:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات روبنز. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات روبنز. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، يوليو 17، 2017

السجّاد الشرقيّ في الرسم الأوربّي

الشعبية الكبيرة التي اكتسبها في أوربّا السجّاد الشرقيّ المنسوج في العالم الإسلاميّ ابتداءً من القرن الرابع عشر فصاعدا تعكسها التصاوير المتكرّرة لهذا السجّاد في لوحات الرسم الأوربّي.
وتُعتبر تلك اللوحات مصدرا أساسيّا للخبرة في السجّاد الشرقيّ المبكّر. وهناك مجموعات عديدة من السجاجيد الإسلامية من الشرق الأوسط تُسمّى اليوم بأسماء الرسّامين الأوربّيين الذين رسموها وضمّنوها في لوحاتهم، مثل لورنزو لوتو وهانز هولبين ودومينيكو غيرلاندايو وكارلو كريفيللي وهانز ميملينغ .
وهؤلاء الرسّامون تُستخدم أسماؤهم اليوم لتصف مجموعات معيّنة من السجّاد المنسوج في تركيا العثمانية على وجه الخصوص.
منذ عصور المسيحية المبكّرة أصبح امتلاك سجّاد من قماش نفيس من الشرق مرتبطا بالثروة والقداسة. وعندما رسم الفنّان الايطالي دوتشيو قصّة الأشخاص الذين فرشوا سجاجيدهم تحت أقدام المسيح، فإنه إنّما كان ببساطة يجدّد مفهوما ثقافيّا قديما.
وهناك لوحة من القرن الخامس عشر رسمها جيوفاني دي باولو بعنوان المادونا والطفل مع ملاكين تصوّر سجّادا قديما ونادرا من تركيا مفروشا تحت قدمي العذراء. وتكرّرت صورة ذلك السجّاد كثيرا في ايطاليا من خلال بعض الصور التي كانت تتضمّن موتيفات لحيوانات مصوّرة بدقّة.
وبحلول القرن السادس عشر، أصبح السجّاد يُرسم في البورتريهات كرمز للبراعة والتعليم والمكانة الاجتماعية والاقتصادية العالية.
وهناك بورتريه رسمه موريتو دي بريشيا يظهر في أسفله إطار صغير من السجّاد الأناضوليّ المعاصر من تركيا العثمانية. أما تصميم بقيّة البورتريه فقد ظلّ لغزا.
وبحلول القرن السابع عشر، باتت صور السجّاد في اللوحات الفنّية منظرا مألوفا في جميع أرجاء أوربّا. وهناك عدد من الأمثلة عن "سجّادة لوتو"، وأقدمها تذكّر بالخطّ الكوفيّ.
وفي أعمال أخرى مثل لوحة يان بريغل وروبنز بعنوان حفل اخيليوس ، نرى قصّة من كتاب التحوّلات لـ أوفيد مرسومة كوليمة معاصرة مع سجّادة جميلة تظهر على قماش مائدة في يمين اللوحة، وهي من تصميم الرسّام لوتو وتصوّر ارابيسك احمر واصفر من وسط تركيا.
ومثل هذا النمط كان مفضّلا في أوربّا. ففنّان القرن السابع عشر نيكولاس مايس، مثلا، رسم امرأة تقشّر التفاح وتجلس إلى جوار طاولة مغطّاة بسجّادة لوتو فارهة.
السجّاد المنسوج في سوريا كان نادرا جدّا في أوربّا. لكن هناك لوحة لغابرييل ميتسو عنوانها حفلة موسيقية تُظهر موسيقيَّين، رجلا وامرأة، يجلسان أمام طاولة مغطّاة بسجّاد ذي زخارف هندسية الأشكال من سوريا في بدايات القرن السابع عشر. أما لوحة ميتسو الأخرى بعنوان شابّ يكتب رسالة فتظهر فيها سجّادة ميداليون كبيرة تطلّ من طرف طاولة.
سجاجيد الميداليون المنسوجة في اوشاك بوسط غرب تركيا كانت أيضا تُرسم بشكل متكرّر في اللوحات الأوربية. في اللوحة الجذّابة لجيرارد بورش الابن بعنوان امرأة تعزف اللوت "أو العود" ، تظهر سجّادة ميداليون صغيرة من غرب الأناضول بتصميم غير مألوف على الطاولة أمام العازفين.
ورغم أن نتاج الرسّام الهولندي يوهان فيرمير من اللوحات قليل، إلا أن جزءا من أعماله يحتوي على رسومات شرقية. وأشهرها اثنتان، الأولى خادمة نائمة وتتضمّن نوعين مختلفين من السجّاد التركيّ المصنوع في القرن التاسع عشر. بينما تظهر في اللوحة الثانية وهي امرأة مع إبريق ماء سجّادة فارسية ناعمة وذات نسيج سميك فوق الطاولة مع تصميم ارابيسك زهريّ على خلفية حمراء.
تقليد إظهار سجّاد على طاولات في منازل الطبقة الرفيعة استمرّ حتى القرن الثامن عشر. في لوحة الرسّام الايطالي بييترو لونغي بعنوان حفل موسيقيّ ، نرى قطعة سجّاد من غرب الأناضول موضوعة فوق طاولة في ديكور ايطاليّ جميل.
وعندما أصبح السجّاد في أوربّا اقلّ تكلفة، تمّ استيراد كميّات كبيرة منه لاستخدامه في تغطية الأرضيّات. الرسّام فرانسيس ويتلي في لوحته عائلة سيثويت يصوّر زوجين ارستقراطيين انجليزيين مع ابنتهما على قطعة فخمة من السجّاد مصنوعة في اوشاك في القرن الثامن عشر.
وفي فرنسا، في بدايات القرن التاسع عشر، رسم جان دومينيك اوغست آنغر، المعجب بفنّ عصر النهضة، لوحة بعنوان بورتريه جاك لابلانك ، وفيه تظهر طاولة مغطاة بالسجّاد مع كتب ورسالة أو مخطوط مكتوب باليد.
وهذه التفاصيل تشير إلى تقليد في الرسم الأوربّي يرتبط فيه السجّاد، ليس فقط بالحالة الاقتصادية والاجتماعية، وإنّما أيضا بالعلم والمعرفة. السجّادة الصغيرة الموضوعة على الطاولة مصنوعة في الأناضول وتعود إلى القرن الثامن عشر.
سجّاد الرسّام لوتو ذو الأنماط والمنسوج باليد أنتج أساسا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر على طول شاطئ ايجه بالأناضول. لكنه كان يُستنسخ في أجزاء أخرى من أوربّا. ويميّزه ارابيسك مزخرف بأرضية صفراء وحمراء وتفاصيل زرقاء عادة.
وسجّاد لوتو يُقصد به تضمين السجّاد في اللوحات أنماطا متميّزة كان أوّل من ابتكرها رسّام فينيسيا في القرن السادس عشر لورنزو لوتو.
ويقال أن لوتو كان يمتلك سجّادة كبيرة رغم أن أنماطها غير معروفة. وكانت تلك السجّادة تبدو مختلفة عن سجّاد الرسّام هولبين. لكن يمكن القول أنها تطوير لذلك النوع، إذ يظهر على أطراف الموتيفات فيها أرابيسك يتألّف من نباتات في نهاياتها أغصان.
وهذا النوع كان شائعا قديما ويُعرف بـ ارابيسك اوشاك . وما يزال بالإمكان رؤيته في لوحات الرسّامَين الاسبانيَّين موريللو وزورباران من القرن السابع عشر وكذلك في بعض اللوحات الهولندية.
رسومات السجّاد الشرقيّ في اللوحات الأوربّية والأمريكية استمرّت حتى القرن العشرين من خلال لوحات هنري ماتيس والأمريكيّ غلاكينز.
وما تزال ألوان السجّاد الشرقيّ وأنماطه الفريدة والجميلة تفتن الرسّامين والمصمّمين حتى وقتنا الحاضر.

Credits
metmuseum.org

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

السبت، مارس 07، 2015

خواطر في الأدب والفن

فجراً.. بعد غرق سفينة


رغم أن وليام تيرنر كان يخلق لوحاته من الإدراك وليس من العاطفة، إلا أن المتلقّي يمكن أن يتفاعل مع الجوّ الذي تثيره براعة هذا الرسّام في التحكّم في الضوء واللون والتوليف، كي يضيف إليها الانفعال المطلوب اعتمادا على القصّة التي يفترضها.
عبقرية تيرنر تتجلّى في انه كان يرسم فقط ما يراه، وعندما يرى ما يوحي باللون على شاطئ مبلّل وامتزاج ألوان السماء بألوان البحر، فإنه سرعان ما يحوّل ذلك الإيحاء إلى اللوحة. ثم تأتي مهمّة المتلقّي بعد ذلك، أي أن يأخذ من تلك الرؤية ما يريده.
إحدى لوحات تيرنر التي تدلّل على نضجه الفنّي هي هذه اللوحة المسمّاة فجرًا بعد غرق سفينة ، وهي عبارة عن منظر للشاطئ والبحر والسماء، مع جسم واحد ظاهر هو الكلب الصغير الذي يبدو وهو ينبح. المكان في المنظر هو على الأغلب شاطئ مارغيت في كنت، وهو المكان الذي كان الرسّام يقضي فيه معظم وقته في أربعينات القرن التاسع عشر.
الإشارة إلى غرق سفينة في العنوان توحي بأن هذه اللوحة لها قصّة تُروى. ومع ذلك لا وجود لأيّة سفينة غارقة في المنظر. هناك فقط العناصر الثلاثة، أي الأرض والسماء والبحر، بالإضافة إلى الكلب الوحيد.
ربّما كان على المتلقّي أن يستنتج تفاصيل القصّة في مخيّلته، وقد يكتفي بشرح جون راسكين الذي كان ناقدا ورسّاما مشهورا ومعاصرا لتيرنر. يقول راسكين في تعليقه على اللوحة: سفينة صغيرة، ناقلة فحم على الأرجح، غرقت في الليل، وكلّ من كانوا على متنها أصبحوا في عداد المفقودين، وهناك كلب وحيد على الشاطئ. انه يقف منهكا وهو ينبح ويرتجف، بينما ترسل سحائب الفجر أوّل خيوطها القرمزية. ويمكن رؤية اثر واهن لبقعة دم شاحبة على الرمال".
هناك احتمال بأن يكون راسكين قد قرأ في هذه اللوحة أكثر ممّا أراد تيرنر أن يودعه فيها. لكن هذا لا يهم، لأن قصّة راسكين محتملة وممكنة، تماما مثل قصص الآخرين، ومن بينهم تيرنر نفسه.
يقال أحيانا أن تيرنر كان أوّل رسّام انطباعي. لكن هذا ليس حقيقيّا، لأن تيرنر لم يكن يرسم انطباعات، وإنّما مشاهد حقيقية. وكان على المتلقّي أن يسجّل انطباعه عمّا رآه. وهذا هو السبب في أن هناك عددا لا يُحصى من القصص التي يمكن أن تحكيها هذه اللوحة. وكلّ منها شخصيّ بالنسبة للمتلقّي، ويمكن أن تتغيّر من حالة لأخرى، تماما مثلما يتغيّر المشهد في كلّ مرّة ننظر إليه.
ولو أزلنا الكلب من اللوحة، فسيكون المنظر أشبه ما يكون بصورة التقطها مصوّر هاوٍ، وستصبح اللوحة مملّة لدرجة أن بعضنا قد يندمون على صرف وقتهم في مشاهدتها.
البحر في صورة تيرنر هذه لا يفعل شيئا استثنائيّا، وكلّ ما يمكن رؤيته هو موجة صغيرة تتكسّر على الشاطئ. السماء صفراء مع سحب منخفضة. ويمكن ملاحظة زاوية الشمس وهي تنبلج من بين الغيوم لترسل شعاعا خفيفا ينعكس على الرمال المبلّلة.
وهناك أيضا بقعة من الأحمر. راسكين توقّف عند هذه البقعة واصفا إيّاها ببقعة الدم. كان يدرك أن تيرنر كان يرى في اللون القرمزيّ الأحمر رمزا للدم والموت. وهذه البقعة في أعلى وأسفل المنظر تشكّل إطارا مع البحر في الوسط.
في اللوحة يبدو البحر الآن بريئا بما فيه الكفاية. غير انه يخبّئ سرّا قاتلا. وحده الكلب هو الذي نجا من بين جميع ركّاب السفينة المنكوبة، ورأسه وجسمه يشيران إلى الأحمر، بينما ينبح السماء كما لو انه يحكي لها قصّة المأساة التي حدثت للتوّ في البحر.
هناك في هذا المشهد الكثير ممّا يجري، أكثر ممّا يمكن لك أن تكتشفه من النظرة الأولى.

❉ ❉ ❉

ريو: أنا اعزف إذن أنا موجود


كنت وما زلت من المعجبين بأسلوب اندريه ريو في ترجمة المعزوفات الكلاسيكية المشهورة وتقديمها في قالب عصريّ سهل ومفهوم.
اسم عائلة "ريو" يشي بأصولها الفرنسية. وقد هاجر أسلافه من اوفيرن في فرنسا إلى هولندا قبل أكثر من ثلاثة قرون.
أما اندريه نفسه فقد ولد في بلدة ماستريخت الهولندية التي يمتلك فيها اليوم منزلا خاصّا يليق بالملوك. والمنزل عبارة عن قلعة تاريخية تعود إلى القرون الوسطى وتتألّف من أكثر من عشرين غرفة وتطلّ على ضفّتي نهر ماس.
وعائلة ريو كلّهم تقريبا موسيقيّون. وقد سبق لوالده أن عمل كمايسترو لأوبرا ليبزيغ بألمانيا، بينما تلقّى جميع أشقّائه الستّة تدريبا موسيقيّا.
اندريه ريو ما يزال يفضّل موسيقى الفالس الراقصة على ما عداها. وربّما كان هذا النوع من الموسيقى ذات المسحة الرومانسية هو الذي فتن عشرات آلاف النساء اللاتي يبعثن له برسائل الإعجاب مع هواتفهن وصورهن. كما أنهنّ يشترين موسيقاه أوّلا بأوّل ويحضرن حفلاته وبعضهنّ يتتّبعن خطاه من مدينة لأخرى.
وهناك من النقّاد من يقولون أن ما جعل اندريه ريو مشهورا ومعروفا في كلّ مكان تقريبا هو عدوى النساء المهووسات بالحبّ.
ذات مرّة عزف ريو مقطوعة الفالس الثانية لشوستاكوفتش. وجريا على عادته، أدخل عليها بعض التعديلات. تركيزه على إظهار كم أن هذه القطعة هادئة وبنفس الوقت مؤرّقة فاجأ زملاءه الموسيقيين في هولندا وفي أوربّا الذين رأوا في طريقة توزيعه لها أمرا مثيرا للاهتمام.
يقول ريو إن من الوجوه التي لا ينساها أبدا صورة الممثّلة اوليفيا هاسي التي ظهرت في فيلم روميو وجولييت من إخراج الايطالي فرانكو زافاريللي والتي يقول إنه حمل جمالها معه إلى أحلامه. كما انه ما يزال إلى اليوم مفتونا بالمقطع المشهور في الفيلم "فوق" والذي ألّفه الموسيقيّ الايطالي نينو روتا . وفي ما بعد عزف ريو هذا المقطع وضمّنه إحدى مجموعاته.
شعار اندريه ريو هو: أنا اعزف إذن أنا موجود". وقد أصبح من عادته أن ينهي كلّ حفلة له بقوله: من يدري، ربّما نلتقي ثانية"!

