2017

    ميتسو: عودة إلى الضوء


    عندما يأتي الحديث عن الرسم الهولنديّ، فإن أسماء مثل رمبراندت وفيرمير وروبنز هي الأسماء التي يعرفها الناس.
    لكن هل سمعت من قبل باسم غابرييل ميتسو؟
    فيرمير وميتسو عاشا في نفس العصر، غير أن ميتسو (1629–1667) كان النجم اللامع في العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ في القرن السابع عشر، واستمرّ كذلك لفترة طويلة.
    وميتسو كان أيضا الفتى الأوّل في القرن التاسع عشر، أمّا فيرمير فلم يُكتشف إلا في بدايات القرن العشرين.
    في أيّامه، كان ميتسو محبوبا كثيرا في مختلف أنحاء أوربّا. وقد رسم في عام 1664 واحدة من أهمّ لوحاته "فوق" واسمها "رجل يكتب رسالة"، ويظهر فيها شابّ وسيم بملابس سوداء وشعر طويل، يجلس للكتابة أمام طاولة مغطّاة بقماش مطرّز.
    كما رسم في نفس ذلك العام لوحة أخرى "الصورة أسفل" بعنوان "امرأة تقرأ رسالة"، وفيها تظهر امرأة ترتدي فستانا اصفر وتنّورة زهرية رُصّعت من منتصفها بالذهب، وعلى رأسها وشاح من النوع الذي لم يكن يلبسه في الماضي إلا الملوك. ويُفترض أن الرسالة التي تقرأها المرأة هي نفسها التي كان يكتبها الشابّ في اللوحة السابقة.
    الملابس الفخمة مرسومة ببراعة وكذلك التفاصيل. والمرأة تبدو منشغلة كثيرا بقراءة الرسالة، لدرجة أنها لم تنتبه إلى أن إحدى فردتي حذائها انزلقت بعيدا.
    في أعماله المبكّرة، رسم ميتسو مناظر دينية بالإضافة إلى صور للحياة اليومية في مدينته الصغيرة ليدن. وعندما انتقل إلى أمستردام عام 1650، رسم مشاهد لأسواق مزدحمة ولأشخاص، في محاولة لمسايرة الذوق الفنّي السائد آنذاك في المدينة المتطوّرة والمزدهرة.


    وأيّا كان الموضوع الذي يرسمه، فإن ميتسو كان يضمّن كلّ لوحة من لوحاته قصّة، رغم أن القصّة ليست واضحة دائما. لكنها في النهاية تصوّر مشاعر وانفعالات حقيقية: امرأة تطرّز الدانتيل ، خادمة تقشّر التفّاح، رجل يدخل غرفة بالقرب من مدفأة، طفل مريض، زوج وزوجته يتناولان إفطارهما و امرأة تعزف الموسيقى بصحبة رجل فضوليّ.
    كان ميتسو حكواتيّا على طريقته، لكنه غالبا لا يفصح عن بداية ووسط أو نهاية القصّة، بل يريدنا أن نتأمّل مناظره ونفهمها، كلّ بحسب ما يرى. ولوحاته هذه كانت مثار نقاش في غرف الرسم في هولندا في القرن السابع عشر.
    ميتسو هو بلا شكّ رسّام سرديّ، وإذا كان لا يخبرنا عن نهاية الفيلم أو القصّة، فإن فيرمير كان أكثر غموضا منه من عدّة أوجه. فتاة فيرمير ذات القرط اللؤلؤيّ، وكذلك نساؤه الأخريات، تبدو حياتهنّ متوقّفة مؤقّتا في لحظة بين اللحظات.
    أما شخوص ميتسو فآتون من مكان ما وذاهبون إلى آخر. وأنت لا تستطيع أن تعرف إلى أين سينتهي بهم الطريق.
    في القرن العشرين أفل نجم ميتسو أو كاد، بينما أصبح رفيقه فيرمير النجم الهولنديّ الأشهر في العالم، بخلفياته المسطّحة وألوانه الباردة ونظرات شخوصه إلى البعيد، بحيث يبدو أكثر تجريدا بالنسبة للمتلقّي الحديث.
    غير أن خبراء الفنّ يتوقّعون لميتسو عودة قويّة ووشيكة إلى مركز الضوء، خاصّة مع تجدّد الاهتمام بفنّه في أوساط الرسم في العالم.

    Credits
    rijksmuseum.nl

    الأحد، أغسطس 20، 2017

    رمبراندت و ليستر: صورتان

    في حوالي منتصف القرن السابع عشر، رسم كلّ من رمبراندت وجوديث ليستر لوحتين ستصبحان في ما بعد من أشهر البورتريهات الشخصية المألوفة في تاريخ الفنّ الهولنديّ والعالميّ.
    للوهلة الأولى، يبدو البورتريهان متشابهين تماما. فكلّ من الرسّامَين رسم نفسه وهو ينظر مباشرة إلى المتلقّي. وكلا الصورتين مرسومتان بنصف طول. لكن نظرة مقرّبة من اللوحتين تكشف عن تباينات واضحة وتشير إلى واقعَين مختلفين.
    فصورة ليستر لنفسها يمكن تفسيرها على أنها ترويج للذّات، في حين يبدو أن دافع رمبراندت من رسم شخصه هو رغبته في فهم نفسه كإنسان أوّلا وأخيرا. أي أن الفنّانَين اختارا أن يرسما نفسيهما من منظورين مختلفين تماما.
    فرمبراندت رسم لنفسه صورة وهو يرتدي ملابس داكنة وغير مرتّبة إلى حدّ ما. قارن هذا بالطريقة التي رسمت بها ليستر نفسها بحيث لم تترك شكّاً حول طبيعة مهنتها. لقد رسمت نفسها وهي تعمل، يدها اليسرى تمسك بقماش الرسم وبأكثر من عشر فراشي للألوان. بينما يدها اليمنى تتأهّب لوضع اللون على القماش. ثم هناك ملابسها، فستانها الزهريّ والأسود الحديث بأكمامه وياقته الحريرية يوصل إحساسا بالثراء والرفاهية.
    وكلّ هذه التفاصيل توحي بأن ليستر تريد أن تُبرز في لوحتها نجاحها كرسّامة. وبالمقابل فإن رمبراندت أهمل تماما هذه الأشياء المساعدة وفضّل أن يركّز اهتمامه على نفسه كشخص وكإنسان.
    أيضا هناك استخدام كلّ من الرسّامين للألوان والأضواء بطريقة مختلفة. لاحظ كيف أن صورة رمبراندت لنفسه أحادية اللون تقريبا. الألوان المهيمنة على صورته هي عبارة عن درجات متفاوتة من البنّي القاتم مع لمسات خفيفة من الذهبيّ الذي يلمع من بين طيّات قبّعته. هناك أيضا ومضات ذهبية على شعره الرماديّ وعلى وجهه.
    شخص رمبراندت في اللوحة ذو نوعية ضبابية، وإلى حدّ ما مُشعّة. أما الجزء السفليّ من جسمه، بما في ذلك اليدان، فيقع في الظلّ على نحو يذكّرنا بأسلوب كارافاجيو. وهذا التفصيل وظيفته جذب انتباه الناظر إلى وجهه الذي يُعتبر أهمّ جزء في اللوحة.
    تركيز رمراندت على وجهه وملامحه يرمز للشخصية أكثر من المهنة. ولو انه أراد الإشارة إلى مهنته لركّز على رسم اليدين. أي انه أراد في هذا البورتريه أن يرسم نفسه كإنسان فحسب أكثر من كونه رسّاما.
    لاحظ أيضا كيف انه وظّف تناوله للألوان والظلال لكي يضفي على عمله إحساسا بالعمق. رمبراندت أراد أن يخلق صورة واقعية لنفسه في فراغ ثلاثيّ الأبعاد، وهو هدف لطالما ناضل لتحقيقه في معظم أعماله. وفكرته هنا تتمثّل في اختياره التركيز على نفسه كموضوع وليس الترويج لنفسه كرسّام.
    وبالمقابل، هناك الكثير من الألوان في بورتريه ليستر الشخصيّ، من الفستان الزهريّ والأسود، إلى أطراف الأكمام والياقة البيضاء. ثم هناك الطلاء الأخضر الخفيف لذراع الكرسيّ الذي تجلس عليه، بالإضافة إلى الأزرق الشاحب لزيّ عازف الكمان الذي يُفترض أنها ترسمه. وعلى جانب من ياقتها الواسعة يمكن رؤية لمحة من ظلّ خفيف.

    لكن اللوحة تفتقر إلى الإحساس بالبعد الثلاثيّ. وهناك أجزاء كبيرة من فراغ اللوحة تبدو مسطّحة بما فيها الجزء الأعلى من الفستان الأسود الناعم. وقلّة الأبعاد في لوحتها يوحي بأنها اهتمّت برسم التفاصيل التي تروّج لنفسها، مثل أدوات الرسم ووضعية الجلوس، أكثر من اهتمامها بإظهار فراغ إنسانيّ حقيقيّ.
    الألوان في لوحة ليستر تعزّز هذه الروح الحيّة التي تضفي على البورتريه فرحا وثقة. إتّكاؤها على كرسيّها وابتسامتها يُظهِرانها بمزاج مريح ومسترخٍ. فمها مفتوح وحتى بعض أسنانها ظاهرة كما لو أنها تتكلّم أو تضحك، وهذا أمر غير مألوف عادة في البورتريهات الرسمية.
    وعازف الكمان الذي يُفترض أنها ترسمه يبدو انه، هو الآخر، مستمتع بمزاجها الفرح والواثق. وكلّ هذه التفاصيل يمكن أن تقدّم لمحة عن شخصية الرسّامة، كما أنها تشير إلى رغبتها في استخدام هذه الصورة كنوع من الدعاية والإعلان لنفسها.
    من جهة أخرى، يبدو مزاج رمبراندت في لوحته حزينا إلى حدّ كبير. نظراته عميقة وقلقة مع تغضّنات بارزة في الجبين وبين الحاجبين وعلى الوجنتين. والانفعال العامّ في صورته هذه هو القلق والتوتّر. وفي تضادّ تامّ مع أجواء التفاؤل والثقة بالنفس في لوحة ليستر، يصوّر رمبراندت نفسه هنا ضعيفا وواهناً. ومن الواضح أن اهتمامه مُنصبّ على تصوير حالته الانفعالية أكثر من الدعاية لشخصه.
    هناك أيضا شي آخر لافت، فـ ليستر رسمت نفسها على يسار الناظر، وهي وضعية عادة ما تكون مقتصرة على الرجال في لوحات القرن السابع عشر، كعلامة على الأهمّية والنفوذ. أما رمبراندت فقد رسم نفسه على يمين الناظر، وهذا يتوافق مع إحساسه بالكرب والهشاشة. هذه الوضعية تحيل انتباه الناظر مرّة أخرى إلى أهمّ عنصر في اللوحة، أي وجه الرسّام الذي ينظر بتوتّر واضح.
    التفاصيل في كلّ من هاتين اللوحتين توحي باختلاف الواقع. ضربات الفرشاة في لوحة رمبراندت خشنة وقويّة، في الخلفية وعلى الوشاح. وهو لم ينسَ أن يرسم التجاعيد على جبهته، كما رسم خصلات شعره البيضاء التي تبدو غائمة ومشوّشة. وباختصار، صوّر رمبراندت ملامحه الخارجية تصويرا أمينا وواقعيّا.
    لكن ماذا عن ليستر؟ لقد رسمت يديها ووجهها بنعومة واضحة، حتى أنها قامت بإخفاء الثنيات التي تظهر على الوجه والفم أثناء الابتسام. واستخدمت نفس النعومة في تصوير شعرها وياقتها وغطاء رأسها.
    لكنها وظّفت فرشاة خشنة في أماكن أخرى، على تنّورتها الزهرية مثلا. ومن الواضح أنها استلهمت هذا النوع من ضربات الفرشاة من فرانز هولس الذي كان رسّاما مشهورا ومعاصرا للرسّامة.
    وهي بهذا تريد أن تثبت أنها أتقنت أسلوب رسّام هولنديّ كبير، واضعةً نفسها في مكانة أعلى من تلك التي لمنافسيها. كما أنها تريد أن تثبت لمن يرى صورتها أنها يمكن أن تنجح وأن تبرز في مجال يهيمن عليه الرجال تقليديّا، أي الرسم.
    أما رمبراندت فقد أراد من خلال ظلاله الثريّة والغامضة أن يكشف للناظر عن طبيعته الانفعالية والروحية بإبراز تفاصيل وجهه وملامحه التي نفّذها ببراعة وإحكام.

