:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأمّلات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تأمّلات. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، سبتمبر 15، 2025

نصوص مترجمة


  • تُعتبر القطط البرّية من الأنواع المهدّدة بالانقراض في هذه المنطقة. أتذكّر قطّا برّيا أمسكوا به في مكان ما، ولا بدّ أنهم أخضعوه لعشرات التجارب بالحرق قبل أن يقرّروا أخيرا أنه عديم الفائدة لهم، تماما مثل علبة بيرة فارغة. هل تعلم ماذا فعلوا به؟ قرّر أحدهم انه بدلا من أن يترك الحيوان، الذي كان ما يزال يتنفّس بصعوبة، في حاله، حمله من رجليه الخلفيتين وضرب رأسه بالحائط مرارا حتى مات.
    كيف لي أن أنسى ذلك! أنا من طُلب منه تنظيف تلك الفوضى. خيّطت رأس الحيوان وأغلقت عينيه ببطء. المخالب التي كانت فخورة ذات يوم كانت تتدلّى دون حياة. وكلّ هذا العبث والكراهية ملآني بالغضب. إلا أنني لم أكن أعرف كيف أنفجر. كنت مثل جهاز كمبيوتر بدون لوحة مفاتيح، طائر بلا أجنحة. صدّقني، أردت في تلك اللحظة أن أشتبك مع ذلك الشخص، أن أفعل به بعض ما فعله بذلك الحيوان المسكين. م. توبياس
  • ❉ ❉ ❉

  • الذكاء الاصطناعي يستطيع الآن تقليد أيّ صوت بشري. وآخر من قلّد أصواتهم ممثّل إنغليزي يُدعى ستيفن فراي. وقد فعل ذلك بشكل مثالي ومقنع للغاية، بما في ذلك حتى جرس صوته ونبرته وجعلَهُ يقول أيّ شيء. وشعر فراي بالقلق من إمكانية نسخ مهاراته بسلاسة بواسطة آلة. فهو يكسب دخلا إضافيا من عمله في سرد القصص الصوتية، ومنها جميع كتب هاري بوتر. وأبدى انزعاجه من أنه قد يفقد قريبا مصدر رزقه الإضافي، مثل العديد من الفنّانين الآخرين بسبب هذه التقنية.
    ومع ذلك، هناك سبب لئلا يقلق فراي أو غيره من الفنّانين. فحتى أكثر أنواع الذكاء الاصطناعي تقدُّما "يتعلّم" من خلال تدريبه على المعلومات الموجودة، ولا يمكنه تطبيق ما تعلّمه إلا في سياق جديد. الفنّانون يتدرّبون من خلال معالجة المعلومات الموجودة، لكنهم ينجحون، خاصّة الفنّانين العظماء حقّا، في خلق شيء جديد. صحيح أنهم يعملون على مادّة معطاة، لكنهم يبثّون فيها روحا جديدة من خلال إلهامهم.
    ويبقى الذكاء الاصطناعي آلة، شيئا، يعمل على أشياء أخرى. والإبداع في هذه الحالة هو في أحسن الأحوال نوع من المزاوجة الداخلية. ولعلّ هذا تحديدا هو سبب كون الذكاء الاصطناعي نعمة وليس نقمة على الفن. فهو يُجبر الفنّان على أن يكون أكثر تجريباً، وبالتالي يرفع سقف التوقّعات. الذكاء الاصطناعي يلغي دور المقلّدين، لكنه لا يلغي دور الفنّان الحقيقي. دينيس أويل
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • ذات ليلة من ليالي الشتاء، نظرتُ في المرآة فلم أتعرّف على الصورة التي كانت تحدّق بي. لم تكن هناك أيّ إصابة ظاهرة، لكنني شعرت وكأن على جلدي ساحة معركة، قصص محفورة في أعماق صمتي. كان الناس يرون ابتسامتي ومشيتي وعبارة "أنا بخير". لكن لم يرَ أحد الثقل الذي أحمله في روحي كحقيبة قديمة سقطت على جانب الطريق.
    في المدرسة، كنت دائما الطالب الهادئ الذي لا يرفع يده ولا يرفع صوته أو عينيه. كنت أعتقد أحيانا أن الاختفاء يعني الأمان، لكني اكتشفت أنه حتى الظلال ليست آمنة عندما تكون شديدة السطوع لدرجة يصعب كشفها.
    ثم دارت الأيّام وتغيّرت ظروف واستجدّت أخرى، ووجدت نفسي في خضمّ متاهة لم أحسب لها حسابا، بل اُقحمت فيها إقحاما ولم يكن لي علاقة بها من قريب او بعيد.
    ثم حدثت لحظة أحدثت بعض التشقّقات، ليس أمام الناس، ولا على خشبة المسرح، بل في سكون ليلة تساءلت فيها: ماذا لو كان ما حدث اختبارا لي كي أصبح اقوى وأكثر استعصاءً على الكسر وكي يصبح جلدي أكثر سُمكا؟
    وأمسكت بقلم وكرّاس، لا لأتعافى، بل لأتنفّس فحسب. وكلّ كلمة كتبتها كانت خيطا أعادني إلى الوجود. بدأت ندوبي تتحدّث، ليس فقط عن الألم، بل عن كلّ ما نجوت منه. رأيت نقاط قوّة لم أكن أعلم بوجودها. الصمت الذي كان يخنقني أصبح ملاذي الآمن. بدأت أركض وأكتب وأرقص بلا هوادة. وفجأة لم تعد قصّتي جرحا، بل نافذة.
    ولم يعد للذين صنعوا معاناتي وزن ولا قيمة. ندوبي أصبحت نجوما. وبدأتُ أتألّق. أ. عبدالله
  • ❉ ❉ ❉

  • يُعتبر رمز القلب ♥ الأكثر شيوعا على هذا الكوكب بعد الصليب والهلال. وتُستخدم هذه الايقونة كرمز للقلب البشري وكاختصار للمودّة. من الناحية الهندسية، شكل القلب شائع في الطبيعة، إذ يظهر في أوراق وأزهار النباتات المختلفة، وفي الفراولة والكرز والبنجر في مقطعها العرضي. وقد رسمه أسلافنا الأقدمون على جدران الكهوف، لكن ما كان يعنيه لهم ما يزال غير معروف.
    علامة ♥ دخلت إلى الأيقونات الغربية عبر الإغريق، الذين استخدموها لتصوير اللبلاب أو أوراق العنب، رمزي الثبات والتجدّد. أرسطو اعتبر القلب مركز العقل، وساد هذا الرأي حتى أيّام الطبيب الروماني جالينوس، الذي قرّر أنه مسؤول عن العواطف، باستثناء الحبّ الذي مكانه الكبد"!
    اتبع المسيحيون التقاليد اليهودية فيما يتعلّق بالقلب، والتي اعتبرته موطنا لجميع مشاعرنا، لكنهم قرّروا أن الحبّ مفهوم ميتافيزيقي لا علاقة له بعالم الجسد أو أيّ جزء منه. ومع ذلك، فقد اعتمدوا ♥ رمزا للكرمة، الرمز الكلاسيكي للبعث، واستخدموه على قبورهم رمزا لأمل القيامة في أيّام الاضطهاد وعبادتهم السرّية.
    وقبِلَ النبلاء الاوربيّون فكرة أن القلب هو مقرّ المودّة، وأدّى ذلك إلى شيوع ممارسة بين مختلف العائلات المالكة في أوروبّا، بدفن قلوبهم في أماكن مختلفة عن بقيّة رفاتهم. وبينما وُورِيتْ أجسادهم في مقابر عائلية، دُفنت قلوبهم في مكان ارتبطتْ فيه سعادتهم بأشخاص معيّنين. فمثلا، دُفن قلب الملك ريتشارد قلب الأسد في مكان ووُضع باقي جسده عند قدمي والده في مكان آخر. إلا أن هذه الطريقة أثارت غضب الكنيسة، فأصدرت مرسوما عام ١٣١١ ينصّ على أن الروح لا تسكن القلب وحده، بل تتوزّع بالتساوي على جميع أنحاء الجسد.
    في عام 1480، بعد وقت قصير من ظهور المطبعة، بدأ التصنيع التجاري لأوراق اللعب في فرنسا. واستَخدمت البطاقات المطبوعة القلوب كمجموعة ثانية لها بدلا من الكؤوس، التي تمثّل الكأس المقدّسة، والتي كانت تظهر حتى ذلك الحين على مجموعات مرسومة يدويّا. وفي عام 1498، أنتج ليوناردو دافنشي أوّل رسم دقيق لقلب بشري، وصنع نموذجا زجاجيا للعضو. وبعد ذلك بمائتي عام، شرح ويليام هارفي وظيفة القلب البيولوجية بالتفصيل وكيف يعمل كمضخّة لتدوير الدم عبر الشرايين والأوردة.
    وعلى الرغم من أن الناس عرفوا الآن أن قلوبهم لا تبدو مثل تلك الأيقونة الصغيرة، وأن القلب نفسه كان أكثر بقليل من مضخّة، إلا أنهم ما زالوا يفضّلون ربط العضلة النابضة أسفل ضلوعهم بالعاطفة.
    مع تزايد شيوع السكّر في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، انتشر على نطاق واسع صنع الحلويات والمعجّنات والكعك بهذه المادّة الباهظة الثمن حتى ذلك الحين. وكان الكرز، الذي كانت ثماره رمزا للعشّاق لفترة طويلة، والذي يكون مقطعه العرضي على شكل قلب، مكوّنا شائعا وزخرفة لكلّ من البونبون والفطائر. ومع ازدهار المستعمرات الإنغليزية في فرجينيا، وُضعت شرائح الفراولة على الفطائر والكعك على شكل قلب ♥ مع ارتباطات جديدة.
    وفي القرن التاسع عشر، تعزّزت عادة تبادل بطاقات عيد الحبّ مع ظهور البريد. وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت تُرسل ملايين البطاقات سنويا، وكان معظمها يحمل رمز ♥ في مكان ما من تصميمها. وفي عام 1977، كانت نيويورك عاصمة عالمية للثقافة والموقع المفضّل لهوليوود. وسرعان ما ارتدى الناس فيها قمصانا مكتوبا عليها أحبّ نيويورك أو I ♥ NY. وهكذا خُفّف معنى الرمز من حبّ الآخر أو الله أو الأم إلى الحماس لمكان أو نشاط، أي الالتزام العاطفي بمدينة أو فريق كرة قدم.
    وعلى الرغم من ذلك، فقد انتصر في المنافسة الرابطُ العاطفي بين "♥ الذي يعني القلب" و"الشعور بالحبّ أو المودّة"، وانتشر الرمز بسهولة في جميع أنحاء العالم. وقدّرت جمعية بطاقات المعايدة الأمريكية أنه أُرسل أكثر من مليار بطاقة في عيد الحب عام 2009، ما يعني أن ما يقرُب من سدس سكّان الكوكب يختارون رمزا معيّنا للتعبير عن عاطفتهم.
    ومؤخّرا ظهرت أدلّة غير مثبتة بعد تدعم معادلة القلب/الحبّ بين متلقّي عمليات زرع القلب، حيث يزعم بعضهم أنهم مرّوا بتغيّرات سلوكية بعد العملية. فمثلا، هناك قصّة عن امرأة كانت هادئة ومهتمّة بالصحّة واللياقة البدنية، لكنها تحوّلت الى شخصية عدوانية ومتهوّرة وأصبحت مغرمة بتناول البيرة ودجاج كنتاكي اللذين كانت تكرهما عندما كانت تعيش بقلبها الأصلي. لكنهما، أي البيرة والدجاج، كانا المفضّلين لدى الشخص الذي تبرّع لها بقلبه، وهو شابّ في الثامنة عشرة من عمره توفّي في حادث درّاجة، حيث كانت البيرة في دمه وأجنحة الدجاج في أمعائه. وأظهر متلقّو قلوب آخرون تحوّلات جذرية مماثلة في عواطفهم. إ. غيتلي

  • Credits
    harvardartmuseums.org

    السبت، سبتمبر 13، 2025

    البخل المعرفي


    في علم النفس، يُعتبر العقل البشري بخيلا معرفيّا بسبب ميل البشر إلى التفكير وحلّ المشكلات بطرق أبسط وأقلّ جهدا. وكما يسعى البخيل إلى تجنّب إنفاق المال، فإن العقل البشري غالبا ما يميل إلى تجنّب الأمور الصعبة أو بذل جهد معرفي.
    ومنذ بداية تطوّر الإنسان العاقل، دُرّبت أدمغتنا على سلوك طريق المقاومة الأقل لأنه كان ضروريّا للبقاء. وعندما عاش أسلافنا في البريّة، كان الحفاظ على الطاقة أمرا بالغ الأهمية. وكان عليهم الصيد والبحث عن الطعام ومواجهة المنافسين والهروب من الحيوانات المفترسة. وكانت خطوة خاطئة واحدة ربّما تؤدّي إلى الموت.
    اليوم، أصبح العالم أكثر أمانا. لكن الدماغ البشري ما يزال عالقا في العصر الحجري ولم يتغيّر كثيرا منذ أيّام الصيد وجمع الثمار. ولهذا السبب، إن لم تقاوم، سيختار الدماغ أسهل الطرق لحلّ المشاكل.
    البخيل المعرفي Cognitive miser مصطلح صاغته العالمتان سوزان فيسك وشيلي تيلر منذ سنوات، ويعني ميل الدماغ للبحث عن حلول للمشكلات تتطلّب أقلّ جهد ذهني. أي أن عقولنا كبشر بُرمجت على عدم التفكير والبحث دائما عن طرق مختصرة كما لو أن الدماغ لا يعرف سوى طريق واحد.
    لذا يمكنك إلقاء اللوم على "التطوّر" إذا وجدت صعوبة في النهوض من الأريكة والذهاب إلى النادي الرياضي مثلا، أو إذا كنت تؤجّل تنفيذ مشاريع صعبة، أو إن وجدت نفسك تفعل أشياء مثل النوم لوقت متأخّر، أو تناول الوجبات السريعة، أو الاندفاع لشراء ما قد لا تحتاجه. المشكلة أن هذه الأمور السهلة تصعّب الحياة. في البداية تبدو جيّدة، لكنها مع مرور الوقت تسبّب الملل والإحباط والندم.
    هل تميل الى قراءة مختصرات للروايات او الكتب الطويلة بدلا من الكتب والروايات الاصلية وتفضّل أن تقرأ في يوم واحد ما قد يستغرق أسابيع؟ إذن أنت شخص بخيل معرفيّا. والمفروض أننا نحتاج لأن نقرأ بتمعّن أكبر لنتمكّن من تكوين الروابط التي تشكّل أساس التفكير المنطقي وحلّ المشكلات. أما الطرق المختصرة أو القفز إلى النتيجة النهائية فإن من شأنه أن يحرم الأطفال والكبار من مهارات التفكير الاستنتاجي، أي تلك المهارات التي بدونها يصبح الانسان ساذجا ويصدّق بسهولة.
    وإن كنت ممّن يكتفون برؤية الصور وتعتقد أنها تُغني عن آلاف الكلمات فأنت شخص بخيل معرفيّا. صحيح أن الصور وسيلة رائعة لإضافة سياق أو توضيح للكلمات، لكنها لا تكفي بديلا عن الكلمات.
    وإن كنت تفضّل مشاهدة فيلم مأخوذ عن رواية على قراءة الرواية نفسها، فأنت بخيل معرفيّا. صحيح أن بعض الأفلام مبهرة بصريّا ومليئة بالإثارة ويمكن مشاهدتها في أقلّ من ساعتين، كما أن الفيلم يُعدّ أكثر جاذبيةً من الكتاب، لأنه يتطلّب جهدا ذهنيّا أقلّ بكثير من القراءة. غير أن قراءة الكتاب تتضمّن صياغة الكلمات والجمل وإنتاج تصوّراتك الداخلية الخاصّة، وهو ما لا توفّره مشاهدة فيلم.