❉ ❉ ❉

الجبال والطقوس


فكرة الحجّ في الأديان تتضمّن شيئا أكبر وأكثر تعقيدا من مجرّد التقوى أو الرغبة في التوبة. بانفصالك عن الوطن، كما يفعل الناس في الحجّ، أنت تعترف ضمنا أن رحلتك هي محطّة على طريق وجودك. وأحيانا يكون الحجّ استعدادا للموت.
لاحظ كيف أن طقوس الحج في جميع الديانات تتضمّن شيئا من صعود الجبال: سيناء، الأوليمب، جبل الرحمة، الهمالايا.. إلى آخره. الصعود إلى فوق، إلى قمّة الجبل، هو نوع من الاقتراب من الله ومن المقدّس. وفكرة الارتفاع إلى فوق للقاء الإله مندمجة بعمق في اللغة التي نتكلّمها، ومن ثمّ في الطريقة التي نفكّر بها، سواءً عندما نتحرّك لأعلى أو ننزل لأسفل.
المعروف انه في أوربّا، وحتى وقت قريب، كان الناس ينظرون إلى الجبال كأجسام مرعبة. لكن في أواخر القرن الثامن عشر، بدءوا ينظرون إليها كأماكن للعبادة وانعكاس لعظمة الله. وهناك من الروحانيين من يعتقد بأن الجبال ليست في واقع الامر سوى بوّابات تقود إلى عوالم خفيّة ومجهولة.

❉ ❉ ❉

متحف روبنز


هذه الصورة هي لغرفة في منزل الرسّام الهولندي العظيم بيتر بول روبنز في انتويرب والذي تحوّل في ما بعد إلى متحف.
كان روبنز قد اشترى المنزل بعد عودته من ايطاليا حوالي العام 1606. وقد قام بزخرفته وحوّله إلى واحد من أكثر منازل عصر الباروك أناقة في الأراضي المنخفضة وأضاف إليه حديقة جميلة ومدخلا فخما.
في هذا البيت أبدع الرسّام أشهر وأعظم لوحاته. وقد زاره هنا رسّامون ودبلوماسيون ومحبّون للرسم وجامعو فنّ وعلماء. وكان من بين زوّاره الأمير الاسباني البيرت وزوجته ايزابيللا.
روبنز لم يكن فقط أحد أعظم الرسّامين في العالم الغربي، لكنه كان أيضا من هواة جمع اللوحات. كان شخصا يؤمن بالأفكار الإنسانية، وقد أنعم عليه كلّ من فيليب الرابع ملك اسبانيا وتشارلز الأوّل ملك انجلترا بلقب فارس.
وفي الواقع، كان روبنز مدركا لمكانته في العالم، لدرجة انه رسم نفسه ذات مرّة وفي يده سيف حتى قبل أن يُمنح تلك الرتبة.

❉ ❉ ❉

أقوال


جولة سريعة أخرى في بعض ما نُشر في مواقع التواصل وغيرها خلال الأسابيع الماضية..

  • إسأل نفسك الآن كم تُخفي في داخلك عن الآخرين حتى لا تُتّهم بالجنون أحيانا، أو بالغباء أحيانا، أو بمخالفة الأعراف الاجتماعية أحيانا أخرى؟
  • إذا كان السؤال محرّما فكيف تطمع في الحصول على إجابة؟ ويل لأمّة تحرّم الأسئلة! تحريم الأسئلة لا يعني العجز عن الجواب فحسب وإنّما أيضا الإجبار على الجهل!
  • يجب أن يكون الهدف الأسمى لأيّة ديانة، ليس إدخال الناس إلى الجنّة، وإنّما إدخال الجنّة إلى قلوب الناس.
  • لم أعرف في حياتي أسوأ من نساء يحتقرن أنوثة المرأة ويشكّكن في أهليتها ويقفن بالمرصاد ضدّ حقوقها ويتخندقن مع الموسوسين ضدّ بنات جنسهن.
  • الوسطي مشغول بعلاقته مع الله، والمتشدّد مشغول بعلاقة جاره مع الله!
  • جمال بن عمر لليمن. دي ميستورا لسوريا. برناردينو ليون لليبيا. يبدو أن كلّ دولة عربية سيكون لها مندوبها الأممي. إنها مندبة كبرى!
  • الله كم في الخلق من صَبّ ومن عاني
    تفنى القلوبُ ويبقى قلبكِ الجاني
    صوني جمالكِ عنّا إننا بشر
    من التراب وهذا الحسنُ روحاني!
  • خيرٌ لك أن تقضي وقتك في السعي لإدخال نفسك الجنّة، على أن تقضيه في إثبات أن غيرك سيدخل النار.
  • عندما يتصرّف الإنسان بعفوية وبحسن نيّة يقع بمشاكل لا يفهمها، لأن حجم الطيبة والنقاء الذي بداخله لا يصل إلى مستوى اللؤم والدناءة التي لدى الآخرين.
  • لو أن أدعية الداعين مستجابة، لمحق الله الكافرين ومزّق شملهم ولم يبق منهم احد منذ دهور طويلة، ولورثنا كوكبا لا تسكنه إلا الجماعات المجاهدة!
  • عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة، وأن الخيبات الكبرى تأتي دائما على سجّاد فاخر نسجنا خيوطه بأيدينا.
  • قسوة بعض القلوب تعود إلى العجز عن تذوّق الفنون الجميلة. وغياب الترفيه اخرج لنا أجيالا إرهابية صرنا نصدّرها إلى جميع أرجاء العالم!
  • داعش لم تعد مجرّد شرذمة من المجرمين، بل أصبحت حالة فكرية يتعاطف معها كلّ متخلّف معتوه مغيّب العقل يريد العودة بأوطاننا إلى عصور الظلام.
  • هؤلاء الذين لا يقدّرون قيمة الأوطان أولى بهم أن يعيشوا في الخرائب.
  • عندما تعجز النفس عن رؤية الأحبّة، فإنها تشتاق لهم بصمت مؤلم. إيّاك أن تظنّ أن الصمت نسيان، فالأرض صامتة ولكن في جوفها ألف بركان.
  • وأنت تستعدّ لأداء الصلاة، إغسل قلبك من كلّ بغض وحقد تجاه الآخرين، نظّف روحك من كل طائفية وعنصرية، توضّأ بماء السلام والتعايش وتوكّل على الله.
  • إذا دخلت بيتا قديما رحل عنه أهله، ستسري في بدنك قشعريرة غامضة. أنت لست في العراء، فالبيوت المهجورة تنبض بأرواح الراحلين. ثمّة أصوات وآثار وخُطى.
  • التشدّد في حدّه الأدنى مماحكة وعنَت وتعطيل للحياة. وفي حدّه الأعلى إرهاب وحزّ رقاب وتفجير وتدمير للحياة.
  • مشكلة سقف الحرّية أنك لا تراه إلا عندما ترتطم به!
  • في لنا يا حبّ خيمة ع الجبل
    ناطرة تا نزورها بليلة غزل
    راكعة الغيمات عند بوابها
    وتاركة النجمات ع سطحا قُبَل
  • لا شيء يعود كالسابق. إحفظ هذه العبارة جيّداً قبل أن تكسر شيئاً جميلا.

    Credits
    thearttribune.com
    rubenshuis.be
    wsj.com
  • الخميس، يناير 30، 2014

    محطّات

    من مفكّرة ديلاكروا

    في عام 1832، سافر الرسّام الفرنسيّ اوجين ديلاكروا إلى المغرب واسبانيا في بعثة دبلوماسية بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر. وكان ذهابه إلى هناك، ليس لدراسة الفنّ، وإنما كي يهرب من حضارة باريس وعلى أمل أن يرى ثقافة أكثر بدائية.
    ديلاكروا سجّل في مفكّرته بعض مشاهداته في تلك الرحلة التي حدثت قبل اختراع السيّارة، أي عندما كان الناس يسافرون على ظهور الخيل والجمال والبغال. هنا مقتطفات ممّا كتبه..
  • بعد مسيرة ساعتين، لاح لنا البحر. وفي القرب رأينا مجموعة من أشجار الصبّار والخيزران، ولمحنا بقعا من العشب البنّي على الرمال. عند عودتي، تذكّرت التباين المدهش بين أشجار الخيزران الصفراء والجافّة وبين بقيّة الأشجار الخضراء. في هذه الناحية، تميل ألوان الجبال إلى البنّي المشوب بخضرة، مع خطوط من الشجيرات الداكنة والضئيلة.
  • رأينا في الطريق مشهدا مثيرا لحصانين، رماديّ وأسود، وهما يتعاركان مع بعضهما البعض. منذ البداية، كانا يتوقّفان قليلا ثم لا يلبثان أن يواصلا قتالهما بضراوة، ما جعلني ارتجف. غير أن ما رأيته كان يستحقّ الرسم. وأنا على يقين من أنني رأيت أكثر الحركات روعة ورشاقة، بما لا يمكن أن يتخيّله حتى روبنز . الحصان الرماديّ لفّ عنقه حول الحصان الآخر لفترة بدا أن لا نهاية لها. كان من المستحيل أن يطلقه. لكن مورني تمكّن أخيرا من الفصل بينهما. وبينما كان ممسكا باللجام، تراجع الحصان الأسود بشراسة، بينما ظلّ الحصان الآخر يعضّه في الخلف بعنف.
    سمحنا بعد ذلك للحصانين بأن يمضيا. لكنّهما استمرّا يتقاتلان فيما هما متّجهان إلى النهر. ثم سقط الاثنان في الماء بينما واصلا عراكهما. وفي نفس الوقت كانا يحاولان الخروج من الماء، وكانت أقدامهما تنزلق في الوحل.
  • في طريق عودتنا، لاحت لنا طبيعة رائعة إلى اليمين: جبال إسبانيا وهي تكتسي بأجمل ألوانها، ثم البحر الذي بدا أزرق تشوبه خضرة داكنة.
  • في يوم الثلاثاء ذهبنا لحضور حفل زفاف يهودي. كان هناك عرب ويهود يقفون عند المدخل. وكان هناك أيضا موسيقيّان، احدهما عازف كمان. وإلى جواره جلست امرأة يهودية جميلة بسترة من القطيفة وأكمام مذهّبة. كان ظلّ المرأة يلوح في منتصف الطريق إلى الباب. وبالقرب منها جلست امرأة أخرى اكبر منها سنّا بملابس بيضاء بالكامل وتغطّيها تماما.
  • صحونا حوالي الثامنة صباحا. تسلّقنا تلّة، والشمس إلى يسارنا. الجبال واضحة المعالم جدّا، واحد وراء الأخر، وفوقها سماء صافية. وقد وجدنا في طريقنا قبائل مختلفة. الرجال يطلقون البنادق وهم يتقافزون في الهواء. وصعدت جبلا في لاكلاو. كان المنظر خلابا للغاية. وتوقّفت للحظات. المنظر رائع من أعلى قمّة الجبل. مشينا نصف ساعة إلى أن بلغنا المخيّم.
  • الجلابية هي زيّ عامّة الناس ولباس التجّار والأطفال. أتذكّر أنّني سبق وأن رأيت جلابية على شخص صغير في اللوفر. أطفال المدارس في هذه الناحية يكتبون دروسهم على ألواح. وفي لحظات الراحة، يذهبون في مجموعات حاملين معهم هذه الألواح على رؤوسهم.
  • في الحيّ اليهودي، رأيت بعض التصميمات الداخلية الرائعة أثناء مروري من هناك. وكانت امرأة يهودية تقف مرتدية قلنسوة حمراء وثيابا بيضاء وسوداء.
  • هذا هو اليوم الأوّل من رمضان. في اللحظة التي ظهر فيها الهلال، وكنّا ما نزال في وضح النهار، أطلقت المدافع نيرانها احتفاءً بالمناسبة. وفي هذه الليلة، كانت هناك ضوضاء رهيبة مع قرع طبول ونفخ أبواق مصنوعة من قرون الخراف. وبرز من بين الحشود رجل أخذ يطلق النار باتجاهنا من مسافة قريبة. لكن تمّ إلقاء القبض عليه فورا. كان غاضبا. ثمّ سُحب من عمامته وطُرح أرضا.
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة من عالم آخر
    التلوّث الضوئي في المدن الكبيرة يُفقد الإنسان الإحساس بالدهشة وبجمال السماء الليلية. ولهذا السبب، لن تعدم أحيانا من ينصحك، ومعه حقّ، بأن تغادر المدينة باتجاه مناطق الأطراف يوما أو يومين في الشهر حيث الأفق المفتوح والأجواء الصافية، كي تنعم برؤية السماء وتستمتع بأنوار القمر والنجوم.
    وهناك اعتقاد بأن أجمل سماء ليلية في العالم هي تلك التي تعلو صحراء أتاكاما في شيلي. ففيها يمكن أن ترى ثلاثة آلاف نجم بوضوح، كما أنها تخلو من التلوّث الضوئي وتغيب عنها الغيوم طوال معظم السنة.
    في هذا الفيديو "فوق"، سترى طبيعة من عالم آخر وسماء ليلية صافية فوق أتاكاما، أي نفس المكان الذي اختاره المرصد الأوربّي الجنوبي ليبني عليه تلسكوباته المصفوفة الهائلة التي تسمح للفلكيين بالحصول على أفضل مناظر للكون من على الأرض.
    هذا المكان يُعتبر مثاليّا لمراقبة السماء والنجوم والظواهر الفلكية. طبيعة الليل ووتيرة حركة الأشياء مختلفة فيه عن أيّ مكان آخر من العالم. كما أن مناخه متطرّف للغاية، فهو حارّ جدّا نهارا وبارد جدّا ليلا.
    الفيديو قام بتنفيذه بطريقة الفاصل الزمني مصوّر يُدعى نيكولاس بور. وهو محصّلة لمجموعة من الصور التي التقطها على مدى 12 يوما وليلة. بور يصف هذا المكان المرتفع والمدهش بقوله إن أتاكاما صحراء معروفة جيّدا بأن سماءها هي الأكثر صفاءً والأشدّ ظلاما وحلكة على الأرض.
    الهواء الجافّ وصفاء الأفق والارتفاع، كلّها عوامل تتيح سماءً ليلية لا تشبهها سماء أخرى. وقد زارها المصوّر عندما كان كوكب الزهرة قريبا جدّا من مركز مجرّة درب التبّانة، وهو حدث فلكيّ لا يقع إلا مرّة كلّ 8 سنوات أو نحو ذلك.
    كما تزامنت زيارته لهذا المكان مع الاعتدال الخريفيّ الذي يُعتبر وقتا مناسبا لرؤية ظاهرة الضوء البروجي أو "الفجر الكاذب كما يُسمّى بالعربية"، وهو عبارة عن ضوء ينتشر في السماء في المناطق المظلمة وقبل شروق الشمس نتيجة تناثر الغبار الكوني المتناهي الصغر بين الكواكب في الفضاء بتأثير أشعّة الشمس.
    يمكن مشاهدة نسخة فائقة الوضوح من فيلم نيكولاس بور في موقع فيميو على هذا الرابط .

