المشاركات

عرض المشاركات من 2009

الفنّ الاستشراقي: يقظة بعد سُبات

صورة
الفنّ الاستشراقي يعيش الآن حياة ثانية في بلدان الشرق الأوسط بعد فترة طويلة من موت هذا الفنّ في موطنه الأصلي، أي أوربّا. بدأ الاهتمام بالفنّ الاستشراقي مع حملة نابليون على مصر في العام 1798م. وجاء ازدهاره الحقيقي بعد 40 عاما من ذلك التاريخ. والفضل يعود إلى انتشار خطوط السكك الحديد وتخفيف القيود المفروضة على السفر والتجارة. بعض الفنّانين الاستشراقيين كانوا يرسمون أعمالهم في عين المكان. لكن مع ازدياد شعبية هذا النوع من الرسم، استطاع آخرون رسم لوحات استشراقية دون أن يغادروا أوطانهم. كانوا ببساطة يستخدمون الكتب المرجعية ويستعينون بنساء من بيئاتهم المحلية يلبسونهنّ ثيابا واكسسوارات مستوردة من بلدان الشرق. المواضيع التي كانوا يفضّلون رسمها كانت الحصان وسوق الرقيق والمسجد وطبيعة الأرض والخلفاء والمؤذّنين وعبيد النوبة والجنود. وكان هناك موضوع مفضّل آخر يتمثّل في الحريم والمحظيات شبه العاريات. كلّ هذا كان يُرسم بتفاصيل دقيقة وبأسلوب شديد الواقعية عُرف بالأسلوب الأكاديمي الذي ساد في أوربا لعدّة قرون وانتهى تماما مع مجيء المدرسة الانطباعية. ومع نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت الصور الأكاديمية تتمتّ...

أماكن في القلب

صورة
توماس كينكيد. ربّما لم تسمع بهذا الاسم من قبل. لكنّه اليوم احد أكثر الرسّامين نجاحا في العالم. وهو بالتأكيد الرسّام الأكثر رواجا وانتشارا في الولايات المتحدة. مناظره، التي تصوّر طبيعة رومانسية حالمة، تثير الكثير من الجدل. والناس والنقّاد منقسمون حول قيمتها الفنّية والإبداعية. المعجبون بـ كينكيد يسمّونه "رسّام الضوء". والذين يبتاعون لوحاته يقولون إنها تقدّم لهم الجمال في عالم قبيح. وهم يجدون فيها ما لا يجدونه في الفنّ الحديث الذي يركّز على بؤس الحياة وقبحها وعدميّتها. والذين لا يحبّون لوحاته يقولون إنها ساذجة وتعكس نظرة هروبية بإغراقها في الخيال وبابتعادها عن الواقع وعن مشاكل الناس. وبعض منتقديه يقولون انه يستخدم الدين ويستغلّ قناعات الآخرين لتحريضهم على شراء لوحاته التي "لا يمكن أن يعلّقها في بيته سوى الأشخاص الذين يهوون الديكور القديم والفنّ الأثري". لوحات كينكيد تصوّر قمم جبال مكلّلة بالثلوج وسماوات ذهبية وحمراء ومنارات مضيئة وغابات وأنهارا حالمة وبيوتا وأكواخا مغمورة بالضوء. وهذه اللوحات ليست من ذلك النوع الذي يتطلّب منك النظر إليها طويلا كي تفهمها. كما...

