:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات شعر. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات شعر. إظهار كافة الرسائل

الخميس، سبتمبر 11، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في إحدى المناطق الشاسعة من المحيط الهادئ، تقع جزيرة مرجانية صغيرة تُسمّى "ايفالوك". بعد الحرب العالمية الثانية، عرضت البحرية الأمريكية أحد أفلام هوليوود على شعب هذه الجزيرة لتسليتهم وتعزيز حسن النيّة معهم. كان الفيلم أكثر شيء عنيف ومروّع شاهده سكّان الجزيرة على الإطلاق. وقد أزعجهم العنف الذي رأوه على الشاشة لدرجة أن بعضهم مرضوا لعدّة أيّام.
    وفيما بعد، جاء أحد علماء الأنثروبولوجيا إلى الجزيرة لإجراء دراسة، وسأله السكّان المحليّون بشكل متكرّر: هل كان ذلك صحيحا؟ هل هناك بالفعل أناس في أمريكا قتلوا أشخاصا آخرين؟!
    يقول بعض العلماء اعتمادا على دراسات أُجريت على قبائل معزولة عن الحياة الحديثة وتتغذّى على النباتات والحيوانات البرّية أن الحرب ليست جزءا فطريّا من الطبيعة البشرية، بل هي سلوك تبنّاه البشر في مراحل متأخّرة من تطوّرهم.
    وافترضَ العلماء أنه منذ حوالي 12 ألف سنة، كان جميع البشر يعيشون في هذا النوع من المجتمعات الذي شكّل حوالي 90 بالمائة من مسارنا التطوّري. ومع انتقال الصيّادين وجامعي الثمار إلى الزراعة، أصبحت المجموعات أكثر إقليمية وصارت بُنيتها الاجتماعية أكثر تعقيدا. ومع استقرار البشر، أصبحت الحرب أكثر هيمنةً وحضورا.
    وذكرت الدراسة أنه إذا ما وُجد أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ عنيفة، فإن العنف في النهاية ثقافي وليس بيولوجيّا. كما دعت إلى وقف النظرة السلبية السائدة للحضارة الحديثة باعتبارها حضارة عنيفة، من خلال إثبات أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ كانت هي أيضا عنيفة بقدر ما ومنخرطة في حروب متكرّرة كانت بعضها مدمّرة للغاية.
    وهناك كتّاب عديدون تناولوا تحديدا استمرار ما أسموه "بالخرافات الخاطئة" التي يردّدها يعض علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع حول صلاح البشر البدائيين. فقد وقعت مذابح وعمليات قتل جماعي بين الإسكيمو و"هنود الغراب" وعدد لا يُحصى من الجماعات الأخرى قبل حوالي 13 ألف عام، أي قبل ايّ اتصال بالأوربيّين. كما تمّ القضاء على قبيلة "السكاكين الصفراء" في كندا بسبب المجازر التي ارتكبها هنود آخرون، واختفت تلك القبيلة نهائيا من التاريخ بعد ذلك بوقت قصير.
    وبالمقابل، أقام أحد علماء الاجتماع مع مجموعة قبلية في غينيا الجديدة. وفي هذه المجموعة، كان جميع الرجال يعيشون في منزل كبير، بينما كانت النساء والأطفال يعيشون في أكواخ فردية. ولم يجد الباحث أن الحرب كانت شائعة بينهم كما لم يشهد أي صراع مع الجماعات المنافسة. وقال إنه وجد أن بعض أكثر الشعوب "بدائيةً" على وجه الأرض كانت في الواقع مسالمة إلى حدّ كبير مقارنةً بالدول الحديثة المتقدّمة.
    وأضاف: كثيرا ما تُصوَّر الشعوب القبلية على أنها "متوحّشة وعنيفة". لكن الحرب لم تكن شائعة كثيرا قبل ظهور الزراعة، أي عندما كان معظم البشر، إن لم يكن كلّهم، يعيشون كباحثين عن الغذاء".
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الرسّام الفرنسي هوبير روبير يحظى بدعم العديد من الرعاة والنقّاد والفنّانين على حدّ سواء في القرن الثامن عشر. كما حظي بإشادة واسعة في الفترة المسمّاة بالحقبة الجميلة. وقد تمتّع روبير بمديح بعض من أهمّ الشخصيات الأدبية الفرنسية، من الفيلسوف دينيس ديدرو الذي أطلق عليه لقب "روبير الأطلال"، إلى إدمون دي غونكور ومارسيل بروست بعد أكثر من قرن.
    وتمكّن الرسّام من تسلّق السلّم الاجتماعي في فرنسا بفضل مهارته الفطرية كفنّان، وأصبح نجما دائم الظهور في الصالونات والفعاليات الاجتماعية المختلفة. وكانت لوحاته علامة تجارية لما يقرب من 50 عاما. وقد عُرفت صوره باسم "كابريتشي"، وهو مصطلح يشير إلى التقاليد الزخرفية لتصوير الآثار المعمارية الخلابة التي تطوّرت في روما الباروكية وبلغت ذروتها بين الرسّامين الإيطاليين مع جيوفاني باولو بانيني، الذي شعر روبير تجاه أعماله بألفة عميقة.
    لكن القرن العشرين لم يكن كريما معه، فقد مرّ أكثر من 80 عاما منذ أن كان موضوعا لمعرض استعادي كبير. لكن معرضا اُقيم للوحاته مؤخّرا في اللوفر صحّح هذا الوضع وأعاد الى الرسّام بعض الاعتبار.
    في عام ١٧٥٤، وفي سنّ الحادية والعشرين فقط، دُعي روبير للانضمام إلى حاشية الكونت دي ستانفيل في روما، حيث استوعب أكبر قدر ممكن من المدينة الخالدة، وأتيحت له فرصة قبوله في الأكاديمية الفرنسية بروما، وهو تكريم لا يُمنح عادةً إلا للقليلين.
    وقد مكث في المدينة أحد عشر عاما أخرى، وخلال تلك العطلة الرومانية وُضعت أسس مسيرة روبرت الفنّية، وهي ركائز ستظهر وتعاود الظهور على الآثار المعمارية التي ملأَت رسوماته ولوحاته طوال حياته. وتشير صوره لفنّانين في بيئاتهم الرومانسية المتداعية إلى أن عالمي الخيال والواقع كانا على خطّ رفيع بالنسبة له. وقد أصبحت مناظره الخيالية عن الآثار الرومانية التي تُصوَّر في الهواء الطلق علامة مميّزة.
    بالنسبة لديدرو، يمكن ترجمة الآثار المرسومة إلى شعر. وقد سلّطت صور روبير الضوء على "الرعب الجميل" الذي اعتبره ديدرو بالغ الأهمية لقوّة هذه الأعمال.
    وعندما رأى الأخير لوحات روبير لأوّل مرّة في الصالون، كتب يقول: الأفكار التي توقظها الآثار في داخلي عظيمة. كلّ شيء يتلاشى، كلّ شيء يفنى، كلّ شيء يمر. وحده العالم يبقى، وحده الزمن يدوم".
    كان هوبير روبير غزير الإنتاج لدرجة أنه من السهل نسيان عدد أعماله. لكن يبقى شيء واحد مهم وواضح، وهو فهمه وتفسيره المذهل للفناء وهشاشة الحياة. وربّما يكون هذا الشعور بالموت والخوف من الضياع هو الذي غذّى حاجته للتواصل الاجتماعي المستمر.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • استلهم عشرون كاتبا بلجيكيا وهولنديا أفكارا وأشعارا من مجموعة الاعمال الفنّية التي يحتفظ بها متحف ماوريتسهاوس في لاهاي. وقد تأمّلوا بعض لوحات القرن السابع عشر من منظور التاريخ البديل ثم جسّدوها في نصوص قصيرة. إميلي بارييل وجدت في لوحة فيرمير "ديانا وحوريّاتها" موضوعا لخاطرة شعرية قالت فيها: ‬
    تريد ديانا أن تعرف لماذا تحوّلت إحدى حوريّاتها إلى شجرة، فيما أصبح الآن موقف سيّارات مهجور في مبنى مكاتب متهالك يعود تاريخه إلى ستّينيات القرن العشرين. في الماضي، تقف الإلهة ديانا في غابة. تنظر إلى تلك البطّة الغريبة هناك. يقف فيرمير حاملا لوحته تحت الأغصان القريبة ومردّدا لحنا. تقول ديانا: كيف يُعقل أن يصدر هذا الضجيج من فم صغير كهذا؟" تهزّ حورياتها رؤوسهن وهنّ يشحذن سهامهنّ للصيد. يمرّ أبوللو مرتديا ملابس رثّة، بدلة من ثلاث قطع.
    تلاحظ إحدى الحوريات أن أبوللو يضع إكليل غار على رأسه. تفتقد دافني بعض الأغصان. كلّ رسّام على مرّ التاريخ صوّرها هي وحورياتها بأجساد ملفوفة بالقماش. تحت الأغصان القريبة، يمزج فيرمير اللون الأخضر الحمضي ليلبّس مواضيعه فساتين. يهزّ أبوللو كتفيه. تستغرق الأصوات النسائية وقتا أطول للوصول إليه. يراقب فيرمير كلّ ما يحدث، ويصوّر أربع حوريات صامتات يحوّلن نظرهنّ عن ديانا، بينما حورياتها يهززن رؤوسهنّ ويسحبن أقواسهن.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ الفقراء لا يدركون أن وظيفتهم في الحياة هي ممارسة الكرم. جان بول سارتر

    ○ كلّ ما يفعله الإنسان في الحياة، حتى الحب، يحدث في قطار سريع يتجه نحو الموت. "تدخين الأفيون" هو الخروج من القطار وهو لا يزال في طريقه، هو الانشغال بشيء آخر غير الحياة أو الموت. ج. كوكتو

    ○ لا أبحث عن البهجة ولا عن المرح. قلبي، بعد سنوات مرهقة من الحداد على الموتى، لم يعد يتقبّل المرح. ثم إن جدران قلعتي مهدَّمة والريح تهبّ باردةً عبر الأسوار والنوافذ المكسورة. أحبّ الظلال وأرغب في أن أكون لوحدي مع أفكاري. برام ستوكر

    ○ الترياق للغباء الجماعي ليس الذكاء فقط، بل الشجاعة في الاعتراف بأنك لا تعرف. سقراط كان أحد أوائل أبطال التفكير النقدي. قال مرّة: الحقيقة الوحيدة هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئا". ولم يكن هذا انتقاصا من الذات، بل دعوة للبقاء فضوليّا ومتواضعا فكريّا ومستمرّا في السؤال، في مواجهة عالم غامض وواسع.
    الجميع يريدون التحدّث، ولكنْ قليلون يريدون الاستماع. المفارقة هي أن المفكّرين الحقيقيين غالبا ما يكونون هادئين، لأنهم يعلمون أن الحكمة لا تنمو من الضوضاء ولكن من الصمت، من التأمّل. وهذا هو السبب بالتحديد وراء تفكير المفكّرين النقديين. وهؤلاء غالبا ما يهمَّشون ويُتجاهلون في ثقافة تكافئ السرعة. التفكير البطيء فرَصُه ضئيلة، لكن لا ينبغي التخلّي عنه. مارشال ماكلوهان

    ○ الأمان في الغالب خرافة، لا وجود له في الطبيعة. وتجنُّبه ليس أكثر أمانا على المدى البعيد من التعرّض المباشر له. الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء. هيلين كيلر

  • Credits
    artic.edu
    mauritshuis.nl

    الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

    نصوص مترجمة


  • كان منشغلا بالفلسفة. وكان دائما يحمل ورقة مخطوطة في يده وسيغارة مشتعلة بين أصابعه. وعندما ينتهي من سيغارة، كان يشعل الأخرى لا شعوريا. ليس للتدخين، بل للتفكير. دخان متواصل. وفي مرحلة ما، أصبحت السيغارة إيقاع أفكاره وسُمّا ينهش رئتيه. كان سبب وفاته سرطان الرئة. لكن الجميع كان يعلم أنه مات من كثرة التفكير.
    هل ثمّة فلسفة هنا؟
    تزامُن التأمّل والتدمير "أو الطبيعة المزدوجة للوجود". الفلسفة هي عمل تعميق أفكار الإنسان، ولكنها بالنسبة لهذا الرجل كانت أيضا عملا من أعمال إنكار الذات. التبغ يشجّع على التأمّل، ولكنه أيضا يستحثّ الموت. حالة وجودية متناقضة حيث تتعايش "المعرفة والموت" و"الاستكشاف والنهاية".
    التفكير هو التفاني حتى الموت. "كلّ فكرة جعلتني أقرب إلى الموت". الفلسفة قد لا تكون هي الحرّية، بل الإدمان على "الأسئلة التي لا يمكن وقفها". السغائر عقد مع الموت. في كلّ مرّة أشعلَ فيها الرجل النار، كان يوقّع على موته. كان يعلم هذا، لكنه لم يُقلع، لأن السغائر بالنسبة له كانت "الميزان الذي يقيس به ثقل الحياة".
    الفلسفة ليست مطاردة الدخان بحثا عن إجابات، بل هي دفن الأسئلة في الدخان. د. ياماشيتا
  • ❉ ❉ ❉

  • كما يليق بملحمة حربية، تمتلئ الإلياذة بأمثلة عن الموت بطريقة وحشية. وبعض المجازر المروّعة تُرتكب تحديدا لإرهاب العدو. مثلا، قتلَ أغاممنون قائد القوات اليونانية هيبولوكوس التعيس وقطع ذراعيه ثم ركل جثّته ليقذفها بين حشد من المقاتلين الطرواديين "كجذع شجرة". وضربَ محارب يونانيّ آخر مقاتلا طرواديا في وجهه ثم قطع رأسه ورفعه في الهواء بطرف رمحه، ما تسبّب في إرهاب الطرواديين الآخرين.
    كان العالم القديم يعجّ بالعنف. ولا داعي لأن نقصُر الحديث على هوميروس. فمعظم الأساطير اليونانية تتسم بالعنف بشكل أو بآخر. كما كان الفنّ اليوناني نفسه عنيفا، وبدا كما لو أن بعض الرسّامين كانوا يستمتعون بتصوير الدم والقتل العنيف. ولا يزال العنف يهيمن على العالم الحديث. وهذه مشكلة لا يمكننا حلّها إلا عندما نعتبر حياة كلّ إنسان مهمّة ومتساوية، وكلّ خسارة تستحقّ البكاء. وقد يمرّ وقت طويل قبل أن نصل إلى تلك المرحلة المستنيرة. جوش برايرز
  • ❉ ❉ ❉

