:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات غلغامش. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات غلغامش. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، أبريل 24، 2017

أصوات من الماضي


  • في بداية ستّينات القرن الماضي، اكتشف علماء آثار في مدينة اوغاريت السورية القديمة عدّة ألواح من الطين تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
    وكانت تلك الألواح تحتوي على كلمات مكتوبة بالأحرف المسمارية. ثم تبيّن أنها عبارة عن نوتات لأقدم موسيقى تمّ اكتشافها حتى اليوم وعمرها يتجاوز 3400 عام.
    آن كليمر، الأستاذة المتخصّصة في الحضارة واللغة الآشورية نشرت في أوائل السبعينات كتابا عن تلك الألواح السومرية وعن النظرية الموسيقية المكتشفة فيها. ثم كتب علماء آخرون نظريّاتهم وآراءهم الخاصّة عن الموضوع.
    الاكتشاف الموسيقيّ أكّد أن السلّم الدياتوني المؤلّف من سبع نغمات كان موجودا قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وهو أمر يدحض آراء بعض علماء الموسيقى الذين ينفون وجود الهارموني في العصور القديمة ويزعمون انه لم يُكتشف إلا زمن الإغريق.
    اكتشاف اوغاريت الموسيقيّ غيّر جذريّا المفهوم السائد عن الأصول الأولى للموسيقى في العالم. لكن بصرف النظر عن النقاشات الأكاديمية، يثور سؤال عن طبيعة أو شكل هذه المقطوعة، أي أقدم موسيقى في العالم.
    الفيديو "فوق" يعطي فكرة عن هذا التوليف الغريب. والموسيقى يعزفها الملحّن مايكل ليفي على القيثارة، وهي آلة قريبة من الآلة الموسيقية التي عُزفت بها المقطوعة لأوّل مرّة.
    كليمر وأحد زملائها نشرا مؤخّرا كتابا مسموعا يضمّ معلومات عن موسيقى الشرق الأدنى القديم وشرحا عن الكيفية التي وصلت بها إلينا هذه الأغنية أو الترنيمة، بالإضافة إلى ترجمة كلماتها.

  • ترى كيف كان الإغريق يؤدّون أغانيهم؟
    بين عامي 750 و 400 قبل الميلاد، كان قدماء اليونانيين يؤدون أغانيهم بمصاحبة آلتي القيثارة والمزمار بالإضافة إلى عدد من الآلات النقرية، أي الطبول والدفوف وما في حكمها.
    واليوم وبعد مرور ألفي عام، عرف العلماء أخيرا كيف يعيدون بناء تلك الأغاني وكيف يعزفونها بطريقة دقيقة وقريبة جدّا من الطريقة التي كانت تُعزف بها في زمانها.
    على هذا الرابط يمكنك سماع ديفيد كريس، الخبير المتخصّص في آداب وفنون اليونان، وهو يعزف أغنية يونانية قديمة مأخوذة كلماتها من نقوش على الحجر ومؤلّفة لآلة قانون من ثمانية أوتار. أمّا اللحن فمنسوب إلى مغنٍّ إغريقي يُدعى سيكيلوس.

  • بعد أن استمعتَ إلى عيّنة من الموسيقى اليونانية القديمة، ربّما يخطر ببالك تساؤل آخر عن الكيفية التي كان بها الإغريق ينطقون أشعارهم وكيف كان شكل أصوات لغتهم القديمة.
    في هذا الفيديو ستستمع إلى قراءة من فصل من فصول ملحمة الإلياذة لهوميروس بلغته الأصلية التي كُتب بها. وقارئ النصّ هو ستانلي لومباردو أستاذ الأدب اليونانيّ في جامعة كانساس والذي سبق أن ترجم الاوديسّا والإلياذة من اليونانية إلى الانجليزية.
    ولومباردو يعرف الموادّ التي ترجمها جيّدا. وحتى الذين يجهلون اليونانية القديمة يمكنهم أن يشعروا بروح هوميروس وهو يسرد أخبار حرب طروادة وعودة الجند الطويلة إلى وطنهم.
    من الواضح أن لومباردو ترجم هذه الملاحم الخالدة بعد أن غمر نفسه بعمق في عوالمها. وصوته يبدو صادقا ومقنعا مثل صوت شاعر ملحميّ قديم. وربّما لو سمعه هوميروس نفسه لسُرّ به وأثنى على أدائه.

  • منذ زمن قديم، كانت الآكادية هي اللغة السائدة في بلاد ما وراء النهرين والشرق الأدنى القديم. لكنها اضمحلّت مع مرور الوقت، وشيئا فشيئا حلّت مكانها اللغة الآرامية.
    لكن اليوم، أي بعد أكثر من ألفي عام، عادت الآكادية إلى الواجهة من جديد بفضل جهود الدكتور مارتن وورثنغتون، الخبير في اللغة البابلية والآشورية، الذي بدأ تسجيل قراءات من الشعر والأساطير ونصوص أخرى بالآكادية، بما في ذلك ملحمة غلغامش.
    السؤال: كيف كانت ملحمة غلغامش، احد أقدم الأعمال الأدبية في العالم، تُقرأ بلغتها الأصلية؟
    في هذا المقطع ، يؤدّي بيتر برينغل بعضا من أبيات الملحمة بلغتها الأصلية على أنغام آلة القيثارة السومرية القديمة.