    Credits
    rembrandtpainting.net
    rijksmuseum.nl

    الخميس، يوليو 06، 2017

    روبنز: هوميروس الرَّسم


    أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
    من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
    يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
    والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
    كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
    وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
    لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
    لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
    وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
    والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
    في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
    مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


    وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
    غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
    روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
    ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
    ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
    روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
    لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
    ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
    كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
    وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
    ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
    وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
    كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


    وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
    في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
    وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
    في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
    إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
    وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
    ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
    كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
    وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
    أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
    أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
    ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
    وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

    Credits
    peterpaulrubens.net
    theguardian.com

    الثلاثاء، مايو 17، 2016

    رسّام الروح الإنسانية


    في هذه الأيّام، يكون قد مرّ على ولادة رمبراندت أربعمائة عام. وأنا ممّن يحبّون رمبراندت ويقدّرون فنّه كثيرا. والأسباب كثيرة، لكن يمكن إيجازها في انه كان إنسانا متميّزا على المستويين الإنسانيّ والإبداعيّ.
    حتى ولو لم تكن على علم بسمات فنّ هذا الرجل، يكفي أن ترى لوحة فيها شخوص ضائعون في الظلّ، وليس في الفراغ الذي حولهم سوى نقطة ضوء وحيدة، لتعرف أن من رسم هذا المنظر هو رمبراندت.
    حالة الفقر والبؤس التي مرّ بها في آخر سنوات حياته دفعت أناسا كثيرين لأن يتعاطفوا معه كشخص لا منتمٍ، وأحيانا كمنبوذ اجتماعيّا. وعلى الرغم من حقيقة أن رمبراندت كان يتحدّر من أصول بسيطة اجتماعيّا، إلا أن فنّه واجتهاده رفعاه عاليا. وكان له معلّمون كثر، لكنه على ما يبدو لم يتعلّم منهم شيئا.
    كان رسّاما مختلفا حقّا. وعندما تنظر إلى بورتريهاته الكثيرة التي رسمها لنفسه، سيُخيّل إليك كما لو انه يريد أن يقول: انظروا إليّ، أنا مختلف جدّا عن غيري، ولم آت من التقاليد الراسخة والقديمة".
    وقد انتُقد رمبراندت بشدّة لأنه وضع كلابا في لوحاته الدينية مثل "موعظة يوحنّا المعمدان" و"السامريّ الطيّب". وعُرف عنه انه لم يكن يسمح لأيّ شخص، حتى الأمراء وعلية القوم، بأن يقاطعوه أثناء عمله. وبعض منتقديه كانوا يأخذون عليه إهماله لمظهره، ثيابه كانت في غالب الأحيان متّسخة ومنظره أشعث لأنه اعتاد على أن يمسح فرشاته بملابسه.
    كما انتُقد على تواضعه واتخاذه أناسا بسطاء كأصدقاء. لكن بالنسبة للفرنسيين، كان رمبراندت هو رجل الشعب، لأن رسوماته كانت تهتمّ بالفقراء والشحّاذين والطبقة المعدمة. كان يمثّل للفرنسيين في زمن الثورة قيم الديمقراطية والمشاعر الجمهورية، في حين كانوا يعتبرون زميله ومواطنه بيتر بول روبنز رسّام الملوك والارستقراطيين.


    وإحدى العلامات الفارقة الأخرى في فنّ رمبراندت هي أن لوحاته، أكثر من أيّ رسّام آخر، تثير إحساسا بالفخامة والجلال. و صفة الفخامة في لوحاته تجعل كلّ واحدة منها متفرّدة وخاصّة. والكثير منها يوصل إلى المتلقّي، غالبا بلا شرح ولا تفسير وبطريقة لامعة، معنى الصمت. حتى مناظره الطبيعية لا تخلو من الجمال والروعة.
    كان رمبراندت مشهورا في حياته وبعد مماته، وهذا لا يتوفّر سوى للقليل من الفنّانين. وكان له دائما معجبون، كما كانت لوحاته تبيع جيّدا.
    أيضا قوّة رمبراندت التعبيرية كانت عظيمة، خاصّة في لوحاته التاريخية والدينية. وشخوصه بشر حقيقيون بمشاعر واقعية.
    البورتريهات التي رسمها لنفسه بعد أن تقدّمت به السنّ، والتي يظهر فيها بتجاعيد وبعينين تشعّان بالبريق، تذكّر بملامح الفلاسفة القدامى.
    كان الناس في زمانه يتوقون لرؤية لوحات تتضمّن أشخاصا ذوي ملامح جميلة وبالقليل من الملابس، لكن رمبراندت لم يفعل. كانت الفكرة الرائجة آنذاك هي أن الرسّامين غير المتعلّمين بما فيه الكفاية هم فقط من يحاولون إلباس شخوصهم ملابس داكنة وغامضة.
    وقد قيل في بعض الأوقات أن معظم متاعبه سبّبتها له لوحته المشهورة المسمّاة الحرس الليليّ، فقد أغضبت اللوحة أعضاء ميليشيا فرانز كوك الذين يظهرون فيها، والسبب أن رمبراندت لم يرسم وجوههم بشكل واضح.
    كما أغضبهم أكثر رفض رمبراندت تعديل اللوحة استجابة لمطلبهم، لذا رفضوا أن يدفعوا له. ولهذا السبب عوقب بتعليق اللوحة في مكان مهجور تقريبا. هذه اللوحة تُعتبر اليوم أيقونة وطنية، كما أن متحف ريكس الهولنديّ يعتبرها واسطة عقد مقتنياته من الكنوز الفنّية التي لا تُقدّر بثمن.
    لقد تغيّرت الآراء حول رمبراندت على مدى القرون الأربعة الماضية ما بين ناقد ومادح. كان الأكاديميون منجذبين إليه ونافرين منه بنفس الوقت. وكان يمثّل البوهيميين والليبراليين والرومانسيين والثوريين. لكن الكلّ مجمعون على اعتبار هذا الرسّام من بين أعظم المبدعين في تاريخ الفنّ العالميّ.

    Credits
    rembrandtonline.org
    rijksmuseum.nl

    الجمعة، يوليو 04، 2014

    لوحات وروايات/2

    الكاتبة الأمريكية دونا تارت هي آخر من ألّف رواية تستند في موضوعها إلى لوحة تشكيلية. هذه الرواية هي التي سنتوقّف عندها في هذا الجزء بشيء من التفصيل. عنوان الرواية طائر الحسّون وهي ثالث رواية للكاتبة. وقد نالت عليها جائزة البوليتزر ولاقت صدى طيّبا عند الجمهور والنقّاد. مؤلّف روايات الرعب ستيفن كنغ كتب عن الرواية واصفا إيّاها "بالعمل النادر المكتوب بذكاء والذي يخاطب العقل والقلب معا".
    تدور أحداث الرواية حول بورتريه صغير لطائر حسّون رسمه فنّان هولندي يُدعى كارل فابريتسيوس قبل 350 عاما.
    وبطل الرواية صبيّ مراهق اسمه ثيو يصطحب أمّه ذات يوم إلى متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. وفي إحدى قاعات المتحف يتوقّف الاثنان أمام لوحة الطائر الصغير كي يتأمّلا تفاصيلها. وبينما هما هناك، تنفجر قنبلة فجأة ويروح ضحيّتها عشرة أشخاص من بينهم والدة الصبيّ.
    وأثناء الفوضى التي تلي الانفجار يأخذ ثيو اللوحة ويحملها معه إلى خارج المتحف. وبقيّة الرواية الطويلة تخبرنا ما الذي حدث للصبيّ وللوحة بعد ذلك. يتذكّر الصبيّ، مثلا، ما حدث له منذ الانفجار ويدرك أن قدره أصبح مرتبطا بهذه اللوحة الصغيرة، وأنه كلّما أطال إخفاءها كلّما أصبح اقلّ قدرة على إعادتها.
    يقول البطل في مكان ما من الرواية: بين الواقع والنقطة التي يتلامس فيها مع العقل، ثمّة منطقة وسطى؛ حافّة قوس قزح حيث يمتزج سطحان مختلفان جدّا وتضيع الحدود بينهما ليوفّرا ما لا توفّره الحياة. هذا هو الفضاء الذي يولد فيه الجمال وتوجد فيه كلّ الفنون".
    والسؤال الذي تطرحه الرواية هو: ما الذي يجعل الفنّ فنّا، وما الذي فعلته لوحة عمرها أكثر من 300 عام بطفل صغير؟
    لكن ترى ما الذي لفت انتباه دونا تارت في هذه اللوحة الضئيلة كي تجعلها موضوعا لرواية؟
    اللوحة صغيرة جدّا. ومع ذلك فهي تحتفظ بسحرها الخاصّ رغم وجودها في غرفة تضمّ خمس عشرة لوحة أخرى لفنّانين هولنديين كبار مثل هولس وفيرمير وستين ورمبراندت.
    في لوحة فابريتسيوس هذه، هناك شيء ما غامض؛ شيء لن تجده في طبعاتها المستنسخة، لكنك سرعان ما ستكتشفه عندما تقف أمام النسخة الأصلية من هذه اللوحة المدهشة.
    وفيها نرى طائرا مغرّدا من نوع الحسّون، وهو طائر معروف بلونه الأصفر الفاتح وبرأسه المبقّع بالأحمر وكذلك بجناحيه الأسودين. في زمن فابريتسيوس كان هذا النوع من الطيور يعامل كطائر أليف في المنازل وكان يجري تعليمه الكلام والحيل.
    الطائر يظهر في اللوحة معتليا قفصا خشبيا بينما رُبطت إحدى قدميه بسلسلة. وقد رُسم بطريقة بارعة وبعدد محسوب من ضربات الفرشاة. يمكنك أن تحدّق في اللوحة لعام كامل وتتمعّن في ألوانها وفي أسلوب رسمها، ولا تستطيع أن تعرف كيف رسمها الفنّان ولماذا.
    غير أن وراء هذه اللوحة قصّة لا تخلو من إثارة ومأساوية. فقد رسمها كارل فابريتسيوس في نفس السنة التي مات فيها. وقد قُتل وعمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين بانفجار في مستودع للبارود في مدينة ديلفت الهولندية عام 1654م.
    في ذلك الانفجار، دُمّرت معظم لوحاته. وحدها "طائر الحسّون" مع بضع لوحات أخرى هي التي نجت. والشخص الذي يشرح اللوحة لزوّار المتحف في نيويورك يزعم انك لو نظرت إلى سطح اللوحة عن قرب فسترى بعض آثار ذلك الانفجار بوضوح.
    بعض المصادر التي تعود إلى تلك الفترة تذكر أن الانفجار لم يتسبّب فحسب في قتل الرسّام وتدمير محترفه وإتلاف معظم أعماله، وإنما دمّر أيضا ربع مباني المدينة.
    حياة كارل فابريتسيوس كانت قصيرة جدّا. ولوحاته الباقية اليوم قليلة لا يتجاوز عددها العشر، وكلّ واحدة منها تحفة فنّية. كان رسّاما واعدا، وكان أنجب تلاميذ رمبراندت، كما كان له تأثير على فيرمير. اهتمامه بالتأثيرات البصرية، ثمّ حقيقة انه استقرّ في ديلفت، تعني انه كان يُنظر إليه كجسر بين رمبراندت وفيرمير.
    ويقال إن فيرمير نفسه تأثّر بهذه اللوحة الصغيرة عندما كان يعمل على لوحته التي أصبحت في ما بعد أشهر لوحة هولندية، أي "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي".
    والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن "طائر الحسّون" لم تفقد شيئا من قوّتها وبريقها خلال القرون الثلاثة الماضية، كما يقول ثيو في آخر صفحات الرواية. "شيء عظيم ورائع أن تحبّ ما لا يستطيع الموت لمسه".