  • إيزابيل آيندي هي المؤلّفة الإسبانية الأكثر قراءةً في العالم. وهي تعرف كيف تروي قصّة مقنعة. روايتها "روحي إينيس" تستند إلى شخصية تاريخية. وقد بُنيت الرواية حول أكبر قدر ممكن من التاريخ المعروف المحيط بإينيس دي سواريز، إحدى أوائل النساء الإسبانيات اللاتي وصلن إلى العالم الجديد في أوائل القرن السادس عشر.
    يُروى الكتاب بضمير المتكلّم، بصوت إينيس كامرأة مسنّة تتذكّر حياتها وتحكي قصّتها لابنة زوجها قبل أشهر قليلة من وفاتها. ومثل إيزابيل آيندي نفسها، فإن إينيس ناجية شرسة وبارعة الحيلة.
    وتبدأ الرواية بحياة دي سواريز المبكّرة في إسبانيا، ثم كيف شقّت طريقها إلى العالم الجديد، البرّي وغير المتحضّر في معظمه، وهو أمر غير مألوف لامرأة في ذلك الوقت. في النهاية، أصبحت زوجة لأحد الغزاة الكبار، بيدرو دي فالديفيا، ورافقته في رحلته الاستكشافية من بيرو إلى المناطق البرّية في الجنوب، لاستكشاف ما يُعرف الآن بتشيلي وغزوها في النهاية.
    تقدّم الرواية قصصا آسرة عن عالم الاستعمار الإسباني المبكّر لبيرو، وتتضمّن ظهور بعض الغزاة الأوائل مثل بيزارو وألماغرو. كما نقف على التوتّر بين الإسبان والإنكا المهزومين بعد أقلّ من جيل من غزو بيزارو لإمبراطورية الإنكا.
    أبرز ما في الكتاب هو وصف إينيس للمصاعب والتحدّيات التي واجهتها هي والغزاة في الوصول إلى تشيلي ومحاولتهم ترسيخ موطئ قدم لهم في مواجهة مقاومة هنود المابوتشي الشرسين. وفي نهاية المطاف، وبعد الكثير من المشقّة والقتال، تمكّنوا من إقامة وجود هشّ أصبح فيما بعد مقعدا للحضارة الإسبانية، بعيدا عن مراكز قوّتهم الأخرى في العالم الجديد.
    يمكن أن تكون هذه الرواية شيّقة وممتعة لمن يهتمّون بالتحدّيات التي واجهها الأوروبيون في بدايات استيطانهم لأمريكا الجنوبية. وتصوير المؤلّفة للسكّان الأصليين وثقافتهم رائع. ويبدو أن آيندي بذلت جهدا كبيرا في البحث كي تحكي قصصهم بأقصى دقّة ممكنة. ج. شولتز
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • رسم الفنّان الفرنسي، الروسي الأصل، مارك شاغال لوحة "سقوط إيكيروس" عام ١٩٧٥، أي في أواخر حياته. وكان شاغال قد عانى من اضطرابات وصدمات نفسية، منها فراره من فرنسا التي احتلّها النازيّون إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤١، والوفاة المبكّرة لزوجته الحبيبة بعد ذلك ببضع سنوات. في هذه اللوحة، يسقط شخص مجنّح من السماء على حشد من الناس في قرية.
    والمنظر هو تجسيد شاغال للأسطورة اليونانية عن إيكيروس الذي صنع له والده أجنحة من الريش والشمع ليتمكّن من الفرار من سجنه في جزيرة كريت. وقد حذّر الأب إيكيروس من الطيران قريبا من الشمس، ولكن ما أن ارتفع إلى السماء حتى غمره شعور بالقوّة والسرعة، فطار أعلى فأعلى الى أن ذاب جناحاه وهوى الى حتفه.
    من اللافت أن أحد أصول كلمة "خطر" يعود إلى الكلمة الإنغليزية الفرنسية daunger التي تعود إلى منتصف القرن الثالث عشر وتعني "الغرور". وكان هذا تذكيرا بأن الخطر والغرور غالبا ما يقترن كلّ منهما بالآخر. لذا كان إيمان إيكيروس بقدرته على التحليق بمفرده دون مراعاة للقيود والإمكانات سبيلا إلى هلاكه. اينوم اوغورو
  • ❉ ❉ ❉

  • "إنها تمطر"، قال الأب لاميرو. وتابع: قبل نصف قرن بالضبط، أتيتُ إلى اليابان في يوم كهذا. في الماضي، كان أباطرة هذا البلد رجالا ذوي مكانة عظيمة، لكن كلّ ذلك تغيّر عندما استولى العسكر على السلطة ونقلوا العاصمة إلى كاماكورا. وتُرك الإمبراطور الشابّ في كيوتو ليقايض توقيعه بالمخلّلات والأرز. كان ذلك في القرن الثالث عشر. ثم في عشرينات القرن العشرين، ذهبت إلى كاماكورا للدراسة في بعض المعابد البوذية".
    توقّف الأب لاميرو لبرهة، وبدا عليه التأمّل. ثم فرك ذراع كرسيّه المصنوع من شعر الخيل وتابع كلامه: بالنسبة لي كانت أفضل السنوات في اليابان هي عشرينات القرن الماضي. كنت شابّا، وعندما وصلت كان كلّ شيء هنا رائعا بالنسبة لي. كانت دراستي في كاماكورا، ولكنني كنت آتي إلى طوكيو في عطلات نهاية الأسبوع، إلى هذا المنزل بالذات، الذي كان مليئا بالقطط.
    كانت طوكيو آنذاك مبنية بالكامل من الخشب، وكلّ ليلة كانت هناك نار على مسافة قريبة سيرا على الأقدام. لا يوجد شيء أكثر تحفيزا من مشاهدة النار عندما تكون صغيرا. في ليالي الجمعة، كنّا نعقد اجتماعاتنا هنا، وإذا ذهبنا لرؤية النار، فإن مناقشاتنا كانت دائما أكثر حيوية. ومنذ الحرب، كنت نباتيّا صارما، باستثناء العسل والبيض. للأرز تأثير خاص على اليابانيين بعد ساعة أو ساعتين من تناوله، وهو بلا شك السبب الرئيسي وراء تفضيلهم للخارج. إدوارد ويتيمور
  • ❉ ❉ ❉

  • لدى الماوري قيم قبلية معيّنة، فما يفيد الجماعة يفيد الفرد، والعكس ليس بالضرورة صحيحا. وفي مجتمع الماوري المثالي، يسود تقاسم الموارد والالتزامات. وغالبا ما تكون التضحية مطلوبة. ويُقدَّر الوفاء تقديرا عاليا، ولا يُحتفى بروح المنافسة إلا في الرياضة، بينما يُحتقر الجشع والأنانية. والنتيجة مجتمع يُهتمّ فيه بالجماعة أكثر من الفرد. ومن نتائج ذلك أيضا أن الماوري، من وجهة نظر البيض، غالبا ما يبدون غير طموحين، بينما يبدو البيض، من وجهة نظر الماوري، قساة ومعزولين وباردِي القلوب. كريستينا تومسون
  • ❉ ❉ ❉

  • كان يا ما كان، كان هناك ولد، عاش في قرية لم تعد موجودة، في منزل لم يعد موجودا، على حافّة حقل لم يعد موجودا، حيث كان كلّ شيء ممكنا. يمكن للعصا أن تكون سيفا، ويمكن للحصاة أن تكون ماسة أو شجرة أو قلعة. كان يا ما كان، كان هناك ولد يعيش في منزل أمام الحقل، وفتاة لم تعد موجودة.
    ابتكرا ألف لعبة. كانت ملكة وهو ملك. في ضوء الخريف، كان شعرها يلمع كإكليل. كانا يجمعان العالم كلّه في حفنات صغيرة، وعندما تُظلم السماء، يفترقان وفي شعرهما أوراق. كان يا ما كان، كان هناك ولد أحبّ فتاة، وكان ضحكها سؤالا أراد أن يقضي حياته كلّها في الإجابة عنه. ن. كراوس

  • Credits
    isabelallende.com/en
    marcchagall.com/fr

    الأحد، سبتمبر 07، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • النثر الأرجواني purple prose مصطلح يُطلق على أيّ كتابة نثرية مزخرفة بشكل مفرط، لدرجة أنها تعطّل تسلسل السرد وتقلّل من تقدير القارئ، بسبب أسلوب الكتابة المبالغ فيه.
    والنثر الأرجواني يتّسم بالاستخدام الزائد للصفات والظروف والاستعارات. وعندما يقتصر هذا النثر على فقرات معيّنة، فإنه يمكن تسميتها بالبقع أو الفقرات الأرجوانية، حيث تكون مختلفة عن بقية العمل.
    كان الشاعر الروماني هوراس أوّل من صاغ عبارة "النثر الأرجواني" في كتابه "فنّ الشعر". فقد كتب ينصح كاتبا شابّا: افتتاحيتك واعدة جدّا. ومع ذلك، تظهر فيها بقع أرجوانيةٌ برّاقة، كما هو الحال عند وصفك بستانا مقدّسا أو مذبح ديانا أو جدولا متعرّجا عبر الحقول أو نهر الراين أو قوس قزح. لكن هذا لم يكن المكان المناسب لهذه الاوصاف. إذا كان بإمكانك تصوير شجرة سرو بشكل واقعي، فهل ستكتب هذا عند تكليفك برسم بحّار وسط حطام سفينة"؟!
    كانت الصبغة الأرجوانية آنذاك باهظة الثمن، وكان ارتداء أيّ ملابس بلون أرجواني يُعدّ دليلا على الثراء. وكان كثير ممّن يريدون الظهور بمظهر ثريّ يضعون قماشا أرجوانيا بين ملابسهم الرخيصة كي يبدوا أكثر ثراءً، ولذلك بدأ يُنظر الى الأرجواني كرمز للبريق والبهرجة.
    وقد تصوّر هوراس شبها بين النسيج الأرجواني في المجتمع والنثر الأرجواني في الكتابة. ثم استخدم الناس وصفه للإشارة الى أيّ نوع من الكتابة يبالغ في التأنّق والفذلكة ليحاول جذب القرّاء. والنثر الأرجواني أعمق من مجرّد كتابة الجمل، بل هو الكتابة البرّاقة من أجل البهرجة فقط، دون إعطاء معنى أو عمق للكتابة.
    إن كنت تمارس الكتابة، فعليك مراجعة عملك باستمرار والتفكير في أيّ أجزاء إضافية ترغب في حذفها. وإذا أفرطت في استخدام لغة سطحية في كتابتك، فقد لا يقتصر الأمر على نفور القرّاء، بل قد يصرفهم عن الفكرة الرئيسية التي تحاول طرحها.
    يمكنك أيضا قراءة كتاباتك بصوت عالٍ لمعرفة عدد الأنفاس التي تحتاج إلى أخذها لإنهاء جملة واحدة، والتي يمكن أن تكون علامة على أنها طويلة جدّا ومليئة بالحشو والكلمات، وبالتالي لا لزوم لها.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • بعض المعلومات التي ترسخّت في اذهاننا باعتبارها حقائق ومسلمّات، وذلك بفعل التواتر والتكرار، ثبت أنها لا تمتّ للحقيقة بِصلة.
    فمثلا، غير صحيح أن قسطنطين هو الذي أعلن المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. ورغم أنه كان أوّل إمبراطور مسيحي، إلا أن المسيحية لم تُعلن ديانة رسمية للإمبراطورية إلا عام 380، أي بعد وفاة قسطنطين بـ 43 عاما.
    وغير صحيح أيضا أن يوليوس قيصر ولِد بعملية قيصرية، كما أن العمليات القيصرية (Caesarean section) لم تُشتقّ من اسمه. ولو أُجريت له أو لغيره مثل هذه العملية في ذلك الزمن لأودت بحياة الأمّ بسهولة.
    وغير صحيح أيضا أن كولومبوس كان أوّل أوروبّي يزور الأمريكتين، فقد استكشف ليف إريكسون، وربّما غيره من الفايكنج قبله، المناطق الساحلية لأمريكا الشمالية. وأثبتت الآثار أن مستوطنة نورسية واحدة على الأقل أقيمت في نيوفاوندلاند، ما يؤكّد القصّة التي رواها إريك الأحمر في ملحمته.
    وغير صحيح أيضا أن النار أُطلقت على أنف تمثال أبي الهول من قبل قوّات نابليون أثناء الحملة الفرنسية على مصر قبل مائتي عام. فقد كان الأنف مفقودا منذ القرن العاشر على أقلّ تقدير.
    وغير صحيح أيضا أن غريغوري راسبوتين قُتل بإطعامه كعكا ونبيذا ممزوجا بالسيانيد، أو بإطلاق النار عليه عدّة مرّات ثم رميه في النهر بعد نجاته من الحادثتين السابقتين. بل أثبت تشريح لجثّته أنه قُتل بطلقات ناريّة فقط. والمصدر الوحيد لقصّة السيانيد هو رواية مبالغ فيها من مذكّرات الأمير فيليكس يوسوبوف، الذي كان شريكا في المؤامرة.
    وغير صحيح أيضا أن رسّامي الخرائط في العصور الوسطى كتبوا على خرائطهم بانتظام عبارة "هنا توجد تنانين hic sunt dracones". كما لا توجد خرائط قديمة تحتوي على عبارة "أراض مجهولة terra incognita"، للإشارة الى أن أرضا ما تعجّ بالوحوش والأفاعي والتنانين وما الى ذلك. هناك خريطتان فقط من تلك الحقبة لمناطق في جنوب آسيا نُقشت عليهما هذه العبارة وتضمّنتا رسوما توضيحية لحيوانات أسطورية أو حقيقية.
    ويُحتمل أن من صمّموا تينكِ الخريطتين كانوا يتوقّعون ظهور العديد من الوحوش المرعبة في الأماكن التي حدّدوها على الخريطتين. ومن بينها بعض الحيوانات التي لا تُعتبر أسطورية اليوم كالفيلة والأسود، لكنها كانت تُعتبر في نظر الناس وقتها شبيهة بالتنانين.
    وغير صحيح أيضا أن سور الصين العظيم هو المَعلم البشري الوحيد الذي يُرى بالعين المجرّدة من الفضاء أو من القمر. فلم يبلِّغ أيّ من روّاد فضاء أبوللو عن رؤية أيّ جسم بشري محدّد من القمر. وحتى روّاد الفضاء الذين يدورون حول الأرض لا يستطيعون رؤية السور العظيم إلا بالمناظير المكبّرة. مع ذلك، يمكن رؤية أضواء المدن بسهولة في الجانب المظلم من مدار الأرض.
    وغير صحيح ما يقال من أن منازل القمر تؤثّر على أصوات الذئاب، وأن الذئاب تعوي عند رؤيتها القمر. والصحيح هو أنها تعوي عادةً لتجميع قطيعها قبل الصيد وبعده ولإطلاق إنذار وللتعرّف على بعضها البعض أثناء العاصفة وللتواصل عبر مسافات شاسعة عند عبور مناطق غير مألوفة.
    وغير صحيح أيضا أن النعامة تدفن رأسها في الرمال للاختباء من الأعداء أو للنوم. وأصل هذا الاعتقاد الخاطئ غير مؤكّد. لكن يُرجَّح أن من روّج له كان المؤرّخ بليني الكبير، إذ كتب أن النعامة "تتخيّل عندما تُدخل رأسها ورقبتها في شجيرة أن جسدها كلّه لا يُرى".
    وغير صحيح أن البشر تطوّروا من أيّ من أنواع الشمبانزي أو أيّ نوع آخر من القردة. ومع ذلك، تطوّر البشر والشمبانزي من سلف مشترك. ويُعتقد أن هذا السلف المشترك الأحدث للإنسان والشمبانزي قد عاش قبل حوالي ثمانية ملايين سنة.
    وغير صحيح أيضا أن الأنهار تتدفّق غالبا من الشمال إلى الجنوب، بل تنحدر في جميع اتجاهات البوصلة، وغالبا ما تغيّر اتجاهها على طول مجراها. والعديد من الأنهار الرئيسية تتدفّق جهة الشمال، بما في ذلك نهر النيل ونهر الراين وغيرهما.
  • ❉ ❉ ❉

  • كاريتاس، أو المحبّة، هو اسم مقطوعة مشهورة للموسيقيّ الآذاري سامي يوسف أُدّيت على الهواء لأوّل مرّة في قاعة الحفلات الموسيقية الملكية في أمستردام قبل ثلاث سنوات واشتركت في تقديمها فرقتان هولنديتان والفرقة التابعة ليوسف.
    هذا العمل هو جزء من مشروع موسيقيّ أكبر اسمه "عندما تلتقي الدروب". وهو يتنقّل بسلاسة بين الموسيقى الكورالية الغربية والأساليب الموسيقية الشرقية والأندلسية. كما يَعبُر الحدود بين المقامات والايقاعات المختلفة، باستخدام الارتجال والعزف المنفرد على آلات الإرهو الصينية والعود والناي والكمان.
    وفكرة العمل تؤكّد على عمق الحوار بين الحضارات من خلال الموسيقى. وتتردّد في ثناياه باللغات العربية والانغليزية والآذارية كلمات الشاعر الآذاري المتصوّف فضولي من القرن السادس عشر، والشاعرة الألمانية المتصوّفة هيلدغارد بينجن من القرن الثاني عشر، بالإضافة الى مواويل آسرة مستمدّة من أبيات للشاعر الأندلسي أبو الحسن الشُشتري من القرن الثالث عشر والشاعر الصوفي السوري عبد الغني النابلسي من القرن السابع عشر.
    مدّة العمل 16 دقيقة، ومقاطعه الأجمل تبدأ عند الدقيقة السابعة ، حيث تمتزج أنغام الرست الرائعة بالأصوات البشرية التي تلامس الروح. وقد وُصفت كلّ نغمة فيه بأنها "تحمل لمسة إيمان وبريق أمل".

