:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديبوسي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ديبوسي. إظهار كافة الرسائل

الأحد، مارس 24، 2019

الموسيقى كَشِعر


الموسيقى الانطباعية هي حقبة في تاريخ الموسيقى تمتدّ من حوالي عام 1880 إلى عام 1920. ورغم أنها في الأساس ظاهرة فرنسية، إلا أنها اتّسعت بعد ذلك لتشمل كلا من انجلترا وإيطاليا والولايات المتّحدة.
بالتأكيد سمع معظمنا بأسماء رسّامين مثل مونيه ورينوار وسيسلي وكميل كورو وميري كاسات. وهؤلاء كانوا يعرضون لوحاتهم في باريس في بدايات القرن الماضي، وكانت تحظى بإعجاب قطاع لا بأس به من الجمهور.
في تلك الفترة، كان يعيش في باريس شعراء كانوا يسمَّون بالشعراء الرمزيين، مثل شارل بودلير وبول فيرلين وستيفان مالارميه. وأشعار هؤلاء، بالإضافة إلى رسومات مونيه ورفاقه، تحوّلت إلى مادّة استلهم منها الموسيقيون الانطباعيون أفكارا لموسيقاهم.
وأشهر هؤلاء الموسيقيين كان كلود ديبوسي الذي يُعزى إليه الفضل في تأسيس الموسيقى الانطباعية. لكن كان هناك موسيقيون آخرون ساروا على نهجه، مثل موريس رافيل مؤلّف موسيقى بوليرو المشهورة، وغابرييل فوريه الذي ألّف قطعا جميلة مثل النشيد الجنائزي ، بالإضافة إلى الموسيقيّ الايطاليّ ارتورو ريسبيغي.
لكن بطبيعة الحال فإن أشهر هؤلاء كان ديبوسي. والناس يتذكّرونه بمؤلّفاته المشهورة، مثل ضوء القمر ونوكتيرن واستهلالات للبيانو .
وهذه القطعة الأخيرة استوحاها ديبوسي من قصيدة للشاعر مالارميه الذي كان معلّما لديبوسي وكان الاثنان صديقين مقرّبين. والمعزوفة مشحونة عاطفيّا علاوةً على أنها نوع مختلف من الموسيقى. ومن الصعب وأنت تسمعها لأوّل مرّة أن تقدّرها مع أن عشّاق الجاز يحبّونها كثيرا.
ومن الواضح أن ديبوسي كتبها ليوظّفها كنوع من الإلهام. وقد قال ذات مرّة إن الأمزجة التي تعكسها هذه الموسيقى مستوحاة من سلسلة من الرسومات التي تثير في النفس مجموعة من الرغبات والمشاعر في وقت الظهيرة.
كان ديبوسي موسيقيّا وعازف بيانو موهوبا ومهتمّا باكتشاف الأصوات الموسيقية الجديدة. ومؤلّفاته المبكّرة وُصفت بالغريبة وغير المألوفة. وكانت الطبيعة الغامضة مصدرا للعديد من مؤلّفاته، مثل ضوء القمر والبحر وغيرهما.
وقد نُقل عنه ذات مرّة قوله: عندما أحدّق في السماء ساعة الغروب متأمّلا جمال الشمس الرائع، يغمرني شعور غير عاديّ. الطبيعة على اتّساعها منعكسة في روحي، والأشجار من حولي تمدّ فروعها نحو السماء، والأزهار المعطّرة تغطّي المروج، والعشب الناعم يداعب وجه الأرض. انه أمر أشبه ما يكون بالصلاة".


