:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات جينتيليسكي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات جينتيليسكي. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، ديسمبر 28، 2011

جينتيليسكي: صورة البطلة الأنثى


خلافا للطليعيات من النساء اللاتي برزن في الرسم مثل سوفونيزبا ويسولا ولافينيا فونتانا اللتين تنتميان لعائلتين موسرتين، فإن ارتيميشيا جينتيليسكي التي توفّيت والدتها عندما كانت في سنّ الثانية عشرة، أتت من خلفية اجتماعية أدنى ونشأت في بيت عنيف.
في العام 1612، وكان عمرها لا يتجاوز الثامنة عشرة، ظهرت جينتيليسكي في محاكمة اغتصاب مثيرة. كانت تلك الحادثة كافية لأن تعيش الرسّامة حياة نبذ وعزلة وأصبح من المستحيل بالنسبة لها أن تنال رضا الطبقة الارستقراطية التي كانت ترعى الفنون وتكلّف الفنّانين برسم أعمال فنية لأفرادها.
ولدت ارتيميشيا جينتيليسكي (أو جينتيلاشي كما يُنطق اسمها بالايطالية) في روما عام 1593م. وكان والدها الفنّان اوراتسيو جينتيليسكي ابنا لصائغ من توسكاني. وقد تعلّمت ارتيميشيا الرسم من والدها وأتقنت أسلوبه بسرعة، لدرجة انه كان من المستحيل أحيانا تمييز أعمالها عن أعمال والدها، خاصّة في سنوات مراهقتها.
في مايو من عام 1611 وجد اغوستينو تاسي، وهو رسّام كان والدها يتعاون معه في انجاز لوحات جدارية في القصر البابوي، وجد ارتيميشيا وحدها ترسم في منزل العائلة فقام باغتصابها، وفي ما بعد وعد بأن يتزوّجها.
كان لدى اوراتسيو عدد من الأصدقاء التافهين. والغريب انه اتخذ من تاسي صديقا له حتى مع علمه بالسجلّ المشين لهذا الأخير وبارتكابه جرائم عنف في العديد من المدن الإيطالية. وكان من بين التهم التي سبق أن وجّهت له زنا المحارم ومحاولته قتل زوجته العاهرة. وعندما اتضح أن زوجة تاسي كانت ما تزال حيّة وأنه لم يكن في موقف يسمح له بالزواج من ارتيميشيا لتصحيح خطئه، بادر والدها بتوجيه تهمة الاغتصاب له في المحكمة.
كان والد ارتيميشيا يحاول استعادة شرف ابنته. إلا أن إحالة القضية إلى المحكمة عرّض المرأة للعديد من الاتهامات الباطلة بالفجور. ولأنها فقدت عذريتها وهي ما تزال غير متزوّجة، فقد اعتبرتها المحكمة امرأة عديمة الشرف وبالتالي لا يمكن الاعتداد بشهادتها. لكنها تمسّكت بروايتها عن الحادثة. وفي النهاية أدين اغوستينو تاسي وحُكم عليه بالنفي. لكن الحكم لم يُنفّذ أبدا.
اوراتسيو الذي كان قد حاول أكثر من مرّة إجبار ارتيميشيا على أن تصبح راهبة، زوّجها على عجل من رجل عجوز يدعى بييترو ستياتيسي. وسرعان ما غادرت بمعيّته إلى فلورنسا.

