:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماتيس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماتيس. إظهار كافة الرسائل

الخميس، أبريل 17، 2025

الغرفة الحمراء


من أشهر العبارات المنسوبة إلى هنري ماتيس قوله: هناك دائما زهور للذين يريدون رؤيتها". والمعنى المجازي لكلامه هو أن هناك الكثير من الأشياء الرائعة التي تملكها ولا يملكها الآخرون، لكنك لا تراها. وأنت تفتقدها أو لا تعرف أنها موجودة لانشغالك بأشياء أخرى. وعندما تُلقي نظرة من حولك، فهذا قد يساعدك على الشعور بالامتنان لها ويذكّرك بأنها مؤقّتة وأنك تحتاج لأن تقدّرها وتعرف أهميّتها الآن وقبل أن تختفي.
عندما نستكشف فنّ ماتيس أكثر، فإننا لا نكتشف رؤاه الثورية عن اللون والشكل فحسب، وإنما أيضا نتعرّف على أفكاره ورؤيته للحياة بشكل عام. كان شغوفا بالسفر، وكان للأماكن التي زارها تأثير مهم على فنّه. وقد ترحّل كثيرا في أنحاء فرنسا وركّز بشكل خاصّ على الجزء الجنوبي منها الذي ترك علامة واضحة على إدراكه للضوء والألوان.
في السيرة التي كتبتها هيلاري سبيرلينغ لماتيس، تنقسم حياته الى فصول تحمل أسماء الأماكن التي عاش فيها. وهذا يُثبت أنه كان يستمتع بالانتقال من مكان لآخر أثناء بحثه عن إلهام لأعماله.
وعندما كان مقتدرا ماليّا، ذهب إلى الجزائر وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والمغرب، كما زار روسيا وإنغلترا وأمريكا. وأمضى بعض الوقت في تاهيتي، حيث أُعجب كثيرا بالبحيرات وبالحياة البرّية الغريبة هناك. وكانت تلك الرحلات مصدر إلهام لبعض أهمّ أعماله.
وفي لندن، درس أعمال رسّام المناظر الطبيعية الرومانسي وليام تيرنر الذي كان معروفا باستخدامه البارع للضوء والألوان لخلق أجواء وأمزجة.
سافر ماتيس أيضا إلى كورسيكا والكوت دازور، حيث أصبحت ألوانه أكثر إشراقا. وقد عاش وعمل مع كتّاب وفنّانين بارزين، مثل جان كوكتو وراينر ماريا ريلكا وكلارا ويستهوف وأوغست رودان.
كان يحبّ الطبيعة والحيوانات، وعلى الأخصّ القطط. كما كان محبّا للطيور وكان لديه حمام أليف كان يشتريه من الباعة على نهر السين. وظهرت بعض هذه الحيوانات والطيور في فنّه.


في مرسمه في باريس الذي تطلّ نوافذه على حديقة دير، رسم ماتيس في عام 1908 أحد أهمّ أعماله في الفترة من 1908 إلى 1913. وكانت اللوحة "فوق" مخصّصة لتزيّن غرفة الطعام في قصر جامع التحف الروسي المشهور سيرغي شتشوكين في موسكو. كان الأخير تاجر أقمشة وراعيا وفيّا لماتيس. وقد كتب للأخير في عام 1910 يقول: الجمهور ضدّك لكن المستقبل لك".
تُصوّر اللوحة، التي تَغيّر اسمها فيما بعد الى "الغرفة الحمراء"، منظرا داخل بيت لطاولة مغطّاة بقماش أحمر، وفوقه أوانٍ فيها فواكه وحلويات. وخلف الطاولة نافذة مفتوحة على منظر طبيعي، بينما يظهر على الجدار ورق حائطي مرسوم عليه أنماط وزخارف معقّدة. ويبدو قماش الطاولة الأحمر الفاخر بزخارفه الزرقاء النابضة بالحياة وكأنه يغوص في الحائط ويغطّي على الفضاء الثلاثي الأبعاد للغرفة.
وللوهلة الأولى، يبدو المنظر غارقا في اللون الأحمر الطاغي، لكن عندما نتمعّن فيه أكثر سنبدأ في فهم التناغم الذي يحقّقه ماتيس باختياره المدروس والمقصود للألوان والأنماط.
استخدام الرسّام للون الأحمر في الصورة جريء للغاية، إذ يغطّي كامل اللوحة تقريبا. ويقال إن اسمها كان في الأصل "تناغم باللون الأزرق". لكن ماتيس اضطرّ لأسباب إبداعية لتحويل اللون الأزرق إلى أحمر يشعّ طاقة وحياة، وأثبت أن تصرّفه ينمّ عن دراية وذكاء. فلم يُضِف اللون الأحمر حيوية ووهجا إلى المنظر فحسب، بل لقد أدّى الى تسطيح المنظور، ما خلق تأثيرا رائعا ثنائي الأبعاد.
المنظور المسطّح يعزّز الشعور بالتناغم، وهذه سمة أخرى مميّزة لأعمال ماتيس. وبدلاً من خلق تصوير واقعي للمساحة، ركّز الرسّام على التوازن العام للتوليف باستخدام اللون والنمط بغرض توحيد عناصر اللوحة المختلفة، وهذه شهادة على رؤية الفنّان الثورية واحتفال بروحه المبتكِرة وقدرته على إدراك العالم وتصويره له بطرق جديدة ومثيرة للاهتمام.
الاستخدام الجريء للألوان، بالإضافة الى المنظور المسطّح ووحدة الشكل، ملمحان يحملان تحدّيا لمعايير الرسم التقليدية. وقد أصبحت اللوحة فيما بعد مصدر إلهام للعديد من الفنّانين وساهمت بشكل كبير في تطوير الفنّ الحديث.

Credits
henrimatisse.org
lrb.co.uk

الجمعة، نوفمبر 10، 2017

ناسج الأحلام


أينما نظرت في لوحات هنري ماتيس ستجد أنسجة وأقمشة وأنماطا من كلّ شكل ولون. كان يحيط نفسه بكلّ شيء: أزهار ونباتات حيّة، اسماك في أحواض، عصافير في أقفاص، بلاط مزخرف وأواني وأشكال جبسية مختلفة وأقمشة ونُسُج ومطرّزات من مختلف الأنماط والأشكال والألوان.
وقد جمع الرسّام كلّ هذه الأشياء خلال أسفاره العديدة وكان يحتفظ بها باعتبارها موارد مفيدة ولا غنى عنها لمكتبته البصرية. ثم وجدت طريقها إلى لوحاته ورسوماته التي يتداخل في نسيجها السجّاد والقماش الفاخر من كلّ شكل ولون.
كان رسّامون مثل فان غوخ وسيزان وفويار يستخدمون الأنماط والأنسجة الورقية والإيقاعية في لوحاتهم لتكثيف الإحساس الذي تمنحه صورهم للناظر. لكن ماتيس ذهب خطوة ابعد بإعادة إنتاج الأنسجة الناعمة والألوان البديعة للحرير والقطن والمخمل والتافتا والتطريز بطريقة لم يسبقه إليها احد.
لكن من أين جاء عشقه للأقمشة وألوانها وأنماطها المختلفة؟
ولد ماتيس ونشأ في بلدة في شمال فرنسا ملاصقة للحدود مع بلجيكا. وكانت البلدة مشهورة بصناعتها للأقمشة الفاخرة التي كانت تعتمد عليها شركات صنع الملابس في فرنسا.
وعائلة والده كانوا من النسّاجين. ومن هنا على الأرجح ولد حبّه للأقمشة. غير أن أهل بلدته لم يكونوا يهتمّون بالفنّ خارج صناعة النسيج. كانوا ينظرون إلى حرفتهم كمصدر للرزق فقط ولم يكونوا يعتبرون الأقمشة ذات صلة بالفنّ.
في سنّ العشرين، انتقل ماتيس إلى باريس. وفي مرحلة تالية استقرّ في جنوب فرنسا التي أحبّ ألوانها الساطعة ومناخها الدافئ.
وفي لوحاته الكثيرة التي رسمها طوال فترة اشتغاله بالرسم يمكنك أن تلاحظ استخدامه الوفير للأنسجة والتصاميم المختلفة. كما انه كان أيضا شديد الاهتمام بالموضة وبصناعة الأزياء في باريس. وكان يحتفظ على الدوام بمجموعة خاصّة من الملابس والأنسجة والإكسسوارات التي وجدها في الكثير من الأمكنة التي ذهب إليها.
والعديد من لوحاته تُظهر كيف كان ماتيس يوظّف تصاميم الأقمشة فيها. مثلا لوحته بعنوان حياة ساكنة مع سجّادة حمراء هي في الأساس عن الأقمشة وألوانها وأنماطها الزخرفية المتنوّعة.

ولوحته بعنوان شال مانيللا تُظهر ولعه بالملابس ذات الألوان القشيبة التي طالما جمعها. المرأة في هذه اللوحة تبدو كما لو أنها تستعرض ملابسها ذات الأنماط الزهرية والخضراء والحمراء والبنّية الجميلة.
أما لوحته بعنوان البلوزة الرومانية الخضراء فهي عن اللون الأخضر أكثر من كونها عن المرأة التي تظهر فيها. ومع ذلك بإمكانك أن تعرف أشياء عن شخصية هذه المرأة من الاسكتش البسيط الذي رسمه ماتيس لوجهها ولطريقة جلوسها.
وفي لوحة أخرى بعنوان ديكور وأزهار وطائرا ببّغاء صغيران ، يملأ الفنّان فراغ اللوحة بالأقمشة والأشكال المختلفة متذكّرا رحلته التي قام بها إلى المغرب عام 1912. غطاء المائدة الأصفر تستقرّ عليه ليمونتان وكوب شاي ومزهرية.
وفي نهاية المائدة قفص مذهّب بداخله طائرا ببّغاء بلون اخضر وأصفر. أيضا هناك الأنماط الجميلة على الأرضية والباب والجدار الخلفي. الأقمشة الكثيرة في هذه اللوحة تجسّد ذوق ماتيس في التصميم الداخليّ. والألوان الساطعة فيها هي أيضا تذكير بحبّه لمنطقة جنوب فرنسا.
وفي لوحته جارية جالسة مع خلفية زخرفية ، نرى الأقمشة والأشكال المختلفة تملأ الغرفة بالألوان. الأنماط على الجدار الخلفيّ تتناغم مع الأشكال الظاهرة على فستان المرأة، بينما الأشكال على الصحن والكأس تتوافق مع الأنماط الظاهرة عند قدميها. وإلمام ماتيس بهذه الأنماط لم يتحقّق إلا بعد زيارته إلى المغرب.
في لوحته ديكور مع كلب ، نرى المزيد من الأنماط التعبيرية والألوان القويّة التي تحمل سمات ألوان الرسّام من المرحلة الوحوشية. الأشكال البسيطة لخلفية اللافندر الرائعة تبرز منها أشكال مبسّطة لأوراق خضراء، وفرشاة الفنّان تضفي على المنظر مزيدا من الحيوية والتناغم.
وفي لوحة رداء ارجواني مع شقائق النعمان ، يبرهن ماتيس مرّة أخرى على براعته في استخدام الألوان والأنماط. الخطوط المرسومة على الرداء الأرجوانيّ تضاهي ديكور الجدار الفضّيّ والبرتقاليّ في الخلفية. وهذه الموجات اللونية الناعمة تتجانب معا في مقابل الخطوط السوداء والرمادية القويّة على الجدار وعلى الأرضية.
وفي لوحة حياة ساكنة: باقة ورد وطبق فاكهة ، يرسم ماتيس باقة ورد ناعمة من الألوان الأصفر والمشمشيّ والزهريّ. وبنفس النعومة يرسم الأشكال السوداء على ورق الحائط وعلى أنماط الأزهار على المائدة. واللافت أن الرسّام ضمّن المنظر طبق فاكهة مع حمضيات، في ما يبدو وكأنه إشادة بزميله الحداثيّ الآخر بول سيزان.

عندما انتقل ماتيس إلى نيس حوّل محترفه إلى ما يشبه المسرح الصغير. ولطالما ألبس عارضاته الفساتين وأغطية الرأس العربية وبناطيل الحريم والثياب المغربية المقصّبة ذات الأزرار الصغيرة.
وكان يُجلسهنّ في دواوين مليئة بالسجّاد والأرائك والطاولات ذات الأنسجة المشرقية الجميلة، مع مشربيات وستائر مصرية يمكن تمييزها من ألوانها الخضراء والحمراء الغميقة. وفي بعض لوحاته الأخرى، نقل صورا لأقمشة أخرى من رومانيا وطنجة وإيران والجزائر وتركيا وغيرها.
لوحته بعنوان قماش مائدة ازرق تصوّر حياة ساكنة تقليدية مع إبريق قهوة وطبق فاكهة. لكن أهمّ تفصيل فيها هو قماش المائدة الذي كان من ضمن أشيائه الخاصّة، وهو عبارة عن قطعة من الحرير الفرنسيّ يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر وتتميّز بلونها الأزرق مع موتيف متكرّر عبارة عن سلّة أزهار. خلفية القماش في اللوحة تصبح خضراء بلون البحر وكأن اللوحة بأكملها هي عبارة عن قطعة قماش.
وبقدر ما رسم ماتيس من أشياء فإنه أيضا كان يرسم مناظر. ونحن نرى الأنماط والألوان والأقمشة والتطريز كصفات للأشياء التي كان يرسمها وللوحة نفسها، كما لو انه كان يتعامل مع أكثر من واقع بنفس الوقت.
لوحات ماتيس هذه التي تحتشد بالأقمشة والنسيج والأنماط والألوان الزاهية ترسم صورة لرجل كان في حالة سلام مع العالم من حوله ومع نفسه. وصور الرسّام الفوتوغرافية الموجودة على الانترنت يظهر فيها بهيئة رجل مهذّب ذي لحية بيضاء يجلس وسط الحمام والقطط في غرفة مليئة بالضوء وعلى جدرانها صور لنقوش وأنماط جميلة.
لكن هذه الصورة لا تعكس طبيعة ماتيس بالضرورة. فقد كان إنسانا عصبيّا وعرضة للمرض بشكل دائم. لكن يبدو أن فنّه المتفرّد كان ثمرة للمتعة التي كان يشعر بها وهو ينظر إلى الجانب المشرق من الحياة، وفي نفس الوقت كان انعكاسا لاحتفائه الذي لم تكن تحدّه حدود بالضوء واللون والجسد والشكل وبتفاصيل الحياة بشكل عام.

Credits
henrimatisse.org
artdaily.com

الخميس، أغسطس 22، 2013

رينوار: الأعوام الأخيرة

"لا تضع على صدري حجرا ثقيلا. أريد أن اذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت". كان هذا آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان قبيل وفاته.
وعندما توفّي الفنّان في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كانت آخر كلمات قالها وهو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها: الآن بدأت افهم شيئا ما".
قبر رينوار يُميّزه شاهد بسيط من الرخام في مقبرة ايسوا. في هذا المكان، يرقد الرسّام وإلى جواره كلّ من زوجته ألين وأبنائه الثلاثة. القبور بسيطة كبساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا لفنّه ولتصوير السعادة.
وما يزال بالإمكان زيارة ورشته المتواضعة في الجزء الخلفيّ من حديقة منزل العائلة الذي تشغله الآن صوفي رينوار، إحدى حفيداته. المحترف فارغ إلا من كرسيّ وحامل لوحة كان رينوار يستخدمهما عندما أصبح معاقا. ويتفرّع عن الورشة عدّة مسارات كان الفنّان يسلكها، إمّا مشيا على الأقدام أو بالدرّاجة الهوائية، عندما يبحث عن موضوعات ليرسمها.

