:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات دالي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دالي. إظهار كافة الرسائل

الجمعة، ديسمبر 23، 2016

! قصّة رسّام مسّه الشيطان


سيرة حياة هذا الرسّام عبارة عن أحجية احتار الناس طويلا في فكّ طلاسمها. هو لم يسافر أبدا في حياته، لكن لوحاته سافرت كثيرا بعد موته ووصلت إلى أبعد الأماكن في العالم. وهو لم يمشِ كثيرا في هذا العالم، لكنه بالتأكيد مشى طويلا في عالم العقل والخيال.
اسمه الأصلي جيرون فان آكن، لكن الاسم الذي أصبح يُعرف به هو هيرونيموس بوش. والمؤرّخون لا يعرفون ماذا يفعلون به أو بفنّه. مواطنه الرسّام البيرت ديورر زاره في بلدته في الأراضي المنخفضة، لكنه لم يقل عن الرجل شيئا، ربّما لأنه هو نفسه لم يعرف ماذا يقول.
وإلى اليوم، لا أحد استطاع تفسير فنّ هيرونيموس بوش. ولو تمعّنت في لوحاته عن قرب لوجدتها مزدحمة بصور وتفاصيل صغيرة وكثيرة كأنها آتية من عالم آخر: سمكة تفترس رجلا عاريا له ساقا ضفدع ويرتدي حذاءين مدبّبين، رأس يمشي على ذراعين، وحش يغتصب إنسانا، جسد عارٍ وملطّخ بالدم فوق حافّة سكّين ضخمة، طائر له أذنا كلب ويرتدي قبّعة على شكل علبة، سمك يسبح في الهواء، وبشر لهم رؤوس كالفاكهة.
يُلقّب بوش أحيانا بـ "دانتي الفنّانين" ويوصف بالناقد الذي يفضح فساد وطمع وخداع المجتمع. وقد استخدم العديد من الرموز والأيقونات، لدرجة انه أصبح بالنسبة للبعض متصوّفا أو زعيم طائفة أو ساحرا يمزج رسوماته بشفرات غامضة. وبعض النقّاد يصفه بأنه الشعلة التي أطلقت الحركة السوريالية في القرن العشرين والتي أنجبت عظماء مثل سلفادور دالي الذي تأثّر به. كما تأثّر به بيتر بريغل الأب الذي رسم عددا من اللوحات بنفس أسلوبه، مثل انتصار الموت و"سقوط الملائكة المتمرّدين".
كان ليوناردو دافنشي قد فرغ من رسم الموناليزا بالقرب من نهاية حياة بوش. وقد أصبحت هذه اللوحة مشهورة جدّا، ليس لأنها أجمل لوحة، وإنما بسبب ابتسامتها الأسطورية ولأنها أصبحت إعلانا عن فجر علم النفس الحديث في الفنّ وربّما في الحياة نفسها.
بعض المؤرّخين يقولون إن الطبيعة التي كان يرسمها هيرونيموس بوش هي لرجل مجنون أو شخص واقع تحت تأثير المخدّرات. وهناك من يرجّح أن تلك الرسومات أنتجها خيال رجل نقل نفسه إلى واقع آخر ألهمه رسم شرور البشر والعالم.
ترى هل كان بوش رمزا لفنّ القرون الوسطى، أم كان أوّل فنّان في عصر النهضة الشمالية؟ أيّا كان الحال، فإنه كان رسّاما نادرا. وهو لم يترك سوى عشرين لوحة، معظمها اليوم في مجموعات خاصّة. ويقال أن بعض صوره أكملها أفراد عائلته أو مساعدوه بعد موته.
هناك شفرة معقّدة للصور والإشارات الدينية للجنّة والنار والعنف الايروتيكي في لوحات بوش، ما يجعل من فنّه مجالا للخطيئة والتسامي. صوره المذهلة لمبانٍ تلتهمها النيران تبدو مثل مناظر قصف مدينة زمن الحرب. وهو يصوّر ما بعد الحياة على هيئة أنبوب اسطوانيّ ضخم. هذه هي الجنّة كما يمكن أن يتخيّلها كاتب قصص خيال علميّ.
كان من بين معجبيه الكبار الملك الاسباني فيليب الثاني الذي اشترى بعض رسوماته لتزيّن قصر الاسكوريال في مدريد. وأشهر أعماله، أي حديقة المباهج الأرضية ، يبدو أن فيليب كان يفضّلها وقد سجّلها ضمن مقتنياته عام 1593 هي وأربع لوحات أخرى للرسّام.
"حديقة المباهج الأرضية" تتألّف من ثلاثة أجزاء، وهي اليوم من مقتنيات متحف برادو الاسباني. والمتحف يعتبرها، عن حقّ، المعادل الآخر للموناليزا. والمؤرّخون الهولنديون يأتون لزيارتها كأكاديميين عديمي الفاعلية وكمحاربين مهزومين يحاولون أن يلقوا نظرة على الغنائم التي خسروها.
واللوحة تحكي قصّة خلق العالم وخلق البشر، ثم الخطيئة الأرضية فالطرد من الجنّة. اللوح الأيمن يصوّر الجحيم وفيه نرى نموذجا واضحا لرسومات الفنّان التي تنتمي لعالم آخر، واللوح الأوسط يصوّر البرزخ وهو عبارة عن طبيعة وضع فيها الرسّام أشياءه، بينما الأيسر يصوّر جنّات عدن وفيه نرى حيوانات تعيش جنبا إلى جنب مع البشر. والغريب أن الموت يوجد في الجنّة أيضا، ويُرمز إليه بصورة قطّ يحمل فارا وأسد يفترس غزالا.
كان هيرونيموس بوش بارعا في قدرته على التصوير والتخيّل؛ تخيُّل ما لا يستطيع احد تخيّله، مثل طبيعة الناس الذين يعيشون في الجنّة والنار وكيف يبدون هناك. تصويره للنار ضمّنه الخطايا السبع المميتة، حيث نرى امرأة واقعة في براثن وحش يحدّق في مرآة. السبب هو أنها ارتكبت خطيئة التباهي والخيلاء.


كان بوش شخصا أخلاقيّا بطريقة عنيفة، وقد اجتهد في تصوير كيف أن "الجنس البشريّ الملعون" يستحقّ الجحيم. ومثل معظم الأخلاقيين الثوريين، كان يصوّر العقاب والنار بطريقة أفضل من تصويره للجنّة، مع أن هذه اللوحات تتضمّن دعابة مبالغا فيها.
استخدامه لصور الشياطين وأنصاف البشر والآلات قد يكون الغرض منه إثارة الخوف والرهبة في محاولاته لتصوير شرور البشر. ويبدو انه كان يعتقد أن الشرّ يحصل في العقول وليس في العالم الواقعي.
لكن بوش في الرسم غير محظوظ لأنه لا يحتلّ سوى مكان صغير بين نظرائه من الفنّانين، ربّما لأن قليلين فقط هم من تناولوا أو رغبوا في تناول لوحاته.
وحتى اليوم ليس معروفا من أين استمدّ عناصر أو أفكار لوحاته. كما انه لا يُعرف عن حياته الشخصية سوى القليل. لكن معروف أنّه ينحدر من عائلة من الرسّامين الهولنديين من أصول ألمانية. ونعرف أيضا أنه توفّي في عام 1516 عن 65 عاما. وكان هو وزوجته منتميين لطائفة دينية محافظة تُدعى "التوّابين".
وتاريخ هذه الطائفة يشير إلى انه كان لأفرادها طقوسهم الخاصّة التي تُؤدّى في العلن أو خلف أبواب موصدة. وبعض المصادر التاريخية من تلك الفترة تذكر أن أفراد هذه الطائفة كانوا يجلدون ويعذّبون أنفسهم لأنهم كانوا يشعرون أن هذا العالم شرّير وفاسد ومن خلق الشيطان.
وأعضاء الحركات التائبة كانوا كثيرا ما يُخضِعون أجسادهم، التي يرونها كسجن شيّده الشيطان، لأقصى درجات التعذيب في محاولة لتكييف العقل لرفض ملذّات الجسد. والكثير من تلك الممارسات هي نتاج تجارب الخروج من الجسد التي يتبرّأ فيها العقل من الجسد.
وسنجد صدى لبعض هذه الأفكار والممارسات في الخطايا السبع التي رسمها بوش في لوحاته كثيرا. ولهذا السبب وغيره ذهب البعض للقول انه كان عضوا في جمعية تُدعى "الأرواح الحرّة" أو "أبناء آدم"، وهي طائفة مهرطقة وسرّية أخرى كانت تمارس العري والإباحية في محاولة لإعادة خلق براءة الجنّة.
إذن قد لا يكون بوش مجرّد ناقد اجتماعيّ، لكنه ناقد للعالم وللبشر ككلّ. ونحن جميعا برأيه شياطين، وهذه هي بالضبط الطريقة التي رسمنا بها.
ترى هل كان مسيحيّا تقيّا يستخدم سورياليّته كوسيلة لإخفاء نقده للمجتمع، أم انه كان يستخدم النقد لإيصال رسالة أعمق؟
خذ مثلا لوحته "زواج في قانا" التي يراها البعض دليلا على أفكاره الغامضة. في هذه اللوحة هناك مذبح وثنيّ في خلفية الغرفة، لكن لا علامة على وجود أتباع للمسيح، فقط هناك الطعام الذي يُقدّم في الزفاف والذي يتضمّن إوزّة!
هل رَسَم الإوزّة كي يشير إلى شعار الطائفة التي ينتمي إليها؟ الشخص الذي يقف أمام المذبح هو ساحر يشير بعصا إلى الأطباق التي يحملها خادمان إلى الحفل. والإوزّة التي في الطبق تنفث النار ورأس الغزال ينزّ سُمّاً.
كلّما رسم بوش أكثر، كلّما أصبحت الشفرات على وجوه شخصياته أكثر غرابة. المسيح وفيرونيكا هما الشخصان الوحيدان اللذان يبدوان بملامح إنسانية في لوحة "حمل الصليب". ولا أحد ممّن هم حولهما يمكن أن يكون إنسانا حقيقيّا.
ترى هل كان هيرونيموس بوش من خلال رسوماته الغريبة يرتاد أرضا جديدة لوحده؟ أم هل أصابه مسّ من الشيطان جعله يشطح بأفكاره بعيدا عن عالم الواقع والعقل؟
بعض مناظره لا يمكنك وصفها إلا بأنها عنيفة ومذهلة، ويمكن أن تجعل عينيك تتقافزان دهشة وانزعاجا. لكن أكثر شيء مدهش فيها هو أن تعرف متى رُسمت. إنها لا تأتي من القرن العشرين أو التاسع عشر أو حتى الثامن عشر، بل إن عمرها خمسمائة عام.
لذا يصحّ أن يقال أن هذا الرسّام جاء، وأكثر من أيّ فنّان آخر، عبر عملية شبيهة بطيّ الزمن، بمعنى أن لوحاته تبدو حديثة وسوريالية حتى قبل ظهور دالي بخمسة قرون. ومثل دالي ودافنشي، يمكن أن يقال عن بوش انه احد مبتكري العالم الحديث.

Credits
museodelprado.es
tuinderlusten-jheronimusbosch.ntr.nl/en

الخميس، فبراير 11، 2016

قصّة فينوس دي ميلو

من بين جميع الفينوسات التي يزدحم بها متحف اللوفر، وبينهنّ إلهات الفنّ اليونانيّ والرومانيّ، والإلهات ذوات الوجوه والملامح الطفولية في جداريات الأسقف، والنساء الغامضات اللاتي خلّدهنّ الفنّ الأكاديميّ، تقف فينوس دي ميلو شاهقة ومتفرّدة.
فينوس، النموذج، كانت دائما إنسانية بشكل لا يقاوم، فهي تبتسم، تفرد ذراعيها أو تسحب فستانها كي تغطي عريها. وأحيانا تجمع خصلات شعرها الطويل وهي تبرز من البحر، أو تلهو مع طفلها كيوبيد. لكن في متحف نابولي الوطني، هناك فينوس أخرى تبدو وكأنها على وشك أن تضرب مخلوق "ساتير" بحذائها.
عندما تنظر بتأمّل إلى فينوس دي ميلو سيساورك انطباع بأنها لا تنتمي إلى عالمنا. وفي الحقيقة فإن افتتاننا بها يمكن أن يكشف عن انجذاب عصبيّ لأجسام أو أدوات الحبّ. فينوس دي ميلو محسوسة جسديّا ولا مبالية سيكولوجيا، وقورة وعظيمة وبعيدة.
رأسها يميل قليلا بعيدا، نظراتها لا تقابل نظراتنا، وشعرها متقشّف لولا بضع خصلات تسقط حرّة على مؤخّرة عنقها. لكن استجابتنا لهذا المخلوق البعيد تحكمها هذه الخصوصية الآسرة لبشرتها. هنا يعمل النحّات بعاطفة عاشق، مُشرِكا اليد أكثر من العين.
يمكن للمرء أن يحسّ بالنسيج الشحميّ المنتفخ تحت جلد فينوس وحول ردفيها وفي بطنها وفي الطيّات ما بين ذراعيها وصدرها. حلماتها لا تكاد تُرى، ومن الصعب أن تعتقد انه مسّها الإزميل.
لكن ما الذي تفعله؟ يبدو أنها تثني جسدها قليلا لترفع فخذها كما لو أنها تحاول أن تمنع ملابسها من الانزلاق أكثر إلى أسفل. حركة خاطفة تَمكّن النحّات من الإمساك بها عند نقطة التعليق تماما.
لكن هناك نظريات أخرى، واحدة تقول أنها كانت تحمل رمحا، وأخرى تقول أنها كانت تنظر في مرآة بيدها، وثالثة تذهب إلى أنها كانت تغزل.
حتى اليوم لا احد يمكنه إثبات أيّ نظرية بخصوص ذراعي فينوس المفقودين. لكن السؤال: لماذا ما يزال هذا التمثال يفتن الناس بعد قرنين من اكتشافه، لدرجة أنه يُعتبر اليوم ثاني أشهر عمل فنّي في العالم بعد الموناليزا؟ من الواضح، وعلى نحو غير متوقّع، أن غياب الذراعين هو ما منح هذا التمثال جماله وتفرّده وهو ما يجعل من فينوس دي ميلو تحفة فنّية حديثة وغامضة.
في البداية كانت المرأة ترتدي جواهر معدنية: سوارا وأقراطا ورباط رأس. لكن لم يتبقّ من هذه الأشياء في التمثال سوى الثقوب التي كانت تثبّتها.
أثناء غزواته، قام نابليون بونابرت بنهب احد أجمل المنحوتات الإغريقية: تمثال فينوس دي ميديتشي ، من ايطاليا. وفي عام 1815 أعادت الحكومة الفرنسية التمثال إلى الايطاليين.
لكن في عام 1820، انتهز الفرنسيون الفرصة لملء الفراغ الذي تركه غياب التمثال الايطالي في الثقافة الوطنية، فقاموا بشحن تمثال فينوس دي ميلو من اليونان إلى باريس.
وقد قدّموا التمثال إلى الجمهور باعتباره أعظم حتى من تمثال فينوس دي ميدتشي. ونجحوا في مهمّتهم تلك بدليل أن التمثال قوبل بعاصفة من المديح والتقدير من الفنّانين والنقّاد فور عرضه لأوّل مرّة في اللوفر.
وفي خريف العام 1939، أي عندما كانت الحرب تقترب من باريس، تمّ نقل التمثال مع أعمال نحتية مهمّة أخرى إلى مكان أكثر أمنا في الريف الفرنسي.
إن من حسن حظّ العمل الفنّي انه يعيش أطول من عمر الفنّان الذي صنعه والراعي الذي كلّف بصنعه أو صرف عليه، وأن العمل نفسه يشارك في خلقه خيال الجمهور وأحيانا الصُدفة.
لكن أصلا، تمثال فينوس دي ميلو يروي قصّة مختلفة. التمثال اكتُشف في الثامن من ابريل عام 1820 عندما تعثّر به مزارع يونانيّ يُدعى يورغوس كينتروتاس في طرف مدينة قديمة في جزيرة ميلو.
ويُعتقد بأن من صنعه كان نحّاتا من الحقبة الهيلينية يُدعى الكساندروس في حوالي عام مائة قبل الميلاد. ويقال أيضا أن قاعدة التمثال المفقودة كانت تحمل نقشا باسمه.
بعض المؤرّخين يقولون إن ذراع فينوس الأيسر كان يستريح على عمود، بينما ذراعها الأيمن كان يُمسك بملابسها. وطبقا لشخصَين مستقلّين شهدا عملية شراء التمثال قبل حوالي مائتي عام، فإن بعض القطع المفقودة منه شُحنت مع التمثال إلى فرنسا من بلدة ميلو باليونان حيث اكتُشف. لكن تلك القطع فُقدت بطريقة ما بعد وقت قصير من وصولها إلى اللوفر.
وتقول إحدى الشائعات إن مسئولا كبيرا بالمتحف كان وراء عملية إخفاء تلك القطع، وهي تمثّل القماش والملابس، لأن وجودها كان يتناقض مع قراءته لرمزية التمثال. ومن بين تلك القطع، كانت هناك يد يسرى تمسك بتفّاحة، وقطعة من قاعدة التمثال.