لكن ما هي الموسيقى الانطباعية وكيف نميّزها عن غيرها من أنواع الموسيقى؟
لو نظرت من مسافة إلى إحدى لوحات الرسّام كلود مونيه، فسيساورك شعور بأن ما تراه هو عبارة عن صورة. لكن إذا أردت أن تدرس هذه اللوحة عن قرب فستبدو لك أشبه ما تكون بكتل من الألوان أكثر من كونها أشكالا متماسكة.
هذا الأسلوب هو ما يُعرف بالرسم الانطباعيّ. وهو نفس الفكرة الموظّفة في الموسيقى الانطباعية. أي أن الموسيقى تركّز على اللون والجوّ والسيولة.
واللون هو نوعية الصوت الذي يميّز آلة موسيقية أو صوتا موسيقيّا عن آخر. وهو جزء مهمّ من الموسيقى الانطباعية. وقبل ظهور هذا الأسلوب كان المؤلّفون الموسيقيون يكتبون موسيقاهم بحيث تُصدر مجموعة من الآلات أصواتا متماثلة أو متناغمة. لكن الانطباعيين كانوا يركّزون على صوت كلّ آلة على حدة، وكتبوا موسيقاهم بطريقة تؤكّد على هذه الألوان الخاصّة والمتمايزة.
والفكرة الأساسية هي أن الموسيقيين الانطباعيين كانوا ميّالين إلى توصيل المزاج في موسيقاهم بدلا من الخطوط النغمية التقليدية. كما ركّزوا على أن تستثير موسيقاهم شعورا ما في نفس السامع. وغالبا تبدو هذه الموسيقى غامضة ومشوّشة إلى حدّ ما، لكنها مع ذلك محكمة الصنع.
وبعض الآلات الموسيقية، كالفلوت والكلارينيت خاصّة، أصبحت تُعزف بطرق مختلفة وصارت أصواتها اخفّ وأكثر قتامةً.
الموسيقى الانطباعية ة أرادت دائما أن تخرج من الصندوق وتبتعد عن المفتاح العالي والمفتاح المنخفض الذي خبره الناس لزمن طويل. لذا ليس فيها مفاتيح على الإطلاق، بل أنغام وصيغ مختلفة.
وهذا أعاد ديبوسي وزملاءه إلى أساليب موسيقية أكثر قدما، مثل موسيقى القرون الوسطى التي كانت تعتمد على ربع وخمس التون بدلا من ثلث التون.
ثم هناك الإيقاع. فمعظم الموسيقى الانطباعية ينقصها الإيقاع المطّرد، كما أنها سائلة وعرضة للتغيير، وليست من النوع الذي يألفه الناس بسهولة. وهي أيضا لا تستثير انفعالات عميقة كما هو الحال مع موسيقى العصر الرومانسيّ مثلا. كما أنها تنحو غالبا باتجاه الإيماءات البعيدة والإيحاءات، لكن من دون وصف.
وبالإضافة إلى الأسماء التي سبق ذكرها، هناك موسيقيون آخرون تأثّروا بالانطباعية، مثل جان سيبيليوس وايريك ساتي، ومثل الموسيقيين الاسبانيين مانويل دي فايا واسحق ألبينيث.
كان ديبوسي يمتدح دائما موسيقى ألبينيث الذي تعود أصوله إلى عرب الأندلس. وكان معجبا على نحو خاصّ بمعزوفته آيبيريا التي كان يصفها بأنها إحدى أعظم القطع الموسيقية المكتوبة للبيانو.
موسيقى ألبينيث هذه صعبة جدّا وطويلة، إذ تتألّف من اثنتي عشرة قطعة. وقد كتبها في ثلاث سنوات. وهي تمثّل الأسلوب الانطباعيّ في الموسيقى، لكن من منظور موسيقيّ اسبانيّ. وأشهر القطع التي تتضمّنها هي تلك المسمّاة ايل بويرتو (الفيديو فوق) وهي عبارة عن رقصة اسبانية قديمة.

Credits
masterclass.com

الثلاثاء، يوليو 11، 2017

رحلة مع اللون والنغم


العلاقة المتبادلة بين الرسم والموسيقى معروفة منذ القدم. وهناك العديد من المؤلّفات الموسيقية المشهورة المستوحاة من لوحات تشكيلية. مثلا، استلهم الموسيقي الروسيّ موديست موسورسكي مُتواليته الموسيقية بعنوان صور في معرض من عشر لوحات للرسّام الفرنسيّ فيكتور هارتمان كان قد رآها في احد المعارض الفنّية في سان بطرسبورغ عام 1874.
