:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، أكتوبر 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • "وإذ أنزلُ من الجبال، يمتدّ الوادي أمامي وأسمع هدير أمواج البحر. وأتجوّل بصمت وأنا غير سعيد إلى حدّ ما. وأتساءل "إلى أين؟".
    هذا هو رثاء المتجوّل من أغنية لحّنها فرانز شوبيرت البالغ من العمر وقتها تسعة عشر عاما على شعر لـ ج. شميدت يقول فيه: الغريب يبحث عن موطن روحيّ في كلّ مكان، لكنه محكوم بالتجوال إلى الأبد". ألّف شوبيرت موسيقاه عام 1821. وقبل ذلك بثلاث سنوات، رسم كاسبار دافيد فريدريش لوحته المشهورة "المتجوّل فوق بحر الضباب"، والتي يمكن اعتبارها تفسيرا للحن شوبيرت.
    وكثيرا ما ظهرت اللوحة على أغلفة الكتب التي تتحدّث عن الرسم الرومانسي الألماني. ويظهر فيها رجل يقف على صخرة عالية، معطياً ظهره للناظر وحاملا عصا ومرتدياً معطفا. وعند قدميه نرى مشهداً طبيعيّا، إذ تنبثق السحب عن الوادي كاشفةً عن تلال صخرية. وعلى مسافة أبعد، في الأفق، تلوح سلسلة جبال يلفّها ضباب الصباح. أجزاء الضباب في الصورة لا تكشف عن التلال الخضراء والغابات الكثيفة، بل عن سفوح الجبال الكثيفة والصخور المتعرّجة. ويبدو الرجل كما لو أنه سيّد هذا المكان وفي الوقت نفسه خاضع له.
    المعروف أن أيّ رسّام آخر لم يبدع أيقونة مماثلة عن العزلة في مواجهة قوى الطبيعة. ولم يُظهر أي رسّام آخر بوضوح حزنَ الآمال التي لم تتحقّق. وقد شبّه فريدريش عمله الفنّي بالصلاة. "كما يصلّي الإنسان التقيّ دون أن يتفوّه بكلمة فيستمع له الربّ القدير، كذلك الفنّان ذو المشاعر الصادقة يرسم ما يعرفه ويفهمه الإنسان الحسّاس".
    فُسّرت لوحة فريدريش أيضا على أنها قصّة صمت فرد مبدع يصل إلى الحالة السامية المتمثّلة في توحّده مع الطبيعة ومع أفكاره الخاصّة. وقال ناقد إن المسافر الواقف على الصخرة ربّما يكون الشاعر غوته، وأن هذه الصورة هي محادثة غريبة مع مؤلّف "فاوست".
    وكان الشاعر قد طلب من فريدريش أن يرسم مجموعة دراسات عن السحب بحسب تصنيفها، والتي كان لوك هاوارد قد نشرها في ذلك الوقت. ولم يستطع فريدريش قبول مثل هذا التحدّي، فالسحب المصنّفة علميا لن تنقل معاني روحية أسمى بعد الآن. وقال ان ذلك سيكون بالنسبة له "نهاية الرسم". لذا فإن لوحته ذات طابع جدلي. فالطبيعة غير مريحة بل مهدِّدة وقمعية، والمتجوّل يقف فوق الهاوية.
    الشاعران الإنغليزيان سامويل تيلر كولريدج وويليام ووردزوورث، ولاحقا الواقعي الفرنسي غوستاف كوربيه ومواطنه الرمزي بول غوغان، كانوا جميعهم محوريين في الفلسفة أو الكتابة أو الرسم عن السفر كوسيلة للانفتاح. كان حبّ التجوال بالنسبة لهم أمرا وجوديّا بطبيعته، فقد فتحت المسارات الجغرافية الجديدة دروبا جديدة داخل العقل وأتاح الحجّ الجغرافي رحلات روحية موازية داخل الذات.
