:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديلاكروا. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديلاكروا. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، أغسطس 14، 2020

ديلاكروا: الرحلة الجزائرية

غادر الرسّام اوجين ديلاكروا فرنسا متوجّها إلى المغرب في يناير من عام 1832، أي بعد عامين من احتلال بلده للجزائر. كان قد أصبح فنّانا مشهورا بعد أن رسم "دانتي" و"موت ساردانابولوس" و"الحرّية تقود الشعب".
وقد سافر بمعيّة دبلوماسيّ يُدعى شارل دي مورناي الذي كان يرأس وفدا كلّفه الملك لوي فيليب بمقابلة سلطان المغرب مولاي عبدالرحمن الذي أدّى دعمه للمقاومة الجزائرية إلى تهديد استمرار التوسّع الفرنسيّ غرباً.
وأثناء توقّف ديلاكروا في الجزائر، استُجيب لرغبته في الدخول إلى جزء من بيت احد الأهالي، حيث تعيش النساء فيه في عزلة عن الرجال. وقد لاحظ الرسّام الحريم من مسافة عبر رواق يؤدّي إلى غرفتهن. وفي نهاية الغرفة رأى ثلاث نساء مع خادمتهن وهن يجلسن حول أرغيلة وفي جوّ يوحي بلحظات من الخصوصية.
في ذلك المكان، تشكّلت في ذهن ديلاكروا الملامح الأوليّة للوحته "نساء الجزائر" التي وصفها احد النقّاد في ما بعد بأنها انجازه الأكبر.
وهناك غموض يحيط بهويّة اثنتين من النساء، الأولى وتُدعى منى بنسلطان، وتظهر في أقصى يسار اللوحة متكئةً على أريكة وجالسةً في مواجهة الناظر. أما الثانية فتُدعى زهرة بنسلطان التي تجلس متربّعة في الوسط وهي تتحدّث بهدوء مع رفيقتها إلى اليمين.
قد تكون المرأتان شقيقتين أو ابنتي عمّ أو زوجتين لنفس الرجل. والاسمان العربيان ليسا دليلا كافيا على أنهما مسلمتان بالضرورة. كما أن لباسهما ليس ممّا ترتديه عادةً النساء اليهوديات في شمال أفريقيا.
النساء الثلاث يجلسن بين الظلّ والضوء، وأذرعهنّ وأقدامهنّ المشمّرة توحي بأن الوقت صيف. وهنّ يجلسن على سجّاد تركيّ الطراز مزيّن بموتيفات امازيغية، مع وسائد من مخمل. واللون الأرجوانيّ الغالب على اللوحة يخلق جوّا غامضا وحالماً.
الأشياء الظاهرة في الغرفة، كالباب الخشبيّ المذهّب والستارة والزخارف والنقوش على الجدار، كلّها عناصر تشي بالروابط الوثيقة بين الجزائر وموانئ الشرق في القرن التاسع عشر.
الاكسسوارات والأزياء والديكور والمجوهرات وطريقة الجلوس رُسمت أوليّا وبتفصيل كبير أثناء زيارة ديلاكروا للجزائر. وقد أضاف إليها ملحقات وموادّ أخرى عندما جلس ليرسم اللوحة في باريس.
المعروف أن الفنّان رسم نسختين من هذه اللوحة تفصل بينهما 15 عاما. لكن اللوحة فوق هي الأشهر. وقد اشتراها ملك فرنسا عام 1834 وقدّمها هديّة إلى متحف لوكسمبورغ. ثم انتقلت في ما بعد إلى متحف اللوفر حيث ظلّت فيه إلى اليوم.
الأسطورة الأوربّية عن فانتازيا الحريم تكرّست في القرن التاسع عشر بعد ترجمة انطوان غالان لكتاب "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية عام 1717. ثم تعمّق المفهوم الأوربّي عن الشرق أكثر فأكثر من خلال صور ديلاكروا.
وقد كتب الرسّام في ما بعد إلى صديق له يقول: لم أرَ في حياتي اغرب مما رأيته في طنجة. فهذه المدينة هي حكاية خارجة من كتاب الليالي العربية. إنها مزيج مدهش من الأعراق والأزياء والألوان".
لوحة "نساء الجزائر" تُوازن بين الكلاسيكية والرومانسية. الإلهام الشرقيّ وثروة الألوان التعبيرية هي ملامح رومانسية. والنظام الإيقاعي للأشكال والشغف المحسوب هي ملامح كلاسيكية. الضوء والظلّ يلعبان هنا دورا مهمّا. والتلوين يخلق جوّا من الدفء قيل إن رسّاما لم يحقّقه من قبل باستثناء فيلاسكيز في لوحته "النسّاجات".
وعندما تنظر إلى اللوحة سيُخيُّل لك أن الوقت فيها متوقّف. وليس فيها أيّ حبكة أو فعل أو قصّة. إنها صورة نقيّة، لكنها ساحرة وجذّابة بما لا يُوصف.


والسمات العديدة فيها، كالنظرات المتلصّصة والظلال المنوّمة والألوان اللامعة والهدوء المهيمن، كلّها عناصر عن الطبيعة المتناقضة للوحة كثمرة للمزاوجة بين الواقع والخيال.
مزيج الألوان ووضعيات الأيدي وطيّات الملابس والضوء غير المتوقّع والتباين بين الشخصيات دفعت احد النقّاد للقول إن اللوحة مليئة بالأفكار والرؤى.
وقال ناقد آخر: إن هذه اللوحة تعكس الحياة المملّة لهؤلاء النساء اللاتي يفتقرن للأفكار الجادّة والعمل المفيد الذي يمكن أن يمنع عنهن الشعور بالسأم في هذا السجن الذي يقبعن وراء جدرانه".
ألهمت لوحة "نساء الجزائر" أجيالا متعاقبة من الرسّامين، مثل فان غوخ وغوغان وسيزان. كما كانت مصدر إلهام لبيكاسو وماتيس والانطباعيين الذين أتوا في ما بعد.
كان بيكاسو مهجوسا كثيرا بـ "نساء الجزائر". وفي عام 1954، أي بعد مرور 120 عاما على رسم ديلاكروا للوحة، رسم بيكاسو 15 لوحة، بالإضافة إلى مئات الاسكتشات. وكانت كلّها عبارة عن تنويعات على لوحة ديلاكروا.
وإحدى تلك اللوحات أصبحت أغلى لوحة في العالم، عندما بيعت قبل خمس سنوات بـ 180 مليون دولار. ونُقل عن بيكاسو وقتها قوله: لو رأى ديلاكروا لوحتي لأحبّها وقدّرها. لقد رسم لوحته وفي ذهنه روبنز. ورسمتها أنا وفي ذهني ديلاكروا. لكني فعلتها بشكل مختلف".
كان ديلاكروا أوّل رسّام فرنسي يعبر البحر المتوسّط. وقد تأثّر في استشراقه بنموذج اللورد بايرون الذي شارك في حرب الاستقلال التي خاضها اليونانيون ضد الأتراك العثمانيين.
وكان عمر ديلاكروا عندما زار الجزائر والمغرب 34 عاما. وقد مكث فيهما ستّة أشهر فُتن خلالها بهذا الشرق الجديد وبألوانه الساطعة وبالعرب ونسائهم وخيولهم الساحرة، وهي العناصر التي ظلّ يرسمها طوال حياته.
وفي الجزائر والمغرب رأى نسخة من الشرق الأسطوريّ والرائع الذي طالما تخيّله. ولم توفّر له تلك الرحلة الفرصة ليرسم ما رآه فحسب، وإنّما أتاحت له فرصة للتأمّل الفلسفيّ. وقد كتب في مذكّراته يقول: عشت في الجزائر والمغرب ستّة أشهر فقط. ومع ذلك أحسست أنني عشت هناك أكثر ممّا عشت في باريس بعشرين مرّة".
كان ديلاكروا يعتقد بأن أسلوب حياة الأقدمين يوشك على الانتهاء، وهو انطباع ظلّ معه حتى مماته. كما كان يؤمن بأن الحلقات المفقودة من الحضارة موجودة في الشرق، وأن حجم الإرث الحضاري للشرق يكفي لإلهام عشرين جيلا من الرسّامين.
لكن لأن ديلاكروا سافر إلى شمال أفريقيا كجزء من بعثة دبلوماسية فرنسية بعد عامين من غزو فرنسا للجزائر، فقد ظنّ البعض بأن اللوحة كانت شكلا من أشكال الدعاية لطموحات فرنسا الاستعمارية. غير أن النظر إلى اللوحة عن قرب يثبت أنها بعيدة عن رسم الآخر الغرائبي، أي نموذج اللوحات الاستشراقية السائد آنذاك.
كان ديلاكروا يؤمن بأن حضارة الجزائر، رغم كونها اقلّ تطوّرا من فرنسا، إلا أنها اقرب إلى الطبيعة، كما أن فيها بعضا من قيم روما القديمة التي كانت تتآكل في الغرب. صحيح أن الرسّام كان متأثّرا بفكرة التفوّق الأوربّي، لكنه فوجئ بنبل الناس في الشرق مقارنةً بما كان يعتبره "فساد الفرنسيين".
كان ديلاكروا جزءا من حركة فلسفية وفنّية تتضمّن الفنون الفكرية والبصرية والأدبية. وهو نفسه كان شاعرا ومؤلّفا وعاشقا للتاريخ والأدب. وقد تضمّنت تجربته في شمال أفريقيا لوحات أخرى مثل "متعصبّو طنجة" و"زواج يهودي" وغيرهما.

Credits
louvre.fr
eugenedelacroix.net

السبت، أغسطس 05، 2017

الرومانسيّة في العالم المعاصر

إذا كنت تعتقد أن الرومانسيّة هي قصائد الحبّ وباقات الورد وشموع الليل المعطّرة، فعليك أن تعيد النظر في فهمك. فالرومانسيّة، في واقع الأمر، اكبر وأشمل من هذه الأشياء والارتباطات البسيطة.
بدأت الرومانسيّة كحركة فنّية وفكرية وأدبية في ألمانيا وفرنسا في منتصف القرن الثامن عشر. وكانت روحها المحرّكة هي الثورة ضدّ المؤسّسة وضدّ القواعد والقوانين والأفكار والصيغ الجاهزة التي طبعت الكلاسيكية.
كان الرومانسيّون يفضّلون الخيال على العقل، والمشاعر على المنطق. وكانوا يرون أن التعويل يجب أن يكون على المشاعر والفطرة كمرشد أساسيّ في الحياة بدلا من العقل والتحليل.
كما كانوا يُعلون من شأن التعبير عن الذات والفردانية ويؤمنون بأن الناس يجب أن يخضعوا لما تمليه عليهم مشاعرهم التلقائية، بدلا من الاحتكام للقواعد والطقوس الباردة التي رسمها المجتمع البورجوازيّ.
وكانوا أيضا ضدّ الآداب والتقاليد الاجتماعية، مفضّلين الصراحة والحديث المباشر. وكانوا يفترضون أن الأطفال أنقياء وطيّبون وأن المجتمع هو الذي يفسدهم.
ومن سمات الرومانسيّة الأخرى أنها تكره المؤسّسات وتمجّد الأفراد الشجعان من خارج المؤسّسة الذين يقاتلون ببسالة ضدّ الوضع الراهن.
كما أنها تحتقر التنظيم ودقّة المواعيد والوضوح والبيروقراطية والصناعة والتجارة والروتين. ورغم أنها تعترف بأن كل هذه الأشياء ضرورية، إلا أنها ترى أنها املاءات تعيسة فرضتها على الناس الظروف غير المواتية للحياة.
والرومانسيّة تفضّل الجديد والخاصّ والنادر والمميّز والاستثنائي على القديم والمتكرّر والرتيب والنمطيّ والاعتياديّ.
تأمّل هذه الحالة: أنت تعيش ضمن ثقافة تمارس عليك ضغطا كي تسايرها، كي تصبح مثل بقيّة الناس، ترغب في ما يرغبون وتفعل مثل ما يفعلون. ثم تبدأ في توجيه السؤال إلى نفسك: هل أصبح شخصا شاذّا أو غريب الأطوار إذا أردت أن أكون مختلفا، فلا ألبس ما يلبس الآخرون ولا أؤمن بما يؤمنون ولا أتصرّف مثل ما يتصرّفون؟
إذا كنت قد فكّرت بمثل هذه الأسئلة، فإن هناك الكثير ممّا يجمعك بالرومانسيّين وبأكثر مما تظنّ. فالرسالة الكبيرة للرومانسيّة هي: كن نفسك ولا تذهب إلى حيث يذهب القطيع.
كان الرومانسيّون أيضا يجنحون نحو الغموض والخرافة، واعتبروا الخيال أداة أو بوّابة إلى التجارب المتسامية والحقائق الروحية.
وقد عادوا إلى القرون الوسطى، إلى الأفكار والأماكن القديمة، وأصبح لديهم اهتمام بالثقافات الشعبية وبأصول الثقافات العرقية والقومية.
وكانوا يؤمنون أيضا بأن الطبيعة امتداد لشخصيّة الإنسان، وأن أنفاس الله تملأ الإنسان والأرض، وأننا لا يمكن أن نصبح سعداء دون أن نرتبط بالطبيعة بمعناها الكبير والشامل.
وأكثر الشعراء والرسّامين الذين نعرفهم اليوم ولدوا من رحم الرومانسيّة، مثل بايرون وشيللي وكيتس وديلاكروا وجيريكو وغويا وفريدريش وبليك وكونستابل وتيرنر وكول وغيرهم. كان حبّ هؤلاء للطبيعة جارفا، وكانت أعمالهم تمتلئ بإشارات كثيرة عن الأشجار والأزهار والجبال والسحب والطيور والأنهار والمحيطات والغابات.. إلى آخره.
كانوا يعتقدون أنهم بالجلوس تحت شجرة وبالنظر إلى ما حولهم واستنشاق الهواء في الطبيعة المفتوحة يتعلّمون الكثير. مرأى وردة يمكن أن يحرّك الدموع في عين شاعر، ومزهرية قديمة يمكن أن تغري رسّاما رومانسيّا بتأمّلها طويلا ورسمها.
وكانوا يُسرّون برؤية المناظر التي لم تمسسها يد الحضارة. وليس بالمستغرب أن أطلال الحضارات القديمة كالإغريق والرومان والمصريين القدماء كانت أفكارا مفضّلة في الشعر الرومانسيّ.
وقد تحدّث الرومانسيّون كثيرا عن الآثار، وعن الأواني والمزهريات والتماثيل والمباني المهدّمة من الثقافات القديمة، ووظّفوا كلّ هذه الأشياء كأداة للتأمّل في مرور الزمن وقِصَر الحياة.
وكانوا أيضا مفتونين بالحياة البريئة لسكّان الأرياف. وحبّ الريف كما يعبّر عنه الأدب الرومانسيّ كان يرافقه غالبا إحساس بالحزن مردّه أن التغيير وشيك وأن طريقة الحياة البسيطة أصبحت مهدّدة بفعل التصنيع وزحف العمران.
الرومانسيّة ما يزال لها وجود في عالم اليوم. ومن الصعب أن تسترسل في الحديث عن أيّ موضوع دون أن تستخدم إشارة أو وصفا رومانسيّا لشرح موقف أو حالة.
لكن هناك من يرى بأن القليل من الرومانسيّة مفيد، والكثير منها ضارّ ويمكن أن يشكّل عقبة في طريق حياتنا.
فبعض رسائل الرومانسيّة قد تدفعنا في اتجاهات خاطئة، فتثير آمالا غير حقيقية وتجعلنا غير صبورين مع أنفسنا. كما أنها تقمع رغبتنا في تفحّص دوافعنا وأفكارنا، ويمكن أن تبعدنا عن حقائق الواقع وتقودنا لأن نندم ونحزن على الظروف الطبيعية للوجود.