  • Credits
    openculture.com

    الخميس، مايو 09، 2013

    المكتبة في الليل

    البيرتو مانغويل مفكّر وكاتب ومترجم أرجنتيني ومؤلّف عدد من الكتب، أشهرها تاريخ القراءة وقاموس الأماكن المتخيّلة ومدينة الكلمات .
    "المكتبة في الليل" هو آخر كتب مانغويل، وهو عبارة عن رحلة مشوّقة في العديد من الأماكن والأزمنة لاستكشاف تاريخ المكتبات ومجموعات الكتب الخاصّة والأشخاص الذين كانوا وراءها والكتب التي تضمّها.
    مانغويل نفسه خبير لامع في كلّ ما له علاقة بالقراءة والمكتبات. وهو يمتلك مكتبة واسعة ومتنوّعة أسّسها في طرف مزرعة في منطقة اللوار الفرنسية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.
    عنوان الكتاب استمدّه المؤلّف من كونه يفضّل الجلوس في المكتبة ليلا بعد أن يكون الظلام قد خيّم على الكون في الخارج. يقول موضّحا هذه النقطة: في الليل يتغيّر الجوّ وتصبح الأصوات مكتومة والأفكار يصير صوتها أعلى. الوقت يبدو أقرب إلى تلك اللحظة في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم. بِرَك الضوء التي تتسرّب من المصابيح تشعرني بالدفء. وفي رائحة الرفوف الخشبية وعطر المسك المنبعث من الأغلفة الجلدية ما يكفي لتهدئة الأعصاب وإعداد الإنسان نفسه للنوم".
    في المقدّمة يشرح مانغويل علاقته الوثيقة بعالم الكتب والمكتبات. يقول: في شبابي الأحمق، عندما كان أصدقائي يحلمون بالأعمال البطولية في عالم الهندسة والقانون والماليّة والسياسة الوطنية، كنت أحلم بأن أصبح أمين مكتبة". ويضيف: بعد أن بلغت السادسة والخمسين، وهي السنّ التي تبدأ فيها الحياة الحقيقيّة بحسب دستويفكسي، عادت إليّ تلك الفكرة المثالية، أي أن أصبح أمين مكتبة. لقد عشت طوال عمري بين أرفف الكتب التي ظلّت تتزايد باستمرار إلى أن أصبحت اليوم تهدّد بطمس حدود البيت نفسه. وعنوان هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون "رحلة ليليّة حول غرفتي". لكن ممّا يؤسف له أن غزافييه دو مِستر سبقني إلى هذا العنوان قبل أكثر من قرنين من الزمان عندما اختاره لأحد كتبه".
    يتضمّن كتاب المكتبة في الليل خمسة عشر فصلا يتحدّث المؤلّف في كلّ منها عن تمظهر أو وظيفة ما للمكتبة. مثلا، هناك فصل بعنوان "المكتبة كأسطورة"، وآخر بعنوان "المكتبة كظِلّ" وثالث بعنوان "المكتبة كعقل"، ورابع بعنوان "المكتبة كنظام"، وخامس بعنوان "المكتبة كشكل"، وسادس بعنوان "المكتبة كجزيرة"، وهكذا.. ثمّ يربط الكاتب كلّ فصل بتجربته الحياتية في ترتيب ونقل وقراءة الكتب في مكتبته الخاصّة.
    وقد جمع مانغويل في هذه الفصول عددا من الحكايات المسلّية والقراءات الموثّقة والصور الفوتوغرافية في قالب أشبه ما يكون بسيرة ذاتيّة مصغرّة للكاتب. وهو ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا والعكس، ويتحرّك باستمرار من فكرة لأخرى، وأثناء ذلك ينقل قصصا لا تُعدّ ولا تُحصى.
    يتحدّث مثلا عن كتاب الفهرست، وهو فهرس مشروح للأدب العربيّ جمعه ابن النديم ابتداءً من العام 987. ثمّ يتناول النزاع بين ميكيل أنجيلو والبابا كليمنت السابع على تصميم المكتبة الكبيرة في فلورنسا. ثمّ يعرّج على المكتبة التي جرفتها المياه إلى الشاطئ مع روبنسون كروزو في رواية دانيال ديفو المشهورة.
    وعبر صفحات الكتاب تتناثر بعض المقاطع والأفكار الجميلة التي تمنح هذا الكتاب سحرا خاصّا، كقول مانغويل مثلا:
    "في الضوء، نقرأ ابتكارات الآخرين، وفي الظلام نبتكر قصصنا الخاصّة".
    "الكتب القديمة التي عرفنا عنها ولم نمتلكها تعبر طريقنا وتدعو نفسها ثانية. والكتب الجديدة تحاول إغواءنا يوميّا بالعناوين المثيرة والأغلفة المحيّرة".
    "في الليل، عندما تُضاء مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجيّ ولا يعود موجودا سوى فراغ الكتب".
    "في الظلام، بينما النافذة مضاءة وصفوف الكتب تتألّق، تصبح المكتبة مساحة مغلقة، كوناً لا شكل له".
    "كلّ واحد من كتبي هرب، إمّا من النار أو الماء أو غبار الزمن أو من القرّاء المهملين أو يد الرقيب، وأتى إلى هنا كي يحكي لي قصّته".
    "في الليل، هنا في المكتبة، يصبح للأشباح أصوات".
    "عندما تقرأ كتابا وأنت جالس داخل دائرة فأنت لا تقرؤه بنفس الطريقة عندما تكون جالسا داخل مربّع أو في غرفة سقفها منخفض أو في أخرى ذات عوارض خشبية عالية".
    "كلّ قارئ ما هو إلا فصل واحد في حياة كتاب. وما لم ينقل ما عرفه للآخرين فكأنّه حكم على ذلك الكتاب بالموت حرقا".
    "الكتّاب يكتبون لأنهم بالأساس قرّاء ملتزمون، وهم يفعلون ذلك في غرف تصطفّ على جنباتها الكتب".