في الفترة التي سبقت ذلك، كان والدها قد تعرّض لتأثير النجم الصاعد كارافاجيو. وهذا كان له تأثير ملحوظ على لوحات ارتيميشيا. لكن من غير المرجّح أن تكون قد رأت لوحة كارافاجيو جوديث تقطع رأس هولوفيرنس قبل أن ترسم ترجمتها الخاصّة للقصّة حوالي العام 1612م.
وعلى أيّ حال، فإن لوحة ارتيميشيا تختلف بشكل ملحوظ عن لوحة كارافاجيو في تصوير الصراع الدرامي الذي تلعب فيه خادمة جوديث دورا نشطا. في اللوحة تظهر الخادمة وهي تمسك الجنرال بشكل محموم بينما تحزّ البطلة عنقه بسيفها فيما يتدفّق دمه أسفل السرير.
وقد قيل إن العنف الشديد في هذا المشهد يعكس ردّ فعل ارتيميشيا على حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها.
ومن أشهر أعمالها الأخرى لوحتها المبهرة سوزانا والكَهْلان التي رسمتها عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها. ومن الواضح أنها استخدمت نفسها كموديل في اللوحة العارية. وقد فعلت ذلك مرارا في لوحاتها. قصّة هذه اللوحة تتحدّث عن الاغتصاب أيضا. وملامح المرأة فيها هي نفسها ملامح ارتيميشيا. وربّما أرادت من خلالها التأكيد على براءتها، تماما مثلما ظهرت براءة سوزانا في القصّة.
الانتقال إلى فلورنسا شكّل بداية حياة جديدة لـ ارتيميشيا كفنّانة. موهبتها المثيرة للإعجاب تغلّبت على مكانتها الاجتماعية المتواضعة ومنحتها فرصة الاتصال بالشخصيات الفكرية التي كانت تجتمع في منزل بوناروتي. هناك تعرّفت ارتيميشيا إلى العالم الشهير غاليليو. لكنها أيضا تعرّفت إلى فرانشيسكو ماريا دي نيكولو مارينجي الذي أصبح عشيقها وداعمها المالي.
وفي عام 1614، وبفضل مساندة رعاتها الأقوياء وزملائها الفنّانين، أصبحت ارتيميشيا أوّل امرأة يتمّ قبولها في أكاديمية فلورنسا للفنون.
كانت ارتيميشيا تميل إلى رسم النساء العاريات بطريقة لا تخلو من إثارة. وكانت شخصيّاتها في الرسم تحمل شبها قريبا منها، كما هو الحال مع لوحتها داناي.
علامة ارتيميشيا الفارقة كانت المرأة البطلة: سوزانا، جوديث، لوكريتسيا، كليوباترا، مريم المجدلية. وهنّ يظهرن في لوحاتها عاريات غالبا.
كانت ارتيميشيا جينتيليسكي تواكب الموضة وتتبع أسلوب حياة باذخا، ما تسبّب في تراكم ديونها والتزاماتها المالية. وقد اضطرّت إلى الذهاب إلى روما عام 1520 حيث وجدت رعاة جددا واستغلّت الفرص الجديدة لتطوّر سمعتها كرسّامة بورتريه. وقد كُلّفت برسم لوحة كبيرة لتزيّن جدران كاتدرائية بوتزولي في نابولي. وكانت قائمة رعاتها في ذلك الوقت تتضمّن اسم الملك الاسباني فيليب الرابع.
وفي أواخر عام 1630 سافرت الرسّامة إلى لندن حيث كان والدها يعمل آنذاك رسّاما في بلاط الملكة هنرييتا منذ العام 1626م. وقيل إنها ذهبت إلى هناك لمساعدة والدها الذي كان قد أصبح عجوزا ولرسم بعض اللوحات في سقف قصر الملكة في غرينيتش.
كانت جينتيليسكي أوّل رسّامة امرأة تدير محترفا كبيرا مع مساعدين كثر. وقد قضت بقيّة حياتها في نابولي، المدينة التي لم تكن تحبّها كثيرا، طبقا لما توحي به رسائلها. وقد توفّيت هناك في عام 1654م.
ومؤخّرا، ظهر فيلم سينمائي عن حياة وفنّ ارتيميشيا جينتيليسكي. غير أن الفيلم تعرّض لانتقادات كثيرة بسبب افتقاره للدقّة التاريخية. وقد قدّم الفيلم المغتصب تاسي بصورة العاشق المتمنّع والإنسان النبيل الذي وقف إلى جانب الرسّامة وأشعل موهبتها الإبداعية في الرسم. .

