:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماغريت. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ماغريت. إظهار كافة الرسائل

السبت، يوليو 05، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • الحسّ المعماري هو أحد الحواسّ العديدة التي أضاعها الرسّامون المعاصرون. الفنّانون القدماء انشغلوا كثيرا بالطريقة التي رافقت بها الإنشاءات المعمارية الشكل البشري وأولوا الاهتمام نفسه لأحداث الحياة وللدراما التاريخية، مطبّقين قوانين المنظور وغيره بإتقان.
    يعود إدراج الحسّ المعماري في المظاهر الفكرية البشرية إلى قرون خلت. فقد كان لدى الإغريق عشق كبير للعمارة وترتيب المواقع المخصّصة لاجتماعات الشعراء والفلاسفة والخطباء والمحاربين والسياسيين، أي أولئك الذين تفوق قدراتهم الفكرية قدرات عامّة الناس. وكانوا مولعين بالأروقة، حيث يمكن للمرء أن يتجوّل أثناء النقاشات الفكرية والفلسفية، محميّا من المطر وأشعّة الشمس القويّة، وفي الوقت نفسه يستمتع بمنظر الخطوط المتناغمة للجبال والتلال المنحدرة إلى البحر.
    في لوحات الإيطالي جيوتو، يصل المعنى المعماري إلى مناطق ميتافيزيقية عالية. فجميع الأبواب والأقواس والنوافذ المفتوحة، والتي تصاحب شخوصه، تسمح للمرء بالشعور بالغموض الكوني. ومربّع السماء المحدّد بخطوط النافذة هو دراما ثانية تضاف إلى دراما الأشخاص المصوَّرين. وفي الواقع، يتبادر إلى الذهن أكثر من سؤال محيّر عندما تصادف العين تلك الأسطح الزرقاء أو الخضراء المغلقة بخطوط هندسية من الحجر: ماذا يكمن هناك في الخلف؟ هل هذه السماء ممتدّة فوق بحر خالٍ أم مدينة مزدحمة، أم فوق مساحات طبيعية حرّة وعظيمة ومضطربة، من جبال مشجّرة ووديان مظلمة وسهول وأنهار؟
    ومناظير المباني ترتفع مليئةً بالغموض والتنبّؤات وتخفي الزوايا أسرارا، ولا يعود العمل الفنّي حلقة جافّة تقتصر على أفعال الشخصيّات الممثّلة، بل هو الدراما الكونية والحيوية بأكملها التي تغلّف البشرية وتجذبها إلى دوّاماتها، حيث يختلط الماضي بالمستقبل وتُقدّس ألغاز الوجود.
    من بين الرسّامين الفرنسيين، كان لدى نيكولا پوسان وكلود لورين أعمق حسّ معماري. وهذا الإحساس لدى بوسان راسخ لدرجة أن أبسط مناظره الطبيعية تجسّد روحه البنّاءة القويّة، إذ تتمدّد الأشجار والنباتات والتلال والآفاق وتتراكب وتدعم وتكمّل بعضها البعض وتندمج مع الهواء المحيط. وينطبق الأمر نفسه على أجزاء مختلفة من المبنى المرسوم، تتناغم وتتحدّ لتشكّل صرحا عظيما تحدّده وتكمله الشوارع والساحات المحيطة.
    وفي بعض لوحاته، مثل "اختطاف نساء سابين"، يبلغ بوسان أعلى درجات التوازن والقوّة المعمارية. في هذا التوليف العبقري، تشبه الأشكال التماثيل، وتبدو وكأنها متشبّثة بمكعّبات حجرية لتدعم الزوايا. وعندما لا يُبرِز پوسان التمثيل المعماريّ في لوحاته، كما هو الحال في مناظر متحف برادو الطبيعية في مدريد، فإن الأشجار هي التي تتّخذ شكل المباني والسقالات والإطار التشريحي، حيث تذكّر الجذوع والفروع، عند دراستها كأجساد بشرية، ببعض المنحوتات القديمة ذات الأطراف العضلية المثالية.
    وفي لوحات كلود لورين للموانئ البحرية "مثل التي فوق"، تتجلّى روعة القصور الكلاسيكية التي تعلوها تماثيل في مواقف مدروسة: ملهمات ملفوفات بستائر محتشمة، محاربون متعبون متّكئون على أعمدة، ينظرون بأعينهم الحجرية نحو البحر البعيد، حيث السفن المحمّلة بالأسلحة والبضائع والفواكه الناضجة في طريقها للإبحار نحو ملاذات آمنة. وأبعد من ذلك توجد أبراج قاتمة وسجون وحصون وأماكن معاناة وكآبة.
    كان لورين يحبّ الموانئ البحرية، وقد صوّر هندستها المعمارية بطريقة غنائية مؤثّرة. وكان ترتيبه للعناصر عبقريّا في كثير من الأحيان: صفّ من الأعمدة أو جدار عالٍ أو رواق، تخفي وراءها عناصر من الحياة والطبيعة، توحي بها الصواري الطويلة والأشرعة المنتفخة أو المتدلّية في الخلفية. وعلى الجانب الآخر، يجد المرء آفاقا بعيدة وأراضي صحراوية أو مأهولة تثير في الناظر رعشة مبهجة من الدهشة والفضول، وهما أصدق دليلين على وجود عمل فنّي حقيقي.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • على الرغم من أن اسم هذه اللوحة لرينيه ماغريت هو "التلسكوب"، إلا أنه لا وجود لهذه الآلة في الصورة. وبدلا من ذلك، رسم الفنّان نافذتين زجاجيّتين تعكسان السماء الزرقاء، مع سحب بيضاء في الخارج. النافذة الى اليمين مفتوحة جزئيّا وتكشف عن الليل خارجها، مع أن الناظر يتوقّع استمرار السماء الزرقاء بدلا من البقعة المظلمة.
    يشير توماس جيرني الى أن لغز التلسكوب المفقود يحفّز المتلقّي على الدخول في جلسة عصف ذهني لمحاولة فهم الرسالة المفكّكة في الصورة. وإدراك عدم جدوى التلسكوب في الصورة يلقي صدى قويّا، فالعالم خارج النافذة مظلم، والتلسكوب يساعد الناس على التركيز على الأجسام البعيدة في الفضاء. ويبدو أن ماغريت يشكّك في الأساس المنطقي وراء الحاجة إلى هذه الآلة، لأن الأجسام في الفضاء لا تبدو ذات فائدة تُذكر. الانعكاس على النافذتين وهم، والحقيقة مظلمة للغاية.
    ثم يذكر الكاتب أن ماغريت يَسخر أيضا من فضول الإنسان الشديد تجاه الطبيعة ومن رغباته البدائية. فقد اخترع تلسكوباً لإشباع فضوله تجاه الفضاء الخارجي، ليكتشف أن كلّ ذلك عبث. وما تراه العين ليس إلا وهماً، أما الفضاء فيلس مهمّا لوجود الإنسان. وما يجب أن يدركه الناس هو أن العديد من الاختراعات الحديثة ليست ضرورية، لأنه لا يوجد شيء يتجاوز وجود الإنسان نفسه.
    لوحة "التلسكوب" هي واحدة من الصور العديدة التي تعكس موقف ماغريت الساخر من الاختراعات ومن أسلوب الحياة الحديثة. فالعديد من الرغبات التي يتوق الإنسان الى تحقيقها ليست لها أهمية تُذكر.
  • ❉ ❉ ❉

  • يقول اليابانيون: كلّ الشرور تأتي من الشمال الشرقي". وكان هنري ثورو يمشي عادةً باتجاه الجنوب الغربي ويقول: شرقا لا أذهب إلا بالقوّة، أما غربا فأذهب من تلقاء نفسي". وأبواب خِيام التتّار، كما لاحظ ماركو بولو، تواجه الجنوب. والرحلات الآيرلندية الأسطورية كانت باتجاه الغرب. وفي فكر العديد من الأعراق، السحر من الشمال. وفي الأساطير الإسكنديناڤية، يكون طريق الجحيم دائما نحو الأسفل والشمال.
    كانت لمدن يوكاتان القديمة بوّابات تشير إلى كلّ نقطة من الاتجاهات الأساسية. وكانت جميع اتجاهات العالم ذات دلالة لدى الأزتيك، فالشمال يرمز إلى الفراغ والشرق إلى العقم والغرب إلى الخصوبة والجنوب إلى الحظّ السعيد. وفي رموز هنود الناڤاهو، يرمز اللون الأبيض، لون الفجر، إلى الشرق، والأزرق، أي لون السماء، للجنوب، والأصفر، لون غروب الشمس، للغرب، والأسود، لون ستارة الليل، للشمال. أما هنود بويبلو فنسبوا الشمال إلى الهواء، والغرب إلى الماء، والجنوب إلى النار، والشرق إلى الأرض وبذور الحياة. وفي الكتابات الصينية القديمة، يوصف رجال الشمال بالشجعان، ورجال الجنوب بالحكماء، ورجال الشرق باللطفاء والودودين، ورجال الغرب بالمستقيمين والصادقين.
    وهكذا، وبموجب قانون بدائيّ للعقل، يكمن الوهم في كلّ ركن من أركان السماء. وهو أعمق ما يكون في مسار الشمس. من الشرق إلى الغرب يسير الرحّالة العظماء، هرقل ويوليسيس وغيرهما، وتزداد الأساطير الشمسية كثافةً على طول طريقهم عبر الأراضي الأسطورية. ويهيمن الشرق والغرب على أفكار البشر بمَشاهدهما الأبدية لشروق الشمس وغروبها. ومهما علّمتهم التجارة أو الجغرافيا أو التاريخ السياسي، فإن الشرق لا يزال منطقة ضوء الشمس الصباحي والغرب ظِلّ المساء. ومع أن خطواتهم تتّجه غربا، إلا أن أفكار البشر تنجرف شرقا. ومع أن الشرق يعاني من الجوع والفقر، وملايينه الخاضعة تبدو قليلة الأهميّة، إلا أنه لا يزال الشرق البهيّ و"المكان الذي يرقص فيه الفجر".
    وخلف ستائر الغرب تكمن عوالم الراحة. فإذا كان شروق الشمس ألهم الصلوات الأولى ودعا إلى أوّل لهب للقرابين، فإن غروب الشمس كان الوقت الآخر الذي يرتجف فيه جسد الإنسان بأكمله مرّة أخرى. ربّما، عندما ينام، قد لا تشرق شمسه مرّة أخرى، وبالتالي فإن المكان الذي تنسحب إليه الشمس الغاربة في أقصى الغرب يشرق أمام ذهنه كمكان يلجأ إليه هو نفسه بعد الموت.

  • Credits
    magritte.com
    claudelorrain.org
    en.artbooksonline.eu

    الجمعة، مايو 30، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • الحزن على فقد إنسان عزيز ورائع لا يجب أن يفوق الفرحة بمعرفته.
    لا أعرف من صاحب هذه المقولة المعبّرة، لكنّي قرأتها في مكان ما وحرصت على حفظها ومحاولة تمثّلها. فهي تساعدنا على تذكّر الأوقات الجميلة والإيمان بأن من نحبّهم ممّن رحلوا عنّا سيظلّون دائما معنا وستبقى ذكراهم العطرة حيّة في قلوبنا حتى نهاية الحياة.
  • ❉ ❉ ❉

  • ولد موسى أساريد في الصحراء الكبرى. كان راعيا لإبل والده قبل أن ينتقل الى باريس. وهو اليوم يدرس إدارة الأعمال في جامعة مونبلييه. في حديث معه، تناول أساريد طبيعة العيش في الصحراء وقارنها بالحياة في عاصمة اوربّية كبيرة فقال: عندما كنت صغيرا، أقنعت والدي بالسماح لي بالذهاب إلى المدرسة. كلّ يوم تقريبا كنت أمشي مسافة 15 كيلومترا. وذات يوم أعطاني المعلّم سريراً لأنام عليه وتكفّلَ شخص آخر بإطعامي.
    أنا من الطوارق، مسلم بلا تعصّب. أرتدي العمامة، وهي نسيج قطني ناعم يسمح لك بتغطية وجهك في الصحراء عندما تهبّ الرمال، وفي نفس الوقت يمكنك من خلاله الرؤية والتنفّس. إنه أزرق وجميل. وبالنسبة للطوارق، الأزرق هو لون العالم ولون السماء ولون سقف بيتنا.
    الطوارق شعب بدويّ قديم من الصحراء، منعزل وفخور بنفسه، "أمراء الصحراء" كما ينادونهم. مجموعتهم العرقية هي الأمازيغية. من عاداتهم، أنك عندما تبلغ السابعة من عمرك، يسمحون لك بالابتعاد عن المخيّم، حتى تتعلّم الأشياء المهمّة: تنفُّس الهواء والاستماع وتركيز البصر والتنقّل بواسطة الشمس والنجوم وترك الجمل يقودك إلى حيث يوجد ماء إن ضللتَ طريقك.
    في الصحراء، كلّ يوم وقبل غروب الشمس، تنخفض درجة الحرارة ويعود الرجال والحيوانات ببطء إلى المخيّم وتَبينُ ملامحهم على خلفية سماء وردية وزرقاء وحمراء وصفراء. إنها لحظة ساحرة يذهب فيها الجميع إلى الخيمة ويغلون بعض الشاي ويجلسون في صمت. إذا كنت وحدك في ذلك السكون فإنك تسمع دقّات قلبك، لا يوجد مكان أفضل لتجد فيه نفسك. "عندنا كلّ شيء صغير يجلب السعادة، كلّ لمسة لها قيمة، نشعر بفرح هائل بمجرّد لمس بعضنا البعض وبكوننا معا"!
    وعن تجربته في العيش في أوربا يقول أساريد: عندما قدمت الى هنا لأوّل مرّة صدمتني بعض الأشياء. رأيت الناس مثلا يلهثون في المطار. في الصحراء لا يركضون إلا إذا جاءت عاصفة رملية! رأيت أيضا ملصقات لفتيات عاريات، لماذا هذا الافتقار إلى الاحترام تجاه المرأة؟! ثم في الفندق رأيت أوّل صنبور في حياتي، كان الماء يتدفّق وشعرت كأنني أريد البكاء، ذلك أن كلّ يوم في حياتي كان يدور حول العثور على الماء! عندما أرى النوافير الزخرفية هنا وهناك، أشعر بألم شديد في داخلي".
    وعمّا يفتقده في باريس يقول: أفتقد حليب الإبل ونار الحطب والمشي حافي القدمين على الرمال الدافئة والنظر الى النجوم كلّ ليلة".
  • ❉ ❉ ❉