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    وإن كان أطفالك يحبّون الأفلام، فيمكن استخدامها كحافز لتشجيعهم على القراءة، كأن تأخذ طفلك الى السينما في كلّ مرّة ينتهي فيها من قراءة كتاب. أطفال اليوم لا يعرفون سوى الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. وكآباء، علينا التأكّد من أن عاداتهم لا تتحوّل إلى سلوك ضارّ أو إدماني.
    وبالنظر إلى هذا الكمّ الهائل من المعلومات التي تغمرنا بها الإنترنت، قد تجد أدمغتنا صعوبة في التركيز والانتقال من وظيفة إلى أخرى بكفاءة. هل انتهى زمن الحوار بين البشر؟ ربّما يكون هذا السؤال مبالغا فيه قليلا، لكن الفكرة ليست بعيدة عن الواقع. فبالنسبة للبعض، أصبح الهاتف الذكي بديلا عن المحادثة. ونحن اليوم لا نحتاج فقط الى التواصل الرقمي، بل نحتاج أيضا لمنصّة تواصل أفضل، أي الكلمة المنطوقة.
    إن من الصعب استيعاب فكرة أن المحادثة فنّ في طريقه إلى الزوال، ولكن هل تعاني الكتابة من نفس التدهور؟ ينبغي أن تكون الكتابة "جملا مصاغة بعناية" لا مجرّد كلمات منطوقة مكتوبة. تخيّل ما قد يفكّر به سقراط أو شكسبير أو دوستويفسكي لو عاشوا بيننا اليوم.
    من المؤسف أن نلاحظ اليوم أن بعض أساتذة الجامعات يميلون إلى خفض معايير كتابتهم كي يجاروا عامّة الناس. ومع كلّ تطور تكنولوجي، يبدو أننا نُضعف مهاراتنا "الأساسية" كالقواعد والإملاء والكلام.
    لقد نشأ جيل Z "أي جيل الإنترنت والهواتف الذكيّة" ومع كلّ منهم جهاز محمول في يده. ونتيجةً لذلك، أصبح لديهم ميل وتوقّع بأن يكون كلّ شيء متاحا فورا. كما صار عالمهم يعتمد على التغريدات والمعلومات المختصرة، بدلاً من الجمل المصاغة بعناية والعروض المدروسة والمُحكمة.
    إن من الضروري أن نعلّم أطفالنا مهارات الكتابة الرفيعة. فالمحادثة والكتابة فنّان منفصلان، وكلاهما أساسي بطريقته الفريدة. ويجب أن يظلا متفرّدين لأن كلا منهما يعزّز الإدراك بوسائل مختلفة، وإن كانت بنفس الأهمية.
    إننا جميعا مذنبون بالبخل المعرفي بنسبة أو بأخرى. والقاسم المشترك بين معظمنا هو القدرة على التغيير. ولا يتطلّب الأمر أكثر من اتخاذ قرار واعٍ بتغذية عقولنا بأفضل طريقة ممكنة وبتجنّب الأمور التي تستنزفها. ولنتذكّر أن الدماغ مثل العضلة، كلّما عملنا عليه أكثر، ازداد قوّةً ومناعة.

    Credits
    researchgate.net
    psychologytoday.com

    الاثنين، سبتمبر 01، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • وصل ناسكان مسافران إلى نهر حيث التقيا بامرأة. وخوفا من أن يجرفها التيّار، سألتهما إن كان بإمكانهما حملها كي تعبر النهر. فتردّد أحدهما، لكن الآخر وافق وحملها على كتفيه وعبر بها النهر ثم أنزلها على الضفّة الأخرى. وشكرته المرأة على صنيعه وانصرفت.
    وبينما واصل الناسكان طريقهما لساعات، كان أحدهما غارقا في التفكير والهم. ولم يستطع كتم صمته فقال لرفيقه: يا أخي، تُعلّمنا تربيتنا الروحية أن نتجنّب أيّ احتكاك بالنساء، لكنك حملت تلك المرأة على كتفك!" فأجابه الناسك الثاني: لقد حملتها لساعة ثم وضعتها على الجانب الآخر من النهر. لماذا ما تزال أنت تحملها بعد كلّ هذه الساعات"؟!
    هذه القصّة على بساطتها تحمل رسالة جميلة عن عيش اللحظة. كم مرّة حملنا آلام الماضي، ومعها الشعور بالاستياء، بينما الشخص الوحيد الذي نؤذيه حقًا هو أنفسنا. جميعنا نمرّ بأوقات في حياتنا، حيث يقول لنا الآخرون كلاما غير لائق أو يتصرّفون معنا بطريقة مؤذية. والتوقّف عند هذا كثيرا يُثقل كاهلنا ويستنزف طاقاتنا. والأفضل أن نتخلّى عمّا لم يعد يفيدنا ونركّز على اللحظة الراهنة، لأن "الآن" هو كلّ ما نملكه.
    لقد خالفَ أحد الناسكَين القواعد، ولكن لسبب وجيه. وبمجرّد أن أنجز غايته، وضع المرأة أرضاً وواصل طريقه ولم يُعِر الأمر اهتماما. بينما تذكّر الآخر تصرّف زميله بعد أن أصبح فعلا من الماضي، مع أن الماضي حدث وانتهى ولا يمكن تغييره، ولا فائدة من تذكّره إلا للتعلّم من تجاربه. الحياة تمضي بنا في لمح البصر. وبدلا من الغرق في الماضي واسترجاعه، يجب ممارسة عيش اللحظة الحاضرة حيث نجد السلام والرضا.
    لا بأس من مخالفة القواعد من أجل قضية نبيلة، كما فعل الناسك مع المرأة. المشكلة أن العقل البشري بارع جدّا في عادة الانغماس في الماضي. إنه يعشق التمسّك بالمظالم والجروح القديمة، حتى وإن كان ذلك يسبّب المزيد من المعاناة ويستنزف طاقاتنا ويُضعِف قدرتنا على السعادة في الحاضر.
    هذه القصّة تُظهر أيضا عدم وجود مطْلَقات حقيقية في الحياة، وأن ما يُعتبر فعلا سيّئا قد لا يكون كذلك. وهي تذكّرنا بقصّة الرجل الذي رآه الناس وهو يدفع شخصا مسنّاً بعنف. لكن لم يرَ أحد نجاة المسنّ بأعجوبة من سيّارة مسرعة. أحيانا لا نرى إلا من زاوية واحدة.
    أيضا تعلّمنا القصّة أنه لا يجب أن نُثقل على أنفسنا بأحكام الآخرين الذين يضغطون على خياراتنا. في الحياة الواقعية، الثقة بتصرّفاتنا دون الحاجة إلى موافقة الآخرين أو تدخّلهم تُحرّرنا. ومثل الناسك الإيجابي، فإن اتخاذ خيارات تتوافق مع قيمنا والتخلّي عن طلب موافقة أو استحسان الاخرين باستمرار أمر محبّذ وأساسي.
    كما تشجّعنا القصّة على التخلّص من الأعباء غير الضرورية والتركيز على ما هو أمامنا والتصرّف برحمة وفطنة. ويجب أن نفعل الأشياء التي تبقينا متقدّمين وتمكّننا من توظيف طاقاتنا لإحداث تغيير إيجابي في حياتنا.
    أحيانا قد لا يفهم الآخرون سبب تصرّفك وقد يشكّكون في اختياراتك. لكن إذا شعرت أن الرحمة أمر صائب فلا بأس، حتى لو لم يفهمها الآخرون.
    والآن ما الشيء الذي لا تزال متمسّكا به والذي من الأفضل تركه "على الجانب الآخر من النهر"؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • "نساء بملابس زرقاء" إسم لوحة جدارية مينوية مشهورة اكتُشفت في قصر كنوسوس بجزيرة كريت، ويعود تاريخها إلى حوالي عام 1450 قبل الميلاد.
    تصوّر اللوحة نساءً يرتدين ملابس زرقاء أنيقة، ويشاركن في مناسبة طقوسية أو اجتماعية. وهن يظهرن بتسريحات شعر متقنة ومجوهرات فاخرة ومرصّعة ببذخ، وملابس زرقاء على خلفية مفعمة بالحياة، وكلّ هذه العناصر تقدّم رؤى قيّمة حول الجماليات والأزياء والبنية الاجتماعية للثقافة الإيجية القديمة وتبرز المهارات الفنّية المتطورة للمينويين.
    كما تسلّط الجدارية الضوء على أهمية المرأة في المجتمع المينوي واحتمال أنها ربّما لعبت أدوارا مهمّة في الأنشطة الدينية والاجتماعية. ويؤشّر استخدام الألوان والتفاصيل الطبيعية في اللوحة إلى مستوى عالٍ من الرقي الفنّي، وهو سمة مميّزة لتلك الحضارة. والجدارية تُعدّ نموذجا ممتازا لفنّ الجداريات الرائع الذي كان يزيّن قصور أهالي كريت القدماء.
    ويعود الفضل في ترميم هذه اللوحة وغيرها من جداريات كنوسوس الى خبير يُدعى آرثر إيفانز، الذي قيل إنه بذل جهودا كبيرة لإعادتها الى الحياة، رغم أن ما تبقّى من اللوحات الأصلية لا يتجاوز أحيانا بضع بوصات مربّعة، أما الباقي فهو إعادة بناء وثمرة لخيال مبدع.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ نيتشه محرِّض مجنون كَرّسَت آراؤه المستفزّة مبادئ الفاشية والموت والدمار في العالم. ومع ذلك ما يزال قطيعُه حيّا يُرزق وجنونه يثير العالم الحديث. كما لا يزال الجهل السياسي والفلسفي والروحي هو القناعة التي تؤجّج الاضطرابات في العالم.
    رجل لم تُجدِ ثرثرته الجرمانية المتأمّلة نفعا لأحد، بما في ذلك هو نفسه. وتستطيع النساء أن يدركن مرض الرجل. إذ لم يجد هذا "المفكّر العظيم" امرأة واحدة توافق على الزواج منه. هذا كلّ ما في الأمر. تبّاً لنيتشه ولأقواله! س. اسيري

    ○ مع أن العالم مليء بالمعاناة، إلا أنه مليء أيضا بالتغلّب عليها. لذا لا يرتكز تفاؤلي على غياب الشر، بل على إيمان راسخ بغلَبة الخير، وسعي دائم للتعاون معه حتى ينتصر. أحاول جاهدةً تعزيز القوّة التي منحني إيّاها الله لأرى الأفضل في كلّ شيء وفي كلّ شخص، وأجعل هذا الأفضل جزءا من حياتي. هيلين كيلر

    ○ لماذا تحبّ زوجتك؟ لأن أنفها يتنفّس هواءَ عالم أعرفه، لذا أحبّ ذلك الأنف. ولأن أذنيها تسمعان موسيقى قد أغنّيها طوال الليل، لذا أحبّ أذنيها. ولأن عينيها تسرّان بفصول الأرض، ولذلك أحبّ تلكما العينين. ولأن لسانها يعرف السفرجل والخوخ والتوت البرّي والنعناع والليمون الحامض، لذا أحبّ سماعه يتحدّث. ولأنّ جسدها يعرف الحرّ والبرد والتعب، أعرف النار والثلج والألم. راي برادبري

    ○ لم يهيّئني شيء، لا كتب ولا معلّمون ولا حتى والداي. سمعت ألف قصّة، لكن لم يوصف لي هذا المكان من قبل. فهمته عندما رأيته. يسمّيه البعض الصحراء الأمريكية، ويسمّيه آخرون السهول الكبرى. لكن هذه العبارات ابتكرها أساتذة جامعات محاطون بوهم النظام وخيال الصواب والخطأ.
    ولكي تعرف المكان، يتعيّن عليك أن تمشي فيه وتنزف في ترابه وتغرق في أنهاره. حينها سيتضح لك معنى اسمه. إنه جحيم، مع شياطين في كلّ مكان. لكن إن كان هذا جحيما وأنا فيه، فلا بدّ أنني شيطان أيضا، وأنا ميّت بالفعل. السهول ليست لبناء مسكن أو مأوى، فمواردها محدودة. السهول للمتشرّدين والرحّالة ورعاة البقر. مسكنهم سرج، والسماء سقفهم، والأرض لحافهم. من حوارات فيلم 1883

    ○ هل تعلم أن من يخضعون لعملية زرع نخاع العظم تُدمَّر خلايا نخاعهم العظمي وتُستبدل بخلايا المتبرّعين. وفي معظم الحالات، يحتفظون ببعض نخاع عظامهم، أي أن خلايا دمهم تصبح مزيجا من الحمض النووي الخاص بهم وحمض المتبرّع. وفي الحالات الأكثر تطرّفا، تحتوي جميع خلايا دمهم على الحمض النووي الخاص بالمتبرّع فقط. ليس هذا فحسب، بل حتى عند خضوعك لعملية نقل دم، تتحوّل مؤقّتا إلى كائن بشري هجين! ك. ماكفادن

    ○ شكوكية ديفيد هيوم هي من النوع المميت، لأنها جذرية. فنحن، برأيه، لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كانت الشمس ستشرق غدا أم لا، وما إذا كان العالم الخارجي موجودا بالفعل، وما إذا كانت "أنانا" أو ذواتنا لها هويّة. وفي نفس الوقت، فإن شكّه عقيم، لأن جميع هذه الاعتبارات نظرية. فبمجرّد أن يغادر الفيلسوف مكتبه، يصبح متأكّدا من الدرَج الذي ينزله، ويرتّب ملابسه بثقة لليوم التالي. يبدو أن الطبيعة فينا "معقولة" أكثر من عقولنا. باتريشيا دي مارتيلييه