Credits
britannica.com

الأربعاء، فبراير 10، 2010

جدلية العلاقة بين الرسم والموسيقى

الهارموني "أو التناغم" والريثم "أو الإيقاع" هما مصطلحان موسيقيّان في الأساس. لكننا نستخدمهما عادةً عند الحديث عن خصائص لوحة ما أو عمل تشكيلي معيّن. هذا الاستهلال قد يكون أفضل دليل يوضّح ما بين الرسم والموسيقى من أواصر وعلاقات قربى.
الناقد جيم لين يفصّل ذلك بقوله: العلاقة بين الرسم والموسيقى وثيقة بل وقديمة جدّا. إذ يمكن القول، مثلا، أن أيّ عمل نحتي ما هو في الواقع سوى لوحة ثلاثية الأبعاد. وهناك أمثلة كثيرة عن نحّاتين رسموا تماثيلهم ورسّامين نحتوا لوحاتهم.
الأدب، والشعر خاصّة، غالبا ما يقارن بالرسم من حيث أن اللوحة لها خصائص غنائية. واللوحات التي تصوّر الحياة اليومية غالبا ما يكون لها طبيعة سردية. وأحيانا يلجأ الكثير من كتّاب القصص إلى الاستعانة برسومات توضيحية من اجل تعزيز العنصر السردي في أعمالهم. الرقص والدراما، وحتى المعمار، لها نظيراتها في الرسم. وكثيرا ما يرتبط الرسم بذلك النوع من الملاحم والقصص التي تتحدّث عن الأبطال الشعبيّين.
لكن لا توجد علاقة أقوى من تلك التي تربط الرسم بالموسيقى. وهي علاقة تعود إلى عصور قديمة. زخرفة الخزف اليوناني، مثلا، كانت تستعين بصور الآلات الموسيقية.
والرسم والموسيقى يشتركان في نفس اللغة تقريبا. الألوان لها ظلال ونغمات، وكلا الفنّين يشار إليهما كتراكيب وتوليفات.
الرسّامون منذ القدم تنافسوا في رسم لوحات تتضمّن عناصر موسيقية. ومن هؤلاء كارافاجيو و اوراتزيو جينتيليسكي وكونراد كيسل و بيكاسو وجورج فريدريك واتس وجول لوفافْر.
لكنّ هناك من الرسّامين من خطوا خطوة ابعد مثل كاندينسكي الذي كان يرسم وهو يستمع إلى الموسيقى كي ينقل الإحساس الذي تثيره الأنغام في النفس.
جيمس ويسلر، الرسّام الأمريكي، اخذ خطوة مماثلة عندما أطلق على لوحاته مسمّيات موسيقية مثل "سيمفونية" و"نوكتيرن". وفي الجهة المقابلة، ألّف الموسيقي الأمريكي جورج غيرشوين مقطوعته الشهيرة "رابسودي إن بلو" التي حاول فيها المزج بين اللون والنغم.
وهناك رسّامون ترجموا أجواء بعض المقطوعات الموسيقية إلى لوحات، مثل غوستاف كليمت الذي رسم السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن ورافائيل لوبينسكي الذي رسم مقطوعة أخرى لـ بيتهوفن هي فيديليو.
اللوحات الدينية كانت غالبا تصوّر الملائكة وهم يعزفون الموسيقى. ومع تطوّر رسم الحياة اليومية، أضاف رسّامون مثل بيتر بريغل عناصر موسيقية إلى لوحاتهم التي تصوّر مظاهر من الحياة البسيطة للناس. فالمزارعون يظهرون وهم يعزفون الناي والفلوت احتفالا بمناسباتهم الخاصّة. في حين يُصوَّر أفراد الطبقات الأكثر ثراءً وهم يعزفون اللوت "أو العود".
وفي العام 1670 رسم فيرمير إحدى لوحاته التي تُظهِر امرأة تعزف على آلة موسيقية شبيهة بالهاربسيكورد وإلى يسارها آلة فيولا، ما يوحي بأن المرأة تتوقّع مجيء شخص آخر كي يشاركها في العزف.
الفنّان الفرنسي انطوان واتو رسم لوحة بعنوان مباهج الحفلة صوّر فيها مجموعة من الفرنسيين الباحثين عن المتعة وهم يرقصون على أنغام اوركسترا متوارية تحت ظلال ممرّ إحدى الحدائق. المزاج في اللوحة خفيف وعفوي وحيوي تبدو من خلاله أصوات الطبيعة في حالة تناغم مع أصوات الموسيقيين.
بعد حوالي قرن من ذلك أتى الانطباعيون الذين صوّروا في أعمالهم حياة الليل والموسيقى لمجتمع مقاهي باريس.
إدغار ديغا، مثلا، رسم أغنية الكلب عام 1876 ، بينما جلب رسّامون آخرون مثل تولوز لوتريك ورينوار وسورا الأصوات الصاخبة في قاعات الموسيقى إلى لوحاتهم.
في أعماله، يحاول ديغا الإمساك بالضجيج والدخان والإحساس المشوّش الذي تستثيره صالات الموسيقى عادة.
في ما بعد، أتى الفنّ التعبيري الذي استطاع تحقيق اندماج غير مسبوق بين الرسم والموسيقى. لوحة مارك شاغال بعنوان الزواج التي رسمها عام 1961 هي مثال واضح على هذا. فالعريس والعروس يندمجان في مشهد الزفاف اليهودي ليصبحا كيانا واحدا. والتشيللو يتوحّد مع عازفه كما لو أن الآلة تلاعب نفسها.
وخلافا لمشهد الموسيقيين المختبئين في لوحة واتو، فإن عازفي الموسيقى في لوحة شاغال يحتلّون على الأقلّ نصف اللوحة. والرسّام يوظّف الألوان الحمراء والبرتقالية في زخارف وتفاصيل الحفل كي يجذب الانتباه إلى الأصوات المسيطرة لدرجة انه يُخيّل للناظر انه يسمع نغمات الموسيقى وهي تتقافز من اللوحة.