  • الستائر هي أحد المواضيع المفضّلة عند رينيه ماغريت. وهي ترتبط بأسطورة أخرى حول أصل الرسم ذكرها المؤرّخ بليني الأكبر في أحد كتبه. تتحدّث القصّة عن زيوكسيس الذي كان رسّاما إغريقيا رائدا عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، لكن لسوء الحظ لم تعش أيّ من لوحاته إلى اليوم. قيل إنها كانت صورا واقعية وصغيرة الحجم وانه كان بارعا في توظيف الضوء والظلّ.
    ذات يوم أراد زيوكسيس رسم صورة لهيلين أميرة طروادة وأجمل امرأة في العالم القديم. لكنه لم يجد نموذجا بمثل جمالها. لذا اختار خمسا من أجمل النساء ثم مزج بين ملامحهنّ ليخلق صورته الذهنية عن الجمال المثالي.
    كان زيوكسيس، مع باراسيوس، أشهر رسّامَين في اليونان القديمة. وقد جرت منافسة بينهما لتحديد أيّهما الأفضل وطُلب من كلّ منهما أن يرسم لوحة دون أن يراها الآخر. وعندما كشف زيوكسيس عن لوحته اتضح انه رسم فيها عناقيد عنب بدت واقعية جدّا لدرجة أن الطيور حطّت من السماء لالتقاط بعضها.
    ثم طُلب من باراسيوس أن يزيح الستارة التي تخفي لوحته. ودُهش منافسه والحضور عندما اكتشفوا أن الستارة نفسها كانت عبارة عن لوحة متوهّمة. وفي النهاية فاز باراسيوس بلقب أفضل رسّام لأنه نجح في خداع، ليس الطيور، بل البشر أنفسهم.
    في لوحة ماغريت فوق، نرى زجاج نافذة مكسورا وملقى على الأرض. وفي شظايا الزجاج يمكننا أن نرى انعكاس أجزاء من نفس المشهد مع غروب الشمس. في هذه الحالة، لا تُستخدم الستائر إلا للإشارة الدقيقة إلى تلك الأسطورة. شظايا الزجاج تبدو كما لو أنها يمكن أن تقطعك، ولكن في نفس الوقت تشعر بالرغبة في التقاطها والتعجّب من انعكاس غروب الشمس عليها.
    ماغريت بارع في تحطيم الحقيقة وتجزئتها إلى قطع صغيرة من أجل الكشف عن الطرق التي يمكن من خلالها إعادة تجميعها معا. وبرسمه ستارة واقعية كعمل من اعمال الخداع البصري، يُظهر مهارته الفنّية ويضعها في الوقت نفسه في سياق آخر ساخر.
  • ❉ ❉ ❉

  • في مقابلة معه، أجاب الناقد جيفري يوجينيدس على السؤال التقليدي: لو نظّمت حفل عشاء للكتّاب وطُلب منك دعوة ثلاثة كُتّاب أحياء أو أموات فمن ستدعو؟
    فأجاب: أوّلا سأتصل بشكسبير. وسيسألني: من سيأتي أيضا؟ فأجيبه: تولستوي". فيقول: أنا مشغول هذه الليلة". ثم سأتصل بكافكا فيوافق على الحضور "شرط ألا أدعو تولستوي". فأقول له: لقد دعوتُ تولستوي بالفعل"، وسيأتي كونديرا، وأنتما تجيدان اللغة التشيكية". فيصحّحني كافكا قائلا: أنا أتحدّث الألمانية".
    وعندما يسمع تولستوي عن قدوم كونديرا، ينسحب. لذا اتصلُ أخيرا بجويس الذي كثيرا ما يكون متاحاً. وعندما يصل إلى المطعم، يطلب كافكا طاولة في الخلف، لخشيته من أن يتعرّف عليه أحد. فيقول جويس: إذا كان هناك من سيتعرّف عليه أحد، فهو أنا". ثم ينحني كونديرا ويهمس في أذني: قد يتعرّف علينا الناس أيضا لو تجوّلنا بعصا".
    ويصل النادل ليسأل كافكا عن الأطعمة التي يتحسّس منها، فيناوله قائمة مكتوبة. ثم يستأذن في الذهاب إلى الحمّام. وحالما يذهب، يقول كونديرا: مشكلة كافكا أن ليس له ذيل كافٍ". ونضحك معا. ثم يطلب جويس زجاجة نبيذ أخرى. وأخيرا، يستدير وهو يهمّ بالمغادرة وينظر إليّ من خلال نظارته الداكنة. ويقول: حالياً أقرأ كتابك الجديد".
  • ❉ ❉ ❉

  • الاقتباسات جُمل موجزة ومكثّفة وملهِمة وسهلة التذكّر. ومشاركتها مع الآخرين دليل على أن المقتبس يحبّ القراءة وينشر الفائدة والإيجابية وإعمال العقل. وكالعادة، ومن وقت لآخر، أضع هنا بعض الاقتباسات التي قرأتها في بعض الأماكن وأثارت اهتمامي أو إعجابي، راجياً أن تُعجب القارئ.

    ◦ نحبّ رائحة مطر الصحراء لأن رائحة الوطن تفوح منه عندما يمتزج بالتراب. أتذكّر أننا كنّا نأكل التراب الذي ننحت منه بيوتا وشجرا ونحن صغار. كان طعم التراب كطعم الوطن؛ الوطن الذي نتذكّره على ألسنتنا كلّما افتقدناه. بايرون أسباس

    ◦ يقال أن كلّ الشعر يدور حول الموت. وأعتقد أن في ذلك حقيقة عميقة تتعلّق بكيفية وسبب عيشنا وفنّنا. لقد فقدتُ أشخاصا أعزّاء عليّ في هذا العالم. وهناك لحظات أتذكّرهم فيها وأجد نفسي أبكي بحرقة. أكتب قصائد للتذكّر ولتخليد ذكراهم ولأعبّر عن مشاعر فقدهم كطريقة لي، وللآخرين أيضا، للتنديد بغيابهم. لن أزعم أبدا أن هذا يشفيني، لكن من حسن حظّي أنني أجد لغة لأفعل هذا، وهو ما يريحني. غالبا ما تكون القصائد وسيلة لإلهاء النفس عن الواقع، هناك جمال عظيم في الإلهاء والفن. صناعة الجمال هي بحدّ ذاتها إلهاء. كوامي داوس

    ◦ أُبلغَ مريض يعاني من سرطان الحنجرة عن جهاز أشعّة سينية جديد يمكن أن يعالج حالته. ولم يكن هذا الرجل يجيد القراءة ولا الكتابة ولا يملك أدنى فكرة عن الأدوات أو الممارسات الطبّية. وعندما جلس في عيادة الطبيب لأوّل مرّة ووُضع في فمه جهاز قياس درجة الحرارة، ظنّ أنه يخضع لعلاج بالأشعّة السينية. وأدرك الطبيب ذلك وترك مقياس الحرارة في فم المريض لعشر دقائق ثم اعتذر منه وطلب منه العودة بعد يومين. وبعد ثلاثة أسابيع من الزيارات المتكرّرة والعلاج بمقياس حرارة، اختفى السرطان تماما من جسد الرجل! أويل أندرسن

    ◦ هناك طريقة تعلّمك بها الأرض الاهتمام والصبر والرحمة. إذا أردت أن تستمدّ الفرح والوفرة من الأرض، فعليك أن تقترب منها. عليك أن تعرف البقعة الرطبة والبقعة الجافّة وأن تعرف كيف تقرأ الطقس. وعليك أن تنصت. حينها ستعجب الأرض بك. لكنها ليست حبيبة سهلة المنال، ولا ينبغي لها أن تكون. إنها تقول: كي تملكني عليك أن تفوز بي! ليا بينيمان

    ◦ لا سعادة ولا بؤس في الدنيا. ليس هناك سوى مقارنة حال بأخرى. من ذاق مرارة الحزن العميق هو الأقدر على تذوّق السعادة المطلقة. ولا بدّ أن نشعر بمعنى الموت لنقدّر متع الحياة. عيشوا إذن وكونوا سعداء، يا أبناء قلبي الأعزّاء، ولا تنسوا أبدا أنه إلى أن يكشف الله لنا عن المستقبل، فإن كلّ حكمة إنسانية تكمن في هاتين الكلمتين: انتظروا وتفاءلوا". ألكسندر دوما

  • Credits
    magritte.com
    suite101.com

    الاثنين، مارس 24، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لم يكن كونفوشيوس مهتمّا كثيراً بموضوع الأشباح في كتاباته. ويسجّل كتابه "المحاورات" أنه لم يناقش قَط الأمور غير العادية ومآثر القوّة والفوضى والكائنات الروحية. ومع ذلك، ووفقاً لممارسات عبادة الأجداد الكونفوشية، كان من المهم ضمان موت الشخص موتاً طيّباً وطبيعياً، وأن يتولّى أحفاده العناية بمتطلّباته بعد وفاته على النحو اللائق.
    وفي هذه الحالات، يصبح الشخص "سلَفاً" على مذبح العائلة بدلاً من أن يكون شبحاً. ولا يتحوّل إلى أشباح سوى أولئك الذين يموتون موتاً سيّئاً، أي في حرب أو بعيداً عن أرض الوطن.
    وكان هذا مقصودا. فالعبادة الكونفوشية للأسلاف هي عبادة أبوية بحتة، أي أن المرأة لا تستطيع كسب مكان على مذبح الأسرة إلا كزوجة أو أم. وفي هذه الحالة، فإن أيّ فتاة تموت دون زواج ستتحوّل بالتأكيد إلى شبح، لأنها "دخيلة" ولا يمكنها أن تدّعي أن لها أحفادا يعتنون بشؤونها بعد وفاتها. وهذا يفسّر غلبة الأشباح الأنثوية في الأدب الصيني.
  • ❉ ❉ ❉

  • احتفظ دائما بكوابح على لسانك، قل أقلّ ممّا تعتقد واحرص على أن يكون صوتك منخفضا ومقنعا. وتذكّر أن الطريقة التي تتحدّث بها أهمّ أحيانا ممّا تقوله. واحرص على تقديم الوعود باعتدال والتزم بها بأمانة مهما كلّفك ذلك. ولا تدع الفرصة تفوتك أبدا لقول كلمة طيّبة ومشجّعة لشخص ما أو عنه. امتدح العمل الجيّد بغضّ النظر عمّن قام به. وإذا كان النقد ضروريا، فانتقد بشكل مفيد وبعيدا عن الاساءة.
    اهتم بالآخرين وبأعمالهم وبمنازلهم وعائلاتهم. إفرح مع الذين يفرحون وتعاطف مع الذين يحزنون. ودع كلّ شخص تقابله، مهما كان متواضعا، يشعر بأنك تعتبره شخصا مهمّا. وحاول أن تكون مبتهجا قدر الامكان. ولا تثقل كاهل من حولك أو تحزنهم بالتفكير في آلامك وأوجاعك وخيبات أملك. وتذكّر أن كلّ شخص يحمل نوعا من العبء.
    احتفظ بعقل متفتّح، ناقش لكن لا تجادل. فقدرتك على الاختلاف دون أن تكون مزعجاً هي علامة على العقل المتفوّق. ودع فضائلك تتحدّث عن نفسها. وارفض الحديث عن رذائل الآخرين. ولا تخُض في نميمة، فهي مضيعة للوقت الثمين وقد تكون مدمّرة للغاية.
    وأخيرا، لا تكترث للتعليقات المسيئة عنك. وتذكّر أن حامل الرسالة قد لا يكون أمينا أو دقيقا. وعش ببساطة بحيث لا يصدّق أحدٌ المغتاب، فالأعصاب المضطربة وسوء الهضم سببان شائعان للغيبة والنميمة.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • درس رينيه ماغريت قصّة أفلاطون الرمزية عن الكهف بتفصيل كبير. وتحكي تلك القصة، كما هو معروف، عن أشخاص يعيشون مقيّدين داخل كهف لا يرون فيه سوى ظلال الأشياء المنعكسة على جداره بفعل النار الموجودة خلفهم.
    إنهم لا يعرفون ولا يرون شيئا ممّا هو خارج الكهف، ومن هنا ينظر أولئك الأسرى الى الظلال على أنها الحقيقة الوحيدة. وعندما يُطلق سراح أحدهم، ينبهر بالضوء ولا يرى أيّ شيء من العالم الخارجي حقيقيّا باستثناء ما يعرفه، أي ظلاله.
    وقد تناول ماغريت رمزية الكهف بشكل ملفت في لوحته "الحالة الإنسانية"، التي كانت رابع لوحة تحمل نفس العنوان رسمها بين عامي ١٩٣٣ و١٩٣٥. تُصوّر جميع التوليفات الأربعة لوحةً داخل لوحة، وهذا كان موضوعا مفضّلا عند ماغريت.
    في هذه الصورة، نرى حامل رسم يدعم لوحة بلا إطار أمام منظر طبيعي عبر فتحة كهف. هنا يبدو أن ساكن الكهف قد تحرّر بالفعل، وهو ينظر إلى فتحة الكهف من الداخل. وبجواره مباشرة تحترق نار، وهي فكرة أخرى مكرّرة. اللوحة ليست انعكاسا للعالم، بل تقليد للواقع. والظلّ، ومن ثمّ اللوحة، هما شكله الخاص من الحقيقة.
  • ❉ ❉ ❉

  • لا نعرف كيف تُسبّب طاقة خفيّة تدفّق العصارة في شجرة.
    أو كيف تخرج الدجاجة من البيضة.
    قد نكتفي بمراقبة العملية.
    لا عالم أحياء يعرف ماهيّة الحياة.
    ولا عالم نفس يعرف ماهيّة العقل.
    ولا فيلسوف يعرف ماهيّة الواقع.
    ولا عالم لاهوت يعرف حقيقة الله.
    ومع ذلك، إذا جمعنا كلّ هذه الأمور معاً، فهذا هو ما تعنيه كلمة "حياة".
  • ❉ ❉ ❉

  • أحيانا، في الغرب الأمريكي، كانت العواصف تتسبّب في خسائر فادحة. تبدأ بأمطار جليدية وتنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر. ثم تبدأ الرياح القارسة بتكديس كمّيات هائلة من الثلج. وتدير معظم الماشية ظهورها للهبّات الجليدية وتبدأ بالتحرّك في اتجاه الريح حتى تصطدم بسياج الأسلاك الشائكة ثم تتراكم على السياج وتموت بالعشرات.
    لكن سلالة واحدة من الماشية كانت تنجو دائما. كانت أبقار الهيرفورد تتجه غريزيّا بشكل مضادّ لاتجاه الريح ثم تقف جنبا إلى جنب ورؤوسها محنيّة في مواجهة العواصف.
    ذات مرّة، قال أحد رعاة البقر: في أكثر الحالات، بعد مرور العاصفة، نجد قطعان هذه الأبقار على قيد الحياة وبصحّة جيّدة. وأعتقد أن هذا أعظم درس تعلّمته في البراري: واجه عواصف الحياة".
  • ❉ ❉ ❉

  • تأثير تيندال Tyndall effect، ويُعرف أيضا بتشتّت تيندال، هو ظاهرة فيزيائية كيميائية تحدث بسبب خصائص الضوء. فعندما يمرّ الضوء عبر نظام التشتّت فإنه يتبعثر ويبدو مساره متوهّجا حتى عند النظر إليه قطريا أو جانبيا.
    في اللغة اليابانية، لا تعدّ هذه ظاهرة فيزيائية فحسب، بل هي أيضا مفردة تستدعي مشهدا دافئا مغمورا بأشعة الشمس المتسرّبة من خلال الأشجار. وهذا الوصف ياباني جدّا ولا يخلو من أناقة. والذين يعيشون مثل هذا الدفء عمليا طوال حياتهم كاليابانيين، يصبح هذا الإحساس متأصّلا داخلهم دون وعي.