مناظر رينوار لا تخلو من صور لأطفال وأزهار ونساء يتحمّمن في غابات مضيئة أو أنهار من الفضّة. موهبته المبكّرة أهّلته لحياة مهنية طويلة كانت تتخلّلها فترات مرض، إذ كان يعاني من الروماتيزم الذي منعه من تحقيق ما كان يصبو إليه في نهايات حياته.
تصويره اللذيذ والغنّي بالألوان للرقصات والنزهات والأطفال المبتسمين والوجوه الكاملة والأجساد الممتلئة للنساء كانت تعكس قيم وأفكار الانطباعية في أزهى صورها.

"وصلت إلى طريق مسدود". هكذا اعترف رينوار في عام 1880. "لقد توصّلت أخيرا إلى قناعة بأنني لم اعد استطيع الرسم".
الأعوام العشرة الأخيرة من حياة رينوار لم تكن بلا متاعب. وعلى مدى تلك الفترة، حاول إيجاد اتجاه جديد لفنّه، ووجده أخيرا في المتاحف. تحوّل تدريجيا عن الرسم في الهواء الطلق والملاحظة المباشرة للواقع إلى رسم الموضوعات التقليدية والزخرفية. وعلى خطى ديلاكروا، سافر رينوار إلى الجزائر، ثمّ إلى إيطاليا حيث اكتشف جداريّات رافاييل وعمل على صورة للمؤلّف الموسيقي ريتشارد فاغنر.
ومن خلال مراقبته الدقيقة لأعمال الرسّامين العظام الأوائل، نجح أخيرا في التغلّب على شكوكه. وابتداءً من عام 1890 فصاعدا، تمتّع الرسّام مرّة أخرى بقدر كبير من الاعتراف على الساحة الدولية. وإلى جانب صديقيه مونيه وسيزان، أصبح رينوار مصدرا لإلهام الرسّامين الشباب مثل بيكاسو وبونار وماتيس وموريس دونيه وغيرهم.

وقد وجد في الأساطير اليونانية والمناظر الطبيعية لمقاطعة بروفانس وفي أعمال كبار الرسّامين من القرون السابقة، بما في ذلك تيشيان وروبنز وبوشيه، مصدر إلهام لرسم الأنثى العارية ومشاهد السعادة المنزلية.
وعلى الرغم من أن شهرة رينوار ارتبطت أكثر بفترته الانطباعية، إلا أن هذه الفترة من النضج الفنّي اتسمت هي أيضا بالحرّية الكبيرة في استخدام اللون والموضوع والأسلوب وأنتجت أعمالا ناضجة وجديرة باكتشافها ثانية. صديقه الشاعر غيوم أبولينير كتب قائلا: رينوار ينمو باستمرار. لوحاته الأخيرة هي الأكثر جمالا، بل والأكثر ابتكارا".
لوحته المستحمّات والتي أنجزها عام 1919، أي نفس العام الذي توفّي فيه، اعتبرها تتويجا حقيقيّا لانجازاته. في مقدّمة اللوحة تظهر امرأتان مستلقيتان في الهواء الطلق، بينما تعرضان مفاتنهما على الناظر. الألوان الدافئة تتداخل مع بقع الضوء. وفي الخلفية تظهر ثلاث نساء أخريات وهنّ يمرحن عاريات في الماء. الأشكال الكاملة لأجسادهنّ الضخمة، والطريقة التي يذُبْنَ فيها بانسجام في المنظر الطبيعي يشهدان على براعة رينوار التصويرية. احد النقّاد وصف اللوحة بقوله: انظر إلى الضوء على أشجار الزيتون، انه يبرق مثل الماس. الأزرق والورديّ وانبثاق السماء، الجبال التي هناك والتي تتغيّر مع الغيوم، إنها تشبه إحدى خلفيّات انطوان فاتو".

كان رينوار محاطا بالنساء حتى نهاية حياته. وكان يجد الإشباع المادّي والروحي على حدّ سواء عندما يكون في صحبتهن.
في سنّ الشيخوخة، عندما بدأت الآم التهاب المفاصل تُثقِل عليه، اقترح عليه بعضهم أن يتّخذ خدما من الرجال. لكنه رفض بعناد قائلا: لا أستطيع أن أتسامح مع أيّ شخص باستثناء النساء". كان في منزل رينوار جيش غير تقليديّ من الفتيات الشابّات العاملات اللاتي لازمنه طوال أكثر من ثلاثين عاما.
هذا العدد الكبير من النساء الجميلات من مربّيات وممرّضات وطبّاخات واللاتي وُظفنّ في الأساس لأداء أعمال منزلية، جلسن أو وقفن أمامه كي يرسمهنّ، وبعضهنّ عاريات أحيانا. وكنّ يفعلن هذا عن طيب خاطر وبشكل طبيعي. وعندما تحدّق في صورهنّ، لن ترى أثرا لأيّة أحقاد أو أفكار مزعجة تعكّر صفو وجوههن. كان رينوار يرسمهنّ وكأنهنّ فاكهة أو أزهار من جنّات عدن.

وموديلات رينوار لا يفكّرن. إذ يبدو انه كان مهتمّا أكثر بمادّية الجسد أكثر من الأفكار الميتافيزيقية. وعلى الرغم من انه اعترف بحبّه المتهوّر لشكل الأنثى وكان يفضّله مشعّا وفي كمال نضجه، إلا أن رينوار لم يكن بأيّ حال زير نساء. قال مرّة: اشعر بالأسف على الرجال الذين لا يكفّون عن ملاحقة النساء. هناك رسّامون لا يكملون لوحة واحدة أبدا، لأنهم ينشغلون بمحاولة إغواء موديلاتهنّ بدل رسمهنّ".
لكن هذا لم يكن حال رينوار. لم يكن أبدا شخصا فاجرا أو إباحيّا، وكان يتعامل مع موديلاته بالكثير من الاحترام ويشجّعهنّ على أن يقفن بحرّية دون أن يصرّ على أن يبقين جامدات أو ساكنات.
كان رينوار في الأربعين من عمره عندما أصبح مهجوسا برسم العارية. لوحة فرانسوا بوشيه بعنوان دايانا تخرج من حمّامها كانت اللوحة العارية الأولى التي بهرته واستمرّ يحبّها ويتذكّرها طيلة حياته، تماما كما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل.
كان بوشيه واحدا من أفضل الرسّامين الذين فهموا جسد المرأة. وقد اعتاد على أن يملأ لوحاته بصور لشابّات جميلات ويخصّص الخلفية لمنظر طبيعي مختصر. كان يقول: على المرء أن يشكّ في أن جسد امرأة لا يحتوي على عظام".

كلّ الخادمات في منزل رينوار كنّ يجسّدن مجموعة من السمات الجمالية الواضحة والمحدّدة المعالم: أكتاف منحسرة برقّة، أجساد ثقيلة، نهود صغيرة وصلبة، رؤوس صغيرة ومستديرة، عيون مضيئة وشفاه ممتلئة. ووراء هذه الوجوه المجهولة، غالبا ما يختفي وجه موديل مفضّلة هي غابرييل رونار ابنة عمّ السيّدة ألين رينوار زوجة الرسّام.
نشأت غابرييل أيضا في إيسوا وبدأت خدمتها عند أسرة رينوار عام 1894 عندما كانت في الرابعة عشرة وظلّت مع العائلة حتى عام 1914. كانت مكلّفة بالاهتمام بابن رينوار الأوسط جان، وظهرت في ما بعد في العديد من اللوحات التي رسمها لأطفاله.
ابن الرسّام البكر، بيير، ولد عام 1885 من مصفّفة الشعر الشابّة ألين شاريغو. وقد تزوّجها رينوار بعد ذلك بخمس سنوات، أي في عام 1890، وأنجبا طفلين آخرين هما جان وكلود. زوجته وأطفاله الثلاثة أسهموا جميعا في سعادته وكانوا مصدر إلهام له.
وعلى الرغم من حبّ الفنان لأفراد أسرته، إلا أن أحدا منهم لم يكن مسئولا عن الاهتمام به. كان هذا الدور محفوظا لـ غابرييل. كانت الفتاة الشابّة تلعب بهدوء دور المربّية والموديل. وكان يرسمها إمّا بملابس أو عارية تماما. كما ألهمته رسم مجموعة من لوحات المحظيات المستلقيات.

كان رينوار يستمتع بجعل غابرييل تبدو جميلة، وذلك بتزيينها بالقلادات وبما خفّ وشفّ من الثياب، كما في لوحته غابرييل مع حُليّ (1910)، أو بوضع وردة في شعرها كما في لوحة غابرييل مع زهرة (1911).
وبالنسبة له، كانت هذه السمات والإضافات ترمز لحميمية ودفء شخصية الأنثى. كانت غابرييل مسئولة عن السهر على راحة الرسّام العجوز. وكانت تجهّز له عدّة الرسم قبل أن تضع الفرشاة بين يديه الملفوفتين بالضماد. وابتداءً من عام 1900 فصاعدا، أي عندما استنزف التهاب المفاصل قواه، أصبح رينوار يفضّل البقاء أكثر فأكثر في جنوب فرنسا لأن الشمس القويّة كانت تساعد حالته الصحّية.
في تلك الفترة، أصبح يركّز على رؤية عالم مثاليّ قوامه جذور ثقافة البحر المتوسّط. كان يرى في الإغريق جنسا يستحقّ الإعجاب. حياتهم كانت سعيدة جدّا لدرجة أنهم كانوا يتخيّلون أن الآلهة تأتي إلى الأرض باحثةً عن الجنّة والحبّ. "نعم، كانت الأرض جنّة الآلهة. وهذا ما أريد أن ارسمه".

رينوار، المهجوس بفنّه إلى ما لا نهاية، كان يسعى إلى تجاوز الواقع. وعلى الرغم من إعاقته، إلا انه احتفظ بالسيطرة الكاملة على فنّه وأراد أن يقدّم عالما ينبض بالحياة. وكلّما أصبحت موديلاته اكبر سنّا، كلّما أصبح هو اضعف.
كان يُنتقد على رفضه الأعراف الأكاديمية وعلى إدارته ظهره للبؤس الاجتماعي الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر. أعماله في سنوات عمره المتأخّرة، أي المناظر الطبيعية للبحر المتوسط أو المستحمّات، تميّزت بتفاؤلها وببهرجتها اللونية. ويمكن اعتبارها تكريما لابتهاج الفرنسيين وحبّهم للحياة.

لم يكن رينوار رسّاما شعبويا دائما. صحيح انه كان رائدا للانطباعية، غير أن تجربته الحداثية لم تكن تُقابل دائما باستجابة دافئة. وفي القرن العشرين، أصبح مؤرّخو ونقّاد الفنّ منحازين للفنّ الحديث الذي أدّى إلى ظهور الرسم التجريدي. وقد اعتبر العديد من هؤلاء لوحات رينوار التي رسمها في أواخر حياته، وبالأخص نساءه العاريات، موضة قديمة ولا تمتّ للفنّ الحديث بصلة.
والعديد من هذه اللوحات التي أنجزها في أعوامه الأخيرة تمّ إنزالها إلى غرف التخزين في المتاحف التي كانت تعرضها. في عام 1989، طرح متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته عارية مستلقية للبيع. وقال أمين المتحف وهو يشير ضمنا إلى أيّ مدى انخفضت شهرة رينوار: هناك أناس كثيرون يرغبون في هذه اللوحة. لكنّها ببساطة لا تنتمي إلى قصّة الفنّ الحديث التي نحاول أن نرويها للناس".
الرسّامة الأمريكية ميري كاسات قالت ذات مرّة عن رينوار انه يرسم صورا لنساء حمراوات ضخمات وبرؤوس صغيرة جدّا. وهذا أكثر الأشياء فظاعة التي يمكن تخيّلها".
لكن في وقت لاحق رأى هنري ماتيس الصور نفسها وقال واصفا إيّاها: هذه هي أجمل الصور التي رُسمت لعاريات". وأضاف: ليس هناك قصّة أكثر نبلا ولا انجازات أكثر روعة من تلك التي لرينوار".

وهناك من النقّاد من يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تلك الأعمال ومحاولة فهمها وفقا لشروطها وليس بحسب تصنيفات وإملاءات النقّاد الحداثيين.
احد أولئك النقّاد اقترح ذات مرّة على من لا تعجبه لوحات رينوار التي رسمها في أخريات حياته حلا بسيطا: حاول أن تنظر إلى اللوحات بعيون ماتيس الذي كان صديقا حميما لرينوار. لكي ترى رينوار من خلال عيني ماتيس يعني أن تحبّ رينوار العجوز.
أوّلا: تعلّم أن تحبّ أشكاله الناعمة وخطوطه الرفيعة وسيتبيّن لك أن عالم رينوار هو عالم من القطن.
ثانيا: لكي تحبّ ألوان رينوار يجب أن تقبل الأحمر والورديّ باعتبارهما اللونين الرئيسيين في العالم، والأخضر والأزرق الشاحب كلونين أصليين وأوليّين.
ثالثا: لكي تفهم مناظر رينوار الطبيعية يجب أن تدرك انه عاش حياته محاصرا بسبب المرض. في مناظره الطبيعية، أنت إمّا في الداخل، أي في مسرح من الستائر والأزياء والكراسي المنجّدة، أو في الخارج، أي في عالم من مسارات الحصى والجدران الحجرية القديمة وأكداس أوراق الشجر.
رابعا: لكي تحبّ نساء رينوار عليك أن تنسى الجسد كما تعرفه من وسائل الإعلام اليوم وتستشعر جسدا يعتمد على الإحساس والقرب والعلاقة الحميمة.

في أواخر حياته، أراد رينوار إحياء التقاليد الفنّية والحساسيّة العاطفية للعصر الذهبيّ للثقافة الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كما تجسّده أعمال انطوان فاتو وفرانسوا بوشيه. وقد حاول إعادة التأكيد على دور الكلاسيكية الأوروبّية في التعبير الشخصي عن الجمال. وبعد أن تصالح رينوار مع مسألة موته الوشيك، استدعى الموضوعات الكلاسيكية في الرسم والتي تؤكّد على الشباب والمسائل الحسّية وعلى خصوبة الطبيعة وتقديس الحياة العائلية.
وابتداءً من عام 1890 وحتى وفاته، كان رينوار يرسم بتفانٍ لا يعرف الكلل أو الملل. وفي واحدة من أشهر ملاحظاته، أعلن في عام 1913 قائلا: لقد بدأت اعرف أخيرا كيف ارسم. استغرق الأمر منّي عمل أكثر من خمسين عاما كي أصل إلى هنا ومع ذلك لم أنتهِ بعد".