الاثنين، سبتمبر 21، 2009

صورة الفنان عن نفسه

ليوناردو دافنشي، غوغان، فيلاسكيز، دافيد، بيكاسو، سيزان، كارافاجيو، ديغا، ايغون شيلا، مونك، بيكون، لوسيان فرويد، فيجي لابران، روبنز، انجيليكا كوفمان، بيتر بريغل، جوشوا رينولدز، غويا، رافائيل، جيمس ويسلر، اوجين ديلاكروا، ماتيس، جون سارجنت، دانتي غابرييل روزيتي، سلفادور دالي، وارهول، رينوار، ديورر .. إلى آخره. كلّ هؤلاء وغيرهم رسموا صورا لأنفسهم. ومن دون تلك الصور ما كان بالإمكان اليوم تصوّر ملامحهم أو سماتهم الشخصية.
إن البورتريه الذي يرسمه الفنان لنفسه، سواءً كان واقعيا أو تجريديا أو غامضا، يمكن أن يوفر أفكارا ومعلومات مثيرة عن صاحبه.
وقبل ظهور التصوير الضوئي كان البورتريه الشخصي ضروريا لأنه يظهر للناس كيف كان يبدو هذا الرسّام أو ذاك. كان رسم البورتريهات الشخصية يشير أيضا إلى رغبة الفنان في إثبات الدليل على براعته وأصالة موهبته.
والبورتريهات الشخصية كانت وما تزال جزءا من التعليم الرسمي للفنّ، رغم أن هذا المفهوم أصبح اليوم أكثر اهتماما بإبراز تعبيرات الرسّام أكثر من ملامحه الشخصية.
رمبراندت وفان غوخ رسما لنفسيهما العديد من البورتريهات الشخصية. في الحقيقة، كان رمبراندت من خلال بورتريهاته الشخصية يسجّل مراحل نضجه الفنّي مرحلة بعد أخرى.
في حين أن فان غوخ كان في بورتريهاته يطرح التساؤلات عن هويّته ويحاول استكشاف المزيد من الأساليب الفنية الجديدة.
فنّانة عصر النهضة ارتيميزيا جينتيليسكي رسمت نفسها وبيدها الفرشاة وأمامها رقعة الرسم.
الفنانة المكسيكية فريدا كالو رسمت هي الأخرى العديد من البورتريهات الشخصية التي حاولت فيها النفاذ إلى مشاعرها الداخلية وطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالثقافة والحبّ والجنس.
وفي بعض الحالات فإن الفنان عندما لا يضمّن البورتريه ملامحه بوضوح، فإنه يكشف فيه عن بعض سمات شخصّيته بطريقته الخاصّة.