من الواضح أن فينوس دي ميلو كانت تمثيلا لأفرودايت المنتصرة وهي تعرض تفّاحتها الذهبية؛ الجائزة التي فازت بها في مسابقة الجمال التي نظّمها الأمير باريس.
لكننا لا نعرف ما إذا كانت الإلهة حصلت على الجائزة بناءً على الجدارة وحدها أم لأنها قدّمت رشوة إلى القاضي. فقد وعدته إن فازت بأن تجعل أجمل امرأة في العالم تقع في حبّه، وكانت تلك بركة غير خالصة.
فكما هو معروف، كانت الأميرة هيلين هي المرأة المقصودة، وقد تصادف أنها كانت متزوّجة من ملك إغريقيّ. وقصّة هيلين تلك مع باريس هي التي أشعلت أشهر صراع في التاريخ وفي الأدب الغربيّين، أي حرب طروادة.
قصّة حكم باريس هي مجرّد توضيح للتناقضات المرتبطة بفينوس ومواهبها وأعطياتها. في الأزمنة القديمة، كانت هي التي تقرّر قصص الحبّ. ومنذ القرون الوسطى فصاعدا صارت تحكم على الجمال، وهو أكثر العناصر غموضا وجاذبية في الفنّ.
ولهذا كانت راعية للعشّاق والفنّانين، وهي مهمّة لم تجامل فيها أيّا من المعسكرين أبدا. وبالإضافة إلى ذلك كانت إلهة الجمال والحبّ متزوّجة من فولكان؛ الشخص الوحيد القبيح الخلقة من بين عشيرة جبل الأوليمب، بينما كان حبّها الحقيقيّ والأوّل مارس إله الحرب.
بطبيعة الحال كلّ هذا أدب؛ أي تلك الحكايات العبقرية المذهلة التي ظلّ الشعراء والفنّانون يحكونها على مرّ العصور. وبالنسبة لجميع الفينوسات من زمن هوميروس إلى زمن الرسّام فرانسوا بوشير، يمكن أن يقال إنهنّ لسن سوى ظلال باهتة وأنيقة لإلهة الخصوبة البدائية، أي افرودايت القبرصية.
وربّما كان الأمر ينطوي على مفارقة أن نعلم انه، من بين كلّ صورها، فإن فينوس دي ميلو فقط، وهي أكثرهنّ تحضّرا، تستدعي ذكريات عن تلك الجذور القديمة.
تبدو فينوس هذه رزينة ووقورة، ردفاها الضخمان ولحمها يكشف عن جسد امرأة حملت بالأطفال. لكنّ لها ثديي عذراء لم ترضع طفلا أبدا، وهو تقليد معروف في الفنّ الرومانيّ اليونانيّ. هذا التشويه أو التناقض لا يبدو أن له تفسيرا.
في الحقيقة هيئتها تبدو اقرب ما يكون إلى أمّ قويّة، متأرجحة وهائلة أكثر منها عاشقة. علماء الآثار الذين اكتشفوا أوّل تماثيل صغيرة لإلهة الخصوبة منذ العصر الحجريّ لا بدّ وأن تمثال فينوس دي ميلو كان في أذهانهم عندما أسموها الفينوسات.
وأكثر هذه التماثيل الصغيرة شهرة هو تمثال فينوس ويلليندورف الذي لا يختلف عن تمثال اللوفر كثيرا. ورغم أن التمثال يبدو صغيرا، إلا انه كبير في الواقع، إذ يتضمّن البطن والثديين والردفين، وكلّ ما في الأنثى.
فينوس دي ميلو، ورغم أنها اكبر ممّا تبدو عليه في الحياة الواقعية، مسجّلة كـ "شيء"، لأنها مكسورة، شيء ثقيل جدّا وغير رشيق، لكنّه كان في الماضي صنما يُعبد.
السورياليون تنبّهوا إلى هذا، فأعادوا تجسيد الإلهة كمعبودة غامضة، وهذا واضح في أعمال رسّامين مثل دالي وإرنست وديلفو. وقد تكون هذه التصاوير أسهمت في رواج أكثر السلع التي تركّز الرغبة على أجزاء من الجسد، كالعطورات والملابس الداخلية والمكياج والمجوهرات.
تَشوّه فينوس يبدو انه يضرب على وتر بدائيّ في أعماق لا وعينا الجنسي. وطبقا لـ "هسيود"، أوّل مصدر إغريقيّ للأساطير، فإن فينوس وُلدت من الأعضاء التناسلية المقطوعة لـ "ساتورن" التي ألقى بها ابنه "كرونوس" في البحر بعد أن قام بخصيه.
ولهذا فإن فينوس، الحبيبة المدلّلة في الفنّ الغربيّ وأكبر رمز لسحر الأنثى، لم تكن في الواقع امرأة. كما لم تكن ثمرة اتّحاد جنسيّ، بل كانت محصّلة جريمة جنسية بشعة. فينوس لم تكن سوى عضو ذكريّ مقطوع عاد إلى الحياة، وأصبحت رمزا للقلق والتوق الشهوانيّ ورمزا للقوّة الايروتيكية.
ومن الأشياء المثيرة للفضول أن فينوس، في أكثر صورها الخالدة، تعيد للأذهان ذكرى تلك الأسطورة المكبوتة. إنها تخرج من ثنايا ملابسها الغشائية، رائعة ولا مبالية وفاتنة ونائية وغير قابلة للاختراق.
ومن الأمور الغريبة كيف أن الفنّانين الغربيين قمعوا وأخفوا دائما هذا الجانب المشئوم من أسطورة الإلهة. فكّر في جميع الفينوسات في تاريخ الفنّ: كلّهن مخلوقات أثيريات ومن غير هذا العالم، قذف بهنّ الموج إلى الشاطئ مع صدفة بحر عملاقة وسط بتلات الأزهار.
اليوم بإمكاننا أن نرى فينوس دي ميلو كما رآها أهالي بلدة ميلو الإغريقية أثناء احتفالاتهم الطقوسية، فاتنة ومغطّاة بباقات الأزهار والمجوهرات وكاملة. لكن ربّما كانت تبدو اقلّ روعة وإغراءً مما تبدو عليه اليوم.
غير أن النظر إليها حيث هي اليوم في اللوفر، محاطة بحشد من الحجيج المفتونين من جميع أنحاء العالم، يوفّر فرصة للتأمّل والتفكير. بشرة فينوس اللامعة وهي تشعّ بالبريق تحت وابل من فلاشات المصوّرين تستثير في المخيّلة صور تلك الجماعة التي كانت تبجّلها وتقدّسها قبل أن تصبح اليونان هي اليونان وقبل أن يعرف العالم المتاحف.

Credits
crystalinks.com
smithsonianmag.com

الأربعاء، فبراير 12، 2014

بالارد عن دالي وبورخيس وأمريكا

جيمس بالارد كاتب وروائيّ وفيلسوف بريطانيّ يَعدّه البعض احد أهمّ كتّاب القرن العشرين. من أشهر مؤلّفاته إمبراطورية الشمس ومعرض البشاعة.
وفي السنوات الأخيرة ظهر وصف "بالارديّ" نسبة إلى اسمه، وهي صفة تُطلق على الحالات والسمات الأكثر وضوحا في أدبه وكتاباته مثل الحداثة البائسة والطبيعة الكئيبة التي من صنع الإنسان والآثار النفسية للتطوّرات التكنولوجية أو الاجتماعية أو البيئية.
في ما يلي بعض من أقوال بالارد المقتبسة عن كتاباته ومقابلاته.
  • في عالم عاقل تماما، يصبح الجنون هو الحرّية الوحيدة.
  • بإمكانك تقريبا إعادة بناء الطبيعة الداخلية للقرن العشرين من خلال النظر إلى لوحة سلفادور دالي بعنوان اتصال الذاكرة . الطبيعة في هذه اللوحة مألوفة، وهي مصنوعة من الأشياء اليومية: ساعات ليّنة، سلسلة، جنين ميّت، رمال منصهرة وممتدّة بلا انتهاء، وأرض صخرية. هذا هو عالم ما وراء زمن الساعة، عالم حدث فيه كلّ شيء ولم يعد هناك شيء مشوّق أو مثير للاهتمام كما لم يعد هناك المزيد ممّا ينبغي فعله. هذا هو المكان الذي جلس على شاطئه البشر ولم يستطيعوا تجاوزه!
  • هناك صنفان من الكتّاب المشهورين: الكتّاب الشعبيون الذين اشتهروا بسبب تحويل رواياتهم إلى أفلام، والكتّاب الجادّون الذين أصبحوا مشهورين دون أن تتحوّل أعمالهم إلى أفلام. وبورخيس هو الكاتب الوحيد الذي ينتمي للفئة الثانية.
  • بعد بضع دقائق، اضطرّ الجنديّ للاعتراف بأنه لم يعد قادرا على التعرّف على أيّ من الأبراج أو النجوم في السماء. ومثل كلّ شيء آخر منذ بداية الحرب، كانت السماء قد تغيّرت. وبسبب تحرّكاتها، أصبحت الطائرات اليابانية هي النقاط الوحيدة الثابتة في السماء، صارت أبراجا ونجوما ثانية فوق الأرض المدمّرة.
  • في بعض الأحيان أتخيّل أن كلّ كتاباتي ليست أكثر من عمل تعويضي لرسّام محبَط.
  • الحلم الأميركي نفد منه الوقود تماما. لقد توقّفت السيّارة. ولم تعد أمريكا تقدّم للعالم سوى الكوابيس بعد أن انتهى الحلم وتلاشت صوره وأوهامه.
  • أؤمن بقوّة الخيال في إعادة تشكيل العالم وفي إطلاق الحقيقة التي بداخلنا وفي تجاوز الموت. وأؤمن بهواجسي الخاصّة: بجمال حوادث السيّارات وبسلام الغابات المغمورة وبروعة العطلة في فندق خال أو على شاطئ مهجور.
  • الحياة المتحضّرة تستند إلى عدد هائل من الأوهام التي نتعاون جميعا في ترسيخها من تلقاء أنفسنا. المشكلة أننا ننسى بعد قليل أنها أوهام ونُصدم بعمق عندما يتحطّم الواقع من حولنا.
  • ربّما تكون شاعرا أو حالما. لكن عليك أن تدرك أن هاتين الفصيلتين أصبحتا الآن منقرضتين.
  • لا شيء يدوم طويلا كالخوف. في كلّ مكان في الطبيعة يرى المرء دليلا على آليّات غريزية عمرها ملايين السنين ظلّت كامنة عبر آلاف الأجيال، لكنّها احتفظت بقوّتها غير منقوصة. الصورة المتوارثة لفئران الحقل عن ظلّ الصقر هي مثال كلاسيكيّ على هذا. حتى عندما يرى الفأر خيال ورقة فوق جحره فإنه يفرّ بشكل محموم باحثا عن مكان للاختباء. ثمّ كيف يمكن تفسير كراهية الناس غير المبرّرة للعنكبوت، مع أن نوعا واحدا منه فقط هو الذي يلدغ؟ أو كراهيتنا للثعابين والزواحف؟ السبب ببساطة هو أننا جميعا نحمل بداخلنا ذاكرة مغمورة عن الزمن الذي كانت فيه العناكب العملاقة والزواحف القاتلة هي شكل الحياة المسيطر على الأرض.
  • الأديان هي أحصنة طروادة التي تخفي بداخلها آثار علل نفسية غريبة. والخوف الهائل من الموت ظلّ، ولزمن طويل جدّا، المحرّك الرئيسي للديانات.
  • زيارة إلى مقبرة بير لاشيز في باريس تضيف إلى عمر الإنسان سنة واحدة.
  • الصحارى لها سحرها الخاص لأنها استنفذت مستقبلها وأصبحت بذلك متحرّرة من الزمن. وأيّ شيء يقام فيها، سواءً كان مدينة أو هرما أو نُزُلا، يقف خارج الزمن. وليس مصادفة أن زعماء الأديان خرجوا من الصحراء. وفي المستقبل سيخرج من يبابها الخالد نسخ أخرى من رامبو الشاعر وفان غوخ ومن أدولف هتلر.
  • كان المنزل صامتا. ولكن في مكان ما من الحديقة، كانت هناك بركة سباحة مملوءة بمياه مضطربة.
  • يتطلّع المرء إلى اليوم الذي تبيع فيه نظرية النسبية العامّة وكتاب المبادئ نسخا أكثر ممّا يبيعه كتاب الكاماسوترا في مكتبات الشوارع الخلفية.
  • مشكلة البشر أنهم موجودون على هذه الأرض منذ ثلاثين مليون سنة. ولهذا السبب فقدوا الكثير من جمال الحياة العابر وكانت كلّ توقّعاتهم خاطئة.
  • وجهة نظر عصر التنوير عن البشرية ليست أكثر من خرافة. وهي تقودنا إلى التفكير بأننا مخلوقات عاقلة ورشيدة معظم الوقت، بينما لسنا كذلك.
  • الاثنين، مايو 06، 2013