    ○ إن سكّان الجبال، الأكثر نقاءً أخلاقيا، هم أقوى أجسادا ويميلون الى "مضاعفة" الحروف الساكنة ثلاث مرّات. أما سكّان السهول، فبالإضافة إلى كونهم فاسدين أخلاقيّا، فإنهم أيضا منحطّون جسديّا و"يشوّهون" الحروف الساكنة. أنطونيو غرامشي

  • Credits
    metmuseum.org

    الأربعاء، أغسطس 20، 2025

    في مديح العزلة


    ○ لكي تعيش وحيدا، يجب أن تكون إما وحشاً أو إلهاً!
    أرسطو

    في حين تبدو العزلة شأنا شخصيا للغاية، إلا أنها ترتبط بتجربتنا الجماعية كبشر. فعندما نمارس الانفراد بأنفسنا، فإننا نشارك في تقليد يمتدّ عبر الثقافات والقرون. ونحن نتفاعل مع أسئلة لطالما حرّكت الحياة البشرية منذ بداياتها: من أنا حين لا يراقبني أحد؟ وما الذي يهمّ أبعد من الإنجاز والقبول؟ وماذا يعني أن تكون إنسانا كاملا؟
    في ثقافة تكافئ العمل، يُعدّ السكون فعل تمرّد. وفي عالم مدمن على الضوضاء، يعدّ اختيار العزلة خيارا جذريّا. وفي مجتمع يطالبنا بإصلاح أنفسنا وتطويرها وتحسينها، فإن أشجع ما يمكننا فعله هو التوقّف والتنفس والشعور.
    العزلة لا تَحلّ جميع مشاكلنا، لكنها تكشف أيّها حقيقي. تُظهر لنا من أصبحنا ومن يمكننا أن نكون. لأن الشخص الذي كنتَ تتجنّبه، والذي يظهر في الصمت، قد يكون الشخص الذي كنت تبحث عنه طوال الوقت.
    والعديد من الشخصيات البارزة في التاريخ ارتقوا إلى مكانتهم الأسطورية مستغلّين منافع فترات العزلة الطويلة. فالأربعون يوما وليلة التي قضاها المسيح في صراعه مع الشيطان في الصحراء دفعته إلى ذروة روحانيّته. ووجد لاو تزو وبوذا وموسى في العزلة الرؤى الأخلاقية العظيمة التي حدّدت حياتهم. وسعى ماركوس أوريليوس وفريدريك نيتشه ورالف إيمرسون وألبير كامو وهنري ديفيد ثورو وغيرهم الكثير من الفلاسفة، إلى ملاذ في العزلة لصقل شخصياتهم وتطوير رؤاهم الفلسفية، بعيدا عن التأثير المُفسد للمجتمع.
    كتب نيتشه يقول: عندما أكون بين أناس كثيرين، أعيش كما يعيشون ولا أفكّر كما أفكّر حقّا. وبعد فترة، أشعر كما لو أنهم يريدون نفيي عن نفسي وسلب روحي. ولا أستعيد طبيعتي الخيّرة إلا بعد أن أذهب الى البرّية".
    الاستمتاع بالعزلة نوع من الفرح الصافي والهادئ، لا علاقة له بالأمور الماديّة أو المصالح. وينبغي أن تكون نوعا من الممارسة الروحية. وهي لا تتطلّب طموحات جامحة، بل قلبا منفتحا. ولا تتطلّب زهدا، بل هدوءا وضبطا للنفس. ولا تتطلّب اعتزالا في الجبال، بل لامبالاة بالشهرة والثروة.
    الرحّالة ريتشارد بيرد أمضى شتاءً وحيدا في أنتاركتيكا، حيث قاسى بردا قارسا وليالي طويلة مظلمة، وعلى حدّ تعبيره "عزلة لم تستطع أيّ قوّة على الأرض رفعها لستّة أشهر على الأقل". ولكن بدلا من أن يكون وحيدا، كانت هذه الفترة الشديدة من العزلة هي الأكثر تحوّلا في حياته. كتب في كتابه "وحيداً" يقول: نعم، العزلة أعظم مما توقّعت. إحساسي بالقيم يتغيّر، والعديد من الأشياء التي كانت في ذهني سابقا تبدو الآن وكأنها تتبلور".
    ولاحظ آرثر شوبنهاور أنه لا يمكن للإنسان أن يكون على سجيّته إلا ما دام منعزلا. ومن لم يحبّ العزلة، فلن يحبّ الحرّية، لأنه لا يكون حرّا حقّا إلا عندما يكون وحيدا. القيود حاضرة دائما في المجتمع، كرفيق لا خلاص منه. وكلّما كان الإنسان عظيما، صَعُب عليه تحمّل التضحيات التي يتطلّبها أيّ تواصل مع الآخرين".
    ويقول جان بول سارتر: تخيّلوا أنفسنا وحدنا في حديقة. نستمتع بتجربتنا مع الأشجار والشمس والطيور، فهي موجودة لنا وحدنا. ولكن بعد ذلك يجلس شخص آخر على المقعد المقابل لنا. ندرك أننا أصبحنا الآن شيئا في وعي شخص آخر، وهذا يجلب لنا خيبة الأمل ويقلّل من حرّيتنا ويعطّل تواصلنا المثالي مع البيئة". وهذا ما قصده سارتر بعبارة "الجحيم هو الآخرون". أو كما كتب: بمجرّد ظهور الآخر أصبحُ في موقف إصدار أحكام على نفسي كموضوع، لأنني أبدو للآخر كموضوع".
    في العزلة، نكون أحرارا في الاستمتاع بما يحيط بنا دون وعي مزعج بأننا مجرّد كائنات في مجال إدراك شخص آخر. نحن أحرار في فعل ما نريد وقتما نريد. يمكننا أن نفكّر أو نشعر بأيّ شيء ونتبع شغفنا دون اكتراث بما سيفكّر به الآخرون عنا أو بما إذا كنا نلبّي توقّعاتهم أو مطالبهم.
    الفيلسوف الإنغليزي وليام هازليت اعتاد القيام بنزهات طويلة بمفرده، لمجرّد الاستمتاع بحرّية العزلة، وكتب يقول: إن روح الرحلة المنفردة هي الحرّية، الحرّية الكاملة للتفكير والشعور والفعل، كما يشاء المرء. تحبّ أن يكون كلّ شيء على طريقتك؟ هذا مستحيل إلا إذا كنت وحدك".
    حرّية العزلة قِيمة بحدّ ذاتها، ولكنها أيضا وسيلة لاكتشاف الذات والنموّ الشخصي. فعندما نكون وحدنا، وفي غياب القيود الاجتماعية التي تقيّد تجربتنا، يمكننا الانخراط فيما أسماه فيليب كوخ التناغم مع الذات الذي يعرّفه بأنه "التدفّق الحر، أي تدفّق الأفكار والرغبات والعواطف إلى الوعي دون أيّ رقابة أو تحكّم".
    ويضيف: إن انفتاحنا على كامل نطاق عواطفنا وأفكارنا ورغباتنا وصورنا الداخلية يضعنا على تماسّ مع جوانب ذواتنا التي ندفنها تحت الأقنعة الاجتماعية التي نرتديها عندما نكون مع الآخرين. لكن في العزلة، نكون أحرارا في خلع هذه الأقنعة، إذ لا يوجد من يستمع إلينا أو يستجيب لنا سوى صوت ضمائرنا".

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    الاستمتاع بالعزلة سلوك أصيل، كطريقة بعض الناس في التعامل مع تعقيدات العالم، لا عجلة ولا بطء، يستمتعون بجمال زهرة متفتّحة وينتظرون صفاء المطر المتساقط، لا تعميهم الشهرة ولا يخدعهم النفاق. إنهم متواضعون، لطفاء وغير متنافسين. ومع ذلك يتمتّعون بشعور من الكبرياء والجرأة.
    ويقول توماس ميرتون: ليس كلّ البشر مدعوّين للانطواء، لكن كلّ البشر يحتاجون إلى ما يكفي من الصمت والعزلة في حياتهم ليتمكّنوا من سماع صوتهم الداخلي العميق، ولو من حين لآخر. وعندما لا يُسمع هذا الصوت الداخلي تصبح الحياة بائسة ومرهقة".
    ومع ذلك، فإن الأصوات التي نسمعها في العزلة ليست دائما ممتعة. أحيانا يتضمّن التناغم مع الذات استعادة صدمات الماضي وظهور مشاعر مؤلمة ومخاوف وقلق كنّا نتجنّبها بانغماسنا في ملهيات المجتمع.
    وفي حين أن الصراعات والمشاعر التي تظهر في العزلة قد تسبّب المعاناة، فإن ظهورها يمنحنا فرصة لمواجهتها بوعي. وإذا اغتنمنا هذه الفرصة للجلوس في صمت والسماح لمخاوفنا ومشاعرنا المؤلمة بالسيطرة علينا، يمكننا معالجتها وحلّها والتخلّص منها وشفاء مشاكل الصحّة النفسية المزمنة التي سبّبتها.
    يقول ألبير كامو: عندما يتعلّم الإنسان كيف يبقى وحيدا مع معاناته وكيف يتغلّب على شوقه للهروب، فلن يتبقّى له الكثير ليتعلّمه".
    هذه القوّة العلاجية للعزلة ليست مبالغة. فقد طوّر طبيب ياباني شكلا من أشكال العلاج النفسي قائما على مبادئ الزِن، تخلّى فيه عن التدخّل العلاجي والدوائي لصالح توفير بيئة من العزلة للمريض، حيث يُجبر على مواجهة المعاناة التي كان يتجنّبها.
    وعند وصول المريض العصابي إلى المستشفى، يجب عليه أن يستريح تماما في الفراش لمدّة تصل إلى أسبوع. وخلال هذه الفترة، لا يُسمح له بالاختلاط بأيّ شخص آخر. ويجب عليه الامتناع عن القراءة أو الكتابة أو التدخين أو استخدام الهاتف أو الاستماع إلى الراديو أو مشاهدة التلفزيون. ويُترك المريض وحيدا مع مرضه حتى يصبح هو ومرضه شيئا واحدا، وعليه أن يتقبّل مرضه في عزلة تامّة.
    كانت معظم ثقافات الماضي، حتى تلك التي كانت الحياة فيها أكثر جماعيةً، مدركةً لفضائل الوحدة العظيمة، بل كانت في بعض الأحيان تقدَّرها أكثر من الاختلاط الاجتماعي. كان الأفراد يقضون فترات طويلة من العزلة لتسهيل التحوّلات الحياتية الكبرى. وكانت رحلات العزلة جزءا لا يتجزّأ من طقوس العبور التي يمرّ بها الصبيّ المراهق إلى مرحلة الرجولة.
    فحسب عادات بعض هنود المكسيك، عند بلوغ الطفل السادسة من عمره، يؤخذ ليعيش في البرّية بمفرده لبضعة أشهر ويختفي مع الأغنام دون أن يرى أيّ شخص آخر قبل أن يعود. وأيّ شيء يحتاجه للبقاء على قيد الحياة يجب أن يصنعه أو يبحث عنه بنفسه. كان يصطاد لطعامه ويحمي نفسه وأغنامه من الحيوانات المفترسة ويواجه خوفه من المجهول والظلام. وبذا يحقّق التناغم مع ذاته ويواجه وحدته وقلقه وتبعاتهما ويحوّل عقله من عدوّ عنيد إلى صديق موثوق.
    والعزلة الطقوسية هي مقدّمة لحقيقة جوهرية، وهي أنه مهما كانت حياتنا الاجتماعية قبليّة، فإننا في الرحلة وحدنا ويجب أن نتعلّم أن نستمدّ القوّة والعزاء من الداخل. يجب على الصبيّ أن يتعلّم الاعتماد على ذكائه وشجاعته وأسلحته، وإلا هَلك.
    يقول توماس وولف: أن تكون حيّا يعني أن تكون في جسد، وأن تكون في جسد يعني أن تكون منفصلا عن جميع الأجساد الأخرى. وأن تكون منفصلا يعني أن تكون وحيدا. وهذا ينطبق على كلّ مخلوق، وينطبق على الإنسان أكثر من أيّ مخلوق آخر. قدره أن يكون وحيدا وأن يدرك هذا. وعظمة الإنسان تكمن في تمركزه داخل ذاته وانفصاله عن عالمه. وحده من يكون وحيدا يستطيع أن يدّعي أنه إنسان. هذه هي عظمة الإنسان، وهذا هو عبئه".
    لطالما كانت العزلة شائعة في كلّ ثقافة معروفة عبر التاريخ، باستثناء ثقافتنا اليوم. وهذا يعكس نفور الناس العميق من العزلة. فبدلا من اعتبارها هبة ثمينة، يراها الكثيرون عبئا يجب تحمّله للتخفّف أحيانا من كثرة الارتباطات الاجتماعية. والأسوأ من ذلك، أنه يُنظر إليها كشيء يجب التهرّب منه.
    فعندما لا يكون الآخرون متواجدين معنا، يحدّق معظمنا في الشاشات لصرف انتباهنا عن وحدتنا والأصوات التي قد نسمعها في الصمت. ولعلّ هذا الهروب الجماعي من العزلة هو السبب في أن المرض والضعف النفسي أصبحا القاعدة الجديدة. فكما لاحظ فيلسوف القرن السابع عشر بليز باسكال فإن "جميع مشاكل البشرية تنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده".