    عقل مانغويل النشط والمتحفّز يقرأ ويتذكّر، وأثناء ذلك يخلق ارتباطات وصورا ذهنية لا تخلو من طرافة. انه يتخيّل الكتب وهي تتحدّث مع بعضها وتغنّي وترقص، وأحيانا تغادر الأرفف ويواجه بعضها بعضا على الأرضية، حيث تتبادل الإهانات واللكمات ويمزّق كلّ منها صفحات الآخر. وعندما تُطفأ الأنوار تستقرّ وتهدأ لتمارس الحبّ، وبالتالي تتناسل كتبا أخرى. "كلّ كتاب ينادي على الآخر بشكل غير متوقّع. ونصف سطر يمكن أن يتردّد صداه في سطر آخر لأسباب قد لا تكون واضحة في ضوء النهار. وإذا كانت المكتبة في النهار صدى للنظام والترتيب الشديد والمطلوب في العالم، فإن المكتبة في الليل تبدو فرحة بالتشوّش المبهج للأشياء في الخارج".
    فهرس الكتاب يكشف عن قراءات المؤلّف وثقافته المتنوّعة والواسعة، من اسخيليوس وستيفان تسفايغ وإميل زولا إلى آنّا اخماتوفا، وخوان دي زوماراغا الذي كان مسئولا عن إنشاء أوّل مطبعة في العالم الجديد، وفي نفس الوقت عن تدمير معظم كتب إمبراطورية الأزتيك.
    ويشير مانغويل إلى انه خارج اللاهوت والأدب الفانتازيّ، لا يوجد سوى القليلين الذين يمكن أن يشكّكوا في أن الملمح الرئيسيّ لهذا الكون هي خلوّه من أيّ معنى أو غرض. ومع ذلك ما يزال الجنس البشريّ يقدّس المعرفة ويسعى إليها ويوظّفها في محاولته ترتيب وفهم الكون.
    ويضيف: الكتاب المقدّس يعلن أن غايته إيصال الحقيقة النهائية والمطلقة إلى البشر. لكنّ المكتبات الشخصيّة التي نجمع محتوياتها قطعة قطعة تمثّل اقتناعنا بأن الحقيقة جزئيّة ونسبيّة، وهي بناء تعاونيّ وليست كلاما تنطق به قوّة علوية".
    ثمّ يصحب المؤلّف القارئ في رحلة عبر الزمان والمكان متذكّرا برج بابل الذي اغتالته ذات مرّة يد إله غاضب، ومكتبة الإسكندرية التي أحرقت عن طريق الخطأ عندما أضرم يوليوس قيصر النار في سفنه. كما يذكّرنا بأن المكتبات ظلّت تُبنى باستمرار من قبل البشر كي تؤوي أفكار بشر آخرين. وقد كان هذا هو الحال دائما منذ عهد الملك الآشوري آشور بانيبال الذي أمر بجمع الألواح الطينية من جميع أنحاء إمبراطوريّته كي تُدوّن عليها الكتب.
    ويحفر مانغويل عميقا بحثا عن الدروس المستفادة من القصص الكلاسيكية، من قبيل تحليله القويّ لملحمة غلغامش ودراسته الممتعة لـ دون كيشوت وللسياق الاجتماعي والثقافي الذي كتب فيه ميغيل دي ثيرفانتيس تلك الرواية.
    ثم يسرد قصّة من التاريخ البعيد. يقول: في العام 336، كان راهب قد رأى ربّه ورسم مشاهد من حياة بوذا على جدران احد الكهوف. وعلى مدى ألف عام، حوّلت الصدفة هذا الكهف وغيره من الكهوف القريبة إلى مستودعات من المخطوطات والأدوات الدينية. وبعد ما يقرب من ألف عام بعد ذلك، أدّت الصدفة إلى إعادة اكتشاف الموقع الذي يُعرف اليوم باسم كهوف موغاو أو كهوف الألف بوذا بالصين.
    ويعلّق على ذلك بقوله: القصص هي ذاكرتنا، والمكتبات هي مستودعات تلك الذاكرة، والقراءة هي الحرفة التي نستطيع من خلالها إعادة تشكيل تلك الذاكرة بترجمتها إلى تجاربنا الخاصّة".
    غير أن الرحلة التي يأخذنا إليها المؤلّف ليست سعيدة دائما. إذ يتحدّث في جزء من الكتاب عن العديد من المكتبات والكتب المفقودة، من مكتبة الإسكندرية، إلى النصوص الضائعة لبعض كتّاب الإغريق القدماء، إلى التدمير الرهيب للكثير من الأعمال والكتب في الأمريكتين على يد الإسبان. المسيحيون الكاثوليك دمّروا مكتبات كبيرة في المكسيك وأمريكا الوسطى وقضوا على تاريخ حضارات ضاع تراثها إلى الأبد. والعثمانيون دمّروا في القرن السادس عشر مكتبة كورفينا العظمى، التي قيل إنها كانت واحدة من دُرَر التاج الهنغاري.
    ثم يتطرّق إلى الكتب الممنوعة، ومجموعات الكتب السرّية التي جُمعت في معسكرات الاعتقال وحافظت على حرّية الفكر في مواجهة الاستبداد، والمكتبات الخيالية أو الكتب التي لم تُكتب بعد مثل تلك التي حملها الكونت دراكيولا ووحش فرانكنشتاين. كما يشير أكثر من مرّة إلى تدمير مكتبات حضارتي المايا والأزتيك من قبل الغزاة والمبشّرين. ويعلّق بقوله: عندما يكون محتوى الكتب متوافقا مع الكتب المقدّسة، تصبح الكتب زائدة عن الحاجة. وإذا كانت غير متوافقة، تصبح غير مرغوب فيها. وفي كلا الحالتين ينبغي أن تُحرق. ويضيف: إن كتابا ممنوعا أو محروقا يمكن أن يكون أكثر تخريبا من كتاب سليم لأنه، بغيابه، ينال نوعا من الخلود".
    مانغويل يرى أن المكتبة الرقمية هي بالنسبة للمكتبة التقليدية كالتصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم. غير انه يشدّد على افتتانه بالمباني ورفوف الكتب وخطط ترتيبها وبالشخصيات الإنسانية التي تنتشر في مشهد المكتبة. المكتبة، عنده، ليست قاعدة بيانات فقط. إنها مكان يسمح لحكمة الإنسان وخياله أن يزدهرا. والمكتبة ليست شيئا مادّيّا، بل هي جوّ وثقافة وتاريخ متراكم يغرق في عمق الجدران والأرفف. وهو يرى أن الكتاب الذي يُقرأ على شاشة ولا نستطيع أن نملكه ولا أن نحبّه أو نمسك به بأيدينا، لا يمكن أن نهضمه أو نستوعبه في عقولنا.