    !بُوسان المتعجرف والبارد

    أحيانا اُتّهم بأن أفكاري عن الفنّ تقليدية. وهذا اتّهام ظالم. فلو كنت تقليديّا بالفعل لأحببتُ الرسّام نيكولا بُوسان.
    عاش هذا الرسّام في القرن السابع عشر وقضى معظم حياته في ايطاليا. وهو فرنسيّ كان يستلهم موضوعات لوحاته من الأساطير والأدب. ولوحته رعاة أركاديا هي واحدة من أكثر الأعمال شهرة في متحف اللوفر في باريس.
    بالنسبة لعشّاق الفنّ الأصيلين، فإن حبّ هذا الرسّام هو المحكّ الحقيقيّ للذوق الرفيع. أن تفهم بُوسان وتُعجب به، فإن هذا هو طقس العبور كي تصبح عاشقا حقيقيّا للفنّ.
    مؤرّخ الفنّ تيموثي كلارك ألّف مؤخّرا كتابا عن لوحة بُوسان طبيعة مع رجل قتلته أفعى الموجودة في الناشيونال غاليري. وأنا أتساءل: كيف وبأيّ منطق يمكن لأيّ شخص أن يشعر بالانجذاب نحو هذا الرسّام المُملّ؟!
    ليست المسألة انه لم تُتح لي الفرصة لكي أصبح مفتونا بـ بُوسان. فقد قضيت ذات مرّة ليلة في فيللا ميديتشي في روما لرؤية معرض لأعمال بُوسان. وكان هناك في نفس الوقت معرض آخر في المدينة لأعمال بوتيتشيللي. وأتذكّر كيف أن الايطاليين نفروا من الانضباط البارد لـ بُوسان.
    هذه هي مشكلتي مع الرسّام. أجد أعماله بلا دم أو روح. بالطبع، أستطيع أن أرى جدّية ونطاق فنّه. وليس هناك مكان أفضل من الناشيونال غاليري حيث لوحته عن الرجل والأفعى التي درسها كلارك. لكن أين هي الحياة في لوحاته؟ أين الافتتان؟ أجد لوحاته مثل المعادلات الرياضية التي تشرح كيف ينبغي أن يكون الفنّ العظيم .
    سيزان كان معجبا بـ بُوسان. وأنا أحبّ سيزان. لكن بالنسبة لي، فإن الفرق بينهما واضح. في فنّ سيزان، هناك توتّرات عميقة، سكون صُوَره يُدمدم بالخطر. وأنا لا أجد توتّرات في بُوسان. غطرسته مطلقة وعالمه الفنّي مغلق.
    وعندما يتحمّس له الناس، فإنني لا أستطيع كتم شعوري بأنهم دجّالون ومحتالون على مستوى ما. أنا متأكّد من أنني مخطئ. ولكن عندما يتعلّق الأمر بـ بُوسان، فأنا شخص غير مثقّف ومعادٍ للقيم الفنّية السائدة وأخشى أن أظلّ هكذا دائما.

    ❉ ❉ ❉

    المقال أعلاه كتبه الناقد جوناثان جونز قبل أسابيع في جريدة الغارديان. والكاتب يطرح في مقاله سؤالا قديما - جديدا يتعلّق بماهيّة الفنّ الجيّد والفنّ الرديء، وهل هناك معايير محدّدة يمكن الاستناد إليها للتمييز بين النوعين؟
    في بعض الأحيان، يعبّر بعض الناس عن إحباطهم عندما يجدون شيئا يعتقدون انه فنّ جميل، بينما يعتبره آخرون فنّا رخيصا. ومسألة النسبية في تقييم الأعمال الفنّية موجودة حتى في أوساط النقّاد ومؤرّخي الفنّ. فما يعتبره شخص ما فنّا رخيصا قد ينظر إليه آخر باعتباره فنّا عظيما.
    غير أن الفكرة السائدة في أوساط بعض الفئات، وخاصّة من يُسمّون بالنخبة أو المثقّفين، هي أن الفنّ الراقي يمكن أن نجده في قصيدة لـ إليوت أو لوحة لـ بيكاسو أو سيمفونية لـ موزارت. في حين أن الفنّ الرخيص أو الرديء هو ذلك الذي يفضّله غالبية الناس والطبقات الشعبيّة خصوصا. واقرب مثال يرد إلى الذهن هو لوحات نورمان روكويل وموسيقى البوب وتلك اللوحات البرّاقة التي تزيّن التقاويم المكتبية والروايات الرومانسية الشعبية.
    في بدايات القرن الماضي، بدأ الناس يتداولون مصطلحا فنّيا جديدا هو الكيتش آرت، وهي كلمة ألمانية تشير إلى نوع من الفنّ الذي يعكس ذوقا رديئا بسبب بهرجته المفرطة وإغراقه في العاطفية. هذا النوع من الفنّ غالبا ما يروق للطبقات الشعبية من المجتمع. ومن سماته انه منفصل عن الحياة كما انه لا يهتمّ كثيرا بالعوامل الحرفية ولا بالاعتبارات الجمالية.
    الفنّ الرخيص أصبح هذه الأيّام يرتبط بالثقافة الشعبية وما ترمز له من انحلال وسلبية وتقليد وسطحية وابتذال بالإضافة إلى طابعها الاستهلاكي والميكانيكي، وفي المقابل يتسم الفنّ الرفيع بالتفرّد والتعقيد والفردانية والأصالة والعمق. لذا من غير المستغرب أن يذهب بعض النقاد إلى اعتبار فنّ اندي وارهول وروي ليكتنشتاين من قبيل الفنّ الرخيص بالنظر إلى شعبيته وتوظيف الآلة في إنتاجه وغلبة الطابع التجاري عليه.
    في فنّ الحداثة وما بعدها، بما في ذلك الأدب، لم يعد يُنظر إلى الكيتش آرت والفنّ الشعبيّ على انه فنّ رخيص أو عديم القيمة. بل جرى عليه ما جرى على كثير من الفنون التي كان يُنظر إليها بدونية، وأصبح مع مرور الأيّام جزءا لا يتجزّأ من البنية العامّة لمفهوم الجمال السائد. وقد راج هذا الفنّ وازدهر بسبب سخرية النقّاد منه واحتقارهم له. بل إن بعض الأعمال الفنّية المصنفة على أنها رخيصة بيعت بملايين الدولارات، مثل بورتريه فلاديمير تريتشيكوف عن الفتاة الصينية ذات الوجه الأزرق والبورتريه الغريب الذي رسمه سلفادور دالي لـ مونا فون بيسمارك.
    السؤال الذي يطرح نفسه اعتمادا على مضمون المقال أعلاه هو: هل من الضروري أن يكون كلّ شيء في الفنّ معذّبا وصادما وباعثا على الخوف والتوتّر والخطر كي يُعتبر فنّا أصيلا وجيّدا؟
    هناك عبارة مشهورة تقول إن الجمال يكمن في عين الناظر، أي أن المتلقّي هو الذي يقرّر لنفسه إن كانت هذه القطعة الفنّية جميلة أم غير ذلك. والواقع انه لا توجد معايير واضحة ومحدّدة للفنّ الجيّد أو الجميل، كما أن النقّاد والخبراء مختلفون كثيرا حول هذه النقطة. والأمر يتعلّق في النهاية بذائقة الفرد نفسه وطريقته في النظر إلى العمل الفنّي. لذا لا تدع أحدا يحدّد لك معنى الفنّ، ولا تهتمّ بما يقوله الآخرون أو بما يؤمنون به. فقط ركّّز على أن تُبقي عقلك مفتوحا وخذ وقتا كافيا في دراسة وتأمّل الأعمال الفنّية ودرّب نفسك على تبيّن محاسنها وسلبيّاتها.

    السبت، يوليو 07، 2012

    القوّة الخفيّة للأحلام

    ذات ليلة، حلم الاسكندر المقدوني أنه يراقص إله الغابات "ساتاير" الذي يأخذ شكل فرس جامح. وقد استدعى مفسّرا ليشرح له معنى الحلم. فقال له: هذه بشارة لك بأنك ستفتح مدينة صُوْر". وقد بنى المفسّر نبوءته على أساس أن المقطع الأخير من اسم إله الغابات يطابق اسم صُوْر باللاتينية. وفي نفس تلك السنة، فتح الاسكندر صُوْر بالفعل وضمّها إلى امبراطوريّته الواسعة.
    الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن داهمه في إحدى الليالي حلم غريب. رأى نفسه جالسا ليلا داخل قاعة فسيحة ومضاءة. وفجأة تناهت إليه أصوات رصاص، وشعر بأنه يسقط على الأرض فاقدا الوعي. وهُرع باتجاهه أشخاص كان بعضهم يصيح والبعض الآخر يبكي. وبعد ذلك بأيّام، أي في الخامس عشر من ابريل عام 1865م، اغتيل لينكولن برصاصة في الرأس أطلقها عليه احد الأشخاص بينما كان يحضر عرضا في احد مسارح ولاية إلينوي.
    الزعيم النازيّ ادولف هتلر رأى ذات مرّة حلما مزعجا جعله يقفز من سريره مرعوباً. وبعد لحظات، اخترقت قذيفة مدفع جناح المبنى الذي كان يستخدمه كمكتب وقتلت كلّ من كان فيه.
    كارل يونغ، المفكّر وعالم النفس السويسريّ المشهور، حلم في إحدى الليالي أن طوفانا عظيما غمر كافّة أرجاء أوربّا ووصلت مياهه إلى قمم جبال سويسرا، ثمّ تحوّلت المياه إلى دماء. وبعد أشهر من ذلك الحلم الغريب، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى.
    الموسيقيّ الايطالي جيوسيبي تارتيني أمضى أشهرا عديدة وهو يبحث، دون جدوى، عن خاتمة مناسبة لتحفته المشهورة سوناتا الشيطان. وذات ليلة، حلم انه عثر على زجاجة على شاطئ البحر وبداخلها شيطان محبوس. وقد توسّل إليه الشيطان أن يطلق سراحه. وتوصّل الاثنان إلى صفقة. ناول تارتيني كمانه للشيطان، وذُهل لروعة وجمال عزفه. وعندما استيقظ من حلمه، حاول أن يستعيد ما سمعه في الحلم. وقد كتب تارتيني بعد ذلك يقول: سوناتا الشيطان هي أفضل ما كتبت. غير أنها اقلّ جمالا بكثير من الموسيقى التي سمعتها في الحلم".
    هذه فقط بعض الأمثلة التي تدلّل على القوّة الخفيّة والغامضة للأحلام وعلى أهميّتها وحضورها الدائم في حياة الإنسان.
    تخيّل، على سبيل المثال، دور الأحلام في الأدب والفنّ. العديد من الأعمال الأدبيّة المشهورة ظهرت بفضل حلم رآه الكاتب في منامه: فرانكنشتاين لـ ميري شيللي، والشفق لـ ستيفاني ماير، ودكتور جيكل ومستر هايد لـ روبيرت ستيفنسون.. والقائمة تطول.
    وهناك الكثير من الروايات التي تستند حبكتها الرئيسية على عنصر حلم. في رواية المسخ لـ فرانز كافكا، مثلا، يستيقظ غريغور سامسا بطل الرواية من حلم ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار ضخم.
    وهناك عدد لا يُحصى من الكتّاب الذين وظّفوا قصص الأحلام في رواياتهم: جوزيف كونراد، آرثر ميللر، جيمس جويس، شكسبير، لويس كارول، دستويفسكي، جورج اورويل، ايتالو كالفينو، ادغار الان بو وغابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم.
    الأحلام أيضا حاضرة بقوّة في الفنّ التشكيليّ. العديد من لوحات هنري روسّو وسلفادور دالي وجاسبر جونز وهنري فوزيلي وغيرهم كانت نتاج أحلام.
    وفي السينما أيضا استخدم مخرجون كثر صور الأحلام في أفلامهم مثل انغمار بيرغمان، ارسون ويلز وفيدريكو فيلليني وسواهم. كما ألهمت الأحلام عددا من الموسيقيين من أمثال هاندل، شوبيرت وفاغنر وغيرهم.
    أهميّة وقوّة الأحلام معروفة وراسخة. ومن معابد العصور القديمة، إلى مختبرات النوم في العصر الحاضر، حاول البشر أن يفهموا الأحلام وأن يفسّروها.
    وأقدم الأحلام المسجّلة وجدت في وثائق يعود تاريخها إلى ما يقرب من 5000 عام، في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. السومريون، أوّل مجموعة ثقافية قطنت تلك المنطقة، تركوا سجلات للأحلام يعود تاريخها إلى عام 3100 قبل الميلاد. ووفقا لتلك الكتابات المبكّرة، كانت الآلهة والملوك، مثل الملك العالم آشور بنيبعل من القرن السابع، يبدون اهتماما كبيرا بالأحلام.
    ومن ضمن أرشيف هذا الملك من الألواح الطينية، تمّ العثور على أجزاء من ملحمة الملك الأسطوريّ غلغامش. في هذه القصيدة الملحمية، وهي واحدة من أقدم القصص الكلاسيكية المعروفة، يسرد غلغامش أحلامه المتكرّرة على أمّه الإلهة نينسون التي قدّمت أوّل تفسير مسجّل لحلم. كما اتخذت أحلامه كنبوءات. المواقف المدوّنة في ملحمة غلغامش توفّر مصدرا قيّما للمعلومات حول المعتقدات المتعلقة بالأحلام في العصور القديمة.

    العبرانيون القدماء كانوا يعتقدون أن الأحلام هي عملية اتصال مع الله. الشخصيّات التوراتية، مثل سليمان ويعقوب ونبوخذ نصّر ويوسف، كلّهم زارهم الربّ أو الأنبياء في أحلامهم وساعدوهم في توجيه قراراتهم. كان من المسلّم به والمقبول أن أحلام الملوك يمكن أن تؤثّر على أمم بأكملها وعلى مستقبل شعوب بأسرها. التلمود، المكتوب ما بين عامي 200 و 500م، يتضمّن أكثر من 200 إشارة لأحلام. وهو يشير إلى أن الأحلام غير المفهومة هي "مثل الرسائل التي لم يتمّ فتحها".
    قدماء المصريين أيضا أولوا اهتماما خاصّا بأحلام قادتهم الملكيين، بالنظر إلى أن الآلهة كانوا أكثر عرضة للظهور فيها. سيرابيس، إله الأحلام المصريّ، كانت له معابد لحضانة الأحلام. وقبل الذهاب إلى هذه المعابد، يصوم الحالمون ويصلّون كي يضمنوا رؤية أحلام سعيدة.
    الصينيون اعتبروا أن روح الحالم هي العامل المهمّ في توجيه الحلم. كانوا يعتقدون أن "الهون" أو الروح تغادر الجسد أثناء الحلم لتتواصل مع أرض الأموات.
    كتاب الأوبنيشاد، ظهر ما بين 900 و 500 قبل الميلاد. وهو يتناول منظورين عن الأحلام: الأوّل يرى أنها مجرّد تعبير عن الرغبات الداخلية. والثاني يشبه الاعتقاد الصيني عن الروح التي تغادر الجسد أثناء النوم لتعود عندما يستيقظ الجسد ثانية.
    القرن الخامس قبل الميلاد شهد ظهور أوّل كتاب يونانيّ معروف عن الأحلام. وقد كتبه انتيفون الذي كان رجل دولة من أثينا. في تلك الفترة، ساد بين الإغريق اعتقاد بأن الروح تغادر جسد الإنسان الحالم. اوسكولابيوس كان معالجا إغريقيا، وكان على اتصال بالطوائف التي بدأت في ممارسة حضانة الأحلام. كان يزور النائمين ويقدّم لهم المشورة والنصح.
    أبقراط، والد الطبّ ومعاصر سقراط، ألّف كتابا اسماه "عن الأحلام". وكانت نظريّته بسيطة: في النهار تستقبل الروح الصور، وفي الليل تعيد إنتاجها. وهذا هو السبب في أننا نحلم".
    أرسطو كان يعتقد بأن الأحلام ليست محصّلة وحي إلهي، وإنّما مؤشّرات عن أوضاع داخل الجسم. كما افترض بأن المؤثّرات الخارجية تكون غائبة أثناء النوم. ولهذا فإن الأحلام هي مظاهر وعي عميق بالأحاسيس الداخلية التي يُعبّر عنها على هيئة صور في الأحلام.
    جالينوس ركّز على الحاجة لملاحظة الأحلام بعناية بحثا عن أيّ رسائل قد تتضمّنها. معاصره ارتيميدوراس وضع كتابا عن تفسير الأحلام يعتبره البعض أفضل مصدر عن الأحلام في العصور القديمة. وهو يصف نوعين من الأحلام: الأوّل يتنبّأ بالمستقبل، والثاني يتعامل مع مسائل الحاضر.
    في أوربّا العصور الوسطى، كانت الأحلام كثيرا ما تُدرّس في سياق علاقتها بالله. والسؤالان النموذجيان اللذان كانا يُطرحان عادة في تلك الفترة هما: هل الأحلام مرسلة من الله للصالحين وأصحاب الكرامات؟ أم أنها مرسلة من الشياطين إلى الخاطئين والمذنبين؟!
    في القرن العشرين، مُنحت الأحلام حياة جديدة على يد سيغموند فرويد الذي احدث تغييرا جذريّا في دراسة الأحلام مع ظهور كتابه المشهور "تفسير الأحلام".
    فرويد رأى أن الأحلام عبارة عن رغبات لم تتحقّق، أو محاولات من اللاوعي لحسم صراع من نوع ما، وأن الرمز أو الصورة التي تظهر في حلم قد تنطوي على معان متعدّدة.
    كان فرويد يركّز على الدوافع البيولوجية للفرد، الأمر الذي باعد بينه وبين العديد من زملائه مثل يونغ وأدلر. كما أن تعويله الكبير على دور الدافع الجنسيّ في الأحلام دفع معارضيه لوصفه بـ "عدوّ للبشر" لأنه تعامل مع البشر كما لو أنهم حيوانات برّية.
    وفي حين أن نظريّاته ودراساته النفسية عن الأحلام شابتها بعض العيوب المنطقية والافتراضات المتحيّزة، إلا أن انجازات فرويد في هذا الميدان لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها.