    Credits
    zingtrain.com

    الثلاثاء، أغسطس 12، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ كان الجيش رمزا للألمان. لكنه كان أكثر من مجرّد جيش، كان غابة متحرّكة. لا يوجد بلد حديث آخر في العالم ظلّ فيه الشعور بالغابة حيّا كما في ألمانيا. صلابة الأشجار المنتصبة وتوازيها وكثافتها وعددها تملأ قلب الألماني بمتعة عميقة وغامضة. وحتى اليوم، لا نزال نبحث عن الغابة التي عاش فيها أسلافنا ونشعر بالاتحاد مع الأشجار.
    في عام ١٩٣٦، ظهرت الغابة الألمانية في فيلم دعائي اسمه "الغابة الأبدية"، وهو ترنيمة سينمائية كئيبة بالأبيض والأسود تنشِد للغابات الألمانية، مع تعليق صوتي يناسبها يقول: إن موت الغابة وتحوّلها منسوج عبر التاريخ. الشعب مثل الغابة، قائم في الأبدية. نأتي من الغابة ونعيش مثل الغابة. من الغابة نصنع الوطن والمكان". كلمات مثل الوطن والشعب مثقلة بالأيديولوجيا ومن الأفضل تجنّبها اليوم. المكان، الغابة. من الصعب العثور على كلمات بالألمانية لتحلّ محلّهما. وكظاهرتين، هما مستمرّتان ولا يمكن الاستغناء عنهما. هانا انغلماير

    ❉ ❉ ❉

    ○ أحيانا يأتي الحبّ فجأة كانفجار هائل وبرق ساطع، كإعصار سماويّ يهبّ على الحياة ويغيّرها ويقتلع الإرادة كورقة شجر ويجرف القلب كلّه إلى الهاوية. الأشياء الجميلة والبسيطة هي الحقيقية، والحفاظ عليها وتقديرها هو ما يمنحك الشجاعة للتمسّك بالحياة.
    هذه هي بالتحديد رسالة رواية "مدام بوڤاري" لغوستاڤ فلوبير التي يحتاج قراءتها الذين يمرّون بمصاعب في حياتهم ويرومون عزاءً وتغييرا الى الأفضل. فلوبير يعلّمنا درسا بسيطا جدّا وثمينا للغاية، لكننا غالبا ما ننساه، وهو أن ننظر إلى الجانب المشرق من الحياة وأن لا متعة أعظم ممّا نملك. ليام ستيوارت

    ❉ ❉ ❉

    ○ لطالما اهتممتُ بالعلاقة بين البشر والحيوانات. وأرى أن الحيوانات الأليفة أكثر من مجرّد رفقاء للإنسان، فهي تلعب دورا محوريّا في تعزيز صحّتنا النفسية. من حبّ الكلب غير المشروط للإنسان، إلى وجود القطّة المهدّئ، تمتلك الحيوانات الأليفة طريقة فريدة لتخفيف التوتّر والقلق والشعور بالوحدة. ومن تجربتي مع الكلاب التي كنتُ قريبة منها، وجدت أنها تُظهر حبّا غير مشروط بطريقة يعجز عنها البشر.
    وقد تجاوز عمق الحبّ الذي لمسته من رفاقي الحيوانات أيّ شيء شعرتُ به في علاقتي بالبشر. وثبت أن الكلاب تخفّف من قلق الانسان وتمنحه شعورا بالرضا. كما يساعد وجود كلب على خفض مستويات الكورتيزول المرتبطة بالتوتّر والقلق. وقد يُفسّر هذا سبب تبنّي الكثير من الناس للكلاب خلال فترة الجائحة. وعندما كنت أعاني من مرض خطير، وجدتُ راحة كبيرة في رفيقي "كلب الراعي" الألماني. كان وجوده علاجا بحدّ ذاته. ميشيل سليتر

    ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

    ○ من بين مئات الرسائل التي كتبها العالم الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي، هناك رسالة شيّقة في الأخلاق بعنوان "دفع الأحزان"، يمكن وصفها بأنها نوع من العزاء الفلسفي. وتتكوّن من نصائح عملية وحكَم وأمثال وحكايات تساعد على نبذ الحزن ومضاعفة السعادة.
    وهناك مقطع لافت في تلك الرسالة، يقول لنا فيه الكندي: تخيّلوا أننا في رحلة بحرية الى احدى الجزر على متن قارب ممتلئ إلى أقصى حدّ بالركّاب وأمتعتهم. يرسو القارب مؤقّتا وننزل منه لنستمتع بوقت فراغ في استكشاف الجزيرة. وعلى الجزيرة، قد نسبح مع الأسماك ونشتري بعض الأشياء ونتمشّى على الشاطئ ونستكشف أنواعا جديدة من النباتات والحيوانات ونصادق السكّان الأصليين ونقطف الثمار من الأشجار، أو حتى ننصب أرجوحة للاسترخاء.
    وبعد قليل، سيدعونا القبطان للعودة إلى القارب لمواصلة رحلتنا. قد يشعر بعضنا بالحزن لترك ممتلكاتنا الجديدة التي تعبنا في جمعها. وقد نحاول إقناع أنفسنا بأننا نستطيع بطريقة ما إيجاد طريقة لوضعها على متن القارب. وقد يعاني آخرون من فقدان صداقاتهم الجديدة. وندرك ونحن نعود إلى القارب أن كلا المطلبين مستحيل. حياتنا على الأرض تشبه التوقّف في هذه الجزيرة.
    وما يريد الكندي أن نستنتجه من هذه القصّة هو أننا قريبا سنُدعى للعودة إلى قاربنا لمواصلة رحلتنا الكونية إلى الحياة الأخرى، وأن ندرك أن الحزن أو الأسى هو نتيجة التعلّق بأشياء لن تبقى معنا. يُقال إن إبكتيتوس كان قد أسدى نصيحة مقلقة ذات مرّة، وهي أنه عند تقبيل طفل، يجب على المرء أن يذكّر نفسه بأن الطفل قد يموت غدا. هذا الشعور الرواقي يتردّد صداه في الفكرة القرآنية القائلة بأن "كلّ شيء هالك إلا وجهه".
    كان الكندي مدركا لهذا الأمر بالتأكيد. وهو يرى أن الخسارة حتمية، لكن الحزن ليس كذلك؛ إنه خيار يعتمد على كيفية استجابتنا للمواقف التي تضعها الحياة في طريقنا. وعلينا أن نقرّر أنواع التعلّقات التي نبنيها وأن ننمّي العادات الصحيحة التي ستحمينا من الوقوع في دوّامة الحزن كلّما فقدنا شخصا أو شيئا. تور محمود

    ❉ ❉ ❉

    ○ عندما يبدأ يوم جديد، تجرّأ على الابتسام بامتنان. وعندما يحلّ الظلام، حاول أن تكون أوّل من يضيء النور. وعندما يشيع الظلم، تجرّأ على أن تكون أوّل من يدينه. وعندما تبدو الحياة وكأنها تهزمك، لا تتوقّف عن المقاومة. وعندما يبدو أنه لا يوجد أمل، حاول إيجاد بعضه. وعندما تشعر بالتعب، ثابر على الاستمرار. وعندما تكون الأوقات صعبة، كن أنت أقوى.
    وعندما يتألّم شخص ما، ساعده على الشفاء. وعندما يتوه شخص، ساعده في العثور على الطريق. وعندما يسقط صديق، كن أنت أوّل من يمدّ إليه يده. وعندما تتقاطع طرقك مع شخص آخر، حاول أن تجعله يبتسم. وعندما تشعر بالرضا، ساعد شخصا آخر على الشعور بالرضا أيضا. وفي جميع الأوقات، حاول أن تكون أفضل ما يمكنك! ستيف مارابولي

    ❉ ❉ ❉

    ○ هناك لمحة من السحرة والساحرات والشامانات وحتى الفودو في عالم الرسّام بيتر رودولفو. لوحاته عبارة عن أدغال خلابة وشواطئ كاريبية مشمسة وأكشاك طعام ومناظر طبيعية خضراء وجبال صخرية ومناظر بحرية متنوّعة وماء في كلّ مكان، في البحيرات والجداول والنوافير والأنهار، يتلألأ ويتدفّق ويتدفّق.
    رودولفو ينحدر من أصول مختلطة، دانماركية وإنغليزية وترينيدادية وألمانية. ولد في واشنطن وقضى معظم طفولته في أستراليا والهند قبل أن تستقر عائلته في إنغلترا. أُرسل إلى مدرسة داخلية سرعان ما كرهها وحلم بسرقة قارب والهروب إلى الهند. التحق بدورة فنون جميلة في مدرسة نورويتش للفنون.
    تكثر في أعماله تفاصيل من شوارع بائسة ومهمَلة. وهي ليست أعمالا سردية بالمعنى الحرفي، بل تحمل طابعا أدبيا قويّا يشبه حزنَ مقدّمة إليوت: والآن يلفّ مطر عاصف بقايا أوراق ذابلة قذرة حول قدميك وصحف من الأرض اليباب على الستائر المكسورة وأواني المداخن".
    تحمل هذه اللوحات وحدة إدوارد هوبر، أشخاص يلفتون الانتباه بغيابهم، لكنه يضيف إليها دائما لمسة سحرية: كلب يتكاسل في الميزاب بينما يراقبه طائر أسود؛ أسلاك تلغراف معلّقةٌ كعامود فوق زقاق خلفي، ومدخّن وحيد يتّكئ على صناديق القمامة.
    وهناك حضور منتشر للطيور والحيوانات. أرواح متقاربة، القطط لها ملمح آلهة مصرية، الكلاب حرّاس حُماة، ديك يصيح خارج كوخ بدائي، ببغاوان سمينان مرحان في حديقة حيوانات يعلوها سقف مموّج، سرب من طيور النورس يصطفّ على جزء من رصيف مع سماء تشبه أجنحة الملائكة، أزهار صفراء متدلّية تزيّن سياجا قديما، جنبا إلى جنب مع سلّة مهملات. ويغمر كلّ شيء بريق ساطع. جويس دنبار

    ❉ ❉ ❉

    ○ إن سماع شخص مثقّف اليوم يمزح بلهفة متباهية بأنه جاهل تماما بالعلم، أمر محبط كسماع عالم يتفاخر بأنه لم يقرأ قصيدة قَط. الشعر والعلم كلاهما تجلّيات للروح التي تبدع طرقا جديدة للتفكير في العالم، بهدف فهمه بشكل أفضل. العلم العظيم والشعر العظيم كلاهما رؤيوي، وقد يصلان أحيانا إلى نفس الرؤى. إن ثقافة اليوم التي تُبقي العلم والشعر متباعدين هي في جوهرها ثقافة حمقاء، لأنها تقلّل من قدرتنا على رؤية تعقيد العالم وجماله كما يكشفه كلّ منهما .كارلو روڤيللي

    Credits
    rodulfo.org

    الأربعاء، أغسطس 06، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ لأن اليابان تُعتبر واحدة من أكثر جزر العالم تعرّضا للأنشطة الزلزالية، يدرك اليابانيون ليس فقط جمال كلّ فصل، بل أيضا القوّة الهائلة للطبيعة. الانفجارات البركانية والرياح الموسمية والزلازل وأمواج تسونامي تشكّل تهديدا مستمرّا لليابان، إلا أن شعورا بالقبول متأصّل في عقول الناس. فعندما يدرك المرء أن الحياة قد تُسلب منه في أيّ لحظة، فإنه يكتسب تقديرا متزايدا للحاضر. وتعكس الفنون التقليدية اليابانية، مثل الإيكيبانا وشعر الهايكو وحفلات الشاي، هذا الوعي مع التركيز على اللحظة الراهنة.
    وغالبا ما يسيء الغربيون فهم صفات مثل البساطة والفراغ والغموض على أساس أنها تفتقر إلى شيء ما. لكن في اليابان، تشير هذه الصفات ذاتها إلى النضج والثراء الروحي، فهناك الكثير مما يمكن اكتشافه في الفراغ. مثلا، في الغرب تُحفظ كتل الزهور المتفتّحة بإحكام في مزهرية مع رشّات من أوراق الشجر لملء الفراغات بينها. لكن في اليابان، يركّزون على إبراز السمات الفردية للزهرة أو الورقة أو الفرع المفرد. كما أن المساحة الفارغة المحيطة مهمّة بقدر أهمية الزهرة نفسها، لأن المساحة تحمل طاقة ومساحة للتنفّس والنموّ. وينظر اليابانيون إلى المساحة الفارغة بشكل عام على أنها مليئة بالإمكانيات.
    في القرن التاسع عشر، ومع وصول التجّار الغربيين، انتشر فنّ اليابان الفريد في العالم. وبدأنا نرى جوانب من التصميم الياباني في الأعمال العظيمة لفنّانين عالميين مثل فان غوخ وكلود مونيه وجون ويسلر وإدوار مانيه وغيرهم. وعلى الرغم من تأثّرها بالتجارة الدولية، تمكّنت اليابان الحديثة من الحفاظ على قيمها التقليدية المميّزة. فللوهلة الأولى، تبدو طوكيو ذات التقنية العالية والمليئة باللوحات الإعلانية وحشود الركاب المتعّجلين، فوضوية. لكن تحت السطح الحضري، بين ناطحات السحاب، لا يزال من الممكن العثور على تلك الكنوز الهادئة، حيث الأضرحة والمعابد ومقاهي الشاي بحدائقها الهادئة إلى جانب الحياة العصرية. دان كيتنغ

    ❉ ❉ ❉

    ○ لطالما كان المعيار الوحيد لصحّة أيّ فكرة دينية أو تجربة روحية هو أن تؤدّي مباشرة إلى التعاطف العملي. فإذا كان فهمك للأمور الإلهية يجعلك أكثر لطفا وتعاطفا ويدفعك للتعبير عن هذا التعاطف بأفعال ملموسة من اللطف والمحبّة، فهذا تديّن جيّد. أما إذا كان مفهومك عن الله يجعلك قاسيا أو عدوانيا أو متزمّتا، أو إذا دفعك إلى القتل باسم الله، فهذا تديّن سيء. كانت الرحمة هي الاختبار الحاسم للمسيح ومحمّد، ناهيك عن كونفوشيوس ولاو تزو وبوذا، أو حكماء الأوبانيشاد. كارٍن أرمسترونغ

    ❉ ❉ ❉

    ○ إنكار الزمن هو أحد المبادئ الأساسية لمدارس فلسفية متعدّدة. ووفقا لهذا المبدأ، لا يوجد المستقبل إلا في صورة مخاوفنا وآمالنا الحالية، والماضي هو مجرّد ذكرى. ومن وجهة نظر أخرى، خُلق العالم وكلّ ما فيه الآن قبل لحظات فقط، مع تاريخه السابق الكامل. وهناك مدرسة فكرية تصف أرضنا بأنها طريق مسدود في مدينة الله العظيمة؛ كهف مظلم يعجّ بصور غامضة، أو هالة ضبابية تحيط بشمس أفضل.
    ويؤكّد أنصار فلسفة أخرى أن هذه الحياة ليست سوى انعكاس باهت لحدث آخر لا يُنسى. ونحن لا نعرف عدد التحوّلات المحتملة التي ربّما مرّ بها العالم بالفعل. ولديّ انطباع متزايد بأن الزمن غير موجود، هناك فقط مساحات مختلفة، محصورة داخل بعضها البعض وفقا لقياسات مجسّمة أعلى، وبينها يتنقّل الأحياء والأموات. وكلّما فكّرت في الأمر أكثر، زاد اعتقادي بأننا - نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة - في عيون الموتى، كائنات غير حقيقية، مرئية فقط في ظلّ ظروف معيّنة.
    وعلى عكس "إلياس"، الذي طالما ربط المرض والموت بالابتلاء والعقوبة العادلة والشعور بالذنب، روى "إيفان" قصصا عن موتى ضربهم القدر قبل أوانهم وأدركوا أنهم حُرموا ممّا يستحقّونه، فحاولوا العودة مجدّدا إلى الحياة. قال "إيفان": لو رأيتهم لحسبتهم للوهلة الأولى أشخاصا عاديين. لكن عند التدقيق، كانت وجوههم تتشوّش أو تومض قليلا عند أطرافها. وكانوا أقصر قليلا ممّا كانوا عليه في الدنيا، لأن تجربة الموت تُضعفنا مثلما تنكمش قطعة الكتّان عند غسلها لأوّل مرّة. وينفريد سيبالد