  • Credits
    thewritelife.com
    samiyusuf.art

    السبت، أغسطس 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • هذا البورتريه رسمته الفنّانة المكسيكية فريدا كالو لنفسها عام 1940، وأرادت من خلاله إبراز موضوع الهوية والمشاعر المعقّدة. وفيه تَظهر الرسّامة بشعر قصير بعد أن قصّت شعرها الطويل الذي يظهر متناثرا حولها. الشعر المقصوص يرمز للتمرّد والاستقلالية وتوكيد الفردانية وتحدّي أدوار الجندر التقليدية.
    كما أن الرسّامة ترتدي بدلة وربطة عنق رجالية، بدلاً من الفستان المكسيكي التراثي الذي اعتادت أن تظهر به. وفي هذا أيضا تلميح الى هويّتها الخاصّة، المركّبة والمتعدّدة الأوجه، ورفضها للأعراف المجتمعية.
    في الصورة أيضا، تحمل الفنّانة مقصّا في يد وخصلة شعر باليد الأخرى. وبتناولها المقصّ وقصّ شعرها، تؤكّد استقلاليتها ورفضها لتوقّعات المجتمع التي فُرضت عليها كامرأة. أي أن للمقصّ في اللوحة رمزية قويّة، اذ يجسّد قدرة كالو على التصرّف وتحكّمها بجسدها وهويّتها.
    كانت كالو قد قصّت شعرها بعد شهر من طلاقها من زوجها الرسّام دييغو ريفيرا، ثم رسمت لنفسها هذه اللوحة بعد ذلك بوقت قصير. وفي أعلى الصورة، تظهر نوتة موسيقية مصحوبة بكلمات من أغنية شعبية مكسيكية تقول: انظر، إذا كنتُ أحببتك فذلك بسبب شعرك. الآن وقد أصبحت بلا شعر، لم أعد أحبّك".
  • ❉ ❉ ❉

  • "ضوء القمر الساطع يضيء واجهة السرير
    فيبدو كما لو كان صقيعا على الأرض.
    أنظر إلى الأعلى فأرى القمر اللامع في السماء
    وأنظر إلى الأسفل فأملأ ذهني بذكريات مدينتي".
    قصيدة "لي باي" هذه عنوانها "خواطر في ليل صامت"، وهي من أشهر القصائد الصينية التي كُتبت في عهد سلالة تانغ. والقصيدة قصيرة كما هو واضح ولا تستخدم سوى كلمات قليلة، لكنها مفعمة بالشغف والحنين .وما تزال تدرَّس كجزء من مناهج الأدب الصيني، وكواحدة من أقدم أعمال الشعر الصيني نظرا لبساطتها النسبية واستخدامها المباشر والفعّال للصور الشعرية الوثيقة الصلة بالقيم الكونفوشية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • أُعجب عالم الأنثروبولوجيا جيمس موني بمركزية الماء في عالم الشيروكي. وكان قد أمضى في نهاية القرن التاسع عشر موسما عاش فيه مع بعض الأمريكيين الأصليين في جبال سموكي "الدخان" العظيمة بولاية كارولاينا الشمالية.
    وسجّل موني في دراسة له كيف أن الشيروكي تصوّروا الأرض على أنها "جزيرة كبيرة تطفو فوق بحر من الماء، معلّقة من كلّ من الجهات الأربع الأصلية بحبل يتدلّى من قبّة السماء. وعندما يشيخ العالم ويتآكل، سيموت الناس وتنقطع الحبال، فتغرق الأرض في لجّة المحيط ويعود كلّ شيء إلى الماء".
    كما كتب عن الأهمية الروحية التي يوليها الشيروكي لأنهارهم وجداولهم وبِركهم المحلية وقال إنه كان يذهب مع مجموعة منهم كلّ صباح عند بزوغ الفجر إلى جدول متدفّق، حيث يواجهون شروق الشمس ويغمرون أنفسهم في الماء الجاري، مجسّدين نوعا من الولادة الجديدة. واستنتج أن الذهاب إلى الماء "جزء من طقس لنيل العمر المديد وكسب ودّ النساء والشفاء من مرض مهلك وجلب الرخاء للعائلة مع كلّ عودة للقمر الجديد".
    لعدّة قرون، قبل تهجير شعب الشيروكي قسرا من أوطانهم الأصلية بدءا من عام 1838 خلال معركة درب الدموع، ارتبط نهر تينيسي ارتباطا وثيقا بالشيروكي، لدرجة أن المستوطنين الإنغليز والإسبان والفرنسيين غالبا ما كانوا يشيرون إليه ببساطة باسم "نهر الشيروكي". ومفردة الشيروكي التي تعني النهر، أو "الرجل الطويل"، تستحضر شيئا من الجوهر المقدّس لذلك النهر وغيره من الأنهار التي اعتبرها الشيروكي كيانات حيّة تتمتّع بشخصيّات وسمات فريدة.
    وبينما رأى المستوطنون الأوربّيون في نهر تينيسي مصدرا للفرص الاقتصادية، عارض شعب الشيروكي أيّ تحويل كبير لمجرى النهر أو بناء سدّ فوقه. ومن وجهة نظرهم "فإن ما تفعله عندما تُغيّر مجرى النهر هو تدميره. فالأنهار التي لا تتدفّق وتشكّل بِرَكاً راكدة كبيرة من المياه، كما هو الحال في السدود، تُعتبر مياها ميّتة. وعندها يفقد النهر شخصيته وأهميّته الروحية والشعائرية".
    اليوم، في جبال سموكي، حيث أمضى جيمس موني فترة مع قبيلة شيروكي الشرقية، وحيث فرّ عدد كبير منهم في عهد الرئيس جاكسون لتجنّب التهجير، تتدفّق عشرات الأميال من الجداول المحمية بمحاذاة مناطق غابات هادئة، مارّةً بوسط مدينة شيروكي، بينما تُبذل جهود لتجديد جداول المياه الجبلية.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ إن إضفاء طابع رومانسي على العالم هو ما يجعلنا ندرك سحره وغموضه وعجائبه. ويجب أن ندرّب حواسّنا على رؤية العادي على أنه غير عادي، والمألوف على أنه غريب، والدنيوي على أنه مقدّس، والمحدود على أنه لانهائي. نوفاليس

    ○ لا تحمل معك أثناء ترحالك إلا ما تستطيع حمله دائما: لغات أخرى ومعرفة بالبلدان والشعوب. ولتكن ذكرياتك حقيبة سفرك. ألكسندر سولجينتسين

    ○ قصّة بيرسيوس اليونانية الكلاسيكية هي مظهر مبكّر لحكاية شعبية واسعة الانتشار، صنّفها فلكلوريو القرن العشرين تحت اسم "قاتل التنانين". هل كان هناك بيرسيوس بدائي أنقذ عذراء من تهديد استثنائي، من نوع من التضحية البشرية مثلا؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، ولكن ليس من الصعب تخيّل مدى قدَم الحادثة البدائية عن قاتل التنانين.
    فهي منتشرة في ثقافات كثيرة، ولا يمكن تصوّر وجود صلة أدبية بينها وبين اليونان القديمة، حيث نشأت أسطورة بيرسيوس. ومع ذلك، فإن المجموعة المشتركة من الزخارف في النسخ المتعدّدة من الأسطورة تُظهر بوضوح نوعا من العلاقة الوراثية أو الترابط التاريخي. هل نحتاج إلى العودة آلاف السنين قبل أوّل تسجيل لقصّة بيرسيوس للعثور على بيرسيوس البدائي هذا؟ من الأسهل بكثير أن نفهم أن الحكاية الشعبية انتشرت ببساطة وأن أحد مظاهرها كان في اليونان القديمة. ر. أدامز

    ○ لا يرى أيّ فنّان عظيم الأشياء على حقيقتها. لو فعل ذلك، لتوقّف عن كونه فنّانا. مارك توين

    ○ كانوا يُلقّبونه بـ بيتر النَسيان "أي كثير النسيان". في إحدى المرّات، وصل إلى المعهد الموسيقي ولم يجد التشيللو الذي كان يحمله. قال بابتسامة عريضة: ربّما ضاع في الطريق. مشى عائدا إلى غرفته. ولم يجد التشيللو هناك. ثم تذكّر لفافة الخبز التي اشتراها من المخبز المجاور. وكان التشيللو هناك مع الرغيف أيضا. قال بيتر: لديّ ذاكرة قويّة. وأضاف اقتباسا من فيلسوف مشهور: الذاكرة هي القدرة على النسيان". وبنفس الذاكرة، نسي أيضا الأسماء والمواعيد والوعود. نسي المكان الذي ركن فيه سيارته، فاضطرّوا للبحث عنها في نصف المدينة في منتصف الليل. كان ينتظر ساعتين مبكّرا في المطعم الخطأ، وللمرأة الخطأ. وقال إن النسيان هو شرط السعادة. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ أتركْ بابك الأمامي والخلفي مفتوحين. دع الأفكار تأتي وتذهب. فقط لا تقدّم لها الشاي! شونريو سوزوكي

    ○ ما الحياة سوى رقصة من الأشكال الزائلة. أليس كلّ شيء في تغيّر دائم: أوراق الأشجار في الحديقة، ضوء غرفتك وأنت تقرأ هذه الكلمات، الفصول، الطقس، هذا الوقت من اليوم، الأشخاص الذين يمرّون بك في الشارع. وماذا عنّا؟ ألا يبدو كلّ ما فعلناه في الماضي حلما الآن؟ الأصدقاء الذين نشأنا معهم، أماكن الطفولة، تلك الآراء والأفكار التي كنّا نتمسّك بها بشغف مطلق ثم تركناها الآن خلفنا؟ الآن، في هذه اللحظة، تبدو لك قراءة هذا الأسطر حقيقية تماما. لكن حتى هذه الأسطر ستصبح قريبا مجرّد ذكرى. سوجال رينوشي

    ○ إهتمّ بالحياة كما تراها، بالناس والأشياء، بالأدب والموسيقى. فالعالم ثريّ جدّا وينبض بالكنوز الغنيّة وبالأرواح الجميلة والأشخاص المثيرين للاهتمام. هنري ميلر

    ○ قصّة دراكيولا في الثقافة الحديثة كثيرا ما تهيمن عليها مشاهد عنف مروّعة ومعارك ملحمية بين وحوش ذات أنياب حادّة وصيّادين يحملون أوتادا. لكن مصّاص دماء رواية "برام ستوكر" يتميّز ببراعة مقلقة؛ إنه أقرب إلى "مخلّص من الفساد" منه إلى جزّار ملطّخ بالدماء. ولعلّ أفضل تفسير لشخصية "دراكيولا ستوكر" هو أنه مرض خبيث يسلب من يحبّ صفاته الفاضلة ويستبدلها خلسة بشرّ خالص لا يموت.
    في النصف الأوّل من الرواية، يجسّد ستوكر ببراعة الحزن والصدمة المرتبطين بمشاهدة هذه العملية المخيفة والشعور بالعجز عن تغييرها. وفي النصف الثاني، يقدّم عملا جديرا بالثناء بنفس القدر، مُظهرا كيف يمكن للشجعان أن يتّحدوا ويتكاتفوا في أعقاب الخسارة لمنع المزيد من المآسي. مايلز ريمار

    ○ الطريقة الوحيدة للتعامل مع عالم غير حرّ هي أن تصبح حرّا تماما، لدرجة أن يصبح وجودك نفسه فعل تمرّد. ألبير كامو

    ○ لا تبحث عن النجاح، فكلّما طاردته وجعلته هدفا، أضعتَه. فالنجاح كالسعادة، لا يُسعى إليه بل يجب أن يأتي من تلقاء نفسه. وهو لا يأتي إلا كأثر جانبي غير مقصود لتفاني المرء في سبيل قضية أعظم منه. وينطبق الأمر نفسه على النجاح: دعه يحدث دون أن تبالي به. أريدك أن تنصت لما يمليه عليك ضميرك وأن تنفّذه على أكمل وجه. عندها ستدرك أن النجاح سيلاحقك على المدى البعيد، لأنك لم تعد تفكّر فيه. فيكتور فرانكل