    Credits
    therumpus.net
    literaryreview.co.uk

    الخميس، يوليو 03، 2014

    لوحات وروايات

    أحيانا قد تنظر إلى لوحة أو صورة ما فيساورك إحساس بأنها تحكي عن قصّة أو أنها يمكن أن توفّر أساسا لكتابة قصّة أو رواية. والصورة، أيّة صورة، حتى إن كانت ساكنة ظاهريا، ليست في النهاية سوى تعبير عن حركة وسيرورة الزمن.
    والمعنى أو الطابع السردي الذي نضفيه على صورة ما ليس سوى انعكاس لمخيّلتنا. كما أن الفنّ في نهاية الأمر ليس سوى رمز أو استعادة لشيء ما اكبر.
    وفي السنوات الأخيرة، راجت ظاهرة الروايات الأدبية التي تعتمد على أعمال تشكيلية. وأقرب مثال على ذلك يرد إلى الذهن هو رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة تريسي شيفالييه. هذه الرواية تعتمد على لوحة بنفس الاسم للرسّام الهولنديّ يوهانس فيرمير.
    وكانت شيفالييه قد رأت اللوحة لأوّل مرّة في نيويورك وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. وقد فُتنت بملامح الفتاة في اللوحة وبابتسامتها الغامضة. ثم اشترت نسخة من اللوحة وعلّقتها في بيتها، قبل أن تبدأ في كتابة روايتها. وقد حقّقت الرواية نجاحا كبيرا ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي حقّق هو الآخر نجاحا واسعا.
    وبالتأكيد عندما تنظر إلى لوحة فيرمير هذه لا بدّ وأن تحبّها. والحقيقة أن الملمح السردي، أي قابلية اللوحة لأن تتحوّل إلى قصّة أو رواية، لا يقتصر على هذه اللوحة فحسب، بل يمكن ملاحظته بوضوح في العديد من اللوحات الهولندية الأخرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي إلى العصر الذهبي للرسم الهولندي.
    الكثير من اللوحات الهولندية من ذلك العصر، أي عصر رمبراندت وفيرمير ودي هوك وهولس وفان اوستيد، توفّر لحظات سلام وتستحضر تأمّلا وجدانيّا وروحيّا. ولا يمكن للإنسان إلا أن يُعجَب بها لجمالها وإلهامها وأصالتها وأسلوبها وألوانها والبراعة التي نُفّذت بها.
    أنظر مثلا إلى هذه اللوحة أو هذه . كلّ من هاتين اللوحتين يمكن أن تنبني عليها قصّة أو رواية متخيّلة.
    وكلّ أولئك الرسّامين كانوا من العباقرة. لكن فيرمير، على وجه الخصوص، ظلّ لغزا عصيّا على الفهم. وما كُتب عنه وعن حياته قليل. لكن مناظره، بنسائها المثيرات وأماكنها المتقشّفة وما تستدعيه من هدوء وسكينة، تسمح ببعض الشروحات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
    والنقّاد والروائيون ما يزالون إلى اليوم يبحثون عن قصص ورموز ورسائل خفيّة قد تكون اُودعَت في تلك الصور التي رسمها فيرمير والتي تشبه الأفلام الصامتة أو اللحظات الدرامية في الحياة. وفي هذه الأيّام ترك فيرمير بصمته على كلّ شيء ووجدت لوحاته تعبيرا لها في كلّ اتجاه تقريبا، من الأوبرا إلى الطوابع البريدية والموسيقى والإعلانات.
    اللوحات الروسية هي الأخرى غنيّة بالخصائص السردية. تأمّل مثلا هذه اللوحة لايليا ريبين أو هذه لفالانتين سيروف. كلّ من هاتين اللوحتين تصلح موضوعا لقصّة أو رواية. ولوحتي المفضّلة من هذا النوع من الرسم السردي أو الذي يمكن تكييفه وتحويله إلى عمل أدبيّ هي هذه . أمّا الأسباب فقد أتحدّث عنها في ما بعد.
    بالإضافة إلى رواية تريسي شيفالييه المعتمدة على لوحة فيرمير، ألّف دان براون رواية بعنوان شيفرة دافنشي تبدأ أحداثها بمشهد العثور على شخص مقتول داخل متحف اللوفر بينما يشير وضع الجثة إلى لوحة إنسان فيتروفيوس لليوناردو دافنشي.
    كما كتبت جين كالوغريديس رواية بعنوان موناليزا تجري أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر وتحكي عن حياة المرأة التي تظهر في اللوحة المشهورة وعن مشاكلها وخيباتها العاطفية.
    وكتبت اليزابيث هيكي رواية بعنوان القبلة المرسومة تحكي من خلالها قصّة الحبّ التي ربطت الرسّام النمساوي غوستاف كليمت بالعارضة ايميلي فلوغي التي ستصبح في ما بعد موديله المفضّلة والتي ستظهر في لوحته المشهورة القبلة.
    سوزان فريلاند الّفت، هي الأخرى، رواية بعنوان فتاة بفستان ازرق نيلي . الكاتبة تنطلق في روايتها من حقيقة معروفة وهي أن فيرمير لم يترك وراءه سوى 35 لوحة فقط. غير أنها تفترض وجود لوحة مفقودة للرسّام، ثم تبدأ بتعقّب اللوحة المزعومة أثناء انتقالها من مالك لآخر.
    وللحديث بقيّة غدا..

    السبت، فبراير 15، 2014

    أرسطو وتمثال هوميروس

    كان "رمبراندت فان رين" فنّانا شاملا لدرجة انه يصعب وضعه ضمن مدرسة أو اتّجاه فنّي معيّن. لكن الحركة التي تعكس موضوعاته وابتكاراته هي الباروك التي انتشرت في أماكن كثيرة من أوربّا طوال القرن السابع عشر. وقد تضاعفت سمعته باعتباره واحدا من أفضل رسّامي البورتريه في كلّ العصور.
    وعلى ما يبدو، كان رمبراندت مؤمنا إيمانا قويّا بالعبارة التي تقول "إعرف نفسك". وربّما لهذا السبب، لا يوجد فنّان آخر يمكن أن ينافس هذا الفنّان العظيم في عدد اللوحات التي رسمها لشخصه والتي تربو على التسعين.
    رمبراندت كان أمينا جدّا في تصويره لنفسه. ولم يكن دافعه لذلك شيئا من النرجسية أو الإعجاب بالذات. بل قد يكون اختار البورتريه لارتباطه بالرسم التاريخيّ الذي كان يوليه اهتماما خاصّا طيلة حياته.
    كان رسم البورتريهات يحظى بشعبية كبيرة في السوق التجارية في عصره. وكانت البورتريهات التي يرسمها مطلوبة كثيرا في هولندا.
    وأيّا ما كان الدافع وراء رسمها، فإن صور رمبراندت لنفسه كانت تمسك بأكثر من مجرّد السمات الجسدية الظاهرية التي كانت تتغيّر باستمرار مع انتقاله من مرحلة عمرية لأخرى. ويمكن القول أن تلك الصور هي عبارة عن سيرة ذاتية وروحية للرسّام. كما كانت أيضا بمثابة رحلة استكشاف داخلية، بالنظر إلى انه، وطول حياته، لم يبتعد عن بلدته الأمّ "ليدن" أكثر من بضعة أميال.
    حياة رمبراندت يلفّها الغموض لأنه لم يترك وراءه أيّة سجلات مكتوبة عن نفسه، باستثناء شهادات الميلاد والتعميد والزواج والموت. كما لم يترك وراءه أيّة مفكّرة أو مدوّنة شخصية. هناك فقط سبع رسائل تركها بعد وفاته وهي مكتوبة بخطّ يده ولها علاقة بالمعاملات اليومية الروتينية.
    ولكن عندما قام بجرد ممتلكاته قبيل وقت قصير من وفاته، أعلن رمبراندت نفسه معسرا. غير انه لم يترك سوى عدد قليل من الأدلّة حول شخصيّته. لكن على مستوى المهنة، خلّف هذا الفنّان الكبير وراءه تركة رائعة هي عبارة عن أكثر من 2300 لوحة، من بينها لوحتاه الرائعتان والمشهورتان درس في التشريح والحرس الليلي ، بالإضافة إلى بعض لوحاته عن نفسه وكذلك لوحته الأخرى أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس.
    اللوحة الأخيرة، أي أرسطو مع تمثال لهوميروس، هي موضوع هذا المقال. وقد كلّف رمبراندت برسمها الدون انطونيو روفو، النبيل الصقلّي وجامع القطع الفنّية. ولم يكن لدى الدون أيّة ملاحظات أو تعليمات محدّدة للرسّام، باستثناء أن يرسم فيلسوفا.
    أما اجتماع العقول الذي كشفت عنه اللوحة بعد ذلك فقد كان فكرة الرسّام نفسه. والمشهد هو عبارة عن مزيج من التاريخ والأسطورة، كما انه يتضمّن بصمات رمبراندت المألوفة: البساطة، الهدوء، الشخصيّة والتعاطف.
    وفي حين أن شخصيّتين حاضرتان في اللوحة بشكل واضح، إلا أن الشخصية الثالثة، أي الإسكندر الأكبر، يظهر بشكل غير مباشر، وبالتحديد على القلادة المزخرفة التي يرتديها أرسطو.
    الفيلسوف، أي أرسطو، يُصوَّر هنا كشخصية متميّزة. وهو يرتدي ملابس مزركشة وجميلة تذكّرنا بعصر النهضة. وهناك مرتبة اجتماعية معيّنة تظهر بعض علاماتها في أعمال رمبراندت الأخرى مثل بعض صوره الشخصية. وهذه العلامات حاضرة هنا أيضا في الملابس الأنيقة لأرسطو وفي يديه المزيّنتين بالخواتم.
    ورغم أن أرسطو لم يكن رجلا عسكريّا، إلا أنه يبدو هنا بكامل زينته. كما يمكن رؤية سلسلة وميدالية ذهبية يُفترض أن يكون الأمير المحارب، أي الاسكندر، قد انعم عليه بهما.
    أرسطو، الواثق من مكانته الخاصّة، يبدو مستغرقا في التفكير. وهو يضع يدا على التمثال، بينما يلقي نظرة متأمّلة على الشاعر المشهور من الأزمنة القديمة، أي هوميروس، وهو شخص كان محطّ إعجاب كبير من أرسطو وكان الكسندر أيضا يبجّله.
    هذا اللقاء المتخيّل بين ثلاث شخصيّات من العصور القديمة يُعتبر نوعا من لقاء العباقرة. وهو لا يُظهِر فقط ابتكارية الفنّان وتألّق تقنيته، ولكن أيضا أفكاره حول هذا الموضوع وافتتانه بفكرته.

    هوميروس نفسه أسطورة. الفترة التي عاش فيها كانت وما تزال محلّ نقاش بين المؤرّخين، بل إن وجوده في حدّ ذاته ظلّ محلّ شكّ من قبل الكثيرين. وقد قيل من باب الدعابة أنه لم يكتب الملحمة، ولكن كتبها شخص آخر يحمل نفس الاسم!
    لكن ما يزال الناس ينظرون لهوميروس على انه شاعر الإلياذة والأوديسّا. وهناك اعتقاد بأنه عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف عام. وقد سبق زمنيّا ظهور البورتريه الواقعيّ. لكن صورته اختُرعت في وقت لاحق واستُنسخت بشكل متكرّر. وهو دائما ما يظهر على هيئة رجل أعمى وملتحٍ.
    ومن المرجّح أن رمبراندت اعتمد في "نمذجته" لهوميروس على تماثيل نصفية كانت في مجموعته الخاصّة يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي.
    ظلمة وسكون الغرفة والوجود الخافت للكتب في خلفية اللوحة تُبرز الوجه المضاء والشخصيّة الوقورة للفيلسوف. كما أن تصويره كرجل من عصر النهضة، سواءً كان ذلك ترخيصا فنّيّا أو مفارقة تاريخيّة مقصودة، لا يمكن إلا أن يكون فكرة ملائمة كثيرا.
    كان أرسطو يعرف ويفهم في كلّ العلوم التي كانت سائدة في عصره والتي أسهم فيها، هو نفسه، بجهد أساسيّ. وكان يؤمن بأنه ما من علم لا يمكن بلوغه وأن كلّ العلوم مثيرة للاهتمام. كما كان يشعر بارتياح للفنون ويحتفي بها قدر احتفائه بالعلوم. وقد توقّف هذا الرجل الاستثنائيّ بتواضع أمام الشاعر المبجّل الذي تطرّق إلى أسرار الطبيعة الإنسانية.
    عالم هوميروس هو مكان للصراع والمحن والتحدّيات التي يُفترض بالبشر أن يُظهِروا أمامها القوّة والشجاعة والمثابرة. وكان عالمه أيضا مليئا بالدهشة والاكتشاف: نداءات غريبة، سفن محطّمة، كوارث طبيعية، آكلو لوتس وعمالقة وحوريّات بحر. كما تضمّنت ملحمتاه قصصا عن أشجع الرجال وأجمل النساء وأكثر الزوجات إخلاصا.
    وفي زمن أرسطو، كان هوميروس يرمز لخلود الفنّ. ورغم أنه تغنّى بالصراعات الأهلية القديمة، إلا أن كلماته تسمو على الموت بجمالها. ويمكننا أن نتخيّل انه كان شخصا فقيرا جدّا. كان يتجوّل في أرجاء اليونان مع قيثارته التي يعزف عليها في حفلات المساء مقابل مبلغ زهيد من المال. وكان هوميروس وفيّا لعبقريته، فلم يحقّق مالا من فنّه، وربّما لم يكن مهتمّا بشيء من ذلك.
    في صورة رمبراندت هذه، من الصعب سبر أغوار العينين المؤرّقتين اللتين تحاولان استكشاف مجمل المعرفة الإنسانية. لكن لأرسطو كتابا اسمه الأخلاق يتحدّث فيه عن التأمّل ويصفه بأنه أعلى أشكال السعادة والمتعة الأكثر ديمومة في الحياة.
    وعلى مرّ آلاف السنين، منذ هوميروس وألكسندر وأرسطو، فُُسّر التأمّل بطرق عديدة كدليل إلى الحياة، وكتب بعض الكتّاب نسخا حديثة من الأوديسّا. وبعد فترة طويلة من رسم رمبراندت لوحته هذه عن أرسطو وهوميروس، كتب نيكوس كازانتزاكيس نسخته الخاصّة من الأوديسّا.
    في ملحمة كازانتزاكيس، يدعو المؤلّف البشر المعاصرين للعمل معا ضدّ الشدائد وحتى ضدّ حتمية الموت. ثم لا يلبث أن يستغرق في لغة هوميروسية يقود من خلالها القارئ في تأمّل أرسطي. "لا أعرف ما إذا كنت سأرسو أخيرا. الآن أنجز عمل النهار. أجمع أدواتي: البصر والشمّ واللمس والذوق والسمع والعقل. ومع هبوط الليل، أعود مثل خُلد إلى بيتي الأرض، ليس لأني تعبت أو لا استطيع العمل، ولكن لأن الشمس شارفت على المغيب".
    إحدى أفضل الطرق في التفكير في تطوّر الثقافة بشكل عام، وفي تاريخ الحضارة الغربية بشكل خاصّ، هي المحادثة بين الأحياء والأموات. ومن الصعب أن نتخيّل تجسيدا أكثر شهرة واختصارا لهذه الفكرة من لوحة رمبراندت هذه غير العاديّة والمثيرة للإعجاب.
    و"أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس" هي واحدة من عدد قليل من الصور التي كُلف بها الرسّام من قبل زبون أجنبيّ. وقد أرسلت اللوحة من أمستردام إلى قصر روفو في ميسينا في صيف عام 1654. وكان السعر المتّفق عليه 500 غيلدر هولنديّ. وبعد مرور 300 عام، أي في عام 1961، ابتاع متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك اللوحة مقابل مليونين ونصف المليون دولار. ويقدّر خبراء السوق أن اللوحة، لو عُرضت للبيع اليوم، فستكسر حاجز الـ 100 مليون دولار بسهولة.