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    ○ إسرق من أيّ شيء يلهمك أو يغذّي خيالك: الأفلام القديمة والحديثة والموسيقى والكتب واللوحات والصور الفوتوغرافية والقصائد والأحلام والأحاديث العشوائية والعمارة والجسور ولافتات الشوارع والأشجار والغيوم والمسطّحات المائية والضوء والظلال. فقط إختر ما تسرق منه، ما يلامس روحك مباشرة. إذا فعلت ذلك، فسيكون عملك "وسرقتك" أصيلين. جيم غارموش

    ❉ ❉ ❉

    ○ في غابة ذات طابع بدائي، يكون غير المتوقّع هو العادي. وكمواطن حضري مدفوع برؤية مثالية وتأمّلية للطبيعة ومتأثّر بعمق بالقبائل الأصلية وبروّاد العصر الحديث، مثل هنري ديفيد ثورو وإدوارد آبي وفرانسوا تيراسون، فإن هذه "الأماكن المنسية" تداعب أحلامي وروحى ومخيّلتي.
    واستكشافها بكاميرا مثبّتة على حامل ثلاثي يُعدّ من أقوى التجارب التأمّلية التي حظيتُ بمتعة عيشها. هناك شعور لا يوصف بالعمق في تجربة الانغماس الجسدي في غابة طبيعية أو بدائية قديمة. والأمر أشبه ما يكون برحلة عبر الزمن، عودة إلى ماض منسي، ورحلة إلى مستقبل خيالي.
    لكن للأسف، تتعرّض هذه الأماكن الثمينة لضغوط أكثر من أيّ وقت مضى. وقد صوّرتها لغرض وحيد هو الحفاظ على معالمها الأساسية. ويمكن اعتبار هذه الصور شهادات بصرية قيّمة لأماكن عذراء بحقّ، لم يطَلها أيّ تأثير بشري، في أجمل فوضى جمالية يمكن العثور عليها.
    عند دخولي إلى هذه الغابات المنسيّة، يغمرني شعور آسر. إنها جنّةٌ برّيةٌ بحقّ، حيث أتوقّف وأتنفّس هواءً رطبا منعشا وأتأمّل الأشجار البدائية والطحالب والنباتات الهوائية أو المتسلّقات المتدلّية. وهذه المتاحف الحيّة تزخر بأنواع انقرضت في أماكن أخرى، من نباتات وحيوانات فريدة.
    تتصاعد نفحات من الضباب بين النباتات، وتتساقط قطرات من قمم الأشجار، ويمكن سماع أو رؤية حياة برّية مراوغة من جهات مختلفة. أتجوّل بصمت ودهشة في هذه الأماكن، باحثا باهتمام دائم عن الزاوية المثالية للصورة. ويتطلّب هذا النوع من التصوير الفوتوغرافي جميع الحواسّ والتجارب. لكن الجهد المبذول في هذه الأماكن الاستثنائية يستحقّ كلّ هذا العناء. فريدريك ديموز

    ❉ ❉ ❉

    ○ في الغرب، تستعين العديد من المؤسّسات والشركات والأفراد بخدمات خبراء تحليل الخطوط باستمرار. وهؤلاء الخبراء يقدّمون المشورة ويحكمون ويشاركون في تقييم المرشّحين للمناصب المهمّة. وعادةً ما تطلب الشركات من المرشّحين سيرة ذاتية مكتوبة بخطّ اليد، ثم تحوّلها بعد ذلك إلى خبراء تحليل الخطوط.
    وتكون الرسائل والديبلومات والشهادات الأكثر إثارةً للإعجاب عديمة الفائدة إذا كتب خبير تحليل الخطوط في تقريره عن الشخص: "ضعيف في مهارات التعامل مع الآخرين" أو "لديه نقص في القدرة التنظيمية". ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يتم التحقّق من كفاءة هؤلاء الخبراء وصحّة تقييماتهم من خلال تحليل خطوطهم؟ فيسلافا شيمبوريسكا

    ❉ ❉ ❉

    ○ أطلق اليونانيون القدماء على البحر اسم "دمعة كرونوس"، بسبب ملوحته. وكان كيميائيّ عصر النهضة يوهانس فان هيلمونت يعتقد أن الأملاح المتطايرة تشكّل الروح الحيوية أو أنفاس الحيوانات والنباتات. وظهرَ الملح في تكهّنات الفلاسفة والكيميائيين وكيميائيي العصر الحديث. وقيل إن "كيمياء الملح" محورية لدراسة العلاقة المتبادلة بين الكيمياء والتاريخ الطبيعي وعلم وظائف الأعضاء والعلوم الطبّية في العصر الحديث.
    والملح هو الصخر المعدنيّ الوحيد الذي يأكله الإنسان ويقدّر قيمته. كما أنه واحد من أقدم وأكثر التوابل الغذائية انتشارا. والملح له طبيعة مزدوجة، حافظ ومفسد، وهو أيضا مطهّر ومكوّن للقرابين الاحتفالية. كما كان الملح ذات يوم وحدة لتبادل القيمة. وخلال العصر الروماني، كان الملح يُستخدم كعملة، حيث كانت رواتب الجنود تُدفع على شكل قطع من الملح المضغوط، وكلمة راتب باللاتينية أتت من salarium التي تعني نقود الملح، ومن هنا عبارة: أن يكون المرء جديرا بالملح".
    علاقة الإنسان بالملح ولّدت معاني شعرية وأسطورية هائلة، لا سيّما عندما روّج لها الطبيب الكيميائي باراسيلسوس، الذي أكّد أن من يفهم الملح ومحلوله يمتلك حكمة القدماء. لذلك "ضع كلّ اعتمادك على الملح، ولا تعتبر أيّ شيء آخر ذا أهمية، لأن الملح في حدّ ذاته هو السرّ الأكثر أهميّة الذي اعتقد جميع الحكماء أن من المناسب إخفاءه. وفي الاستخدام الكنسي والكيميائي، يُعدّ الملح رمزا للحكمة وللشخصية المتميّزة أو المختارة، كما في "أنتم ملح الأرض".

    ❉ ❉ ❉

    ○ كان هناك قمر واحد فقط، ذلك القمر المألوف، الأصفر المنعزل. نفس القمر الذي حلّق بصمت فوق حقول أعشاب البامبا، القمر الذي ارتفع كصحن مستدير لامع فوق سطح البحيرات الساكن وأشرق بهدوء على أسطح المنازل الهاجعة. نفس القمر الذي جلب المدّ إلى الشاطئ وأشرق برقّة على فراء الحيوانات وغلّف المسافرين وحماهم في الليل وغمر الأرض بصمت في وحدتها. هاروكي موراكامي

    الخميس، يوليو 31، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • "كسّارو الحجارة" هو اسم هذه اللوحة الأيقونية التي رسمها الفرنسي غوستاف كوربيه عام ١٨٤٩. وتروي اللوحة قصّة مؤثّرة عن العمل والكفاح والحالة الإنسانية، بتصويرها الواقعَ القاسي لحياة الطبقة العاملة. وفيها يرسم الفنّان عاملين بملابس بسيطة ورثّة وهما منهمكان في تكسير وإزالة الحجارة من طريق قيد الإنشاء على تلّ منخفض. التلّ يمتدّ إلى أقصى الزاوية اليمنى العليا، حيث يظهر جزء صغير من السماء الزرقاء، للإيحاء بأن هؤلاء العمّال معزولون ومحاصَرون جسديّا واجتماعيّا واقتصاديّا بسبب عملهم المُضني والشاقّ.
    وقد أضاف الرسّام تفاصيل دقيقة إلى اللوحة لنعرف المزيد عن نوعية حياة العاملَين وتعبهما البدنيّ والظروف القاسية التي يتحمّلانها. فمثلا، تبدو ملابسهما ممزّقة وبالية، وهناك قِدر طبخ ورغيف خبز محترق وملعقة الى اليمين. وقد استخدم الرسّام ضربات الفرشاة الخشنة التي تنقل الملمس والحركة، لإظهار الطبيعة الجسدية الشاقّة للعمل. ويمكن أن نستنتج من تأثير الضوء والقبّعة التي تحجب جزءا من وجه أحد العاملين أنهما يعملان في جوّ حارّ ولا يحظيان بالكثير من الراحة أثناء تأدية عملهما.
    وبالإضافة الى أن اللوحة تشير ضمناً الى حياة العمّال ومعاناتهم، فهي أيضا تؤكّد على كرامة العمل الشريف وأهمية الطبقة العاملة للمجتمع، وتُذكّر بدور الفنّ في الحياة وتدعو إلى التعاطف مع أفراد الطبقات البسيطة.
    في القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا تحوّلات كبيرة على أكثر من صعيد، إذ أعادت الثورة الصناعية تشكيل المجتمع، فنشأت المصانع وتوسّعت المدن وانتقل الكثير من الناس من المناطق الريفية إلى المراكز الحضرية. وأدّى هذا التحوّل الى تغيير المدن والهياكل الاجتماعية وأسلوب حياة الناس وعملهم وشيوع ظواهر الفقر والاستغلال.
    وبسبب تناول اللوحة للتجربة الإنسانية اليومية، رأى فيها بعض النقّاد تحدّيا للفنّ التقليدي الذي غالبا ما كان يصوّر مواضيعَ مثالية وأسطورية. كما مثّل هذا العمل تحوّلا جوهريا من الرومانسية إلى الواقعية.
    كان كوربيه يريد من وراء رسم العمّال والمزارعين والفقراء إظهار الحياة كما هي. وكثيرا ما كانت مواضيعه غير جذّابة، لكنها إنسانية بامتياز ومليئة بالرسائل السياسية والاجتماعية. وقد شكّلت صوره نقلة نوعية في عالم الرسم وأثّرت على العديد من الفنّانين الذين أتوا بعده، ومهّدت الطريق لحركات فنّية مستقبلية، حيث بدأ الفنّانون باستكشاف واقعهم الاجتماعي وتصويره.
    وعندما عُرضت اللوحة لأوّل مرّة، تباينت ردود الأفعال على مضمونها، فأشاد البعض بصدقها وواقعيّتها، بينما وجدها آخرون "قاسية وغير مصقولة". ولأن النقّاد اعتادوا على الاحتفاء بالجمال والعظمة والتصوير المثالي للمناظر التاريخية المهيبة، فقد واجهوا صعوبة في تقبّل تصوير كوربيه الخام للعمل وتحدّيه معايير الفنّ في عصره.
    كان اختياره التركيز على العمّال تصرّفا ذا دلالة. وبانفصاله عن الفنّ التقليدي والمعايير الأكاديمية السائدة في عصره، كان يحوّل التركيز من القصص الشخصية إلى الحياة الواقعية. وبتصويره النضال الجماعي للعمّال، أراد الفنّان الارتقاء بمكانتهم وتسليط الضوء على معاناتهم وعلى دورهم الأساسي في بناء المجتمع.
    أثناء الحرب العالمية الثانية، تعرّضت هذه اللوحة للتلف مع أكثر من 150 لوحة أخرى، عندما قصفت قوّات الحلفاء مركبة بالقرب من دريسدن بألمانيا في فبراير 1945. وبذا أُزيل رمز فنّي مهم للطبقة العاملة ومُحيت قطعة أساسية من تاريخ الفنّ وحُرمت الأجيال من رؤيتها. وقد بُذلت جهود لإعادة إحياء جوهر اللوحة باستنساخها وطباعتها. ومع ذلك، لا شيء يُغني عن النسخة الأصلية المفقودة. ومن المفارقات أن تدمير اللوحة حدث أثناء نقلها لحمايتها بشكل أفضل، لكنها لم تصل أبدا إلى وجهتها المقصودة.
    كان كوربيه ذا شخصية قويّة وقد شعر بالراحة لتحدّيه الأعراف القديمة في الرسم، على الرغم من استمرار اعتراض البعض على نهجه طوال حياته. في بعض الحالات كانت له روابط بالاشتراكية، وكان يعتبر نفسه يساريّا من الناحية السياسية.
    المعروف أنه نشأ في الريف الفرنسي. ورغم نجاحه في باريس، إلا أنه لم يهجر جذوره الأصلية. كان يشعر بسعادة حقيقية في الأرياف، ثم عاد إليها بعد سنوات قضاها في العاصمة. ورسم العديد من اللوحات لسكّان القرى الذين نشأ معهم وهم يمارسون حياتهم اليومية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • إضافة إلى مزاياها الفكرية، تُعدّ الموسيقى الكلاسيكية بمثابة بوصلة عاطفية. فهي تجسّد طيفا من المشاعر الإنسانية الكاملة، من فرح وحزن وغضب وسلام ونحوها، بطرق غالبا ما تعجز عنها الكلمات وحدها.
    تبدأ سوناتا بيتهوفن للبيانو رقم 14، المعروفة أكثر باسم سوناتا ضوء القمر ، بلحن آسر وحزين يبدو وكأنه يهمس بالفقد أو الشوق. وفي الحركة الأخيرة، يتصارع الملحّن مع اضطراباته الداخلية وقراراته العاصفة.
    قال "فرانز ليست" عن هذه السوناتا إنها "زهرة صغيرة بين هاويتين". ووصف هيكتور بيرليوز الحركة الأولى منها "الأداجيو" بأنها "مشهد ليلي يتردّد فيه صوت شبحيّ. إنها إحدى تلك القصائد التي لا تعرف اللغة البشرية كيف تصنّفها". وقال عنها عازف البيانو الشهير إدوين فيشر: لا أرى ضوء قمر رومانسيّا في هذه الموسيقى، بل قصيدة رثاء".
    هذه القدرة على التعبير عمّا لا يمكن وصفه أو الإحاطة به تجعل من الموسيقى الكلاسيكية جسرا إلى مشاعر قد نعجز عن تسميتها ولغةً عالمية تخاطب المستمعين عبر الثقافات والعصور المختلفة.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات..
    ○ في مساءٍ هادئ، كانت الأمواج تتحدّث همسا على شاطئ البحر، لا يسمعها أحد سوى القمر، ولا يفهم لغتها إلا من سكنت أرواحَهم الحيرة. قالت موجة صغيرة بخجل: لماذا نركض دائما نحو الشاطئ ثم نعود أدراجنا؟ ألسنا متعبات من هذا العبث؟" ردّت موجة أخرى أكبر سنّا، بصوت عميق مليء بالحكمة: نحن لا نركض عبثا يا صغيرة، نحن نكتب رسائلنا على الرمل ثم نمحوها لنكتب من جديد".
    سألت الموجة الصغيرة: ولمن نكتب؟ لا أحد يقرأ". ابتسمت الكبرى وقالت: نكتب لمن فقد صوته بين الضجيج، لمن ينظر إلى البحر ويظنّ أنه صامت. البحر لا يصمت، نحن الأمواج نهمس له بأسرار كلّ قلب جلس أمامنا ونسرد له حكايات العابرين".
    صمتت الموجة الصغيرة للحظة، ثم همست بحزن: وهل هناك من يسمعنا حقّا؟" وجاء صوت الريح من بعيد، هامسا بدفء: نعم، هناك من يجلس عند البحر، لا ليراقب الأمواج، بل ليسمع ما تقوله وليبوح لها بما في صدره. ذاك هو المستمع الحقيقي. وإن رحل، نحفظ كلماته في صدورنا إلى الأبد".
    وفي لحظة ارتطام الموجة بالرمل، ساد الصمت. لكن البحر ظلّ يتكلّم. مجهول