Credits
online-literature.com

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

الثلاثاء، مارس 15، 2016

كينوبف وغموض الفنّ

ثمّة جملة منسوبة للمايسترو الراحل ليونارد بيرنستاين يتعجّب فيها من الناس الذين يحاولون أن يفسّروا سرّ جمال الموسيقى، متناسين أنهم بهذا إنّما يجرّدونها من غموضها وسحرها.
والحقيقة أن هذا الكلام صحيح، وهو برأيي لا ينطبق على الموسيقى فحسب، وإنما ينسحب على كافّة أنواع الفنون بلا استثناء.
وقد تذكّرت كلام بيرنستاين وأنا أتأمّل هذه اللوحة للرسّام البلجيكيّ فرناند كينوبف. كان كينوبف فنّانا رمزيّا، وقد أحبّ الأدب منذ سنّ مبكّرة وانجذب لأعمال الكتّاب الفرنسيين خاصّة. ثم قرّر أن يدرس الرسم.
ويقال انه من بين أكثر الرسّامين غموضا، وأعماله القليلة لا تكشف سوى عن القليل من سمات شخصيّته أو من حياته الداخلية.
والمؤسف انه بعد وفاته في العام 1920، أحرقت عائلته جميع أوراقه الخاصّة، وكأنها كانت تريد أن لا يحلّ احد غموضه أبدا. وقد ذكّرني هذا بما حدث لرسّام آخر لا يقلّ غموضا هو البريطانيّ جون غودوورد الذي قامت والدته بعد وفاته بإتلاف كافّة صوره وأشيائه الشخصية بسبب علاقتهما التي كان يشوبها التباعد والجفاء.
تأثّر كينوبف بأعمال ديلاكروا وغوستاف مورو وما قبل الرافائيليين. وكانت لوحاته تتمتّع بالشعبية، كما كان له زبائنه الذين يقدّرون موهبته، بالإضافة إلى انه كان معروفا جيّدا في المجتمع البلجيكي. وفي لوحاته سترى الكثير من الأشياء، من الدين والتاريخ وعلم النفس والميثولوجيا وما إلى ذلك.
وهذه اللوحة بعنوان "وأغلقت الباب" تُعتبر من أكثر أعمال الرسّام انتشارا. ويقال انه استوحاها من قصيدة بنفس العنوان للشاعرة كريستينا روزيتي، شقيقة الرسّام والشاعر الانجليزيّ من أصل إيطاليّ دانتي غابرييل روزيتي.
والحقيقة أن كلّ شيء في اللوحة غريب، اسمها وهيئة المرأة ووضعية جلوسها وتعبيرات وجهها. كما أنها تحتوي على تفاصيل غامضة، مثل تمثال الرأس المجنّح الموضوع على الرفّ خلفها.
هذا التمثال الصغير يقال أنه يصوّر "هيبنو" إله الأحلام في الأساطير الإغريقية. وكان كينوبف يملك التمثال الأصليّ وقد التقط لنفسه عدّة صور معه.
أما الزهرة الحمراء إلى جوار التمثال فتمثّل نبتة الخشخاش التي لها خصائص مخدّرة وترتبط بالأحلام.
المرأة التي في اللوحة هي مارغريتا شقيقة الرسّام والتي تظهر في العديد من لوحاته. ومن الواضح أنها تعيش في عزلة، عيناها ساكنتان وملامحها حزينة. الجدران الخربة والأزهار الجافّة والخشب المتآكل والألوان الباهتة والاعتكاف في هذا المكان الساكن الصامت، كلّ ذلك يكرّس الإحساس بالوحشة والانقباض.
وقد ألهمت هذه اللوحة كاتبة تُدعى جويس اوتس بتأليف رواية بنفس العنوان كتبتها عام 1990 وتسرد فيها قصّة حياة فتاة كانت تعيش في ريف نيويورك مطلع القرن الماضي.
بعض النقّاد يشيرون إلى أن للوحة ارتباطا بقصّة وليام موريس التي ينتقل فيها البطل إلى ارض يوتوبية ويؤخذ ليتجوّل في البيت القديم. وهناك يمرّ بتحوّل روحيّ سببه الإحساس بأن الزمن توقّف وتلاشى بداخله الإحساس بالدهشة.
كينوبف، الذي ينتمي إلى عائلة موسرة، كان شخصا غريب الأطوار، فقد بنى لنفسه بيتا بلا نوافذ. وكان الصمت والعزلة فكرتين أساسيتين في لوحاته. وقد نقش على باب منزله جملة تقول: ليس للإنسان إلا نفسه".
ويُروى أن شاعرا عاش في عصره وصفه بأن له شعرا أحمر جميلا وقامة مديدة. وبعد وفاته بعشر سنوات، تمّ هدم بيته بناءً على طلب عائلته.
وعودا على بدء، ترى كم من هذه اللوحة تكشّف لك بعد أن قرأت الكلام المكتوب أعلاه وكم منها ما يزال غامضا برأيك؟
أظنّ انه ليس من مهمّة الفنّان أن يجعل عمله مفهوما لكلّ احد، بل بالعكس عليه أن يترك في عمله بعض الغموض، كي يخلق الدهشة في عقل المتلقّي ومن ثمّ يدفعه لطرح الأسئلة والاحتمالات. وربّما أن ما نعتبره كمتلقّين غموضا وإبهاما هو ما أراد الفنّان أن يودعه في عمله أصلا وعن قصد.
إن وظيفة الفنّان، كما يقول الرسّام الانجليزيّ فرانسيس بيكون، هي أن يعمّق الغموض في أعماله دائما. ومن طبيعة الفنّ الغامض انه لا يُنسى بسرعة.
وأختم بعبارة مأثورة وتتردّد كثيرا مؤدّاها أننا كلّما اكتسبنا معرفة اكبر، فإن الأشياء لا تصبح أكثر اتساعا ووضوحا وإنّما أكثر إبهاما وغموضا.

الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..

الجمعة، مايو 23، 2014

عشاء مع أوفيد

أحد أصدقاء هذه المدوّنة سألني مؤخّرا: لو أتيحت لك فرصة السفر إلى الماضي واختيار عشر شخصيّات من التاريخ كي تراها وتتحادث معها على العشاء وتطرح عليها بعض الأسئلة، فعلى من سيقع اختيارك؟
قلّبت هذا السؤال في ذهني لبعض الوقت. وأثناء ذلك عبَرَت رأسي أسماء مثل لا وتسو وباخ وفولتير وهيباتيا وسقراط وكليوباترا ونيتشه وإيسوب وغويا وكاثرين العظيمة وآينشتاين وكونفوشيوس وآخرين.
لكني فضّلت أن استهلّ هذه السلسلة بحديث من جزأين مع وعن أوفيد.
أما لماذا أوفيد، فلأنه أوّل من أنزل الآلهة من برجها العاجيّ في أعالي جبل الأوليمب ووضعها في محترفات الرسم وصالونات الأدب والفلسفة. كما انه أوّل من حوّل الميثولوجيا إلى عالم من لحم ودم مع الكثير من روح المرح والدعابة. وأوفيد هو أيضا أوّل من أنتج أدبا خالصا لوجه الأدب، أي بلا دروس ولا مواعظ أخلاقية.
وكلّ شخص يريد أن يعرف شيئا عن الأساطير الرومانية - الإغريقية، يجب أن يكون قد قرأ كتابه "التحوّلات". وهو عبارة عن ديوان شعر، أو بالأحرى قصيدة طويلة من اثني عشر ألف بيت. وأوفيد يسرد في ثنايا القصيدة قصصا استلهمها من الميثولوجيا الكلاسيكية عن "حالات تَحوُّل" معظمها لبشر وحوريّات يتحوّلون إلى حيوانات ونباتات.
القصص تسجّل الأحداث منذ بداية خلق الكون وحتى موت يوليوس قيصر اغتيالا. وكلّ قصّة من قصص الكتاب تتضمّن تحوّلا جسديّا. والشخصيّات التاريخية فيه تقتصر على الإمبراطورين يوليوس قيصر واوغستوس اللذين يتحوّلان من إنسانين قابلين للفناء إلى إلهين خالدين.
كتاب "التحوّلات" لا يعلّمك شيئا عن فهم الحياة والعالم. لكنه يقول لك كيف تستخدم اللغة وموارد الرواية الخيالية بطريقة ممتعة. وفي الكتاب، ينتصر الأسلوب على الجوهر وننتقل إلى شكل جديد من أشكال التعبير الأدبي، شكل يُحتفى فيه بالفنّ من اجل الفنّ فحسب.
لذا ليس من الصعب أن نفهم سرّ شعبية أوفيد بين الشعراء والفنّانين عبر العصور، بل وحتى بين أولئك الذين يضيفون إلى القصيدة رؤية للعالم أكثر تماسكا واكتمالا.
نسخة أوفيد من الميثولوجيا تقول إن الماضي لم يكن اكبر من الحياة نفسها، كما لم يكن هناك أبطال. والجنس البشريّ يتألّف من بشر مثلنا، وليست هناك آلهة تشرف على مسار الأحداث أو تمثّل مبادئ كالحقّ أو العدالة.
أوفيد يرى أيضا أن ليس هناك كون غامض كي نحتفي به أو نقدّسه أو نخاف منه. هناك فقط المتعة التي يمكن أن نشعر بها عند قراءة القصيدة بمعزل عن أيّة معان أو مرجعيات أخلاقية.