  • Credits
    renemagritte.org
    artuk.org

    الأحد، أكتوبر 20، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • تحتار في معرفة هل هذه اللوحة حياة ساكنة أم صورة مجزّأة. هل تتحوّل القدم إلى حذاء أم العكس، أم يتحوّل جسم الإنسان إلى مجرّد شيء، أو أن الحذاء يتحوّل في نهاية المطاف إلى إنسان بسبب كثرة ارتدائه؟!
    الرسّام لا يضع صورتي القدم والحذاء منفصلتين وجنبا إلى جنب، بل يدمجهما بطريقة هجينة، أي بتحويل واقع لآخر. وأحد التفسيرات الأكثر شيوعا للوحة هو أن أكثر الأشياء وحشيةً يمكن أن تصبح مقبولة بقوّة العادة. تشعر وانت تتأمّل اللوحة بأن التحام قدم الانسان بالحذاء الجلدي ينشأ في الواقع من عادة وحشية.
    وبحسب بعض النقّاد، تثير مشكلة الحذاء مسألة القدم وطبيعة الإنسان والقوّة المنفّرة للأعراف الاجتماعية. قد يبدو الحذاء للوهلة الأولى أكثر المنتجات تعرّضا للضرر، لكن وحشيته تتّضح من حقيقة أن قوّة العادة حوّلته إلى شيء طبيعي ولم يعد من الممكن إدراك خطورته. فالحذاء ليس مجرّد وسيلة حماية، بل هو أيضاً سجن لاإنساني، فهو يفرض توحيد حركة أصابع القدم الخمسة في حركة اجبارية واحدة ويضع فاصلاً أبدياً بيننا وبين الأرض التي نسير عليها.
    ومثل كلّ مبدعي الفنّ الخيالي، يعرف الرسّام رينيه ماغريت أن تمثيل غير الواقعي يكون أقوى عندما يبدو رمزيّا أكثر. وقد رسم سلسلة لوحات "العارضة الحمراء" ابتداءً من عام 1935. وربّما يتوافق اللون الأحمر في عنوان اللوحات مع محاولة ماغريت الثورية خلق لغز حقيقي من شيئين تقليديين واعتياديين، هما في هذه الحالة القدمان والأحذية.
    لكن ماغريت يقدّم لنا أيضا في هذه اللوحة تعريفاً جديداً للإزعاج، حيث تتضمّن الصورة أفكاراً متعدّدة حول معنى أن تكون غريباً ومزعجاً في نفس الوقت. فعود الثقاب والعملات المعدنية المتناثرة على الأرض تمنحنا إحساساً بأن شخصاً ما كان هنا، ولم يعد موجوداً لأسباب ربّما تكون مزعجة. كما أن قصاصة الصحيفة الممزّقة والمهترئة تأخذ شكل امرأة واقفة في وضع غريب، وليس من الواضح مدى ارتباطها بالمشهد.
    الأحذية هي أحد الأشياء التي تميّزنا عن الحيوانات، وبالنسبة للعديد من الناس، فإنها تساعد في تحديد هويّتنا. والحذاء والقدم في الصورة لا يقدّمان تلميحا يساعد على فهم ما يجري. فهل اختفى الشخص ولم يبق منه سوى حذاؤه؟ وهل حلّ الحذاء محلّ الشخص، وكلّ ما تبقّى الآن هو القدم؟ وهل استُبدل الحذاء بالشخص؟
    ربّما حدث أمر خطير، ولا يقتصر الأمر على الأحذية، بل ترَك الشخص وراءه أشياء. وهناك شعور قويّ بأنه لم يعد موجودا هنا، وقد غادر بسرعة كافية لإسقاط الأشياء التي كان يحملها. ولكن أكثر من ذلك فقد ترك وراءه جزءا من نفسه. والآن كلّ ما تبقّى هو أحذيته وبقايا إنسانيته. والأمر لا يتعلّق فقط بأننا تركنا أحذيتنا خلفنا، بل يبدو أن ماغريت يقول إن أحذيتنا هي نحن وأننا تُركنا خلفنا!
    كان ماغريت يفضّل الارتباطات المدروسة بشكل صحيح باللقاءات غير المتوقّعة التي ينادي بها السرياليون. ولتحقيق هذه الغاية، كان يحبّ أن يبتكر "مشكلات" للأشياء اليومية، من خلال زوج من الأحذية. وبدا التحوّل التدريجي للقدم إلى حذاء واضحا جدّا لماغريت، لدرجة أنه صنع سبع نسخ متقاربة من هذه اللوحة. والتصوير الدقيق للأشياء واللحم البشري يضيفان إلى غرابة هذا العمل الذي يبدو طريفا ومخيفا في آن.
    في تلك الفترة من حياته الفنّية، أصبح اكتشاف وتصوير هذا "التقارب الاختياري" الخفيّ بين اشياء غير ذات صلة ظاهريّا الغرضَ الدائم لفنّ ماغريت. وساعده هذا في رسم بعض أعظم لوحاته. فقد حلّ "مشكلة الطائر" من خلال تصوير بيضة في قفص، وحلّ "مشكلة الباب" من خلال رسم ثقب لا شكل له محفور فيه.. وهكذا.
    ذات مرّة كتب ناقد يقول: كان ماغريت يحبّ مواجهة الناظر بشيء غير مفهوم ولكنه مصوّر بطريقة واقعية مخادعة. ويبدو السياج الخشبي في هذه اللوحة عاديّا تماما، لكن الأحذية ليست كذلك. وعادةً ما يساعد العنوان في تقريب المعنى إذا كانت الصورة محيّرة، ولكن ليس هنا. فـ "العارضة الحمراء" تثير المزيد من الأسئلة، عارضة ماذا أو من؟ وحمراء؟!
    طوال حياته، كان ماغريت يرفض تفسير وتحليل صوره، مدّعيا أن فنّه يعكس ببساطة الغموض الكامن في العالم. وكتب إلى أحد أصدقائه يوماً يقول معلّقا على صورة القدم والحذاء هذه: إنه لأمر مرعب أن نرى ما يتعرّض له المرء عندما يصنع صورة بريئة".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كتاباته، يعبّر الشاعر الآذاري نظامي، وبشكل متواتر، عن تعاطفه الشديد مع الحيوانات. ويبدو أن هذا نابع من حبّه واحترامه لكلّ مخلوق، مع أنه لم يكن نباتيّاً مثل المعرّي الذي امتنع حتى عن تناول العسل باعتباره سرقة لحصيلة النحل.
    لكن ربّما كان نظامي يشاطر الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (القرن 11) وجهة نظره القائلة بأن الإنسان لا ينبغي له أن يقتل الحيوانات إلا إذا كان ذلك ضرورياً للحفاظ على حياته. كما أنه، أي نظامي، يعزو صفات أسطورية خاصّة إلى بعض الحيوانات ويعطي بعداً ميتافيزيقيا لعلاقة الإنسان بالحيوان يتجاوز الواقع إلى عالم السحر والحكايات الخرافية.
    واهتمام نظامي بالحيوانات واضح في كتابه "ليلى والمجنون"، إذ يتدخّل المجنون عندما يوشك صيّاد على قتل غزال لأنها تذكّره بحبيبته ليلى. كما يبدأ في العيش مع الحيوانات البريّة التي تحبّه وتُسالمه كما تسالم فرائسها الأخرى. وتُظهر هذه القصص رغبة نظامي في تصوير شخصية المجنون كنموذج للّاعنف.
    ويبدو أن هذا الدافع لحبّ الحيوانات يعود في الأصل إلى ملحمة أورفيوس، الموسيقيّ الذي كان يفتن الحيوانات والكائنات بألحانه. كما يعود إلى قصّة العهد القديم عن مملكة السلام التي يتعايش فيها البشر والحيوانات جنبا الى جنب بسلام.
    ثم يقدّم نظامي درسا في الإحساس بالعرفان بالجميل من قبل حيوان، عندما يتحدّث عن ملك يُدعى بهرام، يطارد في شبابه أنثى حمار وحشي، فتقوده إلى مدخل كهف يحرسه تنّين ضخم. ويدرك بهرام أن التنّين قد ابتلع ابن أنثى الحمار وأنها قادته إلى هناك كي ينقذ طفلها. وهنا يقتل بهرام التنّين ويطلق سراح المهر الذي كان ما يزال حيّا في بطن الوحش. ثم تقوده أنثى الحمار الوحشي بعد ذلك إلى داخل الكهف، حيث يجد كنزا ضخما مخبّأ في جِرار كثيرة. ثم يأمر بهرام بتحميل ذلك الكنز على الدواب لتقديمه كهدايا.
    كما يتحدّث نظامي كثيرا عن الحجارة الثمينة. وهي تظهر في الاستعارات والمقارنات لوصف الجمال. مثلا، في آخر وأطول مثنوي له في ديوانه "إسكندر نامه" أو كتاب الاسكندر، يورد حكاية عن الاسكندر المقدوني أثناء غزوه لبلاد فارس.
    فالإسكندر، الذي يُصوّر على أنه موحّد صارم، يدمّر الأضرحة والمعابد الوثنية "والإشارة هنا للزرادشتية والبوذية". وفي معبد في قندهار يوشك الاسكندر على تدمير تمثال ذهبي لبوذا للحصول على جوهرتين ثمينتين ونادرتين مثبّتتين في عينيه.
    لكن تظهر له فجأة فتاة صغيرة وتخبره بقصّة الجوهرتين. فقد أحضرهما ذات يوم طائران من جهة الصحراء. وأثارت الجوهرتان جشع بعض العظماء عندما رأوها. وبعد صراعات داخلية كثيرة فيما بينهم، اتفق هؤلاء على صنع تمثال ذهبي لبوذا واستخدام الجوهرتين لعينيه.
    وتكيل الفتاة إطراءً مبالغا فيه للإسكندر باعتباره السماء والشمس. ويكتب نظامي شعرا على لسان الفتاة تقول فيه: جوهرة جلبتها طيور السماء لن ترغب السماء في استعادتها. إن كلّ عين تتلقّى نورها من الشمس، فكيف ينبغي للشمس أن تسرق العيون. والسراج الذي يُفرح العميان لا ينبغي أن يطفئه البصير".
    كان كلام الفتاة موجّها الى "الشمس"، أي الاسكندر، وكأنها تتوسّل إليه بألا يهدم التمثال وألا يأخذ الجوهرتين. وقد تأثّر بشعرها وقرّر العدول عن رأيه واكتفى بنقش اسمه على التمثال ووضعه تحت حمايته الشخصية. والدرس الذي يقدّمه نظامي من إيراده القصّة هو أن العقل يمكن أن يجعل الأقوياء يتغلّبون على أنانيتهم ويمتنعون عن العنف والجشع.
  • ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، كان يعيش ملك حكيم وعادل وكان شعبه محبّاً له. وكان للملك ابن وحيد، وقد علّمه المهارات والحكمة اللازمة كي يخلفه في الحكم. وسنةً بعد أخرى، نشأ الأمير وتدرّج في الوظائف وأصبح رجلا راشدا وقائدا رحيما يليق به المُلك.
    وذات يوم استدعى الملك ابنه الأمير. وعندما دخل وجد والده مستلقيا على سريره وقد أنهكه التعب. فقال الملك لابنه: لقد تقدّم بي العمر كثيرا وبالكاد أستطيع الآن أن أتدبّر شئون البلاد، والشعب بحاجة إلى زعيم شابّ ونشيط. وأنا أفكّر أن أتخفّف من المسئولية وأرتاح. لكني أريد أن أتأكّد أنك قادر على أن تدير البلاد بكفاءة زعيم حقيقي".
    فقال الأمير: لقد ربّيتني أحسن تربية ودرّبتني كأفضل ما يكون التدريب، فأتقنت فنون القتال وقدتُ جيش بلادنا بنجاح لسنوات. أفلا تعتقد يا أبي أنني مستعدّ للحكم بعدل ورويّة؟"
    ردّ الملك العجوز: أنا أعلم أنك قد تهيّأت بأفضل ما تستطيع لتصبح ملكا. لكن تلك ليست بالمهمّة السهلة. وقبل أن أقرّر تنصيبك خليفة لي، أريد أن أتأكّد أنك مستعدّ لذلك. لذا أطلب منك أن تذهب غدا إلى الغابة التي تقع عند الطرف الشرقي لمملكتنا. وستجد هناك حكيما عجوزا يقضي وقته في التأمّل. أخبره أنك الأمير واسأله ما إذا كنتَ مهيّأ الآن لتكون ملكا. فإذا ردّ بالإيجاب، فسأتوّجك ملكا فور عودتك".
    فوجئ الأمير بطلب والده الغريب، لكنه كان دائما يحترم حكمته وبعد نظره. لذا انطلق في اليوم التالي إلى الغابة. وبعد أن مشى طويلا، لمح الحكيمَ جالسا بين الأشجار. ولما انتبه الحكيم لوجوده طلب منه أن يشاركه عشاءه المتقشّف، ففعل. ولما انتهيا من الأكل، سأله الحكيم عن سبب مجيئه الى الغابة. فقال: لقد أراد والدي الملك العظيم أن أعرف ما إذا كنت قد أصبحت مهيّئا لخلافته. فهل يمكنك أن تساعدني في معرفة الجواب؟
    وفهم الحكيم الرسالة العميقة التي أراد الملك أن يوصلها. فقال للأمير: حسنا ستنام هنا الليلة. وفي صباح الغد، إستيقظ مبكّرا واذهب إلى الغابة، واقضِ اليوم كلّه هناك ثم عُد إليّ مع غروب الشمس". أثار طلب الحكيم حيرة الأمير. لكن يجب عليه أن يسايره على أيّ حال، فذهب لينام. وفي الصباح، استيقظ الأمير باكرا وذهب إلى الغابة، ثم عاد عند غروب الشمس، ووجد الحكيم غارقا في تأمّله فانتظره حتى انتهى.
    ولما فتح الحكيم عينيه سأل الأمير: أخبرني الآن ماذا لاحظتَ في الغابة؟". فكّر الأمير قليلا محاولا تذكّر ما رآه ثم قال: عندما وصلت الى هناك، سمعت نهرا عظيما، ثم سمعت شجرة كبيرة تسقط، ثم سمعت فيلا يسحب العشب ويأكل، ثم صادفت شلالا هادرا. وخلال عودتي كان هناك رعد وبرق".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم، ثم قال له: من فضلك إذهب وأخبر والدك أنك غير مستعدّ بعد لتصبح ملكا. ثم عُد الى هنا بعد عام". أصاب الأمير الإحباطُ من كلام الحكيم، لكنه التزم الصمت وعاد إلى والده. وعندما نقل إليه الخبر، قال والده بهدوء: حسنا بعد عام عُد الى الحكيم وانتظر ما سيقوله لك".
    ومرّ عام انشغل الأمير خلاله بمساعدة والده في إدارة شئون المملكة. وفي نهاية العام ذهب لمقابلة الحكيم. وعندما وصل الى الغابة كرّر عليه الحكيم نفس الطلب: اذهب إلى الغابة غدا واقضِ يومك هناك. ثم عُد عند غروب الشمس وأخبرني بما لاحظته".
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: رأيت ثورا يبحث عن الطعام، وسمعت صوت جدول يتدفّق على منحدر صغير، ورأيت سنجابا يطارد آخر، ورأيت ابن آوى يندفع عائدا إلى مسكنه، ورأيت ثعبانا يزحف على العشب الجافّ باتجاه الجدول".
    ابتسم الحكيم وقال: لست مستعدّا بعد لأن تصبح ملكا. إذهب وتعالَ بعد عام". غضب الأمير ممّا سمع لكنه لم يقل شيئا. وعاد وسأل والده ما إذا كانت تلك مزحة، ملمّحا إلى احتمال أن يكون الحكيم قد أصابه الخرَف. فقال والده: ثق بي يا بني، أنا متأكّد ممّا يقوله ويفعله ذلك الرجل".
    هزّ الأمير رأسه وواصل أنشطته اليومية كالمعتاد. وكان يراقب والده وهو يتخذ القرارات المهمّة المتعلقة بالاقتصاد والزراعة والقضاء والضرائب والعلاقات مع الممالك المجاورة وغير ذلك من الأمور.
    ومرّ عام آخر. وللمرّة الثالثة، عاد الأمير إلى الغابة ليقابل الحكيم. وابتسم له الحكيم لمّا رآه وسأله: والآن هل أصبحتَ على دراية بما يجب عليك فعله؟" أومأ الأمير برأسه، وذهب مباشرة إلى الغابة.
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: اليوم، سمعت النمل يزحف، ورأيت النحل يطنّ، وشاهدت حلزونا ينزلق على العشب، ورأيت ورقة تسقط بهدوء من شجرة. وشممت الزهور التي كان لكلّ منها عطر مختلف، وشربت من مياه النهر، وسمعت الصمت بين ملايين الأصوات في الغابة".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم ثم قال له: الآن أنت مستعدّ لأن تصبح ملكا. إذهب وأخبر والدك أن يرتّب لعملية تتويجك في أقرب فرصة." كان الأمير سعيدا ولكنه حائر. لذا توجّه بالسؤال الى الحكيم قائلا: أيها الحكيم! هل يمكنك مساعدتي في فهم اختبارك للاستعداد لتولّي الملك؟"
    وردّ الحكيم: الأمر بسيط. في المرّة الأولى التي أتيتَ إليّ فيها، أمكنكَ ملاحظة الأشياء الأكبر والأصوات الأعلى فقط. وعلى مدار العامين التاليين، أمكنكَ رؤية وسماع الأشياء والأصوات الأصغر وحتى الصمت. والملك العظيم هو الذي يمكنه الاستماع إلى أصغر الأصوات، وأهمّ من ذلك.. الصمت!"
    وفهم الأمير هذا الدرس الثمين، وعاد الى والده الملك ونقل إليه رأي الرجل الحكيم. وبعد أسبوع نُوديَ به ملكا على البلاد. وبعد فترة أصبح مضربا للمثل في العدالة وحبّ الخير لشعبه والتفاني في خدمته.