    ○ أعتقد أن الناس عندما يقدّمون لك النصيحة، فإنهم في الواقع يتحدّثون إلى أنفسهم في الماضي. فالذي يُقدّم النصيحة غالبا ما يستقيها من تجاربه وتأمّلاته السابقة، كأنه يخاطب نسخة أصغر منه، يشاركه الحكمة التي اكتسبها على مرّ السنين. وهذا تذكير بأننا جميعا نتشكّل من خلال تجاربنا. وعندما نتناصح، فإننا نشارك جزءا من أنفسنا مع الآخرين. أوستن كليون

    ○ كان الرسّام الإيطالي جورجيو دي تشيريكو حالة مثيرة للاهتمام. أعماله المبكّرة على وجه الخصوص "مثل التي فوق" هي التي تعرّفه وهي التي أثّرت على الفنّانين الآخرين. وممّا يُؤثر عنه قوله في تفسير لوحاته: أحيانا يحدَّد الأفق بجدار، ومن وراء الجدار يرتفع ضجيج قطار سرعان ما يختفي. الدقّة الهندسية للميادين او الساحات تكشف لنا أحيانا عن حنين الى اللانهائيّ. كما نكتشف جوانب كنّا نجهل وجودها تماما عندما تواجهنا ملامح معيّنة من العالم. ونكتشف فجأة أسرارا كامنة لم نكن نراها من قبل ولم نكن نشعر بها، لأن حواسّنا لم تتطوّر بما فيه الكفاية. الأصوات الخافتة تخاطبنا من قريب، لكنها تبدو لنا كأصوات من كوكب آخر". ج. مايرز

    ○ إن تحويل الصمت إلى لغة هو فعل من أفعال الكشف عن الذات، وهو ما يبدو دائما محفوفا بالمخاطر. لقد آمنت دائما بأن ما هو أهم بالنسبة لي يجب أن يقال وأن يشارك، حتى مع احتمال أن يشوَّه أو يساء فهمه، وأن الكلام يفيدني أكثر من الصمت. وأكثر ما ندمت عليه هو صمتي. لكننا جميعا نتألّم بطرق مختلفة طوال الوقت، والألم إما أن يتغيّر أو ينتهي. أما الموت فهو الصمت الأخير. ايدي لورد

    ○ عندما يسألني الناس: من ترشّح لجائزة نوبل للأدب هذا العام؟"، عادة ما أذكر نفس الاسم الذي طالما ردّدته مرارا واعتبرته كاتبي المفضّل: هاروكي موراكامي.
    العوالم التي تشكّل قصص هذا الكاتب سوريالية وتقوم على الرمزية والأحلام، وشخصياته تنفّذ أفعالها وفق مسار قائم على التنجيم. بمعنى آخر، تفترض رحلة الشخصيات أن تنمو في عالم مشوّه وشفّاف وقاسٍ أحيانا. وهو يستخدم حيوانات سحرية، غالبا ما تكون ناطقة، كمرشدين أشبه ما يكون بدانتي عبر المقاطع الحاسمة من العالم الآخر للوصول إلى حالة أسمى من الوعي والنضج. ومن هنا الغابات والأكواخ النائية والآبار والحانات شبه المهجورة والأحلام الداخلية في رواياته.
    أعتقد أن أعمال موراكامي الأدبية تستحقّ جائزة نوبل لقدرتها الاستثنائية على تجسيد محدودية المجتمع الحديث وإحساسه بالنقص، باستخدامه هياكل سردية تجمع بين التراث الأدبي والرمزية الحالمة. إن وصف الواقع والمجتمع من خلال الأدب ليس بالأمر الهيّن، وفعل ذلك من خلال حلم متنكّر في صورة أدب أمر أصعب. ماتي برستي

    ○ يُقال إن النازية لم تكن شذوذا تاريخيا، بل إن بذورها موجودة في كلّ مكان، وتتجلّى في العلاقات بين مختلف أصحاب السلطة وضحاياهم. كما أن احتمالية الفاشية كامنة في حياتنا العائلية وفي علاقاتنا العاطفية. لارس آير

  • Credits
    gustave-courbet.com
    beethoven.de

    الخميس، يوليو 03، 2025

    قراءات


  • على الرغم من تفكيري العلمي والتحليلي، إلا أنني أميل أحيانا إلى الروحانيات والمعجزات. مثلا، تعجبني مناظر المسطّحات المائية الشاسعة، وأشعر بجسدي يشتعل رهبةً عندما أواجه سلاسل الجبال، وأجثو على ركبتي لأصلّي في مواجهة بركان نشط. العلم لا يستطيع وصف أعاجيب الدنيا، لأنه يفتقر إلى اللغة اللازمة ويتحدّث بالمنطق والعقل، لا بلغة الروح. والعلم لا يستطيع إثبات سبب شعورنا بالامتنان عند رؤية مسطّح مائي لا ضفاف له. والعلم يعمل على تفسير الأرض وعملياتها ودوراتها وتغيّراتها ويروي قصّة واحدة عن كلّ شيء. لكن تفسير كيفية حدوث شيء ما يختلف عن شرح علّة وجوده. العلم يشرح الأرض، لكنه لم يخلقها، وهذا هو الغموض الذي تنبثق منه الروحانية والدين.
    في المأتم، أفكّر في الجثمان المتواري في النعش. كم يبدو هادئا وهو مغلّف بخشب البلّوط. نبذل جهدا كبيرا لنجعل الموتى يبدون مسالمين. أعتقد أنهم كذلك من نواحٍ عديدة. نحن - المضطربين – من نُترك لمواجهة فنائنا. ورغم ذلك أخشى الموت، لكنّي أستمتع ببعض متع الحياة الدينية. لديّ مثلا نوع من الإيمان؛ إيمان بأن الأرض لن تنهار تحت قدمي، وبأن الكون سيستمرّ من دوني، وأجد العزاء في معرفة أين ستكون حياتي الأخرى.
    عندما نرحل، سيبقى على الأرض الكثير، كالكائنات الحيّة، والكائنات التي نعتبرها عصيّة على الموت كالصخور والماء والتربة والموادّ العضوية المتحلّلة. كانت الخنافس موجودة منذ أكثر من 300 مليون عام، ونجت من أكثر من انقراض جماعي. وستكون هنا في عامها المليوني الـ 300 حتى لو لم نكن نحن موجودين.
    عندما انقرضت الديناصورات، اختفى ما يقرب من 75 في المائة من الحياة على الأرض. ونحن نهتم بهذا الانقراض لأننا نهتمّ بالديناصورات. وأيّ طريقة للموت أفضل من الفناء بفعل جسم فضائي مندفع! إننا نحزن على الديناصورات، بحجمها المذهل ومشيتها المحبّبة، لكنّنا نفضّل موتها أيضا. فانقراضها هو ما مهّد الطريق لنا ولدببتنا وثعالبنا وخيولنا وقططنا الحبيبة للظهور. نعلم عن ذلك الانقراض ونفترض أنه كان الأعظم، ولكنه كان انقراضا جماعيا معتدلا نسبيّا من حيث الأنواع المفقودة.
    النباتات الأرضية قابلة للتكيّف ومتنوّعة بشكل ملحوظ وستظلّ هنا. ولن تذوب الصخور التي نجت من مليارات السنين تحت حرارة الاحتباس الحراري العالمي. قد تموت العديد من الأشياء التي نحبّها، لكن الأرض نفسها لن تموت. صحيح أننا نجعل الأرض غير صالحة للسكن لأنفسنا وللمخلوقات التي تعيش مثلنا، لكننا لا نجعل الأرض غير صالحة للسكن لنفسها.
    أجلس الآن على صخور عمرها مليار عام. نطاق الزمن الجيولوجي يمحو أيّ شعور بأهميّة الذات. أشعر بالتواضع أمام الصخور بقدر ما أشعر بأنني ارتفع بها. هنا أجد السلام والراحة وسط الخطر وأتعلّم أن أرى ما سيبقى، لا فقط ما سيضيع. هنا تريني الأرض كيف تنتصر، لأني أعلم أن هذا المكان لم يكن دائما هكذا. كانت هذه المياه جليدا، وهذا الحصى تآكلَ بمرور الوقت، وبعض الحيوانات التي كانت تتجوّل هنا لم يعد لها وجود.
    كلّ شيء من حولي موجود في لحظته الخاصّة، لوقته الخاص. وكلّ شيء سيتغيّر لا محالة. وبعض الأشياء ستتغيّر بأسرع ممّا نرغب. لكن الآن، أستمتع بهذا المشهد وأجد فيه العزاء. أترك نفسي متمسّكة بوعد أن بعض الأشياء ستنجو وأن هذه الأرض، مهما أبعدناها عن مدارها، ستعود دائما إلى توازنها واستقرارها. جوليا رودلف
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في المشي لن تقابل نفسك، تهرب من فكرة الهويّة ذاتها، من إغراء أن تكون شخصا وأن يكون لك اسم وتاريخ. حرّية المشي تكمن في عدم كونك أحدا، فالجسد السائر لا تاريخ له، إنه مجرّد دوّامة في مجرى حياة سحيقة. وأنت تمشي، لا تسمع إلا صوت طقطقة الحجارة تحت قدميك. صمت غامض، معدني ومحطّم. صمت لا يلين، حاسم كموت شفّاف.
    تتقدّم وعيناك منخفضتان، تُطمئن نفسك أحيانا بهمهمة صامتة. سماء زرقاء صافية ومنفصلة تماما، ألواح من الحجر الجيري مفعمة بالحضور: صمت مكتمل لا يمكن لأحد تجاوزه، جمود نابض بالحياة ومتوتّر كقوس. للرحلات الطويلة في الخريف، عليك أن تبدأ مبكّرا جدّا في صمت الصباح الباكر. في الخارج، كلّ شيء بنفسجي، الضوء الخافت يتسلّل عبر أوراق حمراء وذهبية. إنه صمت منتظَر. تمشي بهدوء بين أشجار داكنة ضخمة لا تزال مغطّاة بآثار ليل أزرق. تكاد تخشى الاستيقاظ. كلّ شيء يهمس بهدوء.
    المرء لا يكون وحيدا تماما عندما يمشي، كما كتب هنري ثورو. "أجد في المنزل الرفيق الحميم، خاصّة في الصباح حين لا يناديني أحد". إن الانغماس في الطبيعة مشتّت للانتباه دائما. كلّ شيء يخاطبك، يحييك ويلفت انتباهك: الأشجار، الأزهار وألوان الطرق. تنهدّ الريح، أزيز الحشرات، خرير الجداول، وقع أقدامك على الأرض، همسة خافتة تستجيب لوجودك.
    المطر أيضا. مطر خفيف وناعم يرافقك باستمرار، همسة تُنصت إليها بنغماتها وثوراتها وتوقّفاتها: صوت قطرات المطر المميّز وهو يتناثر على الحجر، ونسيج طويل منغّم للأوراق المطرية وهي تتساقط بثبات. من المستحيل أن تكون وحيدا وأنت تمشي مع كلّ هذه الأشياء التي تحيط بك وتُمنح لك من خلال إدراكك العميق للتأمّل.
    في تاريخ المشي، يُعتبر "ووردزوورث" المبتكر الحقيقي للرحلة الاستكشافية الطويلة. كان أوّل من اعتبر المشي فعلاً شِعريا وتواصُلاً مع الطبيعة واكتمالا للجسد وتأمّلا في المناظر الطبيعية. حدث هذا في نهاية القرن الثامن عشر، عندما كان المشي حكرا على الفقراء والمشرّدين وقطّاع الطرق والباعة المتجوّلين. كريستوفر مورلي وصف "ووردزوورث" بأنه كان "من أوائل من استخدموا سيقانهم في خدمة الفلسفة". فريدريك غروس
  • ❉ ❉ ❉

  • أخبرتُ معلّمي أن القدماء انتظروا طويلا ليختاروا للون الأزرق هذا الاسم. في العالم كلّه، كان الأسود والأبيض والأحمر دائما في المقدّمة. ولم يكن الأزرق "لون اللازورد" مصطلحا مجرّدا، بل إشارة إلى صخرة معروقة بالذهب جُلبت عبر طرق التجارة من أفغانستان. والأحجار التي استخدمناها في المعمل كانت هديّة من ابنة رجل أغلق منجم اللازورد الخاصّ به في ذلك البلد لئلا يسمح للمتشدّدين بالاستيلاء على كنزه.
    وبينما أستقلُّ القطار عائدة إلى المنزل، يهبط اللون الأزرق عبر السماء، وهو ما يزال ذهبيّا في الأفق الغربي، بينما يزحف رماد اللازورد شرقا. يُبهجني دائما تماسك الشجيرات المتشبّثة بمنحدرات الصبغة النقيّة. يلمع نبات من جانب الطريق بلون أصفر فاقع، بينما تتدلّى ثماره في عناقيد داكنة كالنبيذ.
    وأينما نظرت، أرى اللون الأزرق: مقاعد القطار، ملابس وفساتين نسائية، جدران شقق جديدة، حاوية قمامة، أعمدة سقالات، حافلات زرقاء. في قلبي، ينام اللون الأزرق كوعد بسماء ليلية رائعة فوق العالم؛ سماء لم تمزّقها غارات القصف ولم تخدشها الطائرات بلا طيّار. أطحن الصبغة الرطبة الغائمة في الهاون، فأغسلها من التراب. نادرا ما أجدُ نقاءً إلا في الأصباغ. وأضع هذا اللون الأزرق الغامض على أرض حمراء وذهب صدَفي، إذ ليس مُقدّرا له أن يبقى وحيدا.
    الأصباغ كالبشر، خُلقت من الأرض لتتآلف وتعبّر عن المعنى وتتضافر، فتتألّق. ونحن كبشر مكمّلون لبعضنا البعض، متماثلون ومتناغمون. نحن جزء من الصورة الأكبر. كارول موريس
  • ❉ ❉ ❉