    ❉ ❉ ❉

    راسكن: الفنّان والمعلّم

    إن كنت تبحث عن معلومة أو فكرة يمكن أن تضيف شيئا إلى معرفتك عن لوحة أو رسّام معيّن من القرن التاسع عشر خاصّة، فسيصادفك اسم جون راسكن كثيرا. وهذا حدث معي أكثر من مرّة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أن راسكن لم يكن ناقدا فنّيا فحسب، بل كان أيضا رسّاما وشاعرا ومفكّرا اجتماعيا بارزا وراعيا للفنون وشخصا مُحسنا.
    صحيح أن اهتمامه كان مركّزا، خاصّة، على أمور الفنّ والأدب، لكنّ اهتماماته امتدّت لتشمل مواضيع وفروعا معرفية أخرى كالجيولوجيا والأساطير وعلم الطيور والمعمار وعلم النبات والاقتصاد السياسي والتعليم. باختصار، كان راسكن يتمتّع بثقافة موسوعية.
    وقد توقّفت لبعض الوقت عند آرائه عن التعليم والتي تستحقّ التأمّل. فهو يرى مثلا أن وظيفة التعليم الحقيقية ليست فقط جعل الناس يتعلّمون ويفعلون الأشياء الصحيحة، وإنما أيضا أن يحبّب إليهم المعرفة ويزرع في نفوسهم تعطّشا دائما للحبّ والعدل والحرّية.
    كان راسكن ينظر إلى التعليم باعتباره جزءا لا يتجزّأ من الحياة والسياسة والأخلاق. وكان يَعتبر أن تعليم الأطفال الصدق والنزاهة هو بداية أيّ تعليم، وأننا إذا أصلحنا المدارس فلن نجد سوى القليل مما يتعيّن إصلاحه في السجون.
    ولد جون راسكن وعاش في انجلترا الفيكتورية في القرن التاسع عشر. وقد عمل طوال حياته على تعميق تقدير الناس للفنون والآداب، وهذا بدوره قرّبه من هموم وشجون التعليم. كان يحبّ الرسم كثيرا، ولطالما حرص على تزيين صفحات رسائله وكتبه برسومات توضيحية من عمله هو. كما رسم اسكتشات ولوحات مفصّلة عن الصخور والنباتات والطيور والمناظر الطبيعية والهياكل المعمارية. وكان يشدّد دائما على الربط ما بين الطبيعة والفنّ والمجتمع.
    كتابه بعنوان "الرسّامون المعاصرون" قالت عنه الأديبة المعروفة تشارلوت برونتي انه أزاح عصابة كانت على وجهها ومنحها عينين جديدتين، وهذا أعظم ما يمكن أن يفعله إنسان في هذا العالم.
    وأخيرا تُنسب إلى جون راسكن عبارات مأثورة كثيرة تتناول آراءه في الحياة والناس مثل قوله: من الأفضل أن تخسر كبرياءك من اجل شخص تحبّه على أن تفقد ذلك الشخص بسبب كبريائك العديمة الفائدة".
    وقوله: إن شروق الشمس جميل، والمطر منعش، والرياح تجعلنا متأهّبين، والثلج يبهجنا. ليس هناك شيء اسمه "أحوال جوّية سيّئة". هناك فقط أنواع مختلفة من الطقس الجيّد".
    وقوله: تذكّر أن أجمل الأشياء في هذه الحياة هي تلك التي يعتبرها الناس، عادة، عديمة المنفعة؛ الطاووس والزنبق مثلا".

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • من القصائد الكلاسيكية المغنّاة التي تغريك بسماعها مرّة بعد أخرى هذه الأغنية للمطرب الكبير الراحل عوض الدوخي. ورغم أنها ليست بمستوى شهرة بعض أغاني الدوخي الأخرى مثل صوت السهارى ويا ساهر الليل ويا من هواه وصبا نجد، إلا أنها تتميّز، هي أيضا، بجمال كلماتها وأصالة لحنها الذي يذكّرك بموسيقى الملحّنين الكلاسيكيين العرب الكبار.
    عوض الدوخي بالمناسبة أدّى كافّة أشكال الغناء. كما تغنّى ببعض ألحانه كبار المطربين العرب مثل فايزة احمد التي غنّت له صوت السهارى والمطربة العراقية مائدة نزهت التي غنّت له لا باس يا ترف الحشا وصبا نجد. صوت الدوخي فيه شجن وتوق وحزن شفيف، يذكّرك برائحة البحر ومناظر المراكب والغوص وبالأيّام الخوالي.
    وإذا أعجبتك "طال الصدود" فقد تجد في هذه الأغنية أيضا ما يطربك أو يثير بعض اهتمامك بإيقاعها المرح وموسيقاها البديعة. لاحظ أيضا التداخلات والحركات الرائعة لآلة الأكورديون فيها..
  • أحيانا تستمع إلى بداية أغنية ما فتُعجَب بالموسيقى ويشدّك أداء المطرب. لكن بعد قليل، سرعان ما تلاحظ أن اللحن لا ينمو بشكل طبيعي ولا يتناغم بالضرورة مع الكلمات.
    هذه الأغنية للفنّان الكبير أبو بكر سالم هي مثال على الأغاني التي تبدأ بداية قويّة وواعدة ولكنها لا تلبث أن تأخذ مسارا آخر مختلفا بعد المقطع الأوّل. الأغنية، أيّة أغنية، عادة ما يتعثّر لحنها ويتوه عندما يحاول المغنّي مجاملة الشاعر وإرضاءه بتلحين كلّ ما يكتبه من كلام حتى لو كان بعضه مجرّد حشو لا معنى له.
    "لا تنادي" أغنية جميلة، لكن جمالها لا يتجاوز المقطع الأوّل. وكان بالإمكان اختصارها لأربع دقائق بدلا من هذا التطويل المملّ والعكّ الشعريّ والموسيقيّ غير اللازم.
    ومع ذلك يظلّ أبو بكر سالم واحدا من الأسماء اللامعة في سماء الأغنية الخليجية والجزيرية. وأتذكّر الكثير من جمله اللحنية الرائعة التي لا يمكن أن يتوصّل إليها سوى فنّان على قدر عال من الإبداع والحساسية. استمع إلى هذه الأغنية كمثال.
  • لطالما اكتشفت أننا، أبناء هذا الجيل، منقطعون إلى حدّ كبير عن تراثنا الموسيقيّ والغنائي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، في حين أن هذا التراث يحوي ثروة هائلة من الموسيقى والمقامات وأشكال الغناء المختلفة والمتعدّدة.
    المشكلة أننا أحيانا لا نتذكّر مطربي الماضي إلا على سبيل تذكّر زمن أبائنا ومقارنته بزمننا، وليس من باب محاولة تذوّق أعمالهم ونقدها وكيف تبدو في سياق زمني مختلف.
    الرعيل الأول من مغنّيي الخليج والجزيرة معظمهم كانوا مناضلين بامتياز، خصوصا النساء، لأنهم أصرّوا على الاشتغال بالفنّ والموسيقى فنشروا الجمال وارتقوا بمشاعر الناس وحاولوا ترويض العنف الكامن في النفوس، متحدّين أفكار التطرّف الديني والأعراف الاجتماعية البالية، ولقوا في سبيل ذلك صنوف العنت والمشقّة.
    من هؤلاء المطربان الراحلان عبدالله فضالة وحمد الطيّار. اسمع الأوّل وهو يؤدّي هذه القصيدة الجميلة من شعر الياس فرحات. واستمع إلى الثاني في هذه الأغنية التي تُعتبر أشهر أعماله.
    على فكرة، عبدالله فضالة ينتمي لعائلة كويتية متديّنة. وكان أبوه يريده أن يصبح رجل دين، لكنه فضّل دراسة الموسيقى. وقد قرأت منذ أيّام مقابلة صحفية قديمة أجريت معه عام 1967، أي نفس العام الذي توفّي فيه. ولفتني قوله: كنت اذهب إلى حفلات السمر وأغنّي فيها. تلك الأيّام أحسن من أيّامكم هذه. كلّ شي عندكم الآن ما يجوز وحرام"!
    هذا الكلام قاله الفنّان قبل أكثر من أربعين عاما. ترى ما الذي يمكن أن يقوله لو بُعث إلى الحياة من جديد ورأى كيف أصبحنا اليوم بفضل أفكار المتشدّدين الظلاميين الذين يعادون كلّ قيمة جميلة وراقية في الحياة؟!
    تأمّل آخر صورة في الرابط الأخير واشكر الله على نعمة العقل!
  • الخميس، نوفمبر 28، 2013

    شخصيّات في الرسم: سالومي

    سالومي (أو شالوميت بالعبرية) هي واحدة من العديد من "النساء الشرّيرات" في تاريخ الفن. كانت ابنة لزوجة هيرود الذي كان ملكا على الجليل وحيفا في القرن الأوّل الميلادي. وكثيرا ما يأتي ذكر هذه المرأة، أي سالومي، مقرونا بحادثة قتل القدّيس يوحنّا المعمدان.
    كان الملك هيرود متردّدا في قتل يوحنّا خوفا من ردود فعل الناس. وكان يوحنّا قد استنكر زواج هيرود من زوجة أخيه هيروديا، أي والدة سالومي. لذا قرّر هيرود الغاضب أن يُلقي بالقدّيس في السجن.
    زوجة هيرود الجديدة والمثيرة للجدل كانت تريد يوحنّا ميّتا. وقد أتيحت لها فرصة مثالية لفعل ذلك خلال حفلة عيد ميلاد هيرود التي جمع فيها وزراءه وأركان حكمه. وتوسّلت الأمّ إلى ابنتها الجميلة سالومي كي تحاول التأثير على هيرود من خلال رقصها أمام الضيوف.
    ويقال إن سالومي لم تكن قد بلغت سنّ المراهقة عندما أدّت أمام هيرود رقصة الأقنعة السبعة المشهورة. وقد وقع الملك تحت سحر حركاتها المغرية، لدرجة انه عرض عليها وعدا بمكافأة. فطلبت أن يُسلّم لها رأس يوحنّا المعمدان على طبق. كان هذا طلبا دمويّا، خاصّة أنها عبّرت عنه أثناء حفل عشاء. كانت سالومي، مثل أمّها، تريد القدّيس ميّتا. ومن المؤكّد أن غضب أمّها كان دافعا لها لأن تطلب ذلك الطلب الغريب والقاسي.
    وكان واضحا أن سالومي تمكّنت من السيطرة على هيرود في لحظة لم يكن يستطيع فيها رفض طلبها. وكان التنفيذ فوريّا، ما بعث السرور والارتياح في قلب أمّها.
    قصّة سالومي، الشابّة الجميلة والواثقة، وردت تفاصيلها في كتاب العهد الجديد. لكن المرأة لم تُمنح اسما إلا بعد أن أشير إلى حكايتها في الآثار المكتوبة لليهود.
    قصّة سالومي ألهمت أعمالا مسرحية وسينمائية كثيرة، بالإضافة إلى تأثيرها في الأوبرا والباليه والرسم. الفنّانون الكلاسيكيون مثل بيتر بول روبنز وكارافاجيو وتيشيان وغويدو ريني صوّروا سالومي الفاتنة وهي ترقص. وفي العصر الحديث رسم القصّة فنّانون مثل أوبري بيردسلي وغوستاف كليمت واوديلون ريدون وغوستاف مورو وفرانز فون ستاك وروبيرت هنري وآخرين.
    روبنز، مثلا، رسم لوحته حفلة هيرود في آخر عشر سنوات من حياته. موديل سالومي في اللوحة كانت زوجته ذات الستّة عشر عاما التي تزوّجها بعد وفاة زوجته الأولى. وقد رسم اللحظة التي تُقدّم فيها سالومي إلى هيرود رأس يوحنّا على طبق من الفضّة. هيرود الزائغ العينين ينتفض رعبا بينما ترتسم على وجه هيروديا ابتسامة خفيفة وهي تراقب ردّ فعله.
    الرسّام الفرنسي هنري رينو (1843 – 1871) أظهر موهبة واعدة في بداية اشتغاله بالرسم. وقد توجّه إلى المغرب ليركب الموجة الاستشراقية، ورسم صورا استُقبلت استقبالا حسنا في صالون باريس. صورته عن سالومي المغرية وذات الشعر الداكن مع طبقها الفضّي رسمها عام 1870 واعتُبرت واحدة من أفضل لوحاته.
    ومثل زميله الانطباعي الفرنسي فريدريك بازيل، تطوّع رينو في الجيش الفرنسي، وحارب بشجاعة خلال الحرب الفرنسية البروسية. لكنّّه واجه مصيرا مشابها لمصير بازيل، إذ قُتل في ميدان المعركة وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين.