احتضن رينوار المسنّ الحياة بتفانٍ ومثابرة. وفي عام 1898، بدأ يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي ثم لم يلبث أن تعرّض لجلطة دماغية اضطرّته في النهاية إلى استخدام كرسيّ متحرّك. وقد اتبع أوامر طبيبه واستقرّ في جنوب فرنسا. في عام 1907، اشترى مزرعة مساحتها مائة فدّان في الكوت دازور. وهناك خلق لنفسه ولزوجته ولأبنائه الثلاثة ولعدد من المربّيات والخادمات عالما مثاليّا.
وبعد ذلك بعام، زار إيطاليا، حيث أعجب بتقاليد الرسم والتصميم التي تكرّست في الفنّ الإيطالي منذ عصر النهضة. وقد ترك رينوار وراءه تجاربه مع الضوء وغيره من عناصر تحوّل الطبيعة التي ميّزت الكثير من أعماله خلال سنوات الانطباعية وسعى لطلب التوجيه والإلهام من الماضي. ومن الآن فصاعدا، سيركّز على مواضيع الفنّ الكلاسيكي وعلى الرسم بضربات فرشاة سائلة.
احد الأمثلة التي تكشف عن رينوار الكلاسيكي هي لوحته بعنوان امرأة تعزف الغيتار . في مشهد يستحقّ أن يرسمه فاتو، يصوّر رينوار امرأة شابّة مستغرقة في عزف الغيتار. المكان ليس احد عوالم فاتو الأسطورية، بل صالونا معاصرا وضع رينوار عازفته فيه. الصالون لا يميّزه شيء باستثناء وجود المرأة والغيتار المرسوم بمهارة. رينوار يصوّر مشهدا من الانسجام والنشوة الإبداعية في مكان يمكن أن يكون في الشقّة المقابلة بمنزل في نهاية الشارع. وقد وظّف الفنّان في المشهد لمسة شاعرية وفرشاة معلّم قديم.

في لوحة غابرييل وجان، يوازن رينوار بين سلسلة من العناصر بطريقة بارعة. شعر غابرييل الفاحم يتباين مع الشعر الأشقر المجعّد للصغير. إذا كانت غابرييل مسليّة لابنه الصغير، فإن علاقتها مع رينوار تثير بعض القضايا المحيّرة.
منزل رينوار كان سعيدا وشاعريّا تقريبا، في كثير من النواحي. ولكنه كان يتسم بالثبات. جان رينوار ابن الرسّام كتب في مذكّراته أن والده الذي كان يحبّه كثيرا كان يصرّ على أن لا يقصّ شعره إلى أن يذهب إلى المدرسة، ما جعل ابنه نموذجا مثاليا للوحات التي تصوّر فتيات صغيرات يلعبن ويلهين ويمارسن الخياطة.
كلّ أبناء رينوار الثلاثة كان عليهم أن يتحمّلوا كونهم نماذج لوالدهم الذي كان يحاول بعناد إطالة فترة طفولتهم بينما كان هو يتشبّث بالحياة وسط معاناته الشديدة مع المرض. وقد احتفظ بنفوذه العاطفي على غابرييل أيضا، وكانت تلك الخطوة لا تخلو من انعكاسات مزعجة.
في اثنتين من صور غابرييل، يرسمها رينوار من الجذع ومن الكتفين. وكلا اللوحتين تتوافقان مع التقاليد الكلاسيكية عن العارية في الفنّ الأوروبّي. يمكن للمرء أن يطلق بعض التكهّنات السيكولوجية حول علاقة رينوار مع زوجته ألين التي كانت موديله في عام 1880، ولا سيّما في لوحته العظيمة غداء في رحلة بالقارب (1881)، وكذلك حول علاقته مع غابرييل. ولكن ليس هناك أيّة علامة عن أي توتّر في الوضع الداخلي لمنزل رينوار قد يكون ناجما عن اختياره لموديله الجديدة أو طريقته في رسمها.

غير أن ما يبعث على القلق بشأن صور غابرييل هو أنها تبدو وكأن فردانيّتها قد استُنزفت على نحو متزايد. هناك تغيير ضئيل في وجهها وعلامات بسيطة عن آثار العمر أو النموّ الداخلي بعد عام 1894. حيوية وسمات الشخصية الفريدة كما تتضح في صورتها مع جان منعدمة في بورتريهاتها العارية وفي اللوحات الأخرى التي رسمها لها رينوار في وقت لاحق. وفي الواقع، فإن العنوان الذي اختاره للوحته الحسناء الصقلّية ، والتي تظهر فيها غابرييل أيضا، يوحي بأن رينوار كان يرسم امرأة قديمة من البحر المتوسّط وليس فردا من أفراد أسرته أو شخصا له عقل وروح وشخصيّة خاصّة.
لم يكن رينوار بالتأكيد لِيَدَع الأفكار العميقة في النفس البشرية تؤثّر على عمله. في عام 1908، شاطر بعض تأمّلاته في الفنّ مع رسّام أميركي. وهذه التأمّلات تستحقّ أن تُدرس وتُمحّص نظرا للرؤية الكاشفة التي تتضمّنها.
يقول رينوار: أرتّب موضوعي كما أريد، ثم اذهب وأرسمه مثل طفل. أريد أن يكون الأحمر رنّانا ليبدو وكأنّه جرس. وإذا لم يتحوّل بهذه الطريقة، أقوم بإضافة المزيد من الألوان الحمراء أو أيّة ألوان أخرى إلى أن أتمكّن من الحصول عليه. ليس لديّ قواعد وأساليب خاصّة. وأيّ شخص ينظر إلى موادّي أو يشاهد كيف ارسم سيرى أنني لا احتفظ بأيّة أسرار. أنظر إلى امرأة عارية، ويكون هناك عدد كبير من الصبغات الصغيرة. لكن لا بدّ لي من العثور على اللون الذي يجعل الجسد يحيا ويرتعش على قماش الرسم".
هذه المشاعر هي تعبير واضح عن حرص رينوار على حرفته. ومن الصعب رفض هذه الملاحظات ما دام أن الفنّان يتعامل مع موضوعه بإنصاف. لكن عندما يُجرّد الشخص المرسوم من أيّة شرارة فردية، عندها يصبح العمل الفنّي هامدا ومستنزفا وخاليا من أيّ معنى. وبعض النقّاد خلصوا إلى استنتاج مفاده أن موقف رينوار الأبوي تجاه النساء منعه من التعامل معهنّ بوصفهنّ أفرادا من لحم ودم.

من بين أعمال رينوار التي لا يعرفها الكثيرون وليست مشهورة تلك البورتريهات التي رسمها لعدّة نساء بارزات في المشهد الثقافي في بدايات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء عازفة البيانو المشهورة ميسيا سيرت، والشاعرة أليس فاليري ميرزباك التي رسمها عام 1913. البورتريه الأخير يصوّر امرأة ذكيّة ومنعّمة مع لمسة من غرور الانتيليجنسيا الفرنسية. في البداية لم يكن رينوار مهتمّا برسم ميرزباك لأنه لم يكن يعرفها كما لم يكن بحاجة إلى المال. لكن فاليري عادت إليه بعد أن ارتدت فستانا جميلا من الساتان الأبيض. وعندما رآها رينوار في الفستان قرّر أن يرسمها. ومن الواضح انه كان مستغرقا في رسم جمال اللباس بينما اكتفى برسم وجه المرأة وملامحها على عجل. ميرزباك ليست بالضبط من تلك النوعية من الأشخاص الذين كان رينوار يبحث عنهم ليرسمهم، ومع ذلك فإنه أعطاها تقريبا المعاملة الفنّية التي تستحقّها.
لوحات رينوار لأمّه ولزوجته ألين ولبعض العاريات وكذلك للمناظر الطبيعية، توفّر جميعها نظرات قريبة من حياة الفنان الداخلية. وعلى الرغم من أنها ليست من بين أفضل أعماله، إلا أن هذه الرسومات تصوّر عالما عاطفيا مملوءا بسكّان أو أشخاص يتمتّعون بجاذبية عظيمة بالنسبة لرجل جاهد وناضل كثيرا لتحقيق النجاح.

أحلام رينوار قد تبدو مروّضة إلى حدّ كبير. بول غوغان واماديو موديلياني، اللذان لا يمكن وصف موقفيهما من المرأة بأنه متحرّر، خلقا هما أيضا عوالم شخصيّة من الجمال الحسّي. لكن الطبيعة "الأركادية" التي تقف فيها عاريات رينوار وتأمّلاتهن الحالمة تخلقان حالة مصطنعة من البراءة المنوّمة.
احد النقّاد كتب يقول: من خلال التعتيم على العلاقة الحقيقية بين الناس والطبقات والجنسين، أعطى رينوار شكلا فانتازيا لفترة نهاية القرن ما يزال رائجا إلى اليوم. كما أن هروب رينوار من الواقع أنتج رؤيا مثالية وأسطورية عن النساء صالحة لكل زمان ومكان".
كان رينوار يستمتع بالموسيقى وكان لديه صوت جميل عندما كان شابّا. وقد اجتذب غناؤه انتباه مدير جوقة الكنيسة شارل غونو ، الذي أصبح فيما بعد موسيقيا مشهورا بعد أن ألّف لحن أوبرا فاوست. وعندما أصبح الرسّام عجوزا ومقيّدا بكرسيّ متحرّك، اُخذ لرؤية الباليه الروسيّ الذي كان عنصرا مثيرا في باريس آنذاك. وقد سُرّ بتلك التجربة كثيرا.

الطبيعة السعيدة لأعمال رينوار المتأخّرة لا تُظهر العذاب الذي كان يعانيه بسبب التهاب المفاصل الذي تسبّب في شلّ يديه تماما في النهاية. في عام 1915، فقد الفنّان زوجته. وبعد ذلك بأربع سنوات، أي في ديسمبر عام 1919، توفّي هو. وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس قبيل وفاته، دُعي إلى اللوفر كزائر منفرد، واُخذ من غرفة لأخرى وهو في كرسيّه. وقد شعر بالسرور عندما رأى لوحته الكبيرة مدام شاربونتييه وطفلاها معروضة هناك. وأحسّ بالرضا وهو يرى فنّه يُكرّم في حياته.
كان رينوار قد التقى جورج شاربونتييه في عام 1875، عندما اشترى الأخير واحدة من لوحاته. كان شاربونتييه يعمل في مجال النشر وكانت زوجته سيّدة مجتمع بارزة ولها صالون يزوره الكثير من مشاهير ذلك العصر مثل فيكتور هوغو وفلوبير وكليمنصو ومانيه وديغا وغيرهم.
اختيار مدام شاربونتييه رينوار كي يرسم لها هذه اللوحة الضخمة كان بمثابة نجاح له. وقد تلقّى إشادة كبيرة عندما انتهى من رسمها وكُلّف برسم بورتريه آخر مشابه.
كان رينوار احد أكثر الرسّامين إنتاجا، وخاصّة في العقدين الأخيرين من حياته. كما كان حتّى وفاته نجما عالميّا وربّ عائلة شغوفا بزوجته وأبنائه ورسّاما طليعيّا في حالة انسحاب من العالم الحديث. وربّما يكون هو الرسّام الفرنسيّ الأكثر شعبية بسبب موضوعاته. لوحاته الدافئة والحسّية تعطي انطباعا عن إنسان متفائل كان على علاقة طيّبة مع العالم، وهو عالم لم يكن يرى فيه سوى كلّ شيء خيّر وجميل.

الثلاثاء، أكتوبر 09، 2012

سارجنت وفنّ البورتريه

حتى لو كنت رسّاما متميّزا ومشهورا في نوعية معيّنة من الرسم وتكسب من وراء ذلك المال الوفير، قد يأتي يوم تشعر فيه بالملل على الرغم من أن شعبيتك كرسّام متخصّص في ذلك النوع تتطلّب منك الاستمرار في العمل.
هذا هو المأزق الذي وجد جون سينغر سارجنت نفسه فيه بعد وقت قصير من بداية القرن الماضي، عندما كانت الأرامل الأوربّيات الثريّات مع بناتهنّ يتقاطرن على منزله كي يرسمهنّ هذا الفنّان الذي يعتبره الكثيرون الرسّام الأكثر نجاحا في التاريخ.
لكن سارجنت كان قد بدأ يحتقر البورتريهات التي كان يرسمها ويجني من ورائها مبالغ طائلة من المال. ولم تكن هذه هي الصعوبة الوحيدة التي كانت تواجهه. فبالإضافة إلى حقيقة أنه لم يعد يرى في البورتريه فنّا عظيما، كانت قد بدأت تلوح في الأفق نذر العاصفة الكاسحة والقويّة التي اصطُلح على تسميتها في ما بعد بـ "الفنّ الحديث".
أسلوب سارجنت وموضوعاته أصبحت تبدو قديمة الطراز مقارنة بأعمال بيكاسو وماتيس، بل وحتى مقارنة برسّام من جيله هو، أي كلود مونيه.
بعض النقّاد كانوا يلمّحون إلى أن أعماله أصبحت عتيقة الطراز. وقال آخرون إنها تبدو كما لو أنها تنتمي إلى زمن آخر. ووجد سارجنت ملاذا له في الجداريات الضخمة. وعلى الرغم من أنه رسم معظمها في انغلترا، إلا انه يمكن العثور على أعماله الجدارية اليوم في عدد من المباني العامّة في الولايات المتحدة.
كان سارجنت في الكثير من الأحيان يسافر إلى بوسطن للإشراف على تركيب جدارياته بنفسه. وكانت شهرته كبيرة في هذا المجال. كما كان معروفا باشتراطه إجراء تغييرات في أسلوب المعمار يتناسب مع طبيعة رسوماته.
سارجنت توفّي فجأة عام 1925 وهو يستعدّ مرّة أخرى لمغادرة لندن إلى أمريكا، للإشراف على تركيب سلسلة من الجداريات في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وأضيفت هذه السلسلة إلى 113 من لوحاته، من بينها صورته المشهورة لسيّدة المجتمع الباريسي الأمريكية المولد فيرجيني غوترو. وكانت هذه الصورة الجريئة لامرأة ترتدي ثوبا اسود أنيقا ورباطي كتف منسدلين هي التي دفعت سارجنت لمغادرة باريس نهائيا إلى لندن عام 1884م.
وقد باع سارجنت اللوحة في النهاية إلى متحف الفنّ الحديث في نيويورك، وأصرّ على أن يكون اسمها مدام إكس. ووُصفت السيّدة بأن لها بشرة من اللافندر أو الخزامى، وقيل إنها كانت تتناول بانتظام كمّيات صغيرة من الزرنيخ لكي تحافظ على ذلك المظهر.
وقد تردّد أن والدة المرأة قالت للرسّام بعد أن راجت اللوحة وانتشرت على نطاق واسع: لقد أصبحت ابنتي تائهة. الجميع في باريس يسخرون منها. وزوجها عازم على منازلتك في مبارزة". وقيل إن سارجنت ضحك ممّا سمعه وقال عبارة أصبحت أشبه ما تكون بالنكتة: في كلّ مرّة ارسم فيها بورتريها أصنع لنفسي عدوّا واحدا على الأقلّ". "مترجم".