  • هناك في العالم ما يمكن تسميته بـ "الأقليّات الوسيطة Middleman minorities". وتشمل هذه الأقليات مكوّنات مثل اليهود في الغرب، والصينيين في ماليزيا وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا الأخرى، واللبنانيين والهنود في أفريقيا. وتشترك جميع هذه الأقليّات في سمات معيّنة، فهم عادةً أكثر ثراءً من السكّان الأصليين، كما أنهم عشائريون ومنعزلون، ويحافظون على ثقافة منفصلة عن السكّان الأصليين. كما أنهم يحافظون على العلاقة مع بلدانهم الأصلية ويبنون شبكات تجارية ومالية دولية مع أبناء عرقهم. ومن السمات الأخرى أيضا أنهم غالبا ما يشاركون في إقراض الأموال ويحتكرون قطاعات كاملة من الاقتصاد.
    وقد كانت الأقليات الوسيطة دائما محلّ استياء من جانب السكّان الأصليين، الذين يحسدونهم على ثروتهم ونجاحهم وقوّتهم، ويكرهون وجودهم العشائري المنفصل. وغالبا فإن التحيّز والحسد هما من العوامل التي تجعل السكّان الأصليين يكرهون الأقليات الوسيطة. فمثلا، يتحمّل الصينيون في ماليزيا مسئولية تطوير قطاعات مختلفة من الاقتصاد الماليزي، ولولا وجودهم لكانت هذه القطاعات أقلّ تطورا بكثير، وربّما معدومة. وفي اغلب الحالات، هذه الأقليّات هي التي تصنع الثروة التي تتمتّع بها ولا تستغلّ السكّان الأصليين ولا تسرق ثرواتهم. توماس سويل

  • Credits
    tsowell2.com

    السبت، مايو 10، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • پابلو پيكاسو اسم مرادف للإبداع الفنّي. والناس يتذكّرونه بمساهماته الثورية في عالم الفن. وبعيدا عن أعماله الرائدة، هناك قصّة أسطورية تجسّد، ليس فقط براعته الإبداعية، بل أيضا فهمه للقيمة الحقيقية للخبرة الفنّية.
    ذات يوم، كان پيكاسو يرسم على منديل في مقهى في پاريس. وكان من عادته أن يرسم أيّ شيء كي يسلّي نفسه في مثل تلك اللحظات. وكانت هناك امرأة تجلس بالقرب منه وتنظر الى ما يفعله بترقّب بعد أن عرفته. وبعد لحظات قليلة، أنهى بيكاسو قهوته ثم طوى المنديل الذي كان يرسم عليه بينما كان يهمّ بمغادرة المكان.
    لكن المرأة استوقفته وقالت له: هل يمكنني الحصول على هذا المنديل الذي كنت ترسم عليه للتوّ؟ سأدفع لك ثمنه". وطلب پيكاسو من المرأة مليون فرنك مقابل المنديل المرسوم. غير أنها صُدمت من هذا المبلغ الباهظ لأنه لم يَلزمه أكثر من بضع دقائق من الرسم. وبدا لها أن قيمة تلك الصورة مبالغ فيها ولا تتناسب مع الوقت الذي استغرقته.
    لكن پيكاسو ردّ بعبارة أصبحت شهادة دائمة على رحلته الفنّية وعلى إتقانه، عندما قال للمرأة: يا عزيزتي! لقد استغرق الأمر منّي عمرا كاملا حتى أتمكّن من رسم هذا الاسكتش البسيط". ثم وضع المنديل في جيبه وغادر المقهى.
    وبتلك العبارة البسيطة والعميقة، جسّد بيكاسو جوهر تطوّره الفنّي. فهو لم يكن يطلب مجرّد مكافأة على الرسم على منديل، بل كان يطلب تقديرا لسنواته وممارسته ومنظوره ومسيرته الإبداعية وتجاربه وآلاف الإخفاقات الصغيرة ومثابرته التي مكّنته من امتلاك المهارة اللازمة لإبداع تلك التحفة الفنّية الصغيرة في دقائق معدودة.
    طبعا لا يُعرف إن كانت هذه القصّة حقيقية أم لا. لكنها ليست بعيدة تماما عن الروايات التي قدّمها أولئك الذين عرفوا هذا الفنّان عن قرب. فقد كان شخصا استعراضيا وكوميديّا راقيا. وكان يستمتع بردود الفعل التي كان يثيرها حضوره في أيّ مكان. كما كان معروفا أيضا بتوزيع بعض رسوماته البسيطة على عمّال وعاملات المقاهي ممّن يستحقّونها.
    هذه القصّة توفّر أكثر من مجرّد حكاية ساحرة، فهي تقدّم درسا قيّما في إدراك القيمة الفنّية للعمل والفنّان. وردُّ پيكاسو يوضح أن الإتقان الحقيقي لا يكمن في الوقت اللازم لإبداع شيء ما أو الجهد المبذول لإنجازه، بل في محصّلة حياة كاملة من التعلّم والنموّ والخبرة والتجربة والشغف والسعي الدؤوب نحو التميّز والتجاوز.
    ولم يكن طلب پيكاسو لذلك المبلغ الكبير تعبيرا عن الغطرسة أو الجشع، بل كان بمثابة تذكير بأن الخبرة تُبنى على ساعات وأشهر وسنوات لا حصر لها من الممارسة والدراسة والتحسين المستمرّ لمهارات الفرد.
    ظلّ پيكاسو ينتج فنّا طوال حياته وعاش حتى التسعينات من عمره، واستمرّ في الإنتاج حتى أيّامه الأخيرة. ولو كان هدفه الشهرة أو جني ثروة طائلة في عالم الفن، لكان قد تجمّد في مرحلة ما من رحلته ولسيطرَ عليه القلق أو شكّ في نفسه. وسبب نجاحه الكبير هو نفس السبب الذي جعله يكتفي في شيخوخته برسم صور بسيطة على المناديل أثناء احتسائه القهوة بمفرده.
    إننا كثيرا ما نقلّل من قيمة ما نقدّمه لأننا نعتقد أنه أمر مألوف أو أنه بسيط أو سهل. لكن الحقيقة هي أننا اكتسبنا، على مدى زمن طويل، المهارات والمعرفة والخبرة اللازمة لجعله بسيطا أو سهلا. لذا تذكّر ألا تستهين بتجاربك ومعرفتك التي راكمتها على مرّ السنين وألا تقلّل أبدا من قيمة ما تفعله.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في عالم اليوم، ينمو العشب باتجاه السماء وتطارد الزواحف الشمس أثناء النهار والقمر أثناء الليل. الريح نهر شفّاف والمطر نيزك بارد. وقلبي لا ينعم بالسلام أبدا. مشيتُ في آخر حقل لعبّاد الشمس كان على وشك أن يُهجر، متذكّرا الأساطير المؤلمة والرائعة المتعلّقة بأصل البشرية. ومع ذلك، قد لا يهتمّ هذا الكوكب بما إذا كان البشر سيبقون على قيد الحياة أم لا.
    تتوالى السحب في السماء مثل الأنهار، والهواء عند الغسق يكون مشرقا كسائل. حتى لو كنتُ هنا عشرة آلاف مرّة، فإن حواسّي لن تتعب على الإطلاق ولسوف يكون الشعور بالوحدة مثاليّا. الليل والنهار في البرّية مختلفان بالتأكيد. يجب أن يكون هناك فرق بين ضوء وظلام الحقل يقدَّر بسنوات ضوئية. الأرنب فقط هو الذي يستطيع التحرّك بحرّية بين الاثنين، ومسار الأرنب فقط هو الذي لا يُعيقه شيء.
    في أرض الشمال الشاسعة، من أواخر الصيف إلى أوائل الخريف، كلّ قرية غنيّة بما يكفي لمنافسة بلد. الذهبيّ والأزرق في حالة جمود على هذا الكوكب القديم. الأشخاص الذين يسيرون بين هذين اللونين يشعرون فجأة أنهم نظيفون تماما. الشعور بالأمان يأتي من الظلام. العالم الخارجي مشرق للغاية، حتى في الليل. كلّ شيء مكشوف دون أيّ غطاء أو عائق. قبل أن تشرق الشمس، يكون العالم كلّه مثل حلم، إلا أن القمر هو الحقيقي. وبعد شروق الشمس، يصبح العالم كلّه حقيقيّا، إلا أن القمر يكون مثل حلم.
    كانت والدتي تتفاخر في القرية بأنني أكتب. لكن أهل القرية لم يروا إلا أنني أطارد الطيور في أنحاء القرية بشعر أشعث ووجه متّسخ طوال اليوم، وقد أبدوا جميعهم تشكّكهم في كلام أمّي. وبينما كانت تتحدّث إليهم، استدارت ورأتني أعدو على طول الخندق وأصرخ وألوّح بعصا أثناء ركضي. كان الأمر غير لائق حقّا وشعرت بالحرج. وفي وقت لاحق، صدّق شخص قصّة الكتابة تلك.
    إن أعظم قوّة في الأرض ليست الزلزال، بل نموّ جميع الأشياء. على بعد 30 كيلومترا أسفل النهر، بُنيت قرية جديدة لرعاة الماشية. لا يوجد شيء اسمه بيت. فقط تَحفر حفرة في الأرض، تضع دعائم وتبني سقفا وتعيش تحته. هذه حياة بسيطة، ومريحة. لم يُجبر هؤلاء الناس على المجيء الى هنا، بل أتوا طواعيةً لأنهم يحبّون الحياة، محاطين بآلاف الجبال والأنهار وشغوفين بجمال هذه الأرض.
    خارج الباب، كانت هناك رمال صفراء ورياح وثلوج لا نهاية لها. ومهما كان الاتجاه الذي تسير فيه، فلن تتمكّن من الوصول إلى الطريق حتى بعد أسبوع. ثم يجب عليك أن تسحب حقيبة أكبر منك. وبالإضافة إلى ذلك، هناك ذئاب. لم يكن أمامي من خيار سوى ابتلاع خيبتي.
    السماء دائما مرتبطة بالأرض بشكل وثيق، زرقاء داكنة، رتيبة ولا تتغيّر. أشرقت الشمس على العشب فتوهّج بشكل استثنائي. كان أجمل العشب في ذلك الوقت هو نوع من العشب الأبيض النحيف يقف منتصباً في الشفق.
    مشيتُ لفترة طويلة جدّا، وكان المكان هادئا للغاية. وعندما استدرت، ظهر فجأة قطيع أغنام على بعد عشرات الأمتار خلفي، وهو يدفن رأسه في الأرض بصمت ويتغذّى على العشب الجافّ. في النهاية، هذه برّية رتيبة، فارغة، صامتة وصعبة. حتى أصغر الزخارف هنا لا يمكن إلا أن تبدو مكثّفة ورائعة. في فصل الشتاء، كنّا ندعو الأغنام الضعيفة والمريضة والعجول حديثة الولادة إلى مخابئنا للعيش معنا وقضاء ليال طويلة وباردة. وفي أحد الأيّام، سقط هاتفي المحمول من حقيبة الظهر المعلّقة على الحائط إلى الأرض وظلّ عِجل يمضغه بصمت طوال الليل.
    هل تشعر الأغنام؟ هل تفهم ما ينتظرها؟ هذه هي الحياة التي تكبر أمام من يُذبح. الشخص الذي ذبح شاة، التقطها بنفسه من مرعى ربيعي ووضعها في كيس تمّ إعداده منذ فترة طويلة، ثم ربطها بعناية في الجزء الخلفي من سيّارته وأخذها إلى المنزل. لطالما كان يأخذ هذه الغنم بدأب الى الجبال والسهول ليختصّها بالعشب الأكثر خصوبةً وعُصارة.
    وعندما كانت تضيع، كان يتحدّى المطر ويخرج ليبحث عنها مرارا وينظّفها ويعالج جروحها الملتهبة. وفي موسم البرد، كان يقودها إلى البرّية الجنوبية المفتوحة والدافئة. هل تتذكّر الأغنام هذا؟ أيّ قسوة تسكن قلبه إذ يقرّر الآن ذبحها؟ ربّما تكون هذه هي الطريقة التي تسير بها الحياة، كلّ شخص يسلك طريقه في النهاية، لذا كن فقط في سلام. قالت كاتبة كازاخية: أنت لا تموت بسبب خطاياك، ونحن لا نعيش لنموت جوعاً".
    في الأماكن التي لا يذهب إليها سوى عدد قليل من الناس، هناك دائما شعور بالوحدة والعزلة. في صحراء غوبي مثلا، يمكنك المشي لساعة دون أن تقابل إنساناً، بل يمكن أن تمشي لسنوات دون أن ترى شخصا واحدا، لا شيء في كلّ الاتجاهات. الوقوف على الأرض أشبه بالعودة إليها وحيداً بعد دهور. نعتقد أننا أذكياء وأقوياء بما يكفي لتحمّل كلّ الصعوبات في هذا العالم. لكننا لا نستطيع منع الحروب والانتهاكات والكوارث الطبيعية.
    ربّما يكون الرعاة الكازاخيون في المناطق البدوية في الشمال هم آخر الشعوب البدوية الأنقى في هذا العالم. هذا المكان النائي مليء بالصحاري الشاسعة وغير مأهول. ليس هناك صخب ولا مدن ولا بشر يأتون ويذهبون، وكلّ ما تراه هو أبسط حالات الحياة.
    عندما يهبط الليل، أشعر ببرودة الأرض تخرج من بين الشقوق وبالرياح تهبّ من شمال المحيط الهنديّ عبر آلاف الجبال والأنهار. ثم يغمرني أعظم صمت في العالم. وعندما تتفتّح زهور عبّاد الشمس وتتحوّل غابات البتولا وأكوام القشّ إلى اللون الذهبي، فإن هذا العالم يرعى بنفس الوقت ملايين الكائنات الحيّة بأشكال مختلفة ومتنوّعة. لذا من فضلك، حاول أن تحبّ العالم أنت أيضا! لي جوان

  • Credits
    museupicassobcn.cat/en
    worldhumanitiesreport.org

    الخميس، مارس 13، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • تخيّل أنك تمشي في غابة، وفجأة يصيبك سهم. هذا السهم الأوّل يُمثّل الألم والصعوبات الحتمية التي نواجهها جميعا في الحياة: ألم جسدي وألم عاطفي وفقد وكفاح الخ. وهو أمر لا مفرّ منه وغالبا ما يكون خارج سيطرتنا.
    لكن هل ستطلق سهما ثانيا على نفسك؟ هذا ما نفعله عادةً دون وعي عندما نتفاعل مع ألم السهم الأوّل بشكل مدمّر. هذا السهم الثاني يُمثّل ردّ فعلنا على الألم الأوّلي: الغضب والخوف والشفقة على النفس وتصوير الذات كضحية، أي العقلية السلبية التي نضيفها إلى الجرح الأصلي. وغالبا ما يُؤلمنا السهم الثاني أكثر بكثير من ألم السهم الأوّل.
    الحكمة هنا هي أنه رغم أننا لا نستطيع دائما التحكّم في الظروف المؤلمة التي تواجهنا، إلا أننا نستطيع التحكّم في كيفية استجابتنا لها. هل نزيد الوضع سوءا بالتركيز عليه وتضخيمه والشعور بالأسف على أنفسنا، أم نواجهه بشجاعة ونتقبّله ونصمد؟
    كلّنا نتعرّض لتلك السهام الأولى باستمرار: ضغوط العمل والخلافات مع الأقارب والمشاكل الصحّية ونحو ذلك. لكن، لدينا الخيار في أن نطلق على أنفسنا سهما ثانيا من السلبية واليأس، أو أن نختار مواجهة تحدّيات الحياة بعقلية إيجابية وبعزيمة وتعاطف مع الذات.
  • ❉ ❉ ❉

