:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كاندينسكي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كاندينسكي. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مايو 12، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • ذات مرّة طرح كاتب على قرّائه السؤال التالي: إذا سقطت شجرة في غابة لا يوجد بها بشر، فهل سيكون هناك أيّ صوت؟". ثم أجاب على السؤال بقوله: لا، لأن الصوت هو الإحساس الذي تثيره الأذن عندما يتمّ تحريك الهواء أو أيّ وسيط آخر".
    ثم أثار كاتب آخر الجانب الفنّي لهذا السؤال بينما أغفل الجانب الفلسفي عندما طرح السؤال بصيغة مختلفة قليلاً: إذا سقطت شجرة على جزيرة غير مأهولة، فهل سيكون هناك أيّ صوت؟" وأعطى إجابة أكثر تقنيةً بقوله: الصوت هو اهتزاز ينتقل إلى حواسّنا من خلال آليّة الأذن، ولا يتمّ التعرّف عليه كصوت إلا في مراكز أعصابنا. سيؤدّي سقوط الشجرة أو أيّ اضطراب آخر إلى إحداث اهتزاز في الهواء. وإذا لم تكن هناك آذان تسمع، فلن يكون هناك صوت".
    في إحدى جولات آينشتاين اليومية مع زميل له، توقّف فجأة والتفتَ إلى الزميل قائلا: هل تعتقد حقّا أن القمر موجود فقط إذا نظرت إليه؟". هل يمكن لشيء أن يوجد دون أن يُدرَك بالوعي؟ وهل الصوت لا يكون صوتا إلا إذا سمعه شخص ما؟!
    الموضوع الفلسفي الذي يطرحه السؤال يتعلّق بوجود الشجرة "والصوت الذي تنتجه" خارج الإدراك البشري. فإذا لم يكن هناك أحد حول الشجرة ليراها أو يسمعها أو يلمسها أو يشمّها، فكيف يمكن القول إنها موجودة؟! وماذا يعني أن نقول إنها موجودة عندما يكون هذا الوجود غير معروف؟ من وجهة نظر علمية، هي موجودة والبشر هم القادرون على إدراكها.
    الصوت يمكن تعريفه بأنه إدراكنا لاهتزازات الهواء. وبالتالي، لا وجود للصوت إذا لم نسمعه. وعندما تسقط شجرة، تتسبّب الحركة في اضطراب الهواء وإرسال موجات هوائية. هذه الظاهرة الفيزيائية، التي يمكن قياسها بأدوات أخرى غير آذاننا، موجودة بغضّ النظر عن إدراك الإنسان لها بالرؤية أو السماع. وإذا جمعنا هذه الخطوط الفكرية معا، يمكننا القول أنه على الرغم من أن الشجرة الساقطة ترسل موجات هوائية، لكنها لا تنتج صوتا إذا لم يكن هناك إنسان على مسافة، بحيث تكون موجات الهواء قويّة بما يكفي ليتمكّن ذلك الإنسان من إدراكها. ومع ذلك، إذا عرّفنا الصوت بأنه الموجات نفسها، فسيوجد صوت.
    هل يمكننا أن نفترض أن العالم غير الملاحَظ يعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها العالم الملاحَظ؟ إذا توقّف البشر عن الوجود، فإن الصوت سيستمرّ في الانتقال وستسقط الأجسام الثقيلة على الأرض بنفس الطريقة تماما، على الرغم من أنه من المفترض أنه لن يكون هناك من يعرف ذلك.
  • ❉ ❉ ❉

  • كان كمال الدين بهزاد (ق 15/16) يُلقّب بـ "رافائيل الشرق". ولا يَعرف التاريخ رسّام منمنمات آخر من العصور الوسطى ذاع صيته كاسم هذا الرسّام. وقد كتب عنه الفنّان الروسي كاندينسكي بعد أن رأى بعض صوره فقال: لا أصدّق أن هذا من صُنع يد إنسان"!
    لا يُعرف الكثير عن حياة بهزاد. وما نعرفه هو أنه وُلد في هيرات بأفغانستان وعرف اليُتم في سنّ مبكّرة. ثم تعلّم الرسم على يد الرسّام البارز ميراك الذي علّمه من الأساليب الفنّية ما يناسب أذواق الطبقة الراقية آنذاك.
    وعندما ظهرت موهبته أكثر، نال إعجاب كبير وزراء هيرات الشاعر المشهور مير علي شير نوائي. وبدأ يرسم دواوين الشعر المشهورة، ما لفتَ انتباه سلطان هيرات حسين بايقرا الذي اشترى هو ورعاة البلاط أعماله لتُعرض في القصر. وفيما بعد، أصبح بهزاد مديرا للمرسم الملكي للشاه إسماعيل الأوّل الصفوي في تبريز.
    وقد أصبح اسم هذا الرسّام مرادفا للبراعة الفنيّة الرفيعة التي أظهرها الفنّانون في عهد التيموريين، ولاحقا في عهد الصفويين فيما يُعرف اليوم بأفغانستان وإيران. ومن الأمثلة الرائعة على براعته طريقة تجسيده للعمارة وكيفية خلق المنظور.
    كما أن صوره تنقل إحساسا بالحالة المزاجية للشخصيات بطريقة أكثر دقّة وتعبيرا من المخطوطات الفارسية التقليدية. وتُظهِر لوحاته أيضا قدرته على جعل إيماءات الشخصية مليئة بالحيوية والحركة. ومع ذلك، فإن دقّة الرسم والتحكّم في التنفيذ رائعة أيضا، وهذه كانت سمة مميّزة للرسم في هيرات في القرن الخامس عشر.
    وتُعدّ الدقّة في النمط والخطّ والتصميم أهمّ إرث لبهزاد. لكن الأجيال اللاحقة انفصلت عنه ورسمت أشكالا جامدة وبلا حياة. وحاليّا، تزيّن أعماله المخطوطات المحفوظة في متاحف ومكتباتٍ عدّة حول العالم، بما في ذلك دول مثل المملكة المتحدة وسويسرا والولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران ومصر. ورغم أن العديد من المخطوطات والرسومات الفردية نُسبت له، إلا أن القليل منها فقط مُعتمَدة رسميّاً على أنها من أعماله.
  • ❉ ❉ ❉

  • عندما كان جوزيف ستالين (1879-1953) على فراش الموت، استدعى اثنين من المرشّحين لخلافته، لاختبار أيّهما أقدر من الآخر على حكم البلاد. ثم أمر بإحضار عصفورين صغيرين، وقدّم لكلّ مرشّح عصفورا.
    أمسك الأوّل بالطائر، لكنه كان خائفا جدّا من أن يتمكّن من التحرّر من قبضته والطيران بعيدا، لذا ضغط على العصفور بقوّة، وعندما فتح راحة يده، كان العصفور قد مات. وعندما رأى المرشّح الثاني الامتعاض على وجه ستالين، خاف من تكرار خطأ منافسه، فخفّف قبضته كثيراً حتى تَحرّر العصفور وطار بعيداً.
    نظر ستالين إلى الإثنين بازدراء، وأمر مساعديه أن يحضروا له عصفورا! ثم أمسك بالطائر من ساقيه، وببطء قام بنزع كلّ الريش من جسمه الصغير، ريشةً بعد أخرى. ثم فتح كفّه، فإذا بالطائر متكوّم هناك، يرتجف عاريا وبحال من العجز واليأس. نظر ستالين الى العصفور بشفقة مصطنعة ثم قال لمن حوله وهو يبتسم: كما ترون، إنه حتى ممتنّ للدفء الإنساني الذي وجده في يدي!".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • توصف الاقتباسات بأنها جوهر الحكمة وخلاصة الفكر. وهي جُمل موجزة ومكثّفة وملهِمة وسهلة التذكّر. ومشاركتها مع الآخرين دليل على أن المقتبس يحبّ القراءة وينشر الفائدة والإيجابية وإعمال العقل. وكالعادة، ومن وقت لآخر، أضع هنا بعض الاقتباسات التي قرأتها هنا أو هناك وأثارت اهتمامي أو إعجابي، راجياً أن تُعجب القارئ.

    ◦ ربّما لم يوجد لاو تزو قطّ، وحتى لو وُجد فمن المؤكّد أنه لم يؤلّف كتاب الطاو "تاو تي تشينغ"، وهو الكتاب الذي يُنسب إليه عادةً. قد يكون لاو تزو شخصية خيالية، وحتى لو وُجد، فإن الكتاب الذي يحمل اسمه لا يحتوي إلا على القليل من كلماته الحقيقية، وربّما كُتب بعد حوالي ستمائة عام أو أكثر من حياته المفترضة.

    ومن بين جميع الشخصيات التي تدّعي الطاوية أنها جزء منها خلال فترة الازدهار الفكري الاستثنائية بين القرنين السادس والثالث قبل الميلاد، وحده تشوانغ تزو يبرز من بين الضباب كشخصية مميّزة، بل وإحدى أكثر الشخصيات إثارةً للاهتمام وفكاهةً ومتعةً في الفكر والفلسفة الصينية ككل. مارتن بالمر

    ◦ قال ستيفن هوكينغ ذات مرّة بأن البشر لم يتبقَّ لهم سوى ألف عام على الأرض، وأننا إذا أردنا البقاء على قيد الحياة، فسوف نضطرّ إلى الانتقال إلى مكان آخر".
    وأنا آمل أن يحدث ذلك، ليس فقط للبشر، بل للحياة ككلّ. هل سنظلّ بشرا في تلك المرحلة؟ هذه مسألة انتخاب. فالمسار الطبيعي للأحداث وعلم الأحياء، إمّا أن ينقرض نوع ما أو ينقسم إلى أنواع عديدة ناجحة، فينتهي به الأمر إلى عشرة أنواع أو مئة. هذا هو جوهر التطوّر. لذا أعتقد أنه من المرجّح أن يحدث هذا للبشر أيضا. ولو كنت سأعيش على المرّيخ، لوددت أن أعيش فيه أوّلا لأتمكّن من التجوّل في مناخ شديد البرودة. فريمان دايسون

    ◦ الألم والمعاناة أمران لا مفرّ منهما دائما للأذكياء وأصحاب القلوب الرحيمة. أعتقد أن العظماء حقّا لا بدّ أن يحزنوا كثيرا في حياتهم على هذه الأرض. دوستويفسكي

    ◦ أمّة محارِبة كالألمان، بلا مدن ولا آداب ولا فنون ولا مال، وجدت تعويضا عن هذه الحالة الوحشية في التمتّع بالحرّية. لقد ضمن لهم فقرهم الحرّية، لأن رغباتنا وممتلكاتنا هي أقوى قيود الاستبداد. إدوارد غيبون

    ◦ بعد قليل سأرحل عنكم. لا أدري إلى أين. من العدم أتينا وإلى العدم نذهب. ما الحياة سوى وميض فراشة في الليل، أنفاس جاموس في الشتاء، ظلّ صغير يركض على العشب ويختفي عند الغروب. الزعيم بلاك فوت
  • ❉ ❉ ❉

  • على سفح جبل، عاش أسد شرس القلب، وكان يُكثر من قتل الحيوانات البرّية. وساء الوضع كثيرا لدرجة أن الحيوانات عقدت اجتماعا فيما بينها وقدّمت اعتراضا مهذّبا للأسد ختمته بهذه الكلمات: لماذا يهلكنا جلالتكم هكذا؟! إن شئت فسنجهّز لك بأنفسنا كلّ يوم حيوانا لوجبة جلالتك." فقال الأسد: إن كان هذا الترتيب يُرضيكم، فليكن."
    ومنذ ذلك اليوم، خُصّص للأسد حيوان يفترسه يوميّا. وفي أحد الأيّام، جاء الدور على أرنب عجوز ليُجهّز للمائدة الملكية، ففكّر في مآل أمره وهو يسير الى عرين الأسد وقال في نفسه: ما دمتُ سأموت على أيّ حال فسأذهب إلى موتي على مهل."
    كان الجوع قد عضّ الأسد ونفذ صبره وهو ينتظر الأرنب. ولما رآه يقترب منه زأر بغضب وقال: كيف تجرؤ على التأخير في المجيء كلّ هذا الوقت؟" أجابه الأرنب: سيّدي، لستُ أنا المذنب. لقد أوقفني أسد آخر على الطريق ولم يتركني أمضي إلا بعد أن أقسمت له بأنني سأعود بعد أن أبلغ جلالتك."
    وهنا صاح الملك ذو القلب الشرس بغضب وقال: سنذهب أنا وأنت من فورنا لتريني أين يعيش ذلك الأسد الوقح." وسار الاثنان معا حتى وصلا إلى بئر عميقة، فتوقّف عندها الأرنب وقال للأسد: فليأتِ سيّدي الملك وينظر إليه." ولما اقترب الأسد، ورأى انعكاس صورته في ماء البئر، تملّكه الغضب وهاج وماج، ثم ألقى بنفسه في البئر. ولم يخرج منها أبدا.

  • Credits
    musee-orsay.fr/en
    physicsworld.com

    الخميس، فبراير 27، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • "المعمار" هو اسم اللوحة التي فوق، والتي رسمها بول كلي في عام 1923 كجزء من سلسلة لوحات "المربّعات السحرية" التي تتناول الأنماط والأشكال البسيطة والتضاريس. وتتكوّن اللوحة من نمط منتظم لمربّعات ذات ألوان مختلفة ومتمايزة.
    ويُنظر إلى هذا العمل على نطاق واسع باعتباره انعكاسا لطبيعة الإيقاع والتكرار والتشابه كما يراها الفنّان. في ذلك الوقت، كان الموسيقيّ النمساوي أرنولد شوينبيرغ قد وضع نظاما ثوريا جديدا في الموسيقى يتألّف من 12 نغمة. والكثير من النقّاد يعتبرون "المعمار" انعكاسا لفكرة شوينبيرغ الكميّة والمنطقية للموسيقى باعتبارها كيانا هندسيّا ورياضيّا وليست فقط مشاعر وتأمّلات. وقد نُظر الى عمل الرجلين في ذلك الوقت على أنه مبتكر للغاية ومختلف تماما.
    ويقال إنه لم يستكشف فنّان آخر مجال الأشكال الهندسية الأوّلية بمثل ما فعل كلي. فقد استخدم الهندسة، ليس فقط من أجل خلق حقائق تصويرية نقيّة، ولكن أيضا لشرح الحياة العضوية. وفي عام 1930، كتب ناقد يُدعى رينيه كريفيل قائلا: إن أبسط الموادّ والكلمات أو الألوان تعمل كوسيط بين العالم الخارجي والمتلقّي. والشعر هو اكتشاف العلاقات غير المتوقّعة بين عنصر وآخر. والرسّام الذي يجد الشعر في أكثر أشكال الهندسة جفافاً يستطيع أن يعرف كيف يصعد الى السطح بعد أن يغوص".
    وهناك من رأى في سلسلة "المربّعات السحرية" انعكاسا للنهج الفلسفي الرومانسي الذي كان كلي يتبنّاه تجاه الحياة. فقد كان يعتقد أن الكون الذي نراه ما هو الا مظهر وانعكاس لشيء آخر. ويمكن أن تكون المربّعات في اللوحات رمزا للكون ككل، فهي كتل بِناء تبدو ذات قيمة وأهمية جوهرية.
    ناقد آخر يُدعى وِل غرومان قارن سلسلة المربّعات السحرية بالبحث الموسيقي المعاصر، وخاصّة نظام النغمات الاثنتي عشرة الذي ابتكره شونبيرغ، فقال: وجدت بين أوراق كلي ورقة صغيرة عليها مخطّط لإحدى لوحاته. كانت الأرقام مكتوبة في المربّعات، وسلسلة من الأرقام تسير أوّلاً في اتجاه واحد ثم في الاتجاه الآخر متقاطعةً مع بعضها البعض. وعندما تُجمع الأرقام على طول الخطوط الأفقية والرأسية، يصبح المجموع متساويا، كما هو الحال في المربّع السحري الشهير".
    في بحثه النفسي عن الأشكال الهندسية الأكثر بدائية والبنية الداخلية للمادّة ومصفوفاتها وأشكالها الإيقاعية، يجد كلي مبدأ فعّالاً للتنظيم يقوم على نفس الأساس الذي ينهض عليه الكائن الخلاق والكون المخلوق. إنه يعمل بجد على اكتشاف إيقاع "الطبيعة العظيمة" ثم يضعه كحركات غريزية أو مراكز حضرية.
    وكان كلي قد قال مرّة ان الفنّ البصري لا يبدأ بمزاج أو فكرة شعرية، بل ببناء شكل أو أشكال متعدّدة أو بتناغم عدد قليل من الألوان أو الظلال، أو بحساب للعلاقات المكانية. وكانت لوحاته المربّعة قد بدأت بمربّعات من الألوان المتناثرة في أشعّة الشمس. ثم أصبح بعضها مصحوبة بمثلثّات توحي بالأسقف وبأنصاف دوائر تلمّح إلى قباب المنازل أو المساجد التي رآها أثناء زيارته للمغرب.
    وقد أصبحت لوحاته هذه أكثر تعقيداً، حيث تكرّرت كأشكال هندسية صغيرة على القماش بما يشبه الهيروغليفية، مع تلاعب بدرجات الألوان. وبينما كان يبحث عمّا أسماه "الإيقاع البصري"، أصبحت رسوماته الخطّية أكثر تجريبية، أحياناً على خلفية بيضاء، وأحياناً أخرى على قماش ملوّن. وأصبحت الخطوط المعقّدة والمتكرّرة، مثل النوتات الموسيقية، تقترن بعناوين مثل "عمارة الغابات" و"منظر لمحمية جبلية" و"معبد منحوت في الصخر" أو "أسماك في سيل".
    في أوائل عام 1921، انضمّ كلي إلى مدرسة باوهاوس، وهي المدرسة الحكومية الجديدة للفنون والتصميم في فايمر بألمانيا والتي سرعان ما ضمّت كاندنسكي إلى هيئة تدريسها. وغطّت دورات كلي جميع الفنون والحرف اليدوية، من الرسم والتلوين إلى تجليد الكتب والزجاج الملوّن وتصميم المنسوجات. وكانت تلك فترة خصوبة غير عادية في حياته حيث تمكّن من اختبار نظرياته من خلال فنّه وتدريسه.
    ومع تنامي شهرة بول كلي على المستوى العالمي، بدأ صعود النازيّة بانتخاب هتلر مستشارا لألمانيا في مارس 1933، فعُطّلت مدرسة باوهاوس وطُرد كلي من عمله في أبريل 1933. ثم عُرض 17 من أعماله في معرض "الفنّ المنحطّ" النازيّ في ميونيخ. وفي ديسمبر من ذلك العام، فرّ هو وعائلته من ألمانيا إلى مسقط رأسه في بيرن بسويسرا. وكانت السنوات التي تلت ذلك صعبة. ففي عام 1935، أصيب الرسّام بمرض جلدي مميت يُسمّى تصلّب الجلد.
    وفي عام 1940، وهو عام وفاة كلي، رسم شخصا مركّبا من عيدان ثقاب على خلفية حمراء وداخل إطار أسود. ثم كتب خطاب وداعه للعالم وهو عبارة عن بضع كلمات نُقشت على شاهد قبره يقول فيها: لم أعد مقيّدا الآن، لأنني أعيش أيضا مع الموتى، كما هو حال الجنين، أقرب إلى قلب الخلق من المعتاد".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يرى تيم برينكوف أن "الهوبيت" مثال واضح على ما يسمّيه جوزيف كامبل "الأسطورة الواحدة" أو "رحلة البطل". وهذا المفهوم، الذي تستند إليه دراسته التي استمرّت طيلة حياته للأساطير والحكايات من مختلف أنحاء العالم، هو مخطّط سردي مشترك بين العديد من القصص المعروفة. أي أن كلّ الأساطير تقريبا يمكن اختصارها في رحلة البطل.
    ويمكن تقسيم الرحلة التي صاغها كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" الصادر عام 1949، إلى مراحل: يتلقّى البطل دعوة للمغامرة، يلتقي مرشدا ملهِما، يترك وطنه ويواجه العقبات والأعداء والحلفاء، يفشل في تحقيق الهدف، يحاول مرّة أخرى وينجح، وأخيرا يعود إلى أرض الوطن بالمكافأة.
    في رواية الهوبيت لـ توكين (1937)، تنقلب حياة بيلبو باغينز الهادئة الخالية من الأحداث رأسا على عقب بسبب وصول الساحر غندالف المفاجئ، الذي يسأله ما إذا كان يرغب في الذهاب في مغامرة. ولأنه غير راغب في استبدال محيطه المريح بالمجهول العظيم، يرفض بيلبو عرض غندالف.
    ولا يقرّر الهوبيت المتكبّر مرافقتهم ومساعدتهم في استعادة وطنهم المهجور إلا بعد أن يشكّك الأقزام في فائدته. ورغم عدم تأكّده في البداية من قدراته، يثبت بيلبو أنه أهمّ أفراد المجموعة، حيث ينقذهم من الخطر مرارا. وبعد المساعدة في هزيمة التنّين سموغ، يعود بيلبو إلى شاير وهو أكثر حكمةً وسعادةً وثقة.
    لم يغيّر كامبل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القصص القديمة فحسب، بل غيّر أيضا كيفية سرد القصص الجديدة. لكن انتشار اسمه في كلّ مكان كان سبباً في حجب الانتقادات المهمّة التي وُجّهت إلى رحلة البطل. فقد نُشر كتاب "البطل ذو الألف وجه" قبل أكثر من 75 عاماً، في وقت كانت فيه المواقف والظروف الثقافية مختلفة.
    فهل الأسطورة الأحادية حقّاً متجانسة وعالمية كما ادّعى كامبل؟ تشير قائمة من رواة القصص القدامى والمعاصرين الذين انحرفوا عن رحلة البطل إلى أن الأمر ليس كذلك.
    لا شكّ أن جزءاً من جاذبية الأسطورة الواحدة ينبع من التأثيرات المتنوّعة التي تأثّر بها كامبل. فأثناء دراسته في باريس وميونيخ، رأى بعض لوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، الفنّانين اللذين نظرا إلى ما هو أبعد من موضوعاتهما لفهم كيفية إدراك الناس للعالم. كما أهتمّ بالمحلّلين النفسيين سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذين كتبا عن العمليات العقلية التي تقع غالبا خارج نطاق فهمنا وسيطرتنا كأفراد.
    وبعد أن تعرّف كامبل على الفلسفة والأساطير الهندوسية، لاحظ بسرعة أوجه التشابه السردية والموضوعية بين التقاليد الأوروبية والآسيوية. وكان الأمر اللافت للنظر بنفس القدر هو الصلة الدائمة التي اكتسبتها هذه الحكايات القديمة بالنسبة لرواة القصص المعاصرين مثل جيمس جويس، الذي تُعتبر روايته المشهورة "يوليسيس" إعادة تصوّر حديثة لرواية هوميروس التي نالت استحسانا مماثلاً.
    هذه التأثيرات المتنوّعة وذات الصلة أقنعت الباحث الشابّ كامبل وبطريقة ما أن "جميع الأساطير والملاحم مرتبطة في النفس البشرية، وأنها مظاهر ثقافية للحاجة إلى تفسير الحقائق الاجتماعية والكونية والروحية".
    شعبية الأسطورة الأحادية في الغرب يمكن تفسيرها أيضاً من خلال تأكيدها على الفردية، أو فكرة أن الناس قادرون على تحويل أنفسهم وإعادة تشكيل العالم على صورتهم نتيجة للتطوّر الشخصي.
    وكان كامبل - والكلام لبرينكوف - يعتقد أن عناصر الأسطورة الأحادية تتحدّث مباشرة إلى اللاوعي الجماعي، أي إلى الصور والقيم التطوّرية المدفونة في أعماق النفس البشرية، وبالتالي فهي مشتركة بين البشر كلّهم، بغضّ النظر عن الفترة التاريخية التي يولدون فيها أو الثقافة التي ينتمون إليها. ولهذا السبب، أشار كامبل إلى الأحلام باعتبارها "أساطير شخصية" والأساطير باعتبارها "أحلاماً شخصية". وكان يعتقد أن الأسطورة الأحادية تجسيد تجريدي للنموّ، فالبطل الذي يقتل التنّين هو استعارة لمواجهة انعدام الأمن والعيوب التي نعاني منها والتغلّب عليها.
    وفي حين يمكن تلخيص سرديات مثل قصّة موسى في سفر الخروج والمعركة بين موردوك وتيامات في أساطير الرافدين على أنها رحلات أبطال، فإن العديد من الحكايات القديمة الأخرى، مثل أوديب والحكايات الشعبية، بل ومعظم أساطير الخلق لا يمكن اعتبارها كذلك.
    لم تكن ثقافات العالم القديم تمتلك آلهة ووحوشاً فريدة فحسب، بل كانت تمتلك أيضاً تقاليد سردية متميّزة. فأشكال السرد الهندية مثلا تختلف كليّا عن الأشكال الغربية. ولو شاهدتَ فيلماً من إنتاج بوليوود، فستلاحظ أنه في لحظة ما قد يتحوّل الفيلم إلى قصّة رومانسية، ثم يتحوّل إلى فيلم إثارة، ثم إلى فيلم موسيقي، ثم يتحوّل إلى فيلم فنون قتالية، وهو ما قد يربك الجمهور الغربي، ولكنه طبيعي تماماً بالنسبة للجمهور الهندي.
    وتزعم بعض الباحثات النسويات أن العديد من الشخصيات البطولية في الأساطير والأدب ليست مثيرة للإعجاب كما كانت في السابق، وأن الاهتمام الذي يُبديه باحثون مثل كامبل لهذه الشخصيات يعادل تمجيد العنف والعدوان والهياكل الاجتماعية الأبوية. وهذا انتقاد قاسٍ، رغم أن له ما يبرّره. فكتاب "البطل ذو الألف وجه" يركّز على الأبطال الذكور الذين يسعى العديد منهم إلى إنقاذ أميرة.
    وبصرف النظر عمّا تعتقده بشأن كامبل وعمله، لا يمكن إنكار أن رواة القصص المعاصرين يبتعدون تدريجيّا عن الأسطورة الأحادية. فبدلاً من قبول رحلة البطل بشكل أعمى، يفضّل العديد من صنّاع الأفلام الآن تفكيكها وإنشاء قصص عن شخصيات تبدو وكأنها أبطال، لكنها تتحوّل إلى أشرار أو تنانين وما الى ذلك.

  • Credits
    paulklee.net
    bigthink.com

    الخميس، مايو 19، 2016

    الأخضر في الفنّ والحياة


    الألوان تشبه الممالك والامبراطوريات القديمة: لها عمر محدّد، وأوقات صعود وهبوط، تتألّق حظوظها لبعض الوقت ثم لا تلبث أن تأفل وتنحسر.
    وإذا كان هناك اليوم لون يسمو فوق الحدود والعولمة فهو اللون الأخضر. الأخضر يبدو انه لون الحياة والحظّ والأمل. لكنه أيضا لون انعدام النظام، والجشع، والسمّ والشيطان.
    انه لون غير مستقرّ ومن الصعب تثبيته. لذا ليس من المدهش انه أصبح مرتبطا بكلّ الأشياء المتغيّرة والعابرة والمؤقّتة كالطفولة والحبّ والمال.
    والأخضر، وكما هو الحال مع جميع الألوان الأخرى، له تدرّجاته وظلاله الكثيرة والمتعدّدة. أتذكّر مؤخّرا، وكنّا في رحلة بالسيارة، أننا رأينا ظلالا لا تُعدّ ولا تُحصى من هذا اللون في بعض جبال ومرتفعات المنطقة الجنوبية بعد الأمطار الأخيرة. ولفت انتباهنا أن مستوى ونوعية الاخضرار يختلف من بقعة لأخرى، مع انه قد لا يفصل بينهما سوى كيلومتر أو اثنين.
    كما كان لافتا أن الأشجار والنباتات في بعض تلك النواحي اكتسبت لونا اخضر غامقا قد لا يثير سوى الانقباض، بينما لا ترى ذلك الأخضر الليمونيّ الفاتح واليانع والمريح للعين والنفس إلا في الأراضي المنبسطة والمفتوحة.
    ميشيل باستورو، خبير الألوان ومؤلّف كتاب عن اللون الأخضر، يقول إن هذا اللون كان ملك الألوان طوال العشر سنوات الأولى من هذه الألفية. والأخضر برأيه ليس مجرّد لون، بل إيديولوجيا. ويضيف إن هذا اللون لم يكن يظهر إلا نادرا في قائمة الألوان المفضّلة لدى صنّاع الموادّ الاستهلاكية.
    حتى فنّاني الحداثة الأوائل كانوا يتجنّبون استخدام الأخضر. موندريان، مثلا، كان يسمّيه اللون غير المفيد. وكاندينسكي اعتبره لونا مُتعبا وقارنه ببقرة سمينة تتمتّع بصحّة جيّدة وتكتفي بتأمّل العالم من حولها بعينين غبيّتين.
    لكن، وكما يعلم أيّ دارس لتاريخ الألوان، فإن الموضة عابرة ومؤقّتة. والقيم الثقافية الهامدة زمنا طويلا يمكن أن تنشط فجأة بعد عقود، وأحيانا بعد قرون من النسيان والكمون.
    قبل تجارب نيوتن عن الطيف الضوئيّ وفي الفكر الأرسطي، احتلّ الأخضر مكانة مركزية بعيدا عن الأطراف. وهي نظرة طبّقها البابا اينوسنت الثالث في القرن الثالث عشر عندما فرض اللون الأخضر على الكهنة في احتفالاتهم بالمناسبات الدينية، لأنه لون وسيط بين الأبيض والأحمر والأسود.
    لكن الأخضر ليس خيرا دائما ولا دليلا على الحبّ، بل إن جزءا منه "شيطانيّ". فهناك مثلا "الصيّاد الأخضر" و"الفارس الأخضر"، وكلاهما مخلوقان شرّيران ينفثان الهلاك والخراب على كلّ من يقابلهما.
    باستورو يؤكّد أيضا أن الأخضر لون غير مستقرّ، سواءً في نظرية الألوان أو في الصناعات التي نراها في الحياة الواقعية. كما يشير إلى انه كان اللون المفضّل عند نابليون، وفقط في العصر الرومانسيّ أصبح لون الطبيعة.
    كما يشرح المؤلّف ارتباط هذا اللون بالإمبراطور الرومانيّ نيرون، وكيف أصبح لون الإسلام، ولماذا كان الفيلسوف الألمانيّ غوته يعتبره لون الطبقة المتوسّطة، وكيف أصبح الأخضر هذه الأيّام رمزا للقضايا البيئية ومهمّة إنقاذ الأرض.
    كتاب "الأخضر" لميشيل باستورو نصّ جميل وخفيف ومثير لاهتمام أيّ إنسان مولع بالتاريخ والثقافة والفنّ والموضة والإعلام.

    Credits
    printmag.com

    الثلاثاء، مارس 03، 2015

    كاندينسكي: مقاطع من حياة


    كان فاسيلي كاندينسكي، المولود في روسيا والمتوفّى في باريس، رسّاما ومنظّرا مشهورا. وبعض النقّاد يعتبرونه مؤسّس المدرسة التجريدية في الرسم. وهناك من يشبّه مكانته في الرسم بمكانة آينشتاين في الفيزياء وسترافنسكي في الموسيقى وجويس وبيكيت في الأدب والمسرح.
    وفهم فنّ كاندينسكي مهمّة قد لا تخلو من صعوبة أحيانا. وقد عاصر هذا الرسّام أحداثا جساما ومآسي شخصية عديدة. واضطرّ خلال حياته للتنقّل بين عدّة أماكن بسبب ظروف الحروب والثورات، على الرغم من أن لوحاته لا تكشف لنا عن شيء من ذلك.
    في بدايات عصر الحداثة، أي في النصف الأوّل من القرن العشرين، كان كاندينسكي منتميا لمجموعة صغيرة من الرسّامين الكبار والمؤثّرين وقتها، مثل موندريان وماكا وماليفيتش الذين كانوا مهتمّين بدراسة المؤثّرات اللونية والبصرية.
    ولد كاندينسكي في روسيا عام 1866 وقضى طفولته المبكّرة في مدينة اوديسيا. وقد تخرّج من جامعة موسكو التي درس فيها القانون والاقتصاد. وعند بلوغه الثلاثين من عمره أصبح رسّاما.
    في عام 1896، استقرّ كاندينسكي في ميونيخ ولم يعد إلى موسكو إلا عام 1914. لكن بسبب نشوب الثورة البولشفية غادر روسيا عائدا إلى ألمانيا. وعندما أتى هتلر إلى السلطة في ألمانيا انتقل إلى فرنسا حيث عاش فيها بقيّة حياته وأصبح مواطنا فرنسيا وتوفّي هناك عام 1944.
    بعد وفاة كاندينسكي بسنوات، اهتمّ الإعلام الأوربّي بخبرين، فأرملة الرسّام من زواج سرّي، واسمها غابرييلا مونتر ، وهي أيضا فنّانة وتلميذة سابقة له، منحت متحف ميونيخ هديّة ثمينة هي عبارة عن بضع مئات من أعمال كاندينسكي ورسوماته، بالإضافة إلى عشرات من مذكّراته واسكتشاته.
    وفي نفس الوقت باعت الأرملة والزوجة الأصلية للرسّام الراحل، واسمها نينا كاندينسكايا، اثنتين من لوحات زوجها بحوالي نصف مليون دولار لكي تشتري بها قلادة من الألماس من شركة كارتييه. وفي اليوم التالي ظهرت في دار للأوبرا بصحبة عشيق شابّ وهي ترتدي القلادة.
    أوّل زواج لكاندينسكي كان من ابنة عمّه آنا التي كانت تكبره ببضعة أعوام. كانت آنا تهتمّ بكاندينسكي كثيرا. وقد ذهبت معه إلى ألمانيا على الرغم من علمها بأن زوجها كان على علاقة مع غابرييلا مونتر وأنهما يعيشان معا منذ عشر سنوات في منزل اشترته غابرييلا. ومع ذلك كانت آنا تتظاهر بعدم معرفتها بتلك العلاقة.
    لكن لم يلبث كاندينسكي أن عاد إلى روسيا وطلّق آنا ثم تزوّج سرّا من فتاة في السابعة عشرة هي نينا كاندينسكايا. ومع ذلك ظلّت غابرييلا تكاتبه لأنها لم تكن على علم بما حدث.
    ثم بدأت الثورة البلشفية ولم ترد معلومات عن مصير كاندينسكي. وقد استلمت غابرييلا خطابا من محاميه يطلب فيه منها أن تعيد جميع صوره وملابسه ومقتنياته الشخصية. ولم تكن غابرييلا تعرف انه عاد مجدّدا إلى ألمانيا وأنه يعيش فيها مع زوجة جديدة.
    وقد كتبت له خطابا من أكثر من عشرين صفحة تعبّر له فيه عن استغرابها أن يصدر ذلك من شخص كانت تعتبره معلّمها وحبيبها وصديقها.


    بعد انتقاله من ألمانيا إلى فرنسا، استقرّ كاندينسكي مع زوجته الثانية نينا في إحدى ضواحي باريس. وكان قد تعرّف عليها من خلال التليفون، واعترف لها في ما بعد انه وقع في حبّ صوتها أوّلا. وفي نفس ذلك اليوم رسم لوحة من وحي تلك المحادثة الهاتفية أسماها إلى الصوت المجهول .
    كان عمر كاندينسكي وقتها خمسين عاما بينما لم تكن نينا قد تجاوزت السابعة عشرة. وفي العام التالي تزوّجا وارتدت في الحفل فستانا من تصميمه. وقال بعض الناس إنها تزوّجته لأنه كان نجما مشهورا. لكنها كانت دائما تنفي ذلك قائلة انه كان زواجا عن حبّ من النظرة الأولى.
    كانت نينا زوجة مخلصة لكاندينسكي طوال الأعوام الثمانية والعشرين التالية. وفي عام 1973 نشرت مذكّراتها بعنوان "كاندينسكي وأنا".
    بعد وفاة كاندينسكي أصبح النقّاد مهتمّين بالفنّ الطليعي الروسي. أما نينا فقد كان كلّ همّها منصبّا على شراء واقتناء المجوهرات مقابل بيعها للوحات زوجها. وقد أصبحت بسرعة أرملة غنيّة جدّا مع منزل في باريس وفيللا في سويسرا وسيّارة وسائق خاص. وكانت بعض شركات المجوهرات تهدي لها قطعا من الحُليّ مقابل لوحات زوجها. كما أصبحت تتردّد على المناسبات الاجتماعية وهي تزيّن نفسها بالمجوهرات الغالية الثمن وتصطحب معها شبّانا صغارا.
    كانت نينا كاندينسكايا قد اشترت في السبعينات "شاليهاً" في منطقة جبال الألب السويسرية وانتقلت لتعيش هناك. وفي عام 1983، عُثر عليها مقتولة في حمّام منزلها. وقد قام اللصوص بسرقة كلّ مجوهراتها المقدّرة قيمتها بأكثر من سبعة ملايين دولار، بما في ذلك قلادة الألماس المشهورة من كارتييه.
    الغريب أن القتلة لم يمسّوا صور زوجها. ولم يتمّ العثور على الجناة أبدا. وفي جنازتها لم يتجاوز عدد المشاركين بضعة أفراد. وإلى اليوم لا يوجد شاهد ولا اسم يميّزان قبرها.
    وبعد خمس سنوات من مقتلها، توفّيت غابرييلا مونتر ومشى في جنازتها الآلاف، وكثير منهم كانوا من المعجبين بكاندينسكي وفنّه. وطوال عشر سنوات قبل ذلك، كانت غابرييلا تخاطر بحياتها عندما احتفظت في بيتها ببعض صور كاندينسكي على الرغم من أن السلطات النازيّة كانت تصنّف تلك اللوحات بأنها "منحلّة". كانت المرأة تعيش في ذعر خوفا من انتقام السلطة، ولم تفكّر أبدا في إتلاف لوحات الرجل الذي كانت تحبّه، بل ولم تغادر البيت حتى أثناء اشتداد القصف الجوّي لطائرات الحلفاء.
    لوحات كاندينسكي ما تزال حتى اليوم تحظى بإقبال محبّي الرسم والمتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة. ففي عام 1990 بيعت في مزاد سوذبي لوحته بعنوان فيوغ "أي موسيقى مبنية على لحن معيّن يتكرّر بطريقة متواترة" مقابل 21 مليون دولار. وفي عام 2012 بيعت لوحته الأخرى بعنوان دراسة للوحة مرتجلة رقم 8 "فوق" في مزاد كريستيز بمبلغ 23 مليون دولار.

    Credits
    wassilykandinsky.net
    viola.bz

    الاثنين، ديسمبر 30، 2013

    علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

    منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
    ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
    أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
    وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
    علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
    فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
    في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
    وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
    فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
    لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
    في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
    هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
    تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
    ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
    كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

    الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
    وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
    وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
    وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
    المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
    كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
    كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
    صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
    ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
    ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
    وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
    وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
    بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
    لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

    Credits
    archive.org
    artble.com

    الأربعاء، يوليو 25، 2012

    كوكوشكا: صورة الفنّان

    صورة الرسّام في أذهان الناس لا تخلو من رومانسية. فهو عبقريّ ومبدع وعاطفي وغريب الأطوار وغير مستقرّ نفسيّا ولا أحد يقدّره إلا بعد أن يموت.
    النموذج العصري، والسائد هذه الأيّام، للفنّان هو ذلك التاجر الذكيّ الذي يدعم موهبته الفنّية بالعلاقات الشخصيّة وبالدعاية والبهرجة. ولا يحتاج الإنسان لأن يسمّي أشخاصا من هذه الفئة لأنهم كثيرون. لكنّ المثالين الأقرب إلى الذهن هما آندي وارهول وتوماس كينكيد.
    النموذج الأوّل عن الفنّان يمكن أن نسمّيه متلازمة فان غوخ. وأفضل من يمثّل هذا النموذج الرسّام اوسكار كوكوشكا المولود في النمسا عام 1886م. كان كوكوشكا ذا شخصية مزاجية وعنيفة. وقد انجذب إلى مجموعة من فنّاني بدايات القرن العشرين الذين أصبحوا يُعرفون باسم التعبيريين النمساويين. وكان من بين هؤلاء ماكس بيكمان وأوتو ديكس، بالإضافة إلى النرويجي ادفارد مونك والروسي فاسيلي كاندينسكي. طبعا لم يكن كلّ هؤلاء من النوع الذهاني والمتقلّب. لكن في كلّ واحد منهم، كان هناك قدر من عدم الاستقرار العاطفيّ الذي طبع حياتهم وامتدّ ليشمل أعمالهم.
    كان اوسكار كوكوشكا متأثّرا كثيرا بزميله ومواطنه غوستاف كليمت. وبورتريهاته ومناظره الطبيعية تُظهر حرّية في استخدام الألوان وحيوية في الأسلوب لم يكن يجرؤ عليهما سوى القليلين في زمانه.
    شغل كوكوشكا وظيفة ثابتة لبعض الوقت عندما عمل مدرّسا في أكاديمية الفنون المشهورة في دريسدن بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت تلك إحدى الفترات المستقرّة القليلة في حياته بعد أن شُفي من علاقة حبّ غريبة ربطته مع آلما شيندلر أرملة المؤلّف الموسيقيّ الألمانيّ غوستاف ماهلر.
    ولوحته بعنوان عروس الريح هي شهادة رومانسية من الدوّامات والعواصف على مدى انغماس الرسّام في حبّ تلك المرأة. غير أن شيندلر المشهورة بجمالها الفتّاك هجرته بعد أن عاشت معه ثلاث سنوات وفضّلت عليه رجلا آخر. وكان ردّ فعله أن كلّف صانع دمى في ميونيخ بتفصيل دمية لها بالحجم الطبيعي. كانت الدمية تشبه المرأة تماما، وكانت تتضمّن أدقّ تفاصيلها الحميمة. وأصبح كوكوشكا يحمل الدمية معه أينما ذهب كدليل على المعاناة التي كان يتحمّلها نتيجة حبّه لها وإعراضها عنه.
    تقول آلما ماهلر في يوميّاتها واصفة علاقتها الغريبة بـ كوكوشكا: المشاعر التي كانت تنتاب اوسكار كانت من النوع الذي لا يمكن التنبّؤ به. كان يحبّ بشغف وبلا شروط، مثل وثنيّ يصلّي لنجمة بعيدة. كانت علاقتنا معركة حبّ. ولم أذق أبدا قبل ذلك كلّ هذا القدر من الجنّة ومن الجحيم". وقد عانت المرأة كثيرا من غيرته المفرطة، ولم يكن يتحمّل أصدقاءها ومعارفها. بل كان يغار حتى من زوجها الميّت. "موسيقاه تهدّ كياني وتمزّق جسدي وروحي"!
    عندما علمت آلما بأنها أصبحت حاملا من كوكوشكا، قرّرت على الفور إسقاط الجنين. وفي المستشفى، قام بأخذ قطعة من ملابسها المبلّلة بالدم وعاد بها معه إلى البيت. كان يقول: هذا هو طفلي الوحيد، وسيظلّ كذلك". وكان من عادته أن يحمل معه تلك القطعة من لباسها أينما ذهب. ولم يتغلّب أبدا على ألمه من فقدان طفلهما المشترك، بل وجعله موضوعا للعديد من لوحاته.
    وفي ما بعد، فعل كلّ ما في وسعه لإقناعها بالزواج منه. لكنها كانت تبتعد عنه أكثر فأكثر. وفي عيد ميلادها السبعين، بعث إليها برسالة يصفها فيها بالمخلوق المتوحّش. ثمّ بلغها الخبر بأن إصابة خطيرة لحقت به أثناء قتاله على الجبهة الروسية. فذهبت إلى بيته وأخذت الرسائل التي كانت قد كتبتها إليه وكذلك بعض رسوماته لها. وطلب منها احد أصدقائهما المشتركين أن تزوره على فراش المرض. غير أنها كانت قد وضعته وراء ظهرها ونسيته تماما.
    لكن قُدّر لـ اوسكار كوكوشكا أن يُشفى من إصابته. وقد هاجر بعد ذلك إلى باريس ثم لندن فـ نيويورك، وأخيرا استقرّ في سويسرا بعد الحرب العالمية الثانية. أما الدمية التي كان قد صنعها لـ آلما فقد ظلّ يحتفظ بها سنوات طويلة إلى أن قام بإتلافها أثناء نوبة غضب ليلية.
    قضى اوسكار كوكوشكا آخر سنواته في سويسرا. كان يشعر بالكثير من الحزن والمرارة لأنه وجد نفسه غريبا ومنسيّا مثل هامش صغير في كتاب تاريخ الفنّ. وقد أسهمت فردانيّته في أن أصبح معزولا عن حركات الحداثة في القرن العشرين. والغريب أن سيرة حياته خلت من احد العناصر المألوفة في متلازمة فان غوخ. فقد عاش حياة طويلة نسبيّا. وتوفّي في مونترو في فبراير من عام 1980 عن 94 عاما.

    الأحد، يوليو 01، 2012

    محطّات

    أوراق الخريف

    الرسّامون الذين يتقنون تصوير الفصول هم في الغالب محبّون للطبيعة وملاحظون عن قرب لما يطرأ عليها من أحوال وتغيّرات.
    أحيانا تنظر إلى لوحة ما فيخطر بذهنك أن الرسّام أودع فيها إشارة أو أكثر تقول لك مسبقا عن أيّ وقت في اليوم وعن أيّ فصل تتحدّث، وذلك من خلال الألوان وعرض ضربات الفرشاة وكثافة الطلاء.
    وبالنسبة للرسّامين، لا ينافس الربيع في جماله ورونقه سوى الخريف. والخريف ليس مجرّد طور من أطوار الطبيعة، وإنما حدث تتغيّر فيه الحياة وحركة وإيقاع الأشياء بشكل جذريّ. وهناك مناطق كثيرة في العالم معروفة بجمال خريفها وبالمناظر الأخّاذة للسماء الخريفية وأوراق الشجر المتساقطة، التي تختصر بعض بهاء فصل الخريف.
    وعلى الرغم من أن ألوان الخريف لا تدوم طويلا، إلا أن هذا الفصل من السنة أصبح فكرة مفضّلة في الشعر والموسيقى والرواية والتصوير الفوتوغرافي.
    وهو عند البعض رمز للتحوّل والتغيير والولادة الجديدة. بينما يرى فيه آخرون رمزا لدورة الحياة والموت التي تمرّ بها جميع الكائنات والمخلوقات.
    وفي الأحلام، يقال أن منظر أوراق الخريف المتساقطة قد يعني أن ذكريات الإنسان ومهاراته القديمة لم يعد لها من جدوى لأنها لم تعد تنفعه أو تلزمه، وبالتالي فمن الأفضل نسيانها أو تجاهلها.
    من أشهر الفنّانين الذي رسموا الخريف كلود مونيه وويلارد ميتكالف وكاندينسكي وتشارلز وايت ودايان رومانيللو وفان غوخ ورينوار وفريدريك تشيرش وغيرهم.
    وبعض الأعمال التشكيلية التي تصوّر الخريف تكشف عن جمال عابر وحزين. وبعضها عبارة عن تجلّيات لمشاعر داخلية عميقة عن مرور الزمن وأفول الجمال والحنين إلى أزمنة وأمكنة من الماضي.
    أوراق الخريف الذاوية والمتساقطة يمكن أن ترمز إلى فناء الأشياء. كما أنها تثير بعض التأمّلات الروحية والدينية. والتغيّر الذي يطرأ على الأرض مع حلول الخريف هو أيضا تذكير بنقاء الأرض وعودتها إلى حالتها الأصلية.
    الخريف أيضا ينطوي على حكمة كامنة، فهو يعلّم الإنسان أن كلّ شيء في الحياة موقّت وزائل وأن هناك دائما حاجة للتجدّد والتغيير الذي لا تستقيم الحياة ولا تستمرّ بدونه.

    ❉ ❉ ❉

    الفنّ العاري

    ما رأيك في الفنّ العاري؟ بعبارة أخرى، هل تروق لك رؤية لوحة تشكيلية أو عمل نحتيّ لامرأة عارية، أم أن ذلك ممّا يزعجك ويدفعك لأن تشيح بوجهك بعيدا بداعي الحرج أو الحياء؟
    بالتأكيد ليس المقصود هنا الصور الإباحية والفاضحة أو الخادشة للحياء التي تمتلئ بها بعض مواقع الانترنت. لكن أيّا تكن إجابتك، قد يدهشك أن تعلم أن الفنّ العاري موجود في معظم المجتمعات. غير انه ما يزال يُنظر إليه باعتباره أمرا محظورا أو على الأقل موضوعا مثيرا للجدل، برغم قيمته الفنّية.
    غير أن معظم الثقافات اليوم أصبحت تُظهر موقفا متفهّما، وأحيانا مقدّرا لهذا الشكل الخاصّ من الفنّ. لكن ما يزال بوسع المرء أن يقول إن الفنّ العاري لم يحظ بعد بقبول شامل في معظم المجتمعات.
    الفنّ العاري موجود منذ زمن طويل. ويقال انه يعود إلى زمن الحضارتين الإغريقية والفرعونية. وقد كان هذا الفنّ مترسّخا كشكل من أشكال تقدير الجسد الإنسانيّ. لكن تعريف الفنّ العاري تَوسّع اليوم ولم يعد مقتصرا على دراسة الجسد وإنما امتدّ ذلك لكي يشمل أعضاء معيّنة في جسد الإنسان. وقد تعزّزت دراسة جسد الإنسان كثيرا بفضل عصري النهضة والباروك اللذين اهتمّا باكتشاف طبيعة الإنسان. وشيئا فشيئا ظهرت الأهمّية الكبيرة التي أعطيت للفنّ العاري.
    وقد ناقش أناس كثيرون هذا النوع من الفنّ بسبب طبيعته الخلافية والمثيرة للجدل.
    المؤسف أن العري أصبح يُربط هذه الأيّام بالإباحية، مع أن الفنّ العاري الحقيقيّ يمكن أن يكون أيّ شيء إلا أن يكون إباحيّا.
    وأكثر خبراء ونقّاد الفنّ العاري يعرّفونه على انه شكل من الفنّ الذي يثير العاطفة لا الشهوة. كما انه ينصرف أساسا إلى دراسة جسد الإنسان وإظهار جمالياته.
    وأيضا فالفنّ العاري الحقيقيّ يفضّل تصوير الإنسان في أكثر أشكاله الخام. والفنّان الذي يرسم أو يصوّر العري يتخلّص من الزينة لأنها تقلّل من جمال الجسد الإنسانيّ في عملية التصوير الفنّي. بل إن الزينة، بما فيها المكياج أو الوشم أو غيرهما من وسائل الزينة، يمكن أن تلطّخ أو تفسد جمال الإنسان الطبيعيّ، من وجهة نظر بعض الفنّانين والنقّاد.

    ❉ ❉ ❉

    استراحة موسيقية

    ❉ ❉ ❉

    هاينريش كْلي والحالة الإنسانية

    لا يُعرف عن حياة هاينريش كْلي الشيء الكثير. والمعلومات القليلة المتوفّرة عنه تشير إلى انه ولد في كارلسروهي بـ ألمانيا عام 1863 وتوفّي في ميونيخ عام 1945م. وقد كان مشهورا في زمانه برسومه الكاريكاتيرية التي تتناول الحالة الإنسانية وتثير السؤال القديم عن ماهيّة وطبيعة الفنّ.
    كان كلي يضمّن تلك الرسومات قصصا موحية وحالات درامية مرحة وساخرة. ولم يكن مستغربا أن يُعجَب برسوماته والت ديزني الذي استلهم بعض أعماله في أفلامه الأولى.
    العلاقة بين الإنسان وعالم الطبيعة هو الموضوع الذي تتمحور حوله رسومات هاينريش كْلي. وهو كان معروفا بخياله الخصب وملاحظاته العميقة عن طبيعة الإنسان والحيوان.
    وتمتلئ رسوماته بصور الحيوانات، كالتماسيح والفيلة والفئران والأرانب وغيرها، وهي ترتدي ملابس البشر وترقص وتعزف الموسيقى ولا تكلّ أو تملّ من النشاط والحركة.
    والبشر والحيوانات في هذه الصور يتبادلون الأدوار ويشتركون في أوضاع اجتماعية متشابهة. وكثيرا ما يظهر البشر في صوره وهم عراة، بينما ترتدي الحيوانات الملابس، في محاولة لإبراز نقاط الشبه والاختلاف. ورسومات كلي تذكّر إلى حدّ ما بصور رسّام الكاريكاتير الأمريكي المشهور توماس سوليفان الذي عاش في بدايات القرن الماضي.
    صحيح أن اسم هاينريش كْلي لم يعد متداولا كثيرا الآن. كما أن الخلفية الاجتماعية والتاريخية لصوره قد تكون أصبحت جزءا من الماضي. لكن ما يزال بالإمكان رؤية بعض رسوماته في الصحف وعلى أغلفة الطبعات الشعبية لبعض الكتب والروايات الرائجة هذه الأيام.

    Credits
    arthistory.net
    heinrich-kley.com

    الأربعاء، يونيو 06، 2012

    عن الكتُب والقراءة

    يحدث أحيانا وأنت تقرأ نصّا أدبيّا لكاتب معيّن أن تثير القراءة سلسلة من الارتباطات الذهنية والشعورية، اعتمادا على موضوعات الكاتب وصوره. والأمر أشبه ما يكون بتزامن الحواسّ، إن جاز التشبيه.
    مثلا، كنت عندما اقرأ دستويفسكي أتذكّر على الفور رسومات فروبيل الشيطانية وصور روبليف الأيقونية وتشكيلات كاندينسكي التجريدية وبحار وسفن ايفازوفسكي المضطربة والغارقة. وأحيانا أتذكّر بعض موسيقى الملحّنين الروس الأكثر حداثة مثل شوستاكوفيتش وموسوريسكي وبروكوفييف وسترافنسكي.
    ومع أنني لا استسيغ موسيقى هؤلاء الأربعة لجفافها وطابعها الرياضي الصارم وخلوّها تقريبا من الأنغام السهلة التي تنجذب لها النفس وتنطبع سريعا في الذهن، إلا أنني أتصوّر أن موسيقاهم تتناغم كثيرا مع أجواء روايات دستويفسكي التي تتسم عادة بالتوتّر والعنف واليأس والخوف.
    وعندما اقرأ شيئا لـ تولستوي أتذكّر لا إراديا مناظر كرامسكوي وريبين ونيستيروف وإيساك ليفيتان، وأحيانا أسمع من بين ثنايا بعض المقاطع أصداءً من موسيقى تشايكوفسكي وكورساكوف، وبدرجة اقلّ رحمانينوف. وأظنّ أن هذه الصور تنسجم كثيرا مع أجواء روايات تولستوي التي تثير مشاعر عن البراءة والتفاؤل والعاطفة والتوق والأمل.
    وبمناسبة الحديث عن الكتب والكتابة، سألني صديق منذ أيّام سؤالا افتراضيا. قال: لو دخلتَ مكتبة ووجدت إلى يمينك كتبا لـ تولستوي وهمنغواي ودستويفسكي ونجيب محفوظ، وإلى يسارك كتبا لـ امبيرتو إيكو وميلان كونديرا وهاروكي موراكامي فأيّ النوعين من الكتب ستبادر لاقتنائه؟ قلت: الأمر يعتمد أوّلا على ما الذي أريده. قد اشتري كتابا أو اثنين من هنا وكتابين من هناك. لكن ما الذي تريد أن تقوله؟ أجاب: هناك الآن اتجاه يصنّف الناس بحسب الكاتب الذي يقرءونه. فمثلا، إن كنت تفضّل قراءة همنغواي أو إبسن أو ديكنز فأنت شخص كلاسيكي، أي موضة قديمة كما يقولون، وأنت تميل إلى القديم ولا تبدي استعدادا لتقبّل الأفكار الحديثة. وإن كنت تفضّل كونديرا أو ايتالو كالفينو أو إيكو فأنت إنسان عصري "شِيك وكوول" ومتفتّح وأفكارك مرنة تتقبّل التغيير ولا ترفض الأفكار والقيم الجديدة. انتهى كلام ذلك الصديق.
    وعندما فكّرت في كلامه في ما بعد اتضح لي أن ذلك التصنيف غير دقيق ولا يعبّر بالضرورة عن الواقع. أين إذن نضع كتّابا مثل ثيرفانتيس الذي عاش قبل أكثر من أربعة قرون ومع ذلك يعتبر نقّاد كثيرون روايته "دون كيشوت" طليعة الأدب الحديث. وأين نضع غوستاف فلوبير وجين اوستن وغيرهما من الكتاب الذين تمتلئ كتاباتهم بالأفكار العالمية والرؤى السيكولوجية والفلسفية والسياسية التي تبدو أكثر جِدّةً وحداثة من كثير من الكتب التي يتداولها الناس هذه الأيّام.
    قد تقرأ كتابا ظهر منذ مائة عام فتكتشف أن مضمونه وقيمته الجمالية ما يزال لهما صلة وثيقة بأحوال وظروف هذا العصر الذي نعيشه. وقد تقرأ رواية صدرت حديثا فتحتار كيف تصنّفها وفي أيّ سياق زماني يمكن أين تضعها. وطبعا أنا هنا أتحدّث حديثا عامّا وبمنأى عن النظريات والمفاهيم الأكاديمية عن خصائص وسمات المدارس والتيّارات الأدبية والفنّية.
    وبعيدا عن هذه التصنيفات واللافتات، أشير إلى ظاهرة لا بدّ وأن الكثيرين خبِروها أثناء قراءاتهم في وقت ما. عندما أكون مستغرقا في قراءة كتاب، رواية غالبا، لكاتب مشهور، تصادفني أحيانا جملة أو فقرة أو صورة ما تبدو بلا معنى أو معزولة وخارجة تماما عن سياق السرد. فأتساءل: ترى كيف لكاتب عظيم أن يكتب مثل هذا الحشو الذي لا طائل منه ولا يخدم غرضا وظيفيا أو جماليا؟ التفسير الأكثر احتمالا لهذه الظاهرة هو أننا نميل عادة إلى النظر إلى الكاتب، خاصّة إن كان مشهورا، كنموذج للمثالية والكمال. وعليه فإننا نتوقّع منه أن تكون كتاباته على أعلى مستوى من الإبداع والدقّة والإحكام. وهذا أمر غير متيسّر من الناحية العملية. فالكاتب، مهما كان مبدعاً ولامعاً، هو في نهاية الأمر إنسان. ولأنه كذلك، فهو عرضة لحالات وأمزجة متباينة تنعكس في النهاية على مدى جودة ما يكتبه.
    وأختم هذا الحديث بعبارة قرأتها منقولة عن مسلسل درامي. وهي تأتي على لسان امرأة تتحدّث عن زوجها المتهم بجريمة قتل. تقول الزوجة للمحقّق: اعتقد انه لو قرأ كتابا مختلفا لكاتب مختلف في الوقت المناسب من حياته لكان أصبح إنسانا مختلفا". وممّا لا شكّ فيه أن مضمون أيّ كتاب يقرأه الإنسان يترك عليه أثرا ما، قليلا أو كثيرا، سلبا أو إيجابا. لكن لا أميل إلى المبالغة كثيرا في تصوير تأثير القراءة على تفكير وسلوك الإنسان. أعتقد أن الخبرات والتجارب العملية التي يكتسبها الإنسان نتيجة تعامله مع الآخرين هي التي تلعب الدور الأهمّ في صوغ أفكاره وتشكيل قيمه وقناعاته وتصورّاته الخاصّة عن الناس وعن الحياة.

    الجمعة، يونيو 25، 2010

    اللون الأسود: الإشارات والرموز


    اللون الأسود لون غريب ومحيّر. الرسّامون يتجنّبون استخدامه إلا نادرا. معاني ودلالات هذا اللون في الثقافة واللغة سلبيّة في معظمها: السحر الأسود، السوق السوداء، الموت الأسود، الثقوب السوداء، التاريخ الأسود.. إلى آخره. في الثقافة الشعبية يقال "هذا يوم اسود" في إشارة إلى كارثة أو مأساة. ويقال أيضا "فلان قلبه اسود" للتدليل على حقده وحبّه للشر. وهناك أيضا القائمة السوداء التي تتضمّن أسماء أشخاص أو منظّمات تستحق المقاطعة أو العقوبة.
    غير أن بعض النساء يفضّلن الأسود لأنه كلاسيكي ويُظهرهنّ بقوام أكثر نحافة. مع أن بعض علماء النفس يقولون إن المرأة التي تفضّل الأسود ذات شخصية انقيادية وتميل إلى الخضوع للرجل. الأسود أيضا لون يدلّ على السلطة والهيبة. ربّما لهذا السبب يرتديه القضاة في المحاكم. وهو أحيانا يعطي معنى الخضوع والاستسلام، لذا يستخدمه الرهبان ورجال الدين.
    في الموسيقى الكلاسيكية يرتدي العازفون لباسا موحّدا من الأسود.
    وكثيرا ما يرمز الأسود للتكتّم والسرّية. وهناك مصطلح الخروف الأسود الذي يشير إلى الشخص الرديء أو غير المحترم في عائلة أو جماعة.
    هناك أيضا مصطلح الكوميديا السوداء التي يعبّر عنها القول الشائع "شرّ المصيبة ما يضحك". وفي عالم الطبيعة هناك الأرملة السوداء أو أنثى العنكبوت التي تقتل ذكرها.
    الرسّامون أيضا منقسمون في نظرتهم للون الأسود. التجريديون، مثلا، استخدموه كثيرا في أشكالهم ورسوماتهم. ومانيه قال عنه مرّة : الأسود ليس لونا. ورينوار اكتشف بعد سنوات طويلة أن الأسود ملك الألوان. وجورجيا اوكيف، الرسّامة الأمريكية، كانت تعتقد أن اللون الأسود يخفي في أعماقه سرّا دفينا وغامضا. كما أن لوحات غويا السوداء أصبحت ترمز لليأس والتشاؤم والموت.
    غير أن أشهر لوحة اقترنت بهذا اللون هي المربّع الأسود للرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش والتي أصبحت في ما بعد إحدى أيقونات الفنّ الحديث.
    الموضوع المترجم التالي يستعرض الممرّات والدروب المظلمة التي سلكها اللون الأسود عبر تاريخه الطويل وكذلك الإشارات والرموز التي أصبح مرتبطا بها.

    نتحدّث كثيرا عن الألوان كما لو أنها أشياء مادّية ثابتة في حياتنا اليومية. نقول أحيانا هذا اللون بارد وذاك دافئ، مع أننا من خلال هذه التوصيفات نخلع على الألوان تلقائيا استعارات وتشبيهات غامضة. في كتابه عن نظرية الألوان، درس الفيلسوف والشاعر الألماني غوته التأثيرات السايكولوجية للألوان. وقال إن اللون ما هو إلا "ضوء مضطرب". غير انه ليس هناك من الألوان ما هو أكثر إثارة للاضطراب والفتنة من اللون الأسود. لكن هل يمكن أن نطلق على الأسود وصف لون؟ غوته نفسه لم يكن متأكّدا من هذا.
    إننا نرى الأسود كسطح يمتصّ جميع ألوان الطيف المرئي. وهو دائما يحتفظ بهالة خاصّة وغامضة. كما كان له تأثيره الكبير على الرسّامين.
    بِيت موندريان الذي كان معجبا بنظريات غوته استخدم الأسود بطريقة مؤثّرة جدّا في أشكاله التجريدية ذات الخطوط الأفقية والعمودية. بالنسبة له لم يكن الأسود لونا. آد راينهارت الذي درس لوحات موندريان نقل الموضوع خطوة ابعد عندما قال إن الأسود هو لون نفي. انه ينفي جميع الألوان الأخرى. الجانب الغامض من الأسود كان يروق كثيرا للرسّامين.
    بول كْلِي قال انه لا يمكن عقلنة الأسود وليس مطلوبا أن نفهمه. بالنسبة له، الأسود هو تعبير عن البدائية. تعليقات كْلي تشير إلى الأصول القديمة للون الأسود، أي إلى الزمن الذي لم يكن الإنسان بعد قد روّض النار أو استخدمها لإضاءة ساعات الظلام.
    في فيلم اوديسّا الفضاء لـ ستانلي كوبريك، يظهر بشكل غير متوقّع عمود اسود غامض في الأيّام الأولى لوجود البشر على كوكب الأرض. وعندما يهبط الليل، يبعث مرأى ذلك العمود الغامض الشكّ والهلع في نفوس القِرَدَة.


    ترى هل يكون الأسود منزرعا في أعمق أعماق دماغ الإنسان؟ هل هو جزء من تجربة التطوّر التي مرّ بها البشر عبر آلاف السنين؟ ليس ثمّة إجابة واضحة عن هذا السؤال بالرغم من التقدّم الكبير الذي ُانجز في مجال البحوث والدراسات العصبيّة. وكلّ ما نعرفه على وجه اليقين هو أن هذا اللون يمكن أن يثير في وعينا الجماعي إحساسا بالضعف والعجز. كما انه يرتبط بالأمور غير العقلانية أو تلك التي ترفض الخضوع لمنظومة المسلّمات الثقافية.
    لذا يمكن القول إن الأسود لون مخرّب، من حيث انه يقوّض الواقع الراهن. ادموند بورك يقول إن الأسود مرتبط بالأشياء الرهيبة والمتسامية معا. كما أن له علاقة دائمة تقريبا بالأشكال الصلبة والهندسية. وبالنسبة للبعض، هو يرتبط باللانهائية وإلى بدايات خلق الكون والحياة على الأرض.
    الرسّام الروسي كاسيمير ماليفيتش رسم لوحته المشهورة المربّع الأسود عام 1915 والتي أصبحت احد أهمّ الأعمال الفنية في روسيا. في هذه اللوحة أزاح الرسّام الفراغ الصوري والمنظور تاركا فقط مربّعا اسود نقيّا على خلفية بيضاء. هذه اللوحة أصبحت في ما بعد رمزا لفنّ الحداثة كما كانت مصدر إلهام للعديد من الفنّانين.
    في معظم اللوحات التجريدية نلمس إحساسا بالحزن والكآبة. هذا الإحساس الغامض له ارتباط باللون الأسود يعود إلى زمن أرسطو في اليونان القديمة. وفي اللغة اليونانية، فإن مفردة الأسود تعني حرفيا الحزن. وعلى خطى أرسطو وبعد وقرون طويلة، ألّف روبرت بيرتون كتابه المشهور تشريح الحزن عام 1621م. هذا الكتاب عبارة عن دراسة معمّقة لظاهرة الحزن، تاريخها وأسبابها وعلاجها.
    في القرن التاسع عشر، ظهر اللون الأسود في العديد من السياقات. بالنسبة إلى غويا، كان الأسود يرمز لحالة النفي الاجتماعي، وهو ما تؤكّده صوره الكثيرة عن الموت والكوارث.
    الرسّام الفرنسي هنري ماتيس كان يعتمد على الأسود لتبسيط بناء اللوحة. في لوحته نافذة فرنسية يحوّل ماتيس نظر المتفرّج بعيدا عن ألوان ديكور رمادية وبنّية وخضراء كي يركّز اهتمامه على مشهد لشرفة مظلمة.
    كان ماتيس سيّد الألوان المستقلّة الذي قاد تحوّلا تاريخيا مهمّا في الفنّ من خلال دراسته التي كتبها بعنوان "الأسود كلون". وقد بذل الفنّان جهده من اجل تحرير الأسود من هوّيته الشائعة والمتعارف عليها كلون يمتصّ الألوان الأخرى وجعل منه لونا مشعّا وذا خاصّية لامعة. أي انه تصرّف بعكس الانطباعيين الذين كانوا يهتمّون بالضوء، ولذا تجاهلوا اللون الأسود كلّيا تقريبا.
    كاندينسكي الذي استخدم الأسود كثيرا في لوحاته كان يعتبره لونا يقود وجودا خاصّا به في مكان بعيد عن حياة الألوان البسيطة. كان كاندينسكي يصف الأسود إما كبُنية دائرية وإمّا تبعا لاستقطابه الألوان الأخرى مثل الأصفر والأزرق أو الأحمر والأخضر أو البنفسجي والبرتقالي.
    في الفترة الأخيرة كان هناك اهتمام متزايد وانتقائي بالأسود. وفي بعض الحالات، أصبح هذا اللون يشير إلى التغييرات السياسية والاجتماعية. في لوحتها الحديقة السوداء ترسم جيني هولزر نباتات سوداء أو حمراء قاتمة، يمكن تفسيرها على أنها رمز لموت النظرة الطوباوية إلى العالم. كما يصحّ اعتبارها إعادة صياغة عصرية للوحة نيكولا بُوسان المشهورة رُعاة أركاديا.
    ريتشارد سيرا حاول هو أيضا أن يجعل الأسود لونا دنيويا، وذلك من خلال تحويل طبيعته من لون ميثولوجي إلى لون متجسّد ومادّي بحيث تبدو سماته البصرية اقلّ أهمية من خصائصه اللمسية.
    في كتابه بعنوان حلقات زحل، يشير دبليو جي سيبالد إلى عُرف كان سائدا في هولندا في القرن السابع عشر. حيث كان من عادة الناس الذين يتوفّى لهم قريب أن يغطّوا بأشرطة الحداد السوداء جميع المرايا في البيت وكذلك جميع اللوحات التي تصوّر طبيعة أو أشخاصا أو فاكهة في الحقول. كانوا يعتقدون أن من شأن ذلك أن يعين الروح وهي تفارق الجسد على أن لا تتشتّت أو تنشغل في رحلتها الأخيرة بانعكاس نفسها أو بإلقاء نظرة أخيرة على الأرض التي يُفترض أنها ستغادرها إلى الأبد.

    الأربعاء، مايو 19، 2010

    الفنّانة التي كانت ترسم نفسها

    بعض الأحداث الاستثنائية تقع للإنسان كما لو أنها نتيجة لتخطيط محكم ودقيق. البعض ينسبها للقدر أو المصير. والبعض الآخر يعزوها لنزوات الطبيعة.
    وقد حدث ذات مرّة أن اختار القدر طفلة صغيرة من بين ملايين البشر الذين تزدحم بهم مكسيكوسيتي عاصمة المكسيك. لم تكن الطفلة تختلف عن أيّ طفلة أخرى نجت من شلل الأطفال عندما كان ذلك المرض شائعا.
    كانت أوّل مهنة لها في الحياة هي الطبّ. وكانت ستظلّ طالبة في كليّة الطبّ لو أن يد القدر الغامضة لم تتدخّل لتغيّر اتجاهها. كان واضحا أن القدر لم يكن راضيا عن اختياراتها. فقد قادها إلى دراسة الفنون، حيث قابلت الرسّام دييغو ريفيرا بينما كان يرسم لوحة جدارية في قاعة مدرسة سيمون بوليفار.
    ورغم أن الطلاب كانوا ممنوعين من الدخول للقاعة و"الأستاذ" يعمل، فقد كانت فريدا تختبئ خلف القاعة وتراقبه لساعات. شيئا فشيئا، أصبحت مفتونة بالرجل الضخم الذي كان يلقب بـ بانزون، أي السمين. وفي احد الأيّام صَدمت صديقة لها عندما أخبرتها بأنها تريد أن يصبح لها طفل من ريفيرا.
    ومع ذلك، فإن هذه التهويمات الصبيانية لم تبعدها عن دراستها. ففي عيد ميلادها الثامن عشر كانت قد أكملت ثلاث سنوات من تخصّصها في الطبّ وكان الفنّ ما يزال مجرّد هواية لإزجاء وقت الفراغ.
    وضرب القدر إحدى ضرباته التي ستحدّد مصيرها. في يوم مثل بقيّة الأيّام، كانت فريدا تