:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يونيو 14، 2024

أغنية العروس الحزينة


يعكس شعر لي باي إحساسا دائما بالصين القديمة وجمال مناظرها الطبيعية. قصيدته "أغنية العروس الحزينة"، أو تشانغان كما تُسمّى أحيانا، تتناول قصّة حبّ جميلة تعكس أفكار باي المبسّطة وفنّه في تصوير المشاهد من خلال الكلمات الشعرية.
تتمحور هذه القصيدة حول قصّة حبّ بريئة بين فتاة وصبيّ. وعلاقة الاثنين تبدأ من أيّام الطفولة. ويشرح الشاعر مشاعر الفتاة بالتفصيل من وجهة نظرها. كما يصوّر ردّ فعلها عندما تبلغ الخامسة عشرة من عمرها.
وفي السادسة عشرة تستعدّ لأيّام الوحدة التي تنتظرها. إذ عندما يسافر زوجها لسبب غير واضح، تصبح وحيدة لدرجة أن كلّ شيء يبدو لها بلا معنى. وتنتهي القصيدة بنغمة رثائية تصوّر شوق امرأة وحيدة إلى زوجها الذي لم يعد من رحلته، وربّما لن يعود.
تستعرض القصيدة مجموعة متنوّعة من المواضيع، كالبراءة والحبّ وبلوغ سنّ الرشد والعلاقة والاعتماد والشوق والأمل. كما يصوّر لي باي بشكل جميل المناظر الطبيعية ويوظّفها لوصف الحالة الذهنية للشخصية. ومثل قصائده الأخرى، يجد القرّاء هنا أيضا عناصر رومانسية. كما أن رسم الشاعر للطبيعة الصينية يُضفي نكهة آسيوية على هذه القصيدة.
المعروف أن لي باي أخذ الرومانسية في الشعر الصيني إلى آفاق جديدة. وقد عاش الشاعر في عصر أسرة تانغ، التي يُطلق عليها "العصر الذهبي للشعر الصيني". ووُصفت تلك الفترة بأنها عصر "العجائب الثلاث"، وإحداها شعر لي باي نفسه.
تتكوّن "قصيدة العروس الحزينة" من أربعة مقاطع. وكلّ مقطع يوصل حركة معيّنة. الأوّل يتناول أيّام طفولة العاشقين. ولي باي يتحدّث عن موقف الفتاة الخجول ومرحها ومثابرتها وعاطفتها وكأنه يحاول أن يجذب القارئ للوصول إلى ذهنها.
ثم يصف كيف بدأت علاقتها بزوجها. كان شعرها بالكاد يغطّي جبينها عندما كانا يلعبان معا، بينما كان هو يركب حصانا مصنوعا من الخيزران ويدور حولها كما لو أنها أميرة من تشانغان "وهي مدينة صينية تُسمّى اليوم شِيان":
عشنا بالقرب من بعضنا البعض
في ممرّ في تشانغان
كنّا شابّين سعيدي القلب
كان شعري بالكاد يغطّي جبيني
كنت أقطف الزهور
وألعب عند باب منزلي
عندما اتيتَ على حصان من خيزران
تهرول في دوائر
وترمي لي البرقوق الأخضر
ثم تتطوّر القصّة شيئا فشيئا. فقد تزوّجت الفتاة في الرابعة عشرة. وكانت خجولة جدّا لدرجة أنها لم تكن تجرؤ على الابتسام لزوجها. وكلّما دعاها لا تلبّي دعوته، بل تخفض رأسها خجلا وتنظر الى زاوية مظلمة من الغرفة:
في الرابعة عشرة من عمري
أصبحتُ زوجتك
خجولة جدّا كنت
لدرجة أنني لم أجرؤ على الابتسام
وخفضت رأسي نحو زاوية مظلمة
ولم ألتفت إلى دعواتك الألف
وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمرها، قوّمت حاجبيها وأصبحت شجاعة بما يكفي لتبتسم لزوجها. إدراكها لحبّهما الصافي جعلها واثقة من حقيقة أنه لا يوجد شيء يمكنه التأثير على حبّهما على الإطلاق:
لكن في الخامسة عشرة
عدّلت حاجبيّ وضحكت
ثم عرفت السعادة
وتمنّيت أن نظلّ معا
كالماء والخمر
وأن نفي بوعدنا


