:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 17، 2025

قراءات


  • في داخلنا، حتى أكثرنا مرحا وبهجة، داء أصيل؛ نار لا تنطفئ تجعل الغالبية العظمى منّا عاجزين عن بلوغ السلام التام في هذه الحياة. إنه "التوق" المتجذّر في نخاع عظامنا وفي أعماق أرواحنا. وكلّ الأدبيات العظيمة والشعر والفنّ والفلسفة وعلم النفس والدين تحاول تسمية هذا التوق وتحليله.
    ونادرا ما نكون على تماسٍّ مباشر معه، بل يبدو أن العالم الحديث مصمّم على منعنا من التواصل معه بتغطيته بوهم لا ينتهي من التسلية والهواجس والإدمان ومشتّتات الانتباه من كلّ نوع. لكن التوق موجود ومتأصّل فينا كرغبة تضغط من أجل أن تتحرّر. وتوحي لوحتان فنّيتان عظيمتان بهذا التوق في عنوانيهما: لوحة غوغان "من نحن؟ من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟" ولوحة دي تشيريكو "حنين إلى اللانهائي". وسواءً أدركتَ ذلك أم لا، فإن مجرّد كونك إنسانا يعني التوق إلى التحرّر من الوجود الدنيوي بجدرانه وقيوده. هيوستن سميث
  • ❉ ❉ ❉

  • سكّان أمريكا الأصليون، الذين أُعجب هنري ثورو بحكمتهم، يعتبرون الأرض مصدرا مقدّسا للطاقة. وبالنسبة لهم، التمدّد على الأرض يجلب الراحة والجلوس عليها يضمن حكمة أكبر في المجالس والمشي على جاذبيتها يمنح القوّة والتحمّل. والأرض مصدر لا ينضب من القوّة، فهي الأمّ الأصلية المُغذِّية، لأنها تضمّ في حضنها جميع الأسلاف الراحلين. وهكذا، بدلا من مدّ أيديهم نحو السماء طالبين رحمة الآلهة السماوية، يفضّل الهنود الحمر المشي حفاةَ على الأرض.
    كان شعب لاكوتا متعريّا حقيقيّا وعاشقا للطبيعة على الدوام، يحبّ الأرض وكلّ ما فيها، ويزداد تعلّقه بها مع التقدّم في العمر. وقد أحبّ كبار السنّ التراب حرفيّا، فبجلوسهم أو استلقائهم على الأرض يشعرون بقربهم من قوّة الأمومة. وكانوا يحبّون خلع أحذيتهم والمشي حفاةً بأقدامهم على الأرض المقدّسة. وقد بُنيت خيامهم على الأرض، وصُنعت مذابحهم من التراب. وكان لتراب الأرض عندهم خصائص مهدّئة ومقوّية ومطهّرة وشفائية.
    ولا يزال الهنديّ العجوز يجلس على الأرض مباشرة بدلا من الارتفاع فوقها. فالجلوس على الأرض يعني القدرة على التفكير بعمق أكبر والشعور أكثر بأسرار الحياة والاقتراب من الحيوانات الأخرى من حوله. والمشي، بفضل دعم الأرض والشعور بجاذبيتها وملامستها مع كلّ خطوة، هو بحدّ ذاته تفريغ للمشاعر الضارّة وجلب للطاقة الإيجابية. فريدريك غروس
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • "حرب نهاية العالم" هي روايتي التي بذلت فيها أكبر جهد ممكن وكرّست لها كلّ وقتي. وقد استغرقت كتابتها أربع سنوات. واضطررت لإجراء بحث مكثّف وقراءة معمّقة وتخطّي صعوبات جمّة، لأنّها كانت أوّل مرّة أكتب فيها عن بلد غير بلدي وأعمل مع شخصيات تتحدّث بلغة غير لغة الكتاب. هذه الرواية أصبحت تحدّيا مرعبا لي وعزمت على التغلّب عليه. في البداية، كنت قلقا للغاية. جعلتني الكميّة الهائلة من موادّ البحث أشعر بالدوار. كانت مسوّدتي الأولى ضخمة، حوالي ضعف حجم الرواية. وسألت نفسي كيف سأنسّق كلّ هذه المشاهد وآلاف القصص القصيرة.
    ولمدّة عامين، عانيت من القلق والحيرة. لم أكن أعرف شيئا عن حرب كانودوس، بل لم أكن قد سمعت عنها من قبل. وكان أحد أوّل الأشياء التي قرأتها عنها باللغة البرتغالية هو كتاب "اوس سيرتوس" أو "تمرّد في المناطق النائية" للكاتب البرازيلي يوكليدس دا كونيا. كان هذا الكتاب أحد الاكتشافات العظيمة في حياتي كقارئ، وهو لا يقلّ أهميّة عن قراءة "الفرسان الثلاثة" في صباي، أو "الحرب والسلام" و"مدام بوفاري" و"موبي ديك" بعد أن كبرت.
    أذهلني تماما ذلك الكتاب، إنه أحد أعظم الأعمال التي أنتجتها أمريكا اللاتينية. بقراءته تكتشف لأوّل مرّة ما لم تكن تعرفه عن ذلك الجزء من العالم. فأمريكا اللاتينية ليست مجموع وارداتها، وليست أمريكا ما قبل الإسبان أو المجتمعات الأصلية، ولكنها مزيج من هذه العناصر التي تتعايش بطريقة قاسية وأحيانا عنيفة. مأساة أمريكا اللاتينية هي أنه في مراحل مختلفة من التاريخ، وجدت بلداننا نفسها منقسمة وفي خضمّ حروب أهلية وقمع ومجازر جماعية مثل تلك التي وقعت في كانودوس. التعصّب وعدم التسامح يُثقلان كاهل تاريخنا. لذا فإن الرجل الذي أدين له حقّا بالفضل في تحفيزي لكتابة "حرب نهاية العالم"هو يوكليدس دا كونيا. ماريو فارغاس يوسا
  • ❉ ❉ ❉