❉ ❉ ❉

من اجل الالتقاء بأوفيد، سأفترض أن عليّ أوّلا أن اذهب إلى توميس، أو كونستانزا كما تُسمّى اليوم. وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأسود في ما يُعرف اليوم بـ رومانيا. وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ تأسّست حوالي عام 600 قبل الميلاد.
أوفيد نفسه يصفها بأنها "ارض شبه مهجورة تقع على الأطراف البعيدة للإمبراطورية الرومانية وبعيدا عن حدود العالم المتحضّر". وقد جرت على أرضها العديد من المعارك والحروب، واحتلّها الرومان عام 29 قبل الميلاد وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، ثم أسموها كونستانتينا تيمّنا باسم شقيقة الإمبراطور الروماني كونستانتين العظيم. وبحسب إحدى الأساطير، فإن جيسون نزل في هذه المدينة مع الارغونوتز بعد عثوره على الفروة الذهبية.
في توميس أو كونستانزا، سألتقي بأوفيد، وعلى الأرجح سنتناول العشاء معا في احد المطاعم القريبة من متحف المدينة الذي شُيّد أمام بوّابته تمثال للشاعر. وسأحمل معي للشاعر هديّة هي عبارة عن نسخة حديثة من كتاب "التحوّلات"، بالإضافة إلى نسخ من بعض الأعمال التشكيلية المشهورة والمستوحاة من قصص التحوّلات، وكذلك نسخة من لوحة أوجين ديلاكروا التي رسم فيها أوفيد بين السيثيين.
بداية، أظنّ أن ملامح أوفيد تشبه إلى حدّ كبير ملامحه في التمثال، فهو على درجة من الوسامة، عيناه متفحّصتان وتشعّان بالذكاء، مع طبع يميل إلى الهدوء والتأمّل. وبالتأكيد سيُسرّ الرجل لمرأى النصب الضخم الذي أقيم تكريما له في هذه البقعة البعيدة عن روما.
وسيُدهش الشاعر ولا شكّ لرؤية الاختلاف الكبير بين توميس اليوم وما كانت عليه عندما كان يعيش فيها قبل حوالي ألفي عام. فبينما كان عدد سكّانها لا يتعدّى المئات آنذاك، فإن عددهم اليوم يتجاوز الـ 400 ألف نسمة، بالإضافة إلى مئات آلاف السيّاح الذين يؤمّون المدينة سنويا للتمتّع بأجوائها المعتدلة وينابيعها المعدنية المشهورة.
هنا في توميس وبعيدا عن روما، توفّي أوفيد عام 17 ميلادية بعد أن عاش فيها منفيّا ثمان سنوات كاملة. وبطبيعة الحال سأسال الشاعر عن حادثة النفي تلك، وعن السبب الحقيقيّ الذي دعا الإمبراطور اوغستوس إلى اتخاذ قرار بنفيه بعد أن كان مقرّبا منه ومن عائلته.
الأسباب التي أوردها المؤرّخون كثيرة وأحيانا متناقضة. ومعظم ما كُتب حول قصّة النفي مجرّد تكهّنات واحتمالات. أوفيد نفسه أشار إلى الأسباب تلميحا وبطريقة غامضة غالبا. فهو، مثلا، ذكر في رسائله التي كتبها لبعض أصدقائه في روما أثناء سنوات النفي أن الخطأ الكبير الذي ارتكبه هو انه "رأى شيئا ما كان ينبغي له أن يراه".
هذه العبارة دفعت بعض المؤرّخين للاعتقاد بأن الشاعر ربّما كان على علاقة ما بابنة اوغستوس الماجنة "جوليا"، خاصّة بعد أن أصبح احد أفراد الطبقة الضيّقة المحيطة بها.
وقرار النفي كان بناءً على أوامر شخصية من الإمبراطور ودون العودة إلى البرلمان أو القضاء. وأوغستوس نفسه مات عام 14 ميلادية، أي في الوقت الذي كان أوفيد ما يزال في منفاه. ولسوء الحظ، فإن تيبيريوس الذي خلف اوغستوس على سدّة الحكم لم يُنهِ أو يلغِ حكم النفي.

كان عمر أوفيد قد تجاوز الخمسين عندما نُفي. وكان مشهورا جدّا في روما في ذلك الوقت. بل يمكن القول انه كان آنذاك أشهر شاعر في المدينة بعد انتهاء جيل فيرجيل وهوراس.
قصائده التي كتبها في منفاه تتضمّن رسائل لأصدقائه وأعدائه في روما. ومن بين تلك القصائد واحدة يعبّر فيها عن يأسه ويدعو لإعادته إلى روما. وهناك أيضا قصائد على هيئة رسائل موجّهة لبعض الشخصيّات في روما وأخرى إلى زوجته وإلى الإمبراطور نفسه. يقول الشاعر في إحدى تلك الرسائل موجّها حديثه إلى شخص ما: أين المتعة في إغماد رمحك في لحمي الميّت؟ ليس في جسدي مكان يحتمل المزيد من الطعنات أو الجراح".
وفي بعض تلك الرسائل، يحاول أوفيد أن يقنع الإمبراطور بإنهاء نفيه، وذلك من خلال وصفه لحالة الحزن التي يعيشها بعيدا عن الوطن وقسوة الحياة والأخطار في توميس والحالة الاجتماعية والذهنية المتردّية التي يمرّ بها.
وقد صوّر نفسه في إحدى تلك الرسائل كشخص عجوز ومريض وبعيد عن عائلته ومحروم من مسرّات ومتع روما. بالنسبة لأوفيد، كانت روما هي نبض العالم المتوهّج. والنفي أدّى به إلى حالة من الإحباط واليأس. ومع ذلك، لا ينسى الشاعر أن يمدح الإمبراطور وعائلته ويثني على نجاحه في المعارك والحملات العسكرية، أملا في أن يؤدّي ذلك إلى ترقيق قلبه.
لقد كُتب الكثير عن واقعة النفي. أوفيد نفسه كتب مرّة يقول إن النفي دمّر عبقريته الشعرية وأن نفيه كان بسبب "قصيدة وخطأ"، وأن ما فعله لم يكن غير قانوني، ولكنه كان "أسوأ من جريمة".
أشعاره في المنفى مليئة بالإشارات إلى أن ما فعله كان "خطأ تسبّب به الغباء" وأنه فعله عن غير عمد وأن الإمبراطور يدرك ذلك بدليل انه لم يحكم عليه بالقتل ولم يجرّده من الجنسية.
أوفيد قد لا يجد غضاضة، خاصّة بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال، في أن يبوح بالسبب الحقيقيّ لنفيه. هو لم يتحدّث عن هذا الأمر صراحة أثناء حياته، لأنه كان يؤمّل في أن يُصدر الامبراطور عفوا عنه، وهذا ما لم يحدث.
وهناك نقّاد كثر يعتقدون أن اوغستوس الذي كان يُقدّم نفسه كحارس للأخلاق الرومانية ربّما كان قد ارتكب زنا المحارم أو جناية أخلاقية ما. وقد يكون أوفيد نفسه قد تورّط بعلاقة مع جوليا ابنة الإمبراطور أو أنه رأى المرأة، أو والدها، في حالة مريبة مع شخص ما. بل إن هناك من يقول إن ثمّة احتمالا في أن أوفيد كان ضالعا في مؤامرة ضدّ الإمبراطور، ولهذا نُفي.
سأسأل أوفيد أيضا عن ما اعتبره بعض النقّاد محاولة منه لـ "أسطرة" حالة النفي تلك، أي تحويلها إلى أسطورة. وسأسأله كذلك عن رأيه في زعم بعض المؤرّخين بأن نفيه لم يكن حقيقيّا وأنه لم يغادر روما أبدا إلى المنفى وأن أعماله في المنفى لم تكن سوى ثمرة خيال خصب.
وبالتأكيد أنا لست مع هذا الرأي. فقصّة النفي حقيقية وهناك شواهد كثيرة تدعمها وتؤكّدها. وعلى كلّ حال، لا بدّ من سماع رأي الرجل في بعض ما قيل عنه.

❉ ❉ ❉

ما من شكّ في أن أوفيد سيشعر بقدر كبير من السعادة عندما يرى كيف أن كتاب التحوّلات أثّر في كثير من مشاهير الكتّاب مثل شكسبير ودانتي وميلتون ودي ثيرفانتيس وغيرهم، واستلهمه عدد كبير من الفنّانين الذين رسموا مئات اللوحات التي تصوّر قصصا وردت في الكتاب. وقد أسأله بشكل خاصّ عن رأيه في لوحة الفنّان اوجين ديلاكروا التي صوّر فيها الشاعر وهو في ضيافة السيثيين.
والسيثيون هم جماعة من الفرس القدماء كانوا يسكنون توميس عندما قدم إليها أوفيد. وقد تناول هيرودوت أسلوب حياتهم في كتابه "التواريخ" ووصفهم بالبدو المترحّلين. وأوفيد نفسه وصفهم بالقبيلة البرّية.
وأغلب الظنّ أن هذه اللوحة ستثير اهتمام الشاعر على الرغم من انه يظهر فيها واجما وحزينا. وسبب حزنه على الأرجح هو إحساسه بالغربة في هذه الأرض النائية وبعده عن الأهل والوطن. بالإضافة إلى انه عندما حلّ في ضيافتهم لم يكن احد منهم يتكلّم اللاتينية برغم أنهم كانوا تابعين لروما. وهذا أمر فاجأه وأحبطه كثيرا.
لوحة ديلاكروا هي عبارة عن تناول جميل لفكرة الحضارة مقابل البدائية. وقد رسم السيثيين وهم يعاملون الشاعر بتعاطف وفضول في طبيعة تتضمّن بحيرة وجبالا مغطّاة بالخضرة، مع أكواخ من الخشب توحي بثقافة رعوية بدائية. وقد تفحّص هؤلاء أوفيد باهتمام عندما وصل إلى أرضهم. والبعض الآخر ذهبوا إلى بيوتهم ليحضروا له فاكهة وحليبا.
فكرة البرّية والإنسان العبقريّ الذي يُساء فهمه كانت احد المفاهيم الأساسية في الحركة الرومانسية التي كان ديلاكروا احد أقطابها. وقد رسم من هذه اللوحة طبعتين وذلك قبل وفاته بعام على الأرجح لحساب صاحب إحدى المجموعات الخاصّة.

في الجزء الثاني: حديث عن التحوّلات

الخميس، يناير 30، 2014

محطّات

من مفكّرة ديلاكروا

في عام 1832، سافر الرسّام الفرنسيّ اوجين ديلاكروا إلى المغرب واسبانيا في بعثة دبلوماسية بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر. وكان ذهابه إلى هناك، ليس لدراسة الفنّ، وإنما كي يهرب من حضارة باريس وعلى أمل أن يرى ثقافة أكثر بدائية.
ديلاكروا سجّل في مفكّرته بعض مشاهداته في تلك الرحلة التي حدثت قبل اختراع السيّارة، أي عندما كان الناس يسافرون على ظهور الخيل والجمال والبغال. هنا مقتطفات ممّا كتبه..
  • بعد مسيرة ساعتين، لاح لنا البحر. وفي القرب رأينا مجموعة من أشجار الصبّار والخيزران، ولمحنا بقعا من العشب البنّي على الرمال. عند عودتي، تذكّرت التباين المدهش بين أشجار الخيزران الصفراء والجافّة وبين بقيّة الأشجار الخضراء. في هذه الناحية، تميل ألوان الجبال إلى البنّي المشوب بخضرة، مع خطوط من الشجيرات الداكنة والضئيلة.
  • رأينا في الطريق مشهدا مثيرا لحصانين، رماديّ وأسود، وهما يتعاركان مع بعضهما البعض. منذ البداية، كانا يتوقّفان قليلا ثم لا يلبثان أن يواصلا قتالهما بضراوة، ما جعلني ارتجف. غير أن ما رأيته كان يستحقّ الرسم. وأنا على يقين من أنني رأيت أكثر الحركات روعة ورشاقة، بما لا يمكن أن يتخيّله حتى روبنز . الحصان الرماديّ لفّ عنقه حول الحصان الآخر لفترة بدا أن لا نهاية لها. كان من المستحيل أن يطلقه. لكن مورني تمكّن أخيرا من الفصل بينهما. وبينما كان ممسكا باللجام، تراجع الحصان الأسود بشراسة، بينما ظلّ الحصان الآخر يعضّه في الخلف بعنف.
    سمحنا بعد ذلك للحصانين بأن يمضيا. لكنّهما استمرّا يتقاتلان فيما هما متّجهان إلى النهر. ثم سقط الاثنان في الماء بينما واصلا عراكهما. وفي نفس الوقت كانا يحاولان الخروج من الماء، وكانت أقدامهما تنزلق في الوحل.
  • في طريق عودتنا، لاحت لنا طبيعة رائعة إلى اليمين: جبال إسبانيا وهي تكتسي بأجمل ألوانها، ثم البحر الذي بدا أزرق تشوبه خضرة داكنة.
  • في يوم الثلاثاء ذهبنا لحضور حفل زفاف يهودي. كان هناك عرب ويهود يقفون عند المدخل. وكان هناك أيضا موسيقيّان، احدهما عازف كمان. وإلى جواره جلست امرأة يهودية جميلة بسترة من القطيفة وأكمام مذهّبة. كان ظلّ المرأة يلوح في منتصف الطريق إلى الباب. وبالقرب منها جلست امرأة أخرى اكبر منها سنّا بملابس بيضاء بالكامل وتغطّيها تماما.
  • صحونا حوالي الثامنة صباحا. تسلّقنا تلّة، والشمس إلى يسارنا. الجبال واضحة المعالم جدّا، واحد وراء الأخر، وفوقها سماء صافية. وقد وجدنا في طريقنا قبائل مختلفة. الرجال يطلقون البنادق وهم يتقافزون في الهواء. وصعدت جبلا في لاكلاو. كان المنظر خلابا للغاية. وتوقّفت للحظات. المنظر رائع من أعلى قمّة الجبل. مشينا نصف ساعة إلى أن بلغنا المخيّم.
  • الجلابية هي زيّ عامّة الناس ولباس التجّار والأطفال. أتذكّر أنّني سبق وأن رأيت جلابية على شخص صغير في اللوفر. أطفال المدارس في هذه الناحية يكتبون دروسهم على ألواح. وفي لحظات الراحة، يذهبون في مجموعات حاملين معهم هذه الألواح على رؤوسهم.
  • في الحيّ اليهودي، رأيت بعض التصميمات الداخلية الرائعة أثناء مروري من هناك. وكانت امرأة يهودية تقف مرتدية قلنسوة حمراء وثيابا بيضاء وسوداء.
  • هذا هو اليوم الأوّل من رمضان. في اللحظة التي ظهر فيها الهلال، وكنّا ما نزال في وضح النهار، أطلقت المدافع نيرانها احتفاءً بالمناسبة. وفي هذه الليلة، كانت هناك ضوضاء رهيبة مع قرع طبول ونفخ أبواق مصنوعة من قرون الخراف. وبرز من بين الحشود رجل أخذ يطلق النار باتجاهنا من مسافة قريبة. لكن تمّ إلقاء القبض عليه فورا. كان غاضبا. ثمّ سُحب من عمامته وطُرح أرضا.
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة من عالم آخر
    التلوّث الضوئي في المدن الكبيرة يُفقد الإنسان الإحساس بالدهشة وبجمال السماء الليلية. ولهذا السبب، لن تعدم أحيانا من ينصحك، ومعه حقّ، بأن تغادر المدينة باتجاه مناطق الأطراف يوما أو يومين في الشهر حيث الأفق المفتوح والأجواء الصافية، كي تنعم برؤية السماء وتستمتع بأنوار القمر والنجوم.
    وهناك اعتقاد بأن أجمل سماء ليلية في العالم هي تلك التي تعلو صحراء أتاكاما في شيلي. ففيها يمكن أن ترى ثلاثة آلاف نجم بوضوح، كما أنها تخلو من التلوّث الضوئي وتغيب عنها الغيوم طوال معظم السنة.
    في هذا الفيديو "فوق"، سترى طبيعة من عالم آخر وسماء ليلية صافية فوق أتاكاما، أي نفس المكان الذي اختاره المرصد الأوربّي الجنوبي ليبني عليه تلسكوباته المصفوفة الهائلة التي تسمح للفلكيين بالحصول على أفضل مناظر للكون من على الأرض.
    هذا المكان يُعتبر مثاليّا لمراقبة السماء والنجوم والظواهر الفلكية. طبيعة الليل ووتيرة حركة الأشياء مختلفة فيه عن أيّ مكان آخر من العالم. كما أن مناخه متطرّف للغاية، فهو حارّ جدّا نهارا وبارد جدّا ليلا.
    الفيديو قام بتنفيذه بطريقة الفاصل الزمني مصوّر يُدعى نيكولاس بور. وهو محصّلة لمجموعة من الصور التي التقطها على مدى 12 يوما وليلة. بور يصف هذا المكان المرتفع والمدهش بقوله إن أتاكاما صحراء معروفة جيّدا بأن سماءها هي الأكثر صفاءً والأشدّ ظلاما وحلكة على الأرض.
    الهواء الجافّ وصفاء الأفق والارتفاع، كلّها عوامل تتيح سماءً ليلية لا تشبهها سماء أخرى. وقد زارها المصوّر عندما كان كوكب الزهرة قريبا جدّا من مركز مجرّة درب التبّانة، وهو حدث فلكيّ لا يقع إلا مرّة كلّ 8 سنوات أو نحو ذلك.
    كما تزامنت زيارته لهذا المكان مع الاعتدال الخريفيّ الذي يُعتبر وقتا مناسبا لرؤية ظاهرة الضوء البروجي أو "الفجر الكاذب كما يُسمّى بالعربية"، وهو عبارة عن ضوء ينتشر في السماء في المناطق المظلمة وقبل شروق الشمس نتيجة تناثر الغبار الكوني المتناهي الصغر بين الكواكب في الفضاء بتأثير أشعّة الشمس.
    يمكن مشاهدة نسخة فائقة الوضوح من فيلم نيكولاس بور في موقع فيميو على هذا الرابط .