  • Credits
    chinahighlights.com
    fridakahlo.org

    الاثنين، أغسطس 18، 2025

    نصوص مترجمة


  • تقول أسطورة إن الشاعر العظيم لي باي لقي حتفه غرقا في سنّ الثانية والستّين، بينما كان يحاول وهو ثمل لمسَ انعكاس القمر في نهر اليانغتسي. لي هونغ بين، المحاسب السابق ذو الوجه الحزين، يعرف حقائق كثيرة عن لي باي، ويعتقد أنه هو نفسه مستنسَخ حيّ وحقيقيّ من الشاعر المشهور.
    يقول وهو ينحني في كشك تذكاري مهجور رمّمه ككوخ ناسك في مركز لي باي الثقافي، في تشينغليان، مسقط رأس الشاعر الكبير في مقاطعة سيتشوان غرب الصين: أنا واثق من ذلك. بعد 1300 عام، أنا الشاعر الوحيد الذي يعيش في مسقط رأس لي باي ولا يزال يكتب الشعر. بل إنني أوقع أعمالي باسم لي باي".
    بعض الدول، مثل جورجيا، محظوظة ببناء تماثيل لشعرائها أكثر من الملوك أو المحاربين. وفي قيرغيزيا، يقضي الشعراء المتدرّبون سنوات في حفظ قصيدة واحدة من ملحمة ماناس الوطنية المكوّنة من نصف مليون سطر. ومع ذلك، لم أجد الشعر منغمسا في الحياة العامّة أكثر ممّا هو في الصين. إذ تُعدّ الولادات والزيجات والوفيات مناسبات للعائلات لتأليف الشعر. ويتعلّم الأطفال القوافي القديمة في مناهجهم الدراسية الأساسية. وتزيِّن أبوابَ منازل المدن والقرى أبيات شعرية منقوشة على ورق أحمر لجلب الفأل والحظ السعيد.
    ماو تسي تونغ نفسه قيل إنه خاض غمار كتابة الشعر ذات مرّة. ومع ذلك، يُعدّ وجود شاعر حقيقي متفرّغ لكتابة الشعر اكتشافا نادرا في أيّ مكان.
    ولد لي باي في القرن الثامن الميلادي في آسيا الوسطى ونشأ في سيتشوان الحالية. وقد عاصرَ تمرّدا وحربا أهلية وفقداناً للأمن في امبراطورية تانغ. ثم طُرد الشاعر من البلاط الإمبراطوري لتجرّؤه على خلع حذائه المتّسخ أمام الملك. وفيما بعد أُلقي القبض عليه بتهمة الخيانة، وحُكم على هذا الرجل البدائي بالمنفى، وإن كان أُعيد لاحقا الى وطنه.
    للوصول إلى تشينغليان، سافرت شمالا من مدينة تشانغدو العملاقة، مرورا بقرى دُمّرت وأُعيد بناؤها منذ زلزال عام ٢٠٠٨ المروّع. عبرتُ أنهارا خضراء دافئة على جسور المشاة. كان ذلك في نهاية الصيف. كانت الأيّام جليدية، وكان المزارعون قد نشروا محصولهم من الذرة ليجفّ على جوانب الطرق.
    كانت تلك هي الصين التي تخيّلت فيها لي باي البدائي مرتاحا، وليست "صين" الصورة النمطية العالمية لأرضيات المصانع الآلية. أما الشاعر لي هونغ بين فقد رأيت فيه فنّانا كسر الصور النمطية البالية للطائفية الشرقية والتمرّد الفردي الغربي. بول سالوبيك
  • ❉ ❉ ❉

  • نظرا لحجم خطره، ينبغي أن يكون الذكاء الاصطناعي موضع اهتمام كلّ البشر. صحيح أن الجميع لا يمكن أن يصبحوا خبراء في الذكاء الاصطناعي، لكن يجب أن نتذكّر كلّنا أنه أوّل تقنية في التاريخ قادرة على اتخاذ القرارات وابتكار أفكار جديدة بنفسها. فيمكن له مثلا توليد أفكار جديدة بشكل مستقلّ، وفي مجالات تبدأ بالموسيقى ولا تنتهي بالطبّ.
    الغراموفون عزفَ موسيقانا والمايكروسكوب كشفَ أسرار خلايانا. لكن الغراموفون لم يستطع تأليف سيمفونيات جديدة، ولم يستطع المايكروسكوب تصنيع أدوية جديدة. الذكاء الاصطناعي قادر بالفعل على إنتاج الفن وتحقيق اكتشافات علمية بمفرده.
    وفي العقود القليلة القادمة، من المرجّح أن يكتسب القدرة على خلق أشكال حياة جديدة، إما بكتابة شيفرة جينية أو باختراع شيفرة غير عضوية. الذكاء الاصطناعي قد يغيّر مسار تاريخ جنسنا البشري، بل مسار تطوّر جميع أشكال الحياة. يوفال هاراري
  • ❉ ❉ ❉


  • شاهدت مؤخّرا فيلم "إلى البرّية" بعد أن سمعت عنه منذ سنوات. الفيلم مقتبس من رواية لكاتب يُدعى جون كراكوير، وتدور أحداثه حول شابّ إسمه "كريس" يتخلّى عن حياته العصرية وعن كلّ شيء، ويذهب للعيش في البرّية. وعندما انتهيت من مشاهدة الفيلم، لم أصنّفه ذهنيّا بين الجيّد أو السيّئ. ولم أفكّر فيما إذا كنت سأوصي به، أو فيما سأقوله عنه إذا سألني أحد.
    كان قرار بطل الفيلم بالاختفاء لفترة وترْك كلّ التوقّعات والراحة أشدّ وقعا عليّ مما توقّعت. ليس لأنني فعلت شيئا كهذا من قبل، بل لأنني أعرف الشعور الذي يحرّكه. فقد ساورني نفس هذا الشعور وأنا أخرج من مكتبي كلّ يوم في الساعة الخامسة مساء. وشعرت به في صباحات الأحد عندما تكون المدينة ما تزال نصف نائمة. وشعرت به وأنا أحجز رحلة "هروب" لعطلة نهاية الأسبوع، ثم أقضي معظم الوقت مستلقيا على سرير في الفندق أتصفّح هاتفي الجوّال!
    كان كريس يمضي أيّامه في جمع التوت البرّي وصيد السناجب والأرانب. كما يخصّص وقتا لقراءة مؤلّفيه المفضّلين والأكثر تأثيرا: جاك لندن وليو تولستوي وهنري ديفيد ثورو وسواهم. وداخل أعمال هؤلاء الكتّاب كان يجد شخصيّته الحقيقية. يقول نقلا عن ثورو: ذهبت إلى الغابة لأني أردت أن أعيش حياة مدروسة، وأن أتجنّب كلّ ما ليس حياة، فلا أكتشف عندما أموت أنني لم أعِش".
    بحلول الوقت الذي وصل فيه كريس إلى ألاسكا وحيدا في حافلة مهجورة في أعماق البرّية، كان شيء ما قد تغيّر. في البداية، كانت الوحدة جميلة وهادئة، بل رومانسية. كان يعيش الحلم الذي سعى إليه لسنوات. لكنْ شيئا فشيئا، أصبح ذلك الصمت مختلفا. وما كان يوما حرّية بدأ يتحوّل إلى وحدة. وهذا ما جعلني أتساءل: ماذا لو تبيّن أن ما كنتَ تسعى إليه لا تريده حقّا؟ ماذا لو وصلتَ إليه ولم يكن العلاج الذي توقّعته؟!
    الفيلم لا يعطيك إجابة، بل يترك هذا السؤال عالقاً في ذهنك، ينتظر أن تلاحظه. وهو يذكّرك بهذه الأشياء الصغيرة على طول الطريق: ليس من الخطأ ألا تعرف بالضبط ما تريده وأن ترغب في الاختفاء في بعض الأحيان. لكن كن حذرا، أحيانا الشيء الذي تبحث عنه ليس هو الشيء الذي تحتاجه.
    أثناء الفيلم، يلتقي الشابّ في طريقه ببعض الأشخاص: زوجان في منتصف العمر يفتحان له قلبيهما دون أحكام مسبقة، مزارع لا يراه مجرّد متجوّل، بل شخصا ذكيّا وكفؤا ويستحقّ السعادة، ورجل مسنّ يعيش وحيدا بعد أن فقد زوجته قبل عقود، فيعرض عليه أن يتبنّاه.
    وهؤلاء يذكّرونك بأن المعنى ليس "في الخارج" فقط، أي في البرّية البكر، بل هو في الناس أيضا. ربّما كان كريس يسعى نحو شيء نقيّ، لكنه في الطريق ظلّ يكتشف أن التواصل الإنساني ليس بالسمّ الذي كان يظنّه. أحيانا كان هو الدواء الذي يحتاجه.
    تلك المشاهد في الفيلم جعلتني أفكّر في حياتي، في الصداقات التي تلاشت لانشغالنا، والأحاديث العائلية التي تقلّصت إلى رسائل نصّية سريعة. في الماضي، كنّا أنا وعمّي نتحدّث لساعات خلال زيارات العطلات عن الموسيقى والسياسة وغيرهما. الآن نتبادل رسائل صوتية قصيرة لا تتجاوز الدقيقتين بضع مرّات في السنة.
    وبعض المَشاهد الأخرى في الفيلم فتحت لي آفاقا من الذكريات القديمة عن أمسيات هادئة بعد المطر وأنا مستلقٍ على سريري أستمع إلى أيّ أغنية يتصادف أن الراديو يبثّها. كان نوعا من الهدوء الذي اخترته، لا النوع الذي فُرض عليّ. ذكّرني وقت كريس في الحافلة وهو يدوّن يومياته بينما يتراكم الثلج في الخارج، بذلك الشعور؛ ذلك الهدوء الاختياري.
    الكثيرون ممّن شاهدوا فيلم "إلى البرّية" شعروا برغبة في فعل ما فعله كريس، أي التخلّي عن كلّ شيء، ثم السفر والهروب. أما أنا فكان الأمر عكس ذلك تماما. لقد دفعني هذا الفيلم إلى الاهتمام أكثر بالحياة التي أعيشها، بالأشياء الصغيرة: محادثة دافئة مع أمّي على الهاتف، طبق طعام سريع التحضير في منتصف الليل، العثور على مقعد في القطار خلال ساعة الذروة.
    كان كريس في الماضي مستاءً من المجتمع ومن محيطه، لكنه آمنَ لاحقا بأن "بهجة الحياة تحيط بنا من كلّ جانب، وكلّ ما نحتاجه هو تغيير نظرتنا للأمور". وفي النهاية أصبح مدفوعا بفكرة أن السعادة لا تتحقّق إلا بالمشاركة، فقرّر العودة إلى منزله لأنه لم يجد من يشاركه إيّاها في البرّية.
    وقصّة كريس تذكّرنا بأن التخلّص من مشاكل الحياة لا يحلّها هروب المرء من نفسه. فالهروب لا يمحو ما تحمله في داخلك، بل قد يزيده صخبا. وأعتقد أن سبب تعلّقي بالفيلم هو ما تركه وراءه بعد انتهائه: لحظة هدوء، وتذكير بأنه لا بأس أحيانا من ألا نمتلك جميع الإجابات. نيد فيرن

  • Credits
    Tldrmoviereviews.com
    learn.outofedenwalk.com

    الجمعة، أغسطس 08، 2025

    رحلات باشو

    "تسافر الشهور والأيّام عبر الأبدية. وكالرحّالة، تأتي السنوات وتمضي".

    كان الشاعر الياباني ماتسو باشو (1694-1644) يشعر أحيانا بالملل من الحياة، فيقوم برحلات طويلة مشياً على الأقدام أو على ظهور الخيل بحثاً عن الإلهام، متأمّلا الطبيعة والمواقع الأثرية المشهورة. كان التجوال بالنسبة له نوعا من التطهير الروحي. ومن المرجّح أنه كان يرغب في خوض تجارب نفسية وروحية أثناء رحلاته في أنحاء البلاد كحاجّ.
    وباشو يُعتبر بإجماع كافّة النقّاد ومؤرّخي الأدب تقريبا أهمّ شاعر ياباني في جميع العصور، وإليه تُنسب أشهر قصيدة هايكو على الإطلاق والتي يقول فيها:
    "بركة قديمة
    ضفدع يقفز
    رذاذ الماء".
    وقد عُرف عن باشو تأثّره الكبير بالشعراء الصينيين الكلاسيكيين، كشاعرَي سلالة تانغ الشهيرين "لي باي" و "دو فو" اللذين كان معجبا بهما كثيرا. وكان الشعر الصيني الكلاسيكي يحمل مُثلا عُليا يُتوقّع من الشعراء أن يلتزموا بها، كالحاجة إلى فقدان الثقة بالنفس، وعدم تقبّل ما يُنظر إليه كابتذال اجتماعي، واستعداد الشاعر لمغادرة المجتمع كلّما رأى ذلك ضروريا، والتجوال بحثا عن التواصل مع معلّمي الشعر والتأمّل. ومن الواضح أن هذه المُثل كانت الدافع وراء رحلات باشو العديدة سيرا على الأقدام في أنحاء اليابان.
    "لا تتبع آثار الأوّلين
    إبحث عمّا
    بحثوا عنه".
    كان باشو بوذيّا، لكنه كان أيضا شنتويّا وكونفوشيّا وطاويّا في نفس الوقت. تعلّقه الشديد بهذا العالم جعله يتجنّب دخول الأديرة، إلا في زيارات قصيرة للتأمّل. وكان يؤمن بالجميع، ويعامل الدين باحترام بالغ. ومع ذلك، كان لديه من الشكوك ما يكفي تجاه الدين، لذا فضّل الاحتفاظ بآرائه الخاصّة. كان في الأساس شاعرا منجذبا إلى مُثل الشعراء الكلاسيكيين، لكنه كان يستمتع أيضا بحياة الرحّالة.
    "لا أحد يسافر
    على هذا الطريق إلا أنا
    هذا المساء الخريفي"
    وفي رحلاته المتعدّدة، كان باشو يرتدي زيّ الراهب، لأنه أراد أن يسافر ككاهن متجوّل، ولأن زيّه كان يحميه من اللصوص، إذ كان الكهنة معروفين بعدم حملهم أيّ ممتلكات ثمينة. ومن خلال مذكّراته عن رحلاته، خلق الشاعر عالما مثاليّا من الرهبان المتجوّلين. وكثيرا ما كان يشاد به كنموذج للشاعر المتديّن/المتجوّل. ويمكن اليوم العثور على أحجار كبيرة منقوشة بقصائده على طول الطرق التي سلكها في تجواله.
    "مرضت أثناء الرحلة
    وما زلت أتجوّل في البرّية
    في أحلامي".
    كانت رحلات الشاعر طويلة قادته إلى اثنتي عشرة مقاطعة تقع بين إيدو وكيوتو. من إيدو، اتّجه غربا على طريق رئيسي يمتدّ على طول ساحل المحيط الهادئ. مرّ بسفح جبل فوجي وعبَر عدّة أنهار كبيرة وزار أضرحة الشنتو الكبرى، ثم وصل إلى مسقط رأسه، أوينو، والتقى بأقاربه وأصدقائه.
    في كثير من الأحيان، كانت صور رياح الخريف وصراخ القردة تُستخدم بوفرة في الشعر الصيني لخلق شعور بالحزن. وبينما يواصل باشو سرد رحلته، يستشهد بالشاعر الصيني "دو مو" من القرن التاسع قائلا: كان القمر يُرى بالكاد، وكان الظلام ما يزال يخيّم على سفح الجبل. ركبوا خيولهم قبل صياح الديوك، والسياط لا تزال معلّقة على ظهورهم. عندما وصلتُ إلى جبل شياويون، تشتّتت أفكاري فجأة. ثم تذكّرتُ قصيدة دو مو "الرحيل المبكّر" التي يقول فيها:
    أتركُ السوط معلّقا، وأنا أثق في مشية الحصان. لم يعد ممكنا سماع صوت الديوك على مسافة أميال. مشينا بين الأشجار، وكنت لا أزال أحلم، وفي منتصف الحلم تساقطت عليّ الأوراق فجأة".
    ثم يصف باشو بدقّة كيفية سفره وعلاقته بالعالم الديني:
    ليس لديّ سيف في حزامي، بل حقيبة متسوّل حول عنقي، وفي يدي مسبحةٌ بها 18 خرزة. رأسي حليق ووجهي أشبه بوجه الراهب، لكني علماني. لست راهبا، لكن من يحلقون رؤوسهم يعامَلون كبوذيين ولا يُسمح لهم بدخول الأضرحة".
    كانت رحلاته مجزية. التقى باشو في الطريق بالعديد من الأصدقاء القدامى والجدد. وألّف عددا من قصائد الهايكو والرينكو عن تجاربه خلال رحلاته، بما في ذلك تلك التي جُمعت في ديوان "شمس الشتاء". كما كتب أوّل يوميات سفر له: "سجلّات هيكل عظمي معرّض للعوامل الجوّية" و"الطريق الضيّق إلى أعماق الشمال". وخلال كلّ تلك التجارب، كان باشو يتغيّر تدريجيا. في جزء من اليوميات، يظهر الهايكو التالي الذي كتبه في نهاية العام:
    "مضى عام آخر
    قبّعة سفر على رأسي
    وصنادل من القشّ على قدمي".
    في تلك الرحلة، زار باشو مسقط رأسه حيث يعيش أخوه وأخته. وهناك أراه أخوه ضفائر من شعر والدته التي توفّيت قبل ذلك بعام. وكتب باشو يقول: عدنا إلى مسقط رأسنا في سبتمبر. كان العشب مغطّى بالثلج، ولم يعد لقبر أمّي من أثر. كلّ شيء قد تغيّر. لم يستطع أخي، بشعره الأبيض وبالتجاعيد على جبينه، إلا أن يشير إلى أننا ما زلنا على قيد الحياة. ثم فتح حقيبة التذكارات وقال: إكراما لشعر أمّي الأبيض، دعونا نبكي"!
    واصل باشو ومرافق له رحلتهما، فوصلا إلى مكان يصطاد فيه الصيّادون سمك السلمون. وركبا قاربا وعبرا النهر إلى كاشيما، حيث كان معلّم باشو يعمل رئيسا لكهنة أحد المعابد. ودُعيا لقضاء الليل هناك. وهطلت الأمطار طوال الليل. لكن في الفجر، صفَت السماء قليلا، فأيقظ باشو الجميع. بالنسبة له، كان ضوء القمر المصحوب بصوت المطر تجربة روحية. لكنه شعر بخيبة أمل لأنه لم يستطع رؤية البدر. ظلّت السحب المتحرّكة تحجب المشهد، وبدا كما لو أن القمر نفسه يتحرّك بسرعة:
    "القمر يتحرّك سريعا
    بين قمم الأشجار
    وأنا أُمسكُ بالمطر"
    في عام ١٦٨٧، نشر باشو كتابا بعنوان "ملاحظات على حقيبة سفر". وهذه الفقرة منه تلخّص فلسفته جيّدا ويتحدّث فيها عن نفسه:
    بين مئات العظام وفتحات الجسم البشري التسع، هناك "راهب نزِق". إنه رقيق جدّا لدرجة أنه يمكن أن يَتلف بسهولة. لطالما أحبَّ الشعر الجامح، وهو الرذيلةٌ التي أصبحت هاجسه طوال حياته. أحيانا كان يملؤه اليأس ويحاول تجاهل كتبه المقدّسة. وأحيانا كان يشعر بفخر لبلوغه قمما سامية. كان دائما متردّدا ومفرطا في الحماس. وفي مرحلة ما، حاول تهدئة نفسه باحتمال أن يحقّق نجاحا دنيويا، لكن الشعر وضع حدّا لطموحاته".
    ويضيف: في النهاية، أدركُ أن المخرج الوحيد هو الاستمرار في الشعر. "من لا يجد في قلبه متّسعا لتفتّح الزهور! يمكن للبشر أن يصبحوا جزءا من الطبيعة. كان ذلك في بداية الشهر حين غاب القمر. كانت السماء غير مستقرّة، وكنت كورقة شجر تتقاذفها الرياح، لا أعرف إلى أين أذهب":
    "إنسان بلا مأوى
    شخص ما قد يدعوني
    أوّل مطر في الشتاء"