  • في أعماق الطرف البعيد من الذراع الحلزوني الغربي للمجرّة، تقع شمس صفراء صغيرة لا تُرى. يدور حولها، على مسافة تقارب اثنين وتسعين مليون ميل، كوكب صغير أزرق مخضر وتافه للغاية، أشكال الحياة فيه، المنحدرة من القردة، بدائية للغاية لدرجة أنهم ما زالوا يعتقدون أن الساعات الرقمية فكرة رائعة. دوغلاس آدامز
  • ❉ ❉ ❉

  • في بعض الأحيان، عندما تعيش حياة طرفية على حافّة هذه البريّة المسمّاة الحياة، يمكنك أن تعود إلى العالم، هذا إن عدت على الإطلاق، ومعك بعض الجواهر من تلك التجربة التي قد يجدها الناس مفيدة. في شبابي، بحثت عن المعنى دون وعي، ممسكا بشذرات من المعرفة، كما تُمسك بعض أنواع الطيور بالأشياء البرّاقة لبناء أعشاشها. وبعد 30 عاما من الدراسة في مجالات الفيزياء واللاهوت والأحياء والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الآثار وغيرها، توصّلت إلى بعض الاستنتاجات حول طبيعة الكون ومكاننا فيه.
    لا أؤمن بوجود رجال صالحين أو أشرار. أؤمن بأن أفعالنا هي الخير والشر، وليس الرجال والنساء الذين يرتكبونها. أفضلنا قد يفعل الشر، وأسوأنا قد يفعل الخير. عرفت رجال مافيا تولّوا مسؤولية إطعام الفقراء في مناطقهم، وعرفت رجال شرطة كانوا قساة بلا رحمة. نحن البشر حيوانات قادرة على فعل الخير أو الشر. وكلّنا نفعل الأمرين، بدرجة أو بأخرى.
    رجال المافيا الذين عرفتهم في الثمانينات كانوا في الغالب رجالا شرفاء. أعلم أن هذا يبدو غريبا ومتناقضا لمن لم يعيشوا في ذلك العالم قط، لكنها حقيقة تجربتي. عاش رجال العصابات من المدرسة القديمة وفقا لقواعد شرف صارمة، وكانوا دقيقين للغاية في الالتزام بها. ولم أرَ في حياتي رجل مافيا يرفع يده على امرأة أو طفل، ولم أعرف قط من نقضَ وعده لي أو تخلّى عنّي في وقت الشِدّة. غريغوري روبرتس
  • ❉ ❉ ❉