أفق الكلمات

صورة
جميع السلالم تؤدّي إلى أعلى وأسفل بنفس الوقت. إنها وسيلتنا للتحرّك إلى أماكن يتعذّر علينا الوصول إليها. أحيانا تكون السلالم أداة جيّدة للملاحظة وأحيانا تكون خطرة. الذي يصعد فوق سلّم يتعيّن عليه أن يكون متنبّها ونشطاً. السلبية لا توصلك إلى مساحات جديدة. إننا نطمح إلى أن نتحرّر من الجاذبية ومن الأرض. البعض يريد الوصول إلى السماء، النجوم، الهواء والأجزاء الخارجية لكوننا. وطوال تاريخ الفنّ كانت السلالم رمزا لتحقيق التفوّق. فنحن نتوق دائما لأن نرتفع، لأن نذهب إلى الأعماق ونصل إلى منظور مختلف. السماء والأرض لم تعودا موجودتين بالمفهوم القديم. فالأرض مستديرة. والكون نفسه ليست له مصاعد أو مهابط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. وهذه معضلة. إن من الطبيعي أن نبحث عن بداياتنا؛ عن المكان الذي أتينا منه في البداية. لكن لا يجب أن نفترض أن له اتجاها واحدا. إننا نعيش الآن في "مستقبل" علمي لم يستطع الفلاسفة والحكماء المتقدّمون أن يتنبّئوا به، لكنهم فهموا جيّدا العلاقة الأساسية بين السماء والأرض التي نسيناها. الكتب القديمة تصف المراحل والاستعارات والرموز التي ...

أغورا: ملحمة من العالم القديم

صورة
المكان: مصر. والزمان: القرن الرابع الميلادي. المسيحية آخذة في الانتشار. والوثنيّون ليس أمامهم سوى واحد من خيارين: إمّا أن يؤمنوا برسالة المسيح وإمّا أن يتقبّلوا مصيرهم. هكذا يبدأ فيلم أغورا الذي يتناول فصلا من فصول التاريخ الذي نُسي منذ زمن طويل. الفيلم يمزج بين الفلسفة والتاريخ والحبّ، ويروي كيف أن بإمكان أكثر أفكار الأصولية الدينية بدائيةً أن تؤثّر في حياة الناس وأن تولّد البغضاء والكراهية. كما يتناول الفيلم عددا من الأسئلة والأفكار الملحّة التي تتصّل بواقع البشر في ذلك الوقت وفي هذه الأيّام. متى يفسح التسامح الطريق للطغيان والتعصّب؟ وإذا لم تكن الأرض مركزا للكون، فهل في ذلك ما يجعل البشر اقلّ أهمّية؟ وهل يمكن أن يتعايش العلم والدين بسلام؟ منذ أيّام سيرجيو ليوني، لم يظهر فيلم يتحدّث كثيرا وبصوت عال بمثل ما يتحدّث فيلم "أغورا". وهذه ليست مفاجأة. فـ أغورا في اليونان القديمة كانت مكانا عامّا ومفتوحا تؤمّه مختلف طبقات الناس للتجمّع والتسوّق. في الإسكندرية خلال القرن الرابع الميلادي، كانت أغورا ما تزال مكانا عامّا ومفتوحا. لكنّ التجمعّات والأسواق كانت تناقش مواضيع تدور حول الآل...

وليام بليك: الفوضوي الحالم

صورة
عندما ولدت، تأوّهت أمّي وبكى أبي قفزت إلى هذا العالم الخطير اعزل، عاريا، مزقزقا بأعلى صوتي مثل شيطان مختبئ في غيمة! بعد مرور قرنين ونصف على ولادته، ما يزال وليام بليك حيّا من خلال ميراثه البصري وقيمه الفكرية. عاش حياة ثريّة وكانت عين عقله مليئة بصور الأبطال من الرجال والنساء والقدّيسين ذوي اللحى الطويلة البيضاء والوحوش المجنّحة والمخيفة. ومع ذلك كان أسلوب حياته اليومي متّسما بالكفاح والفاقة. وخلال السنوات السبع الأخيرة من حياته، عندما كان يرسم الكوميديا الإلهية ويصوّر شخصيات شكسبيرية، كان هو وزوجته يمرّان بأوقات صعبة. كانت غرفة معيشتهما في شقّتهما بـ لندن هي أيضا غرفة نومهما ومطبخهما واستديو الرسّام في وقت وحد. احد الجوانب المثيرة في سيرة حياة وليام بليك يتمثّل في حقيقة أن النقّاد والناس ما يزالون منقسمين بشدّة حول شخصيّته وقيمة أعماله. البعض يرى انه كان شخصا غريب الأطوار. أو هذا على الأقلّ ما وصفه به بعض معاصريه. وبينما قد لا يرقى الوصف لمستوى المرض العقلي، فإنه كانت هناك دائما درجة من الشكّ عن هذا الرجل الذي قيل مرّة انه ادّعى انه كان يرى الملائكة في الأشجار. عندما مات بليك سنة 1827 ...