    ❉ ❉ ❉

    راسكن: الفنّان والمعلّم

    إن كنت تبحث عن معلومة أو فكرة يمكن أن تضيف شيئا إلى معرفتك عن لوحة أو رسّام معيّن من القرن التاسع عشر خاصّة، فسيصادفك اسم جون راسكن كثيرا. وهذا حدث معي أكثر من مرّة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أن راسكن لم يكن ناقدا فنّيا فحسب، بل كان أيضا رسّاما وشاعرا ومفكّرا اجتماعيا بارزا وراعيا للفنون وشخصا مُحسنا.
    صحيح أن اهتمامه كان مركّزا، خاصّة، على أمور الفنّ والأدب، لكنّ اهتماماته امتدّت لتشمل مواضيع وفروعا معرفية أخرى كالجيولوجيا والأساطير وعلم الطيور والمعمار وعلم النبات والاقتصاد السياسي والتعليم. باختصار، كان راسكن يتمتّع بثقافة موسوعية.
    وقد توقّفت لبعض الوقت عند آرائه عن التعليم والتي تستحقّ التأمّل. فهو يرى مثلا أن وظيفة التعليم الحقيقية ليست فقط جعل الناس يتعلّمون ويفعلون الأشياء الصحيحة، وإنما أيضا أن يحبّب إليهم المعرفة ويزرع في نفوسهم تعطّشا دائما للحبّ والعدل والحرّية.
    كان راسكن ينظر إلى التعليم باعتباره جزءا لا يتجزّأ من الحياة والسياسة والأخلاق. وكان يَعتبر أن تعليم الأطفال الصدق والنزاهة هو بداية أيّ تعليم، وأننا إذا أصلحنا المدارس فلن نجد سوى القليل مما يتعيّن إصلاحه في السجون.
    ولد جون راسكن وعاش في انجلترا الفيكتورية في القرن التاسع عشر. وقد عمل طوال حياته على تعميق تقدير الناس للفنون والآداب، وهذا بدوره قرّبه من هموم وشجون التعليم. كان يحبّ الرسم كثيرا، ولطالما حرص على تزيين صفحات رسائله وكتبه برسومات توضيحية من عمله هو. كما رسم اسكتشات ولوحات مفصّلة عن الصخور والنباتات والطيور والمناظر الطبيعية والهياكل المعمارية. وكان يشدّد دائما على الربط ما بين الطبيعة والفنّ والمجتمع.
    كتابه بعنوان "الرسّامون المعاصرون" قالت عنه الأديبة المعروفة تشارلوت برونتي انه أزاح عصابة كانت على وجهها ومنحها عينين جديدتين، وهذا أعظم ما يمكن أن يفعله إنسان في هذا العالم.
    وأخيرا تُنسب إلى جون راسكن عبارات مأثورة كثيرة تتناول آراءه في الحياة والناس مثل قوله: من الأفضل أن تخسر كبرياءك من اجل شخص تحبّه على أن تفقد ذلك الشخص بسبب كبريائك العديمة الفائدة".
    وقوله: إن شروق الشمس جميل، والمطر منعش، والرياح تجعلنا متأهّبين، والثلج يبهجنا. ليس هناك شيء اسمه "أحوال جوّية سيّئة". هناك فقط أنواع مختلفة من الطقس الجيّد".
    وقوله: تذكّر أن أجمل الأشياء في هذه الحياة هي تلك التي يعتبرها الناس، عادة، عديمة المنفعة؛ الطاووس والزنبق مثلا".

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • من القصائد الكلاسيكية المغنّاة التي تغريك بسماعها مرّة بعد أخرى هذه الأغنية للمطرب الكبير الراحل عوض الدوخي. ورغم أنها ليست بمستوى شهرة بعض أغاني الدوخي الأخرى مثل صوت السهارى ويا ساهر الليل ويا من هواه وصبا نجد، إلا أنها تتميّز، هي أيضا، بجمال كلماتها وأصالة لحنها الذي يذكّرك بموسيقى الملحّنين الكلاسيكيين العرب الكبار.
    عوض الدوخي بالمناسبة أدّى كافّة أشكال الغناء. كما تغنّى ببعض ألحانه كبار المطربين العرب مثل فايزة احمد التي غنّت له صوت السهارى والمطربة العراقية مائدة نزهت التي غنّت له لا باس يا ترف الحشا وصبا نجد. صوت الدوخي فيه شجن وتوق وحزن شفيف، يذكّرك برائحة البحر ومناظر المراكب والغوص وبالأيّام الخوالي.
    وإذا أعجبتك "طال الصدود" فقد تجد في هذه الأغنية أيضا ما يطربك أو يثير بعض اهتمامك بإيقاعها المرح وموسيقاها البديعة. لاحظ أيضا التداخلات والحركات الرائعة لآلة الأكورديون فيها..
  • أحيانا تستمع إلى بداية أغنية ما فتُعجَب بالموسيقى ويشدّك أداء المطرب. لكن بعد قليل، سرعان ما تلاحظ أن اللحن لا ينمو بشكل طبيعي ولا يتناغم بالضرورة مع الكلمات.
    هذه الأغنية للفنّان الكبير أبو بكر سالم هي مثال على الأغاني التي تبدأ بداية قويّة وواعدة ولكنها لا تلبث أن تأخذ مسارا آخر مختلفا بعد المقطع الأوّل. الأغنية، أيّة أغنية، عادة ما يتعثّر لحنها ويتوه عندما يحاول المغنّي مجاملة الشاعر وإرضاءه بتلحين كلّ ما يكتبه من كلام حتى لو كان بعضه مجرّد حشو لا معنى له.
    "لا تنادي" أغنية جميلة، لكن جمالها لا يتجاوز المقطع الأوّل. وكان بالإمكان اختصارها لأربع دقائق بدلا من هذا التطويل المملّ والعكّ الشعريّ والموسيقيّ غير اللازم.
    ومع ذلك يظلّ أبو بكر سالم واحدا من الأسماء اللامعة في سماء الأغنية الخليجية والجزيرية. وأتذكّر الكثير من جمله اللحنية الرائعة التي لا يمكن أن يتوصّل إليها سوى فنّان على قدر عال من الإبداع والحساسية. استمع إلى هذه الأغنية كمثال.
  • لطالما اكتشفت أننا، أبناء هذا الجيل، منقطعون إلى حدّ كبير عن تراثنا الموسيقيّ والغنائي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، في حين أن هذا التراث يحوي ثروة هائلة من الموسيقى والمقامات وأشكال الغناء المختلفة والمتعدّدة.
    المشكلة أننا أحيانا لا نتذكّر مطربي الماضي إلا على سبيل تذكّر زمن أبائنا ومقارنته بزمننا، وليس من باب محاولة تذوّق أعمالهم ونقدها وكيف تبدو في سياق زمني مختلف.
    الرعيل الأول من مغنّيي الخليج والجزيرة معظمهم كانوا مناضلين بامتياز، خصوصا النساء، لأنهم أصرّوا على الاشتغال بالفنّ والموسيقى فنشروا الجمال وارتقوا بمشاعر الناس وحاولوا ترويض العنف الكامن في النفوس، متحدّين أفكار التطرّف الديني والأعراف الاجتماعية البالية، ولقوا في سبيل ذلك صنوف العنت والمشقّة.
    من هؤلاء المطربان الراحلان عبدالله فضالة وحمد الطيّار. اسمع الأوّل وهو يؤدّي هذه القصيدة الجميلة من شعر الياس فرحات. واستمع إلى الثاني في هذه الأغنية التي تُعتبر أشهر أعماله.
    على فكرة، عبدالله فضالة ينتمي لعائلة كويتية متديّنة. وكان أبوه يريده أن يصبح رجل دين، لكنه فضّل دراسة الموسيقى. وقد قرأت منذ أيّام مقابلة صحفية قديمة أجريت معه عام 1967، أي نفس العام الذي توفّي فيه. ولفتني قوله: كنت اذهب إلى حفلات السمر وأغنّي فيها. تلك الأيّام أحسن من أيّامكم هذه. كلّ شي عندكم الآن ما يجوز وحرام"!
    هذا الكلام قاله الفنّان قبل أكثر من أربعين عاما. ترى ما الذي يمكن أن يقوله لو بُعث إلى الحياة من جديد ورأى كيف أصبحنا اليوم بفضل أفكار المتشدّدين الظلاميين الذين يعادون كلّ قيمة جميلة وراقية في الحياة؟!
    تأمّل آخر صورة في الرابط الأخير واشكر الله على نعمة العقل!
  • الخميس، أغسطس 22، 2013

    رينوار: الأعوام الأخيرة

    "لا تضع على صدري حجرا ثقيلا. أريد أن اذهب لأتنزّه في الريف لبعض الوقت". كان هذا آخر ما طلبه الرسّام بيير أوغست رينوار من ابنه جان قبيل وفاته.
    وعندما توفّي الفنّان في الثالث من ديسمبر عام 1919 نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كانت آخر كلمات قالها وهو يحدّق في لوحة صغيرة تصوّر باقة من شقائق النعمان كان قد انتهى للتوّ من رسمها: الآن بدأت افهم شيئا ما".
    قبر رينوار يُميّزه شاهد بسيط من الرخام في مقبرة ايسوا. في هذا المكان، يرقد الرسّام وإلى جواره كلّ من زوجته ألين وأبنائه الثلاثة. القبور بسيطة كبساطة الحياة التي عاشها رينوار وكرّسها كليّا لفنّه ولتصوير السعادة.
    وما يزال بالإمكان زيارة ورشته المتواضعة في الجزء الخلفيّ من حديقة منزل العائلة الذي تشغله الآن صوفي رينوار، إحدى حفيداته. المحترف فارغ إلا من كرسيّ وحامل لوحة كان رينوار يستخدمهما عندما أصبح معاقا. ويتفرّع عن الورشة عدّة مسارات كان الفنّان يسلكها، إمّا مشيا على الأقدام أو بالدرّاجة الهوائية، عندما يبحث عن موضوعات ليرسمها.

    مناظر رينوار لا تخلو من صور لأطفال وأزهار ونساء يتحمّمن في غابات مضيئة أو أنهار من الفضّة. موهبته المبكّرة أهّلته لحياة مهنية طويلة كانت تتخلّلها فترات مرض، إذ كان يعاني من الروماتيزم الذي منعه من تحقيق ما كان يصبو إليه في نهايات حياته.
    تصويره اللذيذ والغنّي بالألوان للرقصات والنزهات والأطفال المبتسمين والوجوه الكاملة والأجساد الممتلئة للنساء كانت تعكس قيم وأفكار الانطباعية في أزهى صورها.