كما استوحى سيرغي رحمانينوف موسيقاه بعنوان جزيرة الموتى من لوحة للرسّام السويسري ارنولد بوكلين بنفس الاسم . بوكلين في لوحته، ذات النسخ الخمس، يصوّر جزيرة صخرية مقفرة يحيط بها الماء من كلّ جانب. وأمام بوّابتها يتحرّك قارب صغير تقف في مقدّمته امرأة ترتدي ملابس بيضاء، وأمامها تابوت زوجها الملفوف بأردية بيضاء.
وفي وسط الجزيرة تظهر مجموعة من أشجار السرو التي تذكّر عادة بطقوس الحداد وأجواء المقابر. والانطباع الذي توصله الصورة هو الخراب واليأس والترقّب. وقد نقل رحمانينوف هذه المشاعر والأجواء في موسيقاه بعد أن رأى اللوحة.
وهناك أيضا الموسيقى المسمّاة ثلاثية بوتيتشيلليانو والتي ألّفها الموسيقيّ الايطاليّ اوتوريني ريسبيغي في مارس من عام 1927. وهي عبارة عن متوالية من ثلاثة حركات، تعتمد كل واحدة على لوحة من لوحات رسّام عصر النهضة الايطالي ساندرو بوتيتشيللي. وقد خصّص الحركة الأولى منها لتعبّر عن أجواء لوحة بوتيتشيللي المسمّاة الربيع ، بينما خصّص الحركة الثالثة لـ مولد فينوس .
كما استلهم الموسيقيّ الفرنسيّ كلود ديبوسي موسيقاه بعنوان البحر من اللوحة المشهورة الموجة الكبيرة قبالة شاطئ كاناغاوا للرسّام اليابانيّ كاتسوشيكا هوكوساي (1831 ).
وفي عام 1857، ألّف فرانز ليست معزوفة بعنوان معركة الهون بعد أن رأى لوحة الرسّام النمساويّ وليم فون كولباك بنفس الاسم.
لوحة كولباك تصوّر معركة وقعت عام 1451 بين جيوش الهون بقيادة اتيلا من جهة وبين التحالف الرومانيّ بقيادة الجنرال فلافيوس اييتيوس وملك القوط ثيودوريك من جهة أخرى. ويقال أن تلك المعركة كانت ضارية جدّا، لدرجة أن أسطورة تقول أن أرواح المحاربين استمرّت تتقاتل في السماء بينما كانت في طريقها إلى العالم الآخر.
بالمقابل، هناك رسّامون أنتجوا صورا استوحوها من أعمال موسيقية. مثلا، استلهم الرسّام موريتز فون شويند لوحته سيمفونية من موسيقى فانتازيا للبيانو لبيتهوفن . وقد تخيّل الرسّام لوحته كجدار لغرفة الموسيقى الخاصّة ببيتهوفن، ونسج في كلّ جزء من لوحته قصّة حبّ تتناغم مع جوّ كلّ حركة من حركات تلك الموسيقى.
ومن المثير للاهتمام أن فون شويند استلهم بعض لوحاته الأخرى من موسيقى شوبيرت. كان من عادة هذا الرسّام أن يسجّل في صوره مراحل معيّنة من حياته، وقد اسماها "صور سفر".
لوحته المشهورة الوداع عند الفجر صوّر فيها بطريقة شاعرية رحيله عن فيينا قبل ذلك التاريخ بثلاثين عاما. لكن في نفس الوقت كانت اللوحة ترجمة الرسّام لأحد مقاطع شوبيرت في موسيقاه رحلة الشتاء والذي يردّد فيه الشخص المتجوّل جملة تقول: أتيت غريبا .. وغريبا أرحل".
موسيقى شوبيرت هذه هي نوع من الميلودراما الغنائية. والصوت الشاعريّ هو مركز الثقل فيها، بينما تجسّد نغمات البيانو لاوعي المتجوّل الذي يقدّم تصويرا للعالم الخارجيّ.
ولوحة شويند تمسك بتلك اللحظة المصيرية والغامضة التي يلتفت فيها المتجوّل إلى الوراء، وربّما إلى الأمام في نفس الوقت. والمعروف أن الرسّام كان عاشقا للموسيقى وصديقا مقرّبا من شوبيرت. ومن الواضح أن تلك العلاقة أسهمت في صوغ تطوّره الروحيّ والإبداعيّ كرسّام.
وهناك أيضا لوحة لفريدريك ليتون اسمها أغان بلا كلمات . وقد رسمها بعد أن استمع إلى قطعة للموسيقي الألماني فيليكس ماندلسون بنفس العنوان.
كما رسم الفنّان الهولندي بيت موندريان لوحة اسماها برودواي جاز وملأها بالخطوط الصفراء والمربّعات الحمراء والزرقاء والبيضاء. وكان غرضه أن يخلق إيقاعا يشبه ديناميكية موسيقى الجاز التي سمعها لأوّل مرّة بعد أن وصل إلى نيويورك مهاجرا في سبتمبر من عام 1940م.