أشهر عشر نساء خلّدهن الرسم

صورة
كان جون سنغر سارجنت أشهر رسّام للبورتريه في زمانه. وقد رسم هذا البورتريه الاستثنائي في بدايات اشتغاله بالرسم. كان يتمنّى أن يكسبه الشهرة. وقد تحقّق له ذلك، لكن ليس بالطريقة التي كان يتصوّرها. تعرّف سارجنت إلى فيرجيني غوترو ، وهي سيّدة مجتمع مشهورة وجميلة وزوجة مصرفي فرنسي بارز. وظلّ يطاردها لسنتين كي توافق على طلبه بأن تكون الموديل لهذه اللوحة. واختار الرسّام طريقة وقوفها بعناية فرسمها في وضع جانبي بجسد زجاجي وبشرة عاجية. وعندما أتمّ اللوحة وعرضها في صالون باريس في العام 1884، أثارت ما يشبه الفضيحة. فقد صُدم الناس بمكياج المرأة الأبيض الشاحب. وصُدموا أكثر لأن احد شريطي فستانها، في اللوحة الأصلية، كان منحسرا عن كتفها، وهي علامة اعتبرت غير لائقة في ذلك الوقت. وقد دفع ذلك فرجيني إلى اعتزال المجتمع، بينما اضطرّ سارجنت إلى إعادة رسم شريط الكتف بعد أن انتهى المعرض. ثم غادر باريس بعد ذلك الصخب مباشرة. لكنّه كان يصرّ دائما على أن البورتريه كان أفضل لوحة رسمها. في ما بعد، أي في العام 1916، باع الرسّام اللوحة إلى متحف المتروبوليتان الذي ظلّت فيه إلى اليوم. هذه اللوحة، البرتقالية كثيرا، يمكن أن ...

التاريخ والسياسة والفنّ في لوحة

صورة
يجمع المؤرّخون ونقّاد الفنّ على اعتبار هذه اللوحة أعظم تحفة فنّية أنتجها العصر الذهبي للفنّ الاسباني. وقد امتدحها الكثيرون باعتبارها محصّلة لإبداع الفنّان وسعيه الدائم لبلوغ مكانة اجتماعية عالية في إطار ثقافة لم تكن تتعامل مع فنّانيها بما يكفي من التقدير والاحترام. صورة لمحترَف رسّام هي دعوة للدخول إلى عالمه الخاصّ لاكتشاف تصوّراته عن العملية الإبداعية وكيف أن الفنّ في أعمق تجلّياته يمكن أن يتجاوز حدود المكان واللحظة التاريخية. لوحة "وصيفات الشرف" لـ دييغو فيلاسكيز (أو فيلاثكيث كما ينطق اسمه بالاسبانية) معروفة بحجمها الكبير وإتقانها الفنّي وبمئات التحليلات النقدية التي تناولتها. وهي لوحة رُسمت داخل استديو وتنافست أعداد لا تحصى من الرسّامين، بمن فيهم بيكاسو ودالي وغويا، في تمثّلها وتقليدها. كما ناقش كتّاب كثيرون الأسرار البصرية المغرية التي تختزنها هذه اللوحة وتناولوا الأسلوب الطبيعي الشفّاف الذي رُسمت به بالرغم من غموض موضوعها. في العقود الأخيرة من حكم امبراطورية هابسبيرغ في اسبانيا قدّمت "وصيفات الشرف" لمحة بليغة عن عالَم الملك الاسباني العجوز فيليب الرابع، حيث ...