    الرسّام الرمزيّ الفرنسيّ غوستاف مورو (1826 - 1898) كان، على ما يبدو، مفتونا برسم النساء الشرّيرات. وقد رسم عدّة صور لسالومي عام 1875. ويقال إن صُوَره لها ألهمت اوسكار وايلد كتابة مسرحيّته سالومي عام 1891. وكان وايلد قد كتب المسرحية في البداية باللغة الفرنسية، لأن إنجلترا آنذاك لم تكن تسمح بإعادة تمثيل قصص الإنجيل أدبيّا أو فنّيا.
    في لوحة مورو المسمّاة الظهور "أو التجلّي"، يصوّر الفنّان الحادثة بعد انتهاء الجريمة. الرسّام استخدم الألوان المائية ورسم جسد المرأة بنغمات لونية غنيّة وتمكّن من إيصال التفاصيل المعقّدة لجسدها المرصّع بالجواهر ولخلفية المشهد الفخم.
    في اللوحة يقف الجلاد صامتا، يداه على مقبض سيفه الطويل المبقّع بالدم. والرأس المقطوع للقدّيس يقطر دما. والعينان الشبحيّتان ترمقان الراقصة بصمت بينما تنهمر منهما الدموع. الفم مشوّه ومفتوح، والعنق يكتسي لونا قرمزيا، والوجه مطوّق بهالة من الفسيفساء.
    التفاتة سالومي نحو الجدار حيث يظهر الرأس المقطوع تشلّ حركتها وتصيب يديها وأصابعها بالتشنّج. هي متكشفة تقريبا. وفي ذروة حماسها للرقص يسقط خمارها. رأس القدّيس يشتعل وينزف بينما الدم يسيل على أطراف لحيته وشعره. سالومي فقط هي التي ترى الرأس. والدتها هيروديا لا يشغلها سوى أنها انتقمت أخيرا. هيرود أيضا لا يرى الرأس، بل يبدو مائلا بجسده قليلا إلى الأمام وواضعا يديه على ركبتيه وقد أخبله عري المرأة المشبعة بروائح البخور والمُرّ.
    الرسّام الأمريكي روبرت هنري (1865-1929) كان القوّة الخلاقة التي وحّدت مجموعة من ثمانية فنّانين شكّلوا في ما بعد ما عُرف بمدرسة آشكان للرسم الواقعي.
    في عام 1909، رسم هنري أكثر من لوحة لسالومي، مع لمسة هزلية. سالومي ذات الخمار والتي ترتدي ملابس مطرّزة تبدو واثقة وهي تخطو إلى الأمام بساقين عاريتين وكأنها تؤكّد مقدرتها على جعل الرجال ينصاعون لأوامرها ويفعلون ما تريده.
    الرسّامة الأمريكية المولد ايلا بيل (1846-1922) درست في باريس مع الأكاديميّ الفرنسيّ جان بول لوران. أعمال بيل ليست معروفة على نطاق واسع. لكن لوحتها عن سالومي كانت ثمرة مجهود رائع. وهي، أي اللوحة، تمثّل وجهة نظر فنّانة أنثى في موضوع ظلّ على الدوام مقتصرا تناوله على الرسّامين الرجال.
    سالومي، كما رسمتها بيل، لها شعر فضفاض يطاول خصرها، بينما تكشف عن جزء من ثديها. ومن خلال تعبيرات الوجه، فإن بيل توحي بقوّة سالومي أكثر من كونها مغرية أو ذات جاذبيّة أنثوية.
    الرسّام الرمزيّ الألمانيّ فرانز فون ستاك (1863-1928) تمكّن من الجمع بين الحسّي والمقدّس في لوحته عن سالومي التي رسمها عام 1906. سالومي فون ستاك تبدو نصف عارية، مع فم واسع ومفترس يتناقض مع حركات يدها المثيرة. وهي ترقص أمام سماء مرصّعة بالنجوم، في حين يظهر عبد حاملا رأس يوحنّا المعمدان على طبق. رأس القدّيس يحيط به شعاع من نور، في إشارة إلى أنه على الرغم من انه أصبح الآن جثّة هامدة، إلا أن إرثه كرجل مقدّس سوف يعيش إلى الأبد.
    ولعلّ أفضل ختام للموضوع هو سماع بعض الموسيقى ذات الصلة. المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ ريشارد شتراوس ألّف أوبرا سالومي التي يعتبرها الكثيرون أشهر عمل موسيقيّ عن القصّة. على هذا الرابط مقطع من تلك الأوبرا عنوانه رقصة الأقنعة السبعة.

    موضوع ذو صلة: كليوباترا في الرسم

    الأربعاء، مايو 29، 2013

    قابيل وهابيل

    تُصوّر هذه اللوحة المصير البائس الذي انتهى إليه قابيل، الابن الأكبر لآدم وحوّاء، والذي بعد أن قتل شقيقه الأصغر هابيل، حُكم عليه بالتيه الدائم.
    قابيل المنهك والسائر على غير هُدى يظهر في أقصى يمين الصورة وهو يقود قبيلته عبر الصحراء استباقا لغضب الربّ. وعلى محفّة خشبيّة يحملها أبناؤه، تجلس امرأة حائرة مع طفليها النائمين. بينما تظهر حيوانات وقطع من لحم نازف وهي معلقّة على طرف المحفّة.
    الرجال الآخرون، وبينهم صيّادون، يمشون جنبا إلى جنب. الخوف من غضب الربّ مرتسم على الوجوه. أحد الأشخاص يحمل بين ذراعيه امرأة شابّة يبدو على ملامحها الإنهاك والمرض، بينما تظهر بعض الكلاب الضالّة في الخلف.
    الرسّام الفرنسي فرناند كورمون جعل الظلال طويلة كما لو أن ضوء الحقيقة يلاحق المذنب في هذا السهل المجدب والكئيب. وقد استخدم الألوان الترابيّة وضربات الفرشاة القويّة كي يضيف توتّرا إلى الصورة. كما انه ركّز على دقّة التشريح بأن جلب إلى محترفه أشخاصا حقيقيين لتمثيل كلّ شخصيّة.
    هذه اللوحة تمثل إعادة بناء انثروبولوجية للقصّة المشهورة التي وردت في العديد من الكتب السماوية. كما أنها تقدّم ميدانا جديدا، أي عصور ما قبل التاريخ، وبالتحديد الوقت الذي بدأ فيه الإنسان بالرسم على الصخور في العصر الحجريّ القديم.
    وفي غياب أيّة وثائق أو أسانيد مؤكّدة، خمّن الرسّام طبيعة الحياة في تلك الأزمنة البعيدة، عندما كان البشر البدائيّون يكافحون من أجل البقاء ويتنقّلون بأقدام حافية وشعر مجعّد وجلد خشن. وقد اختار الرسّام عنوانا فرعيّا للوحة اقتبسه من استهلال قصيدة لـ فيكتور هوغو بعنوان "الضمير" يقول فيه: عندما فرّ قابيل من غضب ربّه أشعث الشعر مغبرّا كان يصحبه أبناؤه. كانوا يرتدون جلود الحيوانات وتتقاذفهم العواصف. وعندما تلاشى الضوء، وصل الرجل الكالح إلى سفح جبل في سهل واسع".
    تقول القصّة إن قابيل، بعد ارتكابه جريمة قتل شقيقه، رحل وهو وزوجته عن منزل والديه ليعيشا في مكان بعيد. وقد أنجبا في ذلك المكان أطفالا. ثمّ أسّس أبناؤه في ما بعد مدينة أطلق عليها قابيل هانوك أو إدريس، على اسم طفله الأوّل.

    ❉ ❉ ❉

    حملت حوّاء من آدم بطفلهما الأوّل وأسمياه قابيل. وبعد فترة أنجبت طفلا ثانيا أسمياه هابيل. وفي ما بعد أصبح هابيل راعيا للغنم، بينما كان قابيل يعكف على استزراع الأرض. تقول القصّة إن قابيل قدّم بعضا من نتاج الأرض التي كان يزرعها قربانا للربّ، بينما قدّم هابيل قربانا بعضا من أبكار غنمه. وقد تقبّل الربّ قربان هابيل، لكنّه لم يتقبّل قربان قابيل. لذا غضب الأخير وأحسّ بالنبذ. وذات يوم دعا قابيل شقيقه كي يذهبا معا إلى الحقل بعد أن أسرّ في نفسه أمرا. وهناك هاجم قابيل هابيل وقتله.
    محور هذه القصّة هو الأنانيّة المتأصّلة عند قابيل وعدوانيّته وغيرته الشديدة. الرواية القرآنية عن القصّة تماثل تلك التي وردت في التوراة، وهي توحي بأن دافع قابيل لارتكاب الجريمة كان رفض الربّ أن يتقبّل منه قربانه.

    ❉ ❉ ❉

    قصّة قابيل وهابيل تتضمّن طبقات متعدّدة من المعاني. فالقصّة تقول لنا أن الله يفضّل قرابين اللحم على قرابين الخبز والفاكهة. كما أنها توضّح تفوّق ثقافة الرعي والترحال على ثقافة الزراعة والاستقرار. وهذه الفكرة تتكرّر في قصص العهد القديم، حيث يثور الأنبياء ضدّ شرور أهل المدن، بينما يمتدحون الرعي والعيش في الأرياف. وهناك في العالم المعاصر اليوم من لا يزالون يفضّلون الحياة في البوادي والقرى باعتبارها أكثر طهرانية ونقاءً.
    لكن القصّة تتضمّن مجموعة أخرى من الأفكار التي أسهمت في تغيير تاريخ البشر وفي تحوّل الوعي الإنساني. تذكر القصّة، مثلا، أن الله وضع وصمة على قابيل بعد ارتكابه للجريمة وذلك بأن جعل بشرته سوداء وشعره مجعّدا. والغريب أن انتشار الرقّ في القرنين الماضيين في أمريكا وفي غيرها من مناطق العالم كان يُبرّر دائما بأن الأفارقة ينحدرون من سلالة قابيل، ولذا حلّت عليهم تلك اللعنة وأصبح قدرهم أن يعيشوا مستعبدين في الحياة.
    وليس البيض وحدهم هم من يؤمنون بهذا الشيء، بل إن رجال الدين السود يشاطرونهم هذا الرأي أيضا ويعتقدون بأن الحال ستظلّ هكذا إلى أن يعود المسيح إلى الأرض ثانية فيرفع عنهم تلك اللعنة بعد أن يتأكّد من أنهم أصبحوا أتقياء صالحين!

    بعد طرد آدم وحوّاء من جنّات عدن، اشتغلت ذرّيتهما في الأعمال البدائيّة البسيطة. إبناهما، أي قابيل وهابيل، يوصفان كأوّل مزارع وراعٍ في سلالة البشر. غير أن الاثنين مارسا أيضا شيئا لم يعرفه أبواهما في الجنّة، أي الدين.
    وعلى الرغم من أن القصّة لا توحي أبدا بأن الربّ طلب منهما هذا الأمر، إلا أن الاثنين قدّما إلى الله قرابين دينيّة على هيئة جزء من غلّتهما. وعلى ما يبدو، كان الله مستاءً من قابيل لأنه قدّم قربانا من الحبوب والفاكهة، في حين انه كان يفضّل أضحية من دم كتلك التي قدّمها هابيل. هذا على الأقل ما افترضه قابيل وهابيل. يمكننا فقط أن نخلص إلى أن هابيل أصاب ثروة أفضل من تلك التي جمعها قابيل، وهذا ما انتهى إليه فهمهما.
    وأيّا ما كان الأمر، فقد شعر قابيل بالغيرة من هابيل وقام بقتله. وكانت تلك أوّل جريمة قتل تُرتكب في تاريخ البشرية وأوّل حادثة عنف دينيّ.
    طوال فترة مكوثهما في الجنّة، لم يقدّم آدم وحوّاء أيّ قربان لله. لكن لم يمض وقت طويل حتى قرّر ابناهما أن تلك هي الطريقة المثلى لنيل رضا الخالق. وما أن بدءا هذه الممارسة حتى انكشف شرّها المتأصّل بطريقة مأساويّة.
    يذهب بعض مؤرّخي الأديان إلى انه من الصعب أن نتصوّر أن الله يمكن أن يروّج لمثل هذه العادة المشكوك فيها. وحتى الآن، ما يزال جزء كبير من اللاهوت المسيحيّ الغربيّ يرتكز على فكرة أن الله يطلب الاضحيات والقرابين لكي يتمّ استرضاؤه وتجنّب غضبه. لكن هناك من الأنبياء من قالوا صراحة بخلاف ذلك، أي أن الله ليس مهتمّا بقرابين البشر، وأن كلّ ما يطلبه منهم هو أن يعملوا بعدل ومحبّة ورحمة.

    ❉ ❉ ❉

    ترى كيف كانت طبيعة العالم الذي وجده آدم وحوّاء بعد طردهما من الجنّة؟ هل كان هناك بشر بدائيّون يعيشون خارج عدن؟ ومَن كان الطغاة العمالقة الذين تذكر بعض المصادر الدينية أنهم كانوا يعيشون على الأرض ويعيثون فيها الخراب إلى أن انقرضوا قبيل حادثة الطوفان؟ هل الله هو الذي خلقهم أم أنهم كانوا تمظهرات وتحوّلات للشيطان؟ ومن كانت زوجتا قابيل وهابيل؟
    الكتب المقدّسة لا تتطرّق إلى مثل هذه الأمور. لكن يمكننا أن نفترض أن العالم خارج عدن لم يكن عالما مثاليّا. ومع ذلك كان هناك شكل من أشكال الحضارة الإنسانيّة، بل وربّما أنواع أخرى من البشر شبيهة بالإنسان. وكانت هناك مزروعات وقطعان من الحيوانات المفترسة والمستأنسة تتعايش مع الإنسان في أجواء من الصراع والخطر والموت.

    ❉ ❉ ❉

    في الفنّ المسيحيّ الذي يعود إلى القرون الوسطى، ولا سيّما فنّ القرن السادس عشر، كان قابيل يُرسم بشكل نمطيّ على هيئة يهوديّ ملتحٍ وذي شعر أشعث. وهو يقتل هابيل الذي يظهر بملامح أوربّية وشعر أشقر ويرمز للمسيح.
    وقد استمرّ هذا التصوير التقليدي لعدّة قرون. وأقرب مثال عليه هو لوحة جيمس تيسو بعنوان قابيل يقود هابيل إلى الموت والمرسومة في القرن التاسع عشر. لكن في ما بعد أصبح قابيل يُصوّر كأب للمجموعات السرّية وعصابات الجريمة المنظّمة.
    وكثيرا ما شكلّت قصّة قابيل وهابيل موضوعا للأعمال الدرامية المأساوية. كان قابيل يُصوّر غالبا بشعر احمر ولحية ملوّنة، كما في مسرحيّة شكسبير "سيّدات وندسور المرحات". شكسبير أيضا يذكر قابيل وهابيل على لسان كلوديوس في مسرحيّة هاملت. كما يرد ذكر الاثنين في مسرحية "بانتظار غودو" لـ سامويل بيكيت.
    وفي روايته شرقي عدن ، يستدعي جون شتاينبك قصّة قابيل وهابيل ليسقطها على وقائع هجرة الأوربّيين إلى كاليفورنيا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
    اللورد بايرون أعاد كتابة القصّة في قصيدة له بعنوان "قابيل". وهو ينظر إلى قابيل كرمز للمزاج الدمويّ الذي أثاره نفاق هابيل وتظاهره الزائف بالتقوى. وفي الكوميديا الإلهية، يواجه قابيل العقوبة التي فرضها الله عليه لارتكابه خطيئة الحسد بعبارته المشهورة: سأصبح مطاردا وهائما على وجهي في الأرض، ومن يجدني سيقتلني".
    وفي أعمال أدبيّة أخرى، أصبح اسم قابيل مرادفا للعنة المتوارثة. فالوحش في قصّة بيوولف ينحدر من سلالة قابيل. غير أن بودلير كان الكاتب الأكثر تعاطفا مع قابيل في قصيدته "هابيل وقابيل" من مجموعة أزهار الشرّ ، حيث يصوّر قابيل كممثّل لكلّ الشعوب المضطهدة في العالم.
    في الرسم، كانت قصّة قابيل وهابيل احد المواضيع المفضّلة للفنّانين منذ القدم. ومن أشهر من رسمها كلّ من تيشيان وغوستاف دوري وتينتوريتو وروبنز ووليام بليك وغيرهم.
    بعض من كتبوا عن قابيل وهابيل في ما بعد حلّلوا قصّتهما من منظور معاصر مع بعد دياليكتيكيّ، فأشاروا إلى أن الموت العنيف لهابيل كان نتيجة لحالة من حالات الصراع الطبقيّ المبكّرة، وأن العنف هو نتيجة حتميّة طالما أن المجتمع يصنّف الناس على أساس الثروة والسلطة، بدلا من توحيدهم على أساس التعاطف المتبادل والأخوّة الإنسانيّة.