الخميس، أبريل 26، 2012

خطوط وألوان

رافائيل، حلم الفارس، 1504

يُعتبر رافائيل احد أعظم الرسّامين الذين أنجبهم عصر النهضة الايطالي. وقد ولد في أوربينو عام 1483 وتلقّى تعليما مبكّرا في الرسم على يد والده، الذي كان رسّاما هو الآخر.
في عام 1504 انتقل رافائيل إلى فلورنسا، حيث درس أعمال كبار الرسّامين آنذاك مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجيلو، وتعلّم أساليبهما في التعامل مع الضوء والظلّ وعلم التشريح والعمل الدرامي والحركة.
من أشهر أعمال رافائيل لوحته الرمزية بعنوان "حلم الفارس". وهي تصوّر فارسا من العصور الوسطى وهو نائم بينما تقف عن يساره ويمينه امرأتان.
المرأة إلى اليسار ترمز إلى الفضيلة. وهي ترتدي ثياب أثينا إلهة العدالة اليونانية وتمسك بإحدى يديها كتابا وبالأخرى سيفا، بينما تقف بموازاة طريق يقود إلى جبل صخري يظهر في نهايته منحدر بُنيت على أطرافه قلعة عالية. المعنى الذي قصده رافائيل هو أن الطريق الذي يؤدّي إلى الفضيلة من الصعب سلوكه لأنه شاقّ ووعر.
المرأة إلى اليمين ترتدي ثوبا ملوّنا وعقدا من اللؤلؤ. وهي لا تقدّم للفارس سوى زهرة صغيرة. والطريق الذي تقف بمحاذاته يمرّ عبر تلال ومروج وينتهي بمنزل فاره يقع على شاطئ البحر. والمعنى الكامن هنا هو أن الطريق إلى الحبّ أسهل بكثير من الطريق المؤدّي إلى الفضيلة.
رافائيل استخدم في اللوحة وسيلة جديدة وغير عاديّة وهي انه رسم الجبال في الخلفية بنفس لون السماء كي يعطي وهما بالمسافة البعيدة والأفق النائي.
هناك نظريات متعدّدة حول ما ترمز إليه اللوحة. بعض المؤرّخين يعتقدون أن الفارس النائم يمثل الجنرال الروماني سيبيو افريكانوس الذي رأى في الحلم انه مضطرّ للاختيار بين الفضيلة وبين متعة الحبّ.
غير أن المرأتين في اللوحة لا تظهران كمتنافستين بالضرورة. فالكتاب والسيف والزهرة، مجتمعةً، كثيرا ما ترمز إلى الصفات المثالية التي ينبغي أن يحوزها الفارس. فهو مقاتل في الأساس. لكنه بنفس الوقت عالم وعاشق.
المعروف أن رافاييل توفّي في روما في يوم عيد ميلاده السابع والثلاثين، أي في ابريل من عام 1520م.

كيس فان دونغن، بذور الخشخاش، 1919

في أواخر عشرينات القرن الماضي، بدأت النساء في أنحاء متفرّقة من أوربّا يتمتّعن بحرّية واستقلالية اكبر، خاصّة في أمور اللباس والمظهر.
وهذه اللوحة تُظهر التغيير الذي طرأ على أوضاع المرأة في تلك الفترة. والمرأة فيها هي نموذج ورمز للمرأة الجديدة التي أصبحت ترتدي التنانير القصيرة والألوان الزاهية. الموديل هنا ترتدي فستانا رماديا فاتح اللون وقبّعة عصرية وذات ألوان حمراء مع مكياج سميك للعين. العينان لوزيتان وواسعتان والنظرات مواربة والعنق طويل والشفتان صغيرتان حمراوان. وهناك احتمال بأن المرأة كانت واحدة من مجموعة من النساء الباريسيات اللاتي كنّ يعشن حياة منفلتة في فترة ما بين الحربين العالميتين.
من أهم ما يجذب الانتباه في اللوحة الألوان التي تكاد تتقافز منها معطية المرأة تأثيرا ثلاثي الأبعاد.
ولد كيس فان دونغن في إحدى ضواحي روتردام بـ هولندا عام 1877م. وفي سنّ السادسة عشرة درس في أكاديمية الفنون بـ روتردام ثم انتقل إلى باريس التي قرّر أن يقيم فيها بشكل دائم. ولم يلبث أن أصبح جزءا من المشهد الفنّي في مونمارتر.
في بداياته، كان الرسّام متأثّرا بأعمال هنري ماتيس ورموز المدرسة الوحشية في الرسم. كان أتباع الوحشية يستخدمون الألوان الزاهية بطريقة تجمع ما بين الانطباعية والنُقطية. وأصبح هذا النمط الجديد يحظى بشعبية كبيرة في أوساط النخبة الذين بدءوا يستعينون بالفنّانين الوحشيين لرسم بورتريهات لهم. ومن بين هؤلاء ملك بلجيكا ليوبولد الثاني والاغا خان والممثّل موريس شوفالييه والممثّلة بريجيت باردو وغيرهم.
كان فان دونغن رسّاما غزير الإنتاج. كان يعتقد أن الرسم يطفئ رغبة دنيوية عند الإنسان. وفي ما بعد، ربطته صداقة وثيقة مع بيكاسو. وبعد الحرب العالمية الأولى اكتسب شعبية إضافية. وقد عُرف عنه كثرة أسفاره. ودفعته الرغبة في اكتشاف الشرق للذهاب إلى مصر والمغرب. ورسم من وحي رحلته تلك بورتريهات فاتنة لنساء مع ملابسهنّ ذات الزخارف الشرقية.
كان فان دونغن إنسانا ساحرا مع إحساس بالمرح وحبّ الدعابة. وقد اشتهر بلحيته الحمراء وبملابسه التي تشبه ملابس الصيّادين. ومن ناحية أخرى، كان نموذجا للفنّان البوهيمي وكان أسلوب حياته مثارا للجدل. الحفلات الباذخة التي كان يقيمها في محترفه ليلا كان يحضرها المشاهير من نجوم السينما والسياسة والأدب والفنّ.
واليوم تباع لوحاته بأرقام قياسية كما أن اسمه متداول كثيرا على الانترنت. وتوجد بعض أعماله في مجموعات فنّية خاصّة في نيويورك وجنيف وموسكو، بل وحتى في إيران وروسيا.
عاش كيس فان دونغن حياة طويلة ومثمرة. وتوفّي في مونت كارلو عام 1968 عن واحد وتسعين عاما.

جان بيرو، في المقهى، 1892

ابتداءً من نهايات القرن التاسع عشر، أصبحت المقاهي ملتقى يجمع أصنافا مختلفة من الناس، وخاصّة الأدباء والشعراء والرسّامين. كان هؤلاء يتردّدون على المقاهي لتمضية بعض الوقت في الحديث مع زملائهم أو لتناول الشراب، وأحيانا للبحث عن مواقف وقصص إنسانية أو اجتماعية تصلح للرسم أو الكتابة.
الرسّام الفرنسي جان بيرو اشتهر بلوحاته التي تصوّر مظاهر من الحياة اليومية في باريس مثل أجواء المقاهي ومناظر الشوارع المزدحمة والحفلات الموسيقية التي تقام في الهواء الطلق.
في هذه اللوحة يرسم بيرو رجلا وامرأة يجلسان في مقهى وهما منشغلان بالنظر إلى شيء أو شخص ما يقع خارج نطاق الصورة. الكرسيّ المائل قليلا أمام الطاولة يوحي بأن الرجل انتقل من ذلك المكان كي يصبح أكثر قربا من المرأة، أو أن شخصا ثالثا كان يجلس هناك ثم ترك مكانه لبعض الوقت، ما قد يفسّر تحوّل انتباه الرجل والمرأة.
مهارة الرسّام تبدو واضحة في رسم تفاصيل الطاولة الرخامية والكأسين نصف المملوئين والدخان المتصاعد من سيجارة الرجل. ومن الملاحظ أن بيرو تعمّد أن لا يرسم الرجل والمرأة متواجهين كما جرت العادة في مثل هذه المناظر، للإيحاء بإمكانية وجود حالات ومواقف أكثر إثارة للاهتمام من مجرّد تبادل الحديث بين شخصين.
ولد جان بيرو في روسيا وهاجر مع عائلته إلى فرنسا عندما كان ما يزال طفلا. وفي بدايات حياته درس القانون بناءً على رغبة والده الذي كان يعمل نحّاتا. لكنه في ما بعد فضّل أن يتخّصص في الرسم، فدرس على يد ليون بونا وتأثّر بأسلوب الانطباعيين. وفي مرحلة تالية تبنّى أسلوبا وسيطا بين الفنّ الأكاديمي للصالون وفنّ الانطباعيين.
كان جان بيرو بارعا بشكل خاصّ في رصد وتسجيل التفاصيل. وقد تعزّزت مهارته تلك مع ظهور التصوير الفوتوغرافي، الذي وظّفه كي يضفي على مناظره عن الحياة اليومية الباريسية مزيدا من الحيوية والأناقة.
في وقت لاحق، رسم بيرو مواضيع دينية حديثة. لكن أعماله الأكثر شهرة هي تلك التي رسمها لباريس في أيّام مجدها.

بيير بوفي دو شافان، الحلم، 1883

الإشارات إلى الأحلام قديمة قدَم الأدب نفسه. ملحمتا غلغامش والإلياذة، على سبيل المثال، تصفان أحلام الشخصيات الرئيسية فيهما ومعاني تلك الأحلام.
غير أن الأحلام كموضوع في الرسم لم تظهر سوى في وقت لاحق، وبالتحديد في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما أدخلت كلّ من الرمزية والتعبيرية صور الأحلام إلى الفنون البصرية.
في هذه اللوحة، يرسم بيير دو شافان رجلا نائما بجوار شجرة في طبيعة مثالية ذات ليلة مقمرة وصافية، بينما تطير فوقه ثلاث نساء. الأولى تحمل الورود في يديها، في إشارة إلى الحبّ. والثانية تلوّح بإكليل الغار الذي يرمز للمجد. بينما تنثر الثالثة حوله القطع النقدية التي ترمز إلى الغنى والثروة.
من الواضح أن الرجل يحلم بالحبّ والثروة والمجد. لكن هل يتحقّق حلمه؟
المنظر الطبيعي في اللوحة مرسوم باقتصاد واضح. الأشكال مبسّطة للغاية ومرسومة في مناطق واسعة من الألوان الصلبة. وقد استخدم الرسّام مجموعة محدودة من الألوان الهادئة والساطعة بتأثير ضوء القمر.
الحركة الرومانسية كانت تؤكّد على قيمة العاطفة والإلهام. والرؤى، سواءً كانت أحلاما طبيعية أو نتيجة تعاطي المواد المُسْكرة، كانت تُستخدم كوسيلة لإظهار قدرات الفنّان الإبداعية.
غير أن الأحلام بلغت مستوى جديدا من الوعي في العالم الغربي بسبب نظريات سيغموند فرويد، الذي عرض لمفهوم العقل الباطن كحقل للبحث العلمي. وكان لـ فرويد أثر كبير على سورياليي القرن العشرين الذين ركّزوا في أعمالهم على اللاوعي بوصفه أداة للإبداع.

Credits
en.wikipedia.org

السبت، يوليو 16، 2011

مثالية وليام بوغرو


تنظر إلى لوحات هذا الرسّام فيدهشك أن لا ترى فيها غير صورٍ لحوريّات وعذراوات يتنزّهن في مناظر بهيّة ومشذّبة، وأمّهات يداعبن أطفالهنّ بحنوّ ومحبّة، وأطفال يشبهون الملائكة يحتضن بعضهم بعضها ببراءة وألفة.
تلك هي نظرة وليام بوغرو السامية للجنس البشري. وهي نظرة مشحونة بالجمال والطلاوة والمثالية والخيال، إلى الحدّ الذي يجعلنا نتوق إلى رؤية الواقع وملامسة الأرض مرّة أخرى. كان بوغرو ينظر إلى الفنّ على انه ضرب من الجمال المثالي. وكان يبدي انزعاجه من كلّ محاولات التجريب والخروج عن المألوف. وبذا حبس الرسّام نفسه في قفص ذهبي عندما اعتقد أن الرسم يجب أن يكون عن الجمال والفرح في مقابل الواقع.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت لوحاته، مع لوحات معاصريه الأكاديميين مثل جان ليون جيروم ولورانس الما تاديما والكسندر كابانيل، قد انصرفت عنها أذواق الناس واهتمام النقّاد واستقرّ بها المقام أخيرا في أقبية المتاحف.
لكن الجنود القدامى لا يموتون إلى الأبد. فمؤخّرا، ومع تجدّد الاهتمام بالأعمال الفنّية الكلاسيكية، انتعشت واقعية بوغرو ورفاقه الاكاديميين من جديد.