فنّ معاصر للمنزل

صورة
يحلم العديد من الناس بشراء شيء من الفنّ المعاصر كي يزيّنوا به جدران منازلهم. وشراء بعض نماذج الفنّ الحديث يمكن فعلا أن يحسّن مظهر بيتك ويضفي عليه إحساسا بالانجاز والثقافة. لكن بالنسبة للكثيرين، فإن شراء قطعة فنّية يمكن أن يكون أمرا صعبا ومرهقا إلى حدّ ما. إن عملية شراء فنّ معاصر لا يجب أن تكون تجربة مؤرّقة، بل يتعيّن أن تكون عملية ممتعة ومشوّقة. فهي توفّر لك الفرصة في أن تعاين ثم تشتري مجموعة واسعة من الأعمال الفنّية لرسّامين جدد وناشئين. لكن ما يضايق الكثير من الراغبين في اقتناء أعمال فنّية هو المفهوم المتعلّق بهذا السؤال: ما هو الفنّ الجيّد وما هو الفنّ الرديء؟ إذ لا احد يريد أن يُتهمّ بالاستثمار في فنّ لا قيمة أو أهمّية له. الشيء المهمّ الذي يتوجّب عليك تذكّره عندما تفكّر في شراء فنّ معاصر هو انك تشتري قطعة لنفسك ولبيتك. إننا عموما نشتري الفنّ الذي نرى فيه امتدادا لأنفسنا أو تمثيلا لطبيعتنا ولأفكارنا وتصوّراتنا عن ما هو مهمّ في حياتنا. وعندما تشتري فنّا معاصرا ينبغي أن تختار دائما تلك النوعية من الفنّ التي تُشعرك بالسعادة وتضيف أشياء جوهرية وذات معنى إلى جوّ منزلك. وأفضل الطرق هي أن...

أفق الكلمات

صورة
لو لاحظت إنسانا سعيدا حقّا، ستجده إمّا يصنع قاربا أو يكتب سيمفونية أو يعلّم ابنه أو يزرع زهرة أضاليا في حديقة منزله أو يبحث عن بيض الديناصورات في الصحراء الكبرى. انه لن يبحث عن السعادة كما لو أنها زرّ في ياقة قميص ولن يسعى لها في حدّ ذاتها. هو يعرف انه سعيد لأنه مشارك في سباق الحياة بفاعلية ويعيش أربعا وعشرين ساعة مزدحمة في اليوم. - بيران وولف البحر والمحيط والماء تمثّل الولادة والموت والانبعاث. الماء هو القوّة التي تهب الحياة للأرض؛ السائل الأمينوسي الذي بدأت منه كلّ أشكال الحياة على الأرض. والبحر هو هاوية الرحم العميقة؛ العنصر الذي لا يمكن السيطرة عليه والقوّة التي تقتل .. وتطهّر. - أليشيا ليفان كانت نسمات خفيفة تهبّ عبر النهر.. يخالطها صوت وحيد. كان العازف يتلو سطرا من قصيدة لـ أمير خسرو. طفَت الكلمات لأعلى مصحوبة بنغمات أرغُن. ثم ردّدت النغم جوقة من ثلاثة أشخاص، بينما راح رابع يصفّق بيديه. وتدريجيا ارتفعت وتيرة الغناء وغمر المنشدين إحساس بالنشوة، وبدءوا يتمايلون بأجسادهم على إيقاع الأنغام المرتفعة في السماء. - قوّالي الصوفي كل منّا يولد ومعه شخص في الظلّ. هذا الجزء من شخصيتّنا هو ا...

ربّات الإلهام

صورة
لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع. وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات. ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة. هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة. اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث. الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة.. في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين. في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع. كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا. في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده. غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السير...