Credits
petermedhurst.com

الأربعاء، يناير 22، 2014

فرانز ليست: العبقريّ الجميل

جزء من جمال هذا العالم المجنون هو انه يحتوي من القصص والحكايا على كلّ ما هو طريف واستثنائي وغريب. وإذا اخترنا أن نتذكّر "فرانز ليست" كمثال، فلأنه كان شخصيّة أسطورية وكاريزماتية ومعقّدة جدّا، بدءا من حبّه العجيب للحياة، ومرورا بقصّة تزويجه ابنته لزميله الموسيقيّ ريتشارد فاغنر، وانتهاءً بلجوئه إلى الدين.
في هذه اللوحة التي تعود إلى العام 1840، يرسم جوزيف دانهاوزر فرانز ليست وهو منهمك في العزف على بيانو كبير في صالون باريسي. وفوق البيانو يظهر تمثال نصفيّ لبيتهوفن. وفي الصورة أيضا حشد متخيّل من كبار شخصيّات ذلك الزمن مثل الكسندر دوما وجورج صاند وماري داغو وفيكتور هوغو ونيكولو باغانيني وجياكومو روسيني، بالإضافة إلى بورتريه للورد بايرون.
كان "ليست" النجم الأكثر نجاحا والأطول عمرا في كلّ تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. وقد اكتسب جمهورا وأتباعا بأكثر ممّا استطاع أن يفعله أيّ موسيقيّ جاء قبله أو بعده. كما كان، ولا شكّ، أعظم عازف بيانو في جميع العصور.
إقرأ ما كتبه هاينريش هايني واصفا سلوك الجمهور في إحدى حفلات "ليست" التي أقامها في ايطاليا وأكّدت ما كان له من تأثير كبير على معظم أوروبّا خلال سنوات منتصف القرن التاسع عشر. يقول: كان ظهوره في أيّ مكان كفيلا بإثارة جنون النساء. التصفيق الذي يقابَل به كان دائما عاصفا وهستيريّا. كان نوعا نادرا من الجنون؛ الجنون الذي لم يسمع بمثله احد في تاريخ الضجيج".
كان "ليست" نجم الجماهير الأشهر بأوصاف عصرنا الحاضر. النساء والرجال كانوا يتجاوبون بطريقة هستيرية مع حفلاته. كان عزفه يرفع مزاج الجمهور إلى ما يشبه النشوة الصوفية. وكان الجميع يتكالبون عليه ويتقاتلون للحصول على مقتنياته الشخصية.
كانت تحيط به سيّدات منوّمات أو مغمى عليهنّ تقريبا. بعضهن كنّ يلقين بالزهور على المنصّة، بل وحتى بالمجوهرات مع صرخات وتصفيق مدوٍّ. وأخريات كنّ يسرقن خصلات من شعره أو يتشاجرن للحصول على أعقاب سيغاره وبقايا ريقه الذي يتركه على فناجين القهوة.
وهؤلاء لم يكنّ نساء عاديّات. كنّ من نخبة المجتمع الباريسي في القرن التاسع عشر. وقد ضربن عرض الحائط بجميع قواعد اللياقة الاجتماعية لإظهار عشقهنّ للعازف الرومانسيّ الوسيم.
وبينما كانت شعبية "ليست" تزداد، كان معجبوه يكتبون إليه طالبين منه المزيد من خصلات شعره. وأمام هذه الطلبات الكثيرة، اضطرّ لقصّ شعرات من كلبه وبدأ في إرسالها إلى المعجبين. وهكذا ثبت مرّة أخرى أن الكلب أفضل صديق للإنسان!
حاوِل أن تتخيّل اتجاها واحدا يمثّله رجل واحد مع بيانو وسترة جميلة وملامح وسيمة وأسلوب خاصّ في العزف، وربّما مع بعض حبّات الكَلَف في وجهه.
مظهر "ليست" الوسيم واللافت للنظر وأدبه وأناقته ولباسه الفخم لم تكن عوامل كافية لضمان الشهرة والنجاح اللذين حقّقهما. كانت عبقريته الموسيقية النادرة وراء نجاحه الكبير. كان يستطيع قراءة الموسيقى بشكل أسرع وأكثر دقّة من أيّ موسيقيّ آخر في زمانه. وكان يمتلك في يديه قوّة وخفّة حركة لم يكن ينافسه فيهما أيّ عازف بيانو آخر في ذلك العصر.
ولم يكن منتهى طموحات "ليست" أن يكون عازف بيانو أو ملحّنا كبيرا. كان مزيجا غريبا من عدّة أشخاص. وقد أراد أيضا أن يكون رجل علم وشخصية اجتماعية وكاهنا في كنيسة. وكان من عادته أن يقرأ كلّ كتاب يجده. كما تعرّف عن قرب على كلّ من صادفهم في طريقه من أمراء ونبلاء ودوقات وكونتيسات.. إلى آخره.
ولكن كيف تسنّى لصبيّ من قرية صغيرة في هنغاريا أن يكبر ليصبح نجما ساحرا وعاجيّ الرنين؟ ماذا كان سرّه؟ الإجابة يمكن أن تُختزل في كلمة واحدة: التدريب. ثم التدريب. والكثير من التدريب.
بدأ "ليست" دروسه في العزف على يد والده وهو في سنّ السابعة. وعندما بلغ التاسعة، كان قد أدّى أوّل عزف علنيّ له. وفي سنّ السادسة عشرة، أي عندما توفّي والده، كان يتنقّل من منطقة لأخرى في باريس كي يعطي دروسا في العزف على البيانو.
لكن ماذا كان يفعل شابّ مبدع في القرن التاسع عشر ليساعد نفسه على التأقلم مع الكدح المستمرّ المتمثّل في تدريس الباريسيين العزف على البيانو؟ استغرق العازف الشابّ في التدخين والإدمان على الشراب وعلى النساء. كانت النساء بنفس أهمّية التدريب المستمرّ بالنسبة لمسيرته المهنية.