    "وصلت إلى طريق مسدود". هكذا اعترف رينوار في عام 1880. "لقد توصّلت أخيرا إلى قناعة بأنني لم اعد استطيع الرسم".
    الأعوام العشرة الأخيرة من حياة رينوار لم تكن بلا متاعب. وعلى مدى تلك الفترة، حاول إيجاد اتجاه جديد لفنّه، ووجده أخيرا في المتاحف. تحوّل تدريجيا عن الرسم في الهواء الطلق والملاحظة المباشرة للواقع إلى رسم الموضوعات التقليدية والزخرفية. وعلى خطى ديلاكروا، سافر رينوار إلى الجزائر، ثمّ إلى إيطاليا حيث اكتشف جداريّات رافاييل وعمل على صورة للمؤلّف الموسيقي ريتشارد فاغنر.
    ومن خلال مراقبته الدقيقة لأعمال الرسّامين العظام الأوائل، نجح أخيرا في التغلّب على شكوكه. وابتداءً من عام 1890 فصاعدا، تمتّع الرسّام مرّة أخرى بقدر كبير من الاعتراف على الساحة الدولية. وإلى جانب صديقيه مونيه وسيزان، أصبح رينوار مصدرا لإلهام الرسّامين الشباب مثل بيكاسو وبونار وماتيس وموريس دونيه وغيرهم.

    وقد وجد في الأساطير اليونانية والمناظر الطبيعية لمقاطعة بروفانس وفي أعمال كبار الرسّامين من القرون السابقة، بما في ذلك تيشيان وروبنز وبوشيه، مصدر إلهام لرسم الأنثى العارية ومشاهد السعادة المنزلية.
    وعلى الرغم من أن شهرة رينوار ارتبطت أكثر بفترته الانطباعية، إلا أن هذه الفترة من النضج الفنّي اتسمت هي أيضا بالحرّية الكبيرة في استخدام اللون والموضوع والأسلوب وأنتجت أعمالا ناضجة وجديرة باكتشافها ثانية. صديقه الشاعر غيوم أبولينير كتب قائلا: رينوار ينمو باستمرار. لوحاته الأخيرة هي الأكثر جمالا، بل والأكثر ابتكارا".
    لوحته المستحمّات والتي أنجزها عام 1919، أي نفس العام الذي توفّي فيه، اعتبرها تتويجا حقيقيّا لانجازاته. في مقدّمة اللوحة تظهر امرأتان مستلقيتان في الهواء الطلق، بينما تعرضان مفاتنهما على الناظر. الألوان الدافئة تتداخل مع بقع الضوء. وفي الخلفية تظهر ثلاث نساء أخريات وهنّ يمرحن عاريات في الماء. الأشكال الكاملة لأجسادهنّ الضخمة، والطريقة التي يذُبْنَ فيها بانسجام في المنظر الطبيعي يشهدان على براعة رينوار التصويرية. احد النقّاد وصف اللوحة بقوله: انظر إلى الضوء على أشجار الزيتون، انه يبرق مثل الماس. الأزرق والورديّ وانبثاق السماء، الجبال التي هناك والتي تتغيّر مع الغيوم، إنها تشبه إحدى خلفيّات انطوان فاتو".

    كان رينوار محاطا بالنساء حتى نهاية حياته. وكان يجد الإشباع المادّي والروحي على حدّ سواء عندما يكون في صحبتهن.
    في سنّ الشيخوخة، عندما بدأت الآم التهاب المفاصل تُثقِل عليه، اقترح عليه بعضهم أن يتّخذ خدما من الرجال. لكنه رفض بعناد قائلا: لا أستطيع أن أتسامح مع أيّ شخص باستثناء النساء". كان في منزل رينوار جيش غير تقليديّ من الفتيات الشابّات العاملات اللاتي لازمنه طوال أكثر من ثلاثين عاما.
    هذا العدد الكبير من النساء الجميلات من مربّيات وممرّضات وطبّاخات واللاتي وُظفنّ في الأساس لأداء أعمال منزلية، جلسن أو وقفن أمامه كي يرسمهنّ، وبعضهنّ عاريات أحيانا. وكنّ يفعلن هذا عن طيب خاطر وبشكل طبيعي. وعندما تحدّق في صورهنّ، لن ترى أثرا لأيّة أحقاد أو أفكار مزعجة تعكّر صفو وجوههن. كان رينوار يرسمهنّ وكأنهنّ فاكهة أو أزهار من جنّات عدن.

    وموديلات رينوار لا يفكّرن. إذ يبدو انه كان مهتمّا أكثر بمادّية الجسد أكثر من الأفكار الميتافيزيقية. وعلى الرغم من انه اعترف بحبّه المتهوّر لشكل الأنثى وكان يفضّله مشعّا وفي كمال نضجه، إلا أن رينوار لم يكن بأيّ حال زير نساء. قال مرّة: اشعر بالأسف على الرجال الذين لا يكفّون عن ملاحقة النساء. هناك رسّامون لا يكملون لوحة واحدة أبدا، لأنهم ينشغلون بمحاولة إغواء موديلاتهنّ بدل رسمهنّ".
    لكن هذا لم يكن حال رينوار. لم يكن أبدا شخصا فاجرا أو إباحيّا، وكان يتعامل مع موديلاته بالكثير من الاحترام ويشجّعهنّ على أن يقفن بحرّية دون أن يصرّ على أن يبقين جامدات أو ساكنات.
    كان رينوار في الأربعين من عمره عندما أصبح مهجوسا برسم العارية. لوحة فرانسوا بوشيه بعنوان دايانا تخرج من حمّامها كانت اللوحة العارية الأولى التي بهرته واستمرّ يحبّها ويتذكّرها طيلة حياته، تماما كما يتذكّر الإنسان حبّه الأوّل.
    كان بوشيه واحدا من أفضل الرسّامين الذين فهموا جسد المرأة. وقد اعتاد على أن يملأ لوحاته بصور لشابّات جميلات ويخصّص الخلفية لمنظر طبيعي مختصر. كان يقول: على المرء أن يشكّ في أن جسد امرأة لا يحتوي على عظام".

    كلّ الخادمات في منزل رينوار كنّ يجسّدن مجموعة من السمات الجمالية الواضحة والمحدّدة المعالم: أكتاف منحسرة برقّة، أجساد ثقيلة، نهود صغيرة وصلبة، رؤوس صغيرة ومستديرة، عيون مضيئة وشفاه ممتلئة. ووراء هذه الوجوه المجهولة، غالبا ما يختفي وجه موديل مفضّلة هي غابرييل رونار ابنة عمّ السيّدة ألين رينوار زوجة الرسّام.
    نشأت غابرييل أيضا في إيسوا وبدأت خدمتها عند أسرة رينوار عام 1894 عندما كانت في الرابعة عشرة وظلّت مع العائلة حتى عام 1914. كانت مكلّفة بالاهتمام بابن رينوار الأوسط جان، وظهرت في ما بعد في العديد من اللوحات التي رسمها لأطفاله.
    ابن الرسّام البكر، بيير، ولد عام 1885 من مصفّفة الشعر الشابّة ألين شاريغو. وقد تزوّجها رينوار بعد ذلك بخمس سنوات، أي في عام 1890، وأنجبا طفلين آخرين هما جان وكلود. زوجته وأطفاله الثلاثة أسهموا جميعا في سعادته وكانوا مصدر إلهام له.
    وعلى الرغم من حبّ الفنان لأفراد أسرته، إلا أن أحدا منهم لم يكن مسئولا عن الاهتمام به. كان هذا الدور محفوظا لـ غابرييل. كانت الفتاة الشابّة تلعب بهدوء دور المربّية والموديل. وكان يرسمها إمّا بملابس أو عارية تماما. كما ألهمته رسم مجموعة من لوحات المحظيات المستلقيات.

    كان رينوار يستمتع بجعل غابرييل تبدو جميلة، وذلك بتزيينها بالقلادات وبما خفّ وشفّ من الثياب، كما في لوحته غابرييل مع حُليّ (1910)، أو بوضع وردة في شعرها كما في لوحة غابرييل مع زهرة (1911).
    وبالنسبة له، كانت هذه السمات والإضافات ترمز لحميمية ودفء شخصية الأنثى. كانت غابرييل مسئولة عن السهر على راحة الرسّام العجوز. وكانت تجهّز له عدّة الرسم قبل أن تضع الفرشاة بين يديه الملفوفتين بالضماد. وابتداءً من عام 1900 فصاعدا، أي عندما استنزف التهاب المفاصل قواه، أصبح رينوار يفضّل البقاء أكثر فأكثر في جنوب فرنسا لأن الشمس القويّة كانت تساعد حالته الصحّية.
    في تلك الفترة، أصبح يركّز على رؤية عالم مثاليّ قوامه جذور ثقافة البحر المتوسّط. كان يرى في الإغريق جنسا يستحقّ الإعجاب. حياتهم كانت سعيدة جدّا لدرجة أنهم كانوا يتخيّلون أن الآلهة تأتي إلى الأرض باحثةً عن الجنّة والحبّ. "نعم، كانت الأرض جنّة الآلهة. وهذا ما أريد أن ارسمه".

    رينوار، المهجوس بفنّه إلى ما لا نهاية، كان يسعى إلى تجاوز الواقع. وعلى الرغم من إعاقته، إلا انه احتفظ بالسيطرة الكاملة على فنّه وأراد أن يقدّم عالما ينبض بالحياة. وكلّما أصبحت موديلاته اكبر سنّا، كلّما أصبح هو اضعف.
    كان يُنتقد على رفضه الأعراف الأكاديمية وعلى إدارته ظهره للبؤس الاجتماعي الذي كان سائدا في نهاية القرن التاسع عشر. أعماله في سنوات عمره المتأخّرة، أي المناظر الطبيعية للبحر المتوسط أو المستحمّات، تميّزت بتفاؤلها وببهرجتها اللونية. ويمكن اعتبارها تكريما لابتهاج الفرنسيين وحبّهم للحياة.

    لم يكن رينوار رسّاما شعبويا دائما. صحيح انه كان رائدا للانطباعية، غير أن تجربته الحداثية لم تكن تُقابل دائما باستجابة دافئة. وفي القرن العشرين، أصبح مؤرّخو ونقّاد الفنّ منحازين للفنّ الحديث الذي أدّى إلى ظهور الرسم التجريدي. وقد اعتبر العديد من هؤلاء لوحات رينوار التي رسمها في أواخر حياته، وبالأخص نساءه العاريات، موضة قديمة ولا تمتّ للفنّ الحديث بصلة.
    والعديد من هذه اللوحات التي أنجزها في أعوامه الأخيرة تمّ إنزالها إلى غرف التخزين في المتاحف التي كانت تعرضها. في عام 1989، طرح متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته عارية مستلقية للبيع. وقال أمين المتحف وهو يشير ضمنا إلى أيّ مدى انخفضت شهرة رينوار: هناك أناس كثيرون يرغبون في هذه اللوحة. لكنّها ببساطة لا تنتمي إلى قصّة الفنّ الحديث التي نحاول أن نرويها للناس".
    الرسّامة الأمريكية ميري كاسات قالت ذات مرّة عن رينوار انه يرسم صورا لنساء حمراوات ضخمات وبرؤوس صغيرة جدّا. وهذا أكثر الأشياء فظاعة التي يمكن تخيّلها".
    لكن في وقت لاحق رأى هنري ماتيس الصور نفسها وقال واصفا إيّاها: هذه هي أجمل الصور التي رُسمت لعاريات". وأضاف: ليس هناك قصّة أكثر نبلا ولا انجازات أكثر روعة من تلك التي لرينوار".

    وهناك من النقّاد من يعتبر أن الوقت قد حان لإعادة النظر في تلك الأعمال ومحاولة فهمها وفقا لشروطها وليس بحسب تصنيفات وإملاءات النقّاد الحداثيين.
    احد أولئك النقّاد اقترح ذات مرّة على من لا تعجبه لوحات رينوار التي رسمها في أخريات حياته حلا بسيطا: حاول أن تنظر إلى اللوحات بعيون ماتيس الذي كان صديقا حميما لرينوار. لكي ترى رينوار من خلال عيني ماتيس يعني أن تحبّ رينوار العجوز.
    أوّلا: تعلّم أن تحبّ أشكاله الناعمة وخطوطه الرفيعة وسيتبيّن لك أن عالم رينوار هو عالم من القطن.
    ثانيا: لكي تحبّ ألوان رينوار يجب أن تقبل الأحمر والورديّ باعتبارهما اللونين الرئيسيين في العالم، والأخضر والأزرق الشاحب كلونين أصليين وأوليّين.
    ثالثا: لكي تفهم مناظر رينوار الطبيعية يجب أن تدرك انه عاش حياته محاصرا بسبب المرض. في مناظره الطبيعية، أنت إمّا في الداخل، أي في مسرح من الستائر والأزياء والكراسي المنجّدة، أو في الخارج، أي في عالم من مسارات الحصى والجدران الحجرية القديمة وأكداس أوراق الشجر.
    رابعا: لكي تحبّ نساء رينوار عليك أن تنسى الجسد كما تعرفه من وسائل الإعلام اليوم وتستشعر جسدا يعتمد على الإحساس والقرب والعلاقة الحميمة.

    في أواخر حياته، أراد رينوار إحياء التقاليد الفنّية والحساسيّة العاطفية للعصر الذهبيّ للثقافة الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر كما تجسّده أعمال انطوان فاتو وفرانسوا بوشيه. وقد حاول إعادة التأكيد على دور الكلاسيكية الأوروبّية في التعبير الشخصي عن الجمال. وبعد أن تصالح رينوار مع مسألة موته الوشيك، استدعى الموضوعات الكلاسيكية في الرسم والتي تؤكّد على الشباب والمسائل الحسّية وعلى خصوبة الطبيعة وتقديس الحياة العائلية.
    وابتداءً من عام 1890 وحتى وفاته، كان رينوار يرسم بتفانٍ لا يعرف الكلل أو الملل. وفي واحدة من أشهر ملاحظاته، أعلن في عام 1913 قائلا: لقد بدأت اعرف أخيرا كيف ارسم. استغرق الأمر منّي عمل أكثر من خمسين عاما كي أصل إلى هنا ومع ذلك لم أنتهِ بعد".