  • Credits
    renemagritte.org
    visions.az

    الاثنين، سبتمبر 23، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • يقول رينيه ماغريت في كتابه "كلمات وصور": يمكن للشيء أن يوحي بوجود أشياء أخرى خلفه". ويقول أيضا: الفنّ يمكن أن يكون أكثر تعقيدا ممّا نراه في الحياة الواقعية. يمكنني مثلا أن ارسم طائرا، حتى عندما لا أرى سوى بيضة. لكن هذه البيضة ستصبح يوما ما طائرا. لذا فإنني - بمعنى ما - أتخيّل مستقبلها وأرسمه".
    لم يكن ماغريت يشعر بأيّ انجذاب نحو الأشياء غير المرئية. الخفاء الوحيد الذي كان يعترف به هو خفاء الأشياء التي لا يمكن رؤيتها لأنها مخفية أو مغطّاة بأشياء أخرى. وبالتالي فإن الحجر الكبير المتموضع أو الساقط على باركيه شقّة يمكن أن يُخفي عالما كاملاً خلفه. هل "العالم غير المرئيّ"، وهو عنوان لوحته التي "فوق"، هو العالم الذي تفترضه النافذة "أو الشُرفة؟" ولكنّه غير مرئي داخل حدودها؟
    من ناحية أخرى، فإن البحث عن العالم المعلَن، ولكن غير المحسوس، يبعدنا عن الأدلّة الموجودة أمامنا، والتي يوصي ماغريت بأخذها بعين الاعتبار أوّلاً. إن أيّ شخص يمكنه أن يحتفظ بحجر في شُرفته. وماغريت لا يجعل الحجر يطفو في الهواء ولا يحوّله الى سمكة أو تفّاحة، كما يفعل عادةً في لوحاته. لكن الحالة الطبيعية الظاهرة للصورة تثير بقوّة السؤال الأهم: ما المعنى الذي تحمله هذه الصورة؟
    عندما تواجه صورة لماغريت، فمن غير المجدي البحث عن إشارات إلى شيء آخر. والأكثر فائدة هو التساؤل عن حيرتنا أمام الصورة التي يظهر منها، مثلا، أن الحجر، حتى لو كان مثبّتا على الأرض، يزعجنا لأنه - بحضوره - يحجب الرؤية ويُنكِر وظيفة الشُرفة التي يُفترَض أنها تُظهِر لنا العالم خارجها.
  • ❉ ❉ ❉

  • طلب أحدهم ذات مرّة من "بروس لي" أن ينصحه حول كيفية كسر الطوب بيديه العاريتين. فردّ عليه: إذا كنت تريد كسر الطوب، فيمكنك فقط استخدام المطرقة!"
    منذ زمن طويل وبعض الأشخاص يقومون بتكسير الطوب بأيديهم، ولكن للاستعراض فقط وللترفيه عن الناس. ومع ذلك، أخذ بعض الأشخاص الذين شاهدوا مثل تلك العروض الأمر على محمل الجدّ واعتقدوا أنهم إذا أرادوا كسر الطوب فما عليهم الا أن يتدرّبوا لأجل ذلك.
    أليست الحياة هكذا؟! بعض الناس عليهم أن "يؤدّوا" من أجل أن يكسبوا عيشهم ويبقوا على قيد الحياة. لكن الأشخاص الذين يشاهدون الأداء يعتقدون أن الحياة هكذا، ثم يصبحون أكثر فأكثر توّاقين إلى هذا النوع من الحياة "الأدائية".
    الحياة مسرح كبير كما يقال، وكلّ شيء فيها تقريبا يعتمد على الدراما والتمثيل.
  • ❉ ❉ ❉

  • يذكر المؤلّف لويس مامفورد كيف أن المبشّرين سعوا إلى تحويل السكّان الأصليين عن دياناتهم، بالأقناع حيناً وبالسيف أحياناً، واعدين إيّاهم بالسلام والأخوّة والنعيم السماوي. وفي نفس الوقت خطّطوا لتدميرهم بالمشروبات الكحولية وأجبروهم على تغطية أجسادهم وسخّروهم للعمل في المناجم حتى الموت المبكّر.
    كانت حياة الإنسان البدائي، على حدّ تعبير هوبز، قصيرة ووحشية وبغيضة. وأصبحت هذه الوحشية مبرّرا لنظام مطلق، مثل عالم ديكارت المثالي، تأسّس من خلال عقل وإرادة إله واحد. ومن المؤسف - يضيف مامفورد - أن العداء الذي أظهره الأوروبيّون تجاه سكّان البلاد الأصليين الذين غزوهم انتقل إلى أبعد من ذلك؛ إلى علاقتهم بالأرض.
    فقد عوملت المساحات المفتوحة الشاسعة في القارّتين الأمريكيتين، بكلّ مواردها غير المستغلّة، باعتبارها جزءا من حالة القتل والتدمير. وكان المستعمرون يؤمنون بأن الغابات وُجدت هناك لتُقطع والمروج لتُحرث والحياة البرّية لتُقتل من أجل الرياضة السقيمة، حتى لو لم تُستخدم للغذاء أو الملابس.
    وفي عملية "غزو الطبيعة"، كان الأوروبيّون في كثير من الأحيان يعاملون الأرض بازدراء ووحشية مثلما كانوا يعاملون سكّانها الأصليين، فيقضون على أنواع حيوانية عظيمة مثل البايسون وغيره ويستخرجون التربة بدلاً من تجديدها سنويّا. وحتى اليوم ما يزالون يغزون آخر المناطق البرّية الثمينة لمجرّد أنها لا تزال موطنا للحياة الفطرية والأرواح البشرية المنعزلة.
    والمشكلة أن المناطق البدائية، بمجرّد تدنيسها بالطرق السريعة الواسعة ومحطّات الوقود والمتنزّهات الترفيهية وشركات قطع الأخشاب، لا يمكن استعادتها أو إعادتها الى سابق عهدها أبدا".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • جلس الإنسان وحيداً غارقاً في حزنه العميق. واقتربت منه جميع الحيوانات وقالت له: لا نحبّ ان نراك حزينا هكذا. أُطلب منّا ما تتمنّى وسوف تحصل عليه. قال الإنسان: أريد أن أتمتّع ببصر حادّ. فردّ النسر: سوف تحصل على عينين كعينيّ. وقال الإنسان: وأريد أن اكون قويّا. فقال النمر: ستكون قويّا مثلي. ثم قال الإنسان: وأتطلّع لمعرفة أسرار الارض. ردّ الثعبان: سوف أريك إيّاها. وهكذا كان الحال مع جميع الحيوانات.
    وعندما حصل الإنسان على كلّ المنح الثمينة التي يمكن للحيوانات أن تقدّمها له، غادر المكان. ثم قالت البومة للحيوانات الأخرى: الآن صار الإنسان يعرف الكثير، وسيستطيع القيام بالعديد من الأشياء. لذا أنا خائفة". وقال الغزال: الإنسان لديه الآن كلّ ما يحتاجه، ولن يكون هناك بعد الآن سبب لحزنه.
    لكن البومة ردّت قائلة: لا، لقد رأيت فجوة عميقة بداخله، كعمق الجوع الذي لا يشبعه شيء. وهذا ما يجعله حزيناً وما يدفعه لطلب المزيد. سيستمرّ في الأخذ بلا هوادة حتى يقول له العالم ذات يوم: لم يتبقَّ لديّ شيء لأعطيك إيّاه".
  • ❉ ❉ ❉

  • من طبيعة الأشياء أن يتحمّل كلّ شخص المسؤولية الكاملة عن نفسه. لكن لا بأس في أن نساعد الآخرين ونتعاطف معهم بقدر ما نستطيع، وفي نفس الوقت أن نتوقّع منهم أن يقدّرونا ويساعدونا في وقت الحاجة. فالحبّ كما يقال يسير في اتجاهين لا اتجاه واحد.
    وهناك نظرية تُسمّى نظرية تقشير البرتقال. وتفترض أنه إذا قشّر شريكك لك برتقالة، فهذا يدلّ على حبّه الحقيقي والصافي. لكن من الأهمية بمكان أن نتعلّم أوّلاً كيف نقشّر برتقالنا. وقبل أن نحبّ الآخرين بشكل كامل ودون تردّد، يجب أن نفهم قيمتنا ونحبّ أنفسنا.
    لذا أعطِ الأولوية لحبّ ذاتك. قشّر برتقالك بنفسك واعطِ لنفسك نفس الحبّ الذي تعطيه للآخرين. كن مساحتك الآمنة. أحيانا وعندما تكون بمفردك، لا بأس أن تكون مستقلاً وألا تعتمد على شخص آخر ليقشّر البرتقال لك نيابةً عنك. إجعل من نفسك الشخصية الرئيسية في قصّتك.
    ولكن هذا لا يعني أننا لا ينبغي أن نسمح للآخرين الذين يرغبون في مساعدتنا في تقشير البرتقال لنا ومشاركتنا متعة النجاح. لكن يجب أن نكون حريصين على ألا نهشّم اللبّ ونفقد العصير. ومن المهم أن نعرف الطريقة التي نحبّ أن نقشّر بها البرتقال وكيف يفضّل الآخرون تقشيره.
  • ❉ ❉ ❉

  • يُعتبر مستنقع أوكيفينوكي، أو "الأرض المرتعشة"، أحد أكثر الأماكن سحرا وغموضا. ويقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من جورجيا. ومنذ آلاف السنين ارتبط المكان بسكّان المستنقع الأصليين من قبيلة السيمينول.
    وإحدى أساطير السيمينول من العصور القديمة تتحدّث عن جزيرة غامضة ومعزولة في أعماق نهر أوكيفينوكي كانت تسكنها قبيلة من النساء. وحدث ذات يوم أن قامت مجموعة من السيمينول المغامرين باختراق المستنقع ووصلوا إلى الجزيرة المسحورة حيث تعيش تلك القبيلة. وعندما رأوا النساء ذهلوا لجمالهنّ وأطلقوا عليهنّ "بنات الشمس".
    وبعد أن قدّمت النساء الطعام لزوّارهن، توسّل أفراد السيمينول إليهن أن يسمحن لهم بالبقاء على الجزيرة. لكنهنّ رفضن ذلك الطلب وحذّرنهم من أن رجالهن سوف يعودون قريبا من الصيد، ويجب ان يتوقّعوا حدوث مشاكل لو رأوهم على تلك الجزيرة.
    وقد تظاهر السيمينول بالامتثال لتحذير النساء وغادروا إلى الطرف البعيد من المستنقع. كانت الغاية من عودتهم تأمين التعزيزات اللازمة ليعودوا الى الجزيرة ويقتلوا رجال القبيلة ويأخذوا النساء ليتّخذوا منهنّ زوجات.
    وشقّت المجموعة الشرسة من المقاتلين طريقها بحذر إلى المستنقع للمرّة الثانية. وعندما اقتربوا من الجزيرة الغامضة، استخدموا أقصى درجات الرصد والبراعة لكي يشنّوا هجوما مباغتا. وبينما كانت زوارقهم مبحرة عبر النهر، تردّدت فوقهم صرخة نصفها لإنسان ونصفها لكائن مجهول. وبعد لحظات قليلة اجتاحت موجة مدّ عظيمة المياه الهادئة للمستنقع.
    لكن هذا لم يؤثّر في حماس السيمينول، بل احتفظوا برباطة جأشهم ومضوا في طريقهم الى أن وصلوا إلى نقطة لم يعد يفصلهم فيها عن الجزيرة سوى جدارٍ سميك من الأشجار والنباتات. ووسط صرخاتهم الوحشية وأصوات مجاديفهم المتوتّرة، شقّوا طريقهم عبر أوراق الشجر واندفعوا إلى الأمام. لكنهم توقّفوا فجأة في ذهول.
    ففي المكان الذي كانت تقوم فيه قبل أيّام الجزيرة الأسطورية الجميلة "لبنات الشمس" الساحرات، لم يعد هناك الآن سوى مساحة مفتوحة من مياه المستنقع ترفرف فوقها وتحطّ على سطحها الهادئ أسراب من البطّ البرّي، قبل أن تنطلق في الهواء.
    تقول الأسطورة أنه منذ ذلك اليوم وإلى الآن، لم يُعثر على أيّ أثر لجزيرة النساء تلك ولم يُكتشف أبدا سرّ أو سبب اختفائها الغريب والغامض. ومنذ ذلك الوقت ظلّ الناس يتناقلون خبر تلك الجزيرة جيلا بعد جيل ويروون عنها قصصا وتكهّنات أكثرها شاطحة وأشبه ما تكون بالخيال.