خذ مثلا حالة الكونتيسة ماري داغو . تركت هذه المرأة زوجها لتلهو مع "ليست" في العام 1835. وأثمرت تلك العلاقة عن ثلاثة أطفال. كما أنتجت علاقتهما مجموعة من المؤلّفات التي كتبها "ليست" والتي تؤشّر إلى انه استفاد بشكل خلاق من وجود هذه المرأة إلى جواره.
ثم هناك حالة الأميرة كارولين فيتغنشتاين ، التي قرّرت أن يكون "ليست" بديلا لزوجها بعد أن رأته يعزف في حفل في كييف في عام 1847. وفي محاولة منها لإبقائه بعيدا عن جحافل المشجّعات المنتشيات اللاتي يحاولن الاقتراب من ملابسه الداخلية، اقترحت عليه الأميرة أن يركّز على التأليف، فترك الحفلات العامّة وخلّف وراءه سمعة تقترب من الكمال وهو ما يزال في منتصف الثلاثينات.
وقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية، التي كثيرا ما كانت تتدخّل لتفسد الأمور، السماح لـ "ليست" وأميرته بالزواج. ولم يلبث أن فقد اثنين من أطفاله. وتحوّل بعد ذلك ليصبح شخصا متديّنا وكئيبا. ثمّ انضمّ إلى سلك الرهبنة وارتدى جلباب كاهن وصار الناس ينادونه بـ "الأب ليست" وأصبح يقضي جزءا من وقته في أحد الأديرة. وكلّ هذا أضفى على العازف الوسيم والموهوب لمسة من الغموض والرومانسية.
ارتبط "ليست" بعدد لا يُحصى من النساء. ويُعتقد بأنه أنجب العديد من الأطفال خارج إطار الزواج. وبعد وفاته مباشرة، ظهر مئات الأشخاص الذين يدّعون أنهم أبناؤه. وكان قد أنكر أثناء حياته احد طلبات الأبوّة تلك كتابةً بقوله: أعرف والدته فقط عن طريق المراسلة. والإنسان لا يستطيع انجاز مثل هذه الأمور من خلال تبادل الرسائل".
على الجانب المهني، يذكّرنا "ليست" بأن مقاربتنا للموسيقى الكلاسيكية لا ينبغي أن تعتمد على عامل الجنسية أو القومية. الناس عادة يريدون أن يسمعوا موسيقيين هنغاريين يعزفون بارتوك ورُوساً يعزفون تشايكوفسكي وإنجليزا يعزفون إيلغار وفرنسيين يعزفون ديبوسي وأمريكيين يعزفون كوبلاند . و"ليست" يتحدّى هذا التصنيف السهل. بإمكانك أن تعتبره موسيقيّا هنغاريّا وألمانيّا وفرنسيّا من حيث الجوهر وفي نفس الوقت. نفوذه كفنّان وملحّن كان يتجاوز الولاءات الوطنية والانتماءات والتصنيفات القومية.
وعلى الرغم من شعبيّته الكاسحة، إلا أن الأمور لم تكن تخلو من بعض المتاعب والتحدّيات. فقد كان له منافس خطير تمثّل في شخص عازف بيانو سويسري يُدعى سيغيسموند تالبيرغ . كان "تالبيرغ" هو الآخر عازفا موهوبا وقادرا على إدهاش جمهوره.
وكان الملحّن الفرنسيّ الشهير هيكتور بيرليوز قد منح "تالبيرغ" تقييما أعلى من "ليست". ثم انقسم عالَم باريس الموسيقيّ إلى معسكرين: أنصار "ليست" وأنصار "تالبيرغ"، في ما بدا وكأنه تأجيج للصراع بين الرجلين. وقد ذهب "ليست" إلى حدّ وصف ما كان يعزفه "تالبيرغ" بـ "الزبالة". وعندما اقترح عليه "ليست" أن يعزفا معا ردّ "تالبيرغ": لا شكرا! لست بحاجة إلى شخص لمرافقتي"!
وفي نهاية المطاف، تمكّنت أميرة ايطالية من ترتيب حفل موسيقيّ يتناوب على العزف فيه كلّ من الاثنين. وعلى الرغم من مهارة "تالبيرغ"، إلا أن "ليست" اختير باعتباره العازف الأفضل. وبالتأكيد عاش اسمه كموسيقيّ أطول من اسم منافسه.
صحيح أن "ليست" كان نجما كبيرا واستطاع أن يراكم ثروة لا بأس بها، ولكنه كان دائما يفضّل أن يعيش حياة بسيطة ومتواضعة. كما كان إنسانا سخيّا جدّا. لكن سمعته كزير نساء طغت كثيرا على كرمه المعتاد. كان الناس يتوافدون على بيته لأخذ دروس في العزف والتلحين بالمجّان. وبعد أن أصبح شخصا غنيّا، صار يقدّم لتلاميذه مصروفا يوميّا. وكلّ من عزف بحضوره مرّة أو مرّتين في جلسة، أصبح يصف نفسه بأنه من تلاميذ "ليست".
موسيقى "ليست" مثيرة للجدل مثل صاحبها. البعض يعتبرها مبتذلة ومنمّقة أكثر من اللازم. والبعض الآخر يثني على مقطوعاته الرومانسية على وجه الخصوص. ومع ذلك، لا احد ينكر أصالة الرجل ونفوذه وأهمّيته بوصفه صانع ما يُسمّى بالقصيدة السيمفونية. وهناك من يشير إلى أن "ليست" وجد طرقا جديدة لاستغلال البيانو. أعماله للبيانو تحتوي على قفزات جريئة، كما أن أنغامه محاطة أحيانا بأصوات تتابعية تمنح انطباعا بأن ثلاث أيد، لا يدين فقط، هي التي تعزف على البيانو.
وعلى الرغم من أن "ليست" كان ما يزال مؤلّفا نشطا ومعلّما للموسيقى خلال العقد الأخير من حياته، إلا أن صحّته كانت تذبل تدريجيا إلى أن توفّي بالالتهاب الرئوي في 31 يوليو من عام 1886 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين.
هذا هو "فرانز ليست"، العبقريّ الوسيم والجدير بالاحتفاء.
والآن حاول أن تستمع إلى هذه القطعة من ثلاثيّته للبيانو المسمّاة حلم الحبّ لتكتشف جانبا من براعته في التأليف والعزف.
وإن أردت سماع شيء أكثر جدّية، فاسمع مجموعة ارتجالاته الهنغارية التسعة عشر على البيانو. شخصيّا أفضل اللحن الثاني من تلك المجموعة "الفيديو فوق". بإمكانك أيضا سماع نفس هذا اللحن على البيانو المنفرد هنا أو بمصاحبة الاوركسترا على هذا الرابط.