من الصعب تصوّر الشعبية الكبيرة التي كان يتمتّع بها بوغرو في فرنسا القرن التاسع عشر وفي الولايات المتحدة. كانت لوحاته التاريخية والأسطورية والدينية تحصد ارفع الجوائز والأوسمة وتُباع بأعلى الأسعار أثناء حياته.
ومع ذلك، كانت أعمال بوغرو موضع تندّر وسخرية من قبل الرسّامين الطليعيين في ذلك الوقت مثل ديغا وأصدقائه. فقد كان هؤلاء يشيرون إلى اسمه محرّفا في محاولة للحطّ من قيمة اللوحات ذات الأسطح الناعمة والمصقولة بشكل مفرط. وفان جوخ كان يصفه بأنه "صانع جيّد يتقاضى أجرا عاليا مقابل أشياء جميلة وناعمة".
ولم يكن مستغربا أن بوغرو كان يستخفّ بقدرة الرسّام الشاب هنري ماتيس. كان الأخير احد تلاميذه. وقد طرده في النهاية من مرسمه.
ولأنه كان محكّما في الصالون السنوي الذي كانت ترعاه الأكاديمية القويّة، فقد لعب بوغرو دورا مهمّا في رفض أعمال الانطباعيين المبتكرة.
''على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة". هكذا قال بوغرو في مقابلة معه عام 1895م. وأضاف: 'لا يوجد سوى نوع واحد من الرسم. انه الرسم الذي يقدّم الكمال للعين. وهذا ما كان يفعله فيرونيزي وتيشيان".
كان آخر عمل "جادّ" لـ بوغرو في سلسلة أعماله الكلاسيكية المستوحاة من العصور القديمة هو لوحته الميناديات يطاردن اوريستيس. واللوحة تصوّر اوريستيس وهو يخفي عورته بقطعة قماش بينما تطارده ثلاث ميناديات يحملن معهنّ جثمان أمّه القتيلة. كان بوغرو يحاول من خلال هذه اللوحة استكشاف الألوان بعمق اكبر. لكن اللوحة لم ترق لزبائنه الرئيسيين. فطلبوا منه العودة إلى رسم المواضيع التي تثير السرور والبهجة، ما يجعلها أكثر قابلية للبيع.
في ما بعد رسم لوحته الضخمة إغراء. وهي منظر في الهواء الطلق تظهر فيه امرأة تجلس على الأعشاب تحت ظلّ شجرة وتمسك بتفّاحة، بينما تنظر بحبّ إلى ملاك بريء يجلس إلى جوارها. هذه اللوحة بألوانها المتناغمة وبساطة موضوعها يمكن اعتبارها تعبيرا حقيقيا عن الحبّ والمشاعر الصادقة والعفوية.
وبنفس هذا الأسلوب الفخم، رسم بوغرو عددا من اللوحات الدينية لصالح الكنيسة. بعض تلك الأعمال ربّما كانت تصوّر ردّ فعله على المحن الشخصية التي واجهها، ومن بينها وفاة زوجته واثنين من أبنائه في العام 1877. هذه المأساة المزدوجة ألهمته أيضا لوحة أخرى اسمها روح تُحمل إلى السماء رسمها عام 1878م. وفيها نرى جثمان فتاة صغيرة يحمله ملاكان عبر غيوم كثيفة ونحو مكان مرتفع. بالنسبة للعقل الحديث، قد يبدو الأمر مثيرا للسخرية وأنت ترى جسد إنسان مجنّح وهو يطير بتثاقل في الجوّ. لكن مثل هذه الرحلات كانت مقبولة وممكنة في زمن بوغرو.
استمرّ الفنّان في رسم المواضيع الأسطورية ولكنْ في سياق مختلف تماما عن جهوده الطموحة في أيّامه المبكّرة. في مشهد آخر بعنوان اختطاف سايكي، يضيف الرسّام تلميحا دقيقا عن الرغبات الجسدية. فهو يصوّر ايروس في مظهر من النبل والجمال وعيناه مغلقتان بنشوة، بينما ينقل سايكي النصف عارية عبر الهواء إلى طبيعة جبلية.
منذ سنوات سُئل احد النقّاد عن السبب في أن بوغرو أصبح اليوم رسّاما بلا طعم ولا نكهة من منظور الفنّ الحديث. فأشار إلى دور الفنّان السلبي في إعاقة أعمال الحركات والأساليب الجديدة في الصالون. لكنّه يعزو سمعة بوغرو الفاترة اليوم إلى سببين رئيسيين، الأوّل له علاقة بالجمهور والآخر يعود إلى الرسّام نفسه.
كان بوغرو حِرَفيا بمعنى الكلمة. وهذه الحِرَفية هي التي أعمت بعض الجمهور عن تفكيك الجمال المطلق في مناظره لاستكشاف قوّة العاطفة. فتلك الأيدي الطاهرة والأقدام النظيفة في لوحاته، ولون البشرة الرقيقة، بالإضافة إلى التفاصيل الدقيقة الأخرى تجعل العين غير راغبة في التحديق أكثر والتحقّق ممّا تراه.
كان لدى بوغرو الكثير مما يقدّمه لمتعة العين: الأوردة البارزة من الأيدي والأذرع، والألوان الزهرية الدافئة على ملامح الوجوه، والوضوح التامّ لتفاصيل الجسد من خلال إتقان نسب الضوء والظلال.
الناظر إلى بعض لوحاته، لا بدّ وأن يحسّ بالسُكر فورا وهو يلمس كلّ هذا القدر من الكفاءة والفاعلية. لكنه لن يكلّف نفسه عناء النظر إلى ما هو ابعد.
بدأت شهرة بوغرو في التلاشي قبيل وفاته بوقت قصير، أي عندما كان إدوارد مونك يرسم لوحته "رقصة الحياة"، وعندما انتهى غوستاف ماهلر للتوّ من تأليف سيمفونيّته السادسة بطريقة مأساوية.
في ذلك الوقت بالتحديد، أصبحت الأفكار المثالية ضربا من السذاجة. وكانت الأكاديمية الفرنسية تُعتبر "مؤسّسة قديمة" بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وفي فترة ما بعد الحرب، صارت درجة إتقان تنفيذ العمل الفنّي اقلّ أهمية من المفاهيم التي يعكسها.



شاعرية بوغرو وتناغم مناظره يشبهان ظاهريا ذلك الإحساس الذي ينتابك وأنت تستمع إلى موسيقى موزارت: فوران مفاجئ وشعور غامر بالسعادة والاسترخاء، ثم ينتهي كلّ شيء.
غير أن أكثر الذين يستمتعون بـ موزارت نادرا ما يدرسونه. النسيج المصقول يبدو فهمه سهلا. لكن الأمر يتطلّب الكثير من الطاقة والوقت لاستيعاب المعاني العميقة الكامنة تحت طبقات الإيقاعات والأنغام.
تضاؤل شعبية الموسيقى الكلاسيكية مع صعود موسيقى البوب والروك أدّى إلى عزلة ونفور غالبية الجمهور، بنفس الطريقة التي فعلتها الدعاية للفنّ الحديث على حساب مدارس وأساليب الروّاد الأوائل.
كان بوغرو يركّز على إبراز مظاهر الجمال والسعادة والنقاء في لوحاته. لكن هذا أدّى في النهاية إلى أن أصبح أسلوبه وموضوعاته رتيبة ومكرّرة ومملّة.
كان دائما يقول أن لا شيء أكثر صعوبة من رسم الأطفال. وهم يظهرون في لوحاته وهم يتعانقون ويقبّلون بعضهم وينامون في براءة غير ملوّثة وفي مرح لانهائي.
ولأكثر من خمسة عقود، لم يتطوّر أسلوبه الفنّي، ولم تتغيّر موضوعاته التي بدا أنها أصبحت بالنسبة له متعة وضرورة.
صحيح أن أساليب العصور القديمة أو الكلاسيكية لم تسقط من تاريخ الفنّ تماما. لكن حساسيّتها ودقّتها وصلتها بروح العصر قد تكون اضمحلّت فعلا. كان بوغرو يقول إن على المرء أن يسعى وراء الجمال والحقيقة. ولكن عندما تتعارض الحقيقة مع الجمال في فنّه، فإنه كان يفضّل دائما اختيار الأخير.
في خمسينات وستّينات القرن قبل الماضي، حاول الرسّام استكشاف الظلام والعنف في المواضيع الأسطورية والدينية عندما رسم لوحته دانتي وفرجيل في الجحيم. لكنّه سرعان ما تخلّى عن هذه الجهود وعاد إلى لوحاته ذات المواضيع الأنيقة والألوان الشاحبة.
شخوص بوغرو دائما رائعون ومهذّبون ومتأنّقون وخالون من النقائص والعيوب، كما هو الحال في أركاديا. وأضواؤه الساطعة والليّنة تذوب في البشرة الناعمة، ما يؤدّي إلى فقدان أيّ توتّر محتمل.
خلال حياته الطويلة، رسم بوغرو أكثر من سبعمائة لوحة. وكان هو الرسّام المفضّل لدى جامعي الأعمال الفنّية الذين كانوا يجدون في مناظره ملاذا ومهربا من ضغوط ومشاكل الحياة اليومية.
في عام 1895، اشترى هنري فريك لوحة بوغرو المسمّاة فتاة شقيّة مقابل خمسة آلاف دولار. كان وجه الفتاة في اللوحة يذكّر الرجل بملامح ابنته المتوفّاة. وقد احتفظ باللوحة طوال حياته. ولا بدّ وأنه كان يرى فيها شيئا أعمق بكثير من الوجه الملائكي الذي تصوّره. كان الأمر اكبر من مجرّد عاطفة جيّاشة يكنّها أب حنون لذكرى ابنته الراحلة. وبعض الناس يحرّك مشاعرهم رؤية مثل هذه اللوحات لأطفال، بصرف النظر عن الأحلام والخيال أو الواقع.
أفول نجم بوغرو وغيره من أتباع الفنّ الكلاسيكي والأكاديمي ظاهرة لافتة. وهي كانت وما تزال مبعث حيرة بالنسبة للكثيرين. وقد راج في بعض الأوساط حديث عن "مؤامرة ما" قيل إنها حيكت على امتداد المائة عام الماضية واستهدفت تشويه وتحطيم رموز الفنّ الأكاديمي والكلاسيكي الذي كان سائدا حتى نهايات القرن التاسع عشر. وحسب هذه المؤامرة المتخيّلة، فقد أسهمت في هذا الجهد الصحافة والقوى المتحكّمة بالفنّ والثقافة التي أصبحت تفرض قبضتها الحديدية على المؤسّسة الفنّية العالمية. وكان هناك تنسيق محكم وناجح لإزاحة كل ما له صلة بالطرق والأساليب اللازمة لتدريب فنّانين مهرة وبارعين. ونتيجة لذلك، ألقي بتراث خمسة قرون من المعلومات الفنّية والنقدية في سلّة المهملات. كما يستغرب القائلون بنظرية المؤامرة كيف أن مدرسة الحداثة التي تدعمها شبكات مصالح واسعة ومعقّدة أصبحت تسيطر اليوم بشكل كامل ومطلق على آلاف المتاحف والجامعات والمؤسّسات الفنّية حول العالم وعلى حركة النقد في الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة.
بنظر منتقديه، كان وليام بوغرو مجرّد رسّام فيكتوري كان يرسم الفتيات الصغيرات اللاتي تزيّن شعورهنّ الأزهار وتكتسي ملامحهنّ بالطيبة والبراءة. لكن هذا لا ينفي حقيقة انه كان رسّاما خاصّا ومتميّزا. أسلوبه الفنّي كان انعكاسا لأذواق الناس في زمانه. وهو كان يرسم بتلك الطريقة لأنه كان يريد أن يعيش ويكسب رزقه.
صحيح أن أعماله، وبقدر ما، لم تعد تجاري الذوق السائد الآن. لكن بعض اشدّ منتقديه يشهدون له بأنه كان أفضل من أيّ فنّان جاء قبله من حيث معرفته بأسرار الألوان وطرق مزجها وتوظيفها في الرسم.

Credits
bouguereau.org
artrenewal.org

الجمعة، يونيو 25، 2010

اللون الأسود: الإشارات والرموز


اللون الأسود لون غريب ومحيّر. الرسّامون يتجنّبون استخدامه إلا نادرا. معاني ودلالات هذا اللون في الثقافة واللغة سلبيّة في معظمها: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، الثقوب السوداء، التاريخ الأسود.. إلى آخره. في الثقافة الشعبية يقال "هذا يوم اسود" في إشارة إلى كارثة أو مأساة. ويقال أيضا "فلان قلبه اسود" للتدليل على حقده وحبّه للشر. وهناك أيضا القائمة السوداء التي تتضمّن أسماء أشخاص أو منظّمات تستحق المقاطعة أو العقوبة.
غير أن بعض النساء يفضّلن الأسود لأنه كلاسيكي ويُظهرهنّ بقوام أكثر نحافة. مع أن بعض علماء النفس يقولون إن المرأة التي تفضّل الأسود ذات شخصية انقيادية وتميل إلى الخضوع للرجل. الأسود أيضا لون يدلّ على السلطة والهيبة. ربّما لهذا السبب يرتديه القضاة في المحاكم. وهو أحيانا يعطي معنى الخضوع والاستسلام، لذا يستخدمه الرهبان ورجال الدين.
في الموسيقى الكلاسيكية يرتدي العازفون لباسا موحّدا من الأسود.
وكثيرا ما يرمز الأسود للتكتّم والسرّية. وهناك مصطلح الخروف الأسود الذي يشير إلى الشخص الرديء أو غير المحترم في عائلة أو جماعة.
هناك أيضا مصطلح الكوميديا السوداء التي يعبّر عنها القول الشائع "شرّ المصيبة ما يضحك". وفي عالم الطبيعة هناك الأرملة السوداء أو أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها.
الرسّامون أيضا منقسمون في نظرتهم للون الأسود. التجريديون، مثلا، استخدموه كثيرا في أشكالهم ورسوماتهم. ومانيه قال عنه مرّة : الأسود ليس لونا. ورينوار اكتشف بعد سنوات طويلة أن الأسود ملك الألوان. وجورجيا اوكيف، الرسّامة الأمريكية، كانت تعتقد أن اللون الأسود يخفي في أعماقه سرّا دفينا وغامضا. كما أن لوحات غويا السوداء أصبحت ترمز لليأس والتشاؤم والموت.
غير أن أشهر لوحة اقترنت بهذا اللون هي المربّع الأسود للرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش والتي أصبحت في ما بعد إحدى أيقونات الفنّ الحديث.
الموضوع المترجم التالي يستعرض الممرّات والدروب المظلمة التي سلكها اللون الأسود عبر تاريخه الطويل وكذلك الإشارات والرموز التي أصبح مرتبطا بها.

نتحدّث كثيرا عن الألوان كما لو أنها أشياء مادّية ثابتة في حياتنا اليومية. نقول أحيانا هذا اللون بارد وذاك دافئ، مع أننا من خلال هذه التوصيفات نخلع على الألوان تلقائيا استعارات وتشبيهات غامضة. في كتابه عن نظرية الألوان، درس الفيلسوف والشاعر الألماني غوته التأثيرات السايكولوجية للألوان. وقال إن اللون ما هو إلا "ضوء مضطرب". غير انه ليس هناك من الألوان ما هو أكثر إثارة للاضطراب والفتنة من اللون الأسود. لكن هل يمكن أن نطلق على الأسود وصف لون؟ غوته نفسه لم يكن متأكّدا من هذا.
إننا نرى الأسود كسطح يمتصّ جميع ألوان الطيف المرئي. وهو دائما يحتفظ بهالة خاصّة وغامضة. كما كان له تأثيره الكبير على الرسّامين.
بِيت موندريان الذي كان معجبا بنظريات غوته استخدم الأسود بطريقة مؤثّرة جدّا في أشكاله التجريدية ذات الخطوط الأفقية والعمودية. بالنسبة له لم يكن الأسود لونا. آد راينهارت الذي درس لوحات موندريان نقل الموضوع خطوة ابعد عندما قال إن الأسود هو لون نفي. انه ينفي جميع الألوان الأخرى. الجانب الغامض من الأسود كان يروق كثيرا للرسّامين.
بول كْلِي قال انه لا يمكن عقلنة الأسود وليس مطلوبا أن نفهمه. بالنسبة له، الأسود هو تعبير عن البدائية. تعليقات كْلي تشير إلى الأصول القديمة للون الأسود، أي إلى الزمن الذي لم يكن الإنسان بعد قد روّض النار أو استخدمها لإضاءة ساعات الظلام.
في فيلم اوديسّا الفضاء لـ ستانلي كوبريك، يظهر بشكل غير متوقّع عمود اسود غامض في الأيّام الأولى لوجود البشر على كوكب الأرض. وعندما يهبط الليل، يبعث مرأى ذلك العمود الغامض الشكّ والهلع في نفوس القِرَدَة.