    Credits
    stuckinabook.com

    الأربعاء، يناير 30، 2013

    غِلغامِش في العالم المعاصر

    غِلغامِش صوت شبَحيّ يتحدّث إلينا من العراق قبل أكثر من ستّة آلاف عام. ومع ذلك، ما تزال قصّته وثيقة الصلة بعالم القرن الحادي والعشرين. إنها قصّة حزينة عن رجل لم يتعلّم الدرس إلا بعد فوات الأوان وكان عناده مصدرا لأحزانه ومعاناته.
    هذه القصّة الموغلة في القِدم باتت احد النصوص الكلاسيكية التي تُدرّس في الجامعات. ولكن لماذا أصبحت حكاية تمتدّ أصولها إلى أزمنة غابرة تستدعي كلّ هذا الاهتمام في عصر الهندسة الوراثية والرسائل النصّية؟ ربّما كانت أفضل إجابة على هذا السؤال هي أن كلّ أشكال الفرح والحزن التي نواجهها في الحياة كشفت عنها ملحمة غِلغامِش قبل أن نولد بآلاف السنين.
    تبدأ القصّة مع راوٍ يحثّ القارئ على أن يدرس ويتأمّل أسوار أوروك، المدينة الرائعة الواقعة جنوب بلاد الرافدين حيث حَكَم غِلغامِش. فهناك، داخل الأسوار، كنز ينتظر من يكتشفه:
    "إبحث عن الصندوق النحاسيّ، فُكّ رتاجه البرونزي، وخذ اللوح اللازوردي، واتلُ ما فيه من نبأ غِلغامِش الذي عانى كثيرا وقهر جميع الصعاب".
    يُوصف غِلغامِش على أن لجسده هيئة ليس لها نظير، فثلثاه إله وثلثه الباقي بشَر. وهو يحكم مدينته بلا منافس: يأخذ الفتيان من أوروك لجيشه، ويأخذ الفتيات لسريره. لم يكن غِلغامِش ملكا محبوبا من قبل شعبه، إذ كانت له عادة سيّئة، فقد كان يدخل على كلّ عروس في ليلة زواجها وينام معها قبل أن يدخل عليها عريسها. أهل المدينة يصرخون مناشدين الآلهة كي تريحهم من هذه القوّة الغاشمة التي لا يمكن لجمها، ما يدفع حكّام السماء لأن يخلقوا إنكيدو، وهو رجل متوحّش يعيش في البرّية حياة بدائية مثل الحيوانات.
    كان من عادة إنكيدو أن يعمد إلى تحرير أصدقائه من الحيوانات من أفخاخ الصيّادين. وعندما تعب الصيّادون من تصرّفاته، ناشدوا شامات، وهي بغيّ في معبد أوروك، أن تحاول ترويض الرجل الجامح، أي إنكيدو، بأن تنام معه، وبذا تُبعده عن مصاحبة الحيوانات.
    وبعد سبع ليال ملحمية مع الكاهنة، يفقد إنكيدو قدرته على التواصل مع الحيوانات ويسعى بدلا من ذلك لأن يصاحب نظراءه من البشر في المدينة. وهناك، يلتقي غِلغامِش، ويتصارع الاثنان ثمّ سرعان ما يصبحان اقرب إلى بعضهما البعض من الإخوة. والواقع أن اللغة المستخدمة لوصف هذا الثنائي تشبه وصف العلاقة بين زوجين، رغم انتفاء وجود علاقة جنسية في ما بينهما.
    ويسافر غِلغامِش وإنكيدو معا إلى غابة الأرز في أقصى بلاد الشمال لمحاربة حارس الغابة الوحش هومبابا واكتساب المجد الأبديّ. وعندما يُهزم هومبابا ويتوسّل من اجل الإبقاء على حياته، يتدخّل إنكيدو ويحثّ غِلغامِش على قتله، ثم يأخذ رأسه معه إلى أوروك كغنيمة.
    هذه الأفعال البطولية تثير إعجاب عشتار، وهي التجسيد الإلهي للرغبة الجنسية والإنجاب. وتسعى المرأة لاتخاذ غِلغامِش زوجاً، لكنّ الملك يرفضها باعتبارها امرأة غير جديرة بالثقة. وهنا تثور ثائرة المرأة وتضطرم في نفسها الرغبة في الانتقام، فتذهب إلى والدها آنو، إله السماء، وتتوسّل إليه بأن ينتقم لكبريائها المجروح. ويرسل آنو ثور السماء العنيف ويأمره بأن ينكّل بـ أوروك وأهلها، عقاباً لـ غِلغامِش على رفضه لابنته.
    لكن غِلغامِش وإنكيدو يتمكّنان من قتل الوحش، ما يدفع مجلس الآلهة لعقد اجتماع لمعاقبة الاثنين على قتلهما مخلوقا مقدّسا. ولأنه لا يمكن قتل غِلغامِش بالنظر إلى أن جزءا منه إله، فقد قرّرت الآلهة أن إنكيدو هو من يجب أن يموت انتقاما لمقتل الثور المقدّس. ويراقب غِلغامِش إنكيدو وهو يموت، بينما يتمزّق هو غيظا وكمدا لعجزه عن فعل شيء لإنقاذ صديقه:
    "وألقى غِلغامِش على وجه إنكيدو رداءً كوشاح العروس، ثمّ دار حوله كنَسْر، وصار يروح ويغدو أمام سريره كلبؤة سُلبت أشبالها، وأخذ يقطّع بيديه شعر رأسه ويمزّق عنه ثيابه الفاخرة كما لو أنها دنَس".
    الملك الذي تمكّن من قهر الرجال ومصارعة الوحوش لا يستطيع إنقاذ صديقه من الهلاك. وفي غمرة شعوره بالحزن والعجز أمام موت صديقه وأمام حتمية موته هو، يقرّر غِلغامِش أخيرا الرحيل عن أوروك ويبدأ البحث عن أوتنابيشتيم، الرجل الذي نجا من الطوفان العظيم واستطاع بلوغ الخلود.
    لو يستطيع غِلغامِش أن يعلم سرّ اوتنابيشتيم، لربّما أصبح بإمكانه، هو أيضا، أن يعيش حياة أبدية. كان غِلغامِش خائفا من الموت، لأن البشر محكومون بالفناء، ولأنه، بسبب الجزء الفاني من دمه، يدرك حقيقة أنه لن يكون مخلّدا.
    وخلال رحلته الطويلة في البرّية، يلتقي غِلغامِش العديد من الشخصيّات التي تساعده في طريقه، من الكائنات العقربية التي تحرس مسار الشمس تحت الأرض، إلى حارسة الحانة شيدوري التي تعرض عليه أن يستعين بالملاح اورشنابي كي يساعده على عبور بحر الموت. لكنّ شيدوري تحثّه على التخلّي عن سعيه العقيم وراء الخلود بقولها:
    "يولد البشر ويعيشون ثمّ يموتون. هذه هي أوامر الآلهة. لكن إلى أن تحين النهاية، استمتع بحياتك واقضِها في سعادة ولا تيأس. هذا أفضل ما يمكن للإنسان أن يفعله طالما هو حيّ".
    لكنّ الملك لا يستمع لكلامها. وبعد بحث مُضنِ، يعثر غِلغامِش على اوتنابيشتيم، ويسمع منه قصّة الطوفان العظيم الذي أدّى إلى فناء جميع البشر، باستثناء اوتنابيشتيم وزوجته. وحكايته تبدو شبيهة كثيرا بقصّة نوح التي حدثت في وقت لاحق وتحدّثت عنها الكتب المقدّسة:
    "واستقرّت السفينة على الجبل. أمسك الجبل بالسفينة ولم يطلقها. أمسك بها لستّة أيّام وسبع ليالٍ. وعندما حلّ اليوم السابع أتيتُ بحمامة وأطلقتها".
    بعد سماعه قصّة الطوفان، يحاول غِلغامِش البقاء مستيقظا لسبعة أيّام بناءً على أوامر اوتنابيشتيم الذي أراد أن يختبر تحمّله ليرى إن كان يستحقّ العيش إلى الأبد. لكن غِلغامِش يفشل في الامتحان. ثمّ تشفق عليه زوجة اوتنابيشتيم وتدلّه على عشبة سحرية تنبت في أعماق البحر وتضمن لمن يتعاطاها نضارة الشباب الدائم. ويغوص غِلغامِش في قاع البحر ويجد النبتة ويقتلعها، ويقرّر أن يعود بها معه إلى أوروك ليجرّبها على شيخ مُسنّ.
    ولكن، وكما حصل مع آدم، تعترض طريق عودته أفعى ماكرة وتسرق منه العشبة بينما كان يغتسل في النهر. وفي النهاية، يعود الملك إلى أوروك خاليَ الوفاض. كان كلّ ما تبقّى له هو أن يستمتع بالنظر إلى الأسوار الرائعة التي كان قد بناها حول المدينة، رغم علمه بأن هذه الأسوار نفسها ستتحوّل يوما ما إلى غُبار.
    قصّة غِلغامِش تستند إلى سيرة ملك تاريخيّ بهذا الاسم عاش في مدينة أوروك السومرية في جنوب العراق حوالي العام 2700 قبل الميلاد. ولا بدّ وأنّ بطولات هذا الملك تركت انطباعا حسنا في نفوس السومريين، لأنه في غضون بضعة قرون كانوا يسجّلون قصصا عنه على ألواح الطين، مستخدمين كتابتهم المسمارية التي تأخذ شكل وتَد. وقد سجّل البابليون تحت حكم الملك حمورابي وحكّام آخرين حكايات أخرى عن غِلغامِش بلُغَتهم ونشروها في جميع أنحاء الشرق الأدنى.