    احتضن رينوار المسنّ الحياة بتفانٍ ومثابرة. وفي عام 1898، بدأ يعاني من التهاب المفاصل الروماتويدي ثم لم يلبث أن تعرّض لجلطة دماغية اضطرّته في النهاية إلى استخدام كرسيّ متحرّك. وقد اتبع أوامر طبيبه واستقرّ في جنوب فرنسا. في عام 1907، اشترى مزرعة مساحتها مائة فدّان في الكوت دازور. وهناك خلق لنفسه ولزوجته ولأبنائه الثلاثة ولعدد من المربّيات والخادمات عالما مثاليّا.
    وبعد ذلك بعام، زار إيطاليا، حيث أعجب بتقاليد الرسم والتصميم التي تكرّست في الفنّ الإيطالي منذ عصر النهضة. وقد ترك رينوار وراءه تجاربه مع الضوء وغيره من عناصر تحوّل الطبيعة التي ميّزت الكثير من أعماله خلال سنوات الانطباعية وسعى لطلب التوجيه والإلهام من الماضي. ومن الآن فصاعدا، سيركّز على مواضيع الفنّ الكلاسيكي وعلى الرسم بضربات فرشاة سائلة.
    احد الأمثلة التي تكشف عن رينوار الكلاسيكي هي لوحته بعنوان امرأة تعزف الغيتار . في مشهد يستحقّ أن يرسمه فاتو، يصوّر رينوار امرأة شابّة مستغرقة في عزف الغيتار. المكان ليس احد عوالم فاتو الأسطورية، بل صالونا معاصرا وضع رينوار عازفته فيه. الصالون لا يميّزه شيء باستثناء وجود المرأة والغيتار المرسوم بمهارة. رينوار يصوّر مشهدا من الانسجام والنشوة الإبداعية في مكان يمكن أن يكون في الشقّة المقابلة بمنزل في نهاية الشارع. وقد وظّف الفنّان في المشهد لمسة شاعرية وفرشاة معلّم قديم.

    في لوحة غابرييل وجان، يوازن رينوار بين سلسلة من العناصر بطريقة بارعة. شعر غابرييل الفاحم يتباين مع الشعر الأشقر المجعّد للصغير. إذا كانت غابرييل مسليّة لابنه الصغير، فإن علاقتها مع رينوار تثير بعض القضايا المحيّرة.
    منزل رينوار كان سعيدا وشاعريّا تقريبا، في كثير من النواحي. ولكنه كان يتسم بالثبات. جان رينوار ابن الرسّام كتب في مذكّراته أن والده الذي كان يحبّه كثيرا كان يصرّ على أن لا يقصّ شعره إلى أن يذهب إلى المدرسة، ما جعل ابنه نموذجا مثاليا للوحات التي تصوّر فتيات صغيرات يلعبن ويلهين ويمارسن الخياطة.
    كلّ أبناء رينوار الثلاثة كان عليهم أن يتحمّلوا كونهم نماذج لوالدهم الذي كان يحاول بعناد إطالة فترة طفولتهم بينما كان هو يتشبّث بالحياة وسط معاناته الشديدة مع المرض. وقد احتفظ بنفوذه العاطفي على غابرييل أيضا، وكانت تلك الخطوة لا تخلو من انعكاسات مزعجة.
    في اثنتين من صور غابرييل، يرسمها رينوار من الجذع ومن الكتفين. وكلا اللوحتين تتوافقان مع التقاليد الكلاسيكية عن العارية في الفنّ الأوروبّي. يمكن للمرء أن يطلق بعض التكهّنات السيكولوجية حول علاقة رينوار مع زوجته ألين التي كانت موديله في عام 1880، ولا سيّما في لوحته العظيمة غداء في رحلة بالقارب (1881)، وكذلك حول علاقته مع غابرييل. ولكن ليس هناك أيّة علامة عن أي توتّر في الوضع الداخلي لمنزل رينوار قد يكون ناجما عن اختياره لموديله الجديدة أو طريقته في رسمها.

    غير أن ما يبعث على القلق بشأن صور غابرييل هو أنها تبدو وكأن فردانيّتها قد استُنزفت على نحو متزايد. هناك تغيير ضئيل في وجهها وعلامات بسيطة عن آثار العمر أو النموّ الداخلي بعد عام 1894. حيوية وسمات الشخصية الفريدة كما تتضح في صورتها مع جان منعدمة في بورتريهاتها العارية وفي اللوحات الأخرى التي رسمها لها رينوار في وقت لاحق. وفي الواقع، فإن العنوان الذي اختاره للوحته الحسناء الصقلّية ، والتي تظهر فيها غابرييل أيضا، يوحي بأن رينوار كان يرسم امرأة قديمة من البحر المتوسّط وليس فردا من أفراد أسرته أو شخصا له عقل وروح وشخصيّة خاصّة.
    لم يكن رينوار بالتأكيد لِيَدَع الأفكار العميقة في النفس البشرية تؤثّر على عمله. في عام 1908، شاطر بعض تأمّلاته في الفنّ مع رسّام أميركي. وهذه التأمّلات تستحقّ أن تُدرس وتُمحّص نظرا للرؤية الكاشفة التي تتضمّنها.
    يقول رينوار: أرتّب موضوعي كما أريد، ثم اذهب وأرسمه مثل طفل. أريد أن يكون الأحمر رنّانا ليبدو وكأنّه جرس. وإذا لم يتحوّل بهذه الطريقة، أقوم بإضافة المزيد من الألوان الحمراء أو أيّة ألوان أخرى إلى أن أتمكّن من الحصول عليه. ليس لديّ قواعد وأساليب خاصّة. وأيّ شخص ينظر إلى موادّي أو يشاهد كيف ارسم سيرى أنني لا احتفظ بأيّة أسرار. أنظر إلى امرأة عارية، ويكون هناك عدد كبير من الصبغات الصغيرة. لكن لا بدّ لي من العثور على اللون الذي يجعل الجسد يحيا ويرتعش على قماش الرسم".
    هذه المشاعر هي تعبير واضح عن حرص رينوار على حرفته. ومن الصعب رفض هذه الملاحظات ما دام أن الفنّان يتعامل مع موضوعه بإنصاف. لكن عندما يُجرّد الشخص المرسوم من أيّة شرارة فردية، عندها يصبح العمل الفنّي هامدا ومستنزفا وخاليا من أيّ معنى. وبعض النقّاد خلصوا إلى استنتاج مفاده أن موقف رينوار الأبوي تجاه النساء منعه من التعامل معهنّ بوصفهنّ أفرادا من لحم ودم.

    من بين أعمال رينوار التي لا يعرفها الكثيرون وليست مشهورة تلك البورتريهات التي رسمها لعدّة نساء بارزات في المشهد الثقافي في بدايات القرن الماضي. ومن بين هؤلاء عازفة البيانو المشهورة ميسيا سيرت، والشاعرة أليس فاليري ميرزباك التي رسمها عام 1913. البورتريه الأخير يصوّر امرأة ذكيّة ومنعّمة مع لمسة من غرور الانتيليجنسيا الفرنسية. في البداية لم يكن رينوار مهتمّا برسم ميرزباك لأنه لم يكن يعرفها كما لم يكن بحاجة إلى المال. لكن فاليري عادت إليه بعد أن ارتدت فستانا جميلا من الساتان الأبيض. وعندما رآها رينوار في الفستان قرّر أن يرسمها. ومن الواضح انه كان مستغرقا في رسم جمال اللباس بينما اكتفى برسم وجه المرأة وملامحها على عجل. ميرزباك ليست بالضبط من تلك النوعية من الأشخاص الذين كان رينوار يبحث عنهم ليرسمهم، ومع ذلك فإنه أعطاها تقريبا المعاملة الفنّية التي تستحقّها.
    لوحات رينوار لأمّه ولزوجته ألين ولبعض العاريات وكذلك للمناظر الطبيعية، توفّر جميعها نظرات قريبة من حياة الفنان الداخلية. وعلى الرغم من أنها ليست من بين أفضل أعماله، إلا أن هذه الرسومات تصوّر عالما عاطفيا مملوءا بسكّان أو أشخاص يتمتّعون بجاذبية عظيمة بالنسبة لرجل جاهد وناضل كثيرا لتحقيق النجاح.

    أحلام رينوار قد تبدو مروّضة إلى حدّ كبير. بول غوغان واماديو موديلياني، اللذان لا يمكن وصف موقفيهما من المرأة بأنه متحرّر، خلقا هما أيضا عوالم شخصيّة من الجمال الحسّي. لكن الطبيعة "الأركادية" التي تقف فيها عاريات رينوار وتأمّلاتهن الحالمة تخلقان حالة مصطنعة من البراءة المنوّمة.
    احد النقّاد كتب يقول: من خلال التعتيم على العلاقة الحقيقية بين الناس والطبقات والجنسين، أعطى رينوار شكلا فانتازيا لفترة نهاية القرن ما يزال رائجا إلى اليوم. كما أن هروب رينوار من الواقع أنتج رؤيا مثالية وأسطورية عن النساء صالحة لكل زمان ومكان".
    كان رينوار يستمتع بالموسيقى وكان لديه صوت جميل عندما كان شابّا. وقد اجتذب غناؤه انتباه مدير جوقة الكنيسة شارل غونو ، الذي أصبح فيما بعد موسيقيا مشهورا بعد أن ألّف لحن أوبرا فاوست. وعندما أصبح الرسّام عجوزا ومقيّدا بكرسيّ متحرّك، اُخذ لرؤية الباليه الروسيّ الذي كان عنصرا مثيرا في باريس آنذاك. وقد سُرّ بتلك التجربة كثيرا.

    الطبيعة السعيدة لأعمال رينوار المتأخّرة لا تُظهر العذاب الذي كان يعانيه بسبب التهاب المفاصل الذي تسبّب في شلّ يديه تماما في النهاية. في عام 1915، فقد الفنّان زوجته. وبعد ذلك بأربع سنوات، أي في ديسمبر عام 1919، توفّي هو. وخلال زيارته الأخيرة إلى باريس قبيل وفاته، دُعي إلى اللوفر كزائر منفرد، واُخذ من غرفة لأخرى وهو في كرسيّه. وقد شعر بالسرور عندما رأى لوحته الكبيرة مدام شاربونتييه وطفلاها معروضة هناك. وأحسّ بالرضا وهو يرى فنّه يُكرّم في حياته.
    كان رينوار قد التقى جورج شاربونتييه في عام 1875، عندما اشترى الأخير واحدة من لوحاته. كان شاربونتييه يعمل في مجال النشر وكانت زوجته سيّدة مجتمع بارزة ولها صالون يزوره الكثير من مشاهير ذلك العصر مثل فيكتور هوغو وفلوبير وكليمنصو ومانيه وديغا وغيرهم.
    اختيار مدام شاربونتييه رينوار كي يرسم لها هذه اللوحة الضخمة كان بمثابة نجاح له. وقد تلقّى إشادة كبيرة عندما انتهى من رسمها وكُلّف برسم بورتريه آخر مشابه.
    كان رينوار احد أكثر الرسّامين إنتاجا، وخاصّة في العقدين الأخيرين من حياته. كما كان حتّى وفاته نجما عالميّا وربّ عائلة شغوفا بزوجته وأبنائه ورسّاما طليعيّا في حالة انسحاب من العالم الحديث. وربّما يكون هو الرسّام الفرنسيّ الأكثر شعبية بسبب موضوعاته. لوحاته الدافئة والحسّية تعطي انطباعا عن إنسان متفائل كان على علاقة طيّبة مع العالم، وهو عالم لم يكن يرى فيه سوى كلّ شيء خيّر وجميل.