ترى هل يكون الأسود منزرعا في أعمق أعماق دماغ الإنسان؟ هل هو جزء من تجربة التطوّر التي مرّ بها البشر عبر آلاف السنين؟ ليس ثمّة إجابة واضحة عن هذا السؤال بالرغم من التقدّم الكبير الذي ُانجز في مجال البحوث والدراسات العصبيّة. وكلّ ما نعرفه على وجه اليقين هو أن هذا اللون يمكن أن يثير في وعينا الجماعي إحساسا بالضعف والعجز. كما انه يرتبط بالأمور غير العقلانية أو تلك التي ترفض الخضوع لمنظومة المسلّمات الثقافية.
لذا يمكن القول إن الأسود لون مخرّب، من حيث انه يقوّض الواقع الراهن. ادموند بورك يقول إن الأسود مرتبط بالأشياء الرهيبة والمتسامية معا. كما أن له علاقة دائمة تقريبا بالأشكال الصلبة والهندسية. وبالنسبة للبعض، هو يرتبط باللانهائية وإلى بدايات خلق الكون والحياة على الأرض.
الرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش رسم لوحته المشهورة المربّع الأسود عام 1915 والتي أصبحت احد أهمّ الأعمال الفنية في روسيا. في هذه اللوحة أزاح الرسّام الفراغ الصوري والمنظور تاركا فقط مربّعا اسود نقيّا على خلفية بيضاء. هذه اللوحة أصبحت في ما بعد رمزا لفنّ الحداثة كما كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين.
في معظم اللوحات التجريدية نلمس إحساسا بالحزن والكآبة. هذا الإحساس الغامض له ارتباط باللون الأسود يعود إلى زمن أرسطو في اليونان القديمة. وفي اللغة اليونانية، فإن مفردة الأسود تعني حرفيا الحزن. وعلى خطى أرسطو وبعد وقرون طويلة، ألّف روبرت بيرتون كتابه المشهور تشريح الحزن عام 1621م. هذا الكتاب عبارة عن دراسة معمّقة لظاهرة الحزن، تاريخها وأسبابها وعلاجها.
في القرن التاسع عشر، ظهر اللون الأسود في العديد من السياقات. بالنسبة إلى غويا، كان الأسود يرمز لحالة النفي الاجتماعي، وهو ما تؤكّده صوره الكثيرة عن الموت والكوارث.
الرسّام الفرنسي هنري ماتيس كان يعتمد على الأسود لتبسيط بناء اللوحة. في لوحته نافذة فرنسية يحوّل ماتيس نظر المتفرّج بعيدا عن ألوان ديكور رمادية وبنّية وخضراء كي يركّز اهتمامه على مشهد لشرفة مظلمة.
كان ماتيس سيّد الألوان المستقلّة الذي قاد تحوّلا تاريخيا مهمّا في الفنّ من خلال دراسته التي كتبها بعنوان "الأسود كلون". وقد بذل الفنّان جهده من اجل تحرير الأسود من هوّيته الشائعة والمتعارف عليها كلون يمتصّ الألوان الأخرى وجعل منه لونا مشعّا وذا خاصّية لامعة. أي انه تصرّف بعكس الانطباعيين الذين كانوا يهتمّون بالضوء، ولذا تجاهلوا اللون الأسود كلّيا تقريبا.
كاندينسكي الذي استخدم الأسود كثيرا في لوحاته كان يعتبره لونا يقود وجودا خاصّا به في مكان بعيد عن حياة الألوان البسيطة. كان كاندينسكي يصف الأسود إما كبُنية دائرية وإمّا تبعا لاستقطابه الألوان الأخرى مثل الأصفر والأزرق أو الأحمر والأخضر أو البنفسجي والبرتقالي.
في الفترة الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد وانتقائي بالأسود. وفي بعض الحالات، أصبح هذا اللون يشير إلى التغييرات السياسية والاجتماعية. في لوحتها الحديقة السوداء ترسم جيني هولزر نباتات سوداء أو حمراء قاتمة، يمكن تفسيرها على أنها رمز لموت النظرة الطوباوية إلى العالم. كما يصحّ اعتبارها إعادة صياغة عصرية للوحة نيكولا بُوسان المشهورة رُعاة أركاديا.
ريتشارد سيرا حاول هو أيضا أن يجعل الأسود لونا دنيويا، وذلك من خلال تحويل طبيعته من لون ميثولوجي إلى لون متجسّد ومادّي بحيث تبدو سماته البصرية اقلّ أهمية من خصائصه اللمسية.
في كتابه بعنوان حلقات زحل، يشير دبليو جي سيبالد إلى عُرف كان سائدا في هولندا في القرن السابع عشر. حيث كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يغطّوا بأشرطة الحداد السوداء جميع المرايا في البيت وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصا أو فاكهة في الحقول. كانوا يعتقدون أن من شأن ذلك أن يعين الروح وهي تفارق الجسد على أن لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد.

الأحد، يونيو 20، 2010

ثلاثة كُتُب

تتفاوت النسبة بين ما هو موضوعي وبين ما هو ذاتي عند الكتابة عن حياة الشخصيّات المشهورة. والمؤلّف الذي يؤرّخ لحياة مبدع ما ويتناول نتاجه بالنقد والتقييم، كثيرا ما تفرض عليه انطباعاته وأفكاره المسبقة نوعية الأحكام والمواقف التي يضمّنها كتابه عن هذه الشخصية أو تلك.
هذه المشكلة لا تقتصر على مؤلّف الكتاب فحسب بل قد تمتدّ أحيانا لتشمل المتلقّي نفسه الذي قد يقرأ الكتاب وفي ذهنه القناعات والمواقف التي كوّنها عن الشخصيّة في مرحلة سابقة.
جيكوب ويسبيرغ يستعرض في المقال التالي ثلاثة كتب تتناول سيرة حياة ثلاثة من كبار الرسّامين، هم على التوالي هنري ماتيس ودييغو ريفيرا وسلفادور دالي.

كقاعدة عامّة، يمكن القول إن حياة الروائيين اقلّ نشاطا وحيوية من حياة الرسّامين. فبينما يجلس الكاتب لوحده إلى طاولة، فإن الفنّان يؤدّي عمله وسط دعم فريق كامل من الرعاة والزبائن والمساعدين.
وبينما يحاول الروائي أن يكون له أسلوبه الخاصّ في الكتابة، فإن الرسّام من حقّه أن ينضمّ إلى تيّار جماعي أو أن يختار طريقه بمفرده.
وعندما يتعلّق الأمر بالسلوك الاجتماعي، فإنه لا توجد مقارنة على الإطلاق بين الروائي والرسّام. وليام فوكنر، مثلا، قد يتناول خِفية جرعة من الكحول من درج مكتبه، بينما يستطيع جاكسون بولوك أن يسكر على الملأ. وهمنغواي بإمكانه أن يتخذ له زوجة أو عشيقة، بينما يستطيع بيكاسو أن يدّخر لنفسه عشرات الخليلات. وإذا كان لدى الكاتب عشيقة، فإن الرسّام يمكن أن يعيش حياة تتسم بالمجون والعربدة.
لهذه الأسباب أصبحت كتب السيرة، منذ جورجيو فاساري في القرن السادس عشر، نوعا من التسلية الجيّدة. ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت مثل هذه القصص تساعدك على تقدير وتقييم إبداعات أصحابها. إذا أردت، مثلا، أن تعرف طبيعة إسهامات هاري ترومان، فما عليك إلا أن تقرأ سيرة جيّدة له، لأنه لا يمكنك الذهاب إلى متحف كي ترى سياسة الاحتواء المزدوج. الفنّانون في المقابل يسعون للوصول إلينا دون حاجة إلى كلام النقّاد أو مؤرّخي الفنّ، مع أن هؤلاء قد يلفتون اهتمامنا إلى أشياء ربّما تفوتنا. لكن هل بإمكان كاتب السيرة أن يقرّبنا أكثر من التجربة الفنّية؟
الكتب الثلاثة التالية تقدّم إجابات مختلفة ومتباينة عن هذا السؤال.
الكتاب الأوّل، وهو أفضلها، عنوانه ماتيس المجهول: السنوات الأولى للكاتبة هيلاري سبورلنغ.
كتاب سبورلنغ هو عبارة عن قصّة تكشف فصولها بالتدريج عن سيرة حياة رسّام عظيم. السؤال الذي يطرح نفسه عن ماتيس هو: كيف استطاع ابن تاجر بذور من ريف شمال فرنسا الفقير أن يصبح مبتكر الحداثة وسيّد اللون والضوء المتوسّطيين؟
الكتاب يُطلعنا على خطوات ماتيس الصغيرة وإخفاقاته الكثيرة. وشيئا فشيئا ينقلنا للتعرّف على أسلوبه المبتكر وإبداعاته الثورية.
تشرح المؤلّفة كيف نضج أسلوب ماتيس الفنّي وكيف سقط بعد ذلك في فترة مظلمة دامت سنتين إثر فضيحة مالية نشأت عن تزوير أوراق تورّط فيها والدا زوجته. هذه الفترة من حياة ماتيس شغلت كلّ وقته واستنزفت موارده الشحيحة أصلا وسبّبت له الانهيار. ولم يتمكّن من الوقوف ثانية على قدميه إلا بعد أن تمّت تبرئة أصهاره. ثم تشرح المؤلّفة كيف تأثّر الفنّان بأنماط الأقمشة المزركشة في قريته وبلوحات تيرنر التي رآها أثناء قضائه شهر العسل في لندن وبإحدى لوحات سيزان التي اشتراها بمال بقالة العائلة.
الشيء الجدير بالإعجاب في شخصيّة ماتيس هو نزاهته وإخلاصه. فطوال عشرين عاما صمد هذا الرجل المتحفّظ وذو العادات الثابتة في وجه الفقر والمرض وسوء فهم الآخرين له ورفضهم للوحاته الثورية. والده اعتبره عارا على العائلة وحرمه من نصيبه من الميراث. المعلّمون في باريس اخبروه أن حالته ميئوس منها. معاصروه اعتبروا لوحاته المعْلَمية سخيفة ومضحكة. بعض لوحاته مثل العارية الزرقاء صدمت حتى منافسه العتيد بيكاسو. "إذا أراد أن يرسم امرأة فليرسم امرأة. وإذا أراد أن يضع تصميما فليضع تصميما. لكن هذه اللوحة هي شيء بين الاثنين". بيكاسو قال هذا عن ماتيس، لكنّه عن قريب سيقوم بتقليده.
هذه السيرة عن هنري ماتيس مكتوبة بطريقة جيّدة. غير أنها لا تتحدّث كثيرا عن أسرار الإلهام الفنّي. سبورلنغ تخبرنا أن النمط الذي يظهر على ورق الحائط وقماش المائدة في لوحة ماتيس هارموني بالأحمر مستوحى من قماش قطني ازرق كان الرسّام قد لمحه من نافذة قطار. وأثناء مراجعة اللوحة قام بتغيير خلفيّتها من الأزرق إلى الأحمر.
هذه المعلومة على بساطتها ممتعة. لكنّها لا تقوّي استمتاعنا بهذه التحفة بالذهاب إلى ما وراء المعلومة.

الكتاب الثاني عنوانه الحلم بعينين مفتوحتين: حياة دييغو ريفيرا للكاتب باتريك مارنهام. الكتاب عبارة عن حكاية صاخبة لا تخلو من ثرثرة. ثم هو بعد ذلك عن الرسم.
دييغو ريفيرا عاش حياة أكثر جموحا من ماتيس وأنتج فنّا اقلّ أهمّية. وهذا ما تعكسه بوضوح السيرة التي كتبها مارنهام عن الفنّان المكسيكي.
ارتبط ريفيرا طوال حياته بالماركسية والسياسة المكسيكية. كما عُرف بكثرة عشيقاته وفضائحه النسائية المشهورة وكذلك بزواجه الغريب من الرسّامة فريدا كالو.
كان ريفيرا أيضا ناسج أساطير من طراز غابرييل غارثيا ماركيث. ولطالما تحدّث عن قصص يصعب تصديقها، مثل أكله للحوم البشر عندما كان طالبا وقتاله إلى جانب الثائر ايميليانو زاباتا.
يقول المؤلّف: القصص الحقيقية هي تقريبا بمثل جودة القصص الخيالية. فرغم أن ريفيرا لم يحاول اغتيال هتلر كما كان يزعم متباهياً، إلا انه قد يكون وراء جريمة اغتيال تروتسكي. فقد طرد ريفيرا تروتسكي من منزله في مكسيكوسيتي عندما اكتشف أن الأخير كان يقيم علاقة عاطفية مع زوجته. وكانت كالو قد راودت تروتسكي بسبب غيرتها من علاقة الحبّ التي أقامها ريفيرا مع شقيقتها.
وبعد أن أصبح تروتسكي بلا حماية، وجد نفسه فريسة سهلة لعملاء ستالين.
ويحكي مارنهام عن قصّة العلاقة بين ريفيرا وكالو في إطار من الكوميديا السوداء. "في إحدى المرّات، أسَرّ ريفيرا إلى بعض أصدقائه أن زوجته أصبحت مكتئبة جدّا إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه إدخال السعادة على قلبها بإخبارها عن آخر فتوحاته الجنسية".
لكنْ في هذه السيرة أيضا نتعلّم بعض الحقائق عن تطوّر الفنان دون أن نفهم كيف حدث ذلك. في باريس، قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، كان ريفيرا عضوا في حركة الطليعيين الفرنسيين. وكان يرسم أعمالا تكعيبية من قبيل لوحته بعنوان حياة ساكنة مع زجاجة كحول.
وبعد زيارة له إلى ايطاليا رأى خلالها بعض جداريات عصر النهضة، تراجع ريفيرا عن التكعيبية وأصبح يرسم الجداريات الضخمة.
الكتاب الثالث عنوانه الحياة المُشينة لـ سلفادور دالي للكاتب إيان غيبسون. هذا الكتاب يتنمي إلى تلك النوعية من الكتب التي تحفل بالتنظيرات السيكولوجية والمواقف والآراء الانفعالية الحادّة والقاطعة.
ففي كتابه عن دالي، يغرقنا غيبسون بالتفاصيل الساذجة والمملّة. فهو يتحدّث مثلا عن أصول أسلاف دالي وعن هواجسه الجنسية والصراعات داخل الحركة السوريالية التي طُرد منها الرسّام في النهاية بسبب تأييده للفاشية.
نظرية غيبسون الكبرى هي أن حياة دالي كانت مجلّلة بالعار. وهذا ليس بالأمر المفاجئ من شخص رسم لوحة عنوانها المستمني العظيم.
وعلى النقيض من ريفيرا وماتيس، كان وصول دالي مبكّرا وسريعا. فقد أعطته السوريالية طريقة للتعبير عن مكنونات نفسه. ومن الصعب أن تجادل في براعة دالي الفنية كما أثبتها في لوحته مولد الرغبات السائلة التي رسمها عام 1932 عندما كان في سنّ الثامنة والعشرين.
لكن دالي، بحسب المؤلّف، سرعان ما أصبح شخصا راكدا وفاسدا وفي النهاية مثيرا للشفقة.
غيبسون يسرد تجربة دالي الطويلة، لكنّه لا يحاول أن يحلّلها أو يشرحها.
بعد قراءة هذه الكتب الثلاثة، ذهبت لزيارة متحف الفنّ الحديث في نيويورك، في محاولة لاختبار ردود فعلي على الفنّانين الثلاثة.
واستنتجت أن غيبسون حوّل دالي إلى قزم وإلى رسّام بلا قيمة.
بينما حرّضني مارنهام على أن اذهب إلى المكسيك لرؤية المزيد من جداريات ريفيرا.
وأثناء معاينتي للصالة المخصّصة للوحات ماتيس، أحسست بأن احترامي لهذا الفنّان قد تضاعف، خاصّة بعد ما قرأته في كتاب سبورلنغ عن نضاله وعصاميّته. وأزعم أن بإمكاني الآن أن ألقي محاضرة موجزة عن سنواته الأولى.