Credits
classicalarchives.com
lisztsoc.org.uk
pianostreet.com

الأحد، يناير 22، 2012

ساتي: جيمنوبيدي رقم واحد


كان ايريك ساتي (1866-1925) احد الروّاد الذين أسهموا في تطوير الموسيقى الحديثة. ومجموعته من القطع الموسيقية ذات الأسماء الغريبة التي ألّفها للبيانو اعتُبرت طليعية. كما أنها أفسحت المجال لظهور الموسيقى الانطباعية والكلاسيكية الجديدة والتقليلية والمحيطية.
في حيّ مونمارتر، كان الناس يعرفونه بملابسه الرمادية وبنظّاراته الغريبة وقبّعته الطويلة السوداء.
حبّ ايريك ساتي الوحيد كان الموسيقى. لكنه كان يختنق بالتقاليد الموسيقية السائدة. وهو لم يكن يشير إلى نفسه كموسيقيّ، بل كخبير في قياس الأصوات. كما انه صاحب القول الساخر المشهور: كلّما عرفت البشر أكثر، كلّما ازداد إعجابي بالكلاب".
وقد قيل إن لموسيقى ساتي نكهة شمبانيا فريدريك شوبان ومرارة نبيذ يوهانس برامز. وقال آخرون إن من يستمع إلى موسيقاه لا بدّ وأن يتخيّل أن من ألّفها "إنسان متوحّش يتمتّع بذائقة سليمة". كان من بين أصدقائه كلود ديبوسي وجان كوكتو وبابلو بيكاسو وايغور سترافنسكي. وكان هؤلاء سببا في إلهامه بعض قطعه الموسيقية الخالدة.
أشهر مؤلّفات ساتي هي مقطوعته التي وضعها للبيانو والمسمّاة جيمنوبيدي رقم واحد. وجيمنوبيدي كلمة يونانية قديمة تشير إلى الأجواء الطقوسية التي يصاحبها رقص وموسيقى. ومنذ ظهورها، استُخدمت هذه المعزوفة كثيرا في البرامج الوثائقية ومسلسلات الدراما.
جانب من المتعة التي يوفّرها سماع هذه القطعة يتمثّل في أنها تثير في النفس مشاعر مختلفة ومتباينة: حزن، حيرة، شكّ، خواء، تعبير عن خطى متردّدة وكلمات متعثّرة على اللسان. لكن الموسيقى تظلّ جميلة. كما أن إيقاعها من ذلك النوع الذي تألفه الأذن بسرعة.
ولد ايريك ساتي عام 1866م في بلدة آركوي الواقعة على ميناء اونفلور. وقد ارتبط ذلك المكان ببواكير ظهور الحركة الانطباعية في الرسم.
وفي مطلع شبابه، ذهب إلى كونسيرفاتوار باريس ليتلقّى دروسا في نظرية الموسيقى. لكن لم يطل به المقام هناك. فقد تمّ طرده من المعهد بعد أن اعتُبر طالبا كسولا ومنعدم الموهبة.
وانتقل بعد ذلك إلى حيّ مونمارتر الذي كان ملتقى للفنّانين البوهيميين في باريس. وعمل هناك كملحّن رسمي لإحدى الطوائف الصوفية. ثم التحق بطائفة دينية أخرى وبدأ يؤلّف لها أناشيد وترانيم دينية.
وبعد فترة عاد للدراسة في الكونسيرفاتوار. وفي هذه المرّة حالفه النجاح وتخرّج من المعهد بشهادة.

الأفكار التي كان يعبّر عنها ايريك ساتي في موسيقاه كانت تتداخل مع أفكار بعض معاصريه من الفنّّانين من أمثال كلود دييوسي وبابلو بيكاسو وجورج بْراك ومارسيل دُوشان وجان كوكتو وتولوز لوتريك.
ويعود الفضل في اكتشافه إلى موريس رافيل وأتباعه الذين شجّعوه وأخرجوه من دائرة الفقر والنسيان. وقد وصفه رافيل بأنه مؤلّف موسيقي لا تنقصه الموهبة وروح الابتكار.
ألّف ساتي موسيقى جيمنوبيدي في باريس عام 1888م. وهي تتألّف من ثلاث قطع على البيانو، أشهرها الأولى. لكنها جميعا تشترك في نفس البناء والفكرة. كانت هذه الموسيقى تتحدّى التقاليد الموسيقية الكلاسيكية في زمانها. والكثيرون رأوا فيها مؤشّرا على ولادة الموسيقى الحديثة.
في مونمارتر، كان ساتي يتصرّف بطريقة عصرية. وكان يلقّب بالمخملي المحترم لأنه لم يكن يرتدي سوى ملابس من المخمل الرمادي. كان يكره الشمس. ودائما ما كان يحمل مظلّة أثناء رحلاته اليومية إلى باريس التي كان يقطعها مشيا.
الغموض الذي كان ساتي يحيط به شخصيته ما يزال إلى اليوم يلقي بظلاله على مساهماته وانجازاته الموسيقية. وقد ارتبط في شبابه بعلاقة عاطفية مع الموديل المشهورة سوزان فالادون التي كانت على وشك أن تتحوّل إلى رسّامة. كما عُرف عنه شغفه بالأفكار الاشتراكية وانخراطه في الحزب الشيوعي الفرنسي.
الجانب الفكاهي من شخصية ساتي كشف عنه في ما اسماه بـ "القطع الباردة". وهي مجموعة من المعزوفات الموسيقية التي اختار لها عناوين هزلية أراد من خلالها أن يسخر من الرومانسيين الذي كانوا يطلقون على أعمالهم عناوين فخمة.
توفّي ايريك ساتي بعد إصابته بتليّف الكبد عام 1925 عن تسعة وخمسين عاما. وعندما دخل مجموعة من أصدقائه غرفته التي عاش فيها وحيدا لمدّة سبعة وعشرين عاما، وجدوا سريرا وكرسيّا وطاولة وآلتي بيانو مكسورتين ومئات الرسومات الصغيرة وعشرات المظلات وأكوام متربة من الدفاتر والصحف القديمة، بالإضافة إلى البورتريه الذي رسمته له فالادون أثناء علاقتهما.
جيمنوبيدي رقم واحد موسيقى جميلة وناعمة، رغم غرابتها إلى حدّ ما. أنغامها تبدو متنافرة بشكل خفيف، ولكن متعمّد، كي تخلق تأثيرا لاذعا يوحي بقدر من السوداوية والحزن. والكثيرون يفضّلون الاستماع إليها في آخر الليل لأنها توفّر مزاجا أفضل للتفكير والتأمّل. وقد تمّ توظيفها في أكثر من فيلم سينمائي كان آخرها فيلم الخمار المرسوم.
ومن أشهر أعمال ساتي الأخرى غنوسيان رقم 1، وهي واحدة من سبع قطع تحمل نفس الاسم المشتقّ هو أيضا من اليونانية القديمة، والذي يرمز إلى الارتقاء الروحي عن طريق الشكّ والمعرفة الباطنية.

