:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كيتس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كيتس. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 29، 2015

أغاني جياكومو ليوباردي


يقال أن الأرواح القلقة لا يناسبها التأمّل، والأرواح الهادئة لا تنجذب نحو التعصّب، والأشخاص الحسّاسين والميّالين للفنون يجدون ضالّتهم في الطقوس الصوفية، والأشخاص العقلانيين والفلاسفة يجدون متعتهم في العصف الذهني أو العقلي.
ومع ذلك اعتقد أن الأشخاص المتأمّلين هم أكثر الناس عرضة للحزن والاكتئاب، ربّما لأنهم يفكّرون أكثر ويعملون أقل. وعلى رأس هؤلاء يأتي الفنّانون والشعراء على وجه الخصوص. لكنْ هناك طبعا أسباب مهمّة أخرى تستحقّ أن يُفرد لها موضوع مستقلّ.
من أشهر المتشائمين في تاريخ الأدب العالمي الشاعر الايطاليّ الكبير جياكومو ليوباردي (1798-1837) الذي ظلّ ولفترة طويلة يحتلّ مكانة رفيعة في تاريخ التشاؤم الأوربّي. نظرة ليوباردي العدمية إلى الوجود لا يمكن أن نجد لها مثيلا إلا عند فلاسفة من أمثال شوبنهاور ونيتشه اللذين كانا معجبين به.
منظور ليوباردي المتشائم والكئيب عن الحياة عبّر عنه في العديد من قصائده. في عام 1826 كتب يقول: كلّ شيء شرّ. أعني، كلّ شيء موجود لغاية شرّيرة. هذا الوجود معيب وشاذّ ومتوحّش. والشرّ هو الغاية والغرض النهائي من الكون. والشيء الوحيد الجيّد حقّا هو العدم".
وفي خريف العام 1821، ألّف قصيدة يحتفي فيها بزواج شقيقته الصغرى باولينا. وفي حقيقة الأمر كانت تلك القصيدة نشيدا جنائزيّا أكثر منها ترنيمة فرح على شرف العروس. وعلى الأرجح لم تكن أخته تتوقّع أن تسمع قصيدة ابتهاج من شقيقها الكئيب والحزين دائما.
لكن ليوباردي كان شاعرا يحترم الحقيقة كثيرا مهما كانت جارحة. وكان طوال حياته القصيرة يشعر انه لم يكن فقط محبوسا في منزل تحت سلطة أمّه المتعصّبة دينيّا ووالده العاجز، وإنما أيضا معزولا في المياه الخلفية المتهرّئة لـ ريكاناتي، وهي بلدة متواضعة لم يكن يحدث فيها شيء غير عاديّ.
والأسوأ من هذا كلّه أن وطنه الحبيب ايطاليا كان قد أصبح خرابة. كان الناس قد نسوا مجد روما القديم، بل وأصبحوا يحتقرونه. فأيّ مستقبل يمكن أن يحلم به طفل لأخته "في بلد مهزوم ومنكسر لا يجد فيه السعادة غير الجبناء"، بحسب ما كتبه ليوباردي في إحدى قصائده؟
الوجود نفسه بالنسبة للشاعر بدا مسموما. والأمل بتغيير الأحوال كان مجرّد وهم. لكن قلّة الأمل كانت لا تُحتمل. والطبيعة، مع كلّ جمالها، كانت متوحّشة ومستبدّة.
مثل هذه الأفكار المظلمة يبدو أنها شكّلت وعي وعقل ليوباردي منذ سنواته المبكّرة. كان عبقريّا عندما كان ما يزال طفلا. ففي العاشرة من عمره استوعب المناهج الأكاديمية، ثم علّم نفسه العبرية واليونانية لدرجة انه أصبح يصوغ قصائد على النمط القديم، ثم يقدّمها إلى معلّميه الذين كانوا يظنّون أنها أشعار أصلية. وقبل أن يكمل سنوات المراهقة كان قد استهلك معظم مكتبة عائلته.
الميزة الوحيدة لوالده هي انه كان جامع كتب، وكان يقرأ الأدب الكلاسيكي اليوناني والروماني وكذلك أعمال آباء الكنيسة.
وعند بلوغ ليوباردي سنّ الخامسة عشرة كان قد كتب تاريخا للفلك. وليس من المدهش، بالنظر إلى قراءاته المكثّفة، أن نظره بدأ يضعف. كما عانى من انحناء في عموده الفقري، وهو تشوّه وجد انه مُذلّ وجعل من الصعب عليه أن يقترب من النساء.
لكنه كثيرا ما كان يقع في الحبّ من مسافة. وقد أحبّ نساءً متزوّجات ظللن يجهلن حقيقة مشاعره. ومن ثمّ أصبح خبيرا بارعا في أكثر أشكال الحبّ عذابا وإحباطا. ولطالما غذّى خياله لسنوات صوت امرأة هنا أو نظرة عجلى من أخرى هناك.
وديوانه الموسوم "كانتي" أو الأغاني ، هو تحفته التي تتألّف من إحدى وأربعين قصيدة كتبها على مدى عشرين عاما. وأشهر قصائد الديوان هي "اللانهائية" والتي تحمل بصمته الخاصّة.