  • Credits
    magritte.com
    archive.org

    السبت، أغسطس 24، 2024

    خواطر في الأدب والفن

  • كان رينيه ماغريت رسّاما تأمّلياً وشاعراً فنّاناً يعبّر عن حالات فكرية داخلية وعن نفسه من خلال التلاعب بالصور. كما كان إنسانا منعزلاً وهادئاً ومتواضعاً، ولم يكن يكترث كثيراً بالمجد الذي عاش من أجله العديد من زملائه السورياليين.
    وقد ظلّ دائما يسعى، من خلال فنّه، إلى إيجاد حلول لمشاكل معيّنة تطرحها أنواع مختلفة من الأشياء. وأوضحَ الرسّام مفهومَ هذه الطريقة الفلسفية في محاضرة ألقاها في أنتويرب في بلجيكا عام 1938، وصف خلالها حلما رآه ذات ليلة. وعندما استيقظ من الحلم نظر إلى قفص طيور كان في غرفته.
    وفي حالته تلك شبه الواعية، لم يرَ الطائر الذي كان في القفص، بل رأى بدلاً منه بيضة. وكان ذلك "سوء فهم رائعا" حسب وصفه، لأنه سمح له بإدراك سرّ شعري جديد ومدهش، مردّه على وجه التحديد التقارب بين الكائنين، أي القفص والبيضة.
    في عام 1953، رسم ماغريت إحدى أشهر لوحاته واسمها "غولكوندا". وفيها يصوّر مشهدا سورياليّا لمجموعة من الرجال المتماثلين الذين يرتدون معاطف سوداء وقبّعات عريضة وهم "يهطلون" من السماء، وخلفهم مبانٍ متطابقة ذات أسطح من القرميد البنّي. لكن يمكن أيضا ان يكون الرجال واقفين أو ساقطين أو صاعدين أو ثابتين في الهواء، أي أن طبيعة حركتهم غير مؤكّدة.
    معنى اللوحة غير واضح. لكن قيل إنها تتحدّث عن الخط المشوّش أحيانا الذي يفصل بين المجتمع والفردانية. أما اسمها، أي غولكوندا، والذي اختاره صديق لماغريت، فهو اسم مدينة قديمة في حيدر أباد بالهند. كانت المدينة عاصمة لدولتين متعاقبتين واشتهرت قبل 400 عام بوفرة مناجم الألماس فيها، لدرجة أن اسم غولكوندا في القاموس صار مقترنا بالغنى والثروة الطائلة.
    كما ازدهرت فيها الفنون وخاصّة الخط وصناعة الأقمشة والمجوهرات، وأيضا الرسم الذي يخبرنا الكثير عن ثقافة هذه المدينة وما جاورها. كان الرسم يتضمّن صورا لأشخاص ونباتات وأزهار، بالإضافة إلى لوحات لنساء يرقصن وهن يرتدين الملابس الهندية الكلاسيكية والمجوهرات النفيسة.
    ومن خلال تسمية اللوحة باسم هذا المكان، يضيف ماغريت طبقة أخرى من الغموض ويدعو المتلقّي إلى التفكير في أهمية الثروة والأشياء المادّية في العالم الحديث. ويبدو أن اسم غولكوندا أصبح معروفا في أوربّا بفضل التجّار الأوربيين الذين تردّدوا عليها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
    وكان من عادة ماغريت أن يختار للوحاته أسماء شاعرية أو غامضة دون أن يكون هناك بالضرورة ارتباط أو علاقة بين الاسم ومضمون اللوحة.
    قيل ان ماغريت استلهم فكرة "غولكوندا" من سلسلة من الصور الفوتوغرافية لجنود يهبطون بالمظلات أثناء الحرب العالمية الأولى. لكنه حوّل المشهد إلى صورة لرجال أعمال بسبب ما عُرف عن انبهاره بالبرجوازية وعبثية الأعراف المجتمعية.
    فكرة الرجال ذوي القبّعات المستديرة تظهر بشكل متكرّر في أعمال الفنّان، ويستخدمها كرمز للتماثل بين افراد المجتمع. وتكرار الأشخاص في اللوحة يشير الى فقدان الهوية الفردية وسط بحر من المتماثلين.
    ومثل العديد من لوحات ماغريت، تتعمّد اللوحة طمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، ما يستدعي تفسيرات شتّى. البعض رأى في اللوحة تعليقا على ميكنة الإنسان "أي تحويله الى آلة"، بينما رأى فيها البعض الآخر نقدا للرأسمالية والنزعة الاستهلاكية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • الريكونكويستا (Reconquista) مصطلح اسباني يعني استعادة أو استرداد أراضي اسبانيا من العرب. أما في أذهان العرب فتقترن الكلمة بسقوط الأندلس وإنهاء الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا وبدء حقبة محاكم التفتيش.
    ويَفترض المصطلح أن الإسبان خاضوا سلسلة من حروب المقاومة لطرد العرب من إسبانيا بدأت منذ دخلوها في القرن الثامن الميلادي. لكن بعض المؤرّخين يعترضون على هذا المصطلح، مذكّرين بأنه لم يظهر إلا في نهاية القرن التاسع عشر لاعتبارات سياسية وقومية إسبانية. إذ لم يكن هناك أصلا شيء يتعيّن استعادته، فالعرب كانوا في شبه الجزيرة الأيبيرية على مدى ثمانية قرون.
    وكثير من الإسبان والعرب كانوا قد وصلوا إلى درجة عالية من التعايش والتمازج الاجتماعي والثقافي، بحيث لم يعد ينظر معظم الإسبان إلى المسلمين كمحتلّين. وكانت هناك دائما تحالفات تكتيكية مستمرّة بين الممالك المسيحية والإسلامية في إسبانيا.
    وبعض الملوك المسحيين لم يكونوا مهتمّين بخوض "حرب مقدّسة" ضدّ المسلمين، لأن تلك الممالك كانت تتقاتل فيما بينها طوال الوقت، وبالتالي فإن فكرة الريكونكويستا أو الاسترداد غير مقنعة ويسهل دحضها.
    اللوحة إلى فوق تصوّر مرحلة مهمّة وأخيرة مما يسمّى حروب الاسترداد، إذ يتخيّل الرسّام الإسباني مانويل غونثالث السلطان "أبو عبدالله الصغير" وهو يغادر مع عائلته قصره في غرناطة للمرّة الأخيرة بعد أن سلّم مفاتيح المدينة لملك وملكة قشتالة.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان بناء القلاع والحصون على قمم الجبال والمنحدرات الشاهقة مسألة تتعلّق بالبقاء أوّلا. ويقال إن النورمانديين أو الرومان كانوا أوّل من بنوا القلاع العالية. في البداية كانت تُشيّد من الخشب، ثم من الحجر لأنه أقوى ويدوم لفترة أطول.
    وعادةً ما تتكوّن القلاع من مجموعة من المباني المحاطة بسور ضخم. وكانت الأسوار تُبنى فوق تكوينات صخرية غير منتظمة لمنع العدوّ من حفر أنفاق تحتها، ما يزيد من صعوبة وصول المهاجمين إليها. كان الارتفاع يعادل الأمان، لأنه يوفّر حماية آمنة ضدّ القبائل المارقة أو المحاربين المغامرين.
    ومن الأمثلة المشهورة على القلاع المحصّنة جيّدا قلعة روكاسكالينيا الواقعة على منحدر صخري من البازلت يُطلّ على وادٍ، وعلى خلفية من جبال ماجيلا في أبروتسو بإيطاليا. الجرف البازلتي الذي بُنيت عليه القلعة يُعتبر أعجوبة جيولوجية. فقد تكوّنت أرضه بفعل تيّارات البحر التي غطّت المنطقة منذ أكثر من 20 مليون سنة.
    وللطين المتصلّب المحيط بالقلعة أشكال مذهلة وألوان مختلفة، تتراوح ما بين الرمادي والأخضر والأزرق والأحمر، بسبب وفرة الحديد والنحاس في المنطقة. الاسم، أي روكاسكالينيا، يعني قلعة ذات درج خشبي، وربّما جسر متحرّك، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة للوصول إلى القلعة من القرية الموجودة أسفلها. وقد أضيف المنحدر في عام 1705. وعندما رُمّمت القلعة بالكامل على مدار 10 سنوات بدءا من عام 1985، شيّدت البلدية درَجاً يؤدّي مباشرة إلى القرية.
    وقد تأسّست القلعة عام 1160 م، على أيدي اللومبارديين المتحدّرين من شمال إيطاليا والذين احتلّوا أبروتسو بشكل دائم بدءا من عام 600 م. وكان للقلعة وظيفتان: السيطرة على المنطقة، والدفاع عنها ضدّ الوافدين إلى ساحل البحر الأدرياتيكي من غير المرغوب فيهم.
    ولم يُعرف الكثير عن القلعة حتى عام 1599 م، عندما اشترى بارون يُدعى فينتشنزو كورفي إقطاعية مونتيسكالينا مقابل عشرة آلاف دوكاتي، وقام بترميمها لتلبية احتياجات حرب بالأسلحة الناريّة. وقد تعاقب على امتلاك القلعة كثيرون، كان آخرهم شخص يُدعى بومبيو فيليبو الذي باعها إلى نبيل يُدعى دون نيكولو ناني.
    ولم يكن مُلّاك القلعة كلّهم طيّبين. فقد قرّر أحدهم، ويُدعى كورفو دي كورفيس، الملقّب بالبارون الغُراب، إجبار رعاياه على الركوع لغُراب وضَعه في قفص على طول الطريق الوحيد المؤدّي إلى القرية. كما سنّ البارون قانونا غريبا ينصّ على أن جميع العرائس المتزوّجات حديثا في إقطاعيّته ملزمات بالنوم معه في ليلة زفافهن.
    وقد أثار قرار البارون دي كورفيس هذا غضب كاهن الرعيّة الذي احتجّ ضدّه بشدّة. فأمر البارون حرّاسه بمعاقبته، فطعنوه عند مدخل القرية. وأثناء محاولته الهرب، إتّكأ بيده الملطّخة بالدم على جدار صخريّ وترك بصمته هناك. وحاول الكثيرون إزالة بصمة اليد تلك من على الصخور، لكنّها - كما قيل - كانت تعود كما كانت، وظلّت مرئية حتى يناير 1940 عندما انهار البرج الذي كانت تقع فيه غرفة النوم.
    أما البارون المتهتّك فتقول بعض الروايات أنه تعرّض للطعن بخنجر مسنون حتى الموت، إمّا على يد عروس أو بيد زوجها الغيور. ومثل بصمة الراهب الحمراء، يقال إن روح البارون المعذّبة ما تزال تخيّم على المكان.
    ظهرت قلعة روكاسكالينيا مرّتين على الشاشة: الأولى كمكان لتصوير أحداث الدير في رواية "اسم الوردة" لأمبيرتو ايكو. والثانية في فيلم إيطالي اسمه "حكاية الحكايات" من بطولة سلمى حايك. في الفيلم الأخير، تظهر القلعة المعلّقة بين السماء والأرض كخلفية لمجموعة من الحكايات الخرافية التي كُتبت في أوربّا باللغة النابولية ما بين عامي 1500 و1600.

  • Credits
    renemagritte.org
    castelloroccascalegna.com

    الأربعاء، يوليو 16، 2014

    بورتريه لـ كارل يونغ

    ما تزال الإشادة بكارل يونغ مستمرّة إلى اليوم باعتباره عالما ثوريّا استطاع أن يغيّر أفكارنا عن علم النفس وقدّم للغرب الروحانية الشرقية وعرّف الناس بعدد من المفاهيم المهمّة.
    الكاتبة والمؤلّفة كلير دون تتحدّث في هذا الكتاب بعنوان "مُداوي الأرواح العليل: بورتريه لكارل يونغ" عن رحلة يونغ لاكتشاف الذات، منذ طفولته إلى بدايات مراهقته وحتى بلوغه ورجولته، بما في ذلك إعادة اكتشافه للروحانية في منتصف عمره.
    كما تتناول المؤلّفة العلاقة الصاخبة التي ربطت يونغ بمعلّمه في احد الأوقات، أي سيغموند فرويد، والدور الهام لتلميذه توني وولف، والرؤى الكاشفة التي خَبِرها يونغ بعد مواجهة عن قرب مع الموت.
    ويضمّ الكتاب أيضا مجموعة من الصور ليونغ وزملائه والبيئات التي عاش وعمل فيها، بالإضافة إلى عدد من اللوحات الفنّية القديمة والمعاصرة التي تعكس تعاليم وأفكار يونغ.
    الفكرة التي تتردّد في أكثر من مكان من الكتاب هي أن مهارة كارل يونغ كمداوٍ ومعالج كان من أهمّ أسبابها اهتمامه المباشر بجروح الآخرين وبجروحه هو.
    وفكرة عنوان الكتاب، "أي المداوي العليل"، اقتبسته المؤلّفة من الأسطورة اليونانية القديمة التي تحكي عن شيرون الذي كان طبيبا يُضرب به المثل في براعته. وقد تعرّض لسهم مسموم أطلقه عليه هرقل. لكن لأنه لم يستطع أن يداوي نفسه، فقد عانى بعد ذلك من جرح لم يندمل أبدا. والعنوان يشير أيضا إلى أن الأذى الذي يتعرّض له الطبيب نتيجة معايشته لمعاناة الناس هو الذي يمنحه جزءا من قدرته على مشافاة جراح الآخرين.
    تقول المؤلّفة في مقدّمة الكتاب إن أمنية حياتها كانت أن تكتب سيرة لحياة كارل يونغ لأنه كان وما يزال بالنسبة لها صديقا قديما وكثيرا ما تلتقي به في الأحلام.
    وتضيف أن رسائله أداة مهمّة للكشف عن شخصيّته. وبعض تلك الرسائل مباشرة ومرحة وغنيّة ومحلّقة. كما أنها تحتوي على خلاصة أفكاره وتكشف عن شخصيّة رجل روحانيّ ومتجذّر في الأرض. ويمكن أن يقال نفس الشيء عن سيرته الذاتية وعن كتاباته العلمية. ومن كلّ هذه الكتابات تستطيع أن تتعرّف على كفاح يونغ وكيف وصل إلى ما وصل إليه.
    كان كارل يونغ يحبّ الطبيعة ورحلات القوارب والنحت والرسم. وجميع هذه الاهتمامات كانت تتعايش جنبا إلى جنب مع المداوي الروحاني الرائد والمفكّر والعالم.
    في الثلاثينات من عمره، بدا كما لو أن يونغ جمع الامتيازات كلّها: وظيفة مرموقة، وصداقة مع فرويد تشبه علاقة الأب بابنه، ورئاسته لرابطة علماء النفس العالمية، وأيضا تمتّعه بحياة زوجية هادئة ومستقرّة.
    وفي سنّ الأربعين، أي بعد انفصاله المؤلم عن فرويد، بدأ استكشافاته ودراساته عن الأحلام ومستويات الروح والحدس.

    كان كارل يونغ يقول عن نفسه: أنا صراع المتضادّات". فقد كان متزوّجا من امرأتين بنفس الوقت وعاش معهما على الملأ لأربعين عاما. وقد وصفه احد الكتّاب في أوقات ضعفه وقوّته بأنه كان الإنسان العظيم الوحيد الذي عرفه.
    وتشير المؤلّفة إلى أن يونغ كتب كثيرا عن الظلّ والشخص النقيض وعن تحليل الأحلام وعملية الخيال النشط. وهي كلّها محطّات على الطريق إلى قبول أنفسنا كما هي. وقد استمدّ أفكاره من تجاربه ومن مرضاه ومن اكتشافه للثقافات والكتابات القديمة.
    أسفاره إلى أفريقيا والهند وأمريكا كانت مهمّة بالنسبة له. وقد استفاد منها، كما استفاد من دراساته للغنوصيّة "أو اللاأدرية" والخيمياء وسخّرها لتأليف كتاب عن اليوغا الصينية.
    كان يونغ يرى في الكبت الروحي مرض العصر والمشكلة الكبيرة لمرضاه الذين هم في منتصف العمر. وكان يعتقد أن لا احد يمكن أن يُشفى حقّا ما لم يستعد موقفه الديني، الذي لا علاقة له بالعقائد أو الانتماء إلى الكنيسة. كما ناقش قضايا فلسفية، مثل الخير والشرّ والمسيحية والجانب المظلم من فكرة الإله والانصهار الصوفيّ.
    وقد أثارت أفكاره جدلا واسعا ونقاشا مع العديد من رجال الدين والمفكّرين من الشرق والغرب. والكاتبة تورد أمثلة عن تلك السجالات، وتنقل عن يونغ قوله ذات مرّة بحنق: هؤلاء يريدون أن يحرقوني كزنديق من القرون الوسطى".
    كان يونغ يردّد أن الربّ هو سرّ الأسرار وأن الحضور الإلهي محسوس في كلّ شيء. وذات مرّة سأله صحفيّ بريطاني: هل تؤمن بالله؟ فأجاب: لا احتاج لأن أؤمن وأنا اعرف". شاهد الرخام على قبره صمّمه هو بنفسه ونقش عليه هذه العبارة: الربّ حاضر سواءً نودي أم لم يُنادى".
    تقول المؤلّفة كلير دون إنها ترى في يونغ نموذجا لإنسان صيغ من اجل زماننا هذا. وتعيد إلى الأذهان قوله انه لا يريد من احد أن يتخذه مثالا. "أريد من كلّ إنسان أن يكون هو نفسه. ولو أراد إنسان في يوم من الأيّام أن يصنع لي مدرسة أو نهجا، فمعنى هذا أنني فشلت في كلّ ما حاولت أن أفعله".
    بالقرب من نهاية حياته، لم يكن كارل يونغ مجرّد عالم نفس ولا فنّان رؤيوي، ولكنه كان إنسانا حكيما فهم ارفع وأسمى ما فينا كبشر.
    ومن عباراته المشهورة قوله إن الوحدة لا تعني عدم وجود أشخاص حول الإنسان، بل تعني عجزك عن إيصال الأشياء التي تعتبرها مهمّة، وعدم قدرتك على المجاهرة بوجهات نظر معيّنة يعتبرها الآخرون غير مقبولة.
    المؤلّفة كلير دون ولدت في ايرلندا وتقيم في سيدني بأستراليا منذ عدّة سنوات. وقد ألقت محاضرات عدّة عن يونغ، كما أشرفت على عدد من البرامج الوثائقية عن فرويد.
    وكتابها هذا عن سيرة حياة كارل يونغ ضروريّ لأيّ شخص مهتمّ بعلم النفس وبالروحانية وتطوير الذات. وهو يتضمّن حوالي 150 صورة قديمة وحديثة ليونغ، بالإضافة إلى لوحات لرينيه ماغريت وبول كلي ويونغ نفسه وبعض الأعمال الفنّية من الثقافات القديمة.