الجمعة، يونيو 18، 2010

أعمال فنّية قديمة برؤى جديدة

بعض الأعمال الفنّية العظيمة الموجودة في الناشيونال غاليري بـ لندن تتنفّس حياة ثانية من خلال بعض أعمال الفنّانين المعاصرين، من رسّامين ومصوّرين وشعراء وروائيين.
أليستير سمارت يتحدّث في المقال التالي عن اللوحات القديمة التي أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنّية والروائية والشعرية المعاصرة.

لا شيء في العالم أصعب من رسم بورتريه لامرأة. كان دومينيك آنغر يعتبر نفسه رسّاما للتاريخ. وقد تعذّب وتألّم كثيرا عندما تولّى مهمّة رسم مدام ماري مواتيسييه التي كانت زوجة لأحد تجّار السيغار الأثرياء.
كان آنغر واقعا تحت طغيان الجمال الرهيب لهذه المرأة. وقد لزمه عشر سنوات كاملة كي يتمّ رسمها. لكنّ النتيجة كانت تستحقّ كلّ ذلك الانتظار والعناء.
فقد أتقن الفنان رسم وجه المرأة المرمري وكتفيها العريضين وذراعيها وفستانها الحريري بتطريزه الغنيّ بألوانه المبهجة وزخارفه القشيبة.
غير أن الملمح الأكثر تميّزا في البورتريه هو الطريقة التي تلامس بها المرأة طرف وجهها بأصابعها التي تأخذ شكل سمكة نجمية. هناك أيضا الهيئة الكلاسيكية للمرأة وهي جالسة على الأريكة والتي تعطي انطباعا بالتواضع والاحتشام.
كان بيكاسو معجبا كثيرا بلوحة مدام مواتسييه. وقد أعاد ترجمتها في لوحته بعنوان امرأة مع كتاب. لكنه فعل هذا بطريقة مثيرة عندما تعمّد الكشف عن ثديي الموديل التي استخدمها في اللوحة وهي صديقته ماري تيريز والتر.
بيكاسو قلّد، ليس فقط يد المرأة التي تريحها على وجهها، وإنّما أيضا الجلسة الأنيقة والفستان الزهري وكذلك انعكاس صورتها الجانبية في المرآة. لكنّ المروحة التي تمسك بها السيّدة في لوحة آنغر أصبحت الآن كتابا. لوحة بيكاسو المشاغبة تحمل تأثير ماتيس القويّ. ومن خلال المنحنيات الحسّية التي أودعها بيكاسو في لوحته، نستنتج انه كان مغرما بـ ماري تيريز بقدر ما كان آنغر مغرما بـ ماري مواتيسييه.
لوحة بوتيشيللي المشهورة فينوس ومارس، أو الزهرة والمرّيخ، والموجودة الآن في الناشيونال غاليري، تبدو اقلّ ايروتيكية وإثارة. وفيها يرتاح الإله والإلهة الرومانيان في احد المروج بعد ممارسة الحبّ. لكن "فينوس" تبقى متيقّظة وحذرة، بينما يبدو "مارس" نائما وعاريا، وهو إيحاء بأن الحبّ ينتصر على كلّ شيء بما في ذلك الحرب. في اللوحة أيضا يظهر ملائكة صغار وهم يتلاعبون بخبث بخوذة الإله وسيفه في تأكيد واضح على أن "مارس" قد جُرّد من أسلحته. هذه اللوحة تُقرأ أحيانا كصورة مجازية عن هيمنة الفنون. لكنها أيضا ترمز للصراعات التي كانت تشهدها فلورنسا في القرن الخامس عشر.
المصوّر الأمريكي المعاصر ديفيد لاشابيل مشهور بلقطاته المتوهّجة والمشحونة جنسيا عن المشاهير. وقد كلّف العارضة نعومي كامبل بأن تمثل أمامه ليصوّرها كرمز لأفريقيا. وتظهر العارضة في الصورة التي اختار لها اسم اغتصاب أفريقيا وهي نصف عارية ومتّخذة هيئة فينوس في لوحة بوتيشيللي، بينما يجلس قبالتها رجل ابيض يمثّل العالم الغربي الضائع في سبات عميق والمحاط بالذهب. لاشابيل يقلب الصراع على السلطة عند بوتيشيللي رأسا على عقب. فالأنثى الجميلة تصبح مستعبَدة للرجل الأبيض الذي لا يهمّه سوى الاستحواذ على الذهب والذي اغتصب المرأة للتوّ. ومن الأمور المنذرة بالشؤم في صورة لاشابيل أن الملائكة الصغار المسالمين في "فينوس ومارس" أصبحوا الآن أطفالا مدجّجين بالسلاح.
ثنائي آخر مشهور من العشّاق الأسطوريين المعروضين في الناشيونال غاليري هما باخوس وأريادني اللذين رسمهما تيشيان. إله الخمر باخوس يقع في حبّ الأميرة أريادني من النظرة الأولى فيقفز من عربته المحمّلة بالنمور باتجاهها، بينما يدخل موكب من المحتفلين السكارى إلى الساحة خلفهما.
في الوقت الذي رأى الشاعر الانجليزي جون كيتس هذه اللوحة، كان يعاني من اعتلال الصحة وقلّة المال ومن حزنه على وفاة شقيقته. وكان وقتها قد بدأ يسرف في الشراب.
غير أن "باخوس وأريادني" يعود إليها الفضل، ولو جزئيا، في إلهام كيتس واحدة من أشهر قصائده، وهي تلك التي كتبها في العام 1819 بعنوان قصيدة إلى عندليب. أما مصدر الإلهام الأخر فكان البلبل الذي سمعه الشاعر يغنّي في حديقة إحدى الحانات. وقد كتب كيتس كيف انه يتوق للهرب من مشاكل الحياة الواقعية ويختفي في عالم من أصوات العصافير الجميلة. في البداية كان الشاعر يعتقد أن الكحول يمكن أن يوفّر له مهربا من ضغوط الحياة. غير انه أيقن بعد ذلك أن نشوة الشعر يمكن أن تأخذه إلى عالم أكثر رفعة وسموّاً. "سوف أطير إليك، لا على عربة باخوس ونموره، وإنّما على أجنحة الشعر الخفيّة". هكذا خاطب الشاعر العندليب، رافضا أن يُنقل على عربة إله النبيذ التي تجرّها النمور كما تصوّرها لوحة "باخوس وأريادني"، مفضّلا عليها الأجنحة المجازية للشعر.
هناك أيضا رواية دان براون المثيرة شيفرة دافنشي. موضوع الرواية يعود إلى العام 1480، عندما كُلّف ليوناردو دافنشي برسم لوحة تزيّن إحدى الكنائس في ميلانو. وقد اختار الرسّام عذراء الصخور كي يكون اسما للوحة. ورسم منها نسختين متطابقتين تقريبا، الأولى موجود اليوم في اللوفر والثانية في الناشيونال غاليري في لندن. وفي كلا اللوحتين تظهر العذراء والملاك اورييل والطفلان يسوع ويوحنّا المعمدان. الفرق الوحيد بين اللوحتين انه في الأولى تبدو اورييل وهي تشير بإصبعها باتجاه شيء ما مجهول.
وطبقا لـ براون، لم يكن مجمّع الإخوة في ميلانو راضين عن اللوحة الأولى لأن ليوناردو بدا وكأنه يحاول إيصال رسالة تخريبية وخفيّة مفادها أن الكنيسة غطّت طوال قرون على حقيقة أن مريم المجدلية كانت أمّا لطفل المسيح وأن سلالته استمرّت من بعده على مرّ العصور. يقول براون أن دافنشي طُلب منه أن يرسم نسخة ثانية من "عذراء الصخور" شريطة أن تكون أكثر انسجاما مع الرواية الشائعة والمألوفة عن الموضوع.
من أهم الأعمال الفنّية التي يضمّها الناشيونال غاليري لوحة الرسّام الفرنسي جورج سورا بعنوان مستحمّون في آنيير. عندما ظهرت هذه اللوحة عام 1884 قوبلت بالشكّ وامتنع صالون باريس عن قبولها في حينه. وهي تصوّر مجموعة مجهولة من الشباب يمضون وقتهم على الضفاف العشبية لنهر السين، بينما يبدو كلّ منهم منشغلا بعالمه الخاصّ وغافلا عمّن حوله.
جورج سورا رسم أكثر من 24 اسكتشا تحضيريا لهذه اللوحة. وقد عمل طويلا عليها وبذل لأجل ذلك جهدا شاقّا. والمفارقة أن اللوحة ألهمت هنري كارتييه بريسون صورته الفوتوغرافية المشهورة يوم أحد على ضفاف نهر المارن، والتي يظهر فيها أربعة رجال ونساء فرنسيين وهم يتجاذبون أطراف الحديث على ضفّة النهر.
كان كارتييه بريسون سيّد اللقطات اللحظية وكان يهتمّ بالبحث عن مواضيع مثيرة لصوَره. ولا بدّ وأن لوحة سورا كانت ماثلة في عقله بطريقة غامضة عندما التقط صورته المشهورة.


Credits
en.wikipedia.org

الأحد، مايو 09، 2010

غداء مع سيزان

كثيرا ما يُوصف بول سيزان بأنه الأب الروحي للرسم الحديث. وقد كان لهذا الرسّام تأثير كبير على حركة الرسم في القرن العشرين، على الرغم من انه قوبل بالتجاهل والإهمال من قبل النقاد في عصره. لم يكن سيزان يثق بالنقاد كثيرا وكانت نصيحته دائما: لا تشتغل بالنقد الفنّي. وارسم، فإن في الرسم خلاصك". تأثّر به ماتيس وبيكاسو كما اعتُبر طليعة الاتجاه التكعيبي في الرسم.
بروك كيسترسون كتبت المقال المترجم التالي الذي تتحدّث فيه عن حياة سيزان وفنّه..

لو عاد بول سيزان إلى الحياة من جديد وواتتني فرصة دعوته لتناول الغداء معي فسآخذه إلى مكان منعزل وهادئ وذي إطلالة جميلة على البحر. وعلى الأرجح، سأصطحبه إلى مطعم صغير يشرف على الشاطئ ولا يكون مزدحما بالناس. فـ سيزان شخص انطوائي ومحبّ للعزلة. وبالتأكيد سيقدّر هذه البادرة كثيرا.
أثناء الغداء، ربّما نتحدّث عن المناظر الطبيعية أو حتّى عن القانون. فـ سيزان درس القانون في فرنسا لمدّة سنتين.
ويمكن أن نتحدّث عن الهزّات والمشاكل التي تخلّلت حياته، وعن موت والده أو حتّى عن زوجته وطفله.
وبعد الغداء، قد أصطحبه في مشوار على ساحل البحر. فـ سيزان مغرم كثيرا برسم مناظر الطبيعة والبحر. وأتصوّر انه سيستمتع كثيرا بمرأى الماء.
ولد سيزان في التاسع عشر من يناير عام 1839 في فرنسا. وتلقّى تعليمه الأوّليّ في ايكس، كما ربطته صداقة وثيقة مع الروائي المعروف اميل زولا.
درس سيزان القانون وأثناء ذلك كان يأخذ دروسا في الرسم. وقد قرّر، خلافا لرغبة والده، أن يحقّق حلمه في أن يصبح رسّاما. وفي مرحلة لاحقة انضمّ إلى صديقه زولا في باريس.
كان والده يدعمه ماليّا. لكنّه كان ما يزال بحاجة إلى المزيد من المال. في باريس، قابل زولا وسيزان كميل بيسارو وهو رسّام انطباعي آخر ترك تأثيره في ما بعد على العديد من أعمال سيزان.
في رحلته الأولى إلى باريس، قابل سيزان موديلا فرنسية تدعى "اورتونز"، ثم لم يلبث أن وقع في حبّها.
وقد أبقى علاقته مع المرأة سرّا وأخفى ذلك عن عائلته لسنوات حتى بعد أن أنجب منها طفلا.
غير أن سيزان وزوجته لم يكونا على وفاق أبدا. فـ اورتونز كانت تكره ايكس وتعشق باريس وأضواءها وصخبها.
سيزان نفسه لم يفهم النساء أبدا. ولم تكن زوجته استثناءً. وكانا يقضيان أكثر وقتهما متباعدين عن بعضهما.
كان يعتبر ايكس مكانا مناسبا للاعتكاف والرسم. واستمرّ يرسم مناظر الطبيعة والبورتريهات والحياة الساكنة مع التركيز على عناصر متكرّرة مثل التفّاح وقماش المائدة. لكن لوحاته لم تثر اهتمام احد من النقّاد.
في تلك الفترة، ألّف صديق سيزان الطيّب اميل زولا رواية جديدة. كانت الشخصية الرئيسية في الرواية فنّانا فاشلا قريب الشبه بـ سيزان. ولم تمرّ فترة قصيرة حتى انتهت الصداقة التي كانت تجمع بين الروائي والرسّام.
في إحدى مراحل حياته، كان سيزان مفتونا بـ مونت سان فيكتوار، وهو جبل كبير يبرز من وسط السهول. كان يرى في ذلك الجبل رمزا، كما كان له تأثير كبير على فنّه.
وفي أحد أيّام شهر أكتوبر من عام 1906 قرّر سيزان أن يذهب إلى محترفه مشيا على الأقدام بدلا من استئجار عربة كما كان يفعل عادة. كان المشوار طويلا والجوّ باردا. وفي منتصف الرحلة أمطرت السماء لساعات. عاد سيزان إلى البيت مريضا منهكا. وأرسل إلى اورتونز وابنه يبلغهما عن احتمال موته الوشيك.
وفي صباح اليوم التالي، أي 22 أكتوبر 1906، توفّي جرّاء مضاعفات إصابته بالتهاب رئوي حادّ. كان سيزان يتمنّى أن يرى ابنه للمرّة الأخيرة. لكنّ الابن والزوجة وصلا متأخرّين.
استخدم سيزان زوجته وولده في العديد من لوحاته. لكن اورتونز لم تكن تحبّ الرسم وكانت تبدو متضجّرة عندما كانت تقف أمامه لرسمها.
كان في حياة سيزان الكثير من الصعاب والأحزان. لكنه ظلّ إنسانا متفائلا واستمرّ يركّز على فنّه.
وبالقرب من نهايات حياته، كان اسم سيزان قد أصبح مألوفا وبدأت لوحاته في الانتشار في جميع أنحاء أوربّا.
المكان الأخير الذي يمكن أن آخذ سيزان إليه هو احد الغاليريهات الحديثة التي تعرض لوحات تنتمي إلى مدارس الرسم الحديث.
هناك سيكتشف بنفسه كم أن الرسم تغيّر كثيرا في المائة سنة الأخيرة منذ رحيله.



الخميس، ديسمبر 31، 2009

الفنّ الاستشراقي: يقظة بعد سُبات

الفنّ الاستشراقي يعيش الآن حياة ثانية في بلدان الشرق الأوسط بعد فترة طويلة من موت هذا الفنّ في موطنه الأصلي، أي أوربّا.