    والنسخة التي بين أيدينا اليوم من الملحمة يُحتمل أن تكون من تأليف كاتب اسمه شين ليكي اونيني عاش في القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وتتضمّن النسخة قصّة الطوفان الشهيرة التي تتكرّر في العديد من الآداب الشرقية. وقد حُفظت الألواح في القصر الملكيّ في نينوى في الألفية الأولى قبل الميلاد، ولكنّ القصّة تلاشت من الذاكرة في القرون التالية.
    ومن الملاحظ أن ذكر غِلغامِش لم يرد في كتاب اليهود، كما انه لم يجد طريقه إلى الأساطير اليونانية، رغم وجود نقاط شبه كثيرة ومثيرة للاهتمام والفضول بين ملحمة غِلغامِش وملحمة الإلياذة لـ هوميروس.
    تمّ دفن الألواح الطينية في نينوى تحت الأنقاض، ولم تُكتشف، ومن ثمّ تُترجم، إلا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تسبّب ظهورها في إثارة ضجّة واسعة في جميع أنحاء العالم. وكان إعلان أمين المتحف البريطاني في ديسمبر من عام 1872 عن اكتشافه أدلّة مستقلّة عن الطوفان في ألواح غِلغامِش قد استُقبل بحماس جنونيّ.
    ومع استمرار الكشف عن ألواح جديدة، والتطوّر في قراءة اللغات الشرقية القديمة، أصبح لدينا اليوم نسخة أكثر اكتمالا وفهم أفضل لملحمة غِلغامِش، رغم وجود العديد من الثغرات والأسئلة حول المعاني الدقيقة للكلمات.
    الصدمة الأولى التي يتعرّض لها غِلغامِش تحدث في وقت مبكّر من الحكاية، عندما يدرك أنه على الرغم من قدراته ومن سيطرته على مصائر الآلاف، إلا انه يقف وحيدا في هذا العالم. سعيه اللاهث وراء المزيد من الثروة والسلطة والجنس قضى تماما على روابطه الإنسانية.
    إنكيدو، على النقيض من غِلغامِش، هو رجل الطبيعة. لكن لديه الكثير من القواسم المشتركة مع الملك. لقاؤه مع كاهنة المعبد، شامات، أيقظ في داخله الحاجة للتواصل مع الناس. ووعيه الذي اكتشفه متأخّرا منحه الشعور بالغضب الأخلاقي عندما يسمع عن أفعال غِلغامِش المستبدّة. وبمجرّد أن يحقّق إنكيدو اتصالا مع الآخرين، فإنه يصبح غير قادر على الوقوف مكتوف الأيدي عندما يرى ظلما يمكنه منعه.
    إنكيدو لم يذهب أبدا إلى أوروك، وهو لا يعرف أحدا في المدينة. لكن مجرّد سماعه عن تعرّض الرعيّة لسوء المعاملة وعجزهم عن الوقوف بوجه الظالم هو أمر لا يمكنه تحمّله أو السكوت عنه. وإنكيدو يدرك انه قادر لوحده على مواجهة غِلغامِش. وهو يفعل هذا، ليس لأنه مضطرّ لذلك، وإنما لأنه يعلم أن هذا يمكن أن يجعل الأمور أفضل.
    الصراع بين إنكيدو وغِلغامِش قاد كلا منهما، وبشكل غير متوقّع، لأن يجد في الآخر صديقا حقيقيّا. لم يكن احدهما كاملا دون الآخر. والآن يعترفان، كما يقول أرسطو، بأن الحياة من دون أصدقاء لا تستحقّ أن تُعاش.
    هذه الصداقة التي اكتشفاها أخيرا، فتحت أمام الاثنين عالما من الاحتمالات. ولأنهما شابّان مغامران وحريصان على إثبات نفسيهما واكتساب مجد أبديّ، فقد توحّدا لمقاتلة هومبابا الرهيب. الكوابيس المزعجة تؤرّق غِلغامِش أثناء الرحلة وتملأ نفسه بالخوف، وتدفعه لأن يتساءل ما إذا كان ينبغي عليهما التخلّي عن بحثهما. ولكن إنكيدو يشجّع صديقه على المثابرة ويذكّره مراراً بأنه حيث يمكن أن يفشل أحدهما، فإنهما، متوحّدين معاً، يمكن أن ينجحا.
    وعندما يهزم غِلغامِش الوحش ويمسك به فإنه يتردّد في قتله. فـ هومبابا يعده إن عفا عنه بأن يكون خادما مطيعا له مدى الحياة. ولكن إنكيدو هو من يشجّع غِلغامِش على إتمام المهمّة التي بدآها.
    مشهد إغواء عشتار لـ غِلغامِش هو احد المشاهد المفضّلة في الملحمة. تقف الإلهة أمام الملك وتقدّم له نفسها عن طيب خاطر، شرط أن يكون لها وحدها. لكنّ غِلغامِش المفعم بالرجولة والشهوة يرمق عشتار الجميلة بنظرة واحدة، ويتذكّر جميع الرجال الذين سبق أن وعدتهم بالسعادة، ثم دمّرتهم. كلمات رفضه لها بليغة ولاذعة:
    "لماذا أريد أن أكون عاشقا لموقدٍ مكسور لا يعمل في البرد، لبابٍ مهلهل تمرّ من خلاله الرياح، لقصرٍ يسقط فوق رأس أقوى المدافعين عنه"؟!
    ثمّ يمضي فيصفها بأنها "كالقطران وكالسِقاء الراشح وكالحذاء الذي يشوّه القدم". لقد نظر غِلغامِش تحت سطح عشتار المغري ووجد الأنانية التي كانت تحاول إخفاءها. ولم يكن لديه شيء ممّا تحتاجه. كان الأمر سينتهي به كما انتهى عشّاقها السابقون، إمّا منبوذاً أو ميّتاً عندما تملّ منه. الجنس ربّما يكون ممتعاً لبعض الوقت، لكنّه وحده لا يكفي.
    وعندما تُسلّط عشتار ثور السماء المدمّر على أوروك، يموت المئات في غمرة احتدام الوحش. لكنّ الصديقين يحميان المدينة ويهزمان الثور ويمزّقان قلبه. وفي تلك اللحظة بالذات، يَعبُر إنكيدو الخطّ الفاصل. فعندما يرى عشتار المهزومة واقفة على الأسوار، يقوم بتمزيق مؤخّرة الثور ويرميها في وجهها وهو يقول:
    "آه لو أمكنني الإمساك بك. كنت سأمزّقك إرَباً وأنثر أمعاء الثور فوقك".
    ثمّ يسقط إنكيدو مريضا ويقترب منه الموت، بينما يراقبه غِلغامِش وهو في حال من الصدمة والكرب. لماذا يتوجّب على صديقي أن يموت؟ هل سيحدث هذا لي أيضا؟ هذان هما السؤالان اللذان يؤرّقان عقل الملك الشابّ، بينما يواري إنكيدو في قبره. بعد الجنازة، يعبّر غِلغامِش عن ألمه قائلا:
    "كيف لي أن أتحمّل هذا الحزن الذي يكبّل روحي! هذا الخوف من الموت الذي يهدّني ويُثقل كياني"؟!
    بحْثُ غِلغامِش عن إجابات شافية على تساؤلاته يقوده إلى رحلة مضنية في البرّية، وهي استعارة لتجربة يمرّ بها كلّ شخص عندما يفقد إنسانا يحبّه. غِلغامِش الكسير القلب يسافر في العالم محاولا الحصول على إجابات. لكن يبدو أنه نسي كلّ شيء سبق أن تعلّمه عن قيمة الصداقة. الناس الذين يقابلونه على طول الطريق يحاولون التواصل معه. لكن الحزن يستولي عليه لدرجة انه يرفض اقتراب أيّ احد منه. إنه حتى لا يبدي اهتماما بمشورة شيدوري حارسة الحانة:
    "إجعل من كلّ يوم من أيّامك فرحاً. عد إلى الوطن، تزوّج امرأة مُحبّة، وابتهج باحتضان أطفالك بين ذراعيك. استمتع بالحياة التي لك هنا الآن".
    الدرس الكبير الذي تقدّمه ملحمة غِلغامِش هو أن الموت مسألة حتمية. والإنسان، أيّاً ما كان دينه أو قيََمُه، يمكن أن يوفّر على نفسه كثيرا من متاعب الحياة إذا أدرك انه سيشيخ يوما ما ثم يموت في نهاية المطاف. وغِلغامِش أهدر وقتا وجهدا كبيرين في محاولته العقيمة للعثور على الخلود. لقد أدار ظهره حتى لعائلته وأصدقائه كي يضرب في أرجاء الأرض بحثا عن شيء لا يمكنه بلوغه أبدا.
    ملحمة غِلغامِش تأخذ القارئ إلى عالم مختلف ومليء بالآلهة الكثيرة والقوى الخارقة. ومع ذلك فإن البشر فيها مألوفون بشكل مؤلم، فهم إمّا مُراعون أو أنانيّون، متعاطفون أو لا مبالون، متفائلون أو يائسون. وبإمكان كلّ من يقرأ غِلغامِش أن يتعلّم منها دروسه الخاصّة.
    والملحمة، بما تتضمّنه من تأمّلات فلسفية عميقة ورسائل أخلاقية، لا تعلّمنا فقط كيف نواجه التحدّيات التي تنتظرنا، ولكنّها أيضا تخبرنا أنه، بغضّ النظر عن مدى اختلاف عالمنا المعاصر عن الأزمنة القديمة، فإن جوهر التجربة الإنسانية واحد.