    عاد ماتسو باشو إلى إيدو في شتاء عام ١٦٩١. رحّب به أصدقاؤه وتلاميذه هناك، وبعضهم لم يروه لأكثر من عامين. وتضافرت جهودهم لبناء كوخ لمعلّمهم الذي تخلّى عن كوخه القديم قبيل رحلته الأخيرة. لكن في هذا الكوخ الأخير، لم يستطع باشو أن ينعم بالحياة الهادئة التي كان يرغب بها. فمن جهة، أصبح عليه الآن أن يعتني ببعض الناس. فقد جاء ابن أخ له مريض ليعيش معه. واعتنى به باشو حتى وفاته بعد ذلك بعامين.
    ثم زارته امرأة كان يعرفها في شبابه، وقد تكفّل برعايتها هي أيضا. كانت هي الأخرى في حالة صحّية سيّئة، ولديها العديد من الأطفال الصغار. وبعيدا عن هذه الانشغالات، كان باشو مشغولا للغاية، بسبب شهرته الكبيرة كشاعر. وأراد الكثيرون زيارته، أو دعوته للزيارة. في رسالة يُفترض أنها كُتبت في الشهر الثاني عشر من عام ١٦٩٣، أخبر صديقا أن يؤخّر زيارته له الى وقت آخر. وفي رسالة أخرى كُتبت في نفس الوقت تقريبا، قال بصراحة: أزعجك الآخرون، فلا تهدأ".
    وفي ذلك العام، ألّف هذا الهايكو:
    "سنة بعد سنة
    على وجه القرد
    قناع قرد".
    وتحمل هذه القصيدة مسحة مرارة غير مألوفة عند باشو. فقد كان غير راضٍ عن التقدّم الذي حقّقه. ومع تزايد مسؤولياته، أصبح تدريجيّا ينزع نحو العدمية. كان قد أصبح شاعرا متجاوزا لانشغالاته الدنيوية، لكنه الآن وجد نفسه منغمسا في شؤون الحياة بسبب شهرته الشعرية. كان الحلّ إما أن يتخلّى عن كونه شاعرا أو أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما.
    جربّ باشو الخيار الأوّل، لكن دون جدوى. قال: حاولت التخلّي عن الشعر، والصمت. لكن في كلّ مرّة أفعل ذلك، كان شعري يتسلّل إلى قلبي فيومض شيء ما في ذهني. هذا هو سحر الشعر". لقد أصبح شاعرا أكثر من اللازم. لذا اضطرّ إلى الخيار الثاني: أن يتوقّف عن رؤية الناس تماما. وهذا ما فعله في خريف عام ١٦٩٣. "كلّما زارني الناس، ينتابني شعور مزعج بفقدان حياتي الخاصّة. الآن لا أجد ما هو أفضل من الاقتداء بـ "صن تشينغ" و"تو لانغ" اللذين انعزلا وراء أبواب مغلقة. سيصبح انعدام الصداقة صديقي والفقر ثروتي. وكرجل عنيد في الخمسين، أكتبُ لأؤدّب نفسي".
    في ذلك الوقت كتب هذه القصيدة:
    "زهرة الصباح
    في النهار
    يثبَّت مسمار
    على بوّابة الفناء الأمامي".
    من الواضح أن باشو كان يتمنّى أن يعجَب بجمال زهرة الصباح دون الحاجة إلى تثبيت مزلاج على بوّابته. ولا بدّ أن كيفية تحقيق ذلك كانت موضوع ساعات طويلة من التأمّل داخل منزله المغلق. وقد حلّ المشكلة بما يرضيه وأعاد فتح البوّابة بعد حوالي شهر من إغلاقها.
    واستند حلّ باشو هذا إلى مبدأ "الخِفّة"، الذي يمكّن الإنسان الذي انفصل عن أشغال الدنيا من العودة إلى العالم. "يعيش الإنسان وسط الوحل كمتفرّج روحي. لا ينجو من مظالم الحياة، يقف وحيدا، ويبتسم لها فحسب". وبدأ باشو الكتابة على هذا المبدأ ونصح طلّابه بتقليده.
    بعد فترة، مرض الشاعر وتساءل مجدّدا عن احتمال وفاته بعيدا عن وطنه. لكنه تعافى وواصل رحلته لرؤية جزيرة ماتسوشيما الشهيرة، والتي تُعتبر إحدى عجائب اليابان الثلاث الكبيرة. ثم توجّه إلى هيرايزومي ليشاهد آثارا تعود إلى عصر هييان. وفي موقع ساحة معركة قديمة سقط فيها قتلى، نظم باشو قصيدة قال فيها:
    "برّية من عشب الصيف
    تُخفي كل ما تبقّى
    من أحلام المحاربين".
    بعد أن استعاد باشو توازنه النفسي، بدأ يفكّر في رحلة أخرى. ربّما كان حريصا على نقل مبدأه الشعري الجديد، "الخفّة"، إلى الشعراء خارج إيدو أيضا. وهكذا، في صيف عام ١٦٩٤، سافر غربا على طول ساحل المحيط الهادئ. استراح في أوينو لفترة، ثم زار طلابه في كيوتو وفي مدينة قرب الساحل الجنوبي لبحيرة بيوا.
    عاد باشو إلى أوينو في أوائل الخريف ليستريح لشهر تقريبا. ثم غادر إلى أوساكا مع بعض الأصدقاء والأقارب، بمن فيهم ابن أخيه الأكبر. لكن صحّته كانت تتدهور بسرعة، على الرغم من أنه استمرّ في كتابة بعض القصائد الرائعة:
    "على غصن عارٍ
    يستقرّ غراب
    في شفق الخريف".
    كانت رحلة باشو تقترب من نهايتها، لكنه وصل أوّلا إلى معبد إيهيجي الشهير، حيث أراد التأمّل قبل التوجّه إلى قلعة هيغوتشي وسماع أولى صيحات إوزّ الخريف. كان القمر ساطعا جدّا في تلك الليلة، وعندما وصل إلى نُزل وسأل صاحبه إن كانت الليلة التالية ستكون بنفس السطوع، أجابه بأن ذلك مستحيل، وقدّم له بعضا من مشروب الساكي. وأراد باشو اغتنام هذه الفرصة لزيارة قبر الإمبراطور "حيث يتسلّل ضوء القمر من بين أشجار الصنوبر وتمتدّ الرمال البيضاء كالثلج أمام الحرم".
    ومن بين قصائد الهايكو التي كتبها في تلك الفترة:
    "سأموت قريبا
    وسيختفي المشهد
    بينما تستمرّ الحشرات في هسيسها".
    تشير القصيدة إلى إحساس باشو بدنوّ أجله. وبعد ذلك بوقت قصير، اضطجع على فراشه بسبب المرض. وسارع العديد من أتباعه إلى أوساكا وتجمّعوا حول سريره. ويبدو أنه حافظ على هدوئه في أيّامه الأخيرة. كان يعلم تماما أن الوقت قد حان للصلاة، لا لكتابة الشعر. ومع ذلك كان يفكّر في الشعر ليل نهار. أصبح الآن هاجسا، "تعلّقا آثما"، كما كان يسمّيه هو نفسه.
    توفّي باشو في سنّ مبكّرة نسبيّا، عن عمر ناهز الخمسين. وكان من الممكن أن يعيش أطول لو اعتنى بنفسه بشكل أفضل. وكانت قصيدته الأخيرة:
    "أصبت بالمرض أثناء رحلتي
    ولا تزال أحلامي تتجوّل
    لكن في حقول ذابلة".

    Credits
    matsuobashohaiku.home.blog

    الجمعة، يونيو 13، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لطالما كان البحر مسرحا للوحوش والقصص الغريبة منذ القدم. وعلى عكس اليابسة، يتحوّل المحيط ويتحرّك باستمرار، مع تيّارات قد تُغيّر مسار السفينة، وعواصف قد تُهدّد بالغرق والحطام. حتى الماء نفسه، ماء البحر والمحيط، غالبا ما يكون باردا ومظلما، وشربه بكميّات كبيرة قد يقتل. فماذا عن الكائنات التي يُعتقد أنها تعيش هناك؟
    وحوش البحر التي سكنت خيال الأوروبّيين في العصور الوسطى وعصر النهضة كانت مخلوقات لها أسنان شرسة وثعابين طويلة تلتفّ حول السفن وحوريّات بحر فاتنة الجمال.
    أسطورة إنسان البحر تعود إلى عام 5000 قبل الميلاد، عندما عبد البابليون إلها له ذيل سمكة يُدعى أوانيس. وعلى الأرجح كان هذا اوّل تصوير لحورية البحر. وفي العصور الكلاسيكية القديمة أيضا، صُوّرت أتارغاتيس، الإلهة الرئيسية لشمال سوريا، كإنسان له جسم سمكة.
    وفي القرون التي تلت ذلك، ادّعى كثيرون رؤية حوريّات بحر. وقيل إنه عندما أبحر كولومبوس عام 1492 من إسبانيا، كانت مهمّته العثور على طريق تجاري غربي إلى آسيا، لكنه بدلا من ذلك اكتشف شيئا أكثر غموضا. ففي يناير من عام ١٤٩٣، وقريبا من جمهورية الدومينيكان، رصدَ ثلاث حوريّات بحر. وكتب عنها وصفا قال فيه: ليست جميلة كما هي في الأذهان، إذ أن لها وجوها تشبه وجوه الرجال". وفي عام ١٦٠٨، ادّعى هنري هدسون أن العديد من بحّارته رصدوا حوريّة بحر بدت كامرأة ذات شعر أسود طويل، لكن ذيلها يشبه ذيل الدلفين.
    وتصف مخطوطة نرويجية تعود إلى القرن الثالث عشر وحشا طويل القامة له أكتاف ولكن بدون أيدٍ، وهو يرتفع من الماء، و"كلّما ظهر الوحش أيقن الرجال أن عاصفة ستتبعه".
    والآن هناك ما يؤكّد أن حوريّات البحر الثلاث التي رصدها كولومبوس عام 1493 كانت خراف بحر، لأن خروف البحر له ثديان في صدره وجسم يتناقص تدريجيا إلى ذيل يشبه السمكة، وقد رُبط دائما بحوريّة البحر. وظنّ كولومبوس والعديد من المستكشفين أن هذه الثدييات المائية كانت حوريّات بحر من لحم ودم. ولم يكن ذلك سوى ضرب من الخيال.
  • ❉ ❉ ❉