    Credits
    watkinsbooks.com
    shiftfrequency.com

    الاثنين، يوليو 25، 2011

    أمام المرآة


    هذه اللوحة اسمها فينوس أمام المرآة لرسّام عصر الباروك بيتر بول روبنز. المرآة تلعب دورا أساسيّا في اللوحة. فهي التي تعطي المرأة إحساسا بالهويّة والذات. لاحظ كيف أن الرسّام حجب معظم ملامحها عن الناظر بحيث لا يظهر وجهها إلا في المرآة الصغيرة التي يمسك بها الطفل. ثم إنها لا تنظر إلى وجهها في المرآة، بل تحدّق مباشرة في الناظر وكأنها تكشف له من خلال تلك النظرة عن جانب من ذاتها الحقيقية.
    من الناحية التقنية، تُظهر اللوحة براعة روبنز في تصوير العضلات وانثناءات الجسد وفي اختيار الألوان وقيم الضوء والظلّ المناسبة التي تعكس تفاصيل جسد الأنثى التي ترمز لـ فينوس إلهة الجمال القديمة.
    واللوحة تذكّر بلوحتين أخريين مشهورتين تلعب فيهما المرآة أيضا دورا رئيسيا، الأولى لـ فيلاسكيز والثانية لـ تيشيان.
    المرآة كانت وما تزال موضوعا مفضّلا في الرسم. وهناك العشرات، بل المئات من الأعمال الفنّية التي تشكّل المرآة عنصرا أساسيا فيها.
    لكن لماذا كلّ هذا الاهتمام بالمرآة في الفنّ والأدب والفلسفة؟ السبب يتمثّل في حقيقة أن ابتكار المرآة كان نقطة تحوّل مهمّة في نظرة الإنسان إلى نفسه ووعيه بذاته لأنها جعلته في حالة مواجهة مباشرة مع نفسه. وقبل اكتشاف المرآة الأولى على أيدي المصريين القدماء قبل أكثر من خمسة آلاف عام، كانت وسيلة الإنسان الوحيدة للتعرّف على هويّته هي النظر في مياه البحيرات والغُدران الراكدة.
    لكن لأن الماء لا يوفّر صورة ثابتة وواضحة دائما للوجه، فقد سعى الإنسان جاهدا لاكتشاف وسيلة أخرى يرى فيها وجهه في وضع ساكن وثابت.
    والمرآة بشكلها المعروف اليوم لم تظهر إلا منذ خمسة قرون، وبالتحديد في مدينة فلورنسا الايطالية.
    توق الإنسان لأن يرى صورته على حقيقتها كان هاجسا لازم البشرية منذ أقدم العصور. وكلّنا نتذكّر قصّة نرسيس في الميثولوجيا اليونانية القديمة. تقول الأسطورة إن نرسيس كان شابّا ذا جمال خارق لدرجة انه فُتن بصورته عندما رآها لأوّل مرّة منعكسةً على سطح مياه إحدى البحيرات. وأصبحت قصّته تقترن بالنرجسية وهي صفة أصبحت ترمز في علم النفس إلى الأنانية وحبّ الذات.
    المرآة أصبحت منذ اكتشافها مرتبطة بوعي الإنسان بذاته وهوّيته الشخصيّة. إسأل أيّ شخص، سواءً كان رجلا أم امرأة، عن أوّل عمل يقوم به في الصباح عندما يستيقظ من النوم. سيقول لك انه ينظر إلى ملامحه في المرآة بينما يغسل وجهه أو يفرّش أسنانه. وقبل أن يغادر المنزل إلى العمل أو المدرسة لا بدّ أن يعرّج على المرآة كي يعدّل أمامها هندامه ويطمئنّ إلى أن هيئته على أفضل ما يرام.
    أصبحت المرآة بمعنى من المعاني رمزا للحقيقة. لذا يقال في كثير من الأحيان أن المرآة لا تكذب.
    لكن هل صحيح أن المرآة لا تكذب؟ الواقع أن المرآة تُصوّر أحيانا على أنها رمز للخداع وتزييف الحقيقة. بل إن اندريه ماغريت الرسّام البلجيكي ذهب إلى ابعد من هذا عندما رسم لوحة مشهورة شبّه فيها عين الإنسان نفسها بالمرآة المزيّفة.
    والواقع انك بمجرّد أن تبتعد عن المرآة، ستكتشف أن صورتك سرعان ما تختفي وتصبح مجرّد ظلّ. المرآة تزيّف الواقع وأحيانا تشوّهه. وهي في النهاية مجرّد حيلة من حيل الفيزياء تُظهر صورنا معكوسة لدرجة انك لا تميّز أمامها يدك اليمنى من اليسرى ولا خدّك الأيسر من الأيمن.
    عندما ظهرت المرآة لأوّل مرّة كانت أداة للتباهي والتأكيد على المنزلة الاجتماعية الرفيعة. وعندما راجت وانتشرت بين الناس صارت رمزا للمساواة وأداة لاكتساب احترام وتقدير المجتمع.
    لا مشكلة في أن تقف أمام المرآة بضع دقائق في اليوم كي تصلح من مظهرك وتبدو بحال أفضل. لكن المشكلة مع المرآة هي أنها لا توفّر لك الوعي المنشود بالذات. فأنت في حقيقة الأمر لا تنظر إلى "نفسك" فيها، بل إن ما يشغلك في النهاية هو أن تعرف كيف سينظر إليك الآخرون.
    الإنسان عندما ينظر إلى نفسه في المرآة لا يبحث عن احترامه لذاته، وإنما عن احترام الآخرين له. وما تعكسه المرآة في واقع الأمر ليست صورتك الحقيقية عن نفسك، وإنّما صورتك التي تبحث عنها في أعين الآخرين.
    معرفة الإنسان لنفسه أصبحت هذه الأيّام لا تتحقّق من خلال تأثير الصورة والمظهر الخارجي، وإنّما من خلال طريقة الشخص في التعبير عن أفكاره وتصوّراته. بل إن هناك الآن من يقول أن فكرة معرفة الذات، كما تطرحها الكثير من الكتب الرائجة هذه الأيّام، هي نفسها فكرة مبهمة وغائمة. وانشغال الإنسان بهذه الفكرة والتعويل عليها أكثر مما ينبغي يمكن أن يصبح عقبة في طريق تحقيقه للنجاح والتجاوز في حياته.
    ترى لو خلا هذا العالم من المرايا فجأة، ما الذي سيحدث؟
    وكيف يمكن ملء الفراغ الذي كانت تملأه المرايا في حياتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ وعياً ومعرفة بذواتنا؟ هل سنصبح أكثر أم اقلّ إحساسا بالوحدة؟ هل سيقبلنا الآخرون كما نحن دون أن نضطرّ إلى تغيير صورنا وتزييف طبيعتنا الحقيقية؟!

    الخميس، يوليو 24، 2008

    نافذة على عالم ماغريت – 4 من 4

    كان رينيه ماغريت، من بين كافّة الرسّامين السورياليين، ينفرد بكونه الوحيد الذي كان يرسم بواقعية ويوظف في أعماله أشكالا وأشياءً من صميم الحياة قبل أن يضعها في سياقات غريبة وغير مألوفة.
    وعندما نتأمّل عالمه عن قرب والأفكار الفلسفية التي يبثّها في لوحاته سرعان ما نتذكّر بعض التصوّرات التي تنهض عليها الفلسفة البوذية. تفترض البوذية مثلا أن النفس الإنسانية سجينة لنزواتها ورغباتها وما يطرأ عليها من مشاعر سلبية كالكراهية والكبر والغرور وحبّ الأنا والأثرة. هذه المشاعر من شانها أن تقيّد معرفة الإنسان وتحدّ من قدرته على التعرّف على الطبيعة الحقيقية للأشياء وللعالم من حوله. وهذا الجهل سبب أساسي للمعاناة والألم.
    وهنا يثور سؤال: هل قرأ ماغريت شيئا عن البوذية؟ وهل كان متأثرا ببعض تصوّراتها التي تركّز على أسرار العقل وحالات الذهن بالإضافة إلى قولها بعدم إمكانية تجزئة العالم وإنما النظر إليه باعتباره كلا واحدا لا يتجزّأ؟
    إن في مضامين بعض لوحات ماغريت ما يمكن أن يشي بوجود علاقة ما. وليس من المستغرب أن بعض منظري البوذية ورموزها المعاصرين كثيرا ما يتوقفون عند لوحتيه "خيانة الصور" و "المرآة المزيّفة" باعتبارهما ترجمة واضحة لأحد أهم المبادئ التي تقوم عليها البوذية، وهو ضرورة أن يتخلص الإنسان من فهمه الخاطئ للنفس كي يستطيع أن يفهم العالم بشكل أفضل وبذا ينتصر على الألم ويرتقي وعيه وعقله إلى مرحلة النيرفانا.
    كما أن في البوذية كلاما كثيرا عن المتضادّات التي يضمّنها ماغريت في لوحاته. فالشيء لا تظهر طبيعته أو صفاته إلا بمضاهاته بنقيضه وليس من خلال صفاته الخاصّة المتجسّدة فيه. ومما يروى عن أحد معلمي البوذية انه سُئل مرّة: كيف ترى الأشياء بوضوح؟ فأجاب: أغلق عينيّ. وهذا هو بالضبط ما يردّده ماغريت عن خطورة أن يركن الإنسان إلى ما تراه عينه المجرّدة متوهّما أن ذلك سبيله الوحيد لفهم نفسه والعالم.

    من الموتيفات التي كان ماغريت يوظفها في لوحاته بشكل متواتر الستارة. أحيانا يضعها على جانبي اللوحة لتقوم بوظيفة ستارة المسرح وللإيحاء بأن ما نراه لا يعدو كونه تمثيلا وليس حقيقة. وأحيانا يحرّك الستارة من الأطراف إلى منتصف اللوحة لتكون جزءا من الموضوع الأساس أو الفكرة الرئيسية.
    والستائر لا تختلف عن النوافذ من حيث أنها تحدّ من مقدرة الإنسان على الرؤية. غير أنها تخفي الأشياء خلفها وبذا لا يرى الناظر سوى جزء من الصورة الكلية.
    في لوحة مذكّرات قدّيس نرى ستارة حمراء دائرية الشكل تقفل على سماء غائمة، وخارج السماء والستارة يتوزّع السواد على طرفي اللوحة.
    اللوحة ولا شك جميلة ورائقة وتنطوي على دقة في التصوير وبراعة في تمثيل الخطوط والألوان التي جاءت رقيقة وناعمة.
    وبما أن العنوان يتحدّث عن قدّيس، فمن الطبيعي أن ينصرف الذهن مباشرة إلى السماء وما يرتبط بها من جنّة ونار وثواب وعقاب.. إلى غير ذلك. وبناءً عليه، يمكن للمرء أن يتوقع أن ما بداخل الستارة ربّما يرمز إلى حسنات القدّيس وأعماله المجيدة في الدنيا، بينما يشير اللون الداكن إلى خطاياه وذنوبه. لكن قد تحتمل اللوحة تفسيرات وقراءات أخرى غير هذه.

    كان من بين أصدقاء ماغريت الفنانان ماكس ارنست وسيلفادور دالي والفيلسوف جاك ديريدا والشاعران بول ايلوار ومالارميه.
    في لوحة الصفحة البيضاء The Blank Page يستعير ماغريت جملة لـ مالارميه يتحدّث فيها عن "استحالة الكتابة على صفحة بيضاء"، ليرسم ستارة على هيئة ورق شجر وأمامها، وليس خلفها كما يفرض المنطق، يلوح ضوء قمر لم يكتمل. وفي ما بعد ستتكرّر نفس هذه الفكرة في لوحته المسمّاة The Sixteenth of September أو السادس عشر من سبتمبر.

    برأي ماغريت أن الحياة ليست سوى لغز كبير وأن من المتعذّر كسره أو فكّ طلاسمه. وكان يعتقد أن طبيعة الإنسان تدفعه لئلا يرى إلا ما يريد أن يراه أو ما يبحث عنه. ومن ثم فإن إدراكنا مرتبط إلى درجة كبيرة بطبيعة توقعاتنا.
    في لوحة بطاقة بيضاء نرى امرأة تتمشّى بين أشجار الغابة على ظهر حصان. غير أن ماغريت يتلاعب بالشكل والفراغ بحيث ُتظهِر الأشجار من المرأة والحصان ما كان يجب أن تخفيه وتحجب ما كان يقتضي المنطق كشفه. قد يكون الفنان قصد أن يقول إن المرأة والحصان ما يزالان هناك رغم الأشجار. وقد تكون اللوحة ترجمة لعبارة طالما ردّدها: إن جزءا من مهمّتي هو أن أجعل الأفكار مرئية".

    كان ماغريت يعتقد انه لم يعد هناك الكثير مما يمكن عمله من خلال الرسم التقليدي. لذا كان عليه أن يختار أسلوبا غير مألوف للتعبير عن أفكاره ورؤاه رغم إدراكه أن ذلك سيجلب عليه سخط واستهجان النقاد والعامّة.
    في إحدى لوحات الأسير الجميل يرسم لوحة داخل لوحة. اللوحة الصغيرة تصوّر طبيعة جبلية تبدو فيها الغيوم وهي تنزاح ببطء سابحة خارج الإطار، وكأن ماغريت يفترض أن المتلقي الذي طالما اعتاد رؤية الغيم والسماء في لوحاته أصبح بالفعل داخل عالمه الخاص بعد أن ألفه واستوعب صوره ومشاهده.
    الصورة الذهنية هنا جميلة، إذ تؤكّد على علاقة الإنسان بالطبيعة من خلال المشاعر والانفعالات والمزاج. لكن الطريقة التي رُسمت بها اللوحة قد تشير إلى رسالة أو فكرة ما من خلال هذه المزاوجة بين موضوع الداخل والخارج. ترى هل يقصد الفنان أن رسم الطبيعة، مهما كان دقيقا وشديد الواقعية، فإنه يظلّ عاجزا عن نقل حركتها وتصوير تحوّلاتها المستمرّة؟ إن أقصى ما يمكن أن يفعله رسّامو المناظر الطبيعية هو محاولة الإمساك باللحظة الراهنة، لكنهم لا يستطيعون نقل ديناميكية الطبيعة وما يطرأ عليها من أطوار وتغيّرات.
    وقد يكون ماغريت أزاح الطبيعة من مكانها لكي يؤكّد على الدور الخلاق للفنّ وعلى حرّية الفنان في أن يبتكر عوالم جديدة يستمدّ منها معاني وإمكانيات مختلفة تعينه على إعادة تشكيل الواقع من خلال رؤاه ومدركاته الخاصّة.