بدأ الاهتمام بالفنّ الاستشراقي مع حملة نابليون على مصر في العام 1798م. وجاء ازدهاره الحقيقي بعد 40 عاما من ذلك التاريخ. والفضل يعود إلى انتشار خطوط السكك الحديد وتخفيف القيود المفروضة على السفر والتجارة.
بعض الفنّانين الاستشراقيين كانوا يرسمون أعمالهم في عين المكان. لكن مع ازدياد شعبية هذا النوع من الرسم، استطاع آخرون رسم لوحات استشراقية دون أن يغادروا أوطانهم. كانوا ببساطة يستخدمون الكتب المرجعية ويستعينون بنساء من بيئاتهم المحلية يلبسونهنّ ثيابا واكسسوارات مستوردة من بلدان الشرق.



المواضيع التي كانوا يفضّلون رسمها كانت الحصان وسوق الرقيق والمسجد وطبيعة الأرض والخلفاء والمؤذّنين وعبيد النوبة والجنود. وكان هناك موضوع مفضّل آخر يتمثّل في الحريم والمحظيات شبه العاريات. كلّ هذا كان يُرسم بتفاصيل دقيقة وبأسلوب شديد الواقعية عُرف بالأسلوب الأكاديمي الذي ساد في أوربا لعدّة قرون وانتهى تماما مع مجيء المدرسة الانطباعية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الصور الأكاديمية تتمتّع بشعبية جارفة لدى الناس، تماما مثل الأفلام السينمائية هذه الأيام. ومع ازدياد شعبيّتها تطوّرت واقعيّتها الفوتوغرافية وأصبحت مثالية وذات صيغ متكرّرة ومبتذلة أحيانا.



بحلول العام 1910 كان الاستشراق قد اختفى فعليا من المشهد الثقافي الغربي، ليس بسبب موضوعه وإنما بسبب أسلوبه. لكن في منتصف سبعينات القرن العشرين، وهنا تكمن المفارقة، عاد الفنّ الاستشراقي إلى الواجهة متزامنا مع نشر كتاب الاستشراق لـ ادوارد سعيد. في ذلك الوقت ازدادت أعداد مشتري اللوحات الاستشراقية من مواطني الشرق الأوسط. وبين 1972 وأواخر الثمانينات، ارتفعت الأسعار من 3000 دولار إلى نصف مليون دولار للوحة ذات النوعية العالية.
والسبب الأكثر شيوعا لهذه الظاهرة هو ارتفاع أسعار النفط في حقبة السبعينات الميلادية.
وقد بدأت حمّى شراء اللوحات الاستشراقية في أماكن معيّنة مثل شمال أفريقيا وتركيا. وكان من بين المشترين أعداد من مواطني الشرق الأوسط المقيمين في أوربّا.
وبحلول الثمانينات انضمّ مواطنون من الخليج العربي إلى قائمة الراغبين في شراء الفن الاستشراقي، رغم حقيقة أن للإسلام موقفا معروفا من قضيّة تصوير أو رسم البشر.
وقد ذكرت بعض التقارير الصحفية أن سلطان عمان وملك المغرب وبعض السعوديين ومسئولين في دولة قطر، بمن فيهم الأمير الحالي، يملكون مجموعات كبيرة من اللوحات الاستشراقية.



لكن لماذا يختار جامعو الأعمال الفنية من العرب اقتناء مثل هذا النوع من الفنّ الذي يفترض انه يحطّ من شأن العرب ويسيء إلى الثقافة العربية كما يقال أحيانا؟
الواقع أن هناك أعمالا استشراقية محايدة بل وذات قيمة فنّية عالية مثل تلك اللوحات التي رسمها ديفيد روبرتس لطبوغرافية بعض أراضي الشرق الأوسط.
وحتى تلك اللوحات التي تصوّر بشرا لا تخلو أحيانا من تفاصيل معمارية وجغرافية مهمّة.
ويبدو أن بعض هواة جمع مثل هذه اللوحات من العرب يساورهم شعور بأهمّية إبراز "الماضي المجيد" وما كان يحفل به من أحداث أو أنماط حياة وسلوك.



مفهوم رسم الحياة اليومية لم يصل إلى الشرق الوسط إلا في نهاية القرن التاسع عشر. لذا فإن عملا لرسّام أوربّي هو غالبا احد الخيارات المتاحة والممكنة.
كما أن جامعي تلك اللوحات من الخليجيين خاصّة يبدون منجذبين إلى أسلوب الرسم الواقعي. وهناك عامل آخر ربّما يفسّر إقبالهم على شراء هذه النوعية من اللوحات يتمثّل في أنها، أي اللوحات، لا تصوّرهم ولا تتناول تفاصيل حياتهم.
فطوال القرن التاسع عشر ظلّت السعودية، والخليج بشكل عام، منطقة مغلقة في وجوه الأوربيين، خلافا لما كان عليه الحال في بقيّة بلدان المشرق العربي وتركيا التي كانت واقعة تحت الاستعمار الغربي.



الفكرة الشائعة هي أن الخليجيين قد يكونون أكثر تسامحا مع مشاهد الشرق التي ابتكرها الرسّامون الأوربيون وسجّلوها في أعمالهم. وبعض النقّاد يقولون إن الفنّ الاستشراقي يشبع رغبة كامنة لدى الكثير من مقتنيه الذين يتوقون لرؤية مناظر تصوّر جوانب من الحياة العربية وتحمل في نفس الوقت طابع العالمية.
وبطبيعة الحال، هناك القاعدة الفنّية القديمة التي تقول إن اللوحة تبيع جيّدا وتروق للعين أكثر إذا كانت تتضمّن صورة فتاة جميلة.
ويقال إن جامعي هذه اللوحات من المسلمين يتجنّبون عادة إغراء مشاهد الحريم المغرية و"الفاسقة". وتبعا لذلك فإن المنطق يملي عليهم أن يتوخّوا الدقّة في اختيار نوعية اللوحات التي يريدون اقتناءها.
ومع ذلك، فإن نظرة سريعة إلى سجلات مزادات البيع تقول إن هذا الافتراض ليس في مكانه تماما. فعندما طرح تاجر السلاح السوري أكرم عجّة مجموعته الفنية للبيع في مزاد كريستيز عام 1999م اتضح أنها مليئة بصور الحريم والمحظيّات.
الغريب انه لا يوجد رسّام أوربّي واحد ذكر انه رأى الحريم عيانا أو في الحياة الواقعية، على الرغم من أن الكثيرين منهم كانت تنتابهم الأوهام والتخيّلات الكثيرة عنهنّ وعن أسلوب حياتهن.



كان الأوربيون ينظرون إلى الحريم كتجسيد لقوّة وقمع المجتمع الشرقي. كان هناك مئات الرقيق اللاتي يُستخدمن للجنس ومن اجل إشباع نزوات السلاطين والأمراء. وقد تخيّل الرسّام الفرنسي جان ليون جيروم حياة الحريم عبر دخان الاراغيل. ونساؤه، العاريات غالبا، يظهرن على أطراف برك الماء وهنّ يتبادلن في ما بينهن الأحاديث والنظرات المغرية.
التفاصيل الزخرفية للشرق، مثل الارابيسك والزجاج المعشّق والخطوط المذهّبة، هي التي أغرت الرسّامين البريطانيين في القرن التاسع عشر بالسفر إلى بلدان الشرق الأوسط لاكتشافها.
والرسّامون الانجليز الذين رست سفنهم على شواطئ الشرق وجدوا في البلدان المشرقية عالما خاصّا يصعب اختراقه أو فهمه.
ولم يستطيعوا الدخول إلى عالم الحريم كما لم يتمكّنوا من زيارة سوق العبيد. وأمام عالم الحريم المغلق والغامض، لم يكن أمام معظم الرسّامين سوى أن يطلقوا العنان لمخيّلتهم لتصوّر أسلوب حياة نساء القصور.
وقد لجأ احدهم إلى حيلة فريدة عندما جلب معه أخته التي تمكّنت من اختراق ذلك العالم الغامض ونقلت له بعض مشاهداتها التي رسمها على الورق.
ادوارد سعيد قال إن الشرق ابتكار غربي، وهو وصف ربّما ينطبق أكثر على الفنّانين الذين قصروا جهدهم على رسم الحريم. لكن هل كانت رسوماتهم مقدّمة لـ اجندا استعمارية كما قيل؟ هذا السؤال ما يزال مفتوحا على أكثر من إجابة واحتمال.
في حوالي العام 1873 زار فريدريك ليتون بلاد الشام. وبعد عودته إلى انجلترا رسم لوحته المعروفة درس في الموسيقى التي تظهر فيها امرأة تعلّم الموسيقى لطفلتها. ويظهر أن الرسّام أعطى الشخصيّتين في اللوحة ملامح أوربّية خالصة بينما اختار آلة موسيقية شرقية، فارسية أو تركية على الأرجح.
جون فريدريك لويس زار اسطنبول حوالي ذلك الوقت. وبعد عودته إلى لندن رسم لوحة بعنوان "الحريم" يصوّر فيها سيّدتين تجلسان في غرفة ذات ديكور شرقي وتراقبان قطّة منهمكة في ملاحقة شعرات من ريش طاووس. المنظر يمكن أن يكون تعبيرا عن الملل عندما يتحوّل إلى لحظات من الجمال والتأمّل. ومن الواضح أن فريدريك لم يستطع إخفاء الملامح الغربية لزوجته التي اختارها كموديل للمرأة الجالسة.
الرسّام الفرنسي ايتيان دينيه جعل الجزائر بلده الثاني، وقد تعلّم فيها العربية وغمر نفسه بالثقافة الجزائرية ثمّ اعتنق الإسلام وأدّى فريضة الحج وعاد في ما بعد ليموت في وطنه الجديد. وقد رسم دينيه مجموعة من اللوحات الجميلة التي تتناول جوانب من الحياة في الجزائر وبعضا من عادات وتقاليد أهلها.



ومؤخّرا بيعت لوحة للرسّام جان ليون جيروم بعنوان "شركسية ترتدي الخِمار" بأكثر من مليوني جنيه استرليني. وقد رسمها الفنّان بعد رحلات عديدة له إلى تركيا، وهي المكان الذي يقال إن اللوحة ذهبت إليه بعد شرائها.
هناك قطاعات معيّنة من الناس في الشرق الأوسط تعتبر اللوحات الاستشراقية بمثابة السجلّ البصري الوحيد عن ثقافة القرن التاسع عشر. ويمكن أن يكون هذا احد أسباب الاهتمام بتلك اللوحات في السوق الآن.
ومثل هذا النوع من اللوحات كان يثير الغضب في الشرق الأوسط ذي الطبيعة المحافظة، وكان الكثيرون يعتبرونه فنّا مسيئا.
لوحات ديلاكروا ورينوار وماتيس تصوّر هي أيضا مشاهد مثيرة ومغرية وغريبة تتناول مظاهر الحياة في البلدان العربية. نساء مغطّيات بالكاد، سحرة أفاع بمؤخرّات مكشوفة ورجال معمّمون ينتشرون حول الخيام.



في العام الماضي 2008 حقّقت مبيعات الرسومات الاستشراقية حوالي 70 مليون دولار في مزادات عديدة حول العالم. كما نظّمت دار سوذبي أوّل عمليات بيع للرسومات الشرقية في الدوحة عاصمة قطر. ويتزعّم جهود إعادة الاعتبار للوحات الشرقية تاجر اللوحات الفنية المصري شفيق جبر الذي يقال أنه يملك أكثر من تسعين لوحة ثمينة جمعها على امتداد أكثر من خمسة عشر عاما ويقدّر ثمنها بأكثر من 40 مليون دولار.
وجبر هو ابن ديبلوماسي وسفير سابق ويحمل درجة دكتوراة من جامعة لندن. وهو لا يرى أن الاستشراق ينطوي على أيّ إهانة أو إساءة للعرب أو الإسلام.
ومجموعته تتضمّن تحفا فنّية لعدد من ابرز رسّامي الشرق في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الفنّان الفرنسي جان ليون جيروم والألماني غوستاف بيرنفيند والأمريكي فريدريك آرثر بريدجمان والانجليزي جون فريدريك لويس .
ومن بين اللوحات المفضّلة لدى جبر لوحة بعنوان حارس القصر للرسّام النمساوي لودفيغ دويتش. وقد حقّقت هذه اللوحة أعلى سعر بيعت به لوحة استشراقية وهو ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار. يُذكر أن دويتش رسم اللوحة عام 1892 وفيها يصوّر حارسا نوبيّا مسلّحا يقف أمام بوّابة احد القصور في القاهرة.



كما تضمّ مجموعته لوحة للرسّامة الدانمركية اليزابيث جيريكو باومان تظهر فيها عاملة خزف شرقية بعينين مسبلتين وشفاه حمراء مكتنزة وهي تجلس على حصير وترتدي لباساً اسود يشفّ عن انحناءات صدرها وثدييها.
لوحة جيروم باشي بازوك التي تصوّر جنديا تركيا مسلّحا بالخناجر والبنادق بيعت مؤخرا بحوالي مليون دولار. كما بيعت لوحة ادولف شراير "المطاردة" والتي تصوّر مجموعة من البدو في حالة سباق بمبلغ ربع مليون دولار.



في أمريكا، لم يكن الاستشراق موضوعا مرحّبا به كثيرا. كان الكثير من الأمريكيين ينظرون إليه باحتقار ويعتبرونه شيئا من الماضي. كان الاستشراق برأيهم عاطفيا كثيرا وأوربّيا أكثر من اللازم، بالإضافة إلى كونه غير صحيح من الناحية السياسية.
جامعو الأعمال الفنية من الأمريكيين لم يدخلوا سوق اللوحات الاستشراقية فعليا حتى منتصف التسعينات من القرن الماضي عندما ارتفعت الأسعار كثيرا لدرجة أن المستثمرين العرب فضّلوا الانسحاب.
ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبحت اللوحات الاستشراقية في أمريكا اقلّ جاذبية.
وبعد الهجمات بسبعة أسابيع أوقفت دار كريستيز في نيويورك بيع مجموعة رائعة من 19 لوحة استشراقية. وقد بيعت منها بعد ذلك خمس لوحات فقط بسعر يقلّ كثيرا عن السعر الذي حُدّد لها أصلا.
وكلّ لوحة من اللوحات التي كانت مطروحة للبيع كانت تتضمّن ملمحا قتاليا من نوع ما. بعضها تصوّر محاربين من البدو وهم يجوسون خلال الصحراء، بينما تُظهِِر أخرى زعماء قبليين يعتمرون العمائم ويحتضنون مجموعة من الخناجر والبنادق. هذه المناظر ذكّرت الأمريكيين بما كانوا يرونه على شاشات التلفزيون في ذلك الوقت وجعلتهم يتوجّسون خيفة منها.
لكن بعد أيّام من ذلك، حقّقت دار سوذبي للمزادات الفنّية نتائج مختلفة عندما بيعت مجموعة من اللوحات الاستشراقية الأكثر احتشاما والأقلّ فخامة إلى مشترٍ مجهول أشيع وقتها انه أمير قطر الحالي.

Credits
arthistory.net