  • بالنسبة لليونانيين الأوائل، كانت القوقاز نهاية العالم، وليس وراءها سوى مجرى المحيط. ويصفها إسخيلوس في مسرحيته "بروميثيوس المقيّد"بأن فيها أعلى الجبال، ويتحدّث عن "قممها المجاورة للنجوم". هنا يصوَّر سارق النار مقيّدا إلى صخرة بينما نسر يتربّص به. ويذكر هيرودوت أن هذه القمم أعلى من أيّ قمم جبال أخرى. ولم يتجاوزها أيّ قائد روماني قط. وكانت تمثّل ما هو مخيف ومجهول: الأمازونيات الدمويات وقبائل إسرائيل الهاربة وأمم يأجوج ومأجوج الشرّيرة.
    وطبقا لتقاليد هنود الغرب الأمريكي، تُعتبر جبال روكي حدود العالم المعروف. كانت هذه القمم تحمل السماء وتطارد أرواح العواصف وعمالقة الحجر وآكلي لحوم البشر ذوي البطون الضخمة. ومنها امتدّ غربا الطريق الجوفي المؤدّي إلى أرض الموتى. وفي داكوتا الجنوبية، كان هناك تلّ الشياطين الصغار، وهم أقزام شرّيرون ذوو رؤوس ضخمة، كانت قبائل البراري تقف في رهبة خوفا من سهامهم.
    وكانت هناك سبعة جبال مقدّسة في أرض النافاهو، أربعة منها عند الجهات الأربع، وثلاثة عند المركز. وقد منحت الأسطورة كلا منها لونه الخاص وجواهره وطيوره ونباتاته. كان أحد الجبال مثبّتا على الأرض بوميض برق، وآخر بشعاع شمس، وثالث بقوس قزح. وبروح يونانية تقريبا، كان هنود غيانا ينشدون أمجاد الصخور الحمراء المغطّاة بالغيوم. وكان فوقها نسور بيضاء تحيط بها دائرة سحرية وحرّاس من الشياطين. كيرك سبولدينغ
  • الثلاثاء، يوليو 15، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • في الحوليات القديمة، يأتي ذكر "الغابة في جِرمانيا" كمكان من الأشجار الكثيفة المظلمة والمستنقعات التي لا نهاية لها. ويذكر أرسطو ويوليوس قيصر وبليني الأكبر في كتاباتهم أن هذه الغابة، أي غابة هيرسينيا، كانت عالما غامضا تتدفّق فيه الأنهار وأنها كانت شاسعة جدّا، لدرجة أنه لا يمكن للمرء أن ينتقل من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر الا بعد مسيرة ستّين يوما.
    وقد أدّى تشابك أشجار السنديان العملاقة هناك وتقارب أغصانها من بعضها البعض إلى إنشاء كتلة بلا مسار ولا يمكن اختراقها. وكانت الأيائل من ذوات القرون تتّكئ على جذوع الأشجار القويّة لتنام عليها. ومع شيء من البحث الدؤوب يمكن العثور على وحيد القرن. وكان الثور القديم المسمّى "الأوروكس" يتجوّل في أرجاء تلك الغابة. وكان هناك أيضا طائر جميل ذو ريش متوهّج كاللهب يرفرف بجناحيه بين الأوراق الزمرّدية التي لا تعدّ ولا تحصى.
    إن من الصعب أن نتخيّل مشاعر الأوروبيين الأوائل الذين وطئت أقدامهم أرض القارّة الأميركية. في ذلك الوقت كانت الملايين من الجواميس والظباء والذئاب والدببة الرمادية العملاقة تعيش في المراعي والأدغال. وكان من الطبيعي أن تثير الغابات ذات الأشجار العملاقة والكثيرة الرعب وكذلك الإعجاب والرهبة في قلوب الأوروبيين. كانت بمثابة براري حقيقية، "مكان بلا إله"، لذا كان لا بدّ من العمل على دهوَرَته وتخريبه لصالح الحضارة.
    وقد جلب التبادل الحضاريّ معه تبادلا دينيّا، وكان لا بدّ من استبدال الآلهة الوثنية التي تسكن البساتين والغابات المقدّسة بالإله المسيحي. وكان تدمير البساتين وقطع الأشجار القديمة وقتل آلاف الدببة والذئاب، أي الحيوانات المعبودة التي أصبحت رموزا للشرّ، جزءا من هذا الصراع. وكان هذا التدمير نتيجة حتمية، لدرجة أن أغلب المناطق البرّية الأوروبية لم تنجُ من الدمار حتى بداية الثورة الصناعية.