    من أهم الركائز التي قامت عليها السوريالية أنها كانت تعبيرا عن أفكار عصر ما بعد الحداثة؛ مثل عدم الاعتراف بالفوارق بين الثقافات، والشكّ في الفرضيات والمسلّمات التقليدية، ونسبية الزمن والحقيقة والأخلاق، وضبابية مفهوم الهويّة الإنسانية، واعتبار المعرفة الذاتية أساسا لجميع أشكال المعرفة، وتقدير التضادّية والازدواجية، وتوظيف أساليب السخرية والمفارقة، والترويج لمبدأ الفنّ للفنّ.
    في لوحة محاولة المستحيل Attempting the Impossible يصوّر ماغريت نفسه وهو يرسم موديلا متكشفة يفترض أنها زوجته. وقد رسمها بملامح تمثالية وبذراع واحدة، الأمر الذي يذكّرنا بتمثال افرودايت أو فينوس الشهير. والمعنى هنا واضح، وهو أن الجمال في النهاية قيمة نسبية، وأن محاولة تصوّر نموذج أو مثل أعلى للجمال هي محاولة عبثية لأننا لن نحصل في النهاية سوى على ملامح ساكنة، جامدة وبلا مضمون؟
    وفي العالم الخفي يرسم غرفة ذات ديكور خشبي يتوسّطها حجر ضخم. والغرفة تطلّ على بحر تعلوه غيوم كثيفة داكنة.
    إنها صورة أخرى للعالم غير المنظور الذي يتحدّث عنه ماغريت دائما والذي يتوارى خلف العالم المادّي الذي يحيط بنا. هنا أيضا يلجأ الفنان إلى استخدام العلاقات والرموز لإثارة اهتمام الناظر ودفعه لاكتشاف المعاني الباطنية والصور الاستعارية التي يضمّنها لوحاته.
    المشهد ساكن إجمالا ويتعذّر رؤية شيء آخر باستثناء الحجر والغرفة والبحر. لكن الصورة توحي بأن هناك أشياءَ قد لا نراها بالعين. الصوت مثلا يمكن أن يسافر عبر الصمت. صوت الرعد، صوت سيارة أو قطار مارّ من بعيد. هنالك عوالم أخرى خفية حولنا، كائنات دقيقة، أصوات، إشارات، همهمات قد لا نراها رأي العين لكنها مع ذلك جزء لا ينفصل عن وجودنا وعن عالمنا الأكبر.

    لقد عُرف عن ماغريت اهتمامه الكبير بالفيزياء والعلوم عامةً وقد قرأ كثيرا لاينشتاين ونيوتن وغيرهما. وهناك عدد غير قليل من لوحاته يمكن اعتبارها ترجمة لبعض الأفكار والنظريات العلمية.
    في لوحة معركة ارغون ، مثلا، نطالع صورة لصخرة وغيمة معلقتين في الهواء جنبا إلى جنب وتحتهما منظر طبيعي. المشهد غامض ويصعب تصوّر حدوثه، إذ السؤال ما الذي يجمع حجرا قاسيا داكن اللون بغيمة رقيقة بيضاء على هذا الارتفاع؟ وهل ما نراه هو حقا صخرة وغيمة؟
    لكن قد يكون في قانون الجاذبية ما يفسّر اللوحة، إذ من المعروف أن الأجسام تفقد وزنها كلما سافرت في الفضاء بفعل انعدام الجاذبية مع احتفاظها بنفس كتلتها. هذا هو على الأقل ما يقوله علماء الفيزياء. أما العنوان "ارغون" فيشير إلى إحدى المعارك المشهورة التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى بين الألمان والفرنسيين.

    وهناك لوحة أخرى لـ ماغريت اسمها بيت الزجاج The House of Glass يعتقد أنها هي الأخرى ليست سوى ترجمة لنظرية اينشتاين التي يقول فيها انه لو قدّر لإنسان أن يسافر إلى الفضاء بسرعة الصوت فإن جسمه يغدو مسطّحا إلى الدرجة التي يمكن معها رؤية وجهه في مؤخّرة رأسه. وهو أمر قد يستعصي على الإنسان العادي إدراكه أو تصوّره.
    وفي إحدى لوحات غرفة الاستماع نرى تفاحة تملأ حيّز غرفة كاملة، في إشارة على ما يبدو إلى نظرية اينشتاين عن العلاقة ما بين الكتلة وسرعة الصوت.
    وللتفاحة أهمّية خاصّة عند ماغريت إذ تظهر كعلامة فارقة في الكثير من لوحاته، ويمكن فهمها وطبيعة وظيفتها ضمن سياقات مختلفة ومتعدّدة. فالتفاحة فاكهة لكنها بنفس الوقت صورة مجازية لأشياء أخرى كالجاذبية والإغراء والخطيئة أو الطرد من الجنّة. كما يمكن أن تكون رمزا لاختراع أو ابتكار ما أو نظرية أو فكرة علمية.. إلى آخره.

    كان ماغريت يرى أن الحرّية هي نقطة الارتكاز في الوجود الإنساني كله. وأن عقل الإنسان عبارة عن كون يتشكّل ويتجلى للعالم من خلال مجموعة من المصادفات الغير متوقعّة. ولأن الإنسان غير قادر على كشف الحقيقة، فإن مهمّته هي أن يكشف على الأقل عن حقيقته الخاصّة".
    في لوحة المحرّر The Liberator يظهر رجل بلا ملامح وهو جالس أمام مبنى غارق في الغيم ويحمل بإحدى يديه عصا وبالأخرى كأسا مرصّعا بالجواهر على هيئة وجه امرأة.
    لكنْ لا العنوان يساعد على فهم المعنى المقصود ولا تفاصيل اللوحة نفسها تكشف عن مضمونها أو عن الفكرة التي يريد الفنان إيصالها.
    لقد سبق للكثير من النقاد أن تكهّنوا بأن لا تعمّر لوحات ماغريت طويلا لأنها برأيهم ساكنة أكثر مما ينبغي ومغرقة في الذاتية والاغتراب والتجريد وتفتقر للحيوية التي تضمن لها البقاء والديمومة. وقد قصر آخرون اهتمامهم على قراءة أعماله من منظور سيكولوجي بحت وأغفلوا مضامينها الفلسفية واللغوية والفكرية.
    ويبدو أن ماغريت لم يكن مهتمّا كثيرا بهذه المسألة بدليل قوله: لا يهمّني قيمة لوحاتي بعد مائة عام. ربّما تكون قد فقدت صلتها بالواقع وأصبحت شيئا من الماضي. المهم هو أن يكتشف الناس في ذلك الوقت ما اكتشفته أنا، وإن بطريقة مختلفة".
    غير أن من الواضح أن رسالة ماغريت أصبحت اليوم أعلى صوتا وأقوى تأثيرا من أي وقت مضى، خاصّة إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة التطوّرات السريعة والمهمّة التي شهدتها مجالات الاتصال والإعلان والتكنولوجيا في العقود الأخيرة. فالعوالم الافتراضية أصبحت حقيقة واقعة هذه الأيام، وهناك الآن كلام كثير عن الواقع الافتراضي وعن المجتمعات الافتراضية التي ولدت مع الانترنت وباتت إحدى سمات هذا العصر. ومن الصعب التمييز في هذه المجتمعات بين ما هو واقع أو خيال. وهي الفكرة التي طالما تطرّق إليها ماغريت في العديد من أعماله.

    لقد تحدّث ماغريت كثيرا في لوحاته عن محدودية اللغة وقصورها في وصف وترجمة التجارب والخبرات التي افرزها واقع العالم الجديد. وجاء بعده العديد من الكتاب ومنظري اللغة والاتصال الذين أخذوا بعض أفكاره إلى آفاق ومستويات أعلى من التحليل والنقاش والجدل.
    وممّا لا شكّ فيه أن تأثير ماغريت في الإعلان كان وما يزال هو التأثير الأقوى. فهما يستخدمان نفس اللغة، وعالم ماغريت الغنيّ بصور الخيال والفانتازيا ما يزال هو الأكثر قبولا وتفضيلا لدى المتخصّصين في مجال الدعاية والإعلان الذين يجدون في رسوماته مادّة يسهل تشكيلها وتطويعها بما يخدم أغراضهم ومتطلباتهم.
    ومن الأمور التي لا تنكر أن ماغريت ابتكر صورا ومشاهد لا تنسى أسهمت بفاعلية في تشكيل المخيّلة البصرية للناس طيلة عقود. وهناك العديد من لوحاته التي يمكن اعتبارها من بين أكثر صور الفنّ الحديث شهرةً واستنساخا في القرن العشرين. كما لا يمكن إنكار دوره في بلورة ما عرف في ما بعد بفنّ المفاهيم Conceptual Art والفنّ الشعبي Pop Art.
    وما تزال لوحاته، أو نسخ معدّلة منها، تظهر على أغلفة المصنّفات الفنية وفي الأفلام والمسرحيات، بالإضافة إلى عشرات الروايات وقصائد الشعر والأغاني والقطع الموسيقية التي تتضمّن إشارات إلى اسم ماغريت وعناوين لوحاته.

    لقد قيل في إحدى المرّات أن شخصا مثل ماغريت لا يمكن أن يظهر إلا في مدينة مثل بروكسيل. فقد اتصفت هذه المدينة دائما بهدوئها وتنوّعها واعتيادية الحياة فيها. لكنه ذلك النوع من الهدوء الذي يدفع الإنسان إلى التمرّد والثورة ومن ثم تشويه ما هو هادئ واعتيادي بطريقة ساخرة وأحيانا متسامية.
    وفي بلجيكا يُنظر الآن إلى ماغريت باعتباره قيمة وطنية وثقافية كبرى لا تقلّ شأنا عمّا لـ بريغل وروبنز من أهمّية. كما انه يتمتع اليوم بمكانة لا ينافسه فيها سوى عدد قليل من مواطنيه المعاصرين كالممثلة اودري هيبورن والممثل جان كلود فان دام.
    ومؤخّرا تم الانتهاء في بروكسيل من بناء متحف يحمل اسم ماغريت أسهمت في إنشائه مجموعة شركات فرنسية وبلجيكية. وقد أقيم المتحف في نفس مكان المنزل الذي عاش فيه الفنان وزوجته لأكثر من عشرين عاما.
    ومن المقرّر افتتاح المتحف رسميا في منتصف العام القادم 1909م لكي يضمّ أكثر من 160 لوحة من لوحات الفنان.
    وقد روعي في تصميم واجهة المتحف وديكوراته وغرفه وسلالمه أن تعكس روح عالم ماغريت بشكل يتيح لزوّاره رؤية مناظره الحالمة وقد بعثت فيها الحياة من جديد.


    Credits
    lacma.org

    الأربعاء، يوليو 16، 2008

    نافذة على عالم ماغريت – 3 من 4

    اثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، عمّ الناس شعور بالخوف واليأس جرّاء اكتشافهم بأن العالم مكان غير آمن وأبعد ما يكون عن الكمال الذي كانوا يتصوّرونه.
    وفي ظل هذا المناخ المشوّش والسوداوي ظهرت السوريالية. وكان روّادها الأوائل يجاهرون بأن هدفهم هو تغيير الواقع من خلال إطاحة النظام القديم واستنباط قيم وأخلاقيات جديدة يستعيد من خلالها الإنسان قواه الروحية الأصيلة التي تضمن له الحرّية والخلاص من القيود التي تكبّله وتعيق تطوّره.
    وكان اندريه بريتون، مؤسّس السوريالية ومنظّرها الأوّل، يرى أن بنية عقل الإنسان تعكس بطريقة ما عقل الكون نفسه، وأن عالم اللاوعي هو الذي يشكّل الطبيعة الحقيقية للإنسان لأنه النقطة التي لا تتناقض عندها الحياة مع الموت ولا الخير مع الشرّ ولا العدل مع الظلم ولا الماضي مع المستقبل ولا الواقع مع الخيال ولا الحقيقة مع الزيف.. إلى آخره.
    ولهذا السبب كان بعض السورياليين لا يخفون تعاطفهم، بل وإعجابهم أحيانا، بالمجرمين والخارجين على القانون لأنهم برأيهم أشخاص أذكياء وجريئون و"مبدعون" في انتهاك القوانين والأعراف المتوارثة.
    بل إن بريتون نفسه لم يكن يرى في الإنسان المجنون مجنونا بل مصدرا للحكمة والنبوءة، على اعتبار أن المرض النفسي يفسح المجال لظهور الجانب المظلم من العقل ومن ثم الكشف عن بعض الحقائق المؤلمة عن المجتمع وعن الطبيعة الإنسانية.
    رينيه ماغريت كان هو أيضا جزءا من هذا الحراك الفكري والفلسفي. ومن المعروف انه قضى في باريس ثلاث سنوات كانت هي الأهم والأكثر غنى في مسيرته الفنية. وقد اتّسمت علاقته مع زملائه السورياليين بفترات من المدّ والجزر إلى أن انتهت تلك العلاقة تماما بعودته إلى بلجيكا حيث قضى فيها العشرين سنة الأخيرة من حياته.
    ويقال إن ماغريت احرق كلّ المقتنيات والأشياء الخاصّة التي كانت تذكّره بالحقبة السوريالية. وقد نفى بعد ذلك أكثر من مرّة أن يكون سورياليا أو أن تكون لفنه صلة بالسوريالية. وكانت علاقته مع بريتون، خاصّة، قد تدهورت عندما غضب الأخير لرؤيته زوجة ماغريت في احد اجتماعاتهم وهي ترتدي صليبا وطالبها بنزعه فرفضت.
    ومن المعروف أن السوريالية ارتبطت في بدايات ظهورها بالماركسية. وماغريت نفسه لا يتحرّج من الإشارة إلى انه اعتنق الأفكار اليسارية في مطلع شبابه.
    وفي إحدى المراحل انتسب للحزب الشيوعي، غير انه سرعان ما تركه بعدما طُلب منه أن يكيّف فنّه مع الايديولوجيا الحزبية وأن يوظف لوحاته للترويج لأفكار الحزب ومبادئه.

    كان ماغريت، الذي تفتّح وعيه مبكّرا على أشعار الان بو وروايات ستيفنسون وأفلام شارلي شابلن، يرسم ليستفز ويثير المشاعر.
    وبالنسبة إليه فإن هذا العالم يعتبر مصدرا كافيا للكشوفات المدهشة والتجليات الشفافة. ولهذا السبب، وخلافا للسورياليين الآخرين، لم يكن مهتمّا بأن يستقي من الأحلام والهلوسات والظواهر الغريبة مصدرا لمضامين لوحاته.
    في لوحته غموض الأفق نرى ثلاثة أشخاص متماثلين ظاهريا ويرتدون القبّعات. المنظر يدلّ على أن الوقت قد يكون فجرا أو ساعة الغروب. ومع أن الرجال الثلاثة يقفون في نفس المكان، فإن كلا منهم منفصل نفسيا وشعوريا عن الآخر. وما يعزّز هذه الفرضية أن لكلّ منهم هلاله الخاص ووجهته الخاصّة.
    تفاصيل اللوحة توحي بأننا قد نكون أمام صورة من صور تشظّي الذات وتجزؤ الإنسان وابتعاده عن الإحساس بالكُلّ. وهناك احتمال أن يكون ماغريت أراد من خلال اللوحة التأكيد على مسألة التمايزات والفروق الفردية التي تجعل من كلّ شخص مختلفا عمّن سواه في المزاج النفسي وفي طريقة النظر إلى الحياة برغم التماثل في الملامح الفيزيائية أو الجسدية.
    هذان مجرّد احتمالين. مع أن المعنى قد يكمن في مكان آخر..