ثم تتحدّث الفتاة عن نقطة التحوّل في حياتها. فعندما بلغت السادسة عشرة غادر زوجها في رحلة طويلة. ومثل أيّ امرأة أخرى من وسط آسيا في ذلك الزمن القديم، أصبحت وحيدة. كان زوجها قد سلك الطريق عبر مضيق جبلي يتكوّن من مسارات صخرية ومياه مضطربة.
ومرّت خمسة أشهر على رحيله، وأصبح الوضع لا يطاق. واستمعت إلى نداءات القرود من الأشجار البعيدة. ولاحظت أن المسار القريب من بيتها أصبح يختفي تحت طبقة من الطحالب السميكة، ثم أتى الخريف بعواصفه وأمطاره، وتساقطت أوراق الشجر. وهذا رمز لشدّة الألم الذي يكتنف قلبها:
وفي السادسة عشرة من عمري
غادرتَ في رحلة طويلة
في مضيق تشو تانغ
عبر الصخور والمياه الدوّامية
ثم جاء الشهر الخامس
بأكثر مما أستطيع تحمّله
وتردّد عويل القرود
في سمائك البعيدة
ولمحت آثار أقدامك
عند بابنا يوم غادرت
مختبئة عميقا تحت الطحلب الأخضر
بحيث لا يمكن كنسها
ونثرت رياح الخريف الأولى
فوقها أوراقا متساقطة
لكن أيّ رسالة من الزوج لم تصل. ومرّت ثمانية أشهر. والآن عندما تنظر إلى الحديقة بحزن، تؤلمها صورة الفراشات وهي تطير أزواجا وتحتفل بمرح على الزهور. وعلى النقيض من ذلك، ينكسر قلبها وتخشى أن تؤدّي الشيخوخة إلى ذبول جمالها، بينما حبيبها ليس معها. المقطع الأخير يدور حول تفاؤل الفتاة بعودة زوجها، مع أن الوضع يشير إلى خلاف ذلك.
وفي هذا المقطع، تأخذ القصيدة فجأة منعطفا متفائلاً. إذ تعتقد الزوجة أن حبيبها سيعود ذات يوم، وتطلب منه أن يبعث إليها برسالة يخبرها فيها عن موعد وصوله. هذه الفكرة تجعلها سعيدة جدّا لأن من شأن تحقّقها أن يكسر مرحلة الانتظار الطويلة في حياتها. ثم إنها ستأتي وتقابله، بغضّ النظر عن طول المسافة. هذا هو كلّ ما تريده: تلميح منه بوصوله. هذا كلّ شيء!:
والآن في الشهر الثامن
أقبلت الفراشات
تحوم، أزواجا، فوق أعشاب
حديقتنا الغربية
وأنا يلفّني الحزن
وأخاف على وجنتيّ الذبول
قلبي ينبئني بأنك عائد إلي
فهل من رسالة منك
لآتي لاستقبالك
ولو على بعد مئات الاميال.
لا يُعرف شيء عن مكان ولادة لي باي. لكن يُعتقد أنه ولد في آسيا الوسطى. وفي صغره عاش في سيتشوان بالقرب من تشانغدو. وفي تلك السنوات المبكّرة أحبّ قراءة ودراسة الشعر القديم والنصوص القديمة مثل كتاب "الطاو" للاو تسو.
والمعروف أن لي باي عاش حياة منفلتة وغير مستقرّة. ويقال إنه قتل أشخاصا أثناء المبارزات وتحدّيات فنون الدفاع عن النفس. وقيل أيضا إنه التقى الشاعر المشهور الآخر دو فو مرّتين، وكتب الاثنان قصائد عن بعضهما البعض.
وهناك بعض أوجه الشبه بين كلّ من لي باي ودو فو، فكلاهما شاعران عظيمان، كما عملا كمسؤولين في البلاط الإمبراطوري. وكلاهما عاشا في سيتشوان. لكن لي باي كان طاويّاً، بينما كان دوفو كونفوشيّاً.
وبحسب بعض المصادر، كتب كلّ منهما أكثر من ألف قصيدة وتناولا مواضيع مثل الحبّ والحرب والموت وجمال الطبيعة والأماكن الجغرافية القديمة التي رأياها.
وهناك أسباب في أن قصائد الاثنين تحظى بشعبية كبيرة الى اليوم، من أهمّها أن الشعب الصيني يحبّ القراءة عن الأماكن القديمة وعن الأشياء اليومية التي يقدّرها الناس، على عكس الشعراء الذين ظهروا في العصور اللاحقة والذين أصبحت قصائدهم أكثر ميتافيزيقيةً وغموضا.