وقد لاحظ النقّاد أن معظم قصائد الشاعر تحدث ليلا على ضوء القمر الذي يذكره في كتاباته أكثر من خمسمائة مرّة. وظهور القمر يأتي إمّا على هيئة جرم سماويّ، أو كنظير للشاعر يقيم معه حوارا، أو كأنثى خالدة. "على النقيض من اللغة العربية، فإن القمر في اللغات اللاتينية مؤنّث والشمس مذكّر".
وقبل ليوباردي بقرنين، كتب باسكال الذي كثيرا ما يُقارَن بـ ليوباردي، يقول إن الصمت الأبدي لتلك الفراغات اللانهائية يرعبني". (يقصد البقع الرمادية التي تظهر على سطح القمر).
وليام بليك، هو الآخر، بحث وتأمّل الأمر كثيرا، ثمّ وجد أن صمت الأبدية كامن "وراء الصوت الرفيع لرياح التلال".
احد الجوانب الأدبيّة المهمّة في ليوباردي هو انه رفض الأساليب المنمّقة والصيغ الطنّانة في الشعر الايطالي. وهذا بلا شكّ كان جزءا من تميّزه العظيم، فمفرداته بسيطة، وهو يتجنّب الايهامات والاستعارات. كما انه دقيق وبارع في وضع الكلمات في مكانها وسياقها الصحيحين.
ومن عدّة وجوه، يمكن مقارنة حياة ليوباردي بحياة الشاعر جون كيتس. فالشاعر الإيطالي مولود عام 1798، بينما وُلد الشاعر الإنجليزي عام 1795. وقد عانى الأوّل من انحناء في العمود الفقري ربّما كان سبب وفاته مبكّرا وهو في سنّ الثامنة والثلاثين، بينما عانى كيتس من السلّ الذي قتله وهو بعدُ في سنّ السادسة والعشرين. والاثنان كانا قلقين باستمرار وكانا دائمي التنقّل بلا راحة من مكان لآخر.
لكن كيتس استخدم لغة تشبه أغنية العندليب، تسحر الموت وتحوّله إلى نشوة، إذ يقول: الآن أكثر من أيّ وقت مضى، يبدو من الجيّد أن أموت، أن أتوقّف عن الحياة عند منتصف الليل بلا ألم".
وعلى النقيض من كيتس، لا ينظر ليوباردي إلى الموت إلا باعتباره مجرّد فصل أخير في تعاسة بلا معنى، وهذا هو جوهر وجودنا على الأرض، كما يعكسه مضمون قصيدته "أغنية الراعي المتجوّل في آسيا".
بالإضافة إلى إعاقته، عاني ليوباردي من ضعف البصر ومن مرض عصبيّ غامض. احد أصدقائه الذي رآه في أيّامه الأخيرة لاحظ أن كلّ شيء كان يؤذيه: الرياح والضوء والهواء وكلّ أنواع الطعام، والراحة والحركة، والعمل والسكون.
وثمّة اعتقاد بأن إعاقة الشاعر منعته من إقامة أيّ نوع من العلاقات العاطفية، عدا عن بعض قصص الحبّ الفاشلة التي سجّلها في أشعاره. ومن الواضح انه مات دون أن يجرّب النساء.
في قصيدته "أغنية سافو الأخيرة"، يستذكر النموذج القديم عن "قبح الشاعر" لكي يعبّر عن إحساسه بالنبذ. وإذ يفعل هذا فإنما يتذكّر دانتي الذي كتب يقول إن أسوأ أشكال المعاناة أن تتذكّر الأوقات السعيدة أثناء إحساسك بالتعاسة. لكن بالنسبة لليوباردي، فإن تذكّر الأوقات التعيسة يُشعره بنوع من السعادة، على ما يبدو.
في نهايات حياته، أصبحت تأمّلات ليوباردي أكثر قتامة وحزنا. وإذا كان من عادة الشعراء أن يصفوا فترة الشباب بشروق الشمس، فإن ليوباردي، وخلافا لكلّ توقّع، يشبّهها بأفول القمر، وهذا هو عنوان إحدى آخر قصائده.
وحتى عندما كان الشاعر في ريعان شبابه، لم يكن هناك أيّ حضور لضوء الشمس في أشعاره، فقط تلك الظلال الشبحية المحبّبة التي يعكسها ضوء القمر.
في آخر قصيدة له، يشرح ليوباردي نظرته عن مصير الإنسان، فيشبّهه بالشجيرات الدبقة التي تبرز من بين الرماد البركاني حول جبل فيزوف. ثم يقارن سكّان بومبي الذين أبادهم البركان بمستعمرة من النمل سحقتهم تفّاحة ساقطة. الموت، بالنسبة للشاعر، لا ينهي الحياة فحسب، وإنما يلغيها.
عندما توفّي جياكومو ليوباردي عام 1837 كان قد أصبح يوُصف بأنه أعظم شعراء الحداثة في ايطاليا. النقش المكتوب على قبره خارج نابولي التي قضى فيه سنواته الأخيرة يصفه بأنه "احد ارفع الشعراء والفلاسفة ولا يمكن مقارنته سوى بكتّاب الإغريق الكبار".