لوحة مارسيل دُوشان بعنوان "شابّ حزين في قطار" قيل انه صوّر فيها نفسه. وهي من اللوحات التي تستعصي على التفسير، شأنها شأن العديد من لوحات دوشان الأخرى.
بينما يظهر تشارلز شيلر في لوحته "الفنان" وهو ينظر إلى الطبيعة بينما يعطي ظهره للناظر وأمامه متاهة من العناصر التي جلبها من بعض لوحاته السابقة. وفي الحقيقة لا احد يعلم كيف كان شيلر يبدو، لكن ثمّة احتمال انه أراد أن يقول إنه يفضّل أن يتعرّف الناس على هويّته من خلال فنّه.
الرسّام الألماني البيرت ديورر رسم لنفسه بورتريها أصبح مشهورا جدا في ما بعد. ومن الواضح انه اعطى وجهه في البورتريه بعض ملامح وجه المسيح.
مايكل انجيلو رسم نفسه ايضا في سقف كنيسة سيستين عندما اعار ملامحه الشخصية لوجه القديس بارثولوميو.
الرسّام الانطباعي الأمريكي ويلارد ميتكالف رسم لنفسه بورتريها نصف مظلّل. وهناك من يظنّ أن ميتكالف لم يرد إظهار وجهه بالكامل، تعبيرا عن شكوكه بشأن مستقبله الفنّي والمالي. لكن آخرين يرون أن ميتكالف ربّما كان يشير ضمنا إلى جانب مظلم من شخصيّته يختفي خلف مظهره الهادئ.
الرسام الايطالي رافائيل اختار هو أيضا أن يرسم نفسه ضمن شخصّيات لوحته المشهورة "مدرسة أثينا".
مارك روثكو رسم هو أيضا لنفسه بورتريها تبدو فيه نظراته محجوبة بما يشبه العدسات الزرقاء والسوداء، ما يثير إحساسا بالهشاشة أو الانفصال.
وعلى النقيض من ذلك، رسم ادوارد هوبر لنفسه صورة واقعية إلى حدّ كبير. غير أن من المثير للانتباه أن وجه هوبر هنا يبدو أكثر تفصيلا وشخصيّته أكثر وضوحا من الشخصيات التي كان يرسمها.
اليس نيل رسمت لنفسها صورة عارية وهي في سنّ الثمانين. الصورة تُظهر آثار الزمن على وجهها وجسدها.
ستانلي سبنسر رسم هو أيضا بورتريها لنفسه في بدايات اشتغاله بالرسم يبدو فيه بهيئة شابّة وبشرة صافية.
لكن قبيل وفاته في العام 1959 رسم سبنسر لنفسه بورتريها ثانيا يظهر فيه بملامح شبحية كما لو انه تصالح مع فكرة موته الوشيك.



الرسّام الفرنسي غوستاف كوربيه كان احد أشهر من رسموا البورتريه الشخصي. وقد رسم لنفسه عدّة لوحات في أوضاع وحالات شتّى.
كوربيه، الذي اتسمت حياته بالمجون والاحتجاج والسجن، كان يعرف أن شخصيّته هي رصيده الأكبر وأن الابتكار هو المفتاح الذي من خلاله يستطيع أن يفاجئ جمهوره دائما وأن يثير اهتمامهم.
البورتريه الذي رسمه لنفسه عام 1844 بعنوان "الرجل اليائس" يُظهر كوربيه بأجلى درجات حيويّته ووسامته. يداه تحاولان ترتيب شعره الأشعث وعيناه تحدّقان مثل حيوان جريح وتومضان بالذهول أو الخوف.
لكنه في المراحل الأخيرة من حياته صوّر نفسه تصويرا رمزيا وغريبا، أي على هيئة سمكة ميّتة. في اللوحة تبدو السمكة وقد علقت في سنّارة الصياد. وقد أراد كوربيه من خلال هذا المنظر التعبير بطريقة مؤلمة عن إحساسه بالهزيمة بعد أن تضافرت ضدّه قوى لم يكن بمستطاعه التصدّي لها أو الوقوف في وجهها. كان في ذلك الوقت يستشعر دنوّ الموت وكان أخوف ما يخافه أن يذهب في غياهب التجاهل والنسيان بعد موته.
كان كوربيه يحاول على ما يبدو من خلال بورتريهاته الشخصية أن يحافظ على ذاته. فالإنسان قد يمرّ في حياته بالكثير من التقلبّات ولحظات الفرح والحزن ومع ذلك لا يستطيع أن يأخذ نفسه بعيدا عن محيطه.
ومثل صفحة الرسم البيضاء يمكن أن يكون الفنان الشخص الذي يريد.