    Credits
    rembrandt-paintings.com
    popmatters.com

    الاثنين، مارس 04، 2013

    أسطورة فان غوخ

    إحدى أكثر الظواهر الفنّية استعصاءً على الفهم والتفسير هي ظاهرة فينسنت فان غوخ. فقد أصبح هذا الرسّام رمزا للعظمة الفنّية وتحوّل من رائد للرسم الحديث إلى احد أهم رموز الثقافة المعاصرة.
    حياة فان غوخ تحوّلت بعد موته إلى أسطورة، وفقره وتشويهه لنفسه ومن ثمّ انتحاره، إلى لغز. وبات الكثيرون ينظرون إلى قصّة جنونه بما يشبه الاحترام والقداسة.
    وفي تلك المناسبات النادرة عندما تكون إحدى لوحات فان غوخ مطروحة للبيع في المزاد، فإنها تكسر الأرقام القياسية وتحصد عشرات الملايين من الدولارات. ومع ذلك فإن اللوحة الوحيدة التي قيل انه باعها أثناء حياته حقّقت له حوالي عشرين دولارا فقط.
    قبل ربع قرن، بيعت إحدى لوحات سلسلة عبّاد الشمس بمبلغ 40 مليون دولار، وأزهار السوسن بـ 53 مليون دولار. كما اشترى ملياردير ياباني يُدعى ريو سايتو بورتريه الدكتور غاشيه بمبلغ 83 مليون دولار. وكان وكيل المليونير قد قال بأن موكّله سبق وأن رأى اللوحة في متحف المتروبوليتان ووقع في حبّها من النظرة الأولى.
    والغريب أن سايتو أوصى بأن تُحرق اللوحة وتُدفن معه عندما يموت. ومنذ وفاة هذا المليونير الياباني الغريب الأطوار عام 1996، اختفت اللوحة تماما ولا أحد يعرف إلى الآن ما الذي حلّ بها. ويبدو أن سايتو يؤمن بقاعدة "أحرق ما تحبّ وأحبّ ما تحرق". وإحراق لوحة، أو حتى بيت، قد يكون أعلى درجات حبّ التملّك.
    رسم فان غوخ بورتريه الدكتور غاشيه في يونيو من عام 1890، أي قبل انتحار الرسّام بشهر ونصف. والبورتريه يصوّر طبيبه الخاص وهو يسند رأسه على يده بينما يمسك بيده الأخرى حافّة الطاولة التي يستقرّ فوقها كتابان وزجاجة تحتوي على نبات علاجيّ.
    كلّ جزء من هذه اللوحة مشحون بالمعنى. كما أنها تضجّ بالإيقاعات الثقيلة وضربات الألوان الجريئة التي تميّز فان غوخ. وتعبيرات غاشيه الحزينة ليست سوى انعكاس لحزن فان غوخ نفسه، بينما يرمز النبات لتخصّص الطبيب.
    المعروف أن اللوحة خضعت للترميم مرّتين في الخمسينات، وهو أمر أسهم في خفض قيمتها وفقدانها معظم خصائصها، إذ لا يظهر فيها سوى جزء يسير من آثار فرشاة وأسلوب فان غوخ المتفرّدين.
    أثناء حياته لم يكن باستطاعة الرسّام بيع أيّ من أعماله. وفي الوقت الذي انتحر فيه وهو في سنّ السابعة والثلاثين، كانت لوحاته تُعتبر بلا قيمة أو أهمّية.
    لكن في ألمانيا، كان يُنظر إلى فان غوخ كبطل نيتشوي. كانت لوحاته "تصرخ في رعب إلى السماء مؤذنةً ببداية عصر جديد يحلّ فيه الفنّ محلّ الإيمان"، على حدّ وصف احد النقّاد هناك.
    وقبل الحرب العالمية الأولى، كان الألمان يعرفون فان غوخ جيّدا. وكانت أعماله تُعرض في عدد من متاحفهم. وهناك منهم من درس وحلّل أعماله في سياق سياسيّ. كما نشأت هناك طائفة تبجّله وتقدّس فنّه.
    أسعار لوحات فان غوخ القياسية يضعها البعض في سياق الرواج الأوسع الذي تحقّقه أعمال الفنّ الحديث. فقد بيعت لوحة الصرخة لـ إدفارد مونك قبل اقلّ من عام بمبلغ 120 مليون دولار. وإذا كان هناك مؤشّر ما لما حدث، فهو أن حمّى اللهاث وراء الفنّ الحديث لا يبدو أنها تتراجع أو تخفّ.
    ولكن، وبصرف النظر عن الأسعار والاتجاهات الفنّية، فإنّ السؤال الأهمّ الذي يفرض نفسه هو: كيف تسنّى لهذا الهولندي الضئيل والمضطرب، وريث تقاليد الرسم التي تعود إلى رمبراندت وهولس وفيرمير، أن "يضلّ الطريق" بعيدا عن جذوره؟ ولماذا لم يكن فنّه "أكثر فرنسيةً"، خاصّة في ضوء حقيقة انه أمضى جزءا كبيرا من حياته في فرنسا؟
    قد تكون أفضل إجابة على السؤال الأوّل هي أن فينسنت كان إلى حدّ كبير مفتقرا إلى تدريب رسمي في الفنّ. ولو كان قد أظهر أدنى قدر من الموهبة في سنواته المبكّرة، لكان قد ذهب إلى مدرسة للفنون الجميلة، حيث يمكن لأيّ شرارة عبقرية أن تُرعى وأن تُحتضن بطريقة منهجية. ولو انه لم يتعرّض لتأثير الفنّانين الانطباعيين ودرس لفترة وجيزة معهم في العام 1886، لكان اليوم مجرّد هامش صغير في كتاب تاريخ الرسم.
    كانت أعماله المبكّرة متواضعة للغاية. وأوّل عمل واعد ظهر له كان آكلي البطاطس. كان ذلك في العام 1885م. ولولا الطبيعة الإنسانية المتعاطفة لهذه اللوحة، لاعتُبرت هي أيضا عملا عاديّا. الذي فعله فان غوخ ممّا لم يكن موجودا في أيّ مكان من قبل، هو استخدامه الرائع للألوان والذي سيحرّر في وقت لاحق الرسم والرسّامين من إملاءات اللون المحلّي.


    التفسير الثاني لظاهرة فان غوخ هو طبيعة الرجل نفسه. فقد كان ابنا لمبشرّين هولنديَّين، وكان في حياته المبكّرة مخمورا بالدين. لذا فإن الهولنديين مسئولون، بقدر ما، عن يأس وبؤس هذا الإنسان المسكين. فينسنت نفسه لا بدّ أن يُلام على استنزافه لطاقته وقواه في سعيه وإصراره الذي لا ينتهي على تعذيب نفسه.
    في القرن العشرين، كان فان غوخ يوصف بأنه عبقريّ أسيء فهمه وبأنه قدّيس وشهيد وبطل وأيقونة دائمة للثقافة الشعبية. المعجبون به يسافرون مسافات طويلة كي يروا أعماله الأصلية، و"الحجّاج" يزورون قبره ويذهبون إلى متحفه كي يقولوا "كنّا هناك". بعضهم يظلّ في المتحف لساعة أو ساعتين، والبعض الآخر يبقون هناك طوال اليوم.
    والحقيقة أن لا شيء مستغربا في وصف فان غوخ بالعبقريّ. لكن وصفه بالقدّيس والبطل مسألة فيها نظر. السمة الأكثر وضوحا في شخصيّته كانت سرعة غضبه. وهي ولا شكّ سمة مَرَضية. وهو لم يكن أبدا راضيا عن فنّه أو عن نفسه ولا عن أيّ شخص آخر. كان فان غوخ أيضا شخصا نزقا وغير مستقرّ وغير اجتماعي. لم يكن يتقبّل النقد أبدا ولم يكن يتسامح مع رأي مخالف له. كما لم يكن يأخذ نصيحة من احد ولم يكن يثق بأحد، بل كان يشكّك في كلّ شخص تقريبا.
    ومع ذلك، فخلال أربع سنوات فقط، حصل التفجّر الفعليّ في موهبته: طوفان هادر من الألوان الجريئة والحيّة مع الحدّ الأدنى من مهارات الرسم. حدث هذا في الأشهر القليلة التي كان يدرس خلالها في الأكاديمية البلجيكية.
    السبب الآخر الذي يفسّر ظاهرة فان غوخ هو ذلك المزيج من التعاسة والجنون والتحرّر من القمع الأكاديمي. كان ذلك شرابا غريبا، لكنّه كان قويّا وفعالا. وقد قُدّر لهذا المزيج أن يغلي أكثر فأكثر إلى أن وصل إلى ذروة غليانه ذات يوم حزين وحارّ في حقول القمح في آرل.
    في العام 1910، وكان قد مضى على وفاة فان غوخ عشرون عاما، وصلت إلى باريس أوّل مجموعة من "الحجّاج" الذين جاءوا لتحيّة الرسّام. كانوا من المثقّفين اليابانيين الذين ينتمون لإحدى الطوائف هناك. وكان دافعهم للزيارة شعورهم بأنهم كانوا يفهمون فان غوخ الإنسان أكثر من فنّه. كانوا يرون فيه نموذجا جديدا للفقر الفنّي لعصرنا، ومثالا للفنّان الذي لا يستطيع بيع لوحاته فحسب، ولكنه مقتنع أيضا بعبثية جهوده، فييأس ويكسب من وراء هذا، ليس المرارة وإنما المتعة الحقيقية. وهذا استنتاج مثير للاهتمام.
    وكان هؤلاء اليابانيون قد قاموا في وقت مبكّر بزيارة شخصية للدكتور غاشيه طبيب فان غوخ الغريب الأطوار، ولأرملة ثيو شقيق الرسّام. كان غاشيه ينظّم في بيته حفلات استقبال لزوّاره. وكان قد اشترى ستّا وعشرين لوحة كان فان غوخ قد رسمها خلال السبعين يوما التي قضاها تحت إشرافه.
    بول غاشيه، ابن الطبيب، كان يقدّم نفسه للزوّار وللناس باعتباره خبيرا في الأشهر الأخيرة من حياة غوخ. وكان يستضيف زوّارا يابانيين وأوربيين، رغم أن اتصاله بالرسّام كان ضعيفا. وعندما أقدم فان غوخ على الانتحار، كان غاشيه الابن لا يتجاوز الثامنة من عمره، وكان يحصل على رزقه من عرض وبيع اللوحات التي كان والده قد اقتناها. ومع ذلك كان الابن يستمتع بحياته باعتباره صانع أسطورة فان غوخ.
    ضاحية اوفير سير واز الباريسية، حيث عاش وعمل فان غوخ، توفّر مكانا يمكن للمرء أن يحتفل فيه بالحياة الفعلية وبالأسطورة المشيّدة للفنّان. لكنّ التأثير الأقوى في صنع أسطورته أتى من الأفلام السينمائية التي صوّرت حياته. في فيلم أحلام للمخرج الياباني اكيرا كوروساوا، يمشي رجل في طبيعة آرل التي تتألّف في الفيلم من صور مكبّرة من لوحات فان غوخ. وفي أفلام أخرى، يُقدمّ الرسّام كنموذج أعلى للمعاناة والإبداع والاغتراب ومجد ما بعد الموت.
    غير أن أفضل فيلم أنتجته هوليوود عن حياة فينسنت كان فيلم شهوة للحياة للمخرج فينسنت مينيللي الذي يقدّم فان غوخ كإنسان عبقريّ وكفنّان مجنون، من خلال استخدام صور قويّة وشخصيّات دراماتيكية. في الفيلم يظهر الرسّام وهو يطلق النار على نفسه بينما يرسم لوحته المشهورة حقل قمح مع غِربان. اللوحة تصوّر سماءً مظلمة ومنذرة بالخطر مع طريقين متشعّبين ينتهيان في نقطة ما من الحقل. علماء النفس حلّلوا رمزية هذا المكان مرارا، وتكهّنوا بأنه يمثّل تساوي فرص الحياة والموت، ويشي بأوهام فان غوخ وحتى باحتمال إصابته بالشيزوفرينيا.
    في احد أيّام شهر يوليو من عام 1890، أطلق فان غوخ النار على نفسه من مسدّس صغير. وقد أخطأت الرصاصة قلبه وبقي يومين في حالة غيبوبة إثر معاناته من نزيف دمويّ وعدوى لم يُعالجا في حينه، الأمر الذي يثير الشكوك حول براعة غاشيه الطبّية.
    ومنذ رحيله، أثيرت الكثير من الأسئلة والشائعات عن فينسنت وعن حياته وموته، من قبيل ما يقال الآن عن أن موته المفاجئ لم يكن انتحارا، وإنما نتيجة حادث مدبّر. لكن ممّا لا شكّ فيه أن تمجيد فان غوخ ورفعه إلى مستوى القدّيسين والأبطال رافقه بالتوازي اختفاء صورة الإنسان الحقيقيّ الذي ابتلعته الأسطورة.