Credits
theguardian.com

الخميس، أكتوبر 14، 2010

الانطباعية في موسيقى ديبوسي

تخيّل انك تقف على شاطئ البحر وتنظر إلى المياه الزرقاء والأمواج العملاقة التي تتكسّر متحوّلة إلى رذاذ ورغوة وأمواج صغيرة على الشاطئ. صورة مثل هذه هي مزيج من الهدوء والعنف والأناقة والقوّة الهائلة.
مثل هذه الصور تتناسب تماما مع روح موسيقى المؤلّف الفرنسي كلود ديبوسي. وبالإمكان رؤيتها في نظرته إلى الطبيعة التي هي عنده غامضة وحالمة ومشعّة.
وإذا كان الفنّانون الانطباعيون يُسمّون بـ "رسّامي الضوء"، فإن موسيقيين مثل ديبوسي كانوا يرسمون لوحات تعبّر عن مشاعر تفوق الوصف في عقل ونفس السامع. ديبوسي، بكلماته هو، كان يعبّر عمّا لا يمكن التعبير عنه.
كان ديبوسي واحدا من أعظم الموسيقيين أصالة. وهناك من نقّاد الموسيقى من يصفونه بأنه رائد الموسيقى الانطباعية في العالم بلا منازع.
وقد ألّف مجموعة كبيرة من القطع الموسيقية للبيانو تعبّر عن نظرته للطبيعة وتثير في ذهن السامع مشاهد متتالية من المناظر والصور الحيّة.
موسيقى ديبوسي تتميّز بسحرها ونضارتها. وبعض قطعه تشبه في خفّتها وأثيريّتها رائحة عطر نادر وحميم. وقد كنت حتى وقت قريب أؤمن أن لا شيء في الموسيقى يمكن أن يكون أكثر فتنة وإثارة للراحة والسكينة من موسيقى شوبان كما تكشف عنها معزوفاته الشهيرة مثل المازوركات والنوكتيرنز والأبولونيز.
غير أن الاستماع إلى أعمال ديبوسي الكاملة للبيانو غيّر نظرتي لموسيقى البيانو جذريا.
دعونا أوّلا نلقي نظرة خاطفة على التاريخ. خلال أربعينات القرن التاسع عشر كان الروائيون منشغلين بتأليف حكايات ذات مضامين سيكولوجية، وذلك من خلال توظيف النظريات الجديدة في علم النفس والتي تتحدّث عن اللاوعي وعالم الأحلام.
وفي تلك الأثناء ظهر أسلوب تيّار الوعي الذي جسّدته كتابات عدد من الأدباء مثل إدغار آلان بو وأندريه جِيد ومارسيل بروست وستيفن مالارميه وبول فيرلين. كانت كتابات هؤلاء ثورة ضدّ الطبيعة، وبالتالي ضدّ الأفكار الرومانسية. والكثيرون منهم كانوا أصدقاء لـ ديبوسي. لذا لم يكن مستغربا أن تأتي موسيقاه متماهية مع المشاعر التي كان الفنّانون والشعراء يعبّرون عنها خلال الفترة التي شهدت ازدهار المدرستين الانطباعية والرمزية.
ومثل لوحات كلود مونيه، كانت موسيقى ديبوسي تحاول هي أيضا الإمساك بتأثيرات الضوء واللون والجوّ وبلورتها في لحظة معيّنة.
كان ديبوسي يحاول أن يعيد خلق الفروق الدقيقة في اللون من خلال ظلال أصواته، وهذا ما جعل موسيقاه متفرّدة وطليعية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية بأسرها. يقول الناقد كميل موكلير: إن المناظر الطبيعية في لوحات مونيه هي في الحقيقة سيمفونيات من الأمواج المضيئة. وموسيقى ديبوسي تحمل شبها ملحوظا مع تلك الصور اعتمادا على القيم النسبية للأصوات التي تتحوّل في موسيقاه إلى بقع وألوان ذات رنين وإيقاع".
وبإمكان المرء أن يكتشف أن موسيقى ديبوسي بلا شكل وأنها تعكس صورا غير واضحة المعالم، تماما مثل اللوحات الانطباعية. لا غرابة إذن في أن أنغامه الجديدة والثورية كانت تمثّل بداية الانطباعية الحقيقية في الموسيقى.