Credits
cn-poetry.com

الاثنين، يونيو 10، 2024

التفكير كإمبراطور روماني


في هذه اللوحة من عام ١٨٤٤، يرسم الفنّان الفرنسي اوجين ديلاكروا الامبراطور الروماني ماركوس اوريليوس (121 - 180م) في الساعات الأخيرة التي سبقت وفاته. ويظهر اوريليوس فيها ضعيفا شاحبا، بينما يمسك بذراع ابنه كومودوس الذي لا يبدو مهتمّا بما يجري وينظر إلى أبيه نظرة لا تخلو من العجرفة واللامبالاة.
وحول الامبراطور أيضا يظهر عدد من أفراد حاشيته وأصدقائه من الفلاسفة الذين تبدو على ملامحهم علامات الترقّب والوجوم والحزن. وفي أرجاء الغرفة تتناثر مخطوطات وكتب مفتوحة، في إشارة الى مكانة أوريليوس كفيلسوف ومفكّر عظيم.
بالإضافة الى كونه حاكما، كان اوريليوس أيضا أحد أهمّ أقطاب الفلسفة الرواقية (Stoicism). وكان الرسّام ديلاكروا معجبا بالأفكار الرواقية وبكتابات اوريليوس. الفكرة التي أراد إيصالها من وراء هذه اللوحة غير واضحة. لكن ربّما أراد تجسيد نهاية الإمبراطورية الرومانية.
فقد كان أوريليوس يرمز إلى العصر الذهبي لتلك الإمبراطورية. وشهد عهده (161-180 م) فترة من الهدوء الداخلي والحكم الرشيد. وبعد وفاته، سرعان ما انزلقت الإمبراطورية إلى حرب أهلية. وقد اكتسب سمعة الملك الفيلسوف خلال حياته، وهو اللقب الذي سيبقى بعد وفاته.
ديلاكروا كان منبهرا باللون الأحمر، خاصّة بعد رحلته إلى شمال إفريقيا عام 1832. وقد وظّف هنا الأحمر الفاتح في رسم لباس ابن اوريليوس. وبحسب مؤرّخي الفن، لم تُستقبل هذه اللوحة بحفاوة عند عرضها، لكن الكاتب شارل بودلير وصفها بقوله إنها "صورة جميلة وضخمة وسامية، على الرغم من أنه أسيء فهمها".
يقال إن آخر كلمات قالها ماركوس اوريليوس قبيل وفاته كانت: إذهبوا إلى شروق الشمس فإنّي غارب، وفكّروا في الموت أكثر من تفكيركم بي."
وفي كتابه "التأمّلات"، هناك أكثر من إشارة تختصر نظرته الى الموت. يقول مثلا: لا تستهينوا بالموت، بل رحّبوا به. فهو أيضاً من الأشياء التي تفرضها الطبيعة، كالشباب والشيخوخة والنموّ والنضج، وكالجنس والحمل والولادة."
ويضيف: إن الشخص العاقل عليه أن ينتظر الموت، ليس بلامبالاة أو نفاذ صبر أو ازدراء، بل باعتباره أحد الأشياء التي تحدث لنا. وكما تترقب خروج طفل من بطن أمّه، ينبغي أن تنتظر الساعة التي تخرج فيها روحك من غرفتها."