    الخميس، سبتمبر 13، 2012

    رمبراندت: الفيلسوف المتأمّل

    منذ فجر التاريخ، ظهر العديد من الأفراد الذين أتعبوا عقولهم في التفكير في أسباب الأشياء ومعنى الحياة وماهيّة الخلق والموت والقدَر وغير ذلك من الأسئلة الملغزة والمحيّرة. بعض هؤلاء كرّسوا حياتهم كلّها لدراسة هذه المسائل، وكانت تلك مهمّتهم الوحيدة. ومن بين هؤلاء اليونانيّون القدماء الذين كانوا أمّة مفكّرة أنجبت العديد ممّن كانوا يُدعون بالفلاسفة، أي محبّي الحكمة. وقد انتقل هذا المصطلح من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلى عصرنا.
    ومع توالي القرون، وجد الفلاسفة مواضيع أكثر وأكثر ممّا يصلح للدراسة والتفكير. بعضهم درسوا حركات النجوم وحاولوا اكتشاف ما إذا كان لها تأثير على حياة الإنسان. وظهر آخرون قاموا بفحص مختلف الموادّ التي تتألّف منها الأرض وجمعوها معا لخلق أشياء جديدة.
    وفي القرن السابع عشر، أي العصر الذي عاش فيه الرسّام الهولندي رمبراندت، كانت هناك ضجّة كبيرة أثارتها الأفكار الفلكية الجديدة التي أتى بها غاليليو في إيطاليا والاكتشافات الجديدة في مجال الكيمياء التي كان فان هيلمونت البلجيكي احد روّادها.
    كان رمبراندت معروفا بافتتنانه برسم لوحات تُظهر شخصيات غارقة في التفكير والتأمّل. وتلك كانت سمة من سمات فنّه. وهي تعكس انشغاله الطويل بالتجارب البصرية والانفعالية.
    وإحدى لوحاته المشهورة من هذا النوع هي لوحته المسمّاة "فيلسوف في حالة تأمّل" الموجودة اليوم في متحف اللوفر. وقد رسمها في العام 1632، أي بعد وقت قصير من انتقاله من ليدن إلى أمستردام. وظهرت اللوحة في باريس في منتصف القرن الثامن عشر، واقتناها عدد من الشخصيّات الأرستقراطية، إلى أن ضُمّت أخيرا إلى المجموعة الملكيّة في قصر اللوفر.
    موضوع اللوحة وتوليفها المعقّد وأسلوب الرسّام في التعامل المتدرّج بنعومة بين الصفاء والعتمة، كانت كلّها محلّ تقدير واسع في فرنسا. كما جاء ذكر اللوحة في كتابات العديد من الشخصيّات الأدبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جورج صاند وثيوفيل غوتييه وجول ميشيل ومارسيل بروست وبول فاليري وغاستون باشلار وبول كلوديل وألدوس هكسلي وغيرهم.
    ويمكن قياس شعبية اللوحة من خلال حضورها الواسع على شبكة الانترنت، حيث تُستخدم غالبا كشعار للفلسفة أو كتفسير للظواهر الباطنية والغامضة.
    وفي حين أن العنوان التقليدي للوحة، أي "فيلسوف في حالة تأمل"، مسئول إلى حدّ كبير عن شعبيّة اللوحة، فإنها لا تُظهر أيّا من السمات اللافتة للفلسفة، أي الكتب والأدوات العلمية وما إلى ذلك. كما أن وجود شخص آخر في اللوحة مشارك في المهامّ المنزلية لا يتلاءم مع العزلة المرتبطة عادة بأجواء الدراسة والتأمّل.
    وعلى الرغم من أن هناك كتابا كبيرا وريشة من بين الأشياء القليلة الموضوعة على الطاولة أمام الشخصية الرئيسية، إلا أن هذه الأشياء صُوّرت بطريقة موجزة ويستحيل تحديدها بطريقة أكثر دقّة.
    الأشياء المرسومة في اللوحة تشير إلى بيئة محليّة. ولكن المعمار يتحدّث عن التاريخ أكثر من أيّ شيء آخر. مؤرّخ الفنّ الفرنسي جان ماري كلارك يشير إلى أن المنظر مستمدّ من توبيا أو توبياس، وهو واحد من مصادر رمبراندت المفضّلة من كتاب العهد القديم.


    ولا يبدو مرجّحا أن رمبراندت كان في عقله أيّ فيلسوف عندما رسم هذه اللوحة. ومن الواضح أن فيلسوفه يبدو مهتمّا بالتفكير أكثر من القراءة، لأنه يجلس ويداه مضمومتان إلى حضنه ورأسه غارق على صدره. عيناه تحدّقان بعيدا عن الكتاب المفتوح الموضوع على الطاولة، وكأنه يغلقهما عن العالم الخارجي ويفتح كيانه كلّه على النور الداخلي. وهو يرتدي ملابس فضفاضة، ورأسه الأصلع محميّ بغطاء صغير. ومكانه الذي يجلس فيه يعتبر مكانا مثاليّا لفيلسوف في حالة تأمّل.
    جدران الغرفة، حيث يجلس، سميكة جدّا بحيث تسدّ كلّ الضجيج المربك للعالم الخارجي. وهناك نافذة واحدة إلى يمينه تسمح بتسرّب قدر من الضوء بما يكفي للقراءة. إنها غرفة عارية صغيرة مع جدران غير منتظمة وأرضية مرصوفة بالحجارة.
    الفيلسوف يجلس هنا في سكون. احتياجاته بسيطة ولا مكان فيها للترف والأشياء الكمالية. انه لا يطلب شيئا أكثر من الهدوء الذي يعينه على متابعة أفكاره وتأمّلاته.
    وفي حين أن أفكاره هي عن الأشياء السامية والحقائق الأبدية، إلا أن هناك امرأة مسنّة مشغولة بمعالجة النار في زاوية الغرفة. ومن الواضح أنها تهتمّ بالأشياء المادّية والزمنية للحياة. وهي تبدو منكبّة على الموقد وتضع غلاية على النار. الضوء ينعكس على وجهها ويومض هنا وهناك على الأواني المعلّقة بالمدخنة إلى أعلى. جهد المرأة ومثابرتها يحملان وعدا بما سيأتي. فعندما يفرغ الفيلسوف من تأمّلاته، سيكون على موعد مع عشاء ساخن وشهيّ، على ما يبدو.
    هناك شيئان غامضان في الغرفة ومثيران للفضول. في الحائط، خلف كرسيّ الفيلسوف، هناك باب منخفض ومقوّس. ترى هل يؤدّي الباب، مثلا، إلى كهف ما تحت الأرض؟ هل هناك سرّ ما وراء هذا الباب؟ مختبر مثلا؟ هل الفيلسوف يبحث في أسرار الكيمياء ويحاول العثور على "حجر الفلاسفة"؟ هل يكمن وراء هذا الباب كنز مخبّأ وثمين وصعب المنال، مثل الحقائق الخفيّة التي يتوق الفيلسوف لاكتشافها؟
    في الجانب الأيمن من الغرفة، ثمّة درج عريض ومتعرّج يرتفع إلى فوق ويختفي في الظلمة الكئيبة إلى أعلى. السلّم الحلزوني قد يكون رمزا للطبيعة التصاعدية للتفكير التأمّلي. نتابع ذلك الدرج بعيوننا المتسائلة إذ تحاول اختراق الظلام ورؤية إلامَ يؤدّي. ربّما هناك غرفة علوية مع نوافذ مفتوحة على السماء، حيث يدرس الفيلسوف النجوم. ويُحتمل أن السلالم المتعرّجة تقود إلى مرصد أو برج صغير من النوع الذي يستخدمه عالم فلكيّ.
    الفيلسوف في اللوحة رجل عجوز برأس أشيب. ووجهه مكسوّ بخطوط وتجاعيد، ربّما من كثرة التفكير. وحتى لو حُلّت جميع مشاكله، فإنه ما يزال يجد متعة كبيرة في التفكير الذي قد يجلب له في النهاية السلام والطمأنينة.
    النهار يقترب من نهايته. والضوء المتراجع يسقط من خلال النافذة ويضيء وجه الرجل الجليل. هذا المكان هو في الواقع مسكن مثاليّ يليق بفيلسوف يخترق بأفكاره حجب الغيب وأسرار المجهول.
    استدارة الدرج وسط الظلال، والضوء الذهبيّ المتدفّق من النافذة إلى حيث يجلس الفيلسوف في عزلة وتأمّل، يوحيان بالشعلة المتوهّجة من التأمّل الداخلي. الدرج نفسه يختفي في الأعلى حيث الظلام والعتمة. ومهمّة الفيلسوف هي أن يصعد إلى أعلى ويحضر الضوء الذي يبدّد الظلام.
    موضوع رمبراندت الخالد عن الفيلسوف المتأمّل هو مساحة داخلية، من الناحيتين الجسدية والعقلية. ومن خلاله يقودنا رمبراندت كي نتواصل مع جوهر التأمّل الموصل إلى اليقين والاستنارة.

    Credits
    rembrandtonline.org
    contemplationem.com

    الخميس، يناير 12، 2012

    رحلة إلى شُطآن الليل

    في العالم القديم، كان الليل يمثّل عنصرا مخيفاً. أحيانا كان يرمز للخوف، وأحيانا أخرى للغموض. وقد استمرّت هذه الفكرة طوال قرون. لكن أصبح للّيل أهمية خاصّة عند الرومانسيين. كانوا يربطونه بالأفكار المتسامية والنبيلة بما يتضمّنه من ذلك المزيج الفاتن من عناصر الجمال والغموض وقوى ما فوق الطبيعة.
    الرؤى المرتبطة بالليل تغيّرت على مرّ العصور. الرسّامون الواقعيون كانوا يرسمونه في طبيعة نقيّة. وكانت رسوماتهم تثير أجواءً من التأمّل والاستبطان الحزين. الفنّانون الحداثيون رسموا الليل انطلاقا من الطبيعة الحضرية وحياة المدن وما تضجّ به من ضروب المتعة والتسلية.


    الفنّان الروسي من أصل يوناني ارشيب كوينجي رسم الليل في واحدة من أكثر اللوحات شهرة في تاريخ الرسم والتي اكتسب الرسّام بفضلها شهرة أسطورية. اسم اللوحة ليلة مقمرة على ضفاف نهر الدنيبر. وقد رسمها في العام 1882م.
    عندما عرض الرسّام هذه اللوحة لأوّل مرّة في سانت بطرسبيرغ اصطفّ الناس في طوابير طويلة لرؤيتها. وقد وُضعت داخل غرفة مظلمة، بينما صُفّت حول إطاراتها المذهّبة والفخمة شموع محترقة.
    في اللوحة، يصوّر كوينجي إحدى ليالي اوكرانيا الشاعرية والدافئة. القمر الفضّي يطلّ من أعلى المشهد محاطا بهالة خضراء من الغيوم. وفي أسفل المنظر يظهر شريط متوهّج من نهر الدنيبر الذي يفيض فوق مساحات واسعة من السهوب.
    ربّما لم يعبّر رسّام من قبل عن سحر وجمال القمر بهذا الشكل المدهش. الصورة تثير إحساسا بالحرّية واللانهائية. فأمامنا عالم واسع مليء بالضوء. وكلّ ما في هذه الطبيعة مشرق وبهيّ. الضوء الفوسفوري الغامض يغمر كلّ شيء على الأرض.
    كان على الجمهور أن يدخلوا إلى القاعة ذات الأنوار الخافتة قبل أن يتوقّفوا أمام وهج الضوء البارد المنبعث من اللوحة. بعضهم كان يظنّ أن مصدر الضوء ربّما يكون فانوسا أو مصباحا موضوعا بالجوار. المجال السماويّ الذي رسمه الفنّان فيه فخامة وجلال. قوّة الكون وضخامته تتجلّيان بأوضح صورة في هذا المشهد. التفاصيل على الأرض تتضمّن بيوتا وأشجارا كثيفة ونباتات شوكية ابتلعتها الظلمة.
    هذه اللوحة استنسخت مرّات كثيرة في جميع أنحاء روسيا وتحدّثت عنها الكثير من الصحف آنذاك. وقد ابتاعها الأمير الروسي كونستانتينوفيتش الذي شُغف بها منذ رآها لأوّل مرّة. وبلغ من حبّه للوحة انه كان يأخذها معه في تطوافه عبر العالم. وقد حاول الروائي ايفان تورغينيف، الذي كان يعيش في باريس في ذلك الوقت، إقناع الأمير بعرض اللوحة في احد الغاليريهات الفرنسية، لكنه رفض.
    لوحات ارشيب كوينجي تتّسم بالتصوّرات التأمّلية والفلسفية عن العالم. كما أن فيها إحساسا بعظمة الحياة. ولم يكن يهتمّ بتصوير الحالات الدراماتيكية للطبيعة، ولا حتى مظاهر الجمال فيها. كان معنيّاً أكثر بتصوير الإحساس بالكون ووحدة الوجود والتناغم ما بين الطبيعة والإنسان.
    الألوان الفوسفورية في اللوحة تستحضر مشاعر متسامية وتثير التأمّل عن طبيعة الحياة على الأرض وعن عالم السماء التي تبدو وهي تتحرّك في إيقاع بطيء. وبعض لوحات الرسّام الأخرى تصوّر عوالم تبدو أشبه ما تكون بالكواكب البعيدة التي لم تُكتشف بعد.