    ومن المثير للاهتمام أن تجارب الأوروبيين الأوائل في العالم الجديد تشبه أوصاف الرومان القدماء الذين عبروا في بداية عام 1500 حدود الإمبراطورية الرومانية ووصلوا إلى منطقة هرسينيا. ومع ذلك، لم تكن لهذه الغابة حدود معروفة، فقد كانت تقع في مكان ما بين أنهار الدانوب وإلبا والراين. وبحسب بليني الأكبر، فإن غابة السنديان في هرسينيا كانت "غير متأثّرة بالعصور ومتزامنة مع العالم ومتفوّقة على كلّ العجائب بمصيرها الخالد".
    وحتى ما قبل 300 عام، كانت أشجار السنديان البدائية الكثيفة ما تزال تنمو في عموم وسط أوروبّا. وقد كتب الشاعر البولندي آدم ميكيفيتش (1798-1855) عن واحدة منها يقول:
    هل سأجدك مرّة أخرى؟ هل تعيشين لفترة أطول؟ أنتِ التي زحفتُ بين جذوعك ذات يوم وأنا طفل؟ هل ستظلّ شجرة الباوبليس العظيمة باقية؛ الشجرة التي يمكن بسهولة إعداد عشاء يكفي لعشرة أشخاص في رحمها الضخم، بعد قرون من الحفر المجوّف؟!"
    خلال العصور الوسطى، لم تكن الغابة تعني فقط المنطقة المغطّاة بالأشجار كما هو الحال اليوم، بل كانت تعني أيضا الأرض التي تكثر فيها السهوب والمستنقعات والسهول والصحاري والمروج المالحة. في الأراضي المنخفضة، حيث كانت الظروف المناخية أكثر جفافا، نشأت السهوب. وفي الأماكن ذات التبخّر العالي والتربة ذات المياه الجوفية، نشأت المروج المالحة.
    في المصطلحات الجغرافية، تتكوّن غابة هيرسينيا من مجموعة من السلاسل الجبلية والهضاب الممتدّة من ويستفاليا عبر وسط ألمانيا وعلى طول الحدود الشمالية للنمسا حتى جبال الكاربات. ويبلغ طول حدود الغابة الشمالية المفترضة مسيرة تسعة أيّام، بينما يبلغ طول حدودها الشرقية أكثر من مسيرة شهرين.
    وقد ارتبط اسم الغابة بحادثة تاريخية مشهورة وقعت في العام التاسع للميلاد. كانت معركة كبرى دارت رحاها بين تحالف الشعوب الجرمانية والإمبراطورية الرومانية بقيادة بوبليوس فاروس وحلفائه. ويقال ان إجمالي خسائر الرومان في تلك المعركة بلغت حوالي عشرين ألف قتيل.
    وقد تسبّبت تلك الهزيمة في اختفاء الفيالق الرومانية مع جنودها المندحرين في براري ومستنقعات هيرسينيا، وفي القضاء على أيّ أمل للرومان في التوسّع عبر نهر الراين. ومع توالي القرون وعلى مدى ألفي عام، ظلّ المكان الذي شهد تلك المعركة، التي تُعتبر احدى أهمّ المعارك في تاريخ العالم الغربي، ضائعا وغير معروف.
    لكن رحّالة بريطانيّا يُدعى توني كلون استطاع بفضل عزيمته ومثابرته الغوص في أعماق الماضي، وتوصّل مؤخّرا الى أن تلك المعركة دارت شمال أوسنابروك بألمانيا، كما اكتشف أعدادا كبيرة من العملات الرومانية والأسلحة والبقايا البشرية وآلاف القطع الأثرية. وهناك اليوم متحف بُني حديثا يضمّ هذه الكنوز التاريخية التي لا تُقدّر بثمن أُقيم في نفس الموقع الذي فُقدت فيه الفيالق الرومانية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات..
    ◦ سواءً كنت تحلّق فوق نيوفاوندلاند أو فوق بحر الأضواء الممتدّ من بوسطن إلى فيلادلفيا بعد حلول الليل، أو فوق الصحاري العربية التي تتلألأ كصَدف اللؤلؤ، أو فوق الرور أو مدينة فرانكفورت، فكأنّما لا يوجد بشر، فقط الأشياء التي صنعوها والتي يختبئون فيها. إذا نظرنا إلى أنفسنا من علوّ شاهق، فمن المخيف أن ندرك ضآلة معرفتنا بجنسنا البشري. هكذا فكّرت ونحن نعبر الساحل ونطير فوق البحر الأخضر الهلامي.
    لا يوجد ترياق لأفيون الزمن. تُظهِر شمس الشتاء كم ينطفئ ضوء الرماد وكم يغمرنا الليل سريعا. الزمن نفسه يشيخ. الأهرامات والأقواس والمسلّات أعمدة ثلجية ذائبة. حتى أولئك الذين وجدوا مكانا بين الأبراج السماوية لم تُخلّد أسماؤهم، فالنمرود ضاع في كوكبة الجبّار وأوزوريس في كوكبة الكلب. في الواقع، لا تدوم العائلات القديمة أكثر من ثلاث شجرات سنديان. وينفريد سيبالد