    السبت، مارس 30، 2013

    شكسبير في الرسم

    المسرحيات الخالدة لـ وليام شكسبير (1564-1616) وجدت طريقها إلى السينما والموسيقى وألهمت رسّامين كثيرين بشخصيّاتها الحيّة وحبكاتها التي لا تُنسى.
    الشخصيّة الرئيسيّة في مسرحية "اوتيللو" محارب مغربيّ تقوده شكوكه إلى الاعتقاد بأن زوجته ديدمونا تخونه. صديقه ومستشاره اياغو يحاول بمكر إقناعه بأن شكوكه في مكانها وأن زوجته غير مخلصة له. هنا تسيطر الغيرة على اوتيللو ويقرّر قتل زوجته فيخنقها بوسادة وهي في سريرها. المأساة الأكبر تحدث عندما يكتشف اوتيللو أن ديدمونا بريئة. وفي نهاية المطاف، وتحت تأثير شعوره بالذنب والندم، يُقدِم على الانتحار.
    الليلة المشئومة والأخيرة لـ اوتيللو وزوجته صوّرها رسّامون مثل وليام باول وأدولف وايز. الرسّام الرومانسي الفرنسيّ أوجين ديلاكروا تناول هو أيضا هذه القصّة في لوحة رسمها عام 1847م. ديلاكروا رسم غرفة نوم ديدمونا بلون احمر فاقع، وهو لون العاطفة والغضب. اوتيللو يدخل الغرفة غاضبا وحاملا بيده مصباحا، بينما تنام ديدمونا قريرة العين. رسم ديلاكروا هذه اللوحة بعد أن شاهد اوبرا اوتيللو للمؤلّف الموسيقي الايطالي غيوتشينو روسيني، والمستوحاة من المسرحية الأصلية.
    مسرحية شكسبير "روميو وجولييت" منحت العالم حكاية أشهر عاشقين منكوبين في التاريخ وجدا نفسيهما مسجونَين داخل شبكة من العائلات المتناحرة حيث لا مكان سوى للخناجر والسموم.
    الفنّان البريطاني فورد مادوكس براون رسم عام 1870 لوحة تصوّر موعدا في الشرفة بين العاشقين روميو وجولييت.
    زميله الإنجليزي الكلاسيكي فريدريك ليتون اختار أن يصوّر المشهد الختاميّ للمسرحية، فرسم لوحة بعنوان المصالحة بين عائلتي مونتاغيو وكابيوليت. في اللوحة تظهر الروحان الهامدتان وهما تحتضنان بعضهما البعض إلى الأبد، بينما أسرتاهما اللتان أدركتا بعد فوات الأوان حماقة قتالهما تتفقان أخيرا على هدنة. ليتون يوحّد العاشقين بطريقة جميلة من خلال الخطوط الطويلة والفضفاضة. زعماء العائلتين يتصافحون أمام خلفية غامضة، بينما يخيّم الوجوم على الأقارب الآخرين حزنا على الموت العبثيّ للشابّ والفتاة.
    مسرحية "الملك لير" تحكي قصّة حاكم انجليزي قديم وبناته الثلاث. اثنتان منهنّ متآمرتان ومخادعتان، بينما الأخرى صادقة ومُحبّة. ومن خلال بناء شكسبير المثير والمحكم، يتمّ إقناع الملك لير بأن ينفي كورديليا الابنة التي تحبّه حقّاً، ويثق في ابنتيه الشرّيرتين غونيريل وريغن.
    الفنّانون كثيرا ما رسموا مشهد إصابة الملك لير بحالة من الجنون ترمز إليها عاصفة. ومن بين هؤلاء جورج رومني وجون رونسيمان. لكن هناك من فضّل أن يرسم كورديليا ولير معا.
    فنّان القرن التاسع عشر بول فالكونر رسم صورة مؤرّقة للملك المضطرب يظهر فيها بلحية بيضاء وقد أنهكته الحروب. والرسّام إدوين أوستن آبي رسم الابنتين المنحرفتين غونيرل وريغن جنبا إلى جنب قبل أن تتحوّل علاقتهما في نهاية المطاف، وبشكل غير مستغرب، إلى حالة من العداء. بينما رسم جيمس باري الملك وهو يحتضن بحرقة جسد كورديليا الميّت.
    الليدي ماكبث وأوفيليا هما شخصيّتان رئيسيّتان في مسرحية "هاملت". وقد تناولهما الرسم مرارا. أوفيليا، على وجه الخصوص، ببراءتها وقبرها المائيّ، كانت الموضوع المفضّل لفنّانين مثل جون ايفرت ميليه وجون ووترهاوس ودانتي غابرييل روزيتي والكسندر كابانيل وغيرهم.
    الرسّام الرمزي الفرنسي أوديلون ريدون رسم أوفيليا مع زهورها البرّية الشهيرة، كما رسمها وقت وفاتها. وكلا اللوحتين تُمسكان بصفاتها الأثيرية وروحها المنكسرة.
    ريدون رسم أيضا لوحة أخّاذة لليدي ماكبث باستخدام مجموعة من الألوان الفريدة التي تتناسب مع هذه الشخصية المختلفة جدّا. وبحكم كونها زوجة ماكبث، فإن الليدي تدفع زوجها لارتكاب جريمة قتل كي يصبح ملكا على اسكتلندا. وعلى الرغم من أنها كانت تتمتّع بقدر من السلطة، إلا أن إحساسها بالذنب، في النهاية، يصبح كبيرا بما لا يُحتمل.
    لوحة ريدون عن الليدي ماكبث تميّزها بقع متوهّجة من الأحمر والبرتقالي، بينما يظهر وجهها المتجّهم وقد عَلَته آثار الشرود والتوتّر بسبب الهواجس التي تنتابها بأنها ملوّثة بالدم إلى الأبد. "مترجم".

    Credits
    artuk.org

    الاثنين، يوليو 16، 2012

    ديلاكروا وسلطان المغرب

    لم يكن اوجين ديلاكروا أكثر رسّامي القرن التاسع عشر تأثيرا ونفوذا فحسب، وإنما أيضا احد الأسماء البارزة في حركة الرسم الاستشراقي الفرنسيّ والغربيّ عموما.
    في عام 1832، سافر ديلاكروا إلى اسبانيا وشمال أفريقيا كجزء من بعثة ديبلوماسية فرنسية. وحطّ الرسّام رحاله أخيرا في المغرب وذلك بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر.
    كان ديلاكروا يريد الهرب من الطابع الحضريّ لـ باريس ويتوق لرؤية ثقافة أكثر بدائية وبساطة. وفي نهاية رحلته تلك أكمل أكثر من 100 اسكتش ورسْم تصوّر مظاهر شتّى من حياة وثقافة شعوب شمال أفريقيا. ومن خلال تلك الرسومات، أضاف ديلاكروا فصلا آخر من فصول ما عُرف في ما بعد بالاستشراق.
    كان ديلاكروا يعتقد بأن شعوب شمال أفريقيا، بأزيائهم وأسلوب حياتهم، يوفّرون معادلا بصريّا للإغريق والرومان خلال الحقبة الكلاسيكية. وقد كتب آنذاك يقول: الرومان والإغريق هنا على عتبة بابي. إنّهم العرب الذين يلفّون أنفسهم بملابس بيضاء ويبدون مثل كاتو وبروتوس".
    وقد تمكّن من رسم بعض النساء سرّا في الجزائر كما في لوحته نساء الجزائر. غير انه وجد صعوبة في العثور على نساء مسلمات مستعدّات للجلوس أمامه لرسمهنّ، لأن الأعراف الإسلامية تقتضي من المرأة أن تتغطّى أمام الغرباء.
    وأثناء إقامته في طنجة، أنجز عدّة اسكتشات عن المدينة وسكّانها، وهي المواضيع التي سيعود إليها بعد ذلك من وقت لآخر وحتى نهاية حياته.
    لوحته سلطان المغرب وحاشيته وضع اسكتشها الأوّليّ أيضا خلال تلك الرحلة، وبالتحديد في شهر مارس من ذلك العام. وكان ديلاكروا ومرافقه الديبلوماسيّ شارل مورناي قد ذهبا لحضور حفل استقبال أقامه السلطان عبد الرحمن بن هشام خارج قصره في مكناس.
    وبعد مرور ثلاثة عشر عاما على رحلته المغربية، أتمّ ديلاكروا رسم هذه اللوحة الضخمة للسلطان وجنده وعرَضها في مكان خاصّ من صالون باريس عام 1845م.
    الحضور المهيب للوحة اجتذب اهتمام الكثير من مرتادي الصالون لأنها تقدّم لمحة عن ملك لم يكن معظم الفرنسيين قد رأوه إلا في ما ندر.
    لكن في الوقت الذي قرّر فيه ديلاكروا عرض لوحة السلطان وحاشيته، كانت العلاقات بين فرنسا والمغرب تشهد توتّرا بسبب موقف المغرب الداعم لحركة المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر.
    كان الفرنسيون يعرفون أن السلطان عبد الرحمن كان يزوّد الثوّار الجزائريين بالسلاح والمؤن. وأكثر من ذلك سمح لهم بالدخول إلى أراضي الغرب والخروج منها بحرّية.
    وفي محاولة لإجبار السلطان على تغيير موقفه، قام الفرنسيون بمهاجمة وقصف مدينتي طنجة وتطوان. كما ألحقوا الهزيمة بالجيش المغربيّ في معركة إيسلي. هذه التطوّرات المتتالية لم تترك للسلطان عبد الرحمن الكثير من الخيارات. فاضطرّ لأن يعقد مع الفرنسيين معاهدة تنصّ على سحب تأييده للأمير عبد القادر الجزائريّ.
    كانت العلاقة بين المغرب وفرنسا قد تغيّرت كثيرا في الفترة ما بين زيارة ديلاكروا للمغرب عام 1832 ووقت عرض اللوحة في باريس عام 1845م. كانت المغرب قوّة عسكرية يهابها ويتجنّبها الكثيرون. ثم أصبحت، وعلى كره منها، حليفا لفرنسا.
    ومن المدهش أن هذه اللوحة أثارت تفسيرات متباينة في حينه. فقد تساءل الكثيرون: هل تصوّر عاهلا عظيما أم خصما مهزوما، أم أنها مزيج من الاثنين؟
    البعض رأى أن الرسّام صوّر عبد الرحمن كعدوّ للفرنسيين بدليل وقفته المتحدّية وغير المبالية. وهناك من ربط اللوحة بهزيمة المغاربة في ايسلي ورأى فيها صورة لا تخلو من الزهو لعدوّ مهزوم يحيط به عدد من أفراد جنده المنكسرين.
    غير أن هناك رأيا آخر يقول إن ديلاكروا أراد من اللوحة أن تكون تحيّة من شخصه إلى السلطان. حجم اللوحة كبير جدّا. وعبد الرحمن يبدو فيها سيّدا قويّا ومهاب الجانب. انه الشخص الوحيد الذي يمتطي صهوة حصان. كما انه يسمو عاليا فوق حرّاسه وفرسانه الكثيرين. ومن اللافت أن ديلاكروا جعل الجميع يقفون على أقدامهم ما عدا السلطان، وكأنّما أراد أن يُبرز، أكثر، حضوره القويّ والطاغي.

    الأحد، يوليو 15، 2012

    محطّات

    كتابة على الجدار

    بعض القصص الدينية والتاريخية يعود إليها الفضل في إثراء اللغة بالكثير من العبارات والصيغ الدلالية التي تصف مواقف أو حالات معيّنة بطريقة موجزة وبليغة.
    ومن تلك العبارات واحدة تتكرّر كثيرا في لغة الأخبار وفي الأعمال الأدبية، وهي عبارة "الكتابة على الجدار". وآخر مرّة قيلت فيها كانت منذ يومين على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية التي كانت تتحدّث عن الأوضاع في سوريا. وقد صرّحت كلينتون بقولها: لقد أوضحنا وشركاؤنا لروسيا والصين انه يتعيّن عليهما أن يُريا الأسد الكتابة على الجدار. إن على الرئيس السوري أن يرحل، لأنه لن ينجح في امتحان الثقة، ولأن على يديه الكثير من الدم".
    فما هو أصل هذه العبارة، ومتى وكيف دخلت لغة الخطاب اليوميّ؟
    هناك قصّة قديمة يقال أنها تعود إلى زمن حكم الملك البابليّ بلشاسار ابن القائد المشهور نبوخذنصّر. وطبقا للقصّة، كان بلشاسار ملكا متهتّكا ومستهترا. وذات ليلة، أقام في قصره في بابل حفلا دعا إليه ألفا من أفراد حاشيته وأصدقائه. كان الفرس آنذاك يفرضون حصارا مشدّدا على المدينة لاحتلالها وإخضاع أهلها.
    لكن بلشاسار لم يأبه أو يهتمّ لذلك، إذ كان غاية ما يشغله هو إشباع أهوائه وملذّاته. وقد وصل به استهتاره، كما تروي القصّة، حدّ استخدام آنية المعبد المقدّسة كأقداح تُدار بها الخمرة على ضيوفه.
    وبينما بلشاسار وحاشيته منهمكون في لهوهم وعبثهم، ظهرت فجأة يد على الجدار لتكتب بالآرامية هذه الكلمات الثلاث: معدودة، موزونة، مقسّمة".
    أصيب الملك بالذعر ممّا رأى وأمر من فوره بجلب أبرع المفسّرين في بابل كي يشرحوا له سرّ تلك اليد ومعنى الكلمات الغامضة التي كُتبت على جدار القصر.
    وفي النهاية جاءوا إليه برجل صالح يقال له دانيال. فقال مفسّرا ما حدث: أيّها الملك! لقد أحصى الله عمرك وأصبحت أيّامك معدودة. ووَزَن أعمالك فرجحت خطاياك على حسناتك. وحكم بزوال ملكك وتقسيم مملكتك بين الفرس والميديّين".
    وتذكر القصّة انه في نفس تلك الليلة اقتحم الفرس قلاع بابل الحصينة وقتلوا بلشاسار واستولوا على المدينة وأخذوا أهلها سبايا وعبيدا.
    ومنذ بدايات القرن الثامن عشر على الأرجح، أصبحت عبارة "الكتابة على الجدار" تُستخدم مجازا في اللغة للإشارة إلى حتمية وقوع خطر وشيك أو حدث جلل ومشئوم، أو للتدليل على أن نهاية شخص أو حدث ما قد تحلّ بأسرع ممّا يمكن تخيّله.
    وأحيانا يقال عن شخص ما أنه يملك القدرة على قراءة الكتابة التي على الجدار، في إشارة إلى مقدرته في التنبّؤ بوقوع حدث سيّء أو بنهاية شيء ما بطريقة مأساوية أو منذرة بالخطر.