  • على الرغم من الاعتراف الذي حظي به الرسّام اندرو وايت من زملائه، إلا أنه واجه انتقادات من جانب التعبيريين التجريديين مثل روثكو وبولوك وغيرهما. ووصفه بعض النقّاد بأنه "فنّان غير معاصر ومكرّس للواقعية الريفية". ولكن مهما كان قدر الحنين إلى الماضي في أعماله، فإنه لا يطالب بالعودة إلى الحقول، بل تتناول لوحاته بدايات الأرض وأسلوب الحياة الذي شكّل جزءاً حقيقياً من تجربته الفنّية.
    وبعض لوحات وايت تتضمّن عناصر وسمات طوطمية، كجذوع الأشجار وحظائر الأبقار والحقول الباهتة. وهو يضفي عليها قداسة وتسامياً، ليس لأنها تشكّل مُثلاً رعوية، بل لأن لها انعكاسات راسخة في أعماق المناظر الطبيعية.
    موضوع الشكل الطوطمي Totemic Figure في فنون أمريكا الشمالية يرتبط أساسا ببدائية معيّنة كرّسها رسّامو مدرسة نيويورك. وقد أخذ هؤلاء من ثقافات السكّان الأصليين عناصر ثقافية وأشكالا تعبيرية معيّنة، مثل الرقصات الطقوسية والمنحوتات وسواها، ووظّفوها في أعمالهم.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • مصطلح اضطراب نقص الطبيعة (Nature-Deficit Disorder) يعني تقلّص استخدام الحواسّ، وصعوبات الانتباه وحالات السمنة وارتفاع معدّلات الأمراض العاطفية والجسدية نتيجة انفصال الانسان عن البيئات الطبيعية. وتُعزى الأسباب الى التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية، كانتشار الاتصالات الإلكترونية وسوء التخطيط الحضري واختفاء المساحات المفتوحة وزيادة حركة المرور في الشوارع وتراجع أهمية العالم الطبيعي في التعليم. وكحلّ للمشكلة يقول العلماء أن علينا أن نعيد اكتشاف أننا جزء من الطبيعة بالوقوع في حبّها. وعندما نحبّها فإننا سنحميها، فالناس يحمون ما يحبّونه وما يشعرون أنهم جزء منه.
    وأوّل من صاغ هذا المصطلح هو ريتشارد لوف في كتابه الصادر عام 2005 بعنوان "آخر طفل في الغابة". وقد أشار إلى أننا جميعا، وخاصّة الأطفال، نقضي وقتا أطول داخل البيوت، ما يجعلنا نشعر بالغربة عن الطبيعة، وربّما نصبح أكثر عرضة للمزاج السلبي أو قلّة القدرة على التركيز.
    العلماء يقولون إن البشر، باعتبارهم كائنات بيولوجية، يتكيّفون مع التواجد في بيئات معيّنة للجري واللعب والصيد وما الى ذلك. ويضيفون إن البيئة المزدهرة والغنيّة بالحياة البرّية تفيد الصحّة البدنية والنفسية. فالأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الطبيعة يكونون أكثر نشاطا ومرونة ذهنية ويتمتّعون بصحّة أفضل.
    المساحات الطبيعية المفتوحة تُعدّ شريان حياة مهمّا للآلاف. لذا سَنّت بعض الدول قوانين تؤكّد على حقّ الإنسان في بيئة نظيفة وصحّية، وضرورة أن يُحمى هذا الحقّ لضمان صحّة ورفاهية الأجيال القادمة. وجعل البيئة الصحّية حقّا قانونيا سيُمكّن الناس من تشكيل المساحات الحضرية بما يتناسب مع احتياجاتهم وظروفهم، وسيمكّن السلطات المحليّة من دعم المجتمعات المحليّة من خلال مساعدتها على حماية هذه المساحات، وتوفير الوصول إلى الطبيعة حيثما دعت الحاجة.
    إن الخروج من البيت لممارسة أيّ نوع من المشي مفيد لصحّتك. تجوّل على طول قناة أو ضفّة نهر وراقب الطيور، أو توجّه إلى أقرب حديقة وتأمّل الأشجار العتيقة الضخمة هناك. اخلع حذاءك وجواربك واشعر بالعشب تحت قدميك، أو استلقِ وتأمّل حركة السحب. تحدَّ نفسك بمغادرة المنزل أو المكتب وقضاء بعض الوقت في أوّل بقعة صغيرة تجدها من الطبيعة، سواءً كانت رقعة قاحلة أو أرضا عشبية. في كلّ الأحوال، لا تنسَ أن تُبقي جزءا من الطبيعة قريبا منك. حتى لو لم تكن لديك حديقة، فإن زراعة النباتات المنزلية أو تركيب وحدة لتغذية الطيور على النافذة سيساعدك على الشعور بمزيد من التواصل مع العالم الطبيعي، مع كلّ ما يجلبه لك من خير وفائدة.
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات..
    ◦ كيف يمكن لشخص أن يكون هنا في يوم ثم يرحل فجأة في اليوم التالي؟! الصديق العظيم شخص نعتزّ به، سواءً بقي معنا في هذه الحياة أو انتظرَنا في الحياة الأخرى. وأفضل أصدقائنا يعرفون أننا كنّا نحبّهم في حياتهم وسنستمرّ في تذكّرهم بقلوبنا بعد رحيلهم. صحيح أنهم رحلوا عن أنظارنا لكنهم لم يرحلوا أبدا عن قلوبنا. حبّ الصديق القريب من القلب لا ينتهي بالموت، بل يستمرّ إلى الأبد. مجهول

    ◦ عملي في الكتابة لم يكن احتمالا ولا خيارا، كما قد تُقرّر أن تكون محاميا أو طبيب أسنان. حدث ذلك فجأة عام ١٩٥٦، بينما كنت أعبر ملعبا للكرة في طريق عودتي من المدرسة. ألّفت قصيدة في رأسي ثم دوّنتها، وبعد ذلك أصبحت الكتابة كلّ ما أرغب به.
    ومن خلال المجلات الأدبية وبعض أساتذتي اكتشفت بابا مخفيّا. كان أشبه بباب في تلّة جرداء شتوية أو عشّ للنمل. في الخارج، بالنسبة للمراقب غير المطّلع، لم تكن هناك حياة تُرى، لكن إذا وجدتَ الباب ودخلت، ستكون هناك حركة عارمة. كان هناك عالم مصغّر كامل من النشاط الأدبي يجري أمام عينيّ مباشرة. مارغريت آتوود

    ◦ لا أخشى الموت، أخشى المعاناة، وأخشى الشيخوخة، لكن خوفي الآن تضاءل بعد أن عايشتُ شيخوخة أبي الهادئة والهانئة. أخشى الضعف وغياب الحبّ. لكن الموت لا يخيفني. لم يُخِفني في شبابي وظننتُ حينها أن ذلك يعود إلى كونه بعيدا. حتى الآن وقد بلغتُ الستّين، لم يأتِ الخوف بعد. أحبّ الحياة، لكنها أيضا كفاح ومعاناة وألم. وأعتبر الموت راحة مستحقّة. كارلو روفيلي

    ◦ قد لا تتحكّم في جميع الأشياء التي تحدث لك، ولكن يمكنك أن تقرّر ألا تضاعف من تأثيراتها. حاول أن تكون قوس قزح في سحابة شخص آخر. لا تتذمّر. أبذل قصارى جهدك لتغيير ما لا يعجبك. إن لم تستطع التغيير، غيّر طريقة تفكيرك. قد تجد حلّا جديدا. مايا انجيلو

    ◦ غايا أو الأرض، كما أراها، ليست أمّا حنونة تتسامح مع المخالفات، وليست فتاة هشّة رقيقة في خطر من بشر وحشيين. إنها صارمة وقوية، تُبقي العالم دافئا ومُريحا لمن يلتزمون بالقواعد، لكنها قاسية في تدميرها لمن يخالفها. جيمس لوفلوك

    ◦ لا أستطيع كتابة تاريخ مدينتي، مع أن أهلها وأفكارها وأشجارها وجدرانها وحرّيتها ومطرها، كلّها تشغلني. تفتنني الجدران بشتّى أنواعها، فالمساحة التي نسكنها ليست محايدة، بل تشكّل وجودنا. المناظر الطبيعية تتسلّل إلى أعماقنا وتترك أثرا، ليس فقط على شبكية العين، بل على أعمق طبقات شخصيّاتنا.
    تلك اللحظات التي ينكشف فيها لون السماء الرماديّ المزرقّ فجأةً بعد هطول مطر غزير، تبقى معنا، وكذلك لحظات التساقط الهادئ للثلوج. وقد تنضمّ الأفكار إلى الثلج من خلال حواسّنا وأجسادنا لتلتصق بجدران المنازل. وبعد ذلك، تختفي المنازل والأجساد والحواسّ والأفكار. لكن لا أستطيع كتابة تاريخ المدينة، كلّ ما أستطيعه هو محاولة استعادة بضع لحظات وأماكن وأحداث وبضعة أشخاص أحببتهم. آدم زاغايوسكي

  • Credits
    theartstory.org
    faithinnature.co.uk

    الخميس، يونيو 05، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • عاش الشاعر "هان شان" في عهد أسرة تانغ الصينية المزدهرة، ويُعتبر من بين أهمّ شعرائها المتميّزين، وكان معاصرا للشاعرين المشهورين لي باي و دو فو. وعلى الرغم من أنه لم يكن معروفا أثناء حياته، إلا أن شهرته نمت بعد وفاته واستمرّت لآلاف السنين وحتى اليوم.
    ويقال إن هان شان فشل عدّة مرّات في العثور على وظيفة مناسبة في العاصمة، وفي النهاية لم يعد لديه ما يدفعه للعودة إلى بلدته.
    وقد لامه إخوته على سوء حظّه كما تجاهلته زوجته. ولمّا أحسّ بأن عالمه كلّه قد انهار وبأن حياته بدأت تغرق في اليأس، قطع كلّ علاقاته الإنسانية وسافر لوحده حاملاً معه الكثير من الذكريات المؤلمة. وفي النهاية اختار العيش وحيدا كناسك في الجبال. ولم يكن لديه مكان ثابت يعيش فيه، لذا كان يتجوّل بين الغابات والجبال، وكتب في عزلته الكثير من الأشعار، وأشهرها قصائد "الجبل البارد".
    فيما يلي بعض تلك القصائد بترجمتي مع بعض التصرّف..
    ◦ تجري المياه على الدوام في الجدول المنعزل، والرياح تهزّ أشجار الصنوبر الطويلة. عندما تجلس هناك نصف يوم، ستنسى مائة عام من الحزن. الزهور جميلة في الفصل الرابع من العام، ولكنّها تتحوّل إلى اللون الأصفر في يوم واحد. لن تستطيع تذوّق طعم الحليب والعسل الصخريّ إلا بعد أن تموت.
    ◦ كيف يأتي الشعر إليّ؟ يأتي متعثّرا فوق الصخور في الليل، ويبقى خائفا خارج نطاق نار المخيّم، فأذهب لمقابلته على حافّة الضوء.
    ◦ ظننتُ أنني سمعت صوت فأس شقّ هدوء الغابة. توقّف الحلم واستيقظت. كنت أحلم في قطار. ولا بدّ أن ذلك كان منذ ألف عام، في قرية جبلية قديمة في اليابان. حشد من الشعراء المتحمّسين والفتيات العازبات. في تلك الليلة، تجوّلتُ في طوكيو كالدبّ، متتّبعا مستقبل ذكاء البشر ويأسهم.
    ◦ كان الناس يبحثون عن الطريق في السحاب، ولكن ذلك الطريق لم يكن موجودا في أيّ مكان. الجبال مرتفعة وشديدة الانحدار، بينما الجداول واسعة وأقلّ رشاقة. الجبال الخضراء أمامنا وخلفنا، والسحب البيضاء في الغرب والشرق. إذا كنت تريد أن تعرف أين يقع مسار السحابة، فإنه موجود في الفراغ.
    ◦ إذا لم يكن لديك ملابس فاذهب وابحث عنها بنفسك، لا تطلب من الثعلب معطفه الفرو. وإذا لم يكن لديك طعام فخذه لنفسك، لا تطلبه من الغنم. استعارة الجلد واللحم تجلب الشعور بالحزن.
    ◦ وسط آلاف الغيوم والأنهار، أتسكّع كعاطل سعيد وأهتف لنفسي. نهارا أجوب جبال الصنوبر، وليلا أنام تحت صخور تحميني. ومع أن الربيع والخريف يمرّان بسرعة، إلا أن عقلي في سلام لا يخنقه الغبار. ما أسعد الحياة التي تتشبّث باللاشيء، ما أهدأها كتدفّق جدول في الخريف.
    ◦ الجبل البارد مليء بالعجائب الخفيّة، ينتاب الخوف من يتسلّقونه. عندما يُشرق القمر تترقرق المياه الصافية، وعندما تهبّ الرياح يتمايل العشب. ومع لمسة المطر يتحوّل كلّ شيء إلى نضارة وحيوية. في الموسم الخطأ لا يمكنك عبور الجدول.
    ◦ مرور الأعوام يأتي بأحزان جديدة، ومجيء الربيع يجلب جمالا جديدا. تبتسم أزهار الجبال للمياه الصافية، ويرقص الدخان الأخضر فوق الصخور والقمم. يقطف طائر الكيوي الفاكهة في الجبال ويحمل مالك الحزين الأسماك في البِركة. يدّعي النحل والفراشات أنها سعيدة، بينما الطيور والأسماك أكثر حزنا. لا أزال أستمتع بصحبة أصدقائي الطيور والحيوانات ولا أستطيع النوم طوال اليوم. قلبي مثل قمر الخريف، صافٍ ومشرق مثل بحيرة زرقاء، لا يوجد شيء يشبهه، كيف يمكنني وصفه؟!
    ◦ القمر بارد، وجسدي مثل طائر الكركي الوحيد. لقد رأيت أناسا في هذا العالم يولدون ثم يموتون. أمس صباحا كنت لا أزال في العشرينات من عمري، بروح قويّة وعقل متوثّب. الآن عمري يزيد عن السبعين، وأشعر بالضعف والإرهاق، تماما مثل زهور الربيع التي تتفتّح في الصباح وتذبل في الليل. أحسد نفسي على فرحة الجبال، على كوني حرّا وبلا قيود. أقضي أيّامي في تغذية جسدي المنهك، وليس لديّ ما أفعله سوى الأفكار الخاملة.
    ◦ ينسحب النُسّاك من عالم البشر وينامون في الجبال في أغلب الأحيان. تنتشر الكروم الخضراء على قمم التلال، وتتردّد أصداء الجداول الصافية. كن راضيا ومرتاحا، هادئا وحرّا. تجنّب التدخّل في شئون الدنيا وحافظ على هدوء عقلك كاللوتس الأبيض. العالم مليء بالمنعطفات والتقلّبات، وعاجلاً أم آجلاً ستتخلّى عن جشعك في الحياة. متى سأتمكّن من الراحة بعد طحن كلّ الحجارة الموجودة في هذه الأرض؟
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كثير من الأحيان، يُفسَّر الفنّ بشكل أكثر شمولاً عندما يُنظر إليه كتصوير للظواهر الرياضية والعلمية في عالمنا المادّي. وقد شكّلت مطبوعات الفنّان السويسري موريتس إيشر الحجرية، التي تُصوّر اللانهائية والنسبية والأشياء المستحيلة، جزءا من الفن، وفي نفس الوقت تُدرّس في أقسام الرياضيات في معظم الجامعات.
    في الدراسات العلمية، تُحلّل أكثر الأحداث إثارةً وتُمثّل بأرقام ورسوم بيانية قاتمة ومجرّدة من كل عناصر الرهبة. وكما هو الحال في الفنّ، كذلك في العلم، حيث لا تُفهم الأعمال الفنيّة المذهلة للفنّان إيشر فهما كاملا إن لم يكن المرء على دراية بالنظريات التي تمثّلها كسياق بصري.
    أبدع إيشر أعمالاً فنيّة فريدة ورائعة تستكشف وتعرض مجموعة واسعة من الأفكار الرياضية. ولم تلقَ أعماله ما تستحقّه من اهتمام إلا في خمسينات القرن الماضي، حيث أقام أوّل معرض له ونشرت صحف مهمّة بعض أعماله واكتسب شهرة عالمية. وكان علماء الرياضيات من بين أشدّ معجبيه بعد أن لاحظوا في أعماله تصويرا رائعا للمبادئ الرياضية. ومن الغريب أنه لم يتلقَّ أي تدريب رسمي في الرياضيات.
    ولو تجوّلتَ اليوم في أقسام الرياضيات بالجامعات، فستجد صور ايشر في كلّ مكان. وستجدها حتى في الكتب الدراسية، لأنها تخاطب علماء الرياضيات خاصّة. ومن منظور اليوم، يفهم هؤلاء العلماء بشكل أوضح ما كان إيشر يرمي اليه في رسوماته، لدرجة أنه يمكن بالفعل كتابة صيَغ رياضية لبعض أعماله واستكشاف الأفكار الكامنة وراءها. والخلاصة هي أن علماء الرياضيات يدركون جمال مواضيعهم وإيشر يُظهر لنا، نحن جمهور المتلقّين، جمال تلك المواضيع.
    كان ايشر مفتونا أيضا بالمفارقات والأشكال "المستحيلة" والتقسيمات المنتظمة، أو ما تُسمّى بالفسيفساء. وقد بدأ هذا الاهتمام في منتصف الاربعينات عندما سافر إلى إسبانيا وشاهد أنماط البلاط المستخدم في قصر الحمراء. وأمضى هناك أيّاما طوالا في رسم تلك الأنماط التي وصفها لاحقا بأنها "أغنى مصدر إلهام استفدت منه على الإطلاق".
  • ❉ ❉ ❉