Credits
theartstory.org

الأربعاء، نوفمبر 26، 2008

قراءة هادئة في مشهد عنيف


اصطدمت عيناي بهاتين اللوحتين أكثر من مرّة وفي أوقات مختلفة بينما كنت أبحث عن لوحات تصلح لأن تضاف إلى سلسلة اللوحات العالمية. وفي كلّ مرّة، كان ردّ الفعل مزيجا من الصدمة والاستغراب. الصدمة؛ لأن المنظر صادم ومستفزّ من حيث طبيعته وتفاصيله. فأنا لا أظنّ أن هناك منظرا يمكن أن يفوق في توحّشه وساديّته منظر قتل إنسان بقطع رأسه كائنا ما كانت الجريمة التي ارتكبها. أما الاستغراب فمردّه أن من يقوم بفعل الذبح في الصورة امرأة. ومن هنا قد يستكثر الإنسان على المرأة، بما يُفترض أنها جُبلت عليه من رقّة وعاطفة، أن ترتكب عملا يتسم بالعنف والوحشية، بصرف النظر عن مدى عدالة أو منطقية الأسباب وما يُساق لها أحيانا من مبرّرات ودوافع وطنية أو دينية.. إلى آخره.
وليس هناك حاجة للقول إن المنظر الذي تصوّره اللوحتان مزعج وغير مريح بالمرّة. فالعنف فيهما واضح والقسوة صارخة بما لا يحتمل. ويقال إن لوحة كارافاجيو هي اللوحة الأعنف في تاريخ الفن التشكيلي العالميّ.
كارافاجيو ايطالي وكذلك الرسّامة ارتيميشيا جينتيليسكي. ولوحتاهما هنا تعالجان موضوعا واحدا بطلته امرأة يهودية اسمها جوديث. وهي نموذج للمرأة التي تقتل العدوّ كي يحيا شعبها. وسلاحها في ذلك جمالها وجاذبيّتها الطاغية.
والقصّة تعود إلى حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وقد ورد ذكرها في الإنجيل. وفي تفاصيلها أن الملك البابلي نبوخذ نصّر أرسل قائد جيشه هولوفيرنس على رأس كتيبة ضخمة لتأديب الشعوب المجاورة التي لم تساند حكمه. وقد فرض هولوفيرنس خلال تلك الحملة حصارا على أهالي مدينة تسمّى بيتوليا. ومن تلك المدينة خرجت جوديث التي ستقتل القائد البابلي وتنهي الحصار المفروض على قومها. وقد مثلت القصّة كثيرا في الفن، ورسمها ميكيل انجيلو في سقف كنيسة سيستين في ثلاثة مشاهد متسلسلة.
وجوديث نموذج آخر لنساء يهوديات كثيرات فعلن شيئا مثل هذا.
دليلة، مثلا، سلّمت شمشون الجبّار إلى أعدائه بعد أن سيطرت عليه بسحرها وغوايتها.
وسالومي، وهي بغيّ يهودية أخرى، اشترطت على الملك الروماني هيرودس أن يأتيها برأس يوحنّا المعمدان (أو يحيى بن زكريّا في الأدبيات الإسلامية) مقابل أن تهبه نفسها. وكان لها ما أرادت.
وقائمة النساء من هذا النوع طويلة. ومن الواضح أن ثمّة ثلاثة عناصر ثابتة في مثل هذه القصص: الجنس والتخفي والخمر.
لكن، لا يُعرف على وجه اليقين ما إذا كانت هذه القصص - باستثناء الأخيرة - حقيقية أو أنها مجرّد أساطير أو حكايات فولكلورية جرى تأليفها لإضفاء طابع البطولة والتضحية على شخصية المرأة اليهودية.
ومنذ فترة، اطلعت على دراسة جميلة كتبتها اندريا مارتن، أجرت فيها مقارنة بين رؤية كل من كارافاجيو وأرتيميشيا جينتيليسكي لقصّة جوديث من منظور الجندر، أو الفوارق الجنسانية بين الرجل والمرأة.
تبدأ الكاتبة كلامها بالحديث عن الأرملة اليهودية جوديث التي حاولت وقف هجوم العدوّ على شعبها، فدخلت مخيّم الجيش المهاجم مع وصيفتها لمواجهة قائده المسمّى هولوفيرنس.
وقد تمكّنت المرأة من دخول المخيّم بعد أن فتنت الحراس بجمالها. وهي ستفعل الشيء نفسه في ما بعد مع هولوفيرنس. واستطاعت في ما بعد إقناع القائد البابلي بأنها راغبة فعلا في مساعدة جيشه فقبل مشورتها له بتأجيل خطة الهجوم.
وفي إحدى الليالي وبعد أن تناول الجميع العشاء، سكر القائد حتى أغمي عليه وأصبح في حالة من الضعف مكّنت جوديث "بدعم من العناية الإلهية" من قطع رأسه.
وعادت هي ووصيفتها منتصرة إلى أرض قومها ومعها رأس القائد المقطوع. وبذا ضمنت سلامة شعبها، كما يقول الإنجيل.