    ❉ ❉ ❉

    التطوّر بين داروين ودافنشي

    تشارلز داروين صدَم العالم عندما أعلن أن البشر يمتّون بصلة إلى القرود. وهي الفكرة التي قال بها شخص آخر سبق داروين بـ 350 عاما.
    الشيفرة الوراثية أكّدت الشبَه الوراثي بين الإنسان والقرَدَة العليا، كما يقول العلماء. ونظرية داروين عن التطوّر تمّ الاعتراف بها باعتبارها الفكرة الأكثر أهمّية في العصور الحديثة.
    لكن هل كان داروين فعلا أوّل شخص قال بهذه الفكرة؟
    إن أهم جانب مثير للجدل في ثورة داروين الفكرية هو الاستنتاج بأننا أيضا تطوّرنا من فصيلة قديمة وأن أقرب المخلوقات إلينا هي القرود العليا.
    والشيفرة الوراثية أثبتت مدى الشبه الكبير بين الإنسان والشيمبانزي. ومع ذلك وقبل داروين بقرون، ظهر عبقريّ آخر سبقه إلى هذا الاكتشاف، هو ليوناردو دافنشي.
    كان دافنشي يعتبر أن ارتباط البشر الوثيق بالقرود أمر بدهيّ. وهو لم يطرح هذه الفكرة كحالة تستحقّ الجدل.
    في مذكّراته الموجودة في المكتبة الملكية لقصر ويندسور، يذكر دافنشي - استنادا إلى دراساته في التشريح المقارَن - أن البشر والقرود هم أبناء عمومة، وأن تشريح الإنسان قريب جدّا من تشريح بعض المخلوقات الأخرى ومن بينها القرود.
    ثم يؤكّد على هذا الرأي بقوله: القرَدَة وغيرها ليست فقط ذات صلة بالإنسان، بل إنها تنتمي تقريبا إلى نفس الفصيلة.
    كتب دافنشي ملاحظاته هذه قبل خمسمائة عام وقال فيها أشياء قريبة جدّا مما قاله جيرد دايماند الكاتب في مسائل العلم الحديث في كتابه "صعود وسقوط الشيمبانزي الثالث".
    إن جزءا من الاحترام الذي يحظى به داروين هو أنه طرح تساؤلاته في العصر الفيكتوري. ومن خلالها جرّد البشر من وهمهم القديم بتفرّدهم البيولوجي.
    ترى كم من الشجاعة والعبقرية لزم دافنشي عندما طرح هذه الأسئلة قبل خمسة قرون؟!

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية





    ❉ ❉ ❉

    ترويض النمر

    للنمر حضور قويّ ودائم في الفلسفة والأدب والفنّ وفي كتب الحكمة القديمة.
    اوجين ديلاكروا، الفنّان الفرنسيّ الرومانسيّ، كان مفتونا بالنمور. وكان يتوق لرؤية احدها أثناء أسفاره في بلدان المشرق كي يرسمه. لكنّ محاولاته لرؤية القطّ البرّي المتوحّش عيانا وسط الطبيعة لم تتحقّق. وعندما عاد إلى باريس، داوم على زيارة حديقة الحيوان فيها كي يراقب النمر ويدرس حركاته وسكناته تمهيدا لرسمه.
    وفي ما بعد رسمه مرارا في العديد من لوحاته. من أشهر تلك اللوحات لوحته "اصطياد النمر" التي صوّر فيها حركة وعنف وضراوة هذا الحيوان وهو يقاوم محاولات مجموعة من الرجال الأشدّاء للإجهاز عليه وقتله.
    إصرار وعزيمة الرجل الذي يمتطي حصانا ورعب الحصان وعدوانية النمر، كلّ ذلك أبرزه ديلاكروا في هذه اللوحة الرائعة من خلال الضوء الساطع والألوان المتوتّرة.
    النمر أيضا موجود بكثرة في كتب الصينيين القدماء. وهناك حكمة صينية مشهورة تقول: إحتضن النمر وعُد إلى الجبل". والنمر في هذه الحكمة يرمز إلى التحدّيات التي نواجهها في الحياة. أما الجبل فيرمز إلى المكان الهادئ الذي نعود إليه طلبا للسلام والطمأنينة.
    وعلى عكس الفكرة الشعبية القائلة بقتل النمر، فإن التصوّر الصينيّ المثاليّ يدعو إلى ترويض الحيوان الذي يقبع في دواخلنا كي نصبح على وئام معه. وترويض النمر يتطلّب الكثير من الوعي وإعمال العقل والعواطف.
    النمر مشهور عادةً بقوّته وخفّة حركته وبجماله أيضا. أحيانا، يزمجر بعنف. وأحيانا أخرى، يموء بعذوبة مثل قطّ أليف. واحتضانه يعني، ضمناً، التفكير في احتمالات شتّى.
    احتضان النمر يعني مواجهة المشاكل والتحدّيات التي تعترض طريقنا من اجل ترويضها ومعالجتها بصبر وحكمة بدلا من دفعها بعيدا. والوصول إلى مستوى من السكينة وراحة البال يتطلّب من الإنسان أن يروّض النمر "أو المواقف الصعبة" كي يعود إلى قمّة الجبل حيث السلام والملاذ الآمن.

    Credits
    humanities.com

    الثلاثاء، مايو 15، 2012

    شخصيّات في الرسم: كليوباترا

    ألهمت كليوباترا العديد من الفنّانين منذ عصر النهضة. كانت ملكة عظيمة خضع لسحرها اثنان من أقوى الزعماء العسكريين الرومان: يوليوس قيصر ومارك أنطوني. صحيح أنها هُزمت في النهاية، لكن موتها المأساوي حرم المنتصر من جزء من انتصاره على الأقلّ.
    الكتّاب القدامى متفّقون على حقيقة أن كليوباترا ماتت بلدغة أفعى في يدها. غير أن شكسبير هو الذي اخترع قصّة أن اللدغة كانت في ثديها. ثم أخذت الفكرة بعد ذلك طريقها إلى الفنون البصرية. والملاحظ أن معظم اللوحات التي تصوّر كليوباترا تركّز على واقعة موتها، استنادا إلى ما تذكره بعض المصادر التاريخية والأعمال الأدبية.
    ولدت كليوباترا لعائلة من الفراعنة عام تسعة وستّين قبل الميلاد. كان تعطّشها للسلطة قويّا، لدرجة أن شقيقها بطليموس الثالث عشر اجبرها على مغادرة مصر كي يتمكّن وحده من حكم البلاد.
    كانت كليوباترا تستخدم حيلها النسائية. وقد اخفت نفسها في سجّادة تمّ تسليمها في ما بعد إلى يوليوس قيصر. وأصبح في النهاية متورّطا في علاقة عاطفية معها ووعدها بمساعدتها على استعادة عرش مصر.
    أنجبت كليوباترا لقيصر ابنا. لكنها في ما بعد أصبحت عشيقة للجنرال الروماني مارك أنطوني الذي أنجبت له ثلاثة أطفال. لكن علاقتها بـ انطوني نتج عنها في النهاية عواقب مصيرية.
    كانت كليوباترا قاسية على منافسيها بفضل ما كانت تمتلكه من جاذبية وسحر. ويبدو أن قصص حبّها كانت مبنية على أهداف استراتيجية.
    كليوباترا الحقيقية قد لا تشبه في الواقع النساء اللواتي ظهرن في لوحات عديدة تصوّرها. غير أن حياتها الأسطورية وموتها المأساوي كانا عنصري إلهام للرسّامين على مرّ قرون. جمال كليوباترا الغرائبي استبعد الشقراوات وذوات الشعر الأحمر ووفّر بدلا من ذلك الفرصة للعديد من الملهمات ذوات الشعر الأسود أن يُخلّدن في الرسم.
    الرسّامون الاستشراقيون والأكاديميون والنيوكلاسيكيون وجدوا في كليوباترا موضوعا مثاليا لأسلوبهم الغنّي والمفصّل. لوحة الفنّان الاستشراقي جان ليون جيروم بعنوان "كليوباترا وقيصر" تصوّر كليوباترا في اللحظة التي تغادر فيها السجّادة التي كانت قد اخفت نفسها بداخلها كي تتمكّن من الالتقاء بـ يوليوس قيصر. وكليوباترا هي النقطة المحورية في اللوحة، بينما يتراجع حضور قيصر إلى الخلفية. ويُرى وهو جالس عند طاولة بينما يحدّق في المرأة التي ستغيّر مسار حياته.

       

    كان يوليوس قيصر في ذلك الوقت في العقد الخامس من عمره، في حين كانت كليوباترا في العشرينات من عمرها. كانت بحاجة إلى قوّة قيصر. وكان هو يطمح في توسيع نفوذه الشخصي من خلال كليوباترا. غير أن الرومان لم يوافقوا أبدا على تحالفه معها. لذا اغتيل قيصر عام 44 قبل الميلاد، بينما عادت كليوباترا إلى الإسكندرية لتحكم مصر مع طفلها الصغير منه.
    في لوحة بعنوان "كليوباترا تجرّب السمّ على سجناء مُدانين"، رسم الفنّان الأكاديمي الفرنسي ألكسندر كابانيل (1823-1889) لـ كليوباترا صورة تقشعرّ لها الأبدان. وتظهر في اللوحة، بصحبة خادمتها ونمر مروّض، وهي جالسة تراقب مشهدا لرجال ينازعون الموت بعد تعريضهم لجرعات سمّ مميتة. في هذه اللوحة نرى كليوباترا الجميلة، لكن القاسية، وهي تلاحظ بلا مبالاة تأثير السمّ على السجناء الفقراء. وقد بذل الرسّام جهدا كبيرا في إبراز اللباس الغريب للمرأة والعمارة المصرية في الخلفية.
    كان المصريون بارعين في استخدام العقاقير والسموم. وكليوباترا هنا تضيف إلى معرفتها الخاصّة بكيفية القضاء على منافسيها مهارة التحضير لطريقة انتحار سريعة.
    الفنّان الرمزي الفرنسي غوستاف مورو (1826-1898) كان مفتونا على ما يبدو بالنساء الأشرار في التاريخ. ولوحاته تصوّر عددا من الإناث القاتلات مثل سالومي وباثشيبا وغيرهما. في إحدى لوحاته، رسم مورو كليوباترا وهي تجلس بطريقة مغرية أمام خلفية حالمة. نظراتها تبدو غير مكترثة. وهي هنا ليست مجرّد كائن مزخرف، بل امرأة تشعّ بهالة من الذكاء.
    مع صعود أوكتيفيان وسقوط مارك أنطوني، وصل حكم كليوباترا إلى نهايته. وبعد معركة كارثية بالقرب من الإسكندرية، تم إبلاغ انطوني كذبا أن كليوباترا ماتت، فقام بطعن نفسه حتى الموت.
    وبعد ذلك بفترة وجيزة، كانت كليوباترا قد خطّطت لموتها. القصّة الشهيرة هي أنها ماتت بلدغة أفعى عام 30 قبل الميلاد. والمؤكّد أنها كانت تعرف الكثير عن السموم. وربّما كانت تفضّل جرعة سريعة على الموت البطيء بلدغة أفعى.

    في لوحة بعنوان "موت كليوباترا"، رسم الفنّان الفرنسي أندريه جان ريكسانس (1846-1924) منظرا مذهلا لـ كليوباترا الميّتة مع خادمتها التي تعرّضت هي الأخرى للدغة قاتلة من الأفعى. ريكسانس رسم كليوباترا على هيئة امرأة عارية. وهي تبدو في اللوحة اقرب ما تكون إلى جارية أو محظية منها إلى ملكة.
    الفنّان الايطالي غويدو ريني رسم كليوباترا بهيئة خاطئة تائبة، وعلى نحو لا يختلف كثيرا عن لوحته عن مريم المجدلية.
    الفنّان النمساوي هانز ماكارت أيضا رسم موت كليوباترا مع أنماط فنّية وتفاصيل زخرفية.
    والفنّان لورانس ألما تاديما أُظهر كليوباترا كملكة جميلة وواثقة. لكنه أهمل العري الذي كان آنذاك موضة سائدة، وتنازل عن الزخرفة الشرقية لمصلحة الزيّ الهلنستي الصحيح تاريخيّا.
    الفنّان الأمريكي فريدريك آرثر بريدجمان رسم كليوباترا برفقة عدد من خادماتها وهي تتمشّى على مدرّجات جزيرة فيلة. بالنسبة لـ بريدجمان فإن العمارة تلعب دورا مهمّا. وقد أضاف إليها الضوء والمناظر الطبيعية. كان بريدجمان نفسه قد سافر إلى مصر وعكس انطباعاته عن تلك الزيارة في سلسلة من اللوحات. كليوباترا في لوحة بريدجمان لم تعد مهمّة كثيرا. هي ليست أكثر من ذريعة لرسم امرأة جميلة أمام خلفية مصرية.
    في لوحته "كليوباترا والأفعى"، رسم الفنّان الفرنسي ميشيل كورنيلي كليوباترا بنفس الطريقة التي رسمها بها زميله اوجين ديلاكروا. وهي تظهر في اللوحة بصحبة الفلاح الذي يقدّم لها سلّة من التين تختبئ بداخلها أفعى، وسط دهشة اثنتين من وصيفاتها.
    بعض المؤرّخين يشيرون إلى أن كليوباترا، رغم قوّتها، لم تكن تتمتّع بذلك الجمال الخارق. غير أن الأمر لا يتعلّق بالملامح. فالجمال العادي كان ولا يزال احد أعظم المغريات في جميع العصور. ويقال إن الوسامة تولد مع الإنسان، بينما الجمال يوفّر فرصا متساوية.
    موت كليوباترا أصبح مع مرور الأيّام أسطورة رومانسية بعد أن خلّده شكسبير في مسرحيّته. وقد فضّلت الموت بالسمّ على أن تؤخذ أسيرة إلى روما على يد اوكتيفيان. وبعد موتها أحكم الرومان سيطرتهم نهائيا على مصر.
    ومع ذلك، فإن التاريخ الحقيقي لـ كليوباترا دُفن معها إلى الأبد. والتاريخ الذي نعرفه عن تلك الحقبة هو ما سجّله المنتصرون.

    موضوع ذو صلة: ديلاكروا ومصرع كليوباترا