    Credits
    en.wikipedia.org

    السبت، مارس 16، 2013

    محاكمة رسّام

    يقال إن اسمه الأصلي باولو كالاريو أو باولو غابرييلي. لكنّ الاسم الذي أصبح معروفا به هو باولو فيرونيزي "نسبة إلى مدينة فيرونا الايطالية" التي ولد فيها عام 1528م.
    نحن الآن في ربيع عام 1573، وفيرونيزي يعكف على رسم صورة ضخمة لتزيّن دير سان باولو جيوفاني في فينيسيا. بالنسبة إلى البعض، كانت فينيسيا في ذلك الوقت مدينة التجارة البحرية والإصلاح الكنسيّ المضادّ، وبالنسبة للبعض الآخر كانت عبارة عن مأخور كبير.
    المهمّة التي أسندت إلى فيرونيزي كانت محدّدة سلفاً: رسم لوحة تصوّر العشاء الأخير للمسيح. وقيل للرسّام إن اللوحة يجب أن تبهج النفس وتروق للعين، تماما مثل لوحته الأخرى زواج في قانا المعلّقة في دير سان جورجيو ماجيوري.
    في ذلك الوقت، كان فيرونيزي قد أصبح مشهورا. وكان بالإضافة إلى كلّ من تيشيان وتينتوريتو يمثّلون روّاد ما عُرف بعصر النهضة الشمالية. وهؤلاء الثلاثة كان لهم تأثير واسع على الرسّامين الذين أتوا في ما بعد، مثل روبنز وفيلاسكيز وديلاكروا وسيزان.
    كان فيرونيزي معروفا باستخدامه الفخم للألوان وبواقعية رسوماته. وبعض النقّاد وصفوا أعماله بأنها حلوى غنيّة بالدسم ومهرجانات من الحرير والساتان، في إشارة إلى أسطحها الرائعة وثراء ألوانها الحيّة والأنيقة. بعد أن استقرّ الرسّام في فينيسيا عام 1553، أصبح الطلب على أعماله في ازدياد. لكن على الرغم من شهرته ونجاحه، فإن أفكاره المنفتحة وتحرّره الفكري وضعاه في نهاية المطاف في مأزق لا يُحسد عليه.
    العشاء الأخير، عندما اُنجزت، كانت وليمة فاخرة من الألوان الحمراء والذهبية، مع أعمدة وأقواس وديكورات فخمة. واللوحة لا تُظهر فقط السيّد المسيح وتلاميذه الإثني عشر، ولكن أيضا مجموعة من الشخصيات الأخرى، من بينهم خدم وأقزام ومهرّجون وجنود وإضافات أخرى لا تراها عادة في اللوحات التي تصوّر هذا الموضوع. تفاصيل اللوحة كانت غريبة على السياق الديني للقصّة، وموضوعها بدا ذا طابع وثنيّ وفيه تمجيد لحبّ الحياة في فينيسيا القرن السادس عشر.
    ومن الواضح أن فيرونيزي تبنّى رؤية متحرّرة وهو يرسم هذه الفكرة التي سبق وأن طُرقت كثيرا من قبل. لكن يبدو أن السلطات لم تقدّر إبداع الرسّام. فما أن سلّم العمل إلى الدير حتى استُدعي للمثول أمام إحدى محاكم التفتيش للردّ على اتّهام وُجّه إليه بالهرطقة.
    في ذلك الوقت من القرن السادس عشر، كانت محاكم التفتيش في ذروة نشاطها في وسط وغرب أوربّا. لكن سلطة تلك المحاكم في فينيسيا كانت محدودة بقرار من مجلس الشيوخ. ومع ذلك، كان لديها القدرة على مضايقة وتهديد، بل وحتى تعذيب الأشخاص الذين تعتبرهم مذنبين.
    وفي يوليو من عام 1573، وقع فيرونيزي في مرمى نيران تلك المحاكم. وإحدى النقاط الإشكالية في القضيّة كانت الشخصيّات التي تظهر في اللوحة. وقد أقرّ الرسّام بأن مساحة اللوحة الواسعة اضطرّته لإضافة أكثر من ثلاثين شخصيّة لملء الفراغات وتزيين المشهد.
    وقد سأل المحقّقون فيرونيزي ما إذا كان يشعر أن من المناسب أن تتضمّن العشاء الأخير "صوراً لمهرّجين وجنود ألمان في حالة سُكر وأقزام وغير ذلك من الأمور السخيفة". وأضافوا أن الفنّانين الألمان "الزنادقة" غالبا ما يضيفون مثل تلك الشخصيات إلى لوحاتهم الدينية على سبيل السخرية من الكنيسة الكاثوليكية. كما شعر المحقّقون بالإهانة الشديدة للغياب الملحوظ لشخصية مريم المجدلية عن اللوحة مقابل الحضور الواضح لكلب يجلس في مقدّمة الصورة مباشرة.
    كان من حُسن حظّ فيرونيزي أن محاكم التفتيش في فينيسيا لم يكن لها نفس الأسنان الحادّة التي كانت لمثيلاتها في أجزاء أخرى من أوروبّا لأنه، وهو يستمع إلى قائمة التهم الموجّهة ضدّه، لم يقدّم سوى مبرّرات ضعيفة وغير مقنعة. فقد ادّعى انه أضاف الشخصيّات كـ "حِلية" لتعبئة الفراغ، وأن الخدم والمهرّجين يُفترض أنهم موجودون في غرفة منفصلة عن غرفة المسيح وحواريّيه.
    وأخيرا دافع عن نفسه مشيرا إلى أن ميكيل أنجيلو رسم المسيح ومريم العذراء والقدّيس بطرس وغيرهم من الشخصيات الدينية الأخرى وهم عراة في الكنيسة البابوية في روما. ثمّ توسّل من المحقّقين الرأفة قائلا: نحن الرسّامين نستخدم نفس الرخصة تماما كالشعراء والمجانين، ولم أكن أظنّ أنني كنت ارتكب خطئاً".
    بعد انتهاء استجوابه أمام المحكمة، اُمر فيرونيزي بأن يبادر إلى "تصحيح" اللوحة في غضون ثلاثة أشهر، وذلك بأن يرسم المجدلية مكان الكلب وأن يزيل صورة "الألمان المخمورين" عن اللوحة تماما. وبعد هذين الشرطين أطلق سراحه وتنفّس الصعداء.
    أخبار محاكمة فيرونيزي جعلت اللوحة أكثر شعبيّة من أيّ وقت مضى. ورغم انه كان يجلس أمام المحقّقين وديعا ومرتعبا، إلا انه بعد الإفراج عنه اتخذ موقفا متحدّيا وحازما في التعامل مع حكمهم. فقد ترك الكلب والأقزام والألمان السكارى في أماكنهم في اللوحة، تماما مثلما كان قد رسمهم. التغيير الوحيد الذي أحدثه هو انه بدّل اسم اللوحة من العشاء الأخير إلى وليمة في بيت ليفي. وقد ظلّت اللوحة في غرفة الطعام بالدير إلى أن أمر نابليون بأن تُنقل إلى مكان آخر. واليوم يمكن رؤية اللوحة باسمها الأخير في متحف غاليريا ديل أكاديميا في فينيسيا.

    Credits
    en.wikipedia.org

    الاثنين، يوليو 25، 2011

    أمام المرآة


    هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
    من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
    واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
    المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
    لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
    لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
    والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
    توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
    المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
    أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
    لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
    والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
    عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
    لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
    الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
    معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
    ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
    وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!

    الجمعة، يوليو 08، 2011

    فان دايك في انجلترا


    لا بدّ وأن تتحرّك مشاعرك وأنت ترى لوحة الليدي ديغبي لـ انطوني فان دايك. تبدو المرأة نائمة، رأسها يستريح برفق فوق يدها. لكن بعد ذلك، ستلاحظ أن إحدى عينيها مفتوحة بطريقة غير طبيعية، وتدرك أنها ميّتة. فان دايك يستحضر في هذه اللوحة صورة خالدة من صور الصفاء والجمال ضمن فكرة الموت.
    وهناك لوحات حزينة أخرى لهذا الرسّام. وهي تعكس أجواء القرن السابع عشر: الطاعون، الحرب والموت المبكّر. ومع ذلك، ثمّة لوحات أخرى لـ فان دايك تصوّر مواضيع دينية وأسطورية، بالإضافة إلى بورتريهات للعديد من الأشخاص بملابسهم الرائعة الألوان. وهذه الأخيرة هي التي اشتُهر بها أكثر من غيرها.
    كان فان دايك في لوحاته يحتفظ بالحدّ الأدنى من الرمزية بحيث يمكنك تركيز الاهتمام على الفرد، لا سيّما تعابير وجهه وحركات يديه. لوحته التي رسمها لـ ماريا لويزا دي تاسيس لا بدّ وأن تغريك بابتسامتها التي تشبه كثيرا ابتسامة الموناليزا.
    المؤرّخ كريستوفر هيل وصف ذات مرّة فان دايك بأنه كان يروّج للحكم المطلق بتزييفه لحقيقة المظهر في لوحاته". لكن الردّ على هذا الكلام قد يكون شديد التعقيد.
    ولد انطوني فان دايك في انتويرب في بلجيكا عام 1599، وهي مدينة تقع على خطّ المعركة بين الإصلاح البروتستانتي والكاثوليكية المضادّة للإصلاح. وقد بُنيت المدينة كي تكون مركزا تجاريّا. وكان والد فان دايك تاجر أقمشة. والكثير من رعاته كانوا من التجّار أيضا.
    في ذلك الزمان، شهدت الفنون والثقافة طفرة كبيرة، وبخاصّة في إيطاليا التي ازدهرت فيها دراسة الثقافة اليونانية والرومانية الكلاسيكية خلال عصر النهضة. الفنّ في تلك الفترة، بحسب ما يقوله الناقد الماركسي الروسي البارز بليخانوف، كان يمرّ بتحوّل مهم تمثّل في حقيقة أن الفكرة المسيحية المثالية عن الشكل البشري كانت في تراجع بفعل الأفكار الدنيوية التي كان ظهورها محتّما مع بداية النضال الحضري من أجل التحرّر.
    صور المادونات، على سبيل المثال، أصبحت مشبعة بملامح الوجود الأرضي البحت، لدرجة أنه لم يعد يجمعها شيء مع العذراوات التقيّات في العصور الوسطى.
    كان ذلك العصر عصر دافنشي ومايكل أنجيلو ورافائيل وتيشيان وعلم دراسة المنظور والتشريح البشري.
    الأساليب الفنّية الجديدة كانت تغزو جميع أرجاء أوربّا. والتجارة والسفر والطباعة سهّلت التفاعل بين الأشكال والأساليب الفنّية المختلفة. ولوحات المناظر الطبيعية الضخمة التي نشأت في هولندا عادت إلى الظهور مجدّدا في لوحات عصر النهضة في فينيسيا، والتي استفاد منها فان دايك خلال إقامته في انجلترا.
    الفنّان الألماني البريخت ديورر (1471-1528) زار فينيسيا في وقت لاحق، وساعد في إدخال أساليب عصر النهضة الإيطالي إلى بلده. و هولبين (1497-1543) قام بتزيين الكنائس الألمانية متأثّرا بأسلوب عصر النهضة. ثم هاجر بعد ذلك إلى انجلترا البروتستانتية.
    ولد فان دايك في خضمّ هذه العاصفة السياسية والاجتماعية والثقافية. كانت عائلته كاثوليكية ملتزمة. فاثنتان من شقيقاته انضمّتا إلى احد الأديرة بينما أصبح شقيقه كاهنا. وهو نفسه، أي الرسّام، انضمّ إلى جماعة يسوعية.
    تتلمذ أنطوني فان دايك على احد رسّامي انتويرب الكبار، وهو هندريك فان بيلين عندما كان عمره عشر سنوات. وبعد بضع سنوات أخرى، أصبح يدرس على يد بيتر بول روبنز.
    كان روبنز الرسّام الأوّل في العالم الكاثوليكي. وكان يتبع التقاليد الفلمنكية التي بدأها رسّامون مثل بريغل الذي كان يحاكي الطبيعة ويرسم مشاهد ريفية. لكن بعد أسفاره في ايطاليا، أصبح فان دايك متأثّرا بجمال وبساطة أعمال انيبالي كاراتشي وكارافاجيو.
    وعندما عاد إلى بلجيكا، أصبح أوّل فنّان يرسم الصور الكبيرة. وأعماله في ذلك الوقت مليئة بالحركة والناس، لكن ما يزال فيها إحساس بالضوء والمكان. ومقارنة مع صوره، كانت لوحات الرسّامين من مواطنيه صغيرة ورسمية ومتيبّسة.
    استوعب فان دايك بسرعة أسلوب وتقنيات روبنز. وكان الأخير يعتبره أفضل تلاميذه. لكن على الرغم من تأثير روبنز الكبير عليه، إلا انه كان قد بدأ بالفعل أسلوبه الخاصّ به.
    وكان أفراد الطبقة البرجوازية الصاعدة في انتويرب يرعونه ويقدّرونه. وفي لوحاته العديدة التي رسمها لهم، يظهر هؤلاء بملابسهم السوداء وياقاتهم البيضاء وعلى وجوههم علامات الفخر والزهو بوضعهم الجديد.