    يقال إن حبّ التجوال هو في الأصل فكرة ألمانية. ومفردة Wandern التي تعني التنزّه أو التجوال، لم تبدأ كنشاط ترفيهي، بل كتمرين وجودي جادّ للخروج إلى الطبيعة من أجل الدخول إلى الذات. وقد اعتقد الرومانسيون أن هذا، أي الذات، هو المكان الذي يمكن العثور فيه على السعادة والرضا عن النفس. كان الألمان في القرن الثامن عشر، خاصّة، مفتونين بإيطاليا بسبب مناظرها الطبيعية. لكن الألمان الذين يملكون الوقت والوسائل اللازمة للمشي مسافاتٍ طويلة كانوا يميلون إلى اجتياز المناظر الطبيعية المتنوّعة في بلادهم، من وادي الراين إلى جبال هارتس وإلبا الرملية، التي تمتدّ لمسافات قريبة من جمهورية التشيك.
    من الأشياء الأخرى الجديرة بالإشارة أن لوحة "المتجوّل" تعمل أيضا في المخيال الجماعي كرمز للضمير الألماني. وقد وضعتها مجلّة "دير شبيغل" على غلافها في الذكرى الخمسين لنهاية الحرب العالمية الثانية. من أعلى الصخرة المرتفعة، كان الرجل الظاهر في اللوحة يتأمّل أشباح النازية. وعلى غلاف مجلّة "شتيرن" في أكتوبر 2015، ظهر "متجوّل" فريدريش وهو يراقب بحرا من لاجئي العالم الثالث وهم يخرجون من بين ضباب اللوحة.
    اليوم قد لا تكون لوحة الرومانسي الألماني مجرّد قصّة رمزية للعزلة الفنّية. فقد انتزعت من جوهرها السردي المتمثّل في البحث عن الذات والسفر وأصبحت رمزا للضباب الذي ينبثق منه الوعي النقدي، فضلا عن الإحساس بمعاناة الآخرين.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في صباح أحد الأيّام من عام 1856، ذهبت فتاة قبلية من منطقة الساحل في جنوب أفريقيا، تبلغ من العمر خمسة عشر عاما، لإبعاد الطيور ومنعها من أكل محاصيل عمّها في حقل يقع بجوار البحر. وعندما عادت الفتاة الى بيتها، قالت إنها رأت رجلا أخبرها "أن أجدادها الراحلين يوشكون أن ينهضوا قريبا من بين الأموات وأن جميع ماشية القبيلة يجب أن تُذبح الآن وأن تُتلف جميع المحاصيل".
    وعندما وصفت الفتاة الرجل، تعرّف عليه عمّها، وهو عرّاف، وقال إنه روح أحد أسلافهم الموتى، وأنه عاد الى الحياة "من أجل إعادة الأمّة إلى مجدها السابق وطرد الرجل الأبيض من بلادهم". وبعد أيّام أكّد عمّها ان جميع موتى القبيلة سيُبعثون من قبورهم وسيخرجون من البحر، حاملين معهم ماشية جديدة "غير ملوّثة" وأشياء أخرى تحتاجها القبيلة".
    ونتيجةً لذلك، وعلى مدى عامين، قتل أبناء القبيلة في الكاب الشرقي وترانسكاي جميع ماشيتهم وأبادوا محاصيلهم الزراعية، انتظارا لتحقّق تلك النبوءة الغريبة.
    وقال روحانيون آخرون إن الماشية بعد ذبحها "ستمكث في كهوف تحت الأرض بانتظار النهوض وبدء عالم جديد للشعب المطهّر". ووَعد بعضهم انه في يوم عودتها "سيبصر العميان ويسمع الصمّ وينطق البكم ويمشي المقعدون وتنهض الأمّة بأكملها من بين الأموات لتبدأ عصرا ذهبيّا بلا مرض ولا موت."
    وبعد ذلك بعث زعيم القبيلة اثنين من مستشاريه لإبلاغ الزعماء الخاضعين للسلطة البريطانية بوجوب التضحية بمواشيهم ومحاصيلهم. لكنهم لم يُذعنوا لأمره ورفضوا تصديق النبوءة والتخلّص من ممتلكاتهم.
    وكان كبير عرّافي القبيلة قد أعلن أن العالم الجديد سيبدأ بعد ثمانية أيّام "حيث ستشرق الشمس حمراء كالدم. وقبل أن تغرب، ستهبّ عاصفة رعدية عاتية ينهض على إثرها الموتى من الأرض". وخلال الأيّام الثمانية التالية، بلغ ذبح الماشية ذروته. لكن في اليوم التاسع أشرقت الشمس كأيّ شمس أخرى وانسحب المؤمنون إلى منازلهم وأغلقوا أبوابهم بإحكام طوال اليوم. وكان بعضهم ينظرون من حين لآخر عبر الثقوب الصغيرة في نوافذهم تحسّبا لأيّ تطوّرات مفاجئة.