  • إنها مجرّد لوحة لطائر محبوس في قفص. ومع ذلك، أصبحت لوحة "طائر الحسّون" لفنّان القرن السابع عشر الهولندي كارل فابريتيوس رمزاً شعبيّاً. وقد تعاظمت شهرة هذه اللوحة بفضل رواية الكاتبة دونا تارت "الحسّون الذهبي". ومع ذلك فإن القصّة الحقيقية للوحة والرجل الذي رسمها أغرب من الخيال.
    الناقد جوناثان جونز يشير الى أن الطيور احتلّت منذ زمن طويل مكانة مهمّة في مختلف الثقافات. فمن الدين إلى الفنّ إلى السينما إلى السياسة، كانت الطيور رمزا للأمل والموت والرغبة والشجاعة والبعث والقوّة والحكمة والتحوّل والسعادة والسلام. فهي تجلب لنا البهجة والفرح والراحة والأمان".
    لكن من المحتمل أن معاصري فابريتيوس ربطوا طائر الحسّون بالرمزية المسيحية، فهو يظهر كثيرا في اللوحات الدينية. و"بسبب اللون الأحمر، لون الدم، على رأسه وعادته في أكل الشوك، كان من المفترض أن يذكّر الناس بالصلب وتاج الأشواك".
    ويذكر جونز أن القسوة العفوية التي اتسم بها موت هذا الرسّام، أي فابريتيوس، تسلّط الضوء بشكل غريب على فنّه. فالطائر الذهبي "يجلس في قفص في منزل هولندي، مقيّداً من قدميه، ككائن أليف لا مكان له ليذهب إليه. ويكشف التاريخ الموجود على اللوحة، 1654، أنه رسمها في العام الذي قُتل فيه. ولكن "حتى دون أن نعرف ذلك، فإننا نشعر بحزنها الغامض".

  • ثم يلاحظ أن البشر في لوحات فابريتيوس يشعرون بالملل والكسل. ويضرب مثلا لذلك لوحة " منظر لدلفت" التي رسمها الفنّان عام 1652، وفيها يجلس بائع آلات موسيقية متأمّلاً في كشكه بالقرب من جسر على قناة يمتدّ في فراغ رمادي باتجاه وسط المدينة. ويضيف: لا يوجد أحد حول الرجل ولا يوجد زبائن. والبائع الوحيد لديه متّسع من الوقت للتفكير والتأمّل. ومثله كمثل طائر الحسّون، فهو مقيّد هنا في حالته بسبب وظيفته ولا شيء يفعله".
    ثم يتساءل: هل كان فابريتيوس أوّل فنّان يرسم الملل؟ لقد أصبح الملل فيما بعد موضوعا للفنّ الفرنسي في عصر مانيه وديغا. والملل حالة روحية حديثة بامتياز. ومع ذلك، كان هذا الفنّان الهولندي الشابّ يرسم الملل في خمسينات القرن السابع عشر. وهذا المزاج هو الذي يجعل لوحته "طائر الحسّون" تحفة فنّية غريبة ومخيفة.
    ويذكر جونز أن هذا الفنان الموهوب، الذي ولد في عام 1622، لقي حتفه في عام 1654 عندما انفجر مخزن يحتوي على ما لا يقلّ عن 90 ألف رطل من البارود في قلب مدينة دلفت. وقد أودى هذا الحادث العشوائي السخيف بحياته وهو في الثانية والثلاثين من عمره. كانت الجمهورية الهولندية مسلّحة "لحماية استقلالها كما توضح لوحة "الحرس الليلي" لرامبرانت (1642)، لكن انفجار دلفت لم يحدث في معركة أو غزو، بل كان كارثة لا معنى لها، إذ كان هناك شخص مهمل يحمل عود ثقاب."
    ولوحة إيغبيرت فان دير بويل "منظر لدلفت بعد انفجار عام 1654" تصوّر مدينة مدمّرة جزئيّا تحت سماء مليئة بالغيوم والدخان. لقد انقلب عالم المدينة الهولندية المريح رأساً على عقب، فالمنازل تقف مدمّرة بينما تفتح عوارضها المتفحّمة على السماء الباردة، وأشخاص مذهولون يساعدون الجرحى ويبحثون بين الأنقاض، ويظهر صفّ من الأشجار التي جُرّدت من أوراقها بفعل الانفجار الناتج عن الكارثة".

    ❉ ❉ ❉

  • في عشرينيات القرن الماضي، عاش في داغستان رجل ذو إرادة حديدية يُدعى نجم الدين غوتزو. وقد رفض تسليم شعبه للبلاشفة بقيادة لينين وظلّ ثابتا وحازما في معارضته لهم. وبعد أن تراجع إلى جبال القوقاز، تعهّد بعدم تسليم أرضه للشيوعيين أبدا.
    وفشل الشيوعيون في استئصال الزعيم الداغستاني، ولكنهم نجحوا في ذلك عام 1925 عندما بدأوا في عرض المكافآت المالية على المزارعين المحليين الفقراء كي يدلّوهم على مكانه. وقد أخذ بعضهم البلاشفة إلى مخبأ نجم الدين العجوز. وحاصر الجيش الروسي مكانه وأمره بالخروج.
    فغسل وجهه بهدوء وتلا صلواته ثم تفاوض على العفو عن الرجال الذين كانوا معه. وبعد ذلك غادر المنزل، وفي الطريق رأى المزارعين الذين خانوه، فحدّق في عيونهم وتحدّث إليهم قائلا: سأشكوكم الى الله يوم القيامة". ثم استجوب الروس نجم الدين وعذّبوه بوحشية. ومع ذلك، رفض الإدلاء بأيّ معلومات عن رفاقه.
    وعندما سُئل عمّا إذا كانت لديه أيّ كلمات أخيرة قبل أن تُطلق عليه النار، نظر إلى جلّاديه بجسد منهك وقال لهم بصوت حازم: نعم، لديّ بعض الكلمات، قريبا ستصبحون ضحايا لأيديولوجيتكم المتطرّفة!".

  • Credits
    mauritshuis.nl
    theguardian.com

    الأربعاء، مارس 05، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • يقول الكاتب الأفغاني خالد حسيني مؤلّف رواية "عدّاء الطائرة الورقية": برغم كلّ الصعوبات التي نتصوّر أنه لا يمكن التغلّب عليها، إلا أننا جميعا، وعلى الرغم من كلّ شيء، ننتظر أن يحدث لنا شيء غير عاديّ".
    وهناك قول قديم مفاده أن الأشياء العظيمة تحدث لمن ينتظرون. والمعنى يتضمّن الحثّ على التحلّي بالصبر والمثابرة عندما لا تسير الأمور كما نريد، ومن ثمّ ترك كلّ شيء لمشيئة الله.
    ورغم أن هذه النصيحة مفيدة في بعض المواقف، إلا أنها سلاح ذو حدّين. فهي من ناحية تدعو إلى الصبر، ولكنها أيضاً تبني شعوراً بالرضا عن الذات. فهي تشجّعنا على المثابرة، ولكنها تحثّنا أيضاً على الانتظار بجعلنا نعتقد أن شيئا غير عادي قد يحدث لنا إذا انتظرنا بصبر كافٍ.
    لكن عندما يتعلّق الأمر بتحقيق ما نريده فإن لدينا خيارين: إمّا أن ننتظر حدوث شيء جيّد لنا أو أن نسعى لتحقيقه بأنفسنا. وإذا سعينا وراء ما نريده لأنفسنا، فإن فرصتنا في الحصول عليه تكون أكبر.
    المشكلة في الانتظار هي أننا نضع مصيرنا بأيدي الآخرين ونسمح لهم بتحديد ما يحدث لنا. لكن إذا سعينا لتحقيق ما نريده لأنفسنا، فإن فرصتنا في الحصول عليه تكون أكبر كثيراً.
    إننا كثيرا ما نعتمد على الحظ. فنحن نعتقد أن الشيء الوحيد الذي يفصلنا عن أولئك الذين نجحوا هو الحظ. ورغم أن الحظّ يلعب دورا في حياتنا، إلا أنه لا يمكننا الاعتماد عليه للحصول على ما نريد. وأفضل ما يمكننا فعله هو العمل الجادّ ومحاولة خلق واقع جيّد لأنفسنا.
  • ❉ ❉ ❉

  • هذه الصورة توفّر مثالا على لوحات ماتيس في مرحلة ما بعد الوحشية. فبعد عدّة رحلات الى خارج فرنسا، أصبح الرسّام مهتمّا بالفنّ الإسلامي في شمال إفريقيا وزار المغرب في عامي 1912 و1913. ومن وحي رحلتيه الى المغرب رسم عدّة لوحات منها "زورا على الشرفة" وتصوّر امرأة شابّة من طنجة تجلس متربّعة على سجّادة في ظلّ جدار محيط بشرفة، وإلى جوارها وعاء أسماك ذهبية.
    كما رسم أيضا اللوحة التي فوق واسمها "نافذة في طنجة"، وهي لوحة ذات ألوان جريئة ومنظور مسطّح. كانت اللوحتان ضمن مجموعة جامع التحف الروسي إيفان موروزوف بعد أن اشتراهما من ماتيس في باريس. وبعد الثورة الروسية، صودرت مجموعة موروزوف. وفي عام 1948، تبرّعت الدولة باللوحتين ضمن اعمال فنيّة أخرى الى متحفي بوشكين للفنون الجميلة في موسكو والإرميتاج في سانت بطرسبيرغ.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كثيرا ما يقابل سائقو التاكسي العديد من الركّاب المثيرين للاهتمام، بعضهم متغطرسون وبعضهم غريبو الأطوار. وهم ـ أي السائقين - يروون قصصا، بعضها هادئ وخفيف ولكنه عميق، وبعضها الآخر معقّد للغاية لدرجة أنه يجعلك تتساءل في دهشة عمّا إذا كانت قيادة سيّارة أجرة هي التي تسمح لك بمقابلة مثل هؤلاء الأشخاص المثيرين للاهتمام.
    سائق التاكسي الأكثر شهرة في العالم، ربّما، هو شخصية خيالية يُدعى تراڤيس من فيلم "سائق التاكسي". وتراڤيس هو أحد المحاربين القدامى في حرب فيتنام، وهو يقود سيّارة أجرة لكسب لقمة عيشه وتهدئة روحه التي تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. وعلى الرغم من تنقّله عبر شوارع مدينة نيويورك الصاخبة والحيوية كلّ يوم، إلا أنه يجد المدينة مبهرجة أكثر من اللازم ولا يتأقلم معها. الأجواء الباردة والكئيبة التي يخلقها الفيلم، فضلاً عن مشاعر الغربة بين الإنسان والمجتمع، تترك أثرها عميقاً على المشاهد.
    في اليابان، التقى سائق سيّارة أجرة ذات يوم براكب في منتصف العمر. وبعد أن استقلّ الراكب السيّارة، أشار إلى سيّارة پورش التي أمامه وسأله: هل تعتقد أن هذه السيّارة جميلة؟". فردّ سائق التاكسي: لا لزوم لسماع رأيي، فسيّارات پورش جميلة بكلّ تأكيد!".
    ثم قال الراكب بسعادة: هذه سيّارتي!" فقال السائق بارتباك: إذا كانت سيّارتك فلماذا لا تقودها؟ ردّ الراكب: أنت غبيّ أم ماذا؟! لو كنت أقودها كيف سأتمكّن من تقدير جمالها؟!
    وكان هذا الراكب في الواقع ممثّلا مشهورا يُدعى تاكيشي. وكما اتضح، فقد اشترى تاكيشي، بكلّ شهرته وثروته، أحدث طراز من پورش، لكنه شعر بالحزن لعدم قدرته على رؤية نفسه يقود السيارة بفخر. وحينها فقط فكّر في أن يقود سيّارته أحد أصدقائه، بينما يستقلّ هو سيّارة أجرة، وبهذه الطريقة يمكنه رؤية سيّارته البورش الأنيقة.
  • ❉ ❉ ❉

  • أنت فريد من نوعك، وربّما تعتقد أن العالم لا يحتاجك، لكنه يحتاجك فعلا. فأنت نسيج وحدك من الناس، ولا تشبه أحدا سبقك ولا أحدا سيأتي بعدك.
    فلا أحد يستطيع التحدّث بصوتك ولا أحد له نفس رأيك ولا أحد له نفس ابتسامتك أو إشعاع نورك. ولا أحد يستطيع أن يأخذ مكانك، لأنه ملكك، وأنت وحدك الذي تملؤه.
    وإذا لم تكن هناك لتشعّ بنورك، فمن يدري كم من المسافرين سيضلّون طريقهم وهم يحاولون المرور من مكانك الفارغ في الظلام؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • البذرة والشجرة والزهرة والثمرة هي النظام الرباعي للكون. ومن حالة قلب الإنسان تنشأ ظروف حياته وتزدهر أفكاره وتتطوّر إلى أفعال. إن الحياة تتكشّف دائما من الداخل وتكشف عن نفسها للنور. والأفكار التي تولد في القلب تكشف عن نفسها أخيرا في الكلمات والأفعال والأشياء التي تُنجز.
    وكما تأتي الحياة من نبع خفي، فإن حياة الإنسان تنبع من أعماق قلبه. فكلّ ما هو عليه وما يفعله يتولّد هناك. وكلّ ما سيكون عليه وما سيفعله سينبع هناك. الحزن والفرح، المعاناة والمتعة، الأمل والخوف، الكراهية والحب، الجهل والتنوير، ليست في أيّ مكان سوى في القلب.
    الإنسان هو حارس قلبه، ومراقب عقله، والحارس الوحيد لقلعة حياته. وعاجلاً أم آجلاً، سيهزم كل الشرور والمعاناة، لأنه من المستحيل على الإنسان أن يفشل في تحقيق التحرّر والتنوير والسلام، وهو الذي يحرس بجهد لا يعرف الكلل بوّابة قلبه.

  • Credits
    art-matisse.com
    suite101.com