    الفنّان الاسباني اليسيو ميفرين روج رسم في واحدة من أشهر لوحاته بعنوان طبيعة ليلية منظرا للقمر وقد غطّته هالة من الغيوم. المنظر الطبيعي كلّه غارق في الليل. والمشهد يشعّ جوّا من السلام والسكون العميق. روج رسم أكثر من لوحة حاول من خلالها التقاط جوهر الليل والمعاني والمشاعر المرتبطة به، بالإضافة إلى السمات الخالدة للطبيعة.
    كان ميفرين روج إنسانا ذا طبيعة هادئة ومتأمّلة، كما تشي بذلك لوحاته الجميلة عن الليل والطبيعة البحرية ومناظر الغروب. كما كان أيضا مفتونا برسم الحدائق، ومنها حدائق ارانهويز المشهورة في مدريد. غير انه سجّل في بعض لوحاته الأخرى مقدّمات سقوط وانهيار اسبانيا كقوّة استعمارية أمام القوّة الصاعدة للولايات المتحدة.
    وقد كرّس الفنّان كلّ حياته تقريبا للرسم. ولوحاته تُظهر مهارته العالية في استخدام الفرشاة الفضفاضة والألوان الناعمة وفي مزجه بين الأسلوبين الانطباعي والرمزي.


    السفن الغارقة والعواصف البحرية والليالي المقمرة والحالمة، تلك هي بعض سمات لوحات الفنّان الروسي من أصل ارمني ايفان ايفازوفسكي.
    السنوات التي قضاها ايفازوفسكي خارج روسيا أسهمت إلى حدّ كبير في تشكيل موهبته الفنّية. فقد تعرّف في المتاحف الأوروبية على روائع الرسم العالمي، ما أدّى إلى إثراء مخيّلته الفنّية. كما ألهمته الطبيعة الايطالية السخيّة رسم صور عظيمة مثل سلسلة لوحات خليج نابولي.
    في سنواته الأولى كرسّام، اظهر ايفازوفسكي قدرة كبيرة في ملء أعماله بالضوء وفي تجسيد إحساسه العميق بالخطّ واللون والتوليف. ويُعتقد أن مناظره البحرية المضاءة بنور القمر هي أكثر الأعمال غنائية في فنّ هذا الرسّام الكبير.
    ايفازوفسكي بدأ رحلته مع الرسم في سبعينات القرن قبل الماضي. وأسلوبه الرومانسي المبكّر في تمثيل العواصف القويّة والصباحات الجميلة وتأثيرات البرق والغيم تحوّلت في ما بعد إلى دراسات أكثر عمقا للطبيعة.
    في روما، درس الفنّان أعمال كبار الرسّامين. كما رسم لوحات من الطبيعة، وأخرى من الذاكرة. وكان النجاح حليفه دائما. كما كان له معجبون كثر، بينما بدأ الفنّانون الشباب يقلّدون أسلوبه في رسم الطبيعة الليلية والبحرية.
    كان ايفازوفسكي مراقبا دقيقا للطبيعة. كما كان يتمتّع بذاكرة رائعة وموهبة استثنائية في الارتجال، لدرجة انه كان يستطيع رسم لوحة بأكملها في يوم واحد.
    وقد قال ذات مرّة ملخّصا فهمه للإبداع: إن الشخص الذي لا يتمتّع بالذاكرة التي تحفظ حالات الطبيعة ربّما يصلح لأن يكون ناسخا ممتازا. لكنه لن يصبح فنّانا حقيقيا. الفرشاة لا تستطيع الإمساك بالعناصر الحيّة. ومن غير المتصوّر أن ترسم البرق أو هبوب الرياح أو رذاذ الأمواج والمطر من الطبيعة مباشرة. إن موضوع اللوحة يتشكّل في ذاكرتي كما يتشكّل موضوع القصيدة في ذهن الشاعر".
    في إحدى لوحات سلسلة خليج نابولي، يرسم ايفازوفسكي منظرا ليليا مليئا بالتفاصيل. على سطح الماء تظهر مجموعة من القوارب والسفن الشراعية الراسية في الميناء. ومن بين غلالات الغيوم يلوح من بعيد ضوء القمر المنعكس على الأمواج الهادئة، وأعمدة من الدخان المنبعث من بركان فيزوف. الرسّام استخدم في اللوحة طبقات من الألوان الزرقاء والخضراء والداكنة.
    لوحات ايفازوفسكي التي رسمها في ايطاليا كانت من أفضل أعماله. وقد أثار بعضها ردود فعل قويّة في عاصمة الفنون الجميلة آنذاك. لوحة الفوضى، أو خلق العالم "كما تُسمّى أحيانا"، قيل عنها إنها عمل إعجازي ولا يشبه أيّ عمل فنّي آخر. وقد اشتراها البابا غريغوري السادس عشر وأمر بتعليقها في متحف الفاتيكان الذي يضمّ مجموعة من أروع وأشهر اللوحات العالمية.
    خلال إقامته في ايطاليا، قابل ايفازوفسكي الرسّام الانجليزي وليام تيرنر الذي أعجب كثيرا بلوحة خليج نابولي في ليلة مقمرة لدرجة انه ألّف عنها قصيدة ذات جرس حزين وأهداها إلى ايفازوفسكي.
    في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت فكرة الليل رائجة على نطاق واسع في الرسم الأوربّي بشكل عام. ومن أشهر الفنّانين الآخرين الذين رسموا الطبيعة الليلية كلّ من فان غوخ وايرت فاندر نير وكاسبار ديفيد فريدريش وايفغيني شيبانوف وجون غريمشو وإدوارد هوبر ورمبراندت وإيساك ليفيتان وغيرهم.

    الجمعة، يونيو 10، 2011

    محطّات

    هل سمعت باسم لويس "أو لوفيس" كورينث؟
    كورينث رسّام ألماني تمتلئ لوحاته بمشاهد القوّة والعنف.
    كان فنّانا تعبيريا يمزج الفنّ بالحياة. وكان يستمدّ أفكار لوحاته من الإغراء والحبّ والموت.
    ومثل رمبراندت، كان كورينث مفتونا بتصوير الجسد وربطه بمشاهد اللحم والدماء التي تتّحد مع الصرخات والصدى تحت إيقاع ألوان قاتمة وضربات فرشاة متوتّرة.
    وكان من عادته أن يرسم لنفسه بورتريها كلّ سنة، وكأنه من خلال تصويره لنفسه كان يرصد آثار الزمن وتلاشي جذوة الحياة.
    كان كورينث يميل إلى رسم المشاهد الدموية والعنيفة. وغالبا ما كان يرسم نفسه كجزء من تلك المشاهد. وعندما رسم قصّة سالومي ويوحنّا المعمدان، اختار أن يعطي نفسه دور الجلاد، إذ يظهر في تلك اللوحة ممسكا بسيف يقطر دما.
    في نهايات حياته، أصيب هذا الرسّام بالجلطة وشُلّ على أثرها جانب من جسده. وبعدها رسم لنفسه بورتريها على هيئة شمشون الأعمى، وفيه يبدو إنسانا مشوّها ويائسا وعاجزا.
    هذه اللوحة هي إحدى أقوى لوحات لويس كورينث من الناحية التعبيرية، وهي صورته الأخيرة التي رسمها لنفسه قبل وفاته.

    ❉ ❉ ❉

    ذات يوم قال لي شخص أعرفه: إغتنم فرصة معرفتك بهذا الشخص الذي يعمل معك كي تدعوه إلى الدين الإسلامي، وبذا يكثر سواد المسلمين وتقوى شوكتهم".
    قلت: هذا الشخص له دين مختلف عن ديننا. وليس ممّا يعنيني أو يشغلني أن ادعوه إلى الإسلام. هذا آخر شيء يخطر ببالي. ولعلمك لم أتحدّث معه يوما عن موضوع الدين على الإطلاق. ما يهمّني هو انه إنسان محترم وعلى قدر من الأخلاق، كما أننا نتشارك في الإيمان بالقيم الإنسانية التي يؤمن بها جميع البشر. وهذا لوحده يكفي".
    ثم استشهدت بقول احد حكماء الهند القدماء: لا تحكم على الآخرين من أديانهم. إذا استطعت أن تمدّ لهم يد العون فافعل. وإذا لم تستطع فكفّ شرّك عنهم. بارِك إخوتك في الإنسانية ودعهم يختاروا طريقهم بأنفسهم".
    وبدا أن كلامي لم يعجب الرجل. فأشاح بوجهه ولم يعلّق بشيء.

    ❉ ❉ ❉

    ترى لو انمحى أو زال هذا الفاصل بين العالم الافتراضي، أي الانترنت، والعالم الواقعي، ما الذي سيحدث؟
    هل سيقتل الناس بعضهم بعضا ويصفّون حساباتهم عن طريق العنف كما تفعل شخصيّات الألعاب الاليكترونية؟
    هناك الآن أشخاص يقضون الساعات الطوال في غرف الدردشة وفي الشبكات الاجتماعية ومنتديات الحوار الكثيرة على الانترنت. وشيئا فشيئا يتلاشى الحدّ الفاصل بين ما هو افتراضي وما هو واقعي.
    وما يحدث في حوارات العالم الافتراضي من إذكاء لروح الكراهية والترويج للتعصّب والعنصرية يُشعر الإنسان بالخوف والقلق.
    المشكلة أن بُنية العالم كما يحدّدها الواقع الافتراضي يضعها مهندسون وخبراء وليس مفكّرون أو فلاسفة أخلاقيّون. وهنا مكمن الخطر.

    ❉ ❉ ❉

    يبدو أن لا نهاية لهذا الجدل الذي يُثار من وقت لآخر حول مسألة ما إذا كان الدين متوافقا مع العلم أم لا. والذي اعرفه أن الدين يقوم على الغيبيات، بينما العلم يعتمد على التجريب والمنطق. هذه حقيقة، لكنها لا تعني، بأيّ حال، التقليل من أهمّية الدين وأثره في المجتمعات قديما وحديثا.
    الدين في حالات كثيرة لم يكن متوافقا مع العلم. لنتذكّر على سبيل المثال واقعة قيام الكنيسة البولندية منذ سنوات بإعادة دفن عالم الفلك البولندي المشهور نيكولاس كوبرنيكوس واعتباره بطلا. القساوسة فعلوا ذلك بعد مرور خمسمائة عام على اضطهاد هذا العالم من قبل الكنيسة الكاثوليكية التي كانت قد اتهمته بالزندقة وأمرت بدفنه في قبر مجهول.
    كانت جريمة كوبرنيكوس وقتها هي قوله بدوران الأرض حول الشمس، وهي النظرية لتي شكّلت ثورة في العلم الحديث وفي طبيعة فهم الإنسان للكون. وكانت حجّة الكنيسة في ذلك الوقت أن الفلكيّ بنظريّته تلك أزال الأرض والبشر من مكانهما المركزيّ في الكون.
    وقبل عشرين عاما فقط، أعاد الفاتيكان الاعتبار لـ غاليليو الذي سبق وأن حوكم أمام محاكم التفتيش لأنه بنى آراءه على نظريات كوبرنيكوس.
    لقد احتاجت الكنيسة إلى كلّ هذا الزمن الطويل كي تعترف بخطئها وتكفّر عن ذنبها، فهل لمثل هذا الاعتراف من قيمة اليوم؟
    عدم توافق الدين مع العلم ليس بالشيء الجديد. وإحدى نتائجه المفجعة هي أن الآلاف من البشر دفعوا ثمنا باهظا لهذا التناقض عندما قُتلوا أو اُحرقوا وهم أحياء بعد اتهامهم بالزندقة.

    ❉ ❉ ❉


    يقول عازف الغيتار الاسباني الشهير اندريه سيغوفيا انه زار قصر الحمراء في غرناطة لأوّل مرة وعمره لا يتجاوز السنوات العشر. "في هذا المكان، فتحت عيني للمرّة الأولى على جمال الطبيعة والفنّ. كان الأمر بالنسبة لي أشبه ما بكون بدخول الجنّة".
    سيغوفيا يلقب عادة بالأب الروحي للغيتار الكلاسيكي. في صباه تعلّم العزف للفلامنكو. وعندما أصبح مراهقا كان قد تعلّم عزف موسيقى باخ وغيره من كبار المؤلّفين الموسيقيين.
    وظلّ سيغوفيا يعكف طوال حياته على تطوير تقنيات العزف على الغيتار. واستطاع في النهاية إخراج هذه الآلة من ردهات الاستقبال الصغيرة إلى فضاء حفلات الموسيقى الكبيرة.
    وقبل أربعين عاما، أي عندما كان سيغوفيا في سنّ الخامسة والثمانين، عاد مرّة أخرى إلى غرناطة ليعزف موسيقى الفيلم الوثائقي "أغنية الغيتار" الذي يحكي عن سيرة حياته.
    المقطع "فوق" يصوّر اندريه سيغوفيا وهو يعزف في قصر الحمراء مقطوعة كان يعتبرها إحدى مفضّلاته الموسيقية: استورياس لـ إسحاق ألبينيز.