    موضوع ذو صلة: المدن والذاكرة

    Credits
    plato.stanford.edu
    simplypsychology.org

    الاثنين، يونيو 18، 2012

    عين الإبرة

    الأديان، بلا استثناء تقريبا، تحتقر الثروة وتحثّ الإنسان على أن لا ينشغل بجمع المال والأشياء النفيسة وأن لا يجعل ذلك اكبر همومه في الدنيا. وبعض القصص الدينية تطرح أفكارا وحالات مستحيلة للتدليل على أن الغنى بحدّ ذاته لا يجلب السعادة للإنسان، كما انه لا يحقّق خلاصه في الآخرة.
    ومع ذلك فإن الله، طبقا لهذه النصوص، قادر على أن يفعل المستحيل لمساعدة الإنسان في التغلّب على نوازع نفسه الدنيوية والتطلّع إلى ما تعد به الحياة الأخرى من ثواب عميم ونعيم مقيم.
    اللوحة فوق يمكن أن تكون تجسيدا لنظرة الرسّام إلى الوجود ومكان الإنسان فيه. وهي بنفس الوقت ترجمة لعبارة منسوبة إلى السيّد المسيح يقول فيها: أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل الإنسان الغنيّ ملكوت الله".
    والإسلام يقدّم تنويعا على هذه الفكرة من خلال إحدى الآيات الكريمة التي تقول: إن الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تُفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخِيَاط".
    ثقب الإبرة في المسيحية، أو سمّ الخياط في الأدبيات الإسلامية، عبارة ترمز لاستحالة حدوث شيء دون تدخّل من الله.
    وحتّى البوذية، وما يتفرّع عنها من مدارس وفلسفات، توصي أتباعها بالانفصال عن الرغبات والدوافع والمشاعر الدنيوية وتعتبر ذلك شرطا للوصول إلى مرتبة النيرفانا، أي التحرّر من المعاناة وبلوغ أعلى درجات السلام الداخلي والصفاء الروحي.
    بعض المؤرّخين يشيرون إلى أن ثقب الإبرة هو اسم حقيقيّ كان يُطلق على بوّابة في مدينة القدس كانت تُفتح ليلا عندما تُغلق بوّابة المدينة الرئيسية. ولم يكن من السهل بالنسبة للقوافل أن تمرّ عبر هذه البوّابة لصغرها. وكان يتعيّن على الجمال أن تنحني وأن تُزال عنها أحمالها كي تمرّ عبرها.
    لوحة فلاديمير كوش تشبه حلما بالألوان وتذكّر بمناظر دالي وماغريت. في اللوحة، قافلة الجمال التي أعطاها الرسّام لون الذهب، والنهر الذي يكتسي بالزرقة اللامعة، يرمزان كلاهما للثروة.
    القافلة تسير ببطء وقت الغروب، بينما تتراجع الألوان في المقدّمة وتهيمن الظلال. لاحظ الجهد الذي يبذله زعيم القافلة لحمل الجمل الأوّل على المرور من الإبرة. ومع ذلك، فالمفارقة الساخرة هنا هي أن الرسّام حرص على أن يكون الثقب واسعا بما يكفي لأن تمرّ الجمال عبره.
    ربّما أراد الفنّان أن يقول أنه لا مشكلة ولا تناقض في أن يكون الإنسان غنيّا وتقيّا في الوقت نفسه طالما انه اكتسب ثروته بوسائل شريفة ومشروعة وليس عن طريق السرقة والغشّ والاحتيال. وأن بإمكان الإنسان، إذا استخدم الحكمة والعقل، أن يتعامل مع الحياة بطريقة واقعية ومتوازنة، بحيث لا يطغى جانب على آخر وبحيث يضمن السعادة وراحة البال في الدنيا والآخرة معا.

    الخميس، فبراير 16، 2012

    خطوط وألوان

    فرانشيسكو دي غويا، الثاني من مايو عام 1808، 1814


    يُفترض أن هذه اللوحة تصوّر الأحداث المأساوية التي وقعت في ذلك اليوم في مدريد عاصمة اسبانيا. هيو توماس وصف اللوحة بأنها "أوبرا منظمّة". ورغم جمال هذا الوصف، إلا انه مضلّل إلى حدّ ما.
    ما غفل عنه توماس هو الاستثناء، وهو موجود هنا في هذه اللوحة. وحيث توجد الأخطاء والغموض وعدم الاتساق، يوجد المعنى.
    معظم الشخصيات في اللوحة ضحلة نسبيا. وهي موزّعة في كلّ أنحائها، مثل عناصر زخرفية مصفوفة على سطح مستوٍ. غير أن الاستثناء الوحيد فيها هو الرجل الذي يرتدي جاكيتا اخضر فاتح اللون في الزاوية السفلى اليسرى. هذا الرجل يظهر وهو يطعن الحصان الأبيض بخنجر.
    شكل الرجل مختلف عن بقية الأشخاص. وهو يقف في بقعة مضاءة ويبدو بكامل قوامه، كما لو أننا نرى صورة ثلاثية الأبعاد. كما انه يتحرّك إلى داخل الصورة.
    هذا الرجل هو غويا نفسه. اللوحات العظيمة ليست وثائق تاريخية، كما لا يمكن اعتبارها تاريخا. لو كانت كذلك حقّا، فإنها على الأرجح لن تكون فنّا. الرسّام الحقيقي فقط هو الذي يعكس ما يعتمل في عقله في لحظة الخلق، كما فعل غويا هنا.
    لقد رسم الصراع المستمرّ بين جانبين في عقله حيث الدم والكدح والدموع والعرق. وهذا كلّ ما يتطلّبه خلق صورة معبّرة.




    تمثّل هذه اللوحة فترة رائعة في حياة واحدة من أكثر الرسّامات والكاتبات إثارة للاهتمام في القرن الماضي. فبعد أسفار كثيرة وإقامة لبعض الوقت في ولاية اريزونا ووادي اللوار في فرنسا، عادت دوروثيا تاننغ إلى نيويورك، المدينة التي ولدت فيها وشهدت بدايات ظهورها كرسّامة.
    في تلك السنة، أي في 1942، زار محترفها جوليان ليفي، الرجل الذي ادخل السوريالية فعليا إلى الولايات المتحدة. وقد أعجب ليفي كثيرا بلوحة تاننغ عيد الميلاد، لدرجة انه عرض عليها أن تقيم لها معرضا منفردا. واستقبل المعرض استقبالا حسنا وأصبحت تاننغ بعده فنّانة معروفة.
    زواج دوروثيا تاننغ في ما بعد من الرسّام الشهير ماكس ارنست خدمها كثيرا وعرّفها على العديد من الشخصيات المبدعة في ذلك الوقت مثل البيرتو جياكوميتي وخوان ميرو وكرّس صورتها عند العامّة كامرأة فنّانة ومثقّفة.
    وجدت تاننغ نفسها بسرعة محاطة بالعباقرة، لكنها ظلّت تعتمد على نفسها وتبحث عن مصادر إلهامها الخاص.
    لوحتها ما وراء المتنزّه تتحدّث عن قوّة الإرادة والمقدرة الإبداعية والكشف عن الذات وعن قصّة الازدهار الفنّي التي ستحدّد رؤية الفنّانة عن المستقبل.
    في عام 1980 بدأت تاننغ التركيز أكثر على كتابة الشعر. وقد ألّفت العديد من الكتب وأصبحت شاعرة يُحتفى بقصائدها في أفضل الصحف الأمريكية.
    وقبل عامين احتفلت بعيد ميلادها المئوي، وتوفّيت في الحادي والثلاثين من يناير عام 2012م.


    جان ميشيل باسكيا، بورتريه شخصي، 1982


    عندما تنظر في هذه اللوحة مليّا ستدرك أن السهم الذي يمسك به الرجل في يده الممدودة هو فرشاة رسم. صحيح أن الفرشاة تبدو مثل سهم، لكن هكذا تبدو الفرشاة أحيانا في عقل الفنّان.
    السهام في يد الرامي دقيقة وسريعة وقويّة وعنيفة وقادرة على أن تخترق جسم الإنسان.
    والرسّام جان ميشيل باسكيا، عندما كان في سنّ الثانية والعشرين، كان عنده فهم عميق لمعنى الفنّ. وقد رسم هذا البورتريه لنفسه بيد يسرى كبيرة كي يشير إلى أهمّية مهنته، تماما مثلما فعل ميكيل انجيلو عندما منح العذراء يدين عظيمتين في تمثال بييتا لنفس هذا السبب.
    ثم بسط الرسّام ذراعه الأخرى إلى الأمام، وهي حركة أدرك الرسّامون الشاعريون أنها اليد التي تحاول الوصول إلى رقعة الرسم.
    باسكيا في هذه اللوحة يبدو كما لو انه يصرخ بوجه كلّ من لا يرى في اللوحة سوى سهم: هذه فرشاة!.
    توفّي جان ميشيل باسكيا في سنّ السادسة والعشرين بعد حياة صاخبة وتجربة مريرة في إدمان المخدّرات.
    لكن برغم رحيله المبكّر، كان قد رسّخ حضوره، ليس كأحد أهم الرسّامين في النصف الثاني من القرن الماضي فحسب، وإنّما كشخصية مأساوية في عالم الفنّ المعاصر.
    وهذا البورتريه الشخصي والوحشي هو مثال على أسلوبه القاسي الذي استلهمه من فنّانين مثل بيكاسو وبولوك ومن موسيقى الجاز وربّما من إدمانه للهيروين.
    الشخص المزعج في البورتريه يبدو أن الرسّام استوحى ملامحه من تلك التماثيل الصغيرة الغامضة من أفريقيا القديمة.


    فيسنتي روميرو، نور الصباح، 2007


    ولد روميرو عام 1956 في مدريد بـ إسبانيا. ودرس في كلية سان فرناندو للفنون الجميلة التي تُعتبر أشهر مؤسّسة أكاديمية في بلاده.
    أسلوب روميرو في رسم اللوحات الزيتية متفرّد وخاص. وهو يعزوه إلى نوعية التدريب الأكاديمي الذي تلقّاه. مناظره تذكّر بأساليب كبار الرسّامين الانطباعيين. ومعظمها يصوّر نساء يمارسن أنشطة شتّى في بيئة منزلية أو في الطبيعة المفتوحة.
    المكان الذي اختاره روميرو للسكنى ولإقامة محترفه يقع على شاطئ كوستا برافا المتوسّطي، وهو تقريبا نفس المكان الذي ولد فيه سلفادور دالي. اللمعان والسطوع الذي يميّز مناظر روميرو هو انعكاس لما يراه الرسّام في هذا المكان الذي اشتهر بهدوئه وجمال بيئته البحرية.
    في صغره اشتهر الفنّان برسوماته الكاريكاتيرية التي كان يرسمها لمعلّميه وزملائه. ويقال انه نادرا ما كان يرى إلا وبيده كرّاس وأقلام ملوّنة.
    الموديلات الجميلات اللاتي يظهرن في لوحاته يعبّرن عن الروح المثالية للمكان. وقد نجح في تحويل الحالات الحميمة في الحياة إلى فكرة تهيمن على لوحاته المليئة بالعاطفة والجمال وبقدر محسوب من الحسّية.
    وقد عرض فيسنتي روميرو أعماله في العديد من البلدان مثل اسبانيا وفرنسا والبرتغال وغيرها.