مناظر من أركاديا

صورة
استوحى نيكولا بُوسان لوحاته عن أركاديا من الأدب الكلاسيكي وأودع فيها صورا لجمال مثالي وخالد يظهر فيه الشخوص بهيئات نبيلة وبملامح تشبه شكل التماثيل القديمة. وعندما تتأمّل صوره عن الطبيعة الرعوية، سرعان ما تكتشف سحرها وقوّتها التعبيرية الكبيرة والمزاج الشعري والحالم الذي تصوّره. ويُعزى الفضل لـ بُوسان في إضفاء مسحة كلاسيكية على الرسم في فرنسا. ومن أجل تلك الغاية، ذهب إلى روما وأقام فيها سنوات طوالا. هناك، وضع رسم الباروك في قلب العالم القديم. لكنه اظهر الجانب المظلم من أركاديا عندما شكّك في التصوّرات القديمة عن بساطة الحياة الرعوية والريفية في اليونان القديمة. كان يرى العالم القديم عالما متخيّلا وكان ينظر إلى أركاديا كمكان ساذج أكثر من كونه مكانا مثاليّا. الطبيعة كانت وسيلة بُوسان المفضّلة للتعبير عن أفكاره وقناعاته. وكان يرسمها ليؤكّد على إحساسه بالمكان. وتكثر في صوره مشاهد الرعاة والبحيرات والجبال والأشجار والأوراق التي تذرها الرياح. وفي لوحاته، كلّ عنصر له وظيفة. حتى الظلال لها شخصيّتها المستقلّة داخل البناء العام للوحة. كما أن كلّ شيء يبدو في حالة حركة. فالطبيعة عند الرسّام...

على العشاء مع ليوناردو

صورة
"العشاء الأخير" لوحة مشهورة ومألوفة كثيرا. وقد تناول النقّاد هذا العمل بالشرح والتحليل من أكثر من زاوية ومنظور. عمر اللوحة أكثر من خمسمائة عام. وبسبب عوامل التقادم وكثرة عمليات الترميم، فقدت اللوحة جزءا كبيرا من تفاصيلها وألوانها. بعض أصحاب الخيال الواسع حاولوا إعادة بناء اللوحة من خلال البرامج الرسومية وافترضوا أن هذه كانت صورتها الأصلية عندما فرغ ليوناردو من رسمها. والبعض الآخر أضافوا إليها عنصرا طريفا أو خلعوا عليها حلّة عصرية. في المقال المترجم التالي يتحدّث "جون فاريانو" عن اللوحة من منظور مختلف. "العشاء الأخير" تصوّر أشهر مائدة في التاريخ. ومع ذلك، قد لا يلاحظ الكثيرون طبيعة الطعام وأصناف الغذاء الموضوعة فوق المائدة أمام المسيح وحواريّيه. كان رسّامو عصر النهضة يهتمّون برسم الأحداث التاريخية التي تتضمّنها النصوص المقدّسة. وكانوا أحيانا يضمّنون لوحاتهم عناصر من عندهم ولغايات فنية قد لا يكون لها علاقة بما تذكره النصوص الدينية. وبعض الرسّامين كانوا يضعون القصّة في سياق زماني معاصر، كأن يُلبسوا الشخصيات ثيابا حديثة تعكس عادات وثقافة عصرهم. ليوناردو في ...

ورق سولوفان

صورة
منذ أيّام، سمعت القصّة التالية من عامل كهربائي يشتغل بأحد محلات السباكة والكهرباء. قال: جاءني في المحلّ قبل يومين شخص طلب منّي أن اذهب معه لإصلاح عطل هاتفي في منزل كفيله. وفعلا ذهبت مع الرجل إلى المكان الذي وصفه. وفي الطريق حدّثني عن عمّه فقال انه من أعيان المجتمع وأن الله آتاه رزقا وافرا وانه ينفق من ثروته على بناء المساجد داخل البلاد وخارجها. وأضاف انه لا يكاد يمرّ شهر دون أن تنشر الصحف خبرا عن بناء مسجد أو جامع جديد في هذا البلد أو ذاك على نفقة ذلك الرجل التقيّ الورع. كنت اسمع هذا الكلام بكثير من الارتياح والفرح. وقلت في نفسي: جزى الله هذا الرجل الصالح خيرا على غيرته على الدين وحرصه على إعلاء كلمة الله في كلّ الأماكن والأصقاع. المهم، بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى المنزل الذي كانت هيئته تشي بمكانة الرجل وأهميّته وقيمته الاجتماعية العالية. وأخذني العامل إلى حيث يجب أن أباشر إصلاح الخلل. وبعد حوالي ساعتين من الجهد المضني الذي تطلّب تفكيك "السويتش بورد" وترتيب المفاتيح والخطوط والوصلات والأسلاك لإعادتها إلى وضعها الصحيح، اصطحبني العامل إلى الشيخ كي يعطيني أجري. وعندما رآني قال:...