  • بعض الاقتباسات تُلهم وتحفّز وتثير التفكير والتأمّل. ويمكن لاقتباس أن يعبّر أحيانا عمّا لا تستطيعه كلمات وأحيانا صفحات. هنا مجموعة من العبارات والأقوال التي قرأتها في أوقات مختلفة وأعجبتني.
    ◦ إنه لأمر مرهق أن تتحمّل كلّ هذا العبء. تعلّم أن تفعل كلّ شيء بخفّة. نعم، اُشعر بخفّة حتى لو كنت تشعر بعمق. دع الأمور تحدث بخفّة، وتعامل معها بخفّة. كنتُ جادّا بشكل مبالغ فيه في تلك الأيّام، متزمّتا صغيرا بلا إحساس بالدعابة. إنها أفضل نصيحة أُسديت لي على الإطلاق. حتى عندما يتعلّق الأمر بالموت، لا شيء مرهق أو مثير للشفقة أو مؤكّد، لا بلاغة، لا ارتعاشات، لا شخصية واعية، وبالطبع لا لاهوت، لا ميتافيزيقيا، فقط حقيقة الموت وحقيقة النور الساطع.
    لذا تخلَّ عن أمتعتك وانطلق. هناك رمال متحرّكة من حولك، تسحبك من قدميك، تحاول جرَّك إلى الخوف والشفقة على الذات واليأس. لهذا السبب يجب أن تمشي هكذا بخفّة، بخفّة يا عزيزي، على أطراف الأصابع، بلا أمتعة، ولا حتى حقيبة إسفنجية، خالياً تماما من أيّ أعباء. ألدوس هكسلي
    ◦ السلام في النفس موجود في نفس المكان الذي تجد فيه الاضطراب والمعاناة. لا تجده في غابة أو على قمّة تلّ، ولا يمنحك إيّاه معلّم. حيثما تجد المعاناة، تجد أيضا الخلاص منها. ومحاولة الهروب منها هي في الواقع ركض نحوها. أجان تشاه
    ◦ لماذا يحتاج الناس إلى الخصوصية؟ ولماذا الخصوصية مهمّة؟ في الصين، يعيش كلّ أفراد العائلة معا، الأجداد والآباء والأبناء والبنات وأقاربهم أيضا. يتناولون الطعام معا ويتشاركون كلّ شيء ويتحدّثون في كلّ أمر. الخصوصية تجعل الناس يشعرون بالوحدة، كما أنها تشتّت العائلة. تشياولو غو

  • Credits
    mcescher.com
    poetryintranslation.com

    الثلاثاء، مايو 20، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • كان "وانغ وي" (699 - 761) شاعرا وموسيقيّا ورسّاما صينيّا. ويُعدّ من أبرز رجال الفنون والآداب في عصره. واشتهر بموهبته المزدوجة كشاعر طبيعة ورسّام مناظر طبيعية. وقد وصف أديب من عصره نتاجه بأنه "لوحات داخل قصائد". وعُرف بشكل خاص بأشعاره عن الجبال والجداول والأنهار وغابات الخيزران. والعديد من قصائده تصوّر مشاهد للماء والضباب مع حضور بشريّ ضئيل.
    في الأسطر التالية بعض مفردات وصور من عالم "وانغ وي" الشعري..
    ◦ كان الطقس هادئا وصافياً، لذا قرّرت التجوّل في سفح الجبل، استرحتُ في معبد قديم وتناولتُ العشاء مع بعض النُسّاك هناك. وبعد العشاء عدت إلى البيت مرّة أخرى. اتّجهت شمالا، وعبرت النهر الذي انعكس فوق مياهه ضوء القمر الصافي بحافّة مبهرة.
    ◦ عندما تقدّمَ الليل كثيرا، تسلّقتُ أحد التلال ورأيت نور القمر يعلو ويهبط بفعل أمواج النهر المتدافعة. وعلى الجبل البارد، كانت الأضواء تتلألأ من بعيد ثم تختفي. وفي ممرّ عميق خلف الغابة، نبح كلب في البرد ثم أطلق صرخة شرسة كذئب.
    ◦ كانت أصوات القرويين وهم يطحنون الذرة ليلاً تملأ الفجوات بين الرنّات البطيئة للجرس البعيد. أفكّر كثيرا في الأيّام الخوالي، كيف كنّا نسير يداً بيد، ونؤلّف القصائد أثناء مشينا في مسارات ملتوية على ضفاف الجداول الصافية.
    ◦ يجب أن ننتظر قدوم الربيع، حتى تنبت الأعشاب وتُزهِر الأشجار. وبعد ذلك، عندما نتجوّل معا في التلال، سنرى سمك السلمون المرقّط وهو يقفز بخفّة في الجدول، والنوارس البيضاء تفرد أجنحتها، والندى يتساقط على الطحلب الأخضر. وفي الصباح سنسمع صرخات الكروان في حقول الشعير.
    ◦ العديد من الرهبان مختبئون على هذا الجبل، يردّدون السوترا ويتأمّلون معا. والرجال على أسوار المدينة البعيدة ينظرون نحو القمم، ولا يرون إلا السحب البيضاء التي تحجب السماء. في منتصف حياتي، انغمستُ في فلسفة الطاو، ثم انتقلتُ للعيش عند سفح الجبل الجنوبي. وعندما أشعر بالسعادة، أسير وحدي بين التلال.
    ◦ متّكئاً لوحدي بين أشجار الخيزران، أعزف على القيثارة مردّدا أغنية بصوت خفيض جدّا، بحيث لا يستطيع أحد سماعه سوى رفيقي القمر الساطع. لا يوجد أثر لإنسان في هذا الجبل المنعزل، ومع ذلك تنتشر الأصوات الخافتة في الهواء.
    ◦ عندما أصل إلى منبع النهر، أجلس لأستريح وأراقب الضباب وهو يتصاعد. أعرف في أعماق قلبي ما هو خيّر وجميل. أحيانا أحتاج إلى حطّاب عتيق لنتحدّث ونضحك معا، فننسى أن وقت العودة إلى البيت قد حان! يوماً بعد يوم، لا يسعنا إلا أن نكبر. وعاما بعد عام، لا يملك الربيع إلا أن يبدو أصغر سنّاً. هيّا بنا نستمتع بكأس نبيذنا اليوم، ولا نكترث بالزهور المتساقطة!
  • ❉ ❉ ❉


  • قصّة معبّرة رواها أحد مستشاري بابا الفاتيكان الراحل فرانسيس. قال إنه بعد انتخابه بفترة وجيزة، زار البابا مجمّع الخطّاطين البابويين، الذين تتمثّل مهمّتهم في كتابة المراسيم والقرارات البابوية بخطّ اليد على ورق فاخر من الرقّ الأصلي. وبعض هؤلاء الفنّانين ينحدرون من عائلات عريقة عملت في هذه المهنة منذ ثلاثة أو أربعة أجيال. وهم فخورون بعملهم.
    وبعد أن شرح كبير الخطّاطين للبابا العملية الشاقّة لإنتاج أحد هذه الكنوز من الخطوط والتي سيوقّعها البابا بنفسه في النهاية، سأل فرانسيس ببراءة وبأسلوب غير دبلوماسي عن السبب الذي يمنع إنتاج هذه الوثائق باستخدام الحاسب الآلي والطابعة. ففي النهاية، سيوفّر ذلك الكثير من الوقت والجهد، بل وحتى المال.
    وأوضح الخطّاطون لفرانسيس أن كتابة هذه الوثائق بخطّ اليد وبكلّ الاحترام الواجب تضمن فرادتها وأصالتها. وتساءلوا لماذا قد يرغب الفاتيكان في التخلّي عن هذا الفنّ الخالد والتوقّف عن إبداع تلك التحف الرائعة من الخطّ؟
    وأجاب البابا بخجل: نقطة جيّدة".
    واحتفظ الخطّاطون بوظائفهم.
    تُظهر هذه الحكاية أن ما اعتُبر تصرّفا غير موفّق كان في الواقع صراحةً بريئة من جانب فرانسيس. فقد عبّر البابا السابق عن رأيه بوضوح، حتى عندما كانت عيناه هما اللتان تُعبّران عن كلّ شيء، وهو ما كان يحدث كثيرا.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • جورجيو دي تشيريكو رسّام إيطالي يُعتبر من روّاد الحركة الطليعية. اشتهر بلوحاته الميتافيزيقية التي أبدعها في مطلع القرن العشرين وبتوظيفه عناصر معمارية فيها. وعلى الرغم من انه يصعب أحيانا فهم لوحاته، إلا أنها تثير الحواسّ. وهو يعرّف الميتافيزيقيا بأنها لغز، أي أنها مجهولة وبعيدة عن العقل والمنطق. ومع ذلك، فهي تكشف عن شعور، وأصل هذا الشعور هو العمارة.
    واللوحات هي مزيج من العناصر المعمارية، كالشارع والساحة والمبنى والجدار. وهو يضع العمارة في صميم الميتافيزيقيا، لأن المعماريّ يُنشئ نظاما هندسيّا في الطبيعة وينعكس هذا في الفن. كان يعتقد أن الأشكال والأرقام المعمارية تُضفي معنى شعريّا على لوحاته. وهكذا، تصبح هذه العناصر في صوره أكثر وضوحا وأهمية.
    استلهم دي تشيريكو في أعماله العديد من الموارد، وأهمّها تجاربه وذكرياته الشخصية. ويمكن في بعضها رؤية آثار العمارة الإيطالية. وهو يستخدم أشكالا متكرّرة ويمارس ألعاب الظلّ ويضع منحوتات في ساحات تشبه تلك المنتشرة في مدن مثل تورينو وفلورنسا.
  • ❉ ❉ ❉

  • يتساءل الأديب الأمريكي "ري برادبيري" مؤلّف الرواية الخيالية "فهرنهايت 451" عمّن هو الكاتب. ويجيب: كثيرا ما أوجّه هذا السؤال للناس، وعادةً ما يجيبون: هو من نشرَ كتبا أو مقالات أو من يكسب عيشه من الكتابة". لكنّي لا أتّفق معهم. أعتقد أن من يكتب يوميّا وينظر إلى واقع الحياة من منظور الأدب والكلمات هو كاتب. وإذا سعى شخص ما بصدق إلى فهم جوهر المسألة واستخلاص الحقيقة من تعقيدات هذا العالم وتعقيداتنا نحن البشر من خلال الكتابة، فهو كاتب برأيي. المسألة تتعلّق بموقف وأسلوب حياة، وليس بكيفية دفع الفواتير أو توفّر موهبة استثنائية.
    ويضيف: إذا كنت تريد أن تكتب وأن تخلق، ينبغي أن تكون أنبل أحمق بعثه الله على الإطلاق. يجب عليك أن تكتب في كلّ يوم من أيّام حياتك، وأن تقرأ كتبا كثيرة، غبيّة ورائعة معا، ثم تتركها تتصارع داخل رأسك. ويجب أن تختفي في المكتبات وتتسلّق الرفوف كتسلّقك للسلالم، لتتنفّس رائحة الكتب كما تستنشق العطور وترتدي الكتب مثل القبّعات على رأسك. وهذا يعني في النهاية، أن تحبّ كلّ يوم طوال العشرين ألف يوم القادمة. ومن هذا الحبّ، تعيد بناء عالم جديد".