    ◦ لقد عرفت أن الخير كالشرّ، يصبح روتينا، وأن المؤقّت يميل إلى الاستمرار، وأن ما هو خارجي يتغلغل إلى الداخل، وأن القناع، مع مرور الوقت، يصبح هو الوجه نفسه. مارغريت يورسينار

    ◦ من المؤلم أن تشعر بالوحدة، لأننا كبشر لسنا مصمَّمين لذلك. نحن، كما أشار أرسطو منذ زمن بعيد، حيوانات اجتماعية. لكن ربّما تكون مهمّتنا أن نكون وحيدين في عصر وحيد وأن نتعلّم أن نكون بومة بين الأنقاض. البوم مخلوق من الليل والظلام ومرتبط بالحكمة. والأنقاض تحيط بنا بالفعل وتنتشر بسرعة كالفايروس. نعم، نعيش في زمن مظلم، وقد آن الأوان لنتعلّم كيف نرى في الظلام.
    كلّما فررنا من الأنقاض المترامية الأطراف إلى المرتفعات المشمسة في العالم الافتراضي، أصبح لزاما علينا أن نتعلّم بسرعة كيف نعيش في صحراء العالم الحقيقي. أن تكون بومة بين الخرائب هي الخطوة الأولى والحتمية للعثور على طريقك مرّة أخرى من خلال الضياع. جاك ليهي

    ◦ لا يوجد ماض ولا مستقبل في فنّي. وإذا لم يستطع العمل الفنّي أن يعيش دائما في الحاضر، فلا يجب اعتباره فنّا على الإطلاق. إن فنّ الإغريق والمصريين والرسّامين العظماء الذين عاشوا في عصور أخرى ليس فنّا من الماضي، بل ربّما يكون أكثر حيوية وحداثة اليوم من أيّ وقت مضى. بابلو بيكاسو

    ◦ وسط ضجيج الأدب العالمي الشبيه بضجيج بابل، كيف سيكون حالنا، نحن عشّاق الرواية والأدب، لولا المترجمين؟ يستطيع المترجم الجيّد أن يقدّم أدبا جديدا يغيّر فهم القارئ للظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي تحكم العالم. بل إنه يُلقي ضوءا جديدا على الحوار الداخلي والمعضلات الأخلاقية لشخصيات الأدب العالمي المحبوبة والخالدة. ولو لم يكرّس المترجم سنوات تكوينه الأولى لإتقان عدّة لغات، لكانت كلاسيكيات الأدب الأوروبّي كتباً مغلقة.
    من الملاحم الآيسلندية في العصور المظلمة، إلى رواية "دون كيشوت" لثيربانتس التي تُعدّ أباً لجميع الروايات الأوروبّية، إلى التحليل النفسي للذاكرة الذي قدّمه مارسيل بروست في روايته، إلى هجاء ميخائيل بولغاكوف السوريالي للشمولية الستالينية في "المعلّم ومارغريتا"، لا بدّ من الإشادة بالمترجم على تفانيه لساعات طويلة كي يعيد صياغة الكلمة المكتوبة من لغة لأخرى. يزداد المرء تعلّقا بمهارات المترجم مع مرور الوقت، ويضع ثقته في الأسماء المعروفة من المترجمين لدقّتهم الفائقة وبصيرتهم الملهِمة وجهدهم الشاقّ في كثير من الأحيان، لفتح آفاق جديدة من الأدب العالمي أمام القارئ الباحث. كيفين اندرو