الترجمات الفنية للقصّة مختلفة ومتباينة. بعضها يصوّر جوديث وهي تصلي من اجل العون الإلهي قبل وقت قصير من بدء مهمّتها. بينما تظهر في لوحات أخرى حاملة رأس هولوفيرنس وهي في طريق عودتها إلى قومها.
ولوحة ارتيميشيا جينتيليسكي عن القصّة هي عبارة عن تصوير عنيف ومبتكر للحظة التي تحزّ فيها المرأة رقبة الرجل. والمنظر يثير شعورا بقوّة الأنثى وسيطرتها.
ثم تجري الكاتبة مقارنة بين لوحتي كارافاجيو و جينتيليسكي عن الحادثة، في محاولة للوقوف على الاختلافات والفوارق بين أسلوبي الرسّامين في معالجتهما للموضوع، فتقول: إن الفحص المتأنّي للغة الجسد في هاتين اللوحتين سيكشف بوضوح عن اختلاف الفنانين في رؤيتهما للقصّة من منظور الجندر.
فـ كارافاجيو، من منظوره الذكوري، يرسم جوديث معتمدة على تدخّل الربّ باعتباره الوسيلة التي تمنحها القوّة.
بينما جينتيليسكي، من منظورها الأنثوي، تؤكّد على أن قوّة جوديث متأصّلة فيها ومتأتية من ذاتها. فهي تبدو قويّة، مصمّمة ومعتدّة بنفسها بينما تباشر قطع رأس قائد الجيش الغازي.
إنها تمسك بيدها اليسرى خصلة من شعره لمنعه من الحركة فيما ذراعها الأيمن يجري الخنجر بقوّة على رقبته. كما أنها تُميل جسدها إلى الخلف في محاولة لإبعاد الدم عن ملابسها، تماما مثلما يفعل من يذبح حيوانا.
إن المرأة تؤدّي مهمّتها بإحكام. وهي ترمق هولوفيرنس بنظرات باردة توحي بأنها منفصلة عن ضحيّتها، لكنها أيضا تعكس إصرارها وعزيمتها.
وتعبيرات وجهها، خاصّة ما حول الحاجبين، تنمّ عن تركيز وتصميم شديدين. وهي تبدو مستعدّة بل وراغبة في قتل الخصم بلا اكتراث أو ندم.
ورغم أن القصّة الإنجيلية توحي بأن تدخل الربّ كان ضروريا وحاسما في مساعدة المرأة على تنفيذ عملية القتل، فإن أسلوب جينتيليسكي في التعامل مع شكل وهيئة جوديث يكشف عن أن الرسّامة تعتقد انه حتى وإن كان الفعل قد نفّذ بمشيئة الله فإنها تعتبر جوديث قادرة تماما على أداء واجبها بفضل حيَلها الخاصّة وقوّتها الجسدية وبراعتها.
إن جوديث في لوحة جينتيليسكي تميل بجسدها إلى الوراء، لكن جوديث كارافاجيو تفعل ذلك كما يبدو نتيجة إحساسها بالصدمة النفسية من تصرّفها. إنها لا تسيطر على نفسها، بل ترتكب جريمة قتل لأن إرادة الله أوجبت ذلك.
وبينما تبدو جوديث جينتيليسكي وهي تنفذ المهمّة بوحي من شعورها الوطني وقوّتها الخاصّة والكامنة، فإن كارافاجيو يصوّرها وكأنها تطلب مساعدة الإله في ارتكاب ذلك العمل.
ومن الواضح أن جينتيليسكي تريد أن تقول إن النساء يمكنهن التحكّم في أيّ وضع يواجهنه. وفي المقابل، يُظهر كارافاجيو الأنثى في وضع من يطلب تدخّلا إلهيا لكي يتغلّب على مثل ذلك الظرف الهائل والعصيب.