  • Credits
    fondazionedechirico.org/en
    raybradbury.com
    allpoetry.com

    الاثنين، أبريل 21، 2025

    شبَكة بينيلوبي


    في لوحة "بينيلوبي والخاطبون"، يصوّر الفنّان جون وليام ووترهاوس مشهدا داخليّا لمنزل في إيثيكا القديمة باليونان، حيث تجلس "بينيلوبي" زوجة أوديسيوس، مرتديةً ملابس حمراء أمام نولها. وتظهر معها خادمتان تساعدانها في نسجها، كلّ منهما ترتدي لباسا زاهي الألوان. وبينيلوبي تدير ظهرها لنافذتين مفتوحتين يطلّ منهما مجموعة من الرجال الذين يتنافسون على كسب ودّها للزواج منها. وأربعة من هؤلاء يقدّمون لها قيثارة وباقة زهور وصندوق مجوهرات وقلادة عنق.
    ترى ماذا يفعل المرء بعد غياب عشرين عاما عن موطنه وبيته؟ أوديسيوس، زوج بينيلوبي، قضى عشر سنوات مشاركا في حصار طروادة وعشرا أخرى في تجواله. هل يقضي ليلته الأولى بعد عودته في النوم مع زوجته أم في سرد قصّة رحلاته الطويلة عليها؟ طلبَ أوديسيوس مشورة الإلهة أثينا، فنصحته بكلا الأمرين ومنحته وقتا طويلا ولم تكن هناك ليلة كتلك من قبل.
    النظر إلى الحياة البشرية بعيني رجل يحاذر الوقوع في المخاطر أمر مأساوي. لكن النظر إلى الحياة بعيني آلهة جبل الأوليمب لا يخلو من لمسة فكاهية. ومن بين جميع الشعراء، استطاع هوميروس أن يرى الأمر من كلا الزاويتين.
    الأوديسّا قصّة مغامرة، وهي أيضا قصّة حقيقية وعميقة عن البشر وعلاقاتهم؛ العلاقة بين الابن وأمّه والابن وأبيه وبين الرجل وزوجته.. وهكذا. وكلّ هذه الروابط الإنسانية يتناولها هوميروس بتحليل مكثّف قلّما رأينا مثله منذ ثلاثة آلاف عام.
    هوميروس يدرك أن الفوز في أصعب المغامرات البشرية يتطلّب من الإنسان أن يخوض أعتى المعارك. وأثناء تلك المعارك، يسترخي الآلهة الخالدون في قمّة جبل الاوليمب على مقاعدهم الوثيرة، يشربون من كؤوسهم الذهبية، ويبتسمون لغرور وطموح هذه المخلوقات البشرية الصغيرة أسفل منهم، متأمّلين حبّهم وكرههم ورغباتهم ومخاوفهم.
    لعشرين سنة، وبينيلوبي زوجة أوديسيوس الوفيّة تنتظر عودته، راجيةً أن يكون ما يزال على قيد الحياة وأن تتاح لها رؤيته من جديد. لكن ما يزال على أوديسيوس أن يتصالح معها ومع أثينا. الإلهة تحبّه وتعتبره إنسانها المفضّل. ولحسن حظّ أوديسيوس، فإن حبّ أثينا له لا يخالطه غيرة أو كراهية.
    غاب أوديسيوس طويلا وعاد الى موطنه متنكّرا في زيّ رجل متسوّل رثّ الثياب، ليجد أن أكثر من مائة شخص قد استولوا على منزله وأخذوا يتنمّرون على زوجته، وكلّ منهم يخطبها لنفسه ويريدها أن تتزوّجه.
    وخلال فترة غيابه الطويل، بدأ الخاطبون يشكّون في أنه قد مات في طروادة أو أثناء عودته الى الوطن. وتحت ذريعة التودّد إلى بينيلوبي، اتخذوا مقرّ إقامتهم في منزل أوديسيوس وتنافسوا على طلب يد زوجته للزواج. وكانت ملزمة، بموجب قوانين الضيافة في أثينا، بإطعام هؤلاء الأوغاد وتسليتهم. كانوا يتسكّعون حولها ويأكلون في منزلها.
    وبدلا من رفضها لهم، وضعت بينيلوبي خطّة لتأخير قرارها، فزعمت أنها ستختار زوجا بعد أن تنتهي من نسج كفن لتقديمه إلى والد أوديسيوس. ولمدّة ثلاث سنوات، كانت تغزل الكفن نهارا ثم تنكث غزلها ليلا بانتظار عودة زوجها.
    كانت تلعب أمام الخاطبين الثقلاء دور العروس المحتملة والمطيعة، بينما ترسّخ نفسها سرّا في قصّتها الخاصّة. وهي في اللوحة تنحني فوق عملها، لا لتختبئ، بل لتُخفي سعيها للحفاظ على نفسها. كما أنها تدرك ما يحيط بها، لكنها تواصل خداعها المحفوف بالمخاطر. وعندما يعلم الخاطبون من إحدى خادماتها أنها تماطل وتخدعهم، يلحّون عليها باختيار زوج من بينهم على الفور.
    أوديسيوس، من ناحيته، احتاج إلى بعض الوقت ليضع خطّة تمكّنه من التغلّب على أولئك المتطفّلين دون أن يَلحق به أو بأهله أذى. ولو كشف عن هويّته لزوجته، لربّما حدثت عواقب غير متوقّعة، لذا أبقى بمكرٍ هويّته سرّا. كان أيضا يريد أن يتأكّد من أن بينيلوبي ما تزال تريده وأنها لا تخطّط للزواج من أحد أولئك الخاطبين المزعجين.
    نسجُ بينيلوبي كان هِبة من أثينا وكانت له معان متعدّدة في الأوديسّا. فمن ناحية، يمكن فهمه من منظور السرد الشعري للملحمة، لأن أيّ قصّة عظيمة هي في الواقع حكاية منسوجة بالكلمات كالخيوط. وكان نسجها رحلة عبر الزمن وحتى اللحظة التي يعود فيها أوديسيوس. وبتنقّلها ذهابا وإيابا على خيوط النول وفكّها تلك الخيوط نفسها كلّ ليلة، كانت تنسج طريقها إلى الأمام.


    كانت تسافر كلّ يوم على أصابعها متحدّية فكرة أن الحياة تحدث فقط في العالم الخارجي وأنه لا يحدث شيء ذو قيمة خارج أنشطة البشر الجماعية. الكثير من الأرواح العظيمة ازدهرت في زنزانة أو سجن أو ضاحية، لكن يجب أن تكون هناك رؤية لما يحدث وأفكار عميقة لخلق التجربة.
    ونسجُ بينيلوبي ونقضها الصبور يمثّلان مفارقة في رحلاتها. فإلغاء ما فعلته يعني العودة إلى الوراء والبدء من جديد. وفكّ الخيوط هو ما يُبقي القصّة مستمرّة لأنه يتطلّب غزل خيوط جديدة. كما أنه يمثّل استعارة لمواقف وعادات وأُطر ذهنية قديمة. وعمل بينيلوب على النول يعني السفر إلى أعماق الذات حيث تتلاقى الخيوط بطريقة تُشعل نور التجربة العميقة.
    وبينيلوبي تستخدم مهارتها في النسج لغايتين، الأولى إبعاد أولئك الخاطبين المزعجين والثانية خلق شيء ما: نسيج خاص لغرض محدّد؛ كفن مخصّص لقبر حماها. إنها تنسج الموت في الحياة، وبنقضها الكفن كلّ ليلة، فإنها أيضا وبطريقة ما، ترفض احتمال الموت. ووراء كلّ هذا أمل، ورفض بأن تتقبّل فكرة موت زوجها رغم غيابه الطويل.
    وكلّ كشف ليليّ للكفن يعكس حالتها النفسية، فهي ممزّقة بين الرجاء واليأس، لكنها لا تستسلم للهزيمة الكاملة. وبهذا التبديل بين الخيوط، خيطا تلو آخر، تعيد تأكيد ذاتها ووفائها باستمرار. في النهار، كانت تضيف إلى نسيجها بدقّة، وفي الليل، تُفكّ خيوطها، محافِظةً على توازن يجسّد ذكاءها وحكمتها. وهذا الاجتهاد والخداع الذكي يتماشى مع حبّ الإغريق للذكاء والمكر الشديدين.
    في هذه الملحمة الخالدة، تضع بينيلوبي خطّة ماكرة للبقاء على طبيعتها دون أن تنكسر، وفي نفس الوقت تبدع أسلوبها الخاص في سرد قصائد البطلات. وفي حين يُحتفى بأوديسيوس بسبب صراعه مع العالم، يجب الاحتفاء بالقوّة الهادئة لبينيلوبي التي تسخّر الفنّ كاحتجاج وتعلّم الآخرين درسا ثمينا في كيفية العيش بين واقعين والتمسّك بموقفها في حرب نفسية طويلة.
    كثيرا ما تثير الارتباطات الأنثوية بالزينة ونسج الأقمشة مخاوف من الأقنعة والحِيَل. كما أن ارتباط النساء بالقماش يستحضر ارتباطات النسيج كفنّ للخداع. وفي قصّة بينيلوبي، لم يكن النسج مجرّد هواية، بل كان أداة استراتيجية في سعيها نحو الاستقلالية والقوّة الداخلية. وبراعتها تشكّل أساسا للنقاشات حول القدرة على التأثير والمرونة والإيمان في مواجهة تحدّيات الحياة المتقلّبة وإثبات أن البطل الأضعف يمكن أن يقلب الموازين أحيانا دون أن يرفع سيفاً؛ فقط بكرة خيط.
    في لوحته، يحتفي ووترهاوس بـ بينيلوبي كرمز للإخلاص والبراعة. ولأن الفنّان رسم الصورة في انغلترا خلال الحرب العالمية الأولى، يمكن اعتبارها ذات صدى في سياق الحرب. فربّما تشير الى تحوّل الأدوار المنزلية مع إرسال الرجال إلى المعركة، وقد ترمز الى احتفاء الرسّام بصمود النساء ووفائهنّ على الجبهة الداخلية.
    بقيّة قصّة بينيلوبي معروفة، إذ يتصل أوديسيوس الماكر بأبيه العجوز وابنه تيليماكوس ويخطّطوون معا للانتقام من الخاطبين وينتصر أوديسيوس أخيرا عليهم بقتلهم. هل أخطأ أم أصاب في قراره بقتلهم؟ هذه مسألة نسبية وتعتمد على تفسير المرء للعدالة والأخلاق والقيم الثقافية السائدة في ذلك العصر.
    بحسب الأوديسّا، بعد أن يموت الخاطبون، وعند وصولهم إلى هيديز أو العالم السفلي، فإنهم لا يشتكون من أوديسيوس وسيفه العظيم، بل يشتكون من شبَكة بينيلوبي وخداعها لهم.

    Credits
    johnwilliamwaterhouse.net
    thearchetypaleye.com

    السبت، مارس 22، 2025

    قصّة من الإلياذة


    تروي ملحمة الإلياذة قصصا لآلهة وأنصاف آلهة يخوضون غمار المعارك جنبا إلى جنب مع أبطال من البشر. وبالنسبة لليونانيين القدماء، كانت الملحمة بمثابة الكتاب المقدّس عن الرجولة والشجاعة الذكورية.
    وبينما تصف الملحمة مشاهد الحرب وتدخّلات الآلهة التي تثبت أن القدَر قوّة لا مفرّ منها، فإنها تحتوي أيضا على دروس أخلاقية عميقة من خلال تناولها موضوعات مهمّة، مثل الشرف وتحقيق المجد وقبول المرء لمصيره أو قدَره وفهم التكاليف الرهيبة للحرب.
    وعلى الرغم من هذه السمات التي تميّز الإلياذة باعتبارها ملحمة أدبية ذات أبعاد إلهية، فإن قصيدة هوميروس هي أيضا قصّة إنسانية بعمق. ويصدق هذا الوصف خاصّة على قصّة هيكتور وأندروماشي المأساوية.
    كان هيكتور، أمير طروادة، أعظم بطل بين الطرواديين خلال الحرب التي استمرّت عقدا من الزمن مع اليونانيين. أما أندروماشي فكانت أميرة وزوجة لهيكتور. وكان لديهما ابن رضيع. ويصف بعض المؤرّخين أندروماشي بأنها كانت ذات عينين لامعتين وقوام طويل، متواضعة وحكيمة وعفيفة وساحرة.
    كانت هذه المرأة قد عانت من مآسٍ شخصية هائلة، حيث قُتل معظم أفراد عائلتها وأحبّائها على يد اليونانيين. وقُتل والدها وإخوانها السبعة على يد أخيل، المحارب الأكثر جسارةً في الجيش اليوناني.
    وكانت أندروماشي خائفة من أن يواجه زوجها هيكتور نفس المصير. لذا ناشدته الابتعاد عن ميدان القتال بكلمات أصبحت مشهورة لأثرها العاطفي الكبير: إن كنتَ مهتمّا حقّا بحمايتي وحماية طفلنا، فابقَ. خذنا إلى مكان آخر حيث يمكننا البقاء معا كعائلة. إن قلتَ وداعا الآن فستكون تلك النهاية، وأنت تعلم أنها كذلك".
    ثم تقول أندروماشي مخاطبةً هيكتور: إن اختيارك للموت المشرّف في الحرب هو اختيار أناني. ماذا تعتقد أنه سيحدث لنا حينها؟ هل تظنّ أن الذهاب إلى الحرب والموت سيعود علينا بأيّ فائدة؟ إن قرارك يعني المخاطرة بحياة ابنك واستعبادي مدى الحياة. لقد كان مستقبلي مرتبطا بك منذ البداية. ولم يكن أمامي خيار سوى خدمتك وتحقيق التوقّعات التي وُضعت على عاتقي، أي أن أصبح زوجة خاضعة تنجب لك ابناً وتخدمك. لذا من فضلك أشفق عليّ إذن وابقَ هنا كي لا تترك ابنك يتيما وامرأتك أرملة".
    لكن هيكتور الذي يدفعه شرفه وحبّه لزملائه من أبطال طروادة لمواصلة القتال يجيب: كلّ هذه الأشياء في ذهني أيضا. ومع ذلك فإنني سأشعر بالعار أمام الطرواديين لو انزويت جانبا وأحجمت عن القتال كأيّ جبان".
    وهيكتور، الذي يشعر بقلق كبير من المستقبل، يشارك أندروماشي مخاوفها من أن تسقط طروادة وتُساق هي كرقيق من قبل اليونانيين المنتصرين.


    الحديث بين هيكتور وأندروماشي ذو عمق عاطفي، ويسلّط الضوء على حبّهما العميق لبعضهما البعض. كما أنه يكشف عن نقاط القوّة والضعف الداخلية لكلّ منهما ويرسم صورة معقّدة لزوجين عالقين بين العاطفة الشخصية والحقائق القاسية للحرب. كما أن علاقتهما تعدّ تذكيرا مؤثّرا بالكلفة البشرية للصراع وبالقوّة الدائمة للحب.
    وتصوير هوميروس لهذا المشهد بين هيكتور وأندروماشي يحمل معنى عاطفيا أكبر، نظرا للمصير المأساوي الذي انتهيا إليه في ختام تلك الحرب. فقد قُتل هيكتور بالفعل على يد أخيل. وأندروماشي تتفاعل مع موت زوجها بحزن عفوي وشديد. ثم تقود نساء طروادة في طقوس الحداد والرثاء التقليدية. غير أن مصيرها هي لم يكن أقلّ مأساوية، وذلك بعد وقت قصير من مقتل زوجها.
    فقد حاولت أندروماشي إخفاء رضيعها في قبر والده هيكتور. لكن اكتشفه اليونانيون الذين كانوا يشعرون بالقلق من احتمال أن ينتقم لأبيه متى بلغ سنّ الرشد. ولتجنّب ذلك، يقرّرون قتل الرضيع بإلقائه من فوق أسوار طروادة. ثم تؤخذ أندروماشي أسيرةً إلى اليونان، حيث تُجبر على الزواج من الرجل الذي قتل ابنها وتنجب منه ثلاثة أطفال.
    وهذا الجزء من القصّة يعزّز الرسالة التي تدعو الى إعطاء صوت للطرف الذي لا يُسمع غالبا في الحروب، أي النساء؛ الطرف الذي يكره الحرب أكثر من غيره ويعاني حتى بعد الانتصار بسبب فقدان الأحبّة. كما يذكّرنا المشهد منذ البداية أن الحرب لها عواقب وخيمة بتدميرها الأسرة والحياة المدنية والسعادة التي لا تزدهر الا في أجواء السلام.
    هيكتور يجسّد الطبيعة المأساوية للقدَر. فهو يقاتل بشجاعة دفاعا عن مدينته، مدركا أنه مقدّر له أن يموت. وشجاعته وشعوره بالواجب يجبرانه على مواجهة موته الحتمي. وموت هيكتور يُعتبر لحظة محورية في الإلياذة تعزّز فكرة أن القدَر لا يمكن منعه، بغضّ النظر عن مدى شرف الفرد أو شجاعته.
    وعلى الرغم من البطولة التي يُظهرها هيكتور، فإن الإلياذة غالبا ما تتساءل عن الغرض النهائي من الحرب. وتشير دورة العنف والانتقام التي لا تنتهي في القصيدة إلى شعور بالعبث وفقدان الاتجاه. وموت هيكتور، ثم مصير أخيل الوشيك، ينقلان رسالة مفادها أن أيّ قدر من الشجاعة لا يمكن أن يبرّر المعاناة الهائلة التي تسبّبها الحرب.
    وخاتمة الملحمة، التي تصوّر جنازة هيكتور، تقدّم لحظة من التأمّل الذاتي والإنساني وسط المذبحة وتؤكّد على الطبيعة العابرة للسلام والرغبة الدائمة في المصالحة حتى في أعقاب الدمار والخسارة والموت.

    Credits
    study.com