    ◦ الحياة نفسها ليست سوى ظلّ للموت. والأرواح الراحلة ليست سوى ظلال الأحياء. الشمس نفسها ليست سوى صورة للظلام، والنور ليس سوى ظلّ الله. توم براون

    ◦ كانت جبال الأطلس أشهر جبال القصص الكلاسيكية. وأروع وصف لها هو ما كتبه المؤرّخ بليني الأكبر. كانت قمّم الجبال تمتدّ إلى ما وراء السحاب وتقترب من مدار القمر. كانت وعرة وشديدة الانحدار على جانب المحيط الذي أُطلق عليها اسمه، بينما تنحدر بخفّة على الجانب المؤدّي إلى أفريقيا. وقد غطّت بساتين كثيفة جوانبها، حيث الجداول الرقراقة والثمار الوافرة. لكن في النهار لم يكن البشر يُرَون هناك قط. كان كلّ شيء صامتا كسكون الصحراء المخيف. والذين اقتربوا، تسلّل إليهم رعب ديني. في الليل، كانت نيران لا تُحصى توقد على جوانب الجبال. وبحسب بليني، كان ذاك جزءا من مشهد رقص السحرة وطاقم الساتير. وكان الصدى يتردّد مع نغمات الناي والبوق وضربات الطبول والصنج".
    وهناك أسطورة أخرى عن جبل يُصدر ضجيجا وتنبعث منه أنوار ليلية، بحسب السجلّات العربية والمسيحية. ويقول كاتب عربي من القرن الثاني عشر إن الجنّ يسكنون المدن الواقعة على سفوح الجبل والتي هجرها الناس. ويتحدّث ابن خرداذبة عن احتفالات ليلية في المحيط الجنوبي. وفي القرن السادس عشر، كتب أرغنسولا عن جبل في جزر الملوك قيل إنه كانت تُسمع منه ولعصور طويلة "صرخات وصفّارات وزئير"، مستنتجاً أن المكان مسكون بالشياطين. ويروي السندباد عن جزيرة تُدعى كاسيل، يتردّد فيها صدى طبول الجنّ المتمرّدة ليلا. وكانت جزيرة بروسبيرو مليئة بالضوضاء، لكنها كانت "أصواتا وأنغاما عذبة تُبهج ولا تؤذي".
    ربّما تكون قصّة الأطلس وغيرها من الجبال الأسطورية قد نشأت من عادات القبائل الذين يسكنون تجاويف الجبال. ففي حرّ النهار، كانوا يعودون إلى مساكنهم، ثم يخرجون ليلا ليرقصوا حول نيران القرية وعلى أنغام الطبول. كيرك سبولدينغ

    ◦ السلام ليس غياب الحرب، بل هو فضيلة وحالة ذهنية وميل إلى الإحسان والثقة والعدالة. سبينوزا

    ◦ في غضون أشهر قليلة، نسي فيليب ما كان عليه سابقا. نسي الشدّ الدائم في رقبته والصداع والليالي التي لم يكن ينام فيها إلا على غفلة. نسي صور الهلاك التي كانت تلوح في الأفق في أيّ لحظة طوال فترة طفولته ومراهقته. الصور التي لم يخبر بها أحدا قط، ولا يعرف عنها أحد شيئا: حيوانات ميّتة على جانب الطريق، أطراف مبتورة، جثّة تطفو في النهر، ماء يجرف منازل، طفل يختنق بحلوى، صراصير تخرج من حوافّ الجدران، خزائن كتب تتساقط وتسحق الأطفال الصغار، حوادث تصادُم، وأمراض تجعل اللسان أسود.
    نسي أن هذه الصور كانت موجودة دائما. ثم نسي الخوف منها. هذه المرحلة من الحياة خفيفة للغاية، تكاد تكون باهتة. ولأوّل مرّة في حياته التي انصرم منها ثلاثون عاما، يقترب من المستقبل بثقة وطمأنينة، ويبدأ تدريجيا في التعوّد عليه. لا ينبغي أن يكون شيء من هذا غريبا. فالمخاوف قد تكبر وقد تتقلّص وقد تختفي بغموض كما جاءت. لكن حول فيليب وخارج قفص سعادته المضاء، تذهب المدينة في اتجاه آخر. قيل لاحقا إن باريس كانت في قبضة الخوف في تلك السنوات. ساشا برونوفاسر