    الخميس، يوليو 08، 2010

    ظاهرة العمى في فنّ بيكاسو


    العمى عاهة خطيرة. فالعينان هما نافذة الإنسان على العالم. والإبصار مهمّ لبقاء الدماغ نفسه. وبدون الإبصار، يبدأ الدماغ في نسيان العالم ويفقد الإنسان إحساسه بالواقع.
    الأدب والفنّ الغربيان اهتمّا بظاهرة العمى منذ القدم. الأديب الأرجنتيني جورجي بورخيس عانى من العمى التامّ لبضع سنوات. ووصف تجربته تلك في بعض كتاباته. وقد حرمه العمى من رؤية جميع الألوان، وفي طليعتها الأحمر والأسود. وكان يرى الليل على هيئة ضباب باهت من الأزرق والأخضر.
    والروائي البرتغالي خوسيه ساراماغو كتب هو الآخر رواية عن مدينة يتعرّض سكّانها للعمى ولا يبقى منهم سوى شخص واحد مبصر.
    والفيلسوف الفرنسي دينيس ديديرو ألّف كتابا مشهورا بعنوان "رسالة حول العميان" تطرّق فيه إلى العمى بمعناه الرمزي والمجازي.
    في العصور الوسطى، كان الرسّامون يصوّرون العمى على انه مظهر من مظاهر ضعف الإنسان أمام جبروت الله أو عقوبة من الله على آثام وخطايا الإنسان. وبطبيعة الحال كان الهدف من ذلك تكريس الأفكار المسيحية وتذكير الإنسان بما يجب أن يكون عليه حال المؤمن.
    في عصر النهضة اختفت الحمولة الدينية لمفهوم العمى وأصبح الإبصار رديفا للمعرفة، بدونه لا يستطيع الإنسان أن يبصر ومن ثمّ أن يعرف. رمبراندت رسم العميان استنادا إلى القصص الدينية، لكنه كان في لوحاته يتأمّل معنى ظاهرة العمى في زمانه.
    وإحدى المشاكل التي واجهها الرسم في تصويره لهذه الظاهرة هي صعوبة تمثيل العمى صوريّا، لأنه شيء تجريدي صرف وليس له سمات جسدية كتلك التي تميّز أشكال الإعاقة الأخرى.
    من أشهر الرسّامين الذين صوّروا العمى في لوحاتهم كلّ من آنغر ومونكاتشي ودافيد وبيتر بريغل وبُوسان. ومن الشخصيّات التاريخية التي ارتبطت بالعمى وتناولها الرسم كلّ من هوميروس وشمشون وبيليساريوس والشاعر جون ميلتون مؤلّف رواية الفردوس المفقود.
    في القرن العشرين أصبح الرسّامون يستخدمون العمى كرمز للجهل أو العجز أو الضعف وفقدان الإنسان طريقه. وكثيرا ما كان يُصوّر الأعمى كشاعر أو موسيقيّ أو فيلسوف. الرسّام الاسباني بابلو بيكاسو اشتهر بأنه أكثر فنّان في القرن العشرين رسم العميان في لوحاته. وكان العمى موضوعا لعب دورا مهمّا في أسلوب بيكاسو المميّز خلال ما عُرف بالمرحلة الزرقاء.
    جميس ريفين وجوناثان بيركنز يناقشان في المقال المترجم التالي ظاهرة العمى في لوحات بيكاسو من منظور سيكولوجي وطبّي وجمالي.

    يُعتبر بابلو بيكاسو أهمّ رسّام ظهر في القرن العشرين. ومن المستحيل دراسة تطوّر الفنّ الحديث دون الإشارة إلى اسمه وإسهاماته. كان بيكاسو فنانا فريدا من نوعه. وقد عُرف عنه غزارة إنتاجه. فقد رسم أكثر من عشرين ألف لوحة خلال 75 عاما. كما انه أكثر رسّام تحدّث عنه النقاد وعن أعماله.
    عندما كان بيكاسو ما يزال مراهقا، قام بعدّة زيارات إلى باريس عاصمة الفنّ في العالم آنذاك، حيث عرض فيها لوحاته ورسوماته. وخلال السنوات الأولى من حياته ظهرت ملامح شخصيّته القوية. كان بيكاسو ينظر إلى نفسه كفنان بطولي اقرب ما يكون إلى سوبرمان نيتشه. وفي وقت متأخّر من عام 1901 اخذ فنّه منعطفا مفاجئا عندما بدأ رسم لوحات مرحلته الزرقاء ذات اللون الأحادي. هذه الأعمال يسهل التعرّف عليها بألوانها الزرقاء وأشخاصها الحزانى.
    وفي عدّة لوحات زيتية من هذه المرحلة يظهر العمى كفكرة. المزاج الحزين المكتئب في تلك الأعمال ربّما كان ردّ فعل على موت صديقه المقرّب وزميله الرسّام كارلوس كاساغيما الذي قضى إثر قصّة حبّ فاشلة.
    صور العمى تعود في الأساس إلى اليونان القديمة. وقد اشتهر هوميروس نفسه بكونه شاعرا أعمى. في الفنّ والأدب الاسباني، كان الشاعر الأعمى يتطوّر إلى عازف غيتار أعمى. المتسوّلون العميان كان منظرهم مألوفا في شوارع اسبانيا طوال قرون. الفنان فرانشيسكو دي غويا رسم عدّة لوحات عن موضوع العمى. وبيكاسو رسم وحفر أعمالا ترتكز على نفس الفكرة. وقد تكرّر هذا في العديد من المرّات خلال المرحلة الزرقاء.
    ومن حين لآخر كان يعود إلى صور العميان، مثل لوحته التي صوّر فيها كائن "مينوتور" أعمى.
    الاستخدام الواسع النطاق للون الأزرق لم يكن احد اختراعات بيكاسو. فقد كان هناك قبله تاريخ طويل من توظيف هذا اللون في الرسم. أسلافه المباشرون في هذا الأسلوب كانوا الرسّامين الأسبان والفرنسيين الذين كانوا يستخدمون الأزرق للتأكيد على المشاعر الانفعالية التي تعبّر عن الحزن واليأس. كما ظهر اللون الأزرق في عدد من الأعمال الفنية في نهاية القرن التاسع عشر.
    وأثناء حياته الفنّية، قام بيكاسو بدمج أساليب فنّانين آخرين في لوحاته. الآخرون كانوا يضعون الأزرق بطريقة حادّة. وهو كان يسرق من كلّ رسّام قديم أو معاصر ما يناسبه. تقول فرانسوا غيلو، إحدى عشيقاته، إن بيكاسو قال لها ذات يوم: عندما يكون هناك شيء ما يستحقّ السرقة، فإني اسرقه"!. لوحاته الزرقاء تدين أيضا ببعض الفضل إلى إل غريكو الذي يظهر تأثيره واضحا في الأيدي والوجوه الطويلة لشخوص بيكاسو.
    كان بيكاسو يجد في الأزرق لونا يتوافق مع موضوعاته عن الفقراء والمعوّقين والمضطهدين. البعض قالوا إن شخصياته التي تعاني من الفقر إنما تعكس أسلوب حياته. في ذلك الوقت، لم يكن بيكاسو قد أصبح شخصا غنيّا. لكنه لم يكن مختلفا كثيرا عن بقيّة أقرانه في الوسط الفنّي والأدبي. فقد كان يتلقّى دعما ماليا من عائلته، كما استفاد ماليّا من معارضه الناجحة آنذاك.

    كان بيكاسو وقتها ما يزال شابّا يجرّب أسلوبه الذي ثبت انه كان فعّالا. وهناك احتمال أنه كان يتماهى مع الأفراد التعساء الذين كان يرسمهم. تعليقاته المتناقضة عن باريس واضحة في رسالة كتبها إلى صديقه الفنان والشاعر ماكس جيكوب. وإذا كان بيكاسو قد اخبر أيّا من أصدقائه لماذا كان العمى مهمّا بالنسبة له، فإن ذلك ممّا لم يصل إلى علمنا. لكننا نعرف أن نظر والده في ذلك الوقت كان يتدهور باستمرار.
    وقد حاول علماء النفس إخضاع حالة بيكاسو للدراسة والتحليل. كارل يونغ، مثلا، درس لوحاته عن قرب وتوصّل إلى انه كان يعاني من اضطراب نفسي وانفصام في الشخصية.
    العمى مشكلة خطيرة بالنسبة إلى رسّام. وفي سيرته عن بيكاسو التي نُشرت مؤخّرا ولقيت اهتماما واسعا، لاحظ ريتشاردسون أن بيكاسو كان في بيته في برشلونة مع والديه عندما رسم بعض الأشخاص العميان في مرحلته الزرقاء. ورجّح المؤلّف أن اهتمام بيكاسو بتصوير الفكرة في لوحاته قد يكون مردّه انه كان يخشى العمى كثيرا في حياته وقد تكون تلك طريقته لحماية نفسه من تلك العاهة.
    وأكثر مرّة اقترب فيها بيكاسو من مناقشة العمى كانت في إشارة غامضة منه تعود إلى منتصف الثلاثينات من القرن الماضي عندما قال: في الحقيقة، الحبّ هو ما يهمّ في النهاية. يجب أن يقتلعوا عيون الرسّامين كما يفعلون بعيون العصافير لجعلها تغنّي أفضل". رولاند بنروز الذي سجّل هذه الكلمات كتب يقول: لقد لازم رمز الرجل الأعمى بيكاسو طوال حياته وكأنه كان يتقرّب منه ليهديه رؤيته الفنّية الفريدة".
    هذه الاقتباسات تصلح لأن تكون دليلا على أن بيكاسو كان يواجه ويسمّي مخاوفه. غير أنها لا تشرح معنى بورتريهاته عن العميان.
    رسومات بيكاسو عن العميان غامضة ومن الصعوبة بمكان تشخيصها أو فهمها.
    ورغم أن اسم الموديل في لوحته لا شليستينا معروف، إلا أننا لا نعرف ما الذي تسبّب في ابيضاض قرنيّتها التي يتباين لونها بشكل واضح مع الأزرق الذي يهيمن على بقيّة هذه اللوحة. هذه المرأة وحيدة العين هي نفسها بطلة رواية بنفس الاسم كتبها فرناندو دي روهاس وتعتبر الآن ثاني أهمّ عمل أدبي اسباني بعد دون كيخوت لـ ثيرڤانتِس .
    سبب ضمور حدقة العين في لوحة بيكاسو الأخرى عازف الغيتار العجوز هو أيضا غير معروف. منطقة العين في هذه اللوحة تحيطها ظلال زرقاء قاتمة، وهي سمة ميّزت العديد من لوحات المرحلة الزرقاء.
    وأيضا لا نستطيع تحديد سبب ضعف بصر الرجل الذي يظهر في لوحة بيكاسو بعنوان طعام الرجل الأعمى. بيكاسو وصف ما كان يرسمه في هذه اللوحة بطريقة موجزة عندما قال: إنني ارسم رجلا ضريرا يجلس إلى طاولة ويمسك ببعض الخبر بيمينه بينما يبحث بيساره عن آنية النبيذ".
    لم يكن بيكاسو يرسم الأشخاص بتفاصيل كثيرة، لكنه كان ميّالا لجعلهم يبدون مثاليين. وقد اخذ عن إل غريكو الأيدي والجذوع والرؤوس الطويلة ووضعها في بيئة بدايات القرن العشرين.
    وهناك من النقاد من تحدّثوا عن "رؤيا داخلية روحية" في مشاهد الأشخاص العميان المنعزلين الذين رسمهم بيكاسو بهذه الطريقة.
    آخرون قالوا إن تلك اللوحات قد تكون انعكاسا لعزلة بيكاسو نفسه في تلك الفترة.

    وخلال المائة عام الماضية كان هناك العديد من التعليقات النقدية التي تناولت لوحات بيكاسو تلك. لكن معناها الكامل ما يزال غير واضح إلى اليوم. الرسّام نفسه لم يقدّم أي مساعدة قد تعين على فكّ رموزها. لكنّنا نعتقد أن الشخصيات العمياء في المرحلة الزرقاء لم تُرسم لاستدرار عطف وشفقة الناظر فقط. ومن المرجّح أن بيكاسو كان يجد في حضور الحواسّ الأخرى بعض ما يعّوض شخوصه عن فقدان نعمة البصر. الأشكال الطويلة والأيدي الرفيعة في لوحتي العازف العجوز وطعام الرجل الأعمى قد تكونان وسيلتين فاعلتين في خلق الموسيقى وفي لمس الطعام.
    في لوحة لا شليستينا، ربّما كان بيكاسو يستكشف قوّة العمى من خلال تصويره عينين جنبا إلى جنب، ترمز إحداهما للإبصار والأخرى للعمى. غير أن المفارقة هي أن العين العمياء هي التي تجذب انتباه الناظر أكثر من العين السليمة.
    أسلوب بيكاسو في لوحات المرحلة الزرقاء يمكن اعتباره نوعا من التأمّل في ظاهرة العمى. وفي هذه الأعمال يحاول بيكاسو استكشاف الإمكانيات التعبيرية المتأتّية عن الاقتصاد في استخدام الألوان.
    رؤية أعمال بيكاسو المبكّرة قد لا تمنح متعة مثل تلك التي تحسّ بها وأنت ترى أعمال الانطباعيين. غير أنها تستحقّ أن تُرى وأن تُحترم بالنظر إلى ما سيرمز إليه بيكاسو في ما بعد باعتباره المثال الأعلى لفنّ الحداثة.
    إن الفنّ الأكثر أهميّة قد يصعب عليك فهمه ويمكن أن تنظر إليه بانزعاج. وبنفس الوقت، هناك فنّ قد تغريك جاذبيته السطحية، مع أنه قد يبدو بعد النظرة الأولى خاليا من أيّ معنى ولا ينطوي على أيّ أهمية على الإطلاق.
    لقد جعل بيكاسو تقييم فنّه صعبا. فقد كان يحتقر محاولات تحليل أعماله وكان يقول انه يرسم ما يراه والأشياء التي كانت تحرّك مشاعره. "ارسم ما أجده، لا ما ابحث عنه. إن ما تفعله هو المهم وليس ما كنت تنوي فعله".
    ألوان بيكاسو وموضوعاته أصبحت أكثر إشراقا مع نهاية عام 1904 عندما دخل مرحلته الزهرية. الألوان أصبحت أكثر دفئا والموضوعات أكثر إثارة للبهجة والسعادة.
    لوحات المرحلتين الزرقاء والزهرية نالت قبول النقاد. لكن لو أن بيكاسو توقّف عن الرسم عند تلك النقطة لتذكّره التاريخ كرسّام من الدرجة الثانية أو الثالثة لم يبلغ مرحلة النضج الفنّي الكامل.
    المرحلة التالية من حياته الفنية، خاصّة التكعيبية، هي التي حقّقت لـ بيكاسو الشهرة على مستوى العالم وجعلت منه أهمّ رسّام في القرن العشرين.