أعمال ديبوسي للبيانو هي شعر حقيقي لدرجة أنني الآن توقفت فعليا عن سماع شوبان. الفتنة في موسيقى ديبوسي أثيرية. هذا ما يمكن قوله على اقلّ تقدير.
والآن لنتحوّل إلى بعض موسيقى ديبوسي. حاول أن تستمع أوّلا إلى أشهر معزوفاته بعنوان ضوء القمر. أغمض عينيك واسمح لهذا النغم أن يغرق ببطء في أعماق روحك. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، ربّما تتخيّل نهرا من الذكريات ينفتح أمامك، نزهة على طرف بحيرة في ضوء القمر، أو ليلة مرصّعة بالنجوم أثناء قضائك شهر العسل وأنت تمشي على شاطئ البحر ممسكا بذراع حبيبتك، أو قد تتخيّل فتاة تجلس على الأرجوحة وتحدّق في المياه الشفّافة التي يعكسها ضوء القمر.
"ضوء القمر" موسيقى متفرّدة وغامضة. لحنها المتسامي، نغماتها الملوّنة وجملها الديناميكية المثيرة قد تكون ترجمة ديبوسي الخاصّة لضوء القمر وهو يتسرّب عبر أوراق شجرة. الجُهُورية الطافية والإيقاعات القويّة تخلق جوّا لا يمكن وصفه. إنها تحفة فنّية في حدّ ذاتها.
والآن إلى قطعة أخرى هي الثلج المتراقص التي كتبها ديبوسي لطفلته الصغيرة إيما عندما كان عمرها ثلاث سنوات. هذه القطعة هي نوع من السحر المصفّى وهي كافية لأن تنقلنا لتعيدنا مرّة أخرى إلى زمن الطفولة. الأنغام هنا جميلة وفيها عفوية ومرح وانطلاق.
كان كلود ديبوسي يستمتع على ما يبدو بالمشاعر العميقة والرحبة. كما كان مأخوذا كثيرا بسحر القمر والنجوم وبأمجاد السماء الليلية.
الرسّامَان الانطباعيان الرائدان مونيه ورينوار بعض أجمل لوحاتهما تصوّر نساءً حالمات يتأمّلن الانعكاسات في الماء؛ في أعماق الماء، أو يحدّقن في السماء.
فكرة الانعكاسات مهمّة جدّا في الانطباعية. والانعكاس قد يكون أحيانا أكثر حقيقة من الواقع.
في لوحة القارب لـ رينوار، ومن خلال توظيف الأسلوب الانطباعي، نستطيع اكتشاف حالة من التأمّل الصامت. ولم يكن مصادفة أن إحدى أكثر مؤلفات ديبوسي شعبية هي مجموعته المسمّاة تأمّل صامت.
إحدى معزوفات هذه المجموعة اسمها الجزيرة السعيدة. عندما تستمع إلى هذه الموسيقى ذات التأثير المنوّم، ستكتشف القوة التذكّرية التي تثيرها موسيقى البيانو. التأمّل الصامت يتحرّك ببطء وبإيقاع متدرّج يثير في الذهن صورة مياه تتدفّق في نافورة. ومع استمرار الموسيقى تصبح أكثر شبها بالأمواج في حركتها. ثم تتحوّل ناعمة وهادئة بينما تتنقّل جيئة وذهابا قبل أن تخفّ وتتلاشى تدريجيا. وأنت تستمع إلى هذه القطعة، تتجوّل بعيدا مع أحلامك الدافئة وتطلق لأفكارك العنان كي تتحرّك مثل الغيوم المتثاقلة في السماء.
والآن إلى إحدى معزوفات ديبوسي المبكّرة بعنوان ارابيسك. ستجد في هذه القطعة سحرا يهبط عليك من فوق مثل حِزَم من ضوء الشمس الناعم. أرابيسك قطعة خفيفة وحالمة وتشيع المرح والبهجة مع قدر كبير من الشفافية التي نحسّ بها عادة في أيّام الربيع المشمسة.
ديبوسي يشار إليه غالبا باعتباره موسيقيا انطباعيا. ومع ذلك فالكثير من أعماله المكتوبة للبيانو تثير مشاعر عفوية وطفولية أكثر ممّا توحي به صفة الانطباعية.
وبعض النقّاد يقولون إن أكثر أعماله تعبيرية هي الصور والبرليودات والايتودات. في هذه الأعمال أيضا عالم من الأحلام والرؤى والتخيّلات نصفه من الأضواء والنصف الآخر من الظلال.
الإتقان، الأناقة الحسّية، الشفافية، الرقّة وثراء الألوان النغمية. هذه هي السمات الرئيسية التي تميّز موسيقى ديبوسي عن غيره.
من وقت لآخر، حاول أن تسمع شيئا من موسيقى ديبوسي، فهي تغسل عن النفس آثار الكآبة والملل وتملأ ساعات النهار بالألوان الرائعة والصور المبهجة.

Credits
prezi.com
favorite-classical-composers.com