  • Credits
    rewildingeurope.com

    الأحد، يوليو 13، 2025

    حكايات المصارعين والأباطرة


    الكولوسيوم هو المدرّج الروماني الذي كانت تُقام على أرضه مباريات المصارعة الدامية بين البشر والوحوش "من أجل متعة الشعب والامبراطور!". وأبلغ وصف أدبي قرأته عن هذا المَعلم المشهور كان وصفا لكاتب معاصر زار المكان فجرا وقال انه خُيّل إليه أنه سمع هدير آلاف الرومان المتحمّسين وصرخات آلاف القتلى وتأوّهاتهم أثناء لحظات احتضارهم في ذلك المحشر الضيّق والمروّع.
    الغريب أن المصارعين المحكومين بالإعدام، قبل أن يقاتل بعضهم بعضا أو يُلقى بهم الى الحيوانات المفترسة والمجوَّعة، كان يُطلب منهم أن يقفوا أمام المنصّة الإمبراطورية ويردّدوا عبارة: السلام عليك أيها الإمبراطور! نحن الذين على وشك الموت نحيّيك!"
    كان الرومان يحبّون تلك المباريات الدامية. وفي حال ما إذا خسر مصارع، فإن من حقّ الجمهور المستمتع بالقتل وسفك الدماء أن يقرّر بقاءه أو موته، وذلك بخفض إبهامه أو رفعه وسط الهتافات والتصفيق.
    الكولوسيوم عبارة عن تاريخ مظلم ووحشيّ وغارق في القسوة والعنف. وما بدأ كألعاب رياضية تحوّل إلى وحشية مفرطة ارتُكبت ضدّ ضحايا كثيرين، بينهم أسرى حرب ومواطنون منفيّون ومجرمون ونساء.
    وعلى مدى خمسة قرون طويلة، أنفق الأباطرة ببذخ على تلك العروض التي شملت مئات الآلاف من مسابقات المصارعة ومبارزة الحيوانات، والمسرحيات الكلاسيكية، والإعدامات الحيّة والانتحارات. وكان بعض أباطرة روما يشاركون شخصيّا في تلك الفعاليات.
    كانت الحيوانات تُحشر عمدا في غرف وأقفاص صغيرة لكي يزداد عنفها ووحشيّتها. وكانت النمور والأسود والفهود والأفيال والتماسيح تُجلب حيّةً من شمال أفريقيا والبحر المتوسّط لاستخدامها في تلك المباريات الوحشية. وقد أدّى صيد الرومان لتلك الحيوانات من أجل المتعة إلى تدمير الحياة البرّية في مواطنها وانقراض الكثير منها.
    كان الكولوسيوم فضاءً مجوّفا عملاقا ومليئا بالدماء والجثث. ومن الغريب أن غالبية الرومان القدماء لم يكونوا يشعرون بأيّ أسف أو تأنيب للضمير وهم يتابعون أنشطته اللاإنسانية. بل إن الأباطرة، باستثناء ماركوس أوريليوس، والمثقّفين كانوا حريصين على استمرار عمليات التعذيب تلك، باعتبارها وسيلة سهلة للسيطرة على الجماهير وإلهائها.
    عندما تقرأ عن الفظائع التي كانت تحدث آنذاك في حلبات روما، وفي الكولوسيوم خصوصا، لا بدّ أن تتساءل كيف تسنّى للرواقيين من أمثال اوريليوس وسينيكا أن يمتلكوا مثل تلك العقليات المتحضّرة وأن يكتبوا أفكارهم الإنسانية الجميلة، على الرغم من أنهم عاشوا في مثل تلك البيئة المجنونة التي تحتفي بقتل وتعذيب البشر والحيوانات، بالإضافة الى ما شهده سينيكا نفسه من جرائم الدائرة القريبة من نيرون؟!