    Credits
    jasoncolavito.com
    metmuseum.org

    السبت، يوليو 07، 2012

    القوّة الخفيّة للأحلام

    ذات ليلة، حلم الاسكندر المقدوني أنه يراقص إله الغابات "ساتاير" الذي يأخذ شكل فرس جامح. وقد استدعى مفسّرا ليشرح له معنى الحلم. فقال له: هذه بشارة لك بأنك ستفتح مدينة صُوْر". وقد بنى المفسّر نبوءته على أساس أن المقطع الأخير من اسم إله الغابات يطابق اسم صُوْر باللاتينية. وفي نفس تلك السنة، فتح الاسكندر صُوْر بالفعل وضمّها إلى امبراطوريّته الواسعة.
    الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن داهمه في إحدى الليالي حلم غريب. رأى نفسه جالسا ليلا داخل قاعة فسيحة ومضاءة. وفجأة تناهت إليه أصوات رصاص، وشعر بأنه يسقط على الأرض فاقدا الوعي. وهُرع باتجاهه أشخاص كان بعضهم يصيح والبعض الآخر يبكي. وبعد ذلك بأيّام، أي في الخامس عشر من ابريل عام 1865م، اغتيل لينكولن برصاصة في الرأس أطلقها عليه احد الأشخاص بينما كان يحضر عرضا في احد مسارح ولاية إلينوي.
    الزعيم النازيّ ادولف هتلر رأى ذات مرّة حلما مزعجا جعله يقفز من سريره مرعوباً. وبعد لحظات، اخترقت قذيفة مدفع جناح المبنى الذي كان يستخدمه كمكتب وقتلت كلّ من كان فيه.
    كارل يونغ، المفكّر وعالم النفس السويسريّ المشهور، حلم في إحدى الليالي أن طوفانا عظيما غمر كافّة أرجاء أوربّا ووصلت مياهه إلى قمم جبال سويسرا، ثمّ تحوّلت المياه إلى دماء. وبعد أشهر من ذلك الحلم الغريب، انطلقت شرارة الحرب العالمية الأولى.
    الموسيقيّ الايطالي جيوسيبي تارتيني أمضى أشهرا عديدة وهو يبحث، دون جدوى، عن خاتمة مناسبة لتحفته المشهورة سوناتا الشيطان. وذات ليلة، حلم انه عثر على زجاجة على شاطئ البحر وبداخلها شيطان محبوس. وقد توسّل إليه الشيطان أن يطلق سراحه. وتوصّل الاثنان إلى صفقة. ناول تارتيني كمانه للشيطان، وذُهل لروعة وجمال عزفه. وعندما استيقظ من حلمه، حاول أن يستعيد ما سمعه في الحلم. وقد كتب تارتيني بعد ذلك يقول: سوناتا الشيطان هي أفضل ما كتبت. غير أنها اقلّ جمالا بكثير من الموسيقى التي سمعتها في الحلم".
    هذه فقط بعض الأمثلة التي تدلّل على القوّة الخفيّة والغامضة للأحلام وعلى أهميّتها وحضورها الدائم في حياة الإنسان.
    تخيّل، على سبيل المثال، دور الأحلام في الأدب والفنّ. العديد من الأعمال الأدبيّة المشهورة ظهرت بفضل حلم رآه الكاتب في منامه: فرانكنشتاين لـ ميري شيللي، والشفق لـ ستيفاني ماير، ودكتور جيكل ومستر هايد لـ روبيرت ستيفنسون.. والقائمة تطول.
    وهناك الكثير من الروايات التي تستند حبكتها الرئيسية على عنصر حلم. في رواية المسخ لـ فرانز كافكا، مثلا، يستيقظ غريغور سامسا بطل الرواية من حلم ذات صباح ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار ضخم.
    وهناك عدد لا يُحصى من الكتّاب الذين وظّفوا قصص الأحلام في رواياتهم: جوزيف كونراد، آرثر ميللر، جيمس جويس، شكسبير، لويس كارول، دستويفسكي، جورج اورويل، ايتالو كالفينو، ادغار الان بو وغابرييل غارسيا ماركيز.. وغيرهم.
    الأحلام أيضا حاضرة بقوّة في الفنّ التشكيليّ. العديد من لوحات هنري روسّو وسلفادور دالي وجاسبر جونز وهنري فوزيلي وغيرهم كانت نتاج أحلام.
    وفي السينما أيضا استخدم مخرجون كثر صور الأحلام في أفلامهم مثل انغمار بيرغمان، ارسون ويلز وفيدريكو فيلليني وسواهم. كما ألهمت الأحلام عددا من الموسيقيين من أمثال هاندل، شوبيرت وفاغنر وغيرهم.
    أهميّة وقوّة الأحلام معروفة وراسخة. ومن معابد العصور القديمة، إلى مختبرات النوم في العصر الحاضر، حاول البشر أن يفهموا الأحلام وأن يفسّروها.
    وأقدم الأحلام المسجّلة وجدت في وثائق يعود تاريخها إلى ما يقرب من 5000 عام، في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب. السومريون، أوّل مجموعة ثقافية قطنت تلك المنطقة، تركوا سجلات للأحلام يعود تاريخها إلى عام 3100 قبل الميلاد. ووفقا لتلك الكتابات المبكّرة، كانت الآلهة والملوك، مثل الملك العالم آشور بنيبعل من القرن السابع، يبدون اهتماما كبيرا بالأحلام.
    ومن ضمن أرشيف هذا الملك من الألواح الطينية، تمّ العثور على أجزاء من ملحمة الملك الأسطوريّ غلغامش. في هذه القصيدة الملحمية، وهي واحدة من أقدم القصص الكلاسيكية المعروفة، يسرد غلغامش أحلامه المتكرّرة على أمّه الإلهة نينسون التي قدّمت أوّل تفسير مسجّل لحلم. كما اتخذت أحلامه كنبوءات. المواقف المدوّنة في ملحمة غلغامش توفّر مصدرا قيّما للمعلومات حول المعتقدات المتعلقة بالأحلام في العصور القديمة.