والواقع أن تعامل الرسّامَين مع خادمة جوديث يكشف، هو أيضا، عن فارق جنساني آخر.
ورغم انه من غير الواضح في الإنجيل كم كان عمر الخادمة، فإنها تبدو في لوحة جينتيليسكي شابّة وقويّة، بل وأيضا مشاركة بفاعلية في جريمة قتل هولوفيرنس .
إن جينتيليسكي تشرك الخادمة في عملية القتل، وفي هذا مخالفة للرواية الدينية التي تذكر أن جوديث قهرت خصمها بفضل العناية الإلهية وحدها.
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن موت القائد كان على يد المرأتين الشابتين. وهو تفسير قد لا يخطر ببال رجل بسهولة.
ذلك أن فكرة أن تقوم نساء بقتل رجل، بصرف النظر عمّا إذا كان عدوّا، يمكن أن تعتبر تهديدا وتحدّيا للسلطة الأبوية التي كان يتمتع بها الرجال زمن جينتيليسكي.
لكن الفنانة كانت ترى أن النساء قادرات على أن يتجاوزن دورهن الاجتماعي الهامشي والضيّق. وأكثر من هذا، فإن تفسيرها للقصّة يخوّل النساء أن يتصرّفن خارج إطار سيطرة الله.
وبالنتيجة، فإن تصويرها للخادمة وهي تشارك في قتل هولوفيرنس يبدو نابعا من منظور أنثوي واضح.
ولا بدّ وأن نلاحظ أن تمثيل كل من جينتيليسكي وكارافاجيو المتناقض للغة جسد هولوفيرنس في لحظات موته هي نتيجة لاختلاف منظوريهما. مثلا وكما ورد آنفا، فإن الخادمة في لوحة جينتيليسكي تمسك بالضحية وتثبّته أرضا بينما تطبق جوديث على رأسه في محاولة للسيطرة عليه وشلّ حركته.
وعلى النقيض من ذلك، فإن كارافاجيو - وكما هو متوقّع - يصوّر هولوفيرنس وكأنه يعرف أن الله قد هزمه. والدليل على هذا واضح على وجه الرجل. فهو ينظر إلى أعلى مدركا انه لن يكون بمقدوره أن يتجنّب غضب الربّ. ورغم أن جوديث تشدّ شعره بينما تقوم بفصل رأسه، فإنه لا جوديث ولا خادمتها مهتمّة بتثبيت جسده أرضا.
وهذه نقطة مهمّة تفترض أن هولوفيرنس كان قادرا على التصدّي للمرأتين ومقاومتهما لأنه غير مسيطَر عليه تماما.
وكارافاجيو يريد أن يقول ضمنا إن صراع هولوفيرنس كان مع الله فقط.
وفي حين أن لوحة جينتيليسكي تشير بوضوح إلى قوّة وسيطرة المرأتين على عدوّهما ومسئوليّتهما عن موته، يشدّد كارافاجيو من خلال أسلوبه في تصوير المرأتين على حاجتهما لمساعدة إلهية لكي ينفذا مؤامرتهما بنجاح.
وتضيف الكاتبة: إن جنس كلّ من الفنانَين يؤثّر في طبيعة نظرته إلى جوديث في مثل هذه الظروف. وكلّ منهما لديه استجابة جنسانية مختلفة تجاه موضوع وفكرة اللوحة.
فـ كارافاجيو في لوحته يؤكّد منظورا ذكوريا واضحا بتصويره جوديث حذرة ومتردّدة إلى حدّ ما. وهي تستخدم قوّتها "التي منحها إياها الربّ مؤقتا" كي تقتل عدوّها.
وفي لوحة كارافاجيو أيضا نرى هولوفيرنس وهو ينظر إلى السماء مدركا أن قدرة الله اكبر من قدرته. وكارافاجيو لا يرى أن موت هولوفيرنس تحقق فقط على يد امرأة شابّة متسلّحة بخنجر، لأنها في النهاية مجرّد امرأة ضعيفة ومحدودة القوى.
في حين أن لوحة جينتيليسكي تظهر جوديث بمظهر المرأة القويّة والشديدة البأس والحازمة. وهي ووصيفتها؛ المتساوية معها في حدود المسئولية، مسئولتان معا عن قتل غريمهما.
وهكذا يبدو جليا أن الاختلافات بين اللوحتين تعكس الفوارق الفردية بين جنسي الرسّامين.
فـ كارافاجيو يصوّر المشهد من منظور رجل، وجينتيليسكي تصوّره من منظور امرأة.

Credits
renaissancereframed.com