    في ايطاليا، رسم فان دايك العديد من الصور الجميلة واللوحات الدينية. كما عمّق دراسته لفنّ عصر النهضة في فينيسيا، وخاصّة تيشيان. وقبيل وفاته، كان قد جمع سبع عشرة لوحة من أعمال هذا الأخير.
    كان تيشيان الأكثر شهرة بين معاصريه بسبب بورتريهاته. وكان للوحاته نوعية حالمة، مقارنة بـ فان دايك الذي كان يضع البشر بقوّة على الأرض.
    وقد أمضى فان دايك سنواته الأخيرة في لندن كرسّام للبلاط. وأقام هناك ورشة فنّية كانت تنتج لوحة كلّ أسبوع. ومثل روبنز، كان غالبا ما يترك العمل الأساسي لمساعديه ويكتفي فقط بإضافة اللمسات الأخيرة.
    وجوده في لندن تزامن مع فترة حكم الملك تشارلز الأوّل الذي كان يمارس حكما فرديّا. فالبرلمان لم ينعقد من 1628 إلى 1640م. وتشارلز، البروتستانتي، كان يعتمد على الطبقة الأرستقراطية. وكان خصومه من التجّار ومُلاك الأراضي الذين كانوا يخشون عودة الكاثوليكية لأن ذلك كان يعني ضياع أراضيهم. وقد ركّز هؤلاء كراهيتهم على الملكة هنرييتا ماريّا التي كانت فرنسية وكاثوليكية. وكان فان دايك، بحكم وظيفته، مقرّبا من البلاط.
    تصوير فان دايك للسلطة ربّما يغضب بعض الناس. ومع ذلك، فإن لوحاته تُعتبر سجلا رائعا لـ انجلترا التي كانت وقتها تتّجه إلى الحرب الأهلية. وقد وجد رعاته أنفسهم على كلا الجانبين في هذا الصراع.
    كان ايرل سترافورد عضوا في مجلس العموم ونائبا في البرلمان. ثمّ عُيّن كبيرا لمستشاري الملك تشارلز. وقد حوكم من قبل البرلمان المنصّب حديثا في العام 1641 وأعدم بعد أن وقّع تشارلز نفسه على الحكم بقتله.
    في اللوحة التي رسمها له فان دايك، يقف ايرل سترافورد بشعره القصير وبدلته السوداء اللامعة بينما يقف إلى جانبه كلب صيد ايرلندي. ملامح وجه الرجل كما يظهر في اللوحة تكتسي بتعابير هي مزيج من التوتّر والخوف.
    بعد فترة وجيزة من وصوله إلى انجلترا في 1632، تلقّى فان دايك تكليفا من الملك بأن يرسم له لوحة بمعيّة الملكة.
    وفي اللوحة قلّل فان دايك من أهمّية الجانب الاحتفالي ورسم الزوجين، الملك والملكة، بملابس زاهية فيما تشارلز ينظر بمحبّة نحو هنرييتا الجميلة.
    هل زوّر فان دايك مظهر الحقيقة هنا؟ الزوجان الملكيان لم يكونا قد رأيا بعضهما لمدّة ثلاث سنوات بعد زواجهما المرتّب. ابنة أخت هنرييتا وصفتها آنذاك بأنها "امرأة صغيرة بذراعين نحيفتين طويلتين وكتفين ملتويين وأسنان بارزة من فمها مثل بنادق في حصن".
    تشارلز كان ينظر إلى الفنّ كوسيلة للترويج لنفسه كملك لبريطانيا. لكن حتى هذه الصورة لها جانبها التخريبي. إذ لم يحدث من قبل أن ظهر ملك بهذا الشكل الإنساني والمتحرّر من جبروت السلطة.
    وفي بعض لوحاته العائلية، حطّم فان دايك التقليد القديم الذي كان يقضي بأن يكون الرجل إلى اليمين والمرأة إلى اليسار.
    كما كان يعامل الأطفال كأفراد لهم شخصيّاتهم الخاصّة، ما أضاف لمسة من الشقاوة والخفّة إلى لوحاته.
    توفي فان دايك في السادس من ديسمبر 1641 عن اثنين وأربعين عاما. وخلال حياته القصيرة أنتج ما يقرب من ألف لوحة. وقد عاش كما يعيش الارستقراطيون وكان متعاطفا مع اليسوعيين والملكيين. غير أن هذا لا ينتقص من جاذبية فنّه.
    ويبدو انه كان قادرا على المزج بين مختلف التيّارات في الفنّ الأوروبّي كي ينتج صورا جميلة وقويّة ومملوءة بالشعور بالألفة والفردانية والبعد عن الرسمية.
    قبل وفاته بثمان سنوات، رسم فان دايك لنفسه بورتريها شخصيا يظهر فيه مرتديا قميصا من الحرير الأحمر اللامع وحول كتفه سلسلة ذهبية بينما ينظر إلى الوراء. يده اليمنى تشير إلى زهرة كبيرة ومتفتّحة من أزهار عبّاد الشمس، رمزا لولائه للملك، وخلفها زهرة أخرى ذوَت وذهبت نضارتها.
    هذه اللوحة رسمها وهو في أوج شهرته وثرائه. والمعنى الكامن فيها ما يزال يثير إعجاب الناس إلى اليوم. كأن الرسّام يقول: أنا هنا مثل عبّاد الشمس. عشت هذه الحياة واكتشفت جوهرها. لقد جعلتْ منّي إنسانا ثريّا ومشهورا. ولكن، ما قيمة كلّ هذه الثروة والشهرة عندما يموت عبّاد الشمس"؟!

    Credits
    nationalgallery.org.uk
    historytoday.com

    الجمعة، يونيو 24، 2011

    الرحيل إلى سيثيرا


    لم تحدث رحلة مثل هذه في الواقع. ولا الرسّام يحاول حملنا على الاعتقاد بأن الرحلة حدثت فعلا. التماثيل الكلاسيكية المطوّقة بالزهور، وكائنات كيوبيد الطائرة في منتصف الهواء، كلّها تبدو مثل عرض على خشبة مسرح. حركة العشّاق البطيئة، النسيم الذي يهفهف الأشجار، والضباب الذي يرحل فيه الرجال والنساء، تثير حالة شبيهة بالحزن الذي يعترينا عند الإحساس بانتهاء العطلة.
    ورغم أن طبيعة الحياة اليوم أصبحت مختلفة نوعا ما، إلا أن لوحة جان انطوان واتو الرحيل إلى سيثيرا تثير صدى بعيداً آتياً من وراء القرون. فهذه الجزيرة، أي سيثيرا، تقع في اليونان، وبالتحديد في أقصى جنوب البحر الأيوني. وهي محاطة بالجبال وترتفع عن سطح البحر بأكثر من ألف وستمائة قدم. وفي العصور القديمة ساد اعتقاد بأن هذه الجزيرة كانت المكان الذي ولدت فيه فينوس أو افرودايت إلهة الجمال.
    والرسّام يستلهم قصّة تلك الجزيرة ليصوّر الاحتفال الذي كان يحييه ارستقراطيّو فرنسا زمن الملك لويس الرابع عشر. كان أفراد النخبة يذهبون إلى الريف لينغمسوا في الملذّات والحفلات الماجنة في أجواء من البذخ والشهوة. و واتو هنا يخلق إحساسا بالامتداد الواسع بين الغابة البعيدة والضبابية وبين النباتات الخصبة والوفيرة. وهو تأثير يحرّض الناظر على أن يدخل في قلب المنظر.
    في اللوحة نرى ريفا متحضّرا مشيّدا من عدّة طبقات فنّية. الرجال والنساء يبدون مستغرقين في أحاديث غزل بلا نهاية. وامرأة شابّة تنظر خلفها بحنين إلى المكان الذي قضت فيه للتوّ ساعات سعيدة. وامرأة أخرى تقبّل يد حبيبها الذي يساعدها على الوقوف. وعاشق آخر يضع يده حول خصر حبيبته كي يحرّضها على مرافقته. السفينة في أقصى يسار اللوحة مزيّنة بالحرير الأحمر بينما تتهادى بخفّة مثل حلم ذهبيّ فوق الأمواج.
    الطبيعة الرعوية للمكان تحاول الإمساك بجوهر الجنّة. والجوّ فانتازي أكثر منه واقعيا. الألوان متناغمة. واستخدام فرشاة ناعمة يُنتج منظرا أشبه ما يكون بالحلم. ومن الصعب أن تعرف ما إذا كان الوقت ربيعا أو خريفا، فجرا أو غسَقا. الجانب المهيمن في اللوحة هو منظر الأشجار الرائعة والخضرة السامقة التي تحيط بالمكان والناس.
    تماثيل فينوس والملائكة الصغار تولّد هالة ايروتيكية توحي بالجانب الحسّي للموضوع. أيّ مكانٍ يمكن أن يقترحه واتو كي يذهب إليه العشّاق أفضل من سيثيرا، جزيرة الحبّ؟! ومع ذلك، فتفاصيل اللوحة تشير إلى أن العشاّق يوشكون على مغادرة الجزيرة.
    عُرف عن واتو ميله لاستخدام فرشاة خفيفة وناعمة كي يخلق جوّا حالما وضبابيّا. وهذا واضح في منظر الغيوم الخفيفة وأوراق الشجر الساكنة. ألوان الطبيعة متوافقة مع ملابس الأشخاص. والضوء في هذا المشهد الحالم ينعكس على ملابس الأشخاص باعثاً كرنفالا من الألوان الساطعة والمبهجة.
    ربّما كان حبّ الرسّام للجغرافيا والأماكن الساحرة والفانتازية وعشقه للمسرح من بين الأسباب التي دعته لرسم هذه اللوحة الضخمة. وقد لزمه خمس سنوات كاملة كي ينجز رسمها. أما لماذا هذه الفترة الطويلة نسبيا، فلأنه كان يعمل في نفس الوقت على لوحات أخرى كُلّف برسمها.
    وقد ثبت أن اللوحة هي إحدى تحفه الفنّية الكبيرة. كما أنها تمثل معلما مهمّا في تاريخ فنّ القرن الثامن عشر. ولطالما اُعجِب النقّاد بالبُنية المتناسقة للوحة والشعور الهادئ بالاستمرارية وحيوية ضربات الفرشاة والألوان الجميلة فيها. وبسبب النجاح الكبير الذي حقّقته، كُلّف واتو برسم نسخة ثانية منها بناءً على طلب صديق له يُدعى جان دي جوليان.
    لوحة "الرحيل إلى سيثيرا" تثير إحساسا بالسعادة والمزاج المتفائل. فليس هناك أثر للحزن، ولا مكان هنا للقلوب الكسيرة. العشّاق يتجوّلون معا في المكان، بينما تظلّلهم آلهة الحبّ الصغيرة. واللوحة هي استعارة عن الغزل والوقوع في الحبّ. لكن بما أن المنظر يصوّر الرحيل عن موطن فينوس، فقد ذهب البعض إلى أن اللوحة ربّما ترمز إلى أن الحبّ إحساس عابر ولا يدوم طويلا.
    وممّا لا شكّ فيه أن الطبيعة الضبابية الغامضة في خلفية المنظر هي احد الملامح المبتكرة في اللوحة. كما أنها تعكس تأثّر الرسّام بنوعية الطبيعة التي كان يرسمها كلّ من روبنز ودافنشي. "مترجم".

    الجمعة، أكتوبر 29، 2010

    دردشة مع فرناندو بوتيرو

    الرسّام الكولومبي فرناندو بوتيرو شخص مثير للجدل. النقّاد لا يستسيغونه كثيرا. بينما يتنافس جامعو الأعمال الفنية على شراء واقتناء لوحاته. شهرته في بلده كولومبيا لا تختلف عن شهرة مواطنه الروائي غارسيا ماركيز. ورغم ارتباطه الكبير بوطنه، إلا انه لا يقضي فيه أكثر من شهر واحد في السنة لأسباب أمنية. وفي كلّ الأحوال، لا ينام بوتيرو في بيته إلا بصحبة شخصين أو ثلاثة، كما يستخدم في تنقّلاته اليومية سيّارة مضادّة للرصاص.
    بوتيرو حلّ مؤخّرا في لندن، وكانت تلك مناسبة للحديث معه وسماع بعض الحكايات منه عن الاختطاف والفساد وسرّ حبّه للنساء البدينات.

    بوتيرو رجل غاضب غالبا. وقد أتى إلى لندن لحضور أوّل معرض يقام للوحاته في المملكة المتّحدة منذ 26 عاما. "لا أحد دعاني إلى هنا. وإحساسي أن هذا الأمر قد يكون مجرّد مصادفة". غير أن بوتيرو يعتقد انه محظور. "لقد ظلّ النقّاد يكتبون عنّي طوال حياتي بغضب وحنق".
    لوحات بوتيرو، التي يصوّر فيها جنرالات كولومبيا وصالات الرقص ومحلات الدعارة والرهبان والأساقفة وأفراد الطغمة العسكرية الحاكمة، معروفة في جميع أنحاء العالم.
    بعض نقّاد الفنّ المعاصر يصفون لوحاته بأنها مبتذلة ومثيرة للشفقة وأحيانا ساذجة.
    غير أن السفر مع الرسّام في موطنه كولومبيا يعطي فكرة مختلفة عن الطريقة التي ينظر إليه بها الناس هناك.
    الكثيرون هناك يعتبرونه بطلا قوميا ورمزا ثقافيا أكثر منه فنّانا أو مبدعا. في بلدته ميديين، يحاط بحشود من الناس الذين يريدون رؤيته أو الطلب منه أن يترك لهم توقيعه على أيّ شيء يحملونه.
    بوتيرو يُعتبر ولا شكّ واحدا من انجح الرسّامين بالمعنى التجاري والشعبي. ولوحاته تتعامل مع عدد كبير من القضايا التي كانت وما تزال تقع في قلب العملية الإبداعية والفنية في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين.
    وصوره على اتساع نطاقها وتنوّع موضوعاتها تمنح جمهوره نظرة بانورامية عن كلّ ما هو نبيل وسيّئ في المجتمع الحديث على طرفي الأطلنطي وفوق وتحت خط الاستواء.
    كلمة بوتيرو أصبح لها معنى عام. في الإدراك الجمعي، يمكن أن يشير الاسم إلى رجل أو امرأة أو شيء متحرّك أو ساكن، ضخم ومستدير. وبالنسبة للكثيرين فإن بوتيرو يمثّل احتفاءً بالإثارة الحسّية أو العربدة والشهوانية. لكن من خلال المعارض الفنّية وعبر شوارع وميادين المدن الأكثر شهرة في العالم حيث تتواجد لوحاته وتماثيله، أصبحت أعماله معروفة ومميّزة جدّا مع أن معانيها ظلّت غامضة.
    في الأسبوع الماضي ذهبت لتناول الشاي مع فرناندو الجميل وذكّرته بتلك المقولات المُرّة عن فنّه. واكتشفت أن تأثيرها عليه يشبه تأثير الصدمة الكهربائية. ينظر بوتيرو بعصبية ثم يومئ بعنف إلى بعض لوحاته المعلّقة على جدران الغاليري ويقول: هذا فنّ حديث ومعاصر بمعاييري أنا. الرسم لم يمت، حتى إن كان هؤلاء النقّاد يعتقدون ذلك. إنهم يقتلونك ويسخرون منك. لقد ظلّوا يحاولون قتلي طوال حياتي. إنهم يغضبون ويصرخون في وجهي دائما".
    يهدأ بوتيرو قليلا ويبدو كما لو انه يبحث عن مساحة للتنفّس. ثمّ يقول: لو كان فنّي فظيعا، فلماذا تبادر المتاحف إلى شراء لوحاتي. ولماذا تتزايد الكتب التي تتحدّث عنّي وعن لوحاتي. لقد عرضت أعمالي في أكثر من ستّين معرضا. ومديرو المتاحف يحترمون لوحاتي أكثر من الأولاد الذين يأتون من معاهد الفنّ وينصّبون أنفسهم نقّادا ويستخدمونني ككيس للملاكمة".
    ويقتبس بوتيرو عن نيكولا بوسان مفهومه لمعنى الفنّ بالقول انه عبارة عن مجموعة من الأشكال والألوان التعبيرية التي تمنح المتعة. المتعة كانت هدف الرسّامين منذ 500 عام. والقليل جدّا من الرسّامين كانوا يبحثون عن الجمال، مثل غويا".
    قلت لـ بوتيرو: لو قلت هذا الكلام في حفل عشاء لعدد من الفنّانين المعاصرين فسيبتسمون من كلامك ويعتبرونه موضة قديمة. قال بصوت منخفض: نعم، هم الآن يقولون إن الجمال ضرب من الدعارة. ولكنّي أقول لك إنني إن اهتممت بما يقوله الآخرون فلن افعل شيئا على الإطلاق. لديّ قناعاتي الخاصّة وأنا لا اهتمّ بما يقوله أو يفعله غيري".