    العبرانيون القدماء كانوا يعتقدون أن الأحلام هي عملية اتصال مع الله. الشخصيّات التوراتية، مثل سليمان ويعقوب ونبوخذ نصّر ويوسف، كلّهم زارهم الربّ أو الأنبياء في أحلامهم وساعدوهم في توجيه قراراتهم. كان من المسلّم به والمقبول أن أحلام الملوك يمكن أن تؤثّر على أمم بأكملها وعلى مستقبل شعوب بأسرها. التلمود، المكتوب ما بين عامي 200 و 500م، يتضمّن أكثر من 200 إشارة لأحلام. وهو يشير إلى أن الأحلام غير المفهومة هي "مثل الرسائل التي لم يتمّ فتحها".
    قدماء المصريين أيضا أولوا اهتماما خاصّا بأحلام قادتهم الملكيين، بالنظر إلى أن الآلهة كانوا أكثر عرضة للظهور فيها. سيرابيس، إله الأحلام المصريّ، كانت له معابد لحضانة الأحلام. وقبل الذهاب إلى هذه المعابد، يصوم الحالمون ويصلّون كي يضمنوا رؤية أحلام سعيدة.
    الصينيون اعتبروا أن روح الحالم هي العامل المهمّ في توجيه الحلم. كانوا يعتقدون أن "الهون" أو الروح تغادر الجسد أثناء الحلم لتتواصل مع أرض الأموات.
    كتاب الأوبنيشاد، ظهر ما بين 900 و 500 قبل الميلاد. وهو يتناول منظورين عن الأحلام: الأوّل يرى أنها مجرّد تعبير عن الرغبات الداخلية. والثاني يشبه الاعتقاد الصيني عن الروح التي تغادر الجسد أثناء النوم لتعود عندما يستيقظ الجسد ثانية.
    القرن الخامس قبل الميلاد شهد ظهور أوّل كتاب يونانيّ معروف عن الأحلام. وقد كتبه انتيفون الذي كان رجل دولة من أثينا. في تلك الفترة، ساد بين الإغريق اعتقاد بأن الروح تغادر جسد الإنسان الحالم. اوسكولابيوس كان معالجا إغريقيا، وكان على اتصال بالطوائف التي بدأت في ممارسة حضانة الأحلام. كان يزور النائمين ويقدّم لهم المشورة والنصح.
    أبقراط، والد الطبّ ومعاصر سقراط، ألّف كتابا اسماه "عن الأحلام". وكانت نظريّته بسيطة: في النهار تستقبل الروح الصور، وفي الليل تعيد إنتاجها. وهذا هو السبب في أننا نحلم".
    أرسطو كان يعتقد بأن الأحلام ليست محصّلة وحي إلهي، وإنّما مؤشّرات عن أوضاع داخل الجسم. كما افترض بأن المؤثّرات الخارجية تكون غائبة أثناء النوم. ولهذا فإن الأحلام هي مظاهر وعي عميق بالأحاسيس الداخلية التي يُعبّر عنها على هيئة صور في الأحلام.
    جالينوس ركّز على الحاجة لملاحظة الأحلام بعناية بحثا عن أيّ رسائل قد تتضمّنها. معاصره ارتيميدوراس وضع كتابا عن تفسير الأحلام يعتبره البعض أفضل مصدر عن الأحلام في العصور القديمة. وهو يصف نوعين من الأحلام: الأوّل يتنبّأ بالمستقبل، والثاني يتعامل مع مسائل الحاضر.
    في أوربّا العصور الوسطى، كانت الأحلام كثيرا ما تُدرّس في سياق علاقتها بالله. والسؤالان النموذجيان اللذان كانا يُطرحان عادة في تلك الفترة هما: هل الأحلام مرسلة من الله للصالحين وأصحاب الكرامات؟ أم أنها مرسلة من الشياطين إلى الخاطئين والمذنبين؟!
    في القرن العشرين، مُنحت الأحلام حياة جديدة على يد سيغموند فرويد الذي احدث تغييرا جذريّا في دراسة الأحلام مع ظهور كتابه المشهور "تفسير الأحلام".
    فرويد رأى أن الأحلام عبارة عن رغبات لم تتحقّق، أو محاولات من اللاوعي لحسم صراع من نوع ما، وأن الرمز أو الصورة التي تظهر في حلم قد تنطوي على معان متعدّدة.
    كان فرويد يركّز على الدوافع البيولوجية للفرد، الأمر الذي باعد بينه وبين العديد من زملائه مثل يونغ وأدلر. كما أن تعويله الكبير على دور الدافع الجنسيّ في الأحلام دفع معارضيه لوصفه بـ "عدوّ للبشر" لأنه تعامل مع البشر كما لو أنهم حيوانات برّية.
    وفي حين أن نظريّاته ودراساته النفسية عن الأحلام شابتها بعض العيوب المنطقية والافتراضات المتحيّزة، إلا أن انجازات فرويد في هذا الميدان لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها.

    موضوع ذو صلة: المدن والذاكرة

    Credits
    plato.stanford.edu
    simplypsychology.org

    الخميس، أبريل 26، 2012

    خطوط وألوان

    رافائيل، حلم الفارس، 1504

    يُعتبر رافائيل احد أعظم الرسّامين الذين أنجبهم عصر النهضة الايطالي. وقد ولد في أوربينو عام 1483 وتلقّى تعليما مبكّرا في الرسم على يد والده، الذي كان رسّاما هو الآخر.
    في عام 1504 انتقل رافائيل إلى فلورنسا، حيث درس أعمال كبار الرسّامين آنذاك مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجيلو، وتعلّم أساليبهما في التعامل مع الضوء والظلّ وعلم التشريح والعمل الدرامي والحركة.
    من أشهر أعمال رافائيل لوحته الرمزية بعنوان "حلم الفارس". وهي تصوّر فارسا من العصور الوسطى وهو نائم بينما تقف عن يساره ويمينه امرأتان.
    المرأة إلى اليسار ترمز إلى الفضيلة. وهي ترتدي ثياب أثينا إلهة العدالة اليونانية وتمسك بإحدى يديها كتابا وبالأخرى سيفا، بينما تقف بموازاة طريق يقود إلى جبل صخري يظهر في نهايته منحدر بُنيت على أطرافه قلعة عالية. المعنى الذي قصده رافائيل هو أن الطريق الذي يؤدّي إلى الفضيلة من الصعب سلوكه لأنه شاقّ ووعر.
    المرأة إلى اليمين ترتدي ثوبا ملوّنا وعقدا من اللؤلؤ. وهي لا تقدّم للفارس سوى زهرة صغيرة. والطريق الذي تقف بمحاذاته يمرّ عبر تلال ومروج وينتهي بمنزل فاره يقع على شاطئ البحر. والمعنى الكامن هنا هو أن الطريق إلى الحبّ أسهل بكثير من الطريق المؤدّي إلى الفضيلة.
    رافائيل استخدم في اللوحة وسيلة جديدة وغير عاديّة وهي انه رسم الجبال في الخلفية بنفس لون السماء كي يعطي وهما بالمسافة البعيدة والأفق النائي.
    هناك نظريات متعدّدة حول ما ترمز إليه اللوحة. بعض المؤرّخين يعتقدون أن الفارس النائم يمثل الجنرال الروماني سيبيو افريكانوس الذي رأى في الحلم انه مضطرّ للاختيار بين الفضيلة وبين متعة الحبّ.
    غير أن المرأتين في اللوحة لا تظهران كمتنافستين بالضرورة. فالكتاب والسيف والزهرة، مجتمعةً، كثيرا ما ترمز إلى الصفات المثالية التي ينبغي أن يحوزها الفارس. فهو مقاتل في الأساس. لكنه بنفس الوقت عالم وعاشق.
    المعروف أن رافاييل توفّي في روما في يوم عيد ميلاده السابع والثلاثين، أي في ابريل من عام 1520م.

    كيس فان دونغن، بذور الخشخاش، 1919

    في أواخر عشرينات القرن الماضي، بدأت النساء في أنحاء متفرّقة من أوربّا يتمتّعن بحرّية واستقلالية اكبر، خاصّة في أمور اللباس والمظهر.
    وهذه اللوحة تُظهر التغيير الذي طرأ على أوضاع المرأة في تلك الفترة. والمرأة فيها هي نموذج ورمز للمرأة الجديدة التي أصبحت ترتدي التنانير القصيرة والألوان الزاهية. الموديل هنا ترتدي فستانا رماديا فاتح اللون وقبّعة عصرية وذات ألوان حمراء مع مكياج سميك للعين. العينان لوزيتان وواسعتان والنظرات مواربة والعنق طويل والشفتان صغيرتان حمراوان. وهناك احتمال بأن المرأة كانت واحدة من مجموعة من النساء الباريسيات اللاتي كنّ يعشن حياة منفلتة في فترة ما بين الحربين العالميتين.
    من أهم ما يجذب الانتباه في اللوحة الألوان التي تكاد تتقافز منها معطية المرأة تأثيرا ثلاثي الأبعاد.
    ولد كيس فان دونغن في إحدى ضواحي روتردام بـ هولندا عام 1877م. وفي سنّ السادسة عشرة درس في أكاديمية الفنون بـ روتردام ثم انتقل إلى باريس التي قرّر أن يقيم فيها بشكل دائم. ولم يلبث أن أصبح جزءا من المشهد الفنّي في مونمارتر.
    في بداياته، كان الرسّام متأثّرا بأعمال هنري ماتيس ورموز المدرسة الوحشية في الرسم. كان أتباع الوحشية يستخدمون الألوان الزاهية بطريقة تجمع ما بين الانطباعية والنُقطية. وأصبح هذا النمط الجديد يحظى بشعبية كبيرة في أوساط النخبة الذين بدءوا يستعينون بالفنّانين الوحشيين لرسم بورتريهات لهم. ومن بين هؤلاء ملك بلجيكا ليوبولد الثاني والاغا خان والممثّل موريس شوفالييه والممثّلة بريجيت باردو وغيرهم.
    كان فان دونغن رسّاما غزير الإنتاج. كان يعتقد أن الرسم يطفئ رغبة دنيوية عند الإنسان. وفي ما بعد، ربطته صداقة وثيقة مع بيكاسو. وبعد الحرب العالمية الأولى اكتسب شعبية إضافية. وقد عُرف عنه كثرة أسفاره. ودفعته الرغبة في اكتشاف الشرق للذهاب إلى مصر والمغرب. ورسم من وحي رحلته تلك بورتريهات فاتنة لنساء مع ملابسهنّ ذات الزخارف الشرقية.
    كان فان دونغن إنسانا ساحرا مع إحساس بالمرح وحبّ الدعابة. وقد اشتهر بلحيته الحمراء وبملابسه التي تشبه ملابس الصيّادين. ومن ناحية أخرى، كان نموذجا للفنّان البوهيمي وكان أسلوب حياته مثارا للجدل. الحفلات الباذخة التي كان يقيمها في محترفه ليلا كان يحضرها المشاهير من نجوم السينما والسياسة والأدب والفنّ.
    واليوم تباع لوحاته بأرقام قياسية كما أن اسمه متداول كثيرا على الانترنت. وتوجد بعض أعماله في مجموعات فنّية خاصّة في نيويورك وجنيف وموسكو، بل وحتى في إيران وروسيا.
    عاش كيس فان دونغن حياة طويلة ومثمرة. وتوفّي في مونت كارلو عام 1968 عن واحد وتسعين عاما.