اللوحة الكاملة

صورة
هذه اللوحة تختصر كلّ معاني الكمال. "امرأة شابّة مع إبريق ماء" هي نموذج للوحة الكاملة، بتوليفها المحكم وتنفيذها البديع والرائع. حتى أفضل النسخ منها لا يمكن أن تنقل لنا الإيقاع الدقيق لضوئها الأزرق والأبيض الجميل. بل وحتى أكثر الكلمات المختارة بعناية لا يمكن أن تصف جمال هذه اللوحة الصامت والمدهش. ومن الواضح أن قوّة اللوحة لا تتناسب مع حجمها. إذ لا توجد قطعة قماش مغطّاة بالأصباغ وعلى هذا النحو من الصغر يمكن أن تكون أكثر إثارة للإعجاب من هذه اللوحة. الكلام هنا لا لزوم له. فما الذي يمكن أن يقال عن شيء هو كامل في ذاته؟ أتذكّر عبارة قالها نيتشه في كتابه "أفول الأصنام" عن أيّ شخص يحاول الكتابة عن الفنّ العظيم. قال: أيّا تكن الكلمات التي عندنا، فإن الواقع يتجاوزها". في لوحة فيرمير نرى كيف أن الاعتيادي والمألوف يسمو إلى درجة الشِعر بما يتجاوز الكلمات. ثمّة جمال وغموض هنا لا نستطيع أن نلمسه. الصيغة البلاغية القديمة صحيحة: الكلمات تفشل. وهي حالة غير مريحة للشخص الذي ينوي الكتابة عن الرسم. عندما نواجه المطلق أو اللانهائي يمكن أن نستسلم للصمت أو نصاب بالجنون. الأمران معا حدث...

دورا مار

صورة
قبل أن آتي إلى بريطانيا منذ أكثر من ثلاثين عاما، تخلّصت من معظم ما كنّا نحتفظ به في منزلنا من لوحات فنّية، وذلك إمّا بإهدائها إلى بعض معارفنا أو وضعها في عهدة آخرين لحفظها. وبعد سنوات، ندمت كثيرا على تفريطي في تلك اللوحات. إحداها ظلّت تؤرّقني دائما. كان قد أهداها لنا فنّان شابّ من غويانا. أتذكّر هدوء تلك اللوحة الغامض وألوان خلفيّتها الدافئة. الشخصيّة فيها ترتفع مثل أبي الهول من بين الأنقاض الزرقاء لجدار. وعندما عدت لأرض الوطن بعد سنوات، بحثت عن اللوحة إلى أن وجدتها في بيت عائلتنا القديم. فأعدتها معي إلى انجلترا. وأصبحت اللوحة شاهدا على قوّة الفنّ الذي يلاحقنا ويلتصق بنا ويغذّي أرواحنا. إن قدرة الفنان على تحويل ألوانه إلى أشكال ومشاعر كانت دائما تحيّرني وتدهشني. ولا يقلّ عن ذلك فتنةً ذلك التفاعل والعلاقة المتبادلة بين أشكال الفنّ المختلفة من شعر ونحت وموسيقى ورسم. غير أن العلاقة بين الرسم والشعر، على وجه الخصوص، تتسم بالعمق والقوّة. فالاثنان محصّلة لرغبتنا في أن نصنع من الاعتيادي والمألوف شيئا جديدا، وأن نلتقط تجربة أو خبرة معيّنة بطريقة حيّة ومركّزة. وكلا الاثنين، أي الشعر والرسم، له ...