ويقول أيضا: ليس الموت هو ما يجب أن يخافه الإنسان، بل ألا يعيش حياته أبدا."
ويشرح ذلك بقوله: الكابوس الحقيقي هو ألا نعيش أبدا. يجب أن تخشى الندم على الأحلام التي تركتها لتذبل، وعلى العواطف والطموحات التي لم تستكشفها. اغتنم اللحظة التي لديك، ودع كلّ نبضة من نبضات قلبك يتردّد صداها مع إيقاع الحياة."
المدرسة الرواقية تميل نحو اللاأدرية Agnosticism، فهي لا تؤكّد ولا تنكر الحياة الآخرة، بل تضع مثل هذه الأمور في نطاق "اللامبالاة". كما أنها تحثّ على الفضيلة، ليس لتحسين الحياة الآخرة، بل من أجل سعادة الانسان الآن.
ويذهب الرواقيون الى أن الخوف من الموت لا يتعلّق بالنهاية نفسها، لأننا عادةً لا نعرف تفاصيل موتنا، بل نحن خائفون من مجرّد احتمال عدم وجودنا. كما يرون أن القلق بشأن التوقّف عن الوجود غير منطقي، لأن الإنسان لم يكن موجودا قبل ولادته، ولم يكن هنا منذ آلاف السنين، بل لم يكن هنا حتى في اليوم الذي التقى فيه أبوه مع أمّه.
حديث ماركوس أوريليوس عن الموت وعن ضرورة أن نبدأ في الحياة بدلا من الخوف من الموت حديث عميق ومحفّز للغاية. وفي عالم مليء بالمغريات مثل عالمنا، يمكن القول إن الحياة الخالية من الهدف والفضيلة هي أسوأ من الموت أو الوجود القصير. والحياة لا يمكن أن تكون طويلة جدّا، بل الأفضل أن تكون مشرقة ومليئة بالعمل والانجاز.
كان لدى الناس في كلّ مراحل التاريخ تجارب وأفكار مماثلة. وهناك الكثير من التغييرات التي حدثت في العالم. فقد تطوّرت التكنولوجيا والطبّ بشكل لا يمكن تخيّله. ومستوى المعيشة اليوم يختلف بما لا يقاس عما كان عليه في زمن اوريليوس والعصور القديمة إجمالا. لكن لم يستطع أحد أن يهزم موت الجسد، فكلّ شخص يأتي إلى هذا العالم لا بدّ أن يأتي عليه وقت تنتهي فيه حياته على هذه الأرض.
الرواقيون، مثل ماركوس أوريليوس، عاشوا حياتهم بشكل جيّد. والعيش بشكل جيّد يعني الموت بشكل جيّد، أي بالخروج من الحياة بطريقة لائقة. وبخلاف الأباطرة الاخرين في زمانه، عاش هو حياة طيّبة كرجل صالح وحسن الخلق. كان الموت اختباره الأخير. وكان يعتقد أن الموت الجيّد يتّسم براحة البال وعدم الندم والامتنان للحياة التي منحنا إيّاها الله.
ولعلّ أفضل ختام لهذا الموضوع هو قول أوريليوس: لا تتصرّف كما لو كنت ستعيش لآلاف السنين. لكن ما دمت تعيش، كُن خيّرا ما استطعت."

Credits
psychologytoday.com