    إن بعض لوحات ماغريت تعطي إحساسا بأن الفنان يتعمّد السخرية من الحداثة والرأسمالية والاشتراكية ومن البورجوازيين بل وحتى من العصر نفسه الذي برأيه يستحقّ الشفقة. هذا بالرغم من حقيقة انه كان هو نفسه بورجوازيا طوال حياته بقدر ما كان إيمانه قويّا أيضا بأفكار العصرنة والليبرالية.
    في لوحة جولكوندا يضعنا ماغريت أمام منظر غريب . هنا بوسع الناظر أن يرى مجموعة من الأشخاص المعلقين في الهواء، متّخذين شكل وقوف رأسي أمام عدّة مبان متجاورة طليت واجهاتها باللون البنّي الغامق.
    قد يكون ماغريت رسم هذا المنظر كي يصوّر من خلاله الآثار السيّئة التي تنتج عن رصّ البشر ومحاولة تشكيلهم أو قولبتهم على نسق أو نموذج أو نظام واحد بعيدا عن أي مضمون إنساني كما لو أنهم كتل من الحجارة الصمّاء. والنتيجة واضحة، وهي أن السياق الذي ينتظم الأشخاص في اللوحة أصبح مبعثرا ومتنافرا، بحيث لا نرى أمامنا سوى بضعة أشخاص كاملين فيما تضاءلت أحجام البقية وأصبحوا مجرّد ظلال. ويمكن أن تكون اللوحة إشارة إلى البنية الطبقية للمجتمع الصناعي التي تتّسم بالتفاوت الشديد والصرامة والقسوة. كما يمكن أن تكون رمزا لضياع هويّة الفرد بعد أن حوّلته المدنية الحديثة بإيقاعها الآلي إلى مجرّد رقم أو جزء ضئيل من آلة الإنتاج الهائلة والمتوحّشة.
    لكن هناك تفسيرا آخر يستند إلى ما عُرف عن ماغريت من براعة في التلاعب باللغة وتغيير نظام الكلمات. فعنوان اللوحة "جولكوندا" ربّما يشير ضمنا إلى لوحة دافنشي الجيوكندا أو الموناليزا. كأن ماغريت أراد أن يقول إن الجيوكندا ليست ما تراه في هذا المنظر، لأنها تحوّلت في العالم الحديث وبفضل هيمنة رأس المال وسطوة الإعلان إلى مجرّد سلعة لكسب الربح وجني المال بعد أن تطاير مضمونها الفني والإبداعي في الهواء.

    إن من أهم سمات لوحات ماغريت أنها تمتلئ بالشكّ وبالأسئلة الوجودية الكثيرة ولا نكاد نرى فيها وجودا ملموسا لخالق أو لذات عليا. والإنسان في العديد من رسوماته غريب ويائس ومهزوم لأنه يعيش في عالم يجهل الكثير من معطياته وحقائقه. وهو بالإضافة إلى هذا إنسان عاجز ومسلوب الإرادة بفعل تسلط الجماعة وهيمنة القيم الموروثة.
    في الحنين إلى الوطن يرسم ماغريت رجلا بجناحين وأسدا رابضا على الأرض وعمود إنارة ورصيفا.
    من الواضح أن كلا من الرجل والأسد موجود خارج هيئته الطبيعية. فالرجل له جناحان قد يكون ماغريت استعارهما من الصورة الكلاسيكية للأسد، إذ تذكر الأساطير انه كان للأسد جناحان في بدايات خلق الأرض. لكنه اليوم أصبح حيوانا مروّضا وبذا فقد حرّيته رغم انه يبدو حرّا ظاهريا.
    الأسد أصبح خارج القفص لكنه ليس حرّا. والرجل صار له جناحان لكنه ما يزال داخل "قفص". والاثنان أسيرا إحساسهما بالوحدة والغربة والحنين إلى الماضي. ويمكن اختصار مضمون هذه اللوحة بعبارة جان بول سارتر: الحرّية هي المصدر الأول لمعاناة الإنسان المعاصر".

    إن ماغريت لا يتوقف عن العبث بنظام الأشياء لكي يخرّب إحساسنا بالاطمئنان إلى ما نعتبره واقعا وحقيقة مسلّما بها ويعتبره، هو، مجرّد تهيّؤات وأحلام ورغبات غامضة.
    في لوحة الآخرة The Hereafter يرسم منظرا تنقبض له النفس يعبّر من خلاله عن مأساة الإنسان وعدمية الوجود. في اللوحة لا نرى سوى قبر وحيد من الحجر بلا شاهد أو اثر يدلّ على صاحبه وسط صحراء موحشة يلفها السراب والصمت وتلهبها أشعة الشمس الحارقة.
    وفي الإجابة غير المتوقّعة يرسم ماغريت بابا تتوسّطه فجوة طولية على هيئة شخص شبحي. الصورة قد تكون تجسيدا لخوف الإنسان الغريزي من المجهول. مثلا، قد يفاجأ احدنا في ساعة متأخّرة من الليل بمن يقترب من بيته ليطرق الباب ويوقظه من نومه. وبما انه لا يتوقّع زيارة احد في مثل تلك الساعة، فإنه من الطبيعي أن يتسرّب الخوف والقلق إلى نفسه ويتساءل عمّن عساه يكون ذلك الزائر الغريب. وفي غمرة إحساسه بالخوف والتوجّس قد يفترض أن الطارق إما لصّ مغامر أو مجرم محترف. لكن لا يخطر بباله أن الزائر قد يكون صديقا قديما اهتدى إلى البيت بعد طول بحث أو عابر سبيل يطلب غوثاً أو مساعدة. لكننا اعتدنا على الخوف من المجهول وتوقع الأسوأ، لان عقولنا مبرمجة سلفا وبشكل لا إرادي على التخيّلات الجامحة والتهيّؤات غير الواقعية.

    وفي أزهار الشرّ The Flowers of Evil يرسم ماغريت مشهدا استمدّ عنوانه من اسم أشهر ديوان شعر لـ بودلير. كان بودلير يؤمن بأن الشرّ ينطوي على عنصر غواية وجمال وأن ثمّة حاجة لاستخلاص الجمال من الشرّ. كما كان يرى أن ثنائية الإنسان هي مكمن شقائه الوجودي فهو يتطلع للتسامي إلى الأعلى، أي إلى الله، لكنه مشدود بنفس الوقت إلى رغباته الأرضية التي يمليها عليه الشيطان.
    في اللوحة رسم ماغريت امرأة عارية بملامح تمثالية جميلة وهي تمسك بإحدى يديها زهرة بينما تسند يدها الأخرى على حجر.
    ومن الواضح أن جسد المرأة ينطوي على عنصر حسّي لكنها في النهاية مصنوعة من حجر. وهي تبدو حيّة لكن عينيها متحجّرتان. وهذا التناقض بين ما هو حقيقي وما هو مزيّف، بين اللحم الحيّ والمادة الساكنة، يطبع اللوحة بالمفارقة ويضفي عليها مسحة من التناقض والغموض.
    ومن أكثر أعمال ماغريت احتفاءً لوحته المسمّاة علاقات خطرة التي تظهر فيها امرأة عارية وهي تمسك بمرآة كبيرة تغطي معظم جسدها.
    لكن المرآة تعكس صورة جانبية للمرأة تبدو فيها كما لو أنها تستدير محاولة إخفاء صدرها.
    والأسئلة التي تثيرها اللوحة كثيرة. مثلا، هل يتضمّن المشهد أكثر من مرآة؟ هل هناك امرأة واحدة أم أكثر؟ ومن حيث المضمون، هل يشير ماغريت هنا إلى فكرة الأنوثة، صورة الجسد، أو وعي الإنسان بصورة جسده؟
    هل النظر في المرآة هو العلاقة الخطرة التي يشير إليها العنوان لأنها لا تقود، حسب ماغريت، سوى إلى وهم وخداع؟
    أم هل أن صورة الإنسان عن جسده ترتبط بشعور غامض بالخوف أو الخجل أو الارتياب كما تشي بذلك حركة المرأة في الإطار؟
    أم أن الموضوع لا يعدو كونه شكلا آخر من أشكال الايهام البصري يلجأ إليه ماغريت كي يقول لنا إن سطح الزجاج ليس هو بالضرورة سطح الواقع وليؤكّد من جديد فكرته القائلة بهشاشة وضعف إدراك الإنسان للواقع؟
    كلّ هذه الاحتمالات ممكنة. لكن لا شيء منها مؤكّد.

    وفي لوحة اكتشاف النار يرسم ماغريت "تيوبا"، وهي آلة موسيقية نفخية لها أنابيب ملتوية ومتجاورة، بينما راحت النار تلتهمها من أطرافها.
    وللنار عند ماغريت دلالة خاصة، إذ تظهر في أكثر من لوحة من لوحاته. هناك مثلا لوحة اسماها الطوفان The Flood وفيها تظهر امرأة جسدها نصف عارٍ والى جوارها آلة تيوبا تحترق. وينقل عن ماغريت انه قال في إحدى المرّات أن الاكتشاف المدهش للنار، من خلال عملية احتكاك جسمين ببعضهما، يذكّرنا بالآلية الفيزيائية للمتعة.
    وهناك من الكتاب والفلاسفة من يرى أن النار مقترنة بالمتعة وأن المتعة تستمدّ فكرتها من الحبّ والحرّية. وبناءً عليه، فالنار هي المعادل المجازي للاثنين. وليس من المستغرب أن يكون للمرأة حضور متخفّ ودائم في لوحات السورياليين، فهي عندهم رمز للحبّ وهي الوجود المختبئ دائما في غابة أحلامهم وتخيّلاتهم.

    إن الفضول الذي تثيره عناوين لوحات ماغريت كثيرا ما يدفع الناظر إلى العودة إلى الصورة ليتأمّلها من جديد وليتساءل، مثلا، عن المنطق الذي يدفع ماغريت إلى إطلاق اسم الوتر الحسّاس أوLe Corde Sensible على لوحة تصوّر غيمة ثلجية تطفو على سطح كأس زجاجي، أو عن العلاقة بين تلك الكتل من الصخور الضخمة التي ركّبت فوق بعضها لتأخذ شكل كلمة "الحلم" بالفرنسية وبين الاسم الذي اختاره ماغريت لتلك اللوحة (فنّ المحادثة)، أو عن الفكرة التي تنطوي عليها لوحته بعنوان الابتكار الجماعي The Collective Invention التي يقلب فيها الصورة النمطية، والرومانسية غالبا، الشائعة عن عروس البحر فيجعل لها رأس سمكة وساقي امرأة.

    في إحدى اللوحات التي اقتبس ماغريت اسمها من عنوان قصّة لـ ادغار الان بو بعنوان مملكة آرنهايم يرسم صورة يدفع من خلالها الناظر إلى إعادة النظر في أفكاره وتصوّراته عن الجبال. فقد رسم جبلا على هيئة نسر عملاق وفي مقدّمة اللوحة يستقر عشّ بيض على جدار. تفاصيل المشهد وطريقة رسمه توحي بأن الجبل هو الذي وضع البيض مع أن البيض صغير جدّا بالنسبة لحجم النسر المهول.
    لكن بصرف النظر عن هذه التفاصيل الصغيرة، فإن هذه اللوحة تعتبر اليوم من أشهر أعمال ماغريت بالنظر إلى سورياليتها الموغلة وقوّتها البصرية الأخّاذة.

    إن ماغريت الذي يشغله غموض العالم وتستفزه تناقضاته الكثيرة لا يتردّد في خلخلة الأفكار والتصوّرات المستقرّة وقلب الأعراف والقوانين رأسا على عقب، فيحوّل النباتات إلى طيور والتماثيل إلى لحم حيّ والبشر والفاكهة إلى حجارة وكأنه يباشر عملية خلق فصيلة أو نظام جيني جديد بطريقة لا تخلو أحيانا من السخرية وروح الدعابة.

    لقد ترسّخت عند الفنانين والنقاد فكرة تقول إن الفنان لكي يكون حداثيا فلا بدّ من أن يكون قبيحا وصادما عند السطح. وقد كان بإمكان ماغريت أن يكون كذلك لولا أن نقاءه كفنان كان يدفعه دائما لأن يدفن القبح والصدمة تحت السطح.
    وربّما لا يستثنى من هذا التوصيف سوى بضع من لوحاته أهمّها اثنتان؛ الأولى: الاغتصاب The Rape التي يأخذ فيها وجه امرأة شكل أعضائها الخاصّة، في إشارة إلى أن المغتصب إذ يقوم بفعلته يكون قد طمس ملامح وجه المرأة في "لا وعيه" وأحلّ مكانها تصوّراته عن تفاصيل جسدها مدفوعا بتأثير نزواته ورغباته المكبوتة.
    والثانية: القاتل المهدَّد The Threatened Murderer التي تصوّر مسرحا لجريمة قتل.
    ويمكن أن نجد في إحدى عبارات ماغريت تبريرا لرسمه هاتين اللوحتين إذ يقول: لا يجب أن نخشى ضوء النهار لمجرّد انه يكشف أحيانا عن بعض تعاسات العالم الذي نعيش فيه".

    في اللوحة الأخيرة، أي القاتل المهدّد، يظهر رجلا تحرّي يرتديان القبّعة ويكمنان في طرفي غرفة استعدادا للانقضاض على قاتل بهيئة محترمة. القاتل منهمك في الاستماع إلى الموسيقى من جهاز تسجيل قديم بينما يظهر بالقرب منه جسد عار لامرأة يبدو انه قتلها للتوّ. وخلف النافذة في نهاية الغرفة نرى ثلاثة رجال يراقبون ما يجري.
    عنوان اللوحة نفسه ينطوي على مفارقة، إذ كيف يمكن تصوّر أن يكون القاتل مهدَّدَا؟ لكن عند التدقيق في ملامح الرجال، القاتل ورجلي التحرّي والمتفرّجين بل وحتى المرأة الضحيّة، سرعان ما نكتشف أنهم جميعا يحملون نفس الوجوه. أي أن القاتل والمقتول والجمهور كلهم ضحايا وكلهم جناة.
    إن ماغريت لا يكفّ عن طرح بعض أكثر أسئلة الوجود صعوبة وتعقيدا. وغالبا ما تكون الإجابات ضمنية. وهو بهذا المعنى يمارس العنف ضد أفكارنا وقناعاتنا الجاهزة والمقبولة، ولا يتوانى أثناء ذلك عن تقويض العقل واللغة والواقع لكي يبدّد رضانا وقناعتنا بأن عالمنا مستقرّ ويمكن التنبّؤ به.

    وبعض النقاد ممّن درسوا لوحاته قالوا بأنها انعكاس لرغبة الفنان في التعبير عن اعتراضه على رتابة وعبثية الحياة. والبعض الآخر رأوا فيها ما يمكن اعتباره حيلة هروبية ونكوصا عن مواجهة الواقع. والبعض الثالث تحدّث عن دأب ماغريت ومثابرته في توظيف فنّه من اجل كشف بعض المناطق المظلمة والمعقّدة في الطبيعة الإنسانية.
    وهناك فريق آخر من النقاد ممّن لا يخفون افتتانهم بجمال مناظره وجاذبيتها رغم كون بعضها مربكا ومستفزّا.
    وهو قال ذات مرة بطريقته المختزلة والساخرة: إن كل لوحة تبدأ كقصّة حبّ وتنتهي كعملية اغتصاب!"