Credits
poetryfoundation.org
newrepublic.com

الاثنين، يوليو 12، 2010

جماليّات الحزن


أحد الملامح القديمة في الفنّ الغربي هو تحويل الحزن والكآبة إلى فرح وطاقة للانطلاق والإبداع. والهيئة الأكثر شيوعا في الحالات التي تتناول موضوع الكآبة والحزن هي صورة إنسان، رجل أو امرأة، يضع يده على خدّه وهو مستغرق في التفكير والتأمّل الحزين.
الفلاسفة والأدباء منذ القدم ينظرون إلى الحزن على انه دعوة خلاقة للإنسان كي يرتفع فوق ذاته ويستغلّ إمكانياته. وهناك من يعتقد أن الحزن يجعل الشخص أكثر إنسانية وشفافية وأكثر إحساسا بإيقاعات الحياة المختلفة من فرح وترح ورجاء ويأس وحياة وموت.. إلى آخره. وهناك أيضا من يرى أن الإنسان لا يصبح مكتمل الإنسانية إلا من خلال المعاناة والحزن. الحزن يمكن أن يلهم الإنسان ويقوّي مخيّلته ويجعله أكثر ارتباطا بالعالم من حوله.
الشاعر البريطاني جون كيتس تحدّث كثيرا عن فائدة الألم. قال ذات مرّة: الحزن لا يمكن تجنّبه، وهو ليس ضعف إرادة ولا مرضا نفسيا بحاجة إلى علاج". كيتس اكتشف أيضا أن الحزن يلهم الأفكار العظيمة. "ما يجعلنا نحزن هو معرفتنا بأن كلّ شيء مصيره إلى زوال. لكن عندما نحسّ بدنوّ الموت فإننا ندرك كم هو جميل هذا العالم".
الموسيقي الألماني فريدريك هاندل كان يعاني في نهايات حياته من حالة من الحزن وذبول الصحة ووهن الجسد بعد أمجاده الموسيقية الكثيرة. وفجأة أحسّ بالنشاط والحيوية عندما كُلف بتأليف موسيقى المسيح التي أصبحت أعظم أعماله الموسيقية والتي ولدت من رحم الحزن والمعاناة.
الرسّامة الأمريكية جورجيا اوكيف كانت دائما تقاوم الإحساس بالكآبة والحزن. غير أن الحزن هو الذي أشعل روحها وجعلها ترسم أفضل لوحاتها عن الأشياء المظلمة في وهج الصحراء وتحت الغيوم الثقيلة والداكنة. تنظر إلى لوحاتها المشهورة فتحسّ بأن فيها شيئا غريبا يشبه صمت وقدسيّة العظام التي كانت ترسمها.
وهناك من يميّز بين الحزن والكآبة. الحزن قد يُشعِر الإنسان باليأس والإحباط. والكآبة نوع من الحزن لكنّه يخلو من التشاؤم واليأس. كما أن لا علاقة لها بالاكتئاب.
أرسطو ناقش الكآبة كثيرا عندما درس مشاكل الإبداع الفنّي. وفرويد قرنها بالنرجسية والهوَس. الكآبة فيها مساحة كبيرة للتأمّل. وهي تتعلق بالناس والأمكنة، من قبيل حبّ صديق أو الاشتياق لمكان ما قريب من نفوسنا أو مكان سبق وأن عشنا فيه وما زلنا نحتفظ له بذكريات عزيزة. الكآبة تتضمّن متعة وفيها حبّ وشوق وتطلّع. كما أن فيها نوستالجيا، لأنها تثير الحنين إلى الذكريات القديمة والأفكار والتخيّلات عن الفقد والغياب.
بعض مشاهد أفلام سكورسيزي وطبيعة الرسّام الألماني كاسبار ديفيد فريدريش وألحان شوبان فيها نوع من الحزن المتسامي الذي يخلو من اليأس أو الإحباط.
عندما تستمع إلى بعض مقطوعات شوبان تستطيع أن تلمس فيها حزنا ومعاناة. وغالبا ما تعبّر الموسيقى الحزينة عن نفسها من خلال الإيقاع البطيء الذي يثير حالة من التوق والاستبطان الحزين. وهو انفعال معقّد جدّا يستثير بدوره صراعا داخليا يستعصي على التوصيف البسيط.


مرأى الأطلال أو الآثار القديمة قد يستدعي، هو أيضا، في نفوسنا شعورا بالحزن والكآبة. ربّما يكون السبب هو حقيقة أن الأطلال تعبّر عن مرور الزمن وعدم ثبات وديمومة الحياة والإحساس بالعبور والتحوّل من مرحلة لأخرى وما يثيره ذلك في النفس من مخاوف وهواجس. وكلّ هذه الحالات تكون مصحوبة بإحساس قليل أو كثير بالكآبة. رؤية الآثار الدارسة والقديمة تستثير حالات من التفكير التأمّلي والوجداني ترافقها صور لأحداث وحيوات من العصور الماضية. الصروح المهدّمة والأبنية المهجورة كثيرا ما تثير خيالنا وتدفعنا لإعادة بناء قصص متخيّلة في أذهاننا عن شكل الحياة في الماضي وعن الارتباطات ما بين الآثار والأحداث التي ترويها. هنا أيضا نجد ظلالا من المشاعر السلبية والايجابية للنوستالجيا والحنين لأزمنة وأمكنة لم تعد موجودة سوى في الذهن بعد أن انتهى وزال وجودها الفيزيائي أو المادّي.
في لوحته بعنوان الحالم، يرسم كاسبار فريدريش شخصا جالسا في نافذة دير قوطي قديم، أو بالأصحّ في أطلال ما تبقّى من ذلك الدير. داخل الدير ألوان حمراء داكنة. لكن النور الذهبيّ الساطع يفيض من وسط الصورة ليملأ الفراغ. المشهد عبارة عن تأمّل صامت والتباين ما بين الضوء والعتمة يوحي بالوحدة. لكن بنفس الوقت ما يزال هناك ثمّة إحساس بالأمل وربّما التوق.
الكآبة التي يشعر بها الإنسان أثناء لقائه بالطبيعة ليست بالأمر الطارئ أو الجديد. تخيّل نفسك، مثلا، وأنت تمشي في طبيعة مقفرة. الأرض التي تمتدّ أمامك تبدو فارغة وفسيحة تلوّنها ظلال باهتة من الرمادي مقابل سماء بنّية. الهواء ساكن وخفيف. وإذ تجد نفسك متوحّدا مع إيقاعات الفراغ الهادئ الذي أمامك، قد ينتابك فجأة مزاج تأمّلي يستثير في نفسك ذكريات وأفكارا معيّنة من زمن بعيد. تشعر بشيء من المتعة عندما تتذكّر الأوقات الجميلة من الماضي. لكنها متعة يخالطها حزن وتوق غامض.
في منتصف القرن السادس عشر، كانت الكآبة ترتبط بالإنسان المتفوّق والناضج والقادر على المشاعر العميقة. الموسيقيّ البريطاني جون دولاند عاش في ذلك الوقت وكان معاصرا لـ شكسبير. وقد عُرف ببراعته في العزف على آلة العود "أو اللوت". تستمع إلى ألحانه اليوم فتحسّ فيها بقدر غير قليل من الحزن والحنين. ومثل شكسبير، فإن موسيقى دولاند ما تزال تتحدّث إلينا من وراء أربعمائة عام.
في ألمانيا، ارتبط الفنّ والأدب والفلسفة في العصر الرومانسي بالكآبة. وقد كتب عنها ايمانويل كانت قائلا: إن المشاعر المتسامية تثير المتعة والخوف معا".
البريخت ديورر، الفنّان الألماني، رسم لوحة بعنوان كآبة يظهر فيها رجل متعطّش للمعرفة وحريص على إثراء عقله. ثم لهذا السبب، يشعر بالغربة ويعيش معزولا ومنبوذا من بقيّة البشر. هذه اللوحة وجد فيها الكاتب الأمريكي دان براون ما أثار اهتمامه عندما أشار إليها في روايته الأخيرة الرمز المفقود.
الشاعر الألماني هاينريش هايني اخذ الفكرة واستخدمها في إحدى قصائده عندما كتب يقول: لا أعرف ما الذي يؤرّقني ويثقل على عقلي طوال اليوم".
العلماء يقولون إن الكآبة ليست شيئا سيّئا أو سلبيا وأن قوّتها الايجابية هي التي منحت القوّة والعبقرية للفنّانين والفلاسفة العظام.
الكآبة والحزن كانتا وما تزالان فكرتين رائجتين في الرسم. ومن أشهر من رسموهما في أعمالهم كلّ من لوسيان فرويد ورودان وفان غوخ وغويا ووليام بليك ودي تشيريكو وإدوارد هوبر وبيتر بريغل وإدفارد مونك وإدغار ديغا وغيرهم.

Credits
contempaesthetics.org
quod.lib.umich.edu

الجمعة، يونيو 18، 2010

أعمال فنّية قديمة برؤى جديدة

بعض الأعمال الفنّية العظيمة الموجودة في الناشيونال غاليري بـ لندن تتنفّس حياة ثانية من خلال بعض أعمال الفنّانين المعاصرين، من رسّامين ومصوّرين وشعراء وروائيين.
أليستير سمارت يتحدّث في المقال التالي عن اللوحات القديمة التي أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأعمال الفنّية والروائية والشعرية المعاصرة.

لا شيء في العالم أصعب من رسم بورتريه لامرأة. كان دومينيك آنغر يعتبر نفسه رسّاما للتاريخ. وقد تعذّب وتألّم كثيرا عندما تولّى مهمّة رسم مدام ماري مواتيسييه التي كانت زوجة لأحد تجّار السيغار الأثرياء.
كان آنغر واقعا تحت طغيان الجمال الرهيب لهذه المرأة. وقد لزمه عشر سنوات كاملة كي يتمّ رسمها. لكنّ النتيجة كانت تستحقّ كلّ ذلك الانتظار والعناء.
فقد أتقن الفنان رسم وجه المرأة المرمري وكتفيها العريضين وذراعيها وفستانها الحريري بتطريزه الغنيّ بألوانه المبهجة وزخارفه القشيبة.
غير أن الملمح الأكثر تميّزا في البورتريه هو الطريقة التي تلامس بها المرأة طرف وجهها بأصابعها التي تأخذ شكل سمكة نجمية. هناك أيضا الهيئة الكلاسيكية للمرأة وهي جالسة على الأريكة والتي تعطي انطباعا بالتواضع والاحتشام.
كان بيكاسو معجبا كثيرا بلوحة مدام مواتسييه. وقد أعاد ترجمتها في لوحته بعنوان امرأة مع كتاب. لكنه فعل هذا بطريقة مثيرة عندما تعمّد الكشف عن ثديي الموديل التي استخدمها في اللوحة وهي صديقته ماري تيريز والتر.
بيكاسو قلّد، ليس فقط يد المرأة التي تريحها على وجهها، وإنّما أيضا الجلسة الأنيقة والفستان الزهري وكذلك انعكاس صورتها الجانبية في المرآة. لكنّ المروحة التي تمسك بها السيّدة في لوحة آنغر أصبحت الآن كتابا. لوحة بيكاسو المشاغبة تحمل تأثير ماتيس القويّ. ومن خلال المنحنيات الحسّية التي أودعها بيكاسو في لوحته، نستنتج انه كان مغرما بـ ماري تيريز بقدر ما كان آنغر مغرما بـ ماري مواتيسييه.
لوحة بوتيشيللي المشهورة فينوس ومارس، أو الزهرة والمرّيخ، والموجودة الآن في الناشيونال غاليري، تبدو اقلّ ايروتيكية وإثارة. وفيها يرتاح الإله والإلهة الرومانيان في احد المروج بعد ممارسة الحبّ. لكن "فينوس" تبقى متيقّظة وحذرة، بينما يبدو "مارس" نائما وعاريا، وهو إيحاء بأن الحبّ ينتصر على كلّ شيء بما في ذلك الحرب. في اللوحة أيضا يظهر ملائكة صغار وهم يتلاعبون بخبث بخوذة الإله وسيفه في تأكيد واضح على أن "مارس" قد جُرّد من أسلحته. هذه اللوحة تُقرأ أحيانا كصورة مجازية عن هيمنة الفنون. لكنها أيضا ترمز للصراعات التي كانت تشهدها فلورنسا في القرن الخامس عشر.
المصوّر الأمريكي المعاصر ديفيد لاشابيل مشهور بلقطاته المتوهّجة والمشحونة جنسيا عن المشاهير. وقد كلّف العارضة نعومي كامبل بأن تمثل أمامه ليصوّرها كرمز لأفريقيا. وتظهر العارضة في الصورة التي اختار لها اسم اغتصاب أفريقيا وهي نصف عارية ومتّخذة هيئة فينوس في لوحة بوتيشيللي، بينما يجلس قبالتها رجل ابيض يمثّل العالم الغربي الضائع في سبات عميق والمحاط بالذهب. لاشابيل يقلب الصراع على السلطة عند بوتيشيللي رأسا على عقب. فالأنثى الجميلة تصبح مستعبَدة للرجل الأبيض الذي لا يهمّه سوى الاستحواذ على الذهب والذي اغتصب المرأة للتوّ. ومن الأمور المنذرة بالشؤم في صورة لاشابيل أن الملائكة الصغار المسالمين في "فينوس ومارس" أصبحوا الآن أطفالا مدجّجين بالسلاح.
ثنائي آخر مشهور من العشّاق الأسطوريين المعروضين في الناشيونال غاليري هما باخوس وأريادني اللذين رسمهما تيشيان. إله الخمر باخوس يقع في حبّ الأميرة أريادني من النظرة الأولى فيقفز من عربته المحمّلة بالنمور باتجاهها، بينما يدخل موكب من المحتفلين السكارى إلى الساحة خلفهما.
في الوقت الذي رأى الشاعر الانجليزي جون كيتس هذه اللوحة، كان يعاني من اعتلال الصحة وقلّة المال ومن حزنه على وفاة شقيقته. وكان وقتها قد بدأ يسرف في الشراب.
غير أن "باخوس وأريادني" يعود إليها الفضل، ولو جزئيا، في إلهام كيتس واحدة من أشهر قصائده، وهي تلك التي كتبها في العام 1819 بعنوان قصيدة إلى عندليب. أما مصدر الإلهام الأخر فكان البلبل الذي سمعه الشاعر يغنّي في حديقة إحدى الحانات. وقد كتب كيتس كيف انه يتوق للهرب من مشاكل الحياة الواقعية ويختفي في عالم من أصوات العصافير الجميلة. في البداية كان الشاعر يعتقد أن الكحول يمكن أن يوفّر له مهربا من ضغوط الحياة. غير انه أيقن بعد ذلك أن نشوة الشعر يمكن أن تأخذه إلى عالم أكثر رفعة وسموّاً. "سوف أطير إليك، لا على عربة باخوس ونموره، وإنّما على أجنحة الشعر الخفيّة". هكذا خاطب الشاعر العندليب، رافضا أن يُنقل على عربة إله النبيذ التي تجرّها النمور كما تصوّرها لوحة "باخوس وأريادني"، مفضّلا عليها الأجنحة المجازية للشعر.
هناك أيضا رواية دان براون المثيرة شيفرة دافنشي. موضوع الرواية يعود إلى العام 1480، عندما كُلّف ليوناردو دافنشي برسم لوحة تزيّن إحدى الكنائس في ميلانو. وقد اختار الرسّام عذراء الصخور كي يكون اسما للوحة. ورسم منها نسختين متطابقتين تقريبا، الأولى موجود اليوم في اللوفر والثانية في الناشيونال غاليري في لندن. وفي كلا اللوحتين تظهر العذراء والملاك اورييل والطفلان يسوع ويوحنّا المعمدان. الفرق الوحيد بين اللوحتين انه في الأولى تبدو اورييل وهي تشير بإصبعها باتجاه شيء ما مجهول.
وطبقا لـ براون، لم يكن مجمّع الإخوة في ميلانو راضين عن اللوحة الأولى لأن ليوناردو بدا وكأنه يحاول إيصال رسالة تخريبية وخفيّة مفادها أن الكنيسة غطّت طوال قرون على حقيقة أن مريم المجدلية كانت أمّا لطفل المسيح وأن سلالته استمرّت من بعده على مرّ العصور. يقول براون أن دافنشي طُلب منه أن يرسم نسخة ثانية من "عذراء الصخور" شريطة أن تكون أكثر انسجاما مع الرواية الشائعة والمألوفة عن الموضوع.
من أهم الأعمال الفنّية التي يضمّها الناشيونال غاليري لوحة الرسّام الفرنسي جورج سورا بعنوان مستحمّون في آنيير. عندما ظهرت هذه اللوحة عام 1884 قوبلت بالشكّ وامتنع صالون باريس عن قبولها في حينه. وهي تصوّر مجموعة مجهولة من الشباب يمضون وقتهم على الضفاف العشبية لنهر السين، بينما يبدو كلّ منهم منشغلا بعالمه الخاصّ وغافلا عمّن حوله.
جورج سورا رسم أكثر من 24 اسكتشا تحضيريا لهذه اللوحة. وقد عمل طويلا عليها وبذل لأجل ذلك جهدا شاقّا. والمفارقة أن اللوحة ألهمت هنري كارتييه بريسون صورته الفوتوغرافية المشهورة يوم أحد على ضفاف نهر المارن، والتي يظهر فيها أربعة رجال ونساء فرنسيين وهم يتجاذبون أطراف الحديث على ضفّة النهر.
كان كارتييه بريسون سيّد اللقطات اللحظية وكان يهتمّ بالبحث عن مواضيع مثيرة لصوَره. ولا بدّ وأن لوحة سورا كانت ماثلة في عقله بطريقة غامضة عندما التقط صورته المشهورة.


Credits
en.wikipedia.org

الأربعاء، يونيو 02، 2010

الليدي ليليث


تقرأ أحيانا بعض الأساطير والقصص القديمة فتكتشف أن من ألّفها ونسج تفاصيلها لا بدّ وأن يكون رجلا! أسطورة ليليث هي نموذج للقصص التي ظهرت ورُوّج لها بغرض تأكيد سلطة الرجل ومن ثمّ تهميش دور ومكانة المرأة. وقد أقيمت الأسطورة على أساس ديني كي تُعطى شيئا من الحجّية والمصداقية. تقول الأسطورة إن زوجة آدم الأولى لم تكن حوّاء بل امرأة أخرى تُدعى ليليث. لكن عندما تمرّدت ليليث على آدم وتخلّت عنه خلق الله حوّاء. سبب النزاع بين آدم وليليث لا يخلو من طرافة. إذ تذكر القصّة أن الخلاف دبّ بين الزوجين عندما أصرّ آدم على أن تنام ليليث تحته أثناء المعاشرة الزوجية. لكن لأن ليليث كانت تعتبر نفسها مساوية لآدم، فقد رفضت أوامره فحلّ عليها غضب الربّ وتحوّلت إلى شيطان! ويقال إنها طُردت بعد ذلك من الجنّة ووجدت نفسها أخيرا على الأرض قرب شاطئ احد البحار.
رسم أسطورة ليليث فنّانون كثر من بينهم مايكل انجيلو وجون كوليير، بالإضافة إلى دانتي غابرييل روزيتي الذي صوّر الأسطورة من منظور مختلف وخلع عليها مضمونا معاصرا.
في العام 1868 رسم دانتي غابرييل روزيتي لوحته "الليدي ليليث"، وهي صورة كان يتوقّع أن تصبح أفضل أعماله. وقد ركّز في اللوحة على مظاهر الزينة وعلى مكان الشخصية المحورية التي رسمها في مكان حميم يشبه المخدع.
ورغم أن اللوحة تصوّر "ليليث"، إلا أن من المثير للاهتمام أن نلاحظ انه اختار لها عنوان "الليدي ليليث" كي يدفع الناظر منذ البداية إلى التركيز على حسّية وأنوثة المرأة.
الليدي ليليث هي واحدة من "صور المرآة" العديدة التي رسمها روزيتي في تلك الفترة. وكلّ تلك الصور تركّز على شخصية الأنثى المستغرقة في تأمّل جمالها الخاصّ.
هذه الصورة كانت مقدّمة لسلسلة أخرى من اللوحات التي رسمها الفنان في ما بعد لإناث نرجسيات وذوات جمال قاتل. وقد لاحظ بعض المؤرّخين انه يندر أن تجد فنّانا في ذلك الوقت لم يرسم امرأة جالسة أو واقفة أمام مرآة. ورغم شيوع هذه الفكرة آنذاك، إلا أن الليدي ليليث هي التي ظلّت تمثّل النموذج الأوّل لهذه السلسلة.
إن نظرة سريعة إلى خلفية اللوحة قد تعطي انطباعا واهماً بأن المرأة تجلس في مكان ما من مخدعها. ورغم وجود مرآة وأشياء أخرى في الخلفية، إلا أن "الغرفة" تمتلئ أيضا بالأزهار، والأزهار البيضاء خاصّة التي ترمز للعاطفة الخالصة. وهي تنتشر في أعلى يمين اللوحة وبمحاذاة شعر المرأة. أزهار الخشخاش، رمز الموت، هي أيضا حاضرة. الفراغ واقعي وميثولوجي في الوقت نفسه. هذا الفراغ في الخلفية يوضّح المعنى المزدوج الذي تحدّث عنه روزيتي في قصيدته التي أرفقها باللوحة.
في هذه اللوحة، ثمّة شيء آخر غامض يتمثّل في المرآة السحرية إلى أعلى اليسار. المرآة تظهر انعكاس الشمعتين اللتين أمامها، ما يشير إلى أنها بالفعل مرآة حقيقية وليست نافذة تطلّ على عالم آخر. غير أن معظم الانعكاسات في المرآة تكشف عن منظر طبيعي لغابة ساحرة.
المرأة في هذه اللوحة أراد الرسّام أن يقدّمها باعتبارها تجسيدا للجمال الجسدي. احد النقاد يصفها بقوله: هنا امرأة جميلة مرسومة بطريقة رائعة. إنها تتكئ على أريكة وتمشط شعرها الأشقر الطويل بينما تتأمّل ملامح وجهها المنعكسة في المرآة التي في يدها. كما أنها محاطة بالأزهار وترتدي لباسا فضفاضا يكشف عن نحرها وكتفيها. إن رسّاما لم يتمكّن من الإمساك بجمال وسحر الجسد بمثل ما فعل روزيتي ".
الأمر الأكثر إثارة من الناحية البصرية في هذه اللوحة هو ملابس ليليث. الملابس تبدو وكأنها على وشك أن تُخلع. وجسد المرأة يستطيع بالكاد أن يبقى داخل نطاق لباسها. هنا يدعو الرسّام الناظر لأن يقرأ ليليث باعتبارها رمزا للجمال والشهوة.


قد يبدو مستغربا أن المؤرّخين والنقّاد عندما يشيرون إلى روزيتي باعتباره أوّل من احدث تحوّلا في صورة ليليث، فهم غالبا يستخدمون هذه الصورة كدليل. وبالنسبة لـ روزيتي ، فإن ليليث ليست شيطانا شرّيرا كما تصوّرها الروايات الإنجيلية، بل هي في النهاية امرأة تجمع بين الحبّ الدنيوي والإلهي.
روزيتي نفسه كان يؤمن أن هذه الصورة مختلفة عن الصور المبكّرة لـ ليليث. وكان يدرك بأن هذه الصورة تمثّل ليليث الحديثة التي تختلف عن تلك التي تذكرها الأساطير والروايات الدينية.
ومن خلال تأمّل المرأة في ذاتها، بالنظر في المرآة، أراد الفنان إخراج ليليث من الماضي وإدخالها في سياق ظروف القرن التاسع عشر. فهي موجودة بالفعل في مخادع وغرف نوم الطبقة الرفيعة في العصر الفيكتوري. كما أن تأثيرها على العقل الذكوري في القرن التاسع عشر لا يقلّ عن تأثيرها على عقل الرجل في العصور القديمة.
احد العناصر الأساسية في هذه اللوحة يتمثّل في جمال ليليث المغري والذي يعمقّه شعرها الجميل بما ينطوي عليه من مضامين ايروتيكية. هذه السمة بالذات تلعب دورا أساسيا في الصورة. والتركيز على الشَعر يعيد إلى الذهن الصور المبكّرة عن ليليث، بما فيها صور الشَعر عند غوته الذي كان له تأثير قويّ على روزيتي .
الصور المجازية المرتبطة بشََعر المرأة كانت رائجة دائما، خاصّة في العصر الفيكتوري. تقول اليزابيث غيتر: كلّما كان الشَعر وفيرا، كلّما كان أكثر قدرة على الاستثارة الجنسية. كما أن التقاليد الأدبية والتحليل النفسي يتفقان على أن وفرة وغزارة الشَعر هي مؤشّر على الجاذبية الجنسية وحتى على الانحلال والفسوق".
الطريقة التي تفرد بها ليليث شعرها، متظاهرة أنها تمشطه، هي بمثابة استعراض جنسي صريح على ورقة الرسم. هذا هو الانطباع الأوّل والأخير الذي يتكوّن لدى المتفرّج وهو ينظر إلى اللوحة.
تأثير غوته على هذه اللوحة مباشر وواضح. يقول على لسان فاوست: ليليث، الزوجة الأولى للرجل الأوّل، زوجة آدم الأولى. فلتحذر من شعرها الطويل البرّاق، لقد سحرت شبّانا كثيرين، ابتسامة النصر ترتسم على وجهها، لكن الويل لمن ينتهي في أحضانها".
صرخة التحذير هذه واضحة في لوحة روزيتي. فـ ليليث الجميلة لا يبدو وكأنها تدعو المتلقّي للنظر إليها. نظرتها لا تتجاوز نظرة الرضا عن الذات.
تقول جين اوشر في كتابها فانتازيا الأنوثة: تقف الليدي ليليث كمثال كلاسيكي على التصوير الفنّي لهذه المرأة العاطفية المخيفة. إنها لوحة لامرأة جميلة ومتعجرفة، يدها تلاعب شعرها الطويل الفاخر، بينما تحدّق بلا ابتسام في صورتها المنعكسة في المرآة. ليليث تبدو منشغلة وراضية عن نفسها وليس عن أيّ رجل متلصّص. إنها مثيرة ومغرية. والأخطر من ذلك أنها تعطي مظهرا زائفا للمرأة المذعنة التي يسهل خداعها. الخوف من المرأة واشتهاؤها بنفس الوقت يتجسّد في لوحة واحدة. إنها مثيرة وأنانية بنفس الوقت، تنظر إلى نفسها برضا، كرمز لرفضها للرجل".
المقطع السابق يشير إلى دور روزيتي في فتح الشخصية الأسطورية لـ ليليث على التفسيرات الأنثوية. الشاعر الانجليزي كيتس يشير، هو أيضا، إلى أن ليليث جميلة، لكن دون عاطفة أو حنان تجاه الآخرين. إنها لا ترفض الرجل فحسب، وإنما ترفض أيضا دورها كزوجة وترفض الدور الذي يُعطى للمرأة غالبا ككائن جنسي يسهل قياده وتوجيهه.
ليليث الجميلة والمحدّقة في نفسها في المرأة تثير رغبة الرجال لكنها تهدّدهم بقوّتها. جمالها من النوع العنيد الذي لا يقاوَم ولا يمكن بلوغه. ما من رجل يستطيع دخول عالمها عنوةً. وكلّ من يحاول، سينتهي به الأمر لا محالة إما إلى الأسر أو الإخصاء أو الموت.
والذين يقرءون دانتي غابرييل روزيتي شاعرا، سيلاحظون أن قصّة هذه المرأة القويّة والمتسلّطة كانت موضوعا لقصيدته التي كتبها لتصاحب هذه اللوحة.

Credits
rossettiarchive.org
themystica.com

الثلاثاء، ديسمبر 01، 2009

مناظر من أركاديا


استوحى نيكولا بُوسان لوحاته عن أركاديا من الأدب الكلاسيكي وأودع فيها صورا لجمال مثالي وخالد يظهر فيه الشخوص بهيئات نبيلة وبملامح تشبه شكل التماثيل القديمة. وعندما تتأمّل صوره عن الطبيعة الرعوية، سرعان ما تكتشف سحرها وقوّتها التعبيرية الكبيرة والمزاج الشعري والحالم الذي تصوّره.
ويُعزى الفضل لـ بُوسان في إضفاء مسحة كلاسيكية على الرسم في فرنسا. ومن أجل تلك الغاية، ذهب إلى روما وأقام فيها سنوات طوالا. هناك، وضع رسم الباروك في قلب العالم القديم. لكنه اظهر الجانب المظلم من أركاديا عندما شكّك في التصوّرات القديمة عن بساطة الحياة الرعوية والريفية في اليونان القديمة. كان يرى العالم القديم عالما متخيّلا وكان ينظر إلى أركاديا كمكان ساذج أكثر من كونه مكانا مثاليّا.
الطبيعة كانت وسيلة بُوسان المفضّلة للتعبير عن أفكاره وقناعاته. وكان يرسمها ليؤكّد على إحساسه بالمكان. وتكثر في صوره مشاهد الرعاة والبحيرات والجبال والأشجار والأوراق التي تذرها الرياح. وفي لوحاته، كلّ عنصر له وظيفة. حتى الظلال لها شخصيّتها المستقلّة داخل البناء العام للوحة. كما أن كلّ شيء يبدو في حالة حركة. فالطبيعة عند الرسّام هي تعبير عن حركة الإنسان وعن عقله الواعي. والغابات في بعض لوحاته تخلو من الطيور والحيوانات ما لم يكن لها دور تلعبه في حياة الإنسان.
وتُظهر بعض صوره جبالا عظيمة يجلس فوقها أو حولها أشخاص يعزفون الناي ويُخيّل لمن يراهم أنهم هناك منذ آلاف السنين. حتى الأشياء الساكنة والمملّة لها لغتها الخاصّة في لوحاته. فالأفاعي لها ذكاء الإنسان، والأشجار تنمو وتمدّ أوراقها وأغصانها في الجوّ مسرورةً بالمطر وفخورة بالشمس. والكثير من الرسّامين الذين أتوا بعده حاولوا اقتباس بعض رؤاه الشاعرية عن الريف الايطالي وضمّنوها في أعمالهم. لوحته الطوفان يعتبرها بعض النقّاد من أفضل اللوحات في العالم التي تصوّر طبيعة تاريخية. فكلّ شيء في هذه اللوحة مرسوم في مكانه المحدّد بعناية وبطريقة متناغمة مع بقيّة العناصر.
وفي صوره إجمالا سمة أخرى لا نراها عند غيره، تتمثّل في هذه المزاوجة المتوتّرة والغريبة بين السماوات الزرقاء والعواصف، بين الحبّ الحميم والموت العنيف. ومشاهده عن العواصف لا تصوّر فقط غضب الطبيعة، بل يمكن اعتبارها تأمّلات فلسفية عن جوانب الحياة التي يصعب التنبّؤ بها. النحّات الايطالي المشهور جيان لورنزو بيرنيني رأى بعض لوحات بُوسان وشبّه تأثيرها بالخطبة العظيمة التي يستمع إليها المرء باهتمام ثم يبتعد عنها في صمت بينما لا يزال مستمتعا بصدى تأثيرها داخل نفسه.
استلهم بُوسان لوحاته عن طبيعة أركاديا من أشعار أوفيد وفرجيل ومن رحلاته العديدة في ريف روما. في ذلك الوقت، كان كتاب التحوّلات لـ أوفيد احد أشهر الكتب وأكثرها رواجا في أوربّا. وهو يتضمّن قصصا عن حبّ الآلهة وعن تَحوّل البشر إلى نباتات وحيوانات. وكثيرا ما تُفسّر نصوص أوفيد على أنها استعارات مجازية عن دورات الطبيعة. وهذا النوع من القصص هو الأساس الشعري الذي أقام عليه بُوسان فنّه.


في بعض مناظر الرسّام، تبدو السماء مظلمة والموت متربّصا في كلّ مكان. الموت الذي يكتشفه الرعاة على شاهد قبر كما لو أنهم لم يسمعوا به من قبل. حتى الأساطير التي كان يقدّسها الفنّان تنتهي بالموت دائما. لوحته المسمّاة "طبيعة مع رجل قتلته أفعى" أصبحت موضوعا لكتاب ألّفه ناقد يُدعى تيموثي كلارك بعنوان "مشهد الموت"، استعرض فيه جماليات اللوحة والاستعارات المضمّنة فيها. ويقال إن بُوسان استوحى موضوع هذه اللوحة من مكان موبوء بالأفاعي والحيّات السامّة في منطقة بجنوب شرق روما. والصورة عبارة عن دراسة عن الخوف الذي يثيره مرأى جثّة إنسان ميّت، كما أنها تصوّر، بمعنى ما، انتصار الطبيعة على الإنسان.
رسومات بُوسان عن الطبيعة تدلّ على قوّة ملاحظته. وهي تشبه نهرا من الأفكار الجميلة التي تمرّ عبر العقل وتستثير الفكر لمحاولة فهمها وحلّ رموزها. كان يؤمن بأن البشر والطبيعة شيء واحد، لأن كلّ منظر طبيعي يحمل دلالة إنسانية. وقد عُرف بمقدرته الكبيرة على أن يخلق لكلّ لوحة جوّاً ومزاجا خاصّا. ولا بدّ وأنه استفاد كثيرا من براعته في استخدام اللون والظل والشكل. ولا يبدو أن هناك من ينافسه في استخدام الضوء الذهبي في لوحته "إلهام شاعر" التي أرادها أن تكون تخليدا لذكرى شاعر راحل، ولا في رسمه الأخّاذ لإحدى الحوريّات وهي تعصر العنب من يدها لتتساقط قطراته في فم ملاك صغير أسفل منها.
في لوحته "طبيعة يشوبها الهدوء"، نرى منظرا آخر من أركاديا: ريف ومياه صافية وأغنام ترعى. الظلّ يتحرّك من الأشجار باتجاه البحيرة المنعكسة على مائها الساكن صور المباني في الخلفية. حتّى في أركاديا يمرّ الوقت سريعا والنهار يتلوه ليل والليل يعقبه نهار. مزاج اللوحة ناعم، مع أن فيها لمسة حزن خفيفة.
يمكن القول إن مناظر بُوسان هي نوع من الاحتفال بالحياة والحبّ والشعر. كان يطلب من جمهوره دائما أن يقرأ اللوحة كما يقرأ القصيدة. وذات يوم، رآه أحد أصدقائه وهو يتجوّل على ضفاف نهر التيبر ويرسم المناظر الطبيعية التي كان يحبّها. ونظر إلى منديله فرآه مملوءا بالحجارة الصغيرة وبالأزهار التي كان يأخذها معه إلى البيت ليتأمّلها ويرسمها.
في لوحة أخرى، يرسم الفنّان زواج اورفيوس ويوريديسي. المكان بقعة أخرى من أركاديا. ملابس الأشخاص جميلة وزاهية. غير أن المبنى الظاهر في خلفية الصورة يبدو حديثا ومألوفا. وهو معلم من معالم روما كان قائما زمن الرسّام. ويظهر في اللوحة وهو ينفث الدخان ويبدو كما لو انه يطير في الهواء. الفكرة هنا هي أن هذه المدينة خالدة. لكن حتّى الأشياء الخالدة نفسها لا تدوم إلى الأبد ومصيرها في النهاية إلى زوال.
في بداياته، رسم بُوسان لوحات يظهر فيها الأشخاص في حالة من التوق والتطلّع، وأحيانا التأمّل الصامت أو الحزين. غير انه في أواخر حياته رسم مشاهد مظلمة يصعب فهمها أو تفسيرها. حتّى النقاد لم يستطيعوا فكّ شيفرتها مع أنها جميلة وتروق للعين. وبعض المؤرّخين رأوا فيها انعكاسا لإحساس الرسّام بكراهية الشرور التي كان يراها على الأرض. ورسائله في تلك المرحلة تمتلئ بالتعليقات المريرة والغاضبة وهو يرى الاضطرابات السياسية تعمّ أوربا ولا توفّر حتّى بلده الأصلي فرنسا.
يقول في إحدى تلك الرسائل: هجرَ الناس الفضيلة والضمير والدين. ولا وجود الآن سوى للخداع والرذيلة والمصالح الخاصّة. لقد ضاع كلّ شيء وفقدتُ الأمل في وجود الربّ. فالشرّ كامن في كلّ مكان وفي كلّ شيء". كان بوسان يرسم الأفكار، لذا قيل انه أكثر الرسّامين شاعرية. كما كان يؤمن بأفكار الفلسفة الرواقية التي تدعو إلى كبت الأهواء والانفعالات العاطفية وإخضاع الرغبات لحكم العقل. كما عُرف عنه حبّه للعمارة، خاصّة عندما تكون في حالة خرائب وأنقاض. ولم يكن مستغربا أن يتأثّر به الرومانسيون وفي مقدّمتهم الشاعر الانجليزي جون كيتس الذي كان يعتبره رسّامه المفضّل.

Credits
metmuseum.org
archive.org