    Credits
    franciscogoya.com
    wga.hu

    الاثنين، فبراير 07، 2011

    أسطورة كوكو شانيل


    الحياة المثمرة والمفعمة بالنشاط لـ كوكو "غابريال" شانيل ونجاحها المبكّر كمصمّمة أزياء في باريس وفّرا لها كتابا اسود صغيرا يحسدها عليه الكثيرون ويزدحم بأسماء العديد من الأثرياء والمشاهير.
    بعض هؤلاء كانوا مجرّد زبائن. لكن العديد منهم كانوا عشّاقا والقليل منهم كانوا متزوّجين. وقد ربطتها أحوال عشق مع عدد من الرجال اللامعين. ومن بين هؤلاء يبرز اسمان مميّزان: الأوّل دوق ويستمنستر هوغ غروسفينور الذي فُتنت به ذات مرّة وتزوّجته. والثاني: رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشيرشل الذي يعود إليه الفضل في انه أنقذ حياتها من الأخطار والمشاكل أثناء الحرب العالمية الثانية.
    خلال الحرب، وكانت شانيل وقتها في أواخر الخمسينات من عمرها، كانت تربطها علاقة برجل كان على صلة بالنازيين. كان ذلك الرجل، واسمه هانز غونتر، يصغرها بثلاثة عشر عاما. وكان يعمل بأوامر مباشرة من وزارة الدعاية النازية ويستخدم من وظيفته كملحق صحفي في باريس غطاءً لأنشطته الجاسوسية. وقد راجت في ذلك الحين نظرية تقول انه كان عميلا مزدوجا وانه كان يعمل سرّا ضدّ النازيين.
    في باريس، بعد تحريرها من الاحتلال النازي، استُدعيت شانيل من قبل السلطات الفرنسية للإجابة على بعض الأسئلة. لكن لم يُعرف أبدا أيّ الرجلين، غروسفينور أو تشيرشل، تدخّل لمصلحتها. وقد عادت بسرعة إلى بيتها بعد أن تجنّبت العقوبة المخزية التي كانت تُطبّق بحقّ المتعاملين مع العدوّ الذين كانت تُحلق رؤوسهم ويُعرَضون عراة في شوارع باريس.
    في هذا الكتاب تتحدّث الكاتبة البريطانية جيستين بيكاردي عن الفرضية التي تقول إن تشرشل تدخّل بطريقة أو بأخرى من اجلها. وتعيد المؤلّفة إلى الأذهان ما أشيع في حينه من محاولات بُذلت للحيلولة دون الكشف عن الاتصالات الكريهة بين بعض الزعماء النازيين من جهة وبين كلّ من دوق ودوقة وندسور من جهة أخرى".
    وعندما سُئلت شانيل في ما بعد عمّا إذا كانت متورّطة مع الألماني أجابت: إن امرأة في مثل سنّي لا يُتوقّع منها أن تنظر إلى جواز سفره إذا كانت لديها فرصة لأن تحبّه".
    كانت غابريال شانيل ثمرة لزواج غير شرعي. وقد ولدت في العام 1883 في ملجأ في الريف الفرنسي. وبعد موت أمّها، وهي ما تزال طفلة، تخلّى عنها والدها وأودعها في ملجأ للأيتام. وبعض ذكريات الملجأ، بطبيعته النقيّة والمتقشّفة، ظهرت في ما بعد في تفاصيل منزلها الأنيق على الريفييرا الفرنسية. كما اقتبست بعض عادات وملابس الراهبات في تصاميمها، خاصّة الأصفاد والياقات واستخدام ألوان أحادية مثل الأسود والكريمي.
    كانت لدى كوكو شانيل موهبة تلوين الأجزاء غير السعيدة وغير المهمّة من حياتها المبكّرة. وعندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها غادرت ملجأ الراهبات وبدأت تعمل كمغنّية في احد الأندية الليلية. ثم تعرّفت إلى الانجليزي بوي كابيل الذي أصبح عشيقها وملهمها. وقد دأبت على تقطيع ملابسه ومن ثم إعادة تصميمها وإضفاء طابع "اندروجيني" عليها بحيث تصلح للرجال والنساء معا.
    وبفضل دعم كابيل لها أصبحت على وشك أن تصبح مصمّمة أزياء معروفة. وفي عام 1919، أي السنة التي قُتل فيها كابيل في حادث سيّارة، كان قد أصبح عندها مشغلها الخاصّ. وسرعان ما وجدت طريقها إلى مجتمع النبلاء والأثرياء. وأصبح عالمها مأهولا بأشخاص غريبي الأطوار مثل سلفادور دالي وبابلو بيكاسو وجان كوكتو وايغور سترافنسكي، بالإضافة إلى عاشق آخر هو الدوق ديميتري ابن عمّ قيصر روسيا. وعادت شانيل مرّة أخرى لتلعب دور العشيقة، وهو الدور الذي لم تكن تجد في لعبه حرجا أخلاقيا كما يتّضح من سلسلة علاقاتها الكثيرة.
    ملابس شانيل كانت تعكس أسلوب حياتها. فقد استبدلت الكورسيهات بالبناطيل الفضفاضة وقدّمت منظورا يتناسب مع النزعة المنادية بحرّية واستقلالية النساء. كما استبدلت أردية السهرة المزخرفة بفستانها الأسود الصغير والمشهور. وبفضلها تنامت شعبية المجوهرات التي تُرتدى مع الملابس والفساتين ذات اللون الواحد وتلك التي بلا ياقة والجاكيتات الطرفية.
    كانت كوكو شانيل امرأة ناجحة ومشهورة جدّا. غير أن تداعيات سنوات الحرب أثّرت فعليا على مسيرتها المهنيّة وأوقفت نشاطها مؤقّتا.
    وقد أغلقت أعمالها بعد ساعتين فقط من خبر نشوب الحرب العالمية الثانية قائلة: ليس هذا وقت الموضة". وعندما حاولت أن تعود بمجموعة جديدة في فبراير 1954 اختارت خامس يوم في الشهر، رقم الحظ عندها، موعدا لعودتها. لكن ذلك لم يخفّف من قسوة الحكم عليها. فقد سخر من تصاميمها الناس ووجدوا في عملية شدّ الوجه التي أجرتها في سويسرا مادّة للهزء والاستظراف. وما زاد الأمور سوءا هو حقيقة أن منافسها كريستيان ديور كان قد بدأ ينتشر ويشتهر.
    ووجدت شانيل بعض العزاء من بعض المشاهير في الولايات المتحدة الذين أشادوا بها باعتبارها الوجه الذي يقف وراء أشهر عطر نسائي في العالم، أي شانيل فايف. وقد ازدادت شعبية ذلك العطر بعد أن نُقل عن مارلين مونرو قولها إنه الشيء الوحيد الذي كانت تضعه في السرير.
    عندما ظهر هذا العطر لأوّل مرّة عام 1921 أصبح بسرعة ماركة عالمية. لكنّ أصول العطر ما تزال مجهولة إلى اليوم. وقد قالت شانيل في ما بعد إنها كانت تجد في طبيعة الكوت دازور ملاذا آمنا. في تلك البقعة الهادئة كانت تستنشق عبير الأزهار في الصباح وبعد حلول المساء. وهناك ابتكرت عطرها الأسطوري.
    ويقال إن شخصا ما في مكان ما من العالم يشتري زجاجة من هذا العطر كلّ ثلاثين ثانية. وقد اختارت شانيل الرقم خمسة لهذا العطر لأنها في صباها كانت تنتمي إلى طائفة مسيحية تقدّس رمزية هذا الرقم ولطالما اعتبرته علامة تفاؤل وجالبا للحظ السعيد.
    وعلى مرّ السنين تمّت الاستعانة بالعديد من نجوم الفنّ والسينما للترويج والدعاية لهذا العطر من أشهرهم الممثلتان الفرنسيتان كاترين دونوف وكارول بوكيه.
    إيرادات "شانيل فايف" الكبيرة ساعدت غابريال شانيل على استعادة ثقتها بنفسها واسترداد مكانتها القديمة كخبيرة موضة ومصمّمة مشهورة.
    الملابس بالنسبة لـ شانيل كانت للتحرّر والنسيان. كانت ترى أن النساء يجب أن يكنّ قادرات على أن يمشين ويسُقن ويركبن وينسين ماذا يلبسن. وكانت فساتينها مشهورة على نطاق واسع. وأشهرها طبعا ذلك الفستان الوردي الذي كانت ترتديه جاكي كينيدي في دالاس عام 1963 في نفس اليوم الذي قُتل فيه زوجها جون كينيدي وكانت هي إلى جواره.
    ويقال إن جاكي كينيدي احتفظت بذلك الفستان في مخزن خاص حتى وفاتها. وما يزال إلى اليوم يحمل آثار دماء زوجها القتيل .
    تعترف جيستين بيكاردي في كتابها بأنه في كومة الحكايات التي قيلت عن كوكو شانيل، فإن القيل والقال والتكهّنات والشائعات التي تقرن اسمها بالنازية زمن الحرب ما تزال تلطّخ سمعتها وتشوّه إرث تصاميمها الرائعة.
    غير أن المؤلّفة ترى بأن "سلوك شانيل ينبغي النظر إليه في سياق حقبة من التاريخي الفرنسي اتسمت بالإحساس الواسع بالفوضى والحيرة وعدم اليقين".
    وفي جزء آخر من الكتاب تقول: صحيح أن هذه المرأة الايقونية غيّرت جذريا طريقة لباس النساء وكيف يبدين للرجال بفضل أفكارها المبتكرة. لكن غاب عنها حقيقة أن المتع البسيطة التي تتوق إليها غالبية النساء في العالم هي أن يعثرن على شريك محبّ ومخلص وأن يُرزقن بأطفال".
    كسيّدة أعمال، كانت شانيل قويّة وصارمة. لكن حياتها الخاصّة تكشف عن امرأة ضعيفة جدّا اعتادت استخدام الأقراص المنوّمة والمورفين كحائط دفاع أخير أمام وحشة وأرق الليل.
    شانيل التي تكشف عنها بيكاردي هي راوية قصص. إنها تنسج أسطورتها الخاصّة. لكن كلّ واحد من إبداعاتها كان قصّة بحدّ ذاته. وكلّ إبداع كان يحتوي على قصّة خاصّة به".
    كان أفضل أصدقائها امرأة بولندية تُدعى ميسيا سيرت. وقد كانت هذه المرأة ملهمة لكلّ من ستيفان مالارميه ومارسيل بروست وكلود ديبوسي وموريس رافيل. كما رسمها كل من اوغست رينوار وأونري لوتريك وبيير بونار. كانت علاقة المرأتين حميمة كثيرا. وقد قالت شانيل ذات مرّة: أينما أحبّت ميسيا، لا ينمو العشب بعد ذلك أبدا".
    في أواخر حياتها صرّحت شانيل برغبتها في أن ترى الموضة تموت بسرعة". لكن رمز الموضة عاشت طوال قرن كامل وماتت وهي في سنّ السابعة والثمانين. وما تزال ابتكاراتها وأفكارها الثورية والجريئة مصدر إلهام وإعجاب بالنسبة للكثيرين. "مترجم".

    الأحد، يونيو 20، 2010

    ثلاثة كُتُب

    تتفاوت النسبة بين ما هو موضوعي وبين ما هو ذاتي عند الكتابة عن حياة الشخصيّات المشهورة. والمؤلّف الذي يؤرّخ لحياة مبدع ما ويتناول نتاجه بالنقد والتقييم، كثيرا ما تفرض عليه انطباعاته وأفكاره المسبقة نوعية الأحكام والمواقف التي يضمّنها كتابه عن هذه الشخصية أو تلك.
    هذه المشكلة لا تقتصر على مؤلّف الكتاب فحسب بل قد تمتدّ أحيانا لتشمل المتلقّي نفسه الذي قد يقرأ الكتاب وفي ذهنه القناعات والمواقف التي كوّنها عن الشخصيّة في مرحلة سابقة.
    جيكوب ويسبيرغ يستعرض في المقال التالي ثلاثة كتب تتناول سيرة حياة ثلاثة من كبار الرسّامين، هم على التوالي هنري ماتيس ودييغو ريفيرا وسلفادور دالي.

    كقاعدة عامّة، يمكن القول إن حياة الروائيين اقلّ نشاطا وحيوية من حياة الرسّامين. فبينما يجلس الكاتب لوحده إلى طاولة، فإن الفنّان يؤدّي عمله وسط دعم فريق كامل من الرعاة والزبائن والمساعدين.
    وبينما يحاول الروائي أن يكون له أسلوبه الخاصّ في الكتابة، فإن الرسّام من حقّه أن ينضمّ إلى تيّار جماعي أو أن يختار طريقه بمفرده.
    وعندما يتعلّق الأمر بالسلوك الاجتماعي، فإنه لا توجد مقارنة على الإطلاق بين الروائي والرسّام. وليام فوكنر، مثلا، قد يتناول خِفية جرعة من الكحول من درج مكتبه، بينما يستطيع جاكسون بولوك أن يسكر على الملأ. وهمنغواي بإمكانه أن يتخذ له زوجة أو عشيقة، بينما يستطيع بيكاسو أن يدّخر لنفسه عشرات الخليلات. وإذا كان لدى الكاتب عشيقة، فإن الرسّام يمكن أن يعيش حياة تتسم بالمجون والعربدة.
    لهذه الأسباب أصبحت كتب السيرة، منذ جورجيو فاساري في القرن السادس عشر، نوعا من التسلية الجيّدة. ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت مثل هذه القصص تساعدك على تقدير وتقييم إبداعات أصحابها. إذا أردت، مثلا، أن تعرف طبيعة إسهامات هاري ترومان، فما عليك إلا أن تقرأ سيرة جيّدة له، لأنه لا يمكنك الذهاب إلى متحف كي ترى سياسة الاحتواء المزدوج. الفنّانون في المقابل يسعون للوصول إلينا دون حاجة إلى كلام النقّاد أو مؤرّخي الفنّ، مع أن هؤلاء قد يلفتون اهتمامنا إلى أشياء ربّما تفوتنا. لكن هل بإمكان كاتب السيرة أن يقرّبنا أكثر من التجربة الفنّية؟
    الكتب الثلاثة التالية تقدّم إجابات مختلفة ومتباينة عن هذا السؤال.
    الكتاب الأوّل، وهو أفضلها، عنوانه ماتيس المجهول: السنوات الأولى للكاتبة هيلاري سبورلنغ.
    كتاب سبورلنغ هو عبارة عن قصّة تكشف فصولها بالتدريج عن سيرة حياة رسّام عظيم. السؤال الذي يطرح نفسه عن ماتيس هو: كيف استطاع ابن تاجر بذور من ريف شمال فرنسا الفقير أن يصبح مبتكر الحداثة وسيّد اللون والضوء المتوسّطيين؟
    الكتاب يُطلعنا على خطوات ماتيس الصغيرة وإخفاقاته الكثيرة. وشيئا فشيئا ينقلنا للتعرّف على أسلوبه المبتكر وإبداعاته الثورية.
    تشرح المؤلّفة كيف نضج أسلوب ماتيس الفنّي وكيف سقط بعد ذلك في فترة مظلمة دامت سنتين إثر فضيحة مالية نشأت عن تزوير أوراق تورّط فيها والدا زوجته. هذه الفترة من حياة ماتيس شغلت كلّ وقته واستنزفت موارده الشحيحة أصلا وسبّبت له الانهيار. ولم يتمكّن من الوقوف ثانية على قدميه إلا بعد أن تمّت تبرئة أصهاره. ثم تشرح المؤلّفة كيف تأثّر الفنّان بأنماط الأقمشة المزركشة في قريته وبلوحات تيرنر التي رآها أثناء قضائه شهر العسل في لندن وبإحدى لوحات سيزان التي اشتراها بمال بقالة العائلة.
    الشيء الجدير بالإعجاب في شخصيّة ماتيس هو نزاهته وإخلاصه. فطوال عشرين عاما صمد هذا الرجل المتحفّظ وذو العادات الثابتة في وجه الفقر والمرض وسوء فهم الآخرين له ورفضهم للوحاته الثورية. والده اعتبره عارا على العائلة وحرمه من نصيبه من الميراث. المعلّمون في باريس اخبروه أن حالته ميئوس منها. معاصروه اعتبروا لوحاته المعْلَمية سخيفة ومضحكة. بعض لوحاته مثل العارية الزرقاء صدمت حتى منافسه العتيد بيكاسو. "إذا أراد أن يرسم امرأة فليرسم امرأة. وإذا أراد أن يضع تصميما فليضع تصميما. لكن هذه اللوحة هي شيء بين الاثنين". بيكاسو قال هذا عن ماتيس، لكنّه عن قريب سيقوم بتقليده.
    هذه السيرة عن هنري ماتيس مكتوبة بطريقة جيّدة. غير أنها لا تتحدّث كثيرا عن أسرار الإلهام الفنّي. سبورلنغ تخبرنا أن النمط الذي يظهر على ورق الحائط وقماش المائدة في لوحة ماتيس هارموني بالأحمر مستوحى من قماش قطني ازرق كان الرسّام قد لمحه من نافذة قطار. وأثناء مراجعة اللوحة قام بتغيير خلفيّتها من الأزرق إلى الأحمر.
    هذه المعلومة على بساطتها ممتعة. لكنّها لا تقوّي استمتاعنا بهذه التحفة بالذهاب إلى ما وراء المعلومة.