    في أحد كتبه، يشير سينيكا إلى مناسبة شهيرة، عندما أُجبر أشخاص محكوم عليهم بالإعدام على قتال مجموعة من الأفيال في الساحة. كان عدد الأفيال عشرين، وكان مبارزوها من البشر مسلّحين بالرماح. وقد قاتل أحد هذه الحيوانات ببسالة نادرةً، وعندما شُلّت قوائمه بفعل ضربات الرماح، زحف على جحافل الأعداء وانتزع دروعهم من أيديهم وألقاها في الهواء. وقد أسعدت هذه الحيوانات المتفرّجين بمناوراتها التي لا يتقنها سوى سحرة بارعون.
    كما وقعت حادثة عجيبة أخرى، بحسب سينيكا، فقد قُتل فيل بضربة واحدة ووصل الرمح الذي أصابه تحت عينه إلى الأجزاء المهمّة من رأسه. وحاولت مجموعة الأفيال كلّها اختراق السياج الحديدي الذي يحاصرها، ما تسبّب في إحداث اضطراب شديد بين الناس. لكن الأفيال عندما فقدت كلّ أمل في الهروب، حاولت كسب عطف الجمهور من خلال لفتات متوسّلة، وندبت مصيرها بنوع من العويل، ما أثار حزن الناس، فانفجروا في البكاء ونهضوا في هبّة واحدة واستمطروا اللعنات على رؤوس منظّمي تلك المقتلة الرهيبة.
    يقول أحد الكتّاب المعاصرين: لقد قطعت البشرية شوطا طويلا منذ أيّام الكولوسيوم. ومع ذلك لا نهاية للأهوال التي يُلحقها البشر ببشر آخرين. والنسخة العالمية الحالية من "الألعاب" الرومانية القديمة هي سلسلة الحروب الغاشمة التي نشهدها اليوم، وآخرها حرب الإبادة في غزّة.
    كنت أتوقّع أن يكون امبيرتو ايكو قد كتب وصفا او انطباعا ما بلغته الساخرة والبليغة عن تاريخ الكولوسيوم، لكن لم أجد شيئا باستثناء إشارة عابرة عن المكان وردت في رواية "اسم الوردة"، حيث ذكره باعتباره "أحد رموز الماضي".
    لكن فولتير كتب جملة طريفة عن هذا المعلَم يقول فيها: لقد بنى الرومان القدماء أعظم روائعهم المعمارية لتتقاتل فيها الوحوش البرّية". وعندما زار غوته المكان لم يلاحظ فيه سوى ضخامته "لدرجة أن المرء لا يستطيع أن يحفظ صورته في ذاكرته"، كما قال.
    المخرج الإنغليزي الشهير ريدلي سكوت أراد تصوير فيلمه Gladiator أو المصارع في داخل الكولوسيوم، لكنه أُبلغ بأن التصوير ممنوع في الداخل. فاضطرّ لبناء نسخة مصغّرة من المبنى في مالطا. كما أنشأ حديقة حيوانات حقيقية جلبَ لها مجموعة من الأسود والنمور والدببة والذئاب والفيلة والفهود، أي الحيوانات التي كان الرومان يزجّون بها لمقاتلة البشر في الكولوسيوم.
    أما المخرج السينمائي فيديريكو فيليني فكتب يقول: في فيلم "روما" أردت أن أجسّد فكرة أن روما القديمة تقع تحت روما اليوم. وهذا ما يثير حماسي. تخيّل نفسك في ازدحام مروري في الكولوسيوم!".
    الكولوسيوم قديم جدّا، أقدم حتى من سور الصين العظيم. لكن الأكروبوليس وستونهنج وهرم الجيزة أقدم منه بكثير. وهناك جهود حثيثة تبذل الآن وأعمال ترميم مكثفة تجري لإعادته الى الحياة وجعله مكانا لاستضافة الأنشطة الثقافية، من مسرحية وموسيقية، بعيدا عن مباريات الموت وسفك الدماء.

    Credits
    thecolosseum.org