    هل هذه مجرّد نوبة غضب أم حركة تمرّد يقودها رجل فرد لمناهضة اتجاهات الفنّ في عصرنا؟ بحسب بوتيرو، فإن التعبيرات الرديئة للفنّ اليوم هي ممّا يستحقّ الرثاء، وهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الموضوع".
    ويضيف: في نهاية القرن التاسع عشر كان الفنّ مدهشا. كان هناك رينوار ومونيه وسيزان. وفي نهاية القرن العشرين أصبح الفنّ مثيرا للسخرية وسيّئا للغاية. حال الفنّ اليوم يشبه حال الإمبراطور الذي يظهر متجرّدا من ملابسه. الناس خائفون جدّا من أن يُصنّفوا بأنهم غير طليعيين ويخشون من أن يُطردوا من عربة الطليعية. الأمر مضحك جدّا".
    إحدى أكثر اللحظات أهمّية في تاريخ تطوّر فرناندو بوتيرو حدثت عندما اشترى متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته المسمّاة "الموناليزا في سنّ الثانية عشرة". في هذه اللوحة وفي غيرها من أعمال بوتيرو نرى بوضوح وعن قرب خصائص أعضاء شخصيّاته التي يمكن التعرّف عليها بسهولة. في الموناليزا، حوّل بوتيرو الطبيعة الايطالية في الخلفية إلى منظر من أمريكا الجنوبية مع لقطة لبركان ثائر.
    بوتيرو يمزج رسم الأشخاص بإحساس جميل بالمرح والتعاطف الإنساني الذي لا نراه في أعمال غيره. وهو يتناول المرح والدعابة بعد أن كانا حكرا على رسّامي الكاريكاتير. هذه الحساسية تجاه تقلّبات الوجود الإنساني والاعتراف بجاذبية المتع الدنيوية هي خصائص تميّز فنّ بوتيرو وتضفي على أعماله سمات إنسانية عميقة.
    والأفكار الرئيسية التي شغلت خيال بوتيرو مثل الدين والسياسة والجنس والإثارة والحياة اليومية في كولومبيا والحياة الساكنة ومصارعة الثيران، كلّ هذه الأفكار والمواضيع تعامل معها بطريقة خاصّة وكنموذج لنظرة الرسّام وفهمه الخاصّ للعالم.

    لم يتأثّر بوتيرو بأعمال الرسّامين الايطاليين وحدهم، بل اخترق العوالم الأكثر خفّة للنهضة الشمالية. فقدّم لوحة فان ايك بعنوان زواج ارنولفيني في هيئة جديدة ومنحها حضورا معلميا في سياق بيئة القرن الحادي والعشرين. ووجد في روبنز نظيرا مثاليا له بسبب طموحاته الكبيرة. روبنز عُرف بلوحاته التاريخية الضخمة ومشاهده الميثية التي تشبه مناظر هوليوود وبحفلات الصيد واللوحات الدينية التي كان يملؤها بصور الرهبان والقدّيسين والعذروات الفاتنات والمثيرات.
    لكن من بين جميع رسّامي عصري النهضة والباروك، لم يشعل احد اهتمام بوتيرو ولم يجذب انتباهه أكثر من الرسّام الاسباني العظيم دييغو فيلاسكيز. كان فيلاسكيز دائما مصدر الهام وتحدّ للرسّامين من اسبانيا وأمريكا اللاتينية. وكان بوتيرو قد رأى لوحات فيلاسكيز عيانا في مدريد عندما كان يدرس في أكاديمية سان فرناندو عام 1952م. كان متحف برادو المكان الذي اجتذبه. وسرعان ما أصبح فيلاسكيز وغويا معلّميه الأكثر أهمّية في تلك الفترة.
    في بعض لوحات بوتيرو إحساس بالوعي والنقد الاجتماعي. في إحداها يتناول أهمّية الذات ودور الفساد السياسي. رئيس الجيش يرتدي لباسا عسكريا جميلا بينما تتدلّى الأوسمة من صدره وعنقه. زوجته أو خليلته تلبس فستانا مصنوعا من فرو الثعالب النفيس. رأس الحيوان المسكين يتدلّى إلى وسط الفستان. غرور السيّدة تؤكّده ملابسها الزاهية والباهظة الثمن. وفي لوحة السيّدة الأولى، تظهر زوجة الرئيس ممتطية صهوة جواد بينما تظهر خلفها غابة من أشجار الموز.
    أسأل بوتيرو عن رأيه في داميان هيرست. فيقول: هيرست؟ انه رجل ذكي، ذكيّ جدّا. لكن لا أعتقد أن ما يقدّمه فنّ عظيم. لديه إبداع يذكّرني بما تفعله وكالات الدعاية والإعلان. الفنّ شيء مختلف تماما. فنّ داميان هيرست فيه أفكار وإثارة. وإذا فرزنا الفنّ عمّا سواه فلن يبقى عنده فنّ كثير".

    ولد فرناندو بوتيرو قبل 70 عاما في مدينة ميديين التي كانت قرية صغيرة ضائعة في جبال الأنديز قبل أن تتحوّل اليوم إلى مدينة كبيرة تشتهر بالكوكايين وبالبنوك.
    في بوغوتا، وفي سنّ التاسعة عشرة بدأ يخالط الطليعيين الكولومبيين، ثم اخذ يرسم لوحات تذكّر بمرحلة بيكاسو الزرقاء.
    وشيئا فشيئا، بدأ بوتيرو في السير على خطى فان ايك وديورر وروبنز وفيلاسكيز وغويا وريفيرا. ثم توجّه إلى أوربا ليدرس أعمال الرسّامين الكبار في متحفي برادو واللوفر. كان اللوفر قلعة ملكية بناها فيليب الثاني في أواخر القرن التاسع عشر. لكن كولومبيا هي التي كانت دائما في عقل بوتيرو. شوارعها، ناسها، جبالها، مناظرها البحرية؛ كلّ هذه الأشياء هي التي أعطته فنّه.
    وفي سنّ الخامسة والعشرين أصبحت لوحات بوتيرو متميّزة وبات من السهل التعرّف عليها.
    حياة فرناندو بوتيرو غنيّة بالزوجات وبالأطفال. فقد تزوّج من غلوريا زيا وزيرة الثقافية الكولومبية السابقة ورُزق منها بطفلين. ثم تزوّج من سيسيليا زامبرانو وأنجب منها طفلا. وتزوّج من الفنّانة اليونانية صوفيا فاري التي يعيش معها اليوم متنقّلا بين باريس وتوسكاني.
    في التسعينيات أصبحت حياة بوتيرو وفنّه قاتمين، تماما مثل كولومبيا التي كانت تترنّح تحت عجلة العنف السياسي والحرب على المخدّرات. وفي عام 1994 اختطفه مجهولون اقتحموا منزله عنوة. وفي العام التالي انفجرت قنبلة تحت إحدى منحوتاته في شارع بـ بوغوتا، ما أدّى إلى مقتل 27 شخصا.
    ابن بوتيرو الأكبر، وهو وزير دفاع سابق، قضى في السجن حوالي ثلاثين شهرا لتقاضيه رشوة بـ 6 ملايين دولار من كارتيل كالي للمخدّرات.
    ولم يتحدّث بوتيرو مع ولده لمدّة ثلاث سنوات بعد الإفراج عنه. وقبل تسع سنوات حُكم على الابن بستّة وثلاثين شهرا أخرى في السجن بتهمة السرقة.
    إن من الصعب الإمساك بحياة بوتيرو. لكن فهم فنّه يبدو أكثر صعوبة. وعلى العكس من زوجاته، تبدو نساؤه المرسومات على درجة من الضخامة والبدانة.
    يقول بوتيرو محاولا شرح الأمر: أمريكا وبريطانيا تعبدان كيت موس وفيكتوريا بيكهام وبوش سبايس والجسد الاسطواني النحيل، خاصّة عندما يكون تجسيدا للضعف. البروتستانتية نفسها هي ثقافة نحافة وإنكار. ويضيف: حياة أمريكا اللاتينية والشعوب الناطقة بالبرتغالية والإسبانية والفرنسية "باستثناء كندا" هي حياة فائضة. إننا نعيش حياتنا كاملة. نشرب كثيرا. نمارس الحبّ كثيرا. نشرب الشمبانيا كثيرا. بينما انتم البروتستانت تشربون الماء". إذن فالحياة الكاملة هي السبب في أن راهبات بوتيرو وممرّضاته يبدين حسّيات على نحو مخجل، بينما يظهر جنرالاته منتفخين بلحم أردافهم التي تبرز من داخل زيّهم العسكري.

    من الواضح أن بوتيرو ابتكر أسلوبه الخاصّ في الرسم والذي تمسّك به طوال حياته منذ كان مراهقا. كان متعاطفا مع شخصيّات روبنز وقد درس أسلوب المعلّم الهولندي بعمق. لكن فنّ بوتيرو هو عن الحياة في كولومبيا. لماذا، إذن، لم يعش في كولومبيا؟ لماذا يقضي معظم السنة في باريس؟ ولماذا عاش 14 عاما في نيويورك، وطن البروتستانت الذين ينكرون الحياة؟! الجواب هو أن بوتيرو لا يشعر بالأمان في كولومبيا. منظّمات الجريمة والمخدّرات تحكم قبضتها على الريف وعلى المدن الصغيرة مثل ميديين وغيرها.
    وقد كان بوتيرو نفسه هدفا للاختطاف وربّما ما هو أسوأ. وفي عام 2000 بدأ يرسم مناظر من العنف الكولومبي. وفي عام 2007 رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر بعضا من مشاهد التعذيب التي جرت في سجن أبو غريب العراقي.
    ويوافق بوتيرو على أن كولومبيا هي اليوم أكثر أمنا ممّا كانت عليه قبل عهد الرئيس الجديد. لكنّه ما يزال يكتفي بالإقامة فيها مدّة شهر واحد فقط في السنة.
    "في كلّ الأحوال، لا استطيع النوم في البيت إلا برفقة شخصين أو ثلاثة ينامون معي. هذا مع أنني محميّ جيّدا وأتنقّل في سيّارة مصفّحة".
    فرناندو بوتيرو يحتاج لأن يبقى في أوربّا. ففيها تسعة وتسعون بالمائة من المتعاملين معه وطالبي لوحاته.
    أقول له: أنت رجل من هذا العالم وتعيش بسعادة في المنفى. يردّ بصوت أجشّ: لا، أنا رجل من كولومبيا، أنا كولومبي مائة بالمائة. موضوعاتي كولومبية، ولم اشعر بكوني أمريكيا بعد أن عشت في أمريكا لأربعة عشر عاما. كما لا أحسّ بانتمائي لـ فرنسا مع أنني أعيش في باريس منذ سنوات. لو كُتب لحياتي سيناريو مختلف لكنت عشت بسعادة في كولومبيا. كولومبيا مكان صعب. إنها ارض أمراء الحروب وتجّار المخدّرات ورجال العصابات. ولكي أنمو وينمو فنّي معي، كان عليّ أن أغادر. كان من الضروريّ بالنسبة لي أن اخرج من ذلك المكان كي أنمو وتنمو معي نسائي البدينات". "مترجم بتصرّف".