    الكتاب الثاني عنوانه الحلم بعينين مفتوحتين: حياة دييغو ريفيرا للكاتب باتريك مارنهام. الكتاب عبارة عن حكاية صاخبة لا تخلو من ثرثرة. ثم هو بعد ذلك عن الرسم.
    دييغو ريفيرا عاش حياة أكثر جموحا من ماتيس وأنتج فنّا اقلّ أهمّية. وهذا ما تعكسه بوضوح السيرة التي كتبها مارنهام عن الفنّان المكسيكي.
    ارتبط ريفيرا طوال حياته بالماركسية والسياسة المكسيكية. كما عُرف بكثرة عشيقاته وفضائحه النسائية المشهورة وكذلك بزواجه الغريب من الرسّامة فريدا كالو.
    كان ريفيرا أيضا ناسج أساطير من طراز غابرييل غارثيا ماركيث. ولطالما تحدّث عن قصص يصعب تصديقها، مثل أكله للحوم البشر عندما كان طالبا وقتاله إلى جانب الثائر ايميليانو زاباتا.
    يقول المؤلّف: القصص الحقيقية هي تقريبا بمثل جودة القصص الخيالية. فرغم أن ريفيرا لم يحاول اغتيال هتلر كما كان يزعم متباهياً، إلا انه قد يكون وراء جريمة اغتيال تروتسكي. فقد طرد ريفيرا تروتسكي من منزله في مكسيكوسيتي عندما اكتشف أن الأخير كان يقيم علاقة عاطفية مع زوجته. وكانت كالو قد راودت تروتسكي بسبب غيرتها من علاقة الحبّ التي أقامها ريفيرا مع شقيقتها.
    وبعد أن أصبح تروتسكي بلا حماية، وجد نفسه فريسة سهلة لعملاء ستالين.
    ويحكي مارنهام عن قصّة العلاقة بين ريفيرا وكالو في إطار من الكوميديا السوداء. "في إحدى المرّات، أسَرّ ريفيرا إلى بعض أصدقائه أن زوجته أصبحت مكتئبة جدّا إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه إدخال السعادة على قلبها بإخبارها عن آخر فتوحاته الجنسية".
    لكنْ في هذه السيرة أيضا نتعلّم بعض الحقائق عن تطوّر الفنان دون أن نفهم كيف حدث ذلك. في باريس، قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، كان ريفيرا عضوا في حركة الطليعيين الفرنسيين. وكان يرسم أعمالا تكعيبية من قبيل لوحته بعنوان حياة ساكنة مع زجاجة كحول.
    وبعد زيارة له إلى ايطاليا رأى خلالها بعض جداريات عصر النهضة، تراجع ريفيرا عن التكعيبية وأصبح يرسم الجداريات الضخمة.
    الكتاب الثالث عنوانه الحياة المُشينة لـ سلفادور دالي للكاتب إيان غيبسون. هذا الكتاب يتنمي إلى تلك النوعية من الكتب التي تحفل بالتنظيرات السيكولوجية والمواقف والآراء الانفعالية الحادّة والقاطعة.
    ففي كتابه عن دالي، يغرقنا غيبسون بالتفاصيل الساذجة والمملّة. فهو يتحدّث مثلا عن أصول أسلاف دالي وعن هواجسه الجنسية والصراعات داخل الحركة السوريالية التي طُرد منها الرسّام في النهاية بسبب تأييده للفاشية.
    نظرية غيبسون الكبرى هي أن حياة دالي كانت مجلّلة بالعار. وهذا ليس بالأمر المفاجئ من شخص رسم لوحة عنوانها المستمني العظيم.
    وعلى النقيض من ريفيرا وماتيس، كان وصول دالي مبكّرا وسريعا. فقد أعطته السوريالية طريقة للتعبير عن مكنونات نفسه. ومن الصعب أن تجادل في براعة دالي الفنية كما أثبتها في لوحته مولد الرغبات السائلة التي رسمها عام 1932 عندما كان في سنّ الثامنة والعشرين.
    لكن دالي، بحسب المؤلّف، سرعان ما أصبح شخصا راكدا وفاسدا وفي النهاية مثيرا للشفقة.
    غيبسون يسرد تجربة دالي الطويلة، لكنّه لا يحاول أن يحلّلها أو يشرحها.
    بعد قراءة هذه الكتب الثلاثة، ذهبت لزيارة متحف الفنّ الحديث في نيويورك، في محاولة لاختبار ردود فعلي على الفنّانين الثلاثة.
    واستنتجت أن غيبسون حوّل دالي إلى قزم وإلى رسّام بلا قيمة.
    بينما حرّضني مارنهام على أن اذهب إلى المكسيك لرؤية المزيد من جداريات ريفيرا.
    وأثناء معاينتي للصالة المخصّصة للوحات ماتيس، أحسست بأن احترامي لهذا الفنّان قد تضاعف، خاصّة بعد ما قرأته في كتاب سبورلنغ عن نضاله وعصاميّته. وأزعم أن بإمكاني الآن أن ألقي محاضرة موجزة عن سنواته الأولى.

    الجمعة، مارس 12، 2010

    مدينة فوق تلّ

    لماذا رسم إل غريكو مدينته "طليطلة" بهذه الطريقة المخيفة والمؤرّقة؟
    ترى، هل كان يرسم ظاهرة طبيعية نادرة؟
    ما سرّ الإحساس بالضيق والاختناق الذي يبعثه منظر المدينة في اللوحة؟
    لماذا تعمّد الرسّام أن لا تتضمّن اللوحة صورا لبشر؟
    هل من علاقة للوحة بمحاكم التفتيش وحملات التعذيب والقتل التي تعرّض لها المسلمون واليهود في اسبانيا آنذاك؟
    ما الفكرة التي يحاول إل غريكو إيصالها إلينا من وراء أربعة قرون؟
    "برايان اورد" يناقش هذه الأسئلة وغيرها في تحليله للوحة إل غريكو "منظر لـ طليطلة"..

    وأنا أنظر إلى لوحة إل غريكو منظر لـ طليطلة، تذكّرت السطر الأول من حوار ورد في رواية قلب الظلام لـ جوزيف كونراد. "قال مارلو فجأة: انظر! هذا هو أكثر الأماكن إظلاما وعتمة على وجه الأرض".
    إل غريكو لا يقصد أن يخيفنا. بعد أربعمائة عام، ما تزال نواياه غير معروفة. لكن يمكن أن نقول بما يشبه اليقين انه لم يرسم هذه الرؤية لمدينته التي حقّق فيها أعظم نجاحاته الفنية والمالية كي يثير في الناظر شعورا بالرعب. كانت طليطلة مدينة جيّدة بالنسبة لـ إل غريكو. ومن المؤكّد أنه كان ينوي ردّ بعض الجميل إليها.
    إذن ما الذي حدث؟ لماذا رسم لها هذه اللوحة الغريبة والمقلقة التي تبدو فيها أشبه ما تكون بمدينة أشباح طاردة ومخيفة؟!
    هل في الأمر ما يثير الاستغراب إذا علمنا أن هذه اللوحة تمّ توظيفها في ملصق أكثر من فيلم من أفلام الرعب؟!
    لو أن إل غريكو أراد أن يُثني على المدينة ويمتدحها لكان رسمها في ضوء الشمس وليس في هذا الضوء الغريب الذي ينبعث من اللوحة.
    لوحة يوهان فيرمير منظر لـ ديلفت هي النقيض الكامل لهذه اللوحة من عدّة وجوه. فهي تستدعي الحضور الجميل لأشعّة الشمس فوق المدينة. في حين أن لوحة إل غريكو تبدو ليلية كما لو أن المدينة أضاءها برق خاطف.
    البرق كلمة كثيرا ما تأتي إلى الذهن عند الحديث عن إل غريكو. أحزمة البرق والغيوم المضيئة تتوهّج في سماء بعض مناظره. وميض البرق والشرر، بالنسبة لهذا الرسّام، لها دلالات مقدّسة وغامضة تتخلّل كل شيء.
    أتذكّر أنّني كنت أقود سيّارتي ذات ليلة أثناء عاصفة رعدية. كان كلّ شيء حولي حالك السواد عدا مصابيح الإضاءة الأمامية التي انحنت لأسفل بسبب قوّة المطر. وفجأة أضاء نور برق خاطف الطبيعة من حولي. في تلك الثواني القليلة كان بإمكاني رؤية كلّ شيء: البيوت الريفية، الأشجار البعيدة والحقول الموحلة. أكثر التفاصيل دقّة بدت ظاهرة بشكل ساحر. لكن قبل أن استوعب ما حدث، كان كلّ شيء قد تحوّل إلى اسود مرّة أخرى واهتزّت السماء ثانية بفعل زئير الرعد.
    هذه هي نوعية الضوء المنبعث في "منظر لـ طليطلة". الضوء المقدّس، الرؤية التي تكشف لك أكثر ممّا يمكنك أن تراه في ضوء الشمس الساطع، الضوء الذي يومض على غير توقّع ويرينا العالم لثانية أو ثوان قبل أن يختفي.
    الأمر الذي يصعب تخيّله حتى الآن هو أن "منظر لـ طليطلة" تصوّر مشهدا نهاريا. أريد التأكيد على هذه النقطة لأنها نقيض للمزاج المظلم والعاصف في اللوحة. ذات مرّة، كتب مؤرّخ الفنّ جوناثان براون يقول: في عالم إل غريكو، لا تشرق الشمس أبدا". لكنّ هذه اللوحة هي استثناء عن القاعدة.
    لاحظ الظلال المخيّمة على واجهة القصر الذي يطلّ على المدينة إلى اليمين. أشعّة الشمس الساطعة يمكن رؤيتها على العشب وكذلك على الحصن المقام على التلّ إلى اليسار. انه يوم عاديّ. هناك عواصف رعدية في الأفق وظلامها يعزّز النور المنعكس على مباني المدينة.
    احد الأشياء الغريبة في هذا العمل هو انه يمكن أن يُفسّر باعتباره ظاهرة طبيعية. النوعية غير الواقعية للمدينة تعود إلى البروز المبالغ فيه لأيّ جسم يضيئه نور الشمس في مقابل خلفية السحب الداكنة.
    لماذا اختار غريكو أن يجعل طليطلة تبدو غريبة جدّا وكأنها في حلم؟
    اللوحة ليست منظرا، بل استحضار شاعري لـ طليطلة. ويصح القول أنها قصيدة حديثة تحوّلت من خلالها المدينة إلى بضع صور معلمية يسهل التعرّف عليها بسرعة مثل قصر الكازار وبرج الكاثدرائية.
    لكن نظرة على أيّ صور أخرى لـ طليطلة تُظهر لنا أن إل غريكو ارتكب ما يشبه الانتهاك بتحريكه أهمّ رمز للمدينة، أي كاثدرائيّتها، من وسط المدينة إلى خارج نطاق الصورة، أي إلى الطرف الشرقيّ منها.
    اللوحة تبدو مجزّأة وعشوائية، لكنها منمّقة ومتقلّبة وذات جمال غريب.
    هذه اللوحة، مع ما فيها من اختلالات ولا مركزية، قد تكون إعلانا آخر من الرسّام عن استقلاليّته الفنية. في لوحاته الأخرى التي تصوّر أشخاصا، يتجاهل إل غريكو النسب الكلاسيكية كي يطيل أجساد وأطراف البشر باسم الأناقة والجمال. و"منظر لـ طليطلة" هي بيان جريء آخر يحاول الرسّام من خلاله أن يتحدّى المحاكاة الخانقة للواقع.
    المفارقة الغريبة هي أن إل غريكو وجد هذه الحرّية الفنية في المدينة التي كانت عاصمة محاكم التفتيش. كانت طليطلة، زمن الرسّام، مدينة فخورة لكنها كانت تقف على حافّة الانهيار. فقد عانت ضياع جزء كبير من مجدها عندما نقل منها فيليب الثاني قصره الملكي إلى مدريد في العام 1560م. لكنّها بقيت مركز الكنيسة الاسبانية وظلّ رئيس أساقفتها يجلس على رأس الهرم الكنسي في اسبانيا.
    المؤرّخ ريتشارد كاغان كتب عن رغبة رجال الدين جعل طليطلة أبرشية مثالية ونموذجا تقتدي به بقيّة الكنائس في اسبانيا. وأداتهم الأساسية لتحقيق ذلك كانت محاكم التفتيش التي نظّمت شبكة واسعة من الجواسيس مهمّتهم التأكّد من أن معتقدات كلّ شخص "ليست موضع شبهة".
    ونتيجة لذلك، أصبحت طليطلة مدينة خالية من مظاهر التسامح وروحية المعارضة. هذه كانت طليطلة إل غريكو: مدينة كانت إلى ما قبل بضعة قرون مثالا في تعدّد وتنوّع الثقافات ومركزا فكريا ازدهرت فيه ترجمة مؤلّفات الإغريق والعرب إلى الاسبانية. كانت طليطلة مركز الإشعاع الفكري في أوربّا كلّها، والآن تحوّلت إلى مكان قاس ومعقل صارم للشمولية المسيحية.

    إل غريكو نفسه، وإنْ بنسبة صغيرة، كان جزءا من ماكينة الكنيسة للسيطرة وبسط النفوذ. وهو كان يفضّل ولا شكّ أن يلعب دورا أكثر أهميّة. غير أن أحلامه بالحصول على وظيفة في القصر، وهو ما أغراه بالمجيء إلى اسبانيا منذ البداية، لم تتحقّق أبدا.
    وحتّى في طليطلة، فإن آماله في الحصول على أرباح وعقود فنية من الكنيسة الأمّ تبدّدت بعد الجدل الذي أثير حول بعض صوره الدينية. لكنّ أعماله العديدة التي نفّذها لكنائس ومؤسّسات دينية أخرى جعلته داعية ومروّجا للكنيسة الاسبانية. هذه الحقيقة لا يجب أن تدهشنا، كما أنها لا تقلّل من أهميّة إل غريكو الفنّية. فمعظم فنّاني أوربا الكبار كانوا يروّجون، بطريقة أو بأخرى، لأفكار رُعاتهم وأرباب نعمتهم.
    المعاني التي تختزنها "منظر لـ طليطلة" متعدّدة وغامضة. فهذه المدينة، التي كانت مركزا للتعليم الإنساني وظلّت في أيام إل غريكو مكان جذب للكثير من المثقّفين وطالبي العلم، تبدو الآن كئيبة ومتمنّعة. لم تعد مدينة للإنسان، بل أصبحت مدينة لله بزهدها وصرامتها.
    طليطلة التي تظهر في هذه اللوحة هي، دون شكّ، مدينة لا إنسانية. البشر فيها لا أهمّية لهم، بل هم ضئيلون كالنمل في لوحات سلفادور دالي. هذه المدينة لا يبدو وكأنها من صنع الإنسان. هي أقرب لأن تكون مكانا لغير البشر، وهي أكثر قربا إلى السماء ذات الألوان الغامضة منها إلى الطبيعة الرعوية أسفل منها.
    إنها مكان لا يبالي بالاحتياجات الدنيوية للبشر العاديّين. مدينة أشبه ما تكون بمدن الأشباح التي جُفّفت من ألوانها وأصبحت بلا دماء.
    والأكثر مدعاة للخوف انه يمكن فهمها كمدينة للتطهير والتصفية: تطهيرها ممّن بقي فيها من المسلمين واليهود ممّن كانوا قد تحوّلوا إلى المسيحية. كانت مهمّة محاكم التفتيش هي استئصال هؤلاء نهائيا لأن الدماء غير النقيّة لأسلافهم جعلتهم موضع شبهة.
    فكرة النقاء العرقي وجدت صداها في لوحات إل غريكو عن العذراوات الطاهرات. وكانت تلك رمزا مناسبا لكنيسة مكرّسة للتطهير العرقي والديني.
    هل يمكن اعتبار "منظر لـ طليطلة" رؤية عن مدينة تعرّضت للتطهير العرقي؟ الإجابة هي نعم.
    عندما كان إل غريكو يعمل في طليطلة، كانت صورته صورة المهاجر اليوناني الكوزموبوليتاني المنفتح على العالم. لكنّ المفارقة هي انه أصبح يروّج لسلطة دينية كانت تمارس علنا منهجية التطهير العرقي والديني.
    وكشخص متعلّم وله صداقات فكرية وطموحات، فلا بدّ وانه فكّر في ما ينطوي عليه موقفه ذاك من مفارقة وتناقض. حتّى الاسم المستعار الذي عرفه به العالم، أي إل غريكو الذي يعني اليوناني، كان علامة على وضعه كشخص أجنبي أتى من الخارج. عندما نظر إل غريكو إلى طليطلة رأى فيها مكانا كان يعرف انه لن يكون فيه مقبولا بالكامل. وربّما أراد أن يكرّم المدينة، لكنه لم يكن يستطيع الاحتفاء بها. هناك دائما شيء ما يتعلّق بالمكان الذي يظلّ، بالنسبة لشخص لا يربطه به رباط وجداني، مكانا يخصّ "الآخر".
    "منظر لـ طليطلة" صورة مخيفة لمجتمع شمولي، لمكان يسيطر عليه المتعصّبون دينيا. وإل غريكو، الذي لم يكن تنقصه البراعة ولا الذكاء الفنّي، أخرج لنا من خلال هذه اللوحة رؤية مخيفة وغامضة وحقيقية عن اسبانيا في زمانه.
    والنظر إلى هذه الصورة من الماضي البعيد بعيون معاصرة قد يعيننا على التنبّؤ بطبيعة المستقبل الذي ينتظرنا، خاصّة ونحن نرى المتطرّفين الدينيين يستجمعون قواهم ويبسطون سيطرتهم على أنحاء متفرّقة من العالم.
    لا غرابة إذن أن ترعبنا الصورة وأن تثير مخاوفنا.


    Credits
    en.wikipedia.org

    الأربعاء، ديسمبر 16، 2009

    أشهر عشر نساء خلّدهن الرسم


    كان جون سنغر سارجنت أشهر رسّام للبورتريه في زمانه. وقد رسم هذا البورتريه الاستثنائي في بدايات اشتغاله بالرسم.
    كان يتمنّى أن يكسبه الشهرة. وقد تحقّق له ذلك، لكن ليس بالطريقة التي كان يتصوّرها.
    تعرّف سارجنت إلى فيرجيني غوترو ، وهي سيّدة مجتمع مشهورة وجميلة وزوجة مصرفي فرنسي بارز. وظلّ يطاردها لسنتين كي توافق على طلبه بأن تكون الموديل لهذه اللوحة. واختار الرسّام طريقة وقوفها بعناية فرسمها في وضع جانبي بجسد زجاجي وبشرة عاجية. وعندما أتمّ اللوحة وعرضها في صالون باريس في العام 1884، أثارت ما يشبه الفضيحة.
    فقد صُدم الناس بمكياج المرأة الأبيض الشاحب. وصُدموا أكثر لأن احد شريطي فستانها، في اللوحة الأصلية، كان منحسرا عن كتفها، وهي علامة اعتبرت غير لائقة في ذلك الوقت.
    وقد دفع ذلك فرجيني إلى اعتزال المجتمع، بينما اضطرّ سارجنت إلى إعادة رسم شريط الكتف بعد أن انتهى المعرض. ثم غادر باريس بعد ذلك الصخب مباشرة. لكنّه كان يصرّ دائما على أن البورتريه كان أفضل لوحة رسمها.
    في ما بعد، أي في العام 1916، باع الرسّام اللوحة إلى متحف المتروبوليتان الذي ظلّت فيه إلى اليوم.



    هذه اللوحة، البرتقالية كثيرا، يمكن أن تكون أكثر شهرة من الفنان الذي رسمها. كما أنها أشهر لوحات فريدريك ليتون نفسه وهي بنفس الوقت تجسيد لأسلوبه الكلاسيكي.
    وهناك الكثير من نقاط الشبه التي تجمعها بلوحة الليل لـ مايكل انجيلو، والموجودة في كنيسة ميديتشي بـ فلورنسا.
    وحسب كلام ليتون، فإن طريقة تصميم اللوحة لم تأت وفق تخطيط مسبق. بل جاءت بالصدفة عندما رأى موديله دوروثي دين وهي ترتاح على إحدى الأرائك بتأثير التعب والإرهاق.
    دوروثي كانت ممثّلة انجليزية، وقد ظهرت لاحقا في العديد من لوحات الرسّام.
    وهو كان يعتبرها المرأة التي تطابق ملامحها نموذجه المثالي.
    وقد كانت معروفة بوصفها أجمل امرأة في انجلترا في نهاية القرن التاسع عشر.
    ويشاع أن الرسّام كان على علاقة حبّ معها قبل وفاته. لكن لم يكن مقدّرا لهما أن يتزوّجا أبدا بسبب فارق السنّ بينهما. فـ ليتون كان في السبعين ودين في الثامنة والعشرين من عمرها.
    وقد عُرضت هذه اللوحة للبيع في المزاد في ستّينات القرن الماضي، أي في وقت كان من الصعب أن تباع فيه لوحة من العصر الفيكتوري. لذا لم تحقّق سعر الحدّ الأدنى الذي حُدّد لها وهو 140 ألف دولار.
    لكن اللوحة اكتسبت شعبية هائلة مع انتعاش الفنّ الفيكتوري. وقد نجت من النسيان عندما اشتراها متحف في بورتوريكو حيث ظلّت فيه إلى اليوم.



    تصدّر هذا البورتريه الأخبار عام 2006 عندما بيع في مزاد بـ نيويورك بأكثر من 40 مليون دولار. وقد كان واحدا من سلسلة من خمس لوحات رسمها فان غوخ كإشادة بصديقه بول غوغان.
    مدام جينو كانت تسكن في آرل وكانت متزوّجة من جوزيف جينو. كما كانت تمتلك مقهى مشهورا هناك كان فان غوخ يتردّد عليه أثناء إقامته في آرل.
    كان ذلك في نفس الفترة التي قطع فيها الرسّام إحدى أذنيه.
    وقد رسمها عندما كان يمرّ بحالة حزن شديد بعد انتهاء علاقته بـ غوغان وبعد أن اُدخل إلى المصحّة العقلية.



    في هذا البورتريه يرسم سلفادور دالي زوجته وملهمته والمرأة التي كان يصفها بأنها وسيط بين عالم العباقرة والعالم الحقيقي.
    كانت غالا تكبر دالي بعشر سنوات. ومع ذلك كان يعشقها كثيرا، وهذا واضح في لوحاتها التي رسمها لها في ثلاثينات القرن العشرين عندما كان يوقّع لوحاته باسمه واسمها معا.
    عُرف دالي بحياته الخاصّة غير المستقرّة وبمغامراته العاطفية. وقد ذكر أكثر من مرّة أن غالا هي التي أنقذته من الجنون ومن الموت المبكّر في ذلك الوقت.
    لكن السنوات الأخيرة من علاقتهما شابها كثير من المرارة بسبب مغامرات غالا الكثيرة التي لم تراع فيها حساسية دالي ووقوعه فريسة للشكّ والإحساس بعدم الأمان.
    ومعظم لوحاته التي رسمها لها في ما بعد كان يرسمها بضوء معتم وغامض.
    بورتريه غالا، هنا أيضا، ينقصه التعبير الطازج والعميق الذي ميّز لوحات دالي السابقة لزوجته.
    ومع ذلك، تظلّ غالا المرأة التي ألهمت دالي رسم مجموعة من أفضل وأشهر لوحاته.



    توصف هذه اللوحة بأنها موناليزا الشمال أو موناليزا الهولندية. وهي إحدى تحف فيرمير المشهورة. ونقطة الارتكاز فيها القرط اللؤلؤ الذي ترتديه الفتاة.
    اللوحة ليست بورتريها بالمعنى المتعارف عليه، وإنما دراسة عن رأس امرأة.
    الموديل الظاهرة في اللوحة غير معروفة. لكن يقال أنها ماريا ابنة فيرمير الكبرى، أو قد تكون ماغدالينا ابنة الرجل الذي كان يوفّر له الدعم والرعاية.
    وفي بعض الأوقات راجت فكرة تقول إن فيرمير استخدم خادمة كموديل للوحة. وقد تكرّست هذه الفكرة أكثر بعد ظهور بعض الروايات الخيالية مؤخّرا، وأشهرها رواية تريسي شيفالييه التي حملت نفس اسم اللوحة وتحوّلت إلى فيلم.
    لكن لا توجد حتى الآن أدلّة تاريخية تدعم هذه الفرضية.
    ورغم أن فيرمير رسم 35 لوحة فقط، إلا انه يعتبر احد أعظم رسّامي العصر الذهبي الهولندي.
    وأثناء حياته، لم يحقّق شهرة كبيرة، غير انه اكتسب احتراما وتقديرا واسعين بعد وفاته.
    تقنيات فيرمير المبتكرة، وخاصّة براعته في استخدام الضوء، ألهمت الكثير من الرسّامين المعاصرين مثل دالي وغيره.



    كانت فريتزا فون ريدلر واحدة من نساء كثيرات استخدمهنّ غوستاف كليمت في لوحاته التي هيمنت عليها فكرة المرأة المسيطرة.
    المرأة في هذه اللوحة المشهورة تبدو في وضعية جلوس بينما ترتدي فستانا من الدانتيل الأبيض.
    كان كليمت ابنا لرجل كان يشتغل بالمنقوشات الذهبية والفضّية. وقد استفاد كليمت من خبرة أبيه فأضفى على لوحاته عناصر زخرفية فخمة.
    هذه اللوحة أيضا عامرة بالأشكال الهندسية المختلفة والموشّاة بالألوان الذهبية والفضيّة.
    ورغم انه لا يُعرف الكثير عن فريتزا فون ريدلر، إلا أن اللوحة أصبحت في ما بعد واحدة من أشهر لوحات كليمت وأكثرها تأثيرا على معاصريه من الفنّانين الشباب. وهي موجودة اليوم في احد متاحف فيينا بالنمسا.



    في هذه اللوحة، يرسم جيمس ويلسر والدته العجوز.
    تقول بعض القصص إن الموديل التي كان الفنان ينوي رسمها لم تصل في موعدها فانتدب والدته للمهمّة.
    وهناك قصّة أخرى تقول إن السيّدة ويسلر التي كانت آنذاك في السابعة والستين من عمرها كان يفترض أن تُرسم واقفة في اللوحة. غير أنها لتعبها فضّلت أن تجلس في الوقت المتبقي من الرسم.
    استخدمت اللوحة كثيرا في الثقافة الشعبية وفي الروايات والسينما والعاب الفيديو وخلافه.
    ويُنظر إليها كرمز متميّز للأمومة.
    وفي أربعينات القرن الماضي ظهرت اللوحة على طابع بريدي مع شعار، احتفالا بالأمّهات الأمريكيات وتكريما لهنّ.



    ارتبط بابلو بيكاسو بعلاقة حبّ مع ثيودورا ماركوفيتش، أو دورا مار، دامت عشر سنوات.
    كانت مار مصوّرة وشاعرة على قدر كبير من الجمال. واشتهرت بكونها ملهمة بيكاسو الخاصّة ورفيقته وشريكة أفكاره.
    كانت علاقتهما عاصفة وغير تقليدية. وقد عانت مار كثيرا من تقلّب مزاج بيكاسو وعصبيته. لكن حبّها له كان حبّا غير مشروط.
    بيكاسو عُرف بدأبه على إيذاء عشيقاته. وقد رسم مار بأشكال غريبة وأحيانا مروّعة.
    وكانت دورا مار غالبا ما تنفي حبّ بيكاسو الأثيري لها بقولها: إن جميع بورتريهاته لي هي محض أكاذيب. كلّها صور لـ بيكاسو ولا توجد بينها واحدة تمثلني".
    إحدى صورها تلك كسرت كلّ الأرقام القياسية عندما بيعت في مزاد في لندن بمبلغ يربو على 95 مليون دولار أمريكي، ما جعلها إحدى أغلى اللوحات في العالم.



    كانت اديل بلوكباور زوجة لـ فرديناند بلوكباور، وهو رجل صناعة ثريّ كان يرعى الرسّام غوستاف كليمت ويدعم أعماله.
    وقد نشأت بين اديل وكليمت علاقة عاطفية بدأت العام 1899 واستمرّت عدّة سنوات.
    ونتيجة لذلك، أصبحت سيّدة المجتمع الوحيدة التي رسمها كليمت مرّتين. كما استخدمها كموديل في اثنتين من لوحاته الأخريات.
    هذه اللوحة تعتبر نموذجا لأسلوب كليمت الفنّي من حيث غلبة الطابع الزخرفي وكثرة المساحات الذهبية والفضيّة فيها.
    وقد نهب النازيون اللوحة بعد غزوهم للنمسا ولم تعد إلى الورثة الشرعيين إلا منذ سنوات. وفي عام 2006 بيعت اللوحة إلى احد غاليريهات نيويورك بمبلغ 135 مليون دولار متجاوزة بذلك السعر الذي حقّقته لوحة بيكاسو بعنوان صبيّ مع غليون، أي 104 مليون دولار.



    ليس هناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الموناليزا ممّا لا يعرفه معظم الناس.
    ليوناردو هو الرسّام، لكن هويّة المرأة التي تصوّرها اللوحة ما تزال لغزا بالنسبة للكثيرين.
    وهناك تكهّنات متطرّفة تقول إن السيّدة ما هي إلا ليوناردو نفسه في شكله الأنثوي.
    غير أن أكثر النظريات قبولا هي تلك التي تقول إن المرأة ذات الابتسامة الغامضة هي ليزا جيرارديني زوجة فرانشيسكو بارتولوميو، الرجل الذي كلّف دافنشي برسم البورتريه.
    من الحقائق شبه المؤكّدة أيضا انه عندما جلست جيرارديني أمام ليوناردو لرسمها كان عمرها 24 عاما وكانت أمّا لطفلين.
    وجانب من شهرة اللوحة يعود إلى حقيقة أنها سُرقت من متحف اللوفر في باريس في عملية سطو مثيرة قام بها ايطاليون متعصّبون كانوا يطالبون بإعادتها إلى ايطاليا. غير أن اللوحة استعيدت بعد سنتين من تلك العملية.
    السيّدة الغامضة ما تزال تقيم إلى اليوم في اللوفر وراء جدار زجاجي لا يخترقه الرصاص.
    وقد صُممت للوحة غرفة بمواصفات خاصّة بلغ إجمالي تكلفتها أكثر من سبعة ملايين دولار.

    موضوع ذو صلة: قائمة أغلى عشرين لوحة في العالم

    السبت، ديسمبر 05، 2009

    ربّات الإلهام

    لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
    وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
    ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
    هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
    اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
    الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

    في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
    في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
    كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
    في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
    غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
    ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
    اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
    آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

    دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
    مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
    معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
    الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

    لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
    الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
    والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
    ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

    إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
    ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
    البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
    وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

    آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
    قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
    ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
    أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
    سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

    بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
    غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
    والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
    ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
    إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

    اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
    بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

    لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
    الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
    رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
    الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
    سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
    يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
    فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

    الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
    الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
    لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
    كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
    وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

    عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
    دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
    ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


    Credits
    theguardian.com
    wsj.com

    السبت، أكتوبر 31، 2009

    جزيرة الموتى

    ما الذي يجمع بين فرويد وهتلر ورحمانينوف؟
    كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة كانت له اهتمامات مختلفة عن الشخصَين الآخرَين.
    ومع ذلك، جمعهم حبّ هذه اللوحة المزعجة.
    فرويد قيل انه كان يعلّقها في عيادته في فيينّا.
    وهتلر كان يعتبرها أفضل عمل تشكيلي على الإطلاق.
    ورحمانينوف استلهمها في تأليف إحدى سيمفونياته المشهورة وأطلق عليها نفس اسم اللوحة.
    الموضوع التالي ترجمة معدّلة لمقال يناقش فيه كاتبه خلفيات وظروف رسم "جزيرة الموتى" وأثرها الكبير في الثقافة الحديثة.


    رؤيا بوكلين الكلاسيكية والمروّعة عن الموت ما تزال تؤرّق العقل الحديث وتثير الكثير من النقاش والأسئلة.
    سيغموند فرويد روى ذات مرّة انه رأى تفاصيل هذه اللوحة في احد مناماته عندما تراءى له منظر لمقبرة بجزيرة تطلّ على بحر اسود. وقد كشف عن ذلك في كتابه "تفسير الأحلام".
    هتلر، أيضا، كان معجبا كثيرا بهذه اللوحة.
    كما استعارها سلفادور دالي في رسم مناظره ذات الطبيعة الصخرية.
    وهناك أيضا فيلم رعب من بطولة بوريس كارلوف اسمه "جزيرة الموتى" تجري أحداثه في ارض تشبه تضاريسها جزيرة بوكلين الكابوسية.
    "جزيرة الموتى"، اللوحة، في جميع نسخها الخمس تصوّر جزيرة صخرية مقفرة تحيطها المياه الداكنة من كلّ جانب.
    وأمام البوّابة المائية يتحرّك ببطء قارب صغير تقف في مقدّمته امرأة ترتدي الملابس البيضاء بالكامل خلف تابوت زوجها الملفوف بالأردية البيضاء.
    الجزيرة الصغيرة تنهض في وسطها مجموعة من أشجار السرو الطويلة، والتي اقترنت منذ القدم بتقاليد الحداد وأجواء المقابر. وما يعزّز الإحساس بالجوّ الجنائزي في اللوحة هو ما يبدو وكأنه بوّابات أو منافذ تخترق واجهة الصخور.
    الانطباع العام الذي توصله الصورة هو الخراب واليأس والترقّب المتوتّر.
    والواقع أن بوكلين لم يقدّم تفسيرا عن معنى اللوحة، رغم انه وصفها بأنها صورة لحلم وأنها تثير في النفس شعورا بالسكون المرعب الذي يتملّك الإنسان لدى سماعه أصوات طرقات مفاجئة على الباب.
    العنوان الذي اُعطي للوحة هو من ابتكار فريتز غورليت في العام 1883، رغم أن بوكلين استخدمه في رسالة كتبها عام 1880 وأرسلها إلى المتعهّد الأصلي الذي كلّفه برسم اللوحة.
    بعض النقاد رأوا في ربّان القارب صورة شيرون الذي يأخذ أرواح الخلق إلى العالم السفلي في الأساطير الإغريقية. أما البحر فقد يكون استعارة لنهر ستيكس الأسطوري، فيما قد يكون الرجل المسجّى في الكفن الأبيض روح شخص متوفّى حديثا في رحلة عبوره إلى الدار الآخرة.
    "جزيرة الموتى" تذكّر بالمقبرة الانجليزية في فلورنسا بإيطاليا. وهو المكان الذي رُسمت فيه النسخ الثلاث الأولى من اللوحة.
    كانت المقبرة قريبة من استديو بوكلين. وفيها تمّ دفن ابنته الرضيعة "ماريا". كان له أربعة عشر طفلا فقدَ ثمانية منهم أثناء حياته.
    أما نموذج الجزيرة الصخرية فيُرجّح انه مقتبس عن "بونديكونيسي"، وهي جزيرة صغيرة قرب كورفو باليونان كانت تقوم فيها كنيسة صغيرة محاطة ببستان من أشجار السرو.
    في كتابه "تفسير الأحلام"، يروي فرويد تفاصيل عدد من أحلامه التي يمكن القول إنها عبارة عن تهويمات شخص عاشق للفنّ. في احد تلك الأحلام، يرى فرويد رجلا يقف فوق منحدر في وسط البحر، تماما على طريقة بوكلين في اللوحة.
    الأمر المثير للاهتمام هو أن المشهد الذي رآه فرويد ثم تأثّر به كان هو نفسه صورة لحلم.
    كان الرسّام السويسري ارنولد بوكلين فنانا رمزيا وجزءا من حركة فنية كانت تريد تطويع الفنّ لغرض تصوير حالات الروح الداخلية للإنسان.
    وتحفته الفنية "جزيرة الموتى" رسمها في فلورنسا بناءً على طلب امرأة كانت في حالة حداد على زوجها.
    إنها صورة رهيبة للموت الذي يأخذ هيئة منوّم مغر. القارب يأخذ الميّت إلى جزيرة هي نفسها مقبرة تقع وسط بحر اسود وتحيطها أشجار سرو سوداء على خلفية من سماء رمادية، بينما تنتصب أبواب القبر المشرعة في قلب الصخر الصامت.
    هذه هي اللوحة التي حلم بها فرويد في إحدى الليالي. وقد قال إن الرجل الذي رآه فوق الصخور لا بدّ وأن يكون دريفوس في جزيرة الشيطان. ودريفوس المقصود هو الكابتن الفرنسي الفريد دريفوس الذي صدر بحقّه حكم بالسجن مدى الحياة ثم نُفي إلى جزيرة الشيطان في غويانا الفرنسية بعد إدانته بتهمة التخابر مع الألمان.
    وقد تحوّلت تلك القضية إلى فضيحة سياسية كبرى، خاصّة بعد أن كتب الروائي اميل زولا رسالته المشهورة إلى الرئيس الفرنسي بعنوان "إني أتهم".
    هذه اللوحة التي قد يراها الكثيرون مثيرة للقشعريرة والخوف، وجد فيها فرويد معنى إنسانيا. والمفارقة هي أنها كانت لوحة هتلر المفضّلة.
    لكنّ هناك ما هو أكثر من اهتمامه اللاواعي بـ بوكلين. فاللوحة ليست مجرّد فانتازيا عن الموت، بل رؤية نيوكلاسيكية عنه. والعالم الذي تصوّره هو مقبرة متوسطية رومانية أو إغريقية وليست مقبرة مسيحية. إنها بمعنى ما بوّابة كلاسيكية إلى هيدز إله العوالم السفلية مع قبوره وأشجار سروه.
    واللوحة تتناسب مع هَوَس فرويد بعلم الآثار وتوقه الذي لازمه طوال حياته لزيارة أثينا وروما وما اعترف به ذات مرّة عن إدمانه على جمع القطع الأثرية.
    وسنجد صدى غير متوقّع لهذه الصورة في مجموعته الفنية الخاصّة. فهي تتضمّن افريزا من الرخام لـ هيكتور بطل الإلياذة وصورة رائعة أخرى للبطل الميّت وهو محمول عاليا فوق أكتاف رفاقه.
    وغير بعيد عن هاتين الصورتين، هناك مجموعة القطع الأثرية المصرية التي كانت تُستخدم في دفن الموتى.
    كان فرويد في النهاية شخصا قاتما. ومجموعته من الآثار تحتوي على الكثير من الأشياء التي تتناغم بشكل مخيف مع حلمه بجزيرة الموتى أو "المستعمرة العقابية في جزيرة الشيطان" كما رآها.
    هل في مسار الارتباطات التي وجدها فرويد في هذه الصورة ما يمكن أن يشكّل عِلما؟ قد يكون في الإجابة عن هذا السؤال ما يشير إلى أن فرويد كان وسيظلّ مفكّرا حداثيا عظيما ومتفرّدا.
    ويوما ما قد يفهمه الناس على حقيقته، تماما مثلما حدث لـ ليوناردو، أحد أبطال فرويد والذي وصفه في احد كتبه بأنه كان "لغزا" بالنسبة لمعاصريه.
    ليوناردو كان فنانا وعالما، معا. وقد انتقد الناس وقتها بقسوة كتاب فرويد عنه.
    لكن ربّما لم ينتبه الكثيرون لأهمّ ما قاله عن الفنان. فقد كان فرويد معجبا بـ ليوناردو، لأنه هو أيضا أراد أن يجمع بين العلم والفنّ.
    من الواضح أن الأساس الأكثر شهرة للتحليل النفسي موجود في الدراما الإغريقية. ففي دراسة فرويد، يمكن أن ترى استنساخه للوحة دومينيك انغر اوديب وأبو الهول كتذكير بفكرة عقدة اوديب. في اللوحة يصوّر الرسّام اوديب بعد أن قتل والده عن غير قصد وهو يحاول حلّ لغز أبو الهول.
    وقد كان فرويد يقول إن كلّ فضول الإنسان يبدأ مع سؤال: من أين يأتي الأطفال؟
    فرويد لم يكن فقط يحبّ الفنّ بل كان يتعشّقه. ومهما اتهم بعدم المصداقية، فإننا سنعود مرّة بعد أخرى إلى كتاباته لأنها تتضمّن اضاءات كثيرة وتستند إلى فهم عميق للعديد من المسائل التي تناولها. وهذا ما يجعل منه عالما مهمّا.

    السبت، أكتوبر 17، 2009

    أفق الكلمات

    حلمتُ بفارسَين، احدهما عارٍ تماما والآخر كذلك. كانا على وشك الدخول إلى شارعين متماثلين. يرفع حصاناهما القدم ذاتها ويدخلان الشارعين على التوالي. احد الشارعين يفيض بنور شديد بينما الآخر شفّاف كما في لوحة رافائيل زواج العذراء. وعلى البعد يوجد كثير من البلّلورات. وفجأة امتلأ احد الشارعين بضباب متحرّك بدأ يتكاثف بالتدريج حتى كوّن لجّة رصاصية لا يمكن اختراقها.
    كلا الفارسين كان سلفادور دالي. احدهما حبيب غالا، والآخر لا يعرفها.
    - سلفادور دالي، رسام اسباني

    في سنوات مراهقتي، سنوات الدهشة والاندفاع، أمضيت الشهور وسهرت الليالي محاولا أن ارسم صورتها. كانت جارة ثم زميلة دراسة في ما بعد. متألّقة كشبابها، مشتعلة كحماسها، ورقيقة كحنانها. وحين أتممت اللوحة هرولت لأقدّمها لها وأنا ارقبها في فرح وقلق. غير أنها أعطتني إياها وعيناها تهمسان: ليست صورتي يا سيّدي.
    فرجعت أتعثّر في خجل واثقا أني لم أخطئ المكان. حتى إذا ما عدت أتأمّل لوحتي اكتشفت أنني رسمت صورتي!
    - يوسف الشاروني، أديب مصري

    بالنسبة إليّ، لا يمكنني التيقّن من أيّ شيء. غير أن منظر النجوم في السماء يجعلني أحلم.
    في غالب الأحيان، أفكّر أن الليل أكثر حيوية وأشدّ غنى بالألوان من النهار.
    قد تكون هناك نار كبيرة تضطرم في أرواحنا. غير أن أحدا لا يحاول تدفئة نفسه بها. والمارّون يرون فقط خيطا صغيرا من دخان.
    احلم بالرسم ثم ارسم حلمي.
    أمرّ أحيانا بفترات من الصفاء المخيف، خاصّة في تلك اللحظات التي تكتسي فيها الطبيعة بأجمل حُللها. حينها لا أعود متأكّدا من نفسي، واللوحة تبدو كما لو أنني أراها في حلم.
    ليس هناك لون ازرق بدون الأصفر والبرتقالي.
    ما يدهشني أحيانا، وهو أمر غريب حقّا، انه عندما أرى صورة لا يمكن وصفها ولا التعبير عنها بالكلمات عن وحشة وفقر وبؤس الإنسان، سرعان ما استذكر في عقلي فكرة الله.
    - فنسنت فان غوخ، رسّام هولندي

    الحقد شيء مقدّس. انه التعبير عن رفض القلوب القويّة والقادرة. الكره يعني الحبّ. انه الإحساس بحرارة الروح وكرمها. الحقد يخفّف القلق ويصنع العدالة ويجعل الإنسان اكبر من الأشياء التافهة والحقيرة.
    لقد جعلت الحقد والعنفوان رفيقين لي. أحببت العزلة وأحببت في العزلة كيف أكره كلّ ما يجرح الحقّ والصواب.
    وإذا كنت أساوي شيئا اليوم فإن ذلك تحقّق لأنني وحيد ولأنني أكره!
    - محمّد اسياخم، رسّام جزائري

    لست عذريا أبدا. أنا أنكرت الشعراء العذريين. ليس هناك شاعر عذري. هناك محروم. هذا محروم يشتهي "ليلى" ولا يجدها. لو كان عذريا لماذا يركض وراءها إذن ويلهث حتى يُغمى عليه؟ ما الذي يريده منها؟
    - سلطان العويس، شاعر ورجل أعمال إماراتي

    خيالنا يطير. ونحن ظلّه على الأرض.
    - فلاديمير نابوكوف، روائي روسي

    أفكّر في العشرين سنة الماضية. عندما كنت امشي إلى البيت بهدوء. كلّ الناس في دير كوتشينغ كانوا يقولون: "هان شان" شخص أبله. وكنت أتساءل: هل أنا فعلا شخص أبله؟! لكنّ تساؤلاتي فشلت في الإجابة عن السؤال: فأنا لا اعرف ما هي النفس، ولا كيف يمكن للآخرين أن يعرفوا من أنا.
    - هان شان، شاعر صيني

    داخل كل إنسان متشائم، يوجد مثاليّ محبط.
    هناك ليال تكون فيها الذئاب صامتة والقمر فقط هو الذي يعوي.
    أنا مع فصل الدين عن الدولة. فكرتي هي أن كلا من هاتين المؤسّستين تقمعنا بمفردها. وبناءً عليه فكلاهما، مجتمعتين، موت محقّق.
    فقط لأنك تمكّنت من إزاحة القرد من على ظهرك، لا يعني بأن السيرك قد غادر المدينة.
    - جورج كارلين، كاتب وممثّل أمريكي

    سيأتي على الناس زمن لن يصدّقوا فيه أن شخصا من لحم ودم مثل غاندي مشى على هذه الأرض.
    - البيرت اينشتاين، فيزيائي أمريكي