    ومع اجتياح جنون ذبح الماشية لأرض القبيلة، انتشرت شائعات منها أن "الشعب الجديد" الذي تنبّأ به العرّافون قد تكون له علاقة ما بالروس الذين كانوا على وشك إلحاق الهزيمة النهائية بالإنغليز في حرب القرم المشتعلة آنذاك. لذا ساد اعتقاد بأن الروس قادمون عبر البحر لتحرير شعب القبيلة وطرد الأوربّيين البيض من أرضهم، وعندها ستبدأ مرحلة "يوتوبيا" جديدة للأمّة.
    حاول العقلاء من أعيان القبيلة إقناع الآخرين بحماقة ذبح ماشيتهم، لكن دون جدوى. وفي النهاية قُدّر عدد الماشية المقتولة بأربعين ألف رأس. ونتيجةً لقتل المواشي وتدمير الحقول، انهار الاقتصاد التقليدي الذي كان يعتمد بشكل كبير على الثروة الحيوانية، وبدأ الناس يشعرون بوطأة الجوع بعد أن قُضي على مصدر غذائهم الرئيسي، فانطلقوا ينهبون بغضب مزارع الاوربيين وماشيتهم.
    واعتُبرت تلك الحركة مثالا على كيفية استجابة السكّان الأصليين للضغوط الاستعمارية وسعيهم لاستعادة استقلالهم. لكن على الصعيد الاجتماعي، خلقت الحركة انقسامات داخل المجتمع.
    في الثقافات الأفريقية التقليدية، تتمتّع الرؤى والنبوءات بأهمية كبيرة، لا سيّما إذا كانت الفتيات والنساء عنصرا أساسيا فيها. لذلك، لم يكن من الصعب على شعب القبيلة أن يؤمنوا بتلك النبوءة على غرابتها. كما كان لفكرة التطهير في النظام الديني دور مهم في إبادة الماشية، فقد تقرّر قتلها لأنها "تلوّثت".
    وقبل المذبحة، كانت الكثير من قطعان ماشية القبيلة قد تعرّضت للهلاك مرارا بسبب مرض يصيب الرئة، وأُشيع انه انتقل إلى جنوب أفريقيا عن طريق الماشية المستوردة من أوروبّا. ولإفساح المجال لولادة عالم جديد خال من القمع الاستعماري، كان لا بدّ من إهلاك الماشية والمحاصيل والحيوانات "غير الطاهرة". وكانت التضحية بالماشية وسيلة شائعة لتهدئة أرواح الأجداد الغاضبة، وهو ما يتوافق تماما مع فكرة قدوم الشعب الجديد.
    ورغم أنه لا يوجد اليوم ما يؤيّد النظريات القائلة بأن الإنغليز هم الذين تسبّبوا في حوادث مرض الماشية كي يدفعوا السكّان الأصليين الى قتلها عمدا، فإن بعض اللوم يقع على تعاليم المبشّرين المسيحيين الذين كانوا نشطين في أرض تلك القبيلة وغيرها من القبائل في ذلك الوقت.
    وكان للفكر الديني الغربي تأثير كبير على عقول شعب القبيلة، بالرغم من قلّة عدد المتحوّلين منهم الى المسيحية. وقيل إنه سبق للعرّاف الذي دفع الناس الى قتل ماشيتهم أن عمل خادما لرئيس الشمامسة في كيب تاون. ويُحتمل أن يكون المفهوم المسيحي عن قيامة الأسلاف من بين الأموات قد ترسّخ في ذهنه هو وجماعته.
    في نهاية المطاف، أدّت حادثة إبادة الماشية والمحاصيل إلى مزيد من تهميش القبائل وتفاقم التوتّرات بينهم وبين القوات الاستعمارية البريطانية، وهو ما أفضى بدوره الى صراعات وتعقيدات لاحقة.

  • Credits
    archive.org
    caspardavidfriedrich.org