    الأربعاء، مايو 05، 2010

    صوَر داخل صورة

    في العصور المتقدّمة، لم يكن هناك الكثير من المتاحف ولا الغاليريهات التي يمكن للرسّام أن يعرض فيها أعماله لكي يراها الجمهور وبالتالي تحقق له نوعا من الاعتراف بموهبته. وكان على الرسّامين أن يبتكروا طريقة للتعريف بأنفسهم وبأعمالهم. ولهذا السبب ظهر نوع من اللوحات التي يصّور فيها الرسّام نفسه داخل محترفه والى جانبه بعض لوحاته. كان هذا نوعا من الدعاية والإعلان في وقت لم تكن فيه وسائل الإعلام الجماهيري بمعناها المتعارف عليه اليوم قد ظهرت وعرفها الناس.
    ومن أشهر من رسموا لوحات من هذا النوع كلّ من فيرمير وفريدريك بازيل وبيتر تيليمانز وغوستاف كوربيه.
    وفي بدايات القرن السابع عشر، ظهر نوع آخر من اللوحات قريب الشبه بالنوع الأوّل. إذ كان من عادة مقتني الأعمال الفنية من الأثرياء وأفراد العائلات الارستقراطية أن يوثّقوا مقتنياتهم من اللوحات والتماثيل والأشياء القيّمة الأخرى. ومن أجل هذه الغاية كانوا يكلّفون كبار الرسّامين برسم لوحات تتضمّن صورا للأعمال الفنية التي يملكونها وتكون بمثابة السجلّ الذي يحفظ تلك الأعمال ويكسبهم أمام نظرائهم من الطبقات الاجتماعية الرفيعة شيئا من "البريستيج" أو الوجاهة الاجتماعية.
    اللوحة أعلاه تعتبر إحدى أشهر هذا النوع من الرسم الذي ظهر وازدهر في هولندا وبلجيكا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.
    في ذلك الوقت لم يكن أمرا غير مألوف أن يتعاون رسّامان أو أكثر في رسم لوحة واحدة. ورغم شهرة كلّ من بيتر بول روبنز ويان بريغل كلّ على حدة، فإن ذلك لم يمنعهما من الاتفاق على رسم هذه اللوحة التي يمكن وصفها بأنها خزانة متخيّلة لمجموعة من الأعاجيب الفنية.
    روبنز رسم الأشخاص في هذه اللوحة بالنظر إلى براعته المتناهية والمعروفة في هذا الجانب. بينما رسم بريغل المناظر الطبيعية والحياة الساكنة فيها.
    كان بريغل الابن الثاني للرسّام المشهور بيتر بريغل. وكان احد انجح الرسّامين الهولنديين في زمانه. كان يُلقّب بـ "بريغل المخملي" بسبب رقّة ونعومة أسطح لوحاته.
    هذه اللوحة هي واحدة من سلسلة من اللوحات الرمزية التي أنجزها الرسّامان معا بناءً على طلب الارشيدوق الاسباني البيرت وزوجته الأميرة ايزابيلا. كان بريغل رسّاما في بلاط البيرت الذي كان وقتها يمارس منصب المندوب السامي الاسباني لـ هولندا أو ما كان يُعرف آنذاك بالأراضي المنخفضة.
    وقد اُطلق على هذه السلسلة لوحات الحواسّ الخمس. وخُصّصت كلّ واحدة منها كي تمثّل إحدى الحواس. اللوحة هنا تمثّل حاسّة البصر، وهي تصوّر ورشة فنية مُلئت باللوحات والأشياء الثمينة مثل الآلات الفلكية والتماثيل والسجّاد والبورسلان.
    الألوان في اللوحة ساطعة والتفاصيل تبدو في منتهى الدقّة. المرأة الضخمة العارية جزئيا والجالسة إلى طاولة في أسفل يسار اللوحة هي تجسيد لحاسّة البصر. لكنها تمثّل بنفس الوقت شخصية جامع الأعمال واللوحات الفنّية.
    وتظهر المرأة وهي تتفحّص لوحة يمسك بها "كيوبيد" وتصوّر المسيح وهو يشفي رجلا أعمى. وإلى أقصى اليمين تظهر لوحة كبيرة تصوّر إحدى المادونات وطفلها داخل إطار تحيط به الزهور. هذه اللوحة أيضا من اللوحات التي تعاون كل من روبنز وبريغل في رسمها. وخلف الطاولة إلى اليسار بورتريه مزدوج يصوّر الراعي الذي أمر برسم اللوحات، أي البيرت، بمعيّة زوجته.
    من الأشياء التي تتضمّنها اللوحة يمكن رؤية تلسكوب واسطرلاب وكرة تمثل الأرض ومجوهرات، وباختصار كل ما يمكن أن يلاحظه الإنسان عن طريق حاسّة الإبصار.
    كان تعاون كل من روبنز وبريغل يرقى لكونه ظاهرة. وكانا يحتفظان بعلاقة خاصّة ومتميّزة تتجاوز بكثير اعتبارات المنافسة والغيرة التي تحكم عادة علاقة أرباب المهنة الواحدة.
    كان روبنز وبريغل رسّامين فريدين من نوعهما من حيث قدرتهما وبراعتهما الفنية العالية. وقد أنتجا معا نوعية عالية المستوى من اللوحات التي كان يتنافس على اقتنائها أفراد العائلات الملكية والنبلاء الأوربيين.

    الجمعة، نوفمبر 06، 2009

    طبيعة الأشياء

    بعض الصور تخدع أحيانا. وبعضها تفتح أمام المتلقي أبوابا لاحتمالات شتّى.
    تنظر إلى لوحة ما فيتشكّل في ذهنك انطباع معيّن. غير انك تكتشف بعد قليل أن المعنى في مكان آخر.
    اللوحة فوق اسمها "كيمون و بيرو" للرسّام الفرنسي جان باتيست غروز. وفيها نرى رجلا مسنّا وشبه عار وهو يرضع من ثدي امرأة. المشهد يبدو غريبا وغير مألوف. ولا يمكن فهمه دون قراءة القصّة التي يستند إليها.
    في روما القديمة حُكم على رجل عجوز بالسجن بسبب جناية ارتكبها. كان اسمه "كيمون" وكان عليه أن يقضي فترة مفتوحة في سجن انفرادي وأن يُمنع عنه الطعام والشراب إلى أن يموت جوعا.
    وكانت للرجل ابنة وحيدة تدعى "بيرو" كانت تزوره سرّا لترضعه من حليب صدرها.
    كان السجّانون يراقبون تصرّف المرأة مع أبيها بكثير من التعجّب والدهشة. ولأن هذا المنظر تكرّر أمامهم أكثر من مرّة، فقد تأثروا بما كانوا يرونه. ويقال إنهم في النهاية اخلوا سبيل العجوز بعدما رأوه من برّ ابنته به وإشفاقها عليه.
    هذه القصّة ذاعت على نطاق واسع في العصور التالية وجاء ذكرها على ألسنة العديد من الشعراء والمؤرّخين الذين رأوا فيها مثالا عاليا في الإنسانية والنبل.
    الذي يتأمّل هذه اللوحة والقصّة التي بُنيت عليها ربّما يظنّ أن الفكرة في حدّ ذاتها هي ضدّ المنطق وأنها تتنافى مع طبيعة الأشياء. غير أن للطبيعة قوانينها ومقتضياتها، وأوّل تلك القوانين، بل وأهمّها، هو حبّ الوالدين.
    في ما بعد، تنافس الرسّامون في رسم القصّة كلّ من منظوره الخاص. ومن أشهر من رسموها كلّ من روبنز وفان بابورين وتشارلز ميلين. وهناك لوحة أخرى اسمها كاهن وراهبة لفنّان هولندي اسمه كورنيليس فان هارلم.
    في اللوحة نرى كاهنا يتفحّص ثدي راهبة.
    المعنى، هنا أيضا، يكمن في مكان آخر ولا علاقة له بالانطباعات الأولية أو التهويمات الفانتازية.
    فاللوحة تصوّر قصّة واقعية حدثت في مدينة هارلم الهولندية في نهاية القرن السادس عشر. كانت هذه الراهبة قد اتهمت بأنها وضعت مولودا سرّا. أي أنها قد تكون حملت سفاحا. وكان لا بدّ من إثبات التهمة أو نفيها حفاظا على شرف المرأة وسمعة الكهنوت.
    وقد انتدب الكاهن الظاهر في الصورة للقيام بهذه المهمّة. كان بعض الكهنة يجمعون إلى جانب المعرفة الدينية الماما بالمسائل الطبّية وما في حكمها. وقد رأى هذا الكاهن انه إذا كانت المرأة ولدت فعلا فسيفرز ثديها حليبا. وإذا انعدم الحليب من صدرها تكون بريئة من التهمة التي نُسبت إليها.
    الكاهن يُرى في الصورة وهو يتفحّص الثدي. هو في الواقع يعصر ثدي المرأة برفق للتأكّد من وجود حليب من عدمه. لكنه ينظر بعيدا حفاظا على حشمة وحياء المرأة.
    ومن الواضح أن الصورة تشير إلى خلوّ الثدي من الحليب.
    وهناك على المنضدة كأس من النبيذ الذي يرمز إلى دم المسيح ويقترن بالطهر والبراءة.
    ولأن خيال بعض الفنانين واسع، فقد رسم بعضهم القصّة الأولى بشكل لا يخلو من بعض التفاصيل الحسّية.
    وحيث أن طبيعة الأشياء تفترض الشيء ونقيضه، فقد اعتقد بعض الناس في أزمنة متأخّرة أن اللوحة الثانية يصحّ أن تكون تصويرا كاريكاتيريا ساخرا للكهنة ورجال الدين وما يُشاع عن انهماكهم في المتع الدنيوية والسلوكيات التي تتناقض مع تقواهم ووقارهم الظاهري.
    مثل هذه الرموز والصور والاستعارات كانت تُستحضر كثيرا في عصر النهضة الذي اتسم بقدر عال من الحرّية وشاعت فيه التصوّرات التي تقرن الديني بالدنيوي وتوازي ما بين العقل والجسد وتضع الفضول المعرفي في مرتبة تسمو فوق سلطة الخوف.

    الاثنين، سبتمبر 21، 2009

    صورة الفنان عن نفسه

    ليوناردو دافنشي، غوغان، فيلاسكيز، دافيد، بيكاسو، سيزان، كارافاجيو، ديغا، ايغون شيلا، مونك، بيكون، لوسيان فرويد، فيجي لابران، روبنز، انجيليكا كوفمان، بيتر بريغل، جوشوا رينولدز، غويا، رافائيل، جيمس ويسلر، اوجين ديلاكروا، ماتيس، جون سارجنت، دانتي غابرييل روزيتي، سلفادور دالي، وارهول، رينوار، ديورر .. إلى آخره. كلّ هؤلاء وغيرهم رسموا صورا لأنفسهم. ومن دون تلك الصور ما كان بالإمكان اليوم تصوّر ملامحهم أو سماتهم الشخصية.
    إن البورتريه الذي يرسمه الفنان لنفسه، سواءً كان واقعيا أو تجريديا أو غامضا، يمكن أن يوفر أفكارا ومعلومات مثيرة عن صاحبه.
    وقبل ظهور التصوير الضوئي كان البورتريه الشخصي ضروريا لأنه يظهر للناس كيف كان يبدو هذا الرسّام أو ذاك. كان رسم البورتريهات الشخصية يشير أيضا إلى رغبة الفنان في إثبات الدليل على براعته وأصالة موهبته.
    والبورتريهات الشخصية كانت وما تزال جزءا من التعليم الرسمي للفنّ، رغم أن هذا المفهوم أصبح اليوم أكثر اهتماما بإبراز تعبيرات الرسّام أكثر من ملامحه الشخصية.
    رمبراندت وفان غوخ رسما لنفسيهما العديد من البورتريهات الشخصية. في الحقيقة، كان رمبراندت من خلال بورتريهاته الشخصية يسجّل مراحل نضجه الفنّي مرحلة بعد أخرى.
    في حين أن فان غوخ كان في بورتريهاته يطرح التساؤلات عن هويّته ويحاول استكشاف المزيد من الأساليب الفنية الجديدة.
    فنّانة عصر النهضة ارتيميزيا جينتيليسكي رسمت نفسها وبيدها الفرشاة وأمامها رقعة الرسم.
    الفنانة المكسيكية فريدا كالو رسمت هي الأخرى العديد من البورتريهات الشخصية التي حاولت فيها النفاذ إلى مشاعرها الداخلية وطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالثقافة والحبّ والجنس.
    وفي بعض الحالات فإن الفنان عندما لا يضمّن البورتريه ملامحه بوضوح، فإنه يكشف فيه عن بعض سمات شخصّيته بطريقته الخاصّة.


    لوحة مارسيل دُوشان بعنوان "شابّ حزين في قطار" قيل انه صوّر فيها نفسه. وهي من اللوحات التي تستعصي على التفسير، شأنها شأن العديد من لوحات دوشان الأخرى.
    بينما يظهر تشارلز شيلر في لوحته "الفنان" وهو ينظر إلى الطبيعة بينما يعطي ظهره للناظر وأمامه متاهة من العناصر التي جلبها من بعض لوحاته السابقة. وفي الحقيقة لا احد يعلم كيف كان شيلر يبدو، لكن ثمّة احتمال انه أراد أن يقول إنه يفضّل أن يتعرّف الناس على هويّته من خلال فنّه.
    الرسّام الألماني البيرت ديورر رسم لنفسه بورتريها أصبح مشهورا جدا في ما بعد. ومن الواضح انه اعطى وجهه في البورتريه بعض ملامح وجه المسيح.
    مايكل انجيلو رسم نفسه ايضا في سقف كنيسة سيستين عندما اعار ملامحه الشخصية لوجه القديس بارثولوميو.
    الرسّام الانطباعي الأمريكي ويلارد ميتكالف رسم لنفسه بورتريها نصف مظلّل. وهناك من يظنّ أن ميتكالف لم يرد إظهار وجهه بالكامل، تعبيرا عن شكوكه بشأن مستقبله الفنّي والمالي. لكن آخرين يرون أن ميتكالف ربّما كان يشير ضمنا إلى جانب مظلم من شخصيّته يختفي خلف مظهره الهادئ.
    الرسام الايطالي رافائيل اختار هو أيضا أن يرسم نفسه ضمن شخصّيات لوحته المشهورة "مدرسة أثينا".
    مارك روثكو رسم هو أيضا لنفسه بورتريها تبدو فيه نظراته محجوبة بما يشبه العدسات الزرقاء والسوداء، ما يثير إحساسا بالهشاشة أو الانفصال.
    وعلى النقيض من ذلك، رسم ادوارد هوبر لنفسه صورة واقعية إلى حدّ كبير. غير أن من المثير للانتباه أن وجه هوبر هنا يبدو أكثر تفصيلا وشخصيّته أكثر وضوحا من الشخصيات التي كان يرسمها.
    اليس نيل رسمت لنفسها صورة عارية وهي في سنّ الثمانين. الصورة تُظهر آثار الزمن على وجهها وجسدها.
    ستانلي سبنسر رسم هو أيضا بورتريها لنفسه في بدايات اشتغاله بالرسم يبدو فيه بهيئة شابّة وبشرة صافية.
    لكن قبيل وفاته في العام 1959 رسم سبنسر لنفسه بورتريها ثانيا يظهر فيه بملامح شبحية كما لو انه تصالح مع فكرة موته الوشيك.



    الرسّام الفرنسي غوستاف كوربيه كان احد أشهر من رسموا البورتريه الشخصي. وقد رسم لنفسه عدّة لوحات في أوضاع وحالات شتّى.
    كوربيه، الذي اتسمت حياته بالمجون والاحتجاج والسجن، كان يعرف أن شخصيّته هي رصيده الأكبر وأن الابتكار هو المفتاح الذي من خلاله يستطيع أن يفاجئ جمهوره دائما وأن يثير اهتمامهم.
    البورتريه الذي رسمه لنفسه عام 1844 بعنوان "الرجل اليائس" يُظهر كوربيه بأجلى درجات حيويّته ووسامته. يداه تحاولان ترتيب شعره الأشعث وعيناه تحدّقان مثل حيوان جريح وتومضان بالذهول أو الخوف.
    لكنه في المراحل الأخيرة من حياته صوّر نفسه تصويرا رمزيا وغريبا، أي على هيئة سمكة ميّتة. في اللوحة تبدو السمكة وقد علقت في سنّارة الصياد. وقد أراد كوربيه من خلال هذا المنظر التعبير بطريقة مؤلمة عن إحساسه بالهزيمة بعد أن تضافرت ضدّه قوى لم يكن بمستطاعه التصدّي لها أو الوقوف في وجهها. كان في ذلك الوقت يستشعر دنوّ الموت وكان أخوف ما يخافه أن يذهب في غياهب التجاهل والنسيان بعد موته.
    كان كوربيه يحاول على ما يبدو من خلال بورتريهاته الشخصية أن يحافظ على ذاته. فالإنسان قد يمرّ في حياته بالكثير من التقلبّات ولحظات الفرح والحزن ومع ذلك لا يستطيع أن يأخذ نفسه بعيدا عن محيطه.
    ومثل صفحة الرسم البيضاء يمكن أن يكون الفنان الشخص الذي يريد.


    Credits
    theartstory.org