    Credits
    researchgate.net

    الثلاثاء، مايو 25، 2010

    مدرسة أثينا


    خلال العصور الوسطى، كان الناس في أوربّا يؤمنون بأن كلّ من عاش قبل ظهور المسيح سيكون مصيره النار لا محالة! لكنْ وحسب هذه الفكرة، فإن المفكّرين والفلاسفة الذين عاشوا في العصور الوثنية، مثل أفلاطون وأرسطو وزارادشت، سيكونون في وضع أفضل حالا، إذ سينتهي بهم الأمر في المنطقة المسمّاة "البرزخ" والتي يقال إنها تقع في منتصف المسافة بين الجنّة والنار.
    في لوحته المشهورة مدرسة أثينا، يحاول رافائيل أن يقول أن لا فرق بين المفكّر "أو الفيلسوف"، سواءً عاش قبل المسيحية أو بعدها، طالما انه يؤمن بالقيم الإنسانية المشتركة والجامعة مثل الحقّ والخير والحبّ والحكمة والجمال.
    جوزيف فيلن يقدّم في هذا الموضوع المترجم قراءة جديدة للوحة التي قيل إنها عبارة عن تاريخ مصوّر للفكر الفلسفي الغربي من وجهة نظر أفلاطونية.

    أحد أهمّ الدروس التي يتعلّمها الإنسان أثناء الدراسة الجامعية هو المسافة الكبيرة التي تفصل الشخصيات العظيمة في تاريخ الفلسفة عن بقيّة الذين جاءوا من بعدهم. فـ سقراط وتوما الاكويني وسبينوزا، على سبيل المثال لا الحصر، يتبوّءون مكانة أعلى بكثير من الفلاسفة الذين أتوا لاحقا. هؤلاء العمالقة يقفون متميّزين كأبطال ومستكشفين جريئين ومؤسّسين ومشرّعين للأساليب الجديدة ونظم الفهم.
    إن كارل ماركس لم يبتعد عن الحقيقة عندما قال ذات مرّة إن الفلاسفة حتى الآن سعوا فقط لأن يفهموا العالم، مع أن الهدف الأساسي هو تغييره. وفي الحقيقة فإن الفلاسفة حاولوا دائما أن يفعلوا الأمرين معا.
    والمثقّفون والعلماء والأكاديميون الذين يتبنون الفكر الطليعي الفلسفي يسعون دائما إلى تعميم الفكرة الجيّدة ونشرها وجعلها ممنهجة.
    وبهذه الطريقة غيّر الفلاسفة، مع مرور الوقت، العالم. وبناءً عليه، فإن التاريخ الحديث مدين بالكثير من العرفان لأوائل الفلاسفة الحديثين العظام مثل بيكون وهوبس وديكارت ولوك وسبينوزا.
    وهذا ينطبق على أفلاطون وأرسطو، وبقيّة الفلاسفة العظماء القدامى الذين ترسّموا خطاهما. وإذا كانت الفلسفة لا تبدو مهمّة بالنسبة للإنسان العادي اليوم، فإن ذلك يعود إلى أن القليلين هم من يدرسونها دراسة كافية. ثم هناك حقيقة أن الفلسفة أصبحت مجرّد فرع متخصّص جدّا من العلوم ولم تعد طريقة حياة.
    لكن في عصور الفنّ العظيم، كان الرسّامون والنحّاتون ينظرون إلى الفلاسفة نظرة إكبار وتقديس. وكانوا يترجمون تلك النظرة إلى صور فنّية.
    رمبراندت كان أحد هؤلاء. في لوحته "أرسطو يتأمّل تمثالا نصفيا لـ هوميروس" ولوحته الأقلّ شهرة "الفيلسوف المتأمّل"، يتعامل رمبراندت باحترام وإجلال مع ما يرمز إليه الفيلسوف وما تمثّله حياته.
    كما رسم جاك لوي دافيد موت سقراط نقلا عن رواية أفلاطون عن الحادثة. وصوّر الرسّام الفيلسوف وهو يشرب السمّ بينما يستمرّ في حثّ تلاميذه الذين يستبدّ بهم الحزن على التمسّك بالحرّية والثبات على المبدأ.
    دافيد يظهر لنا انه في مواجهة الفيلسوف للموت بشجاعة، يتكرّس الإيمان بالحياة التي تسعى لكشف وإجلاء الحقيقة.
    من جهته، يربط الرسّام جوزيف رايت الفلسفة بالروح العلمية الحديثة في لوحته بعنوان تجربة على طائر. هذا العمل الرائع يذكّرنا بأن الفلسفة يمكن بالفعل أن تغيّر العالم من خلال الغوص في الظواهر الطبيعية بغية تحليلها وفهمها.
    غير أن عصر النهضة كان أفضل المراحل التاريخية التي ازدهر فيها الرسم الفلسفي. في هذا الوقت بالذات، أعادت أوربّا المسيحية اكتشاف وفهم معنى العصور الوثنية القديمة.
    الرسّام رافائيل الذي يصفه فاساري بأمير الرسّامين كان شابّا عندما انتقل إلى فلورنسا لدراسة الرسم. وأثناء إقامته هناك تعلّم على يد اثنين من كبار معاصريه من الرسّامين: ليوناردو دافنشي ومايكل انجيلو.
    عظمة هذين المعلّمَين لم تؤدّ إلا إلى شحذ طموحات رافائيل التي اقترنت بموهبته الهائلة التي أنتجت واحدة من أعظم اللوحات في تاريخ الفنّ الغربي.
    هذه اللوحة الموجودة اليوم في الفاتيكان سُمّيت "مدرسة أثينا". وظلّت تحمل هذا الاسم طوال الـ 300 عام الماضية لعدم وجود اسم أفضل. وهي تصوّر اجتماعا لأعظم فلاسفة العالم القديم.
    وللمرّة الأولى في الفنّ الغربي يستطيع رسّام أن يمثّل الوحدة المتناغمة الكامنة في الاهتمامات المتنوّعة للعقل الإنساني من خلال تصوير بعض الأفراد الأكثر مثالية الذين يمثّلون التقاليد العقلانية وجَمْعِهم في مكان أسطوري واحد وفي زمن واحد.
    مدرسة أثينا لوحة تحمل اسما غامضا. فرغم حضور بعض الأثينيين البارزين مثل سقراط وبعض تلاميذه مثل زينوفون وألسيبايديس وديوجين، إلا أن في اللوحة أشخاصا كثيرين من غير أهالي أثينا. والأكثر إثارة للاهتمام في اللوحة هو حضور الفيلسوف الفارسي القديم زارادشت الذي عاش قبل زمن أثينا بوقت طويل، وكذلك حضور ابن رشد المفكّر المسلم الذي علّق على أفكار أرسطو والذي عاش بعد فلاسفة أثينا بقرون طويلة.
    وكما يبدو، فإن مدرسة أثينا بخصائصها الأخلاقية والعقلانية يمكن أن توجد في أمكنة وأزمنة متباعدة جدّا. ورافائيل يريدنا أن نرى كم أن العقل متعدّد الثقافات حقّا وعابر للتاريخ أيضا.
    إن الفلسفة، كما كان القدماء يرونها، لم تكن نشاطا منعزلا. كما أن الفيلسوف لا يجب أن يعتزل الحياة ويبتعد عن مشاكل الناس العاديين. لأن الفلسفة تُعنى في الأساس بالبحث عن معنى للحياة يعين الإنسان على تلمّس طريقه وفهم واقعه.
    ورافائيل يؤكّد على هذا من خلال تصويره للمبنى الضخم الذي يجمع هؤلاء الأشخاص كرمز للتناغم والتوافق الصحّي بين قوى الروح والعقل.



    في هذه الصورة نجد ترتيبا دقيقا للأشخاص. وقد ترجم الرسّام فكر العصور القديمة وحوّله إلى تظاهرة حيّة. وذروة المشهد الذي تمثّله اللوحة يقع في منتصفها، وبالتحديد في الهيئة الرائعة لكلّ من أفلاطون وأرسطو. فهما يبدوان واثقين ومتعافيين بينما يحمل كلّ منهما احد كتبه في يده. أفلاطون يحمل كتاب تيميوس وأرسطو كتاب الأخلاق.
    وقد أراد رافائيل من خلال الحركات والإيماءات الدراماتيكية لكلّ من الشخصيتين المركزيتين في اللوحة أن يرمز إلى الطبيعة المتسامية والميتافيزيقية لتفكير أفلاطون، وإلى الطبيعة العملية والواقعية لتعاليم أرسطو.
    أفلاطون كان معلّما لـ أرسطو. وكما هو الحال دائما، لم يكن التلميذ على وفاق دائم مع معلّمه. لكنّ أرسطو كان يدرك أن أستاذه مهتمّ بالماورائيات والعالم الآخر، لدرجة انه كان يترك تلاميذه أحيانا نهباً للتكهّنات.
    رافائيل أراد أن ينبّهنا من خلال اللوحة إلى الفروق المهمّة بين أفكار كلّ من أفلاطون وأرسطو من خلال عنواني الكتابين اللذين وضعهما في يد كلّ منهما. الأقواس الكبيرة التي تنتشر فوق الشخصيات في اللوحة تُظهر أن هناك جامعة شاملة تضم كلّ المدارس الفكرية وتنضوي تحتها جميع التخصّصات المختلفة وتتعايش ككلّ متناغم.
    لكن كيف تحقّق هذا العمل المدهش؟
    رافائيل كان عمره لا يتجاوز السابعة والعشرين عندما أوصى به للبابا يوليوس الثاني كبير مهندسيه المعماري برامانتي. وقد طلب الأخير من الفنّان أن يرسم لوحة على جدار مكتبة البابا.
    في العصور القديمة كانت المكتبات تُزيّن بصور الشعراء والفلاسفة. ويوليوس الذي كان مشهورا بحبّه للأشياء القديمة أراد أن تُزخرف المكتبة الكبيرة بنفس الأسلوب. لكن لم يكن لـ رافائيل خبرة كبيرة في رسم الجداريات الضخمة. غير انه كان هناك نموذج بارز في الجوار: رسومات مايكل انجيلو الثورية في سقف كنيسة سيستين.
    من أين جاءت رافائيل فكرة تخطيط هذه اللوحة؟
    المؤرّخون يختلفون حول هذه المسألة. لكن هناك من يربط اللوحة بكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي.
    في المجلّد الرابع من الجحيم، وقبل أن ينزل دانتي وفرجيل إلى أعماق الجحيم، يقابلان الوثنيين من أصحاب الفضائل والخصال الإنسانية السامية وبينهم أبطال وشعراء وفلاسفة. هؤلاء، رغم أنهم عاشوا في عصر سابق على ظهور الأديان التوحيدية، إلا أنهم كانوا يعيشون حياة صحّية، إذ كانوا يتّبعون فطرتهم السليمة ويمشون على هدي من نورهم الخاصّ.
    ومن المرجّح أن يكون رافائيل قد استخدم هذه القصّة في رسم رؤيته التي ضمّنها اللوحة. غير انه خالف دانتي، فلم يضع الأشخاص في مسار سُفلي إلى الجحيم وإنما في رؤية سماوية.
    الفلاسفة في اللوحة يسعون إلى معرفة الحقيقة في جنّة تحفّها السماء والضوء، وهو أمر يتناقض مع الظلام والرعب اللذين يستحضرهما الذهن عندما تُذكر كلمة الجحيم.
    هذه اللوحة لن تكتشف فخامتها وبهاءها ما لم ترها عيانا. لكن عليك أن تنتظر طويلا قبل أن تتمكّن من بلوغ المكان. وعندما تدخل الغرفة الموجودة بداخلها، لن يكون أمامك سوى دقائق قليلة لرؤية اللوحة بسبب صغر مساحة الغرفة وكثرة الزوّار.
    أمّا إن كنت تريد دراسة اللوحة فهي موجودة على الانترنت. وهناك عدد من المواقع التي توفّر صورا ممتازة للوحة بعد ترميمها.

    Credits
    study.com

    السبت، ديسمبر 05، 2009

    ربّات الإلهام

    لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
    وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
    ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
    هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
    اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
    الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

    في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
    في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
    كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
    في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
    غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
    ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
    اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
    آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

    دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
    مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
    معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
    الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

    لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
    الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
    والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
    ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

    إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
    ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
    البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
    وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

    آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
    قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
    ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
    أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
    سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

    بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
    غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
    والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
    ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
    إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

    اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
    بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

    لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
    الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
    رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
    الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
    سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
    يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
    فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

    الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
    الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
    لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
    كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
    وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

    عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
    دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
    ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


    Credits
    theguardian.com
    wsj.com