    جان بيرو، في المقهى، 1892

    ابتداءً من نهايات القرن التاسع عشر، أصبحت المقاهي ملتقى يجمع أصنافا مختلفة من الناس، وخاصّة الأدباء والشعراء والرسّامين. كان هؤلاء يتردّدون على المقاهي لتمضية بعض الوقت في الحديث مع زملائهم أو لتناول الشراب، وأحيانا للبحث عن مواقف وقصص إنسانية أو اجتماعية تصلح للرسم أو الكتابة.
    الرسّام الفرنسي جان بيرو اشتهر بلوحاته التي تصوّر مظاهر من الحياة اليومية في باريس مثل أجواء المقاهي ومناظر الشوارع المزدحمة والحفلات الموسيقية التي تقام في الهواء الطلق.
    في هذه اللوحة يرسم بيرو رجلا وامرأة يجلسان في مقهى وهما منشغلان بالنظر إلى شيء أو شخص ما يقع خارج نطاق الصورة. الكرسيّ المائل قليلا أمام الطاولة يوحي بأن الرجل انتقل من ذلك المكان كي يصبح أكثر قربا من المرأة، أو أن شخصا ثالثا كان يجلس هناك ثم ترك مكانه لبعض الوقت، ما قد يفسّر تحوّل انتباه الرجل والمرأة.
    مهارة الرسّام تبدو واضحة في رسم تفاصيل الطاولة الرخامية والكأسين نصف المملوئين والدخان المتصاعد من سيجارة الرجل. ومن الملاحظ أن بيرو تعمّد أن لا يرسم الرجل والمرأة متواجهين كما جرت العادة في مثل هذه المناظر، للإيحاء بإمكانية وجود حالات ومواقف أكثر إثارة للاهتمام من مجرّد تبادل الحديث بين شخصين.
    ولد جان بيرو في روسيا وهاجر مع عائلته إلى فرنسا عندما كان ما يزال طفلا. وفي بدايات حياته درس القانون بناءً على رغبة والده الذي كان يعمل نحّاتا. لكنه في ما بعد فضّل أن يتخّصص في الرسم، فدرس على يد ليون بونا وتأثّر بأسلوب الانطباعيين. وفي مرحلة تالية تبنّى أسلوبا وسيطا بين الفنّ الأكاديمي للصالون وفنّ الانطباعيين.
    كان جان بيرو بارعا بشكل خاصّ في رصد وتسجيل التفاصيل. وقد تعزّزت مهارته تلك مع ظهور التصوير الفوتوغرافي، الذي وظّفه كي يضفي على مناظره عن الحياة اليومية الباريسية مزيدا من الحيوية والأناقة.
    في وقت لاحق، رسم بيرو مواضيع دينية حديثة. لكن أعماله الأكثر شهرة هي تلك التي رسمها لباريس في أيّام مجدها.

    بيير بوفي دو شافان، الحلم، 1883

    الإشارات إلى الأحلام قديمة قدَم الأدب نفسه. ملحمتا غلغامش والإلياذة، على سبيل المثال، تصفان أحلام الشخصيات الرئيسية فيهما ومعاني تلك الأحلام.
    غير أن الأحلام كموضوع في الرسم لم تظهر سوى في وقت لاحق، وبالتحديد في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما أدخلت كلّ من الرمزية والتعبيرية صور الأحلام إلى الفنون البصرية.
    في هذه اللوحة، يرسم بيير دو شافان رجلا نائما بجوار شجرة في طبيعة مثالية ذات ليلة مقمرة وصافية، بينما تطير فوقه ثلاث نساء. الأولى تحمل الورود في يديها، في إشارة إلى الحبّ. والثانية تلوّح بإكليل الغار الذي يرمز للمجد. بينما تنثر الثالثة حوله القطع النقدية التي ترمز إلى الغنى والثروة.
    من الواضح أن الرجل يحلم بالحبّ والثروة والمجد. لكن هل يتحقّق حلمه؟
    المنظر الطبيعي في اللوحة مرسوم باقتصاد واضح. الأشكال مبسّطة للغاية ومرسومة في مناطق واسعة من الألوان الصلبة. وقد استخدم الرسّام مجموعة محدودة من الألوان الهادئة والساطعة بتأثير ضوء القمر.
    الحركة الرومانسية كانت تؤكّد على قيمة العاطفة والإلهام. والرؤى، سواءً كانت أحلاما طبيعية أو نتيجة تعاطي المواد المُسْكرة، كانت تُستخدم كوسيلة لإظهار قدرات الفنّان الإبداعية.
    غير أن الأحلام بلغت مستوى جديدا من الوعي في العالم الغربي بسبب نظريات سيغموند فرويد، الذي عرض لمفهوم العقل الباطن كحقل للبحث العلمي. وكان لـ فرويد أثر كبير على سورياليي القرن العشرين الذين ركّزوا في أعمالهم على اللاوعي بوصفه أداة للإبداع.

    Credits
    en.wikipedia.org

    الخميس، ديسمبر 22، 2011

    أصداء الليالي العربية


    عندما تُرجم كتاب ألف ليلة وليلة إلى الانجليزية والفرنسية في بدايات عصر التنوير الأوربّي، أصبح أفضل الكتب مبيعاً بين المثقّفين الغربيين، في حين كان ما يزال يُنظر إليه في العالم العربي باعتباره مجرّد مجموعة من الحكايات الشعبية الرخيصة.
    وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
    الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.

    في بعض الليالي المؤرّقة، وعلى الرغم من المفروشات الوثيرة في غرفة نومه الملكية أو الأنغام المهدّئة التي يعزفها له موسيقيّوه أو حتى الاهتمام الرائع الذي تبديه واحدة أو أكثر من محظيّاته الثلاثمائة، لم يكن الخليفة العبّاسي العظيم هارون الرشيد يستطيع النوم بسهولة.
    كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
    هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
    حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
    ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
    الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
    وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
    وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
    وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
    العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
    المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
    ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
    ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
    ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
    يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
    والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
    كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
    وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
    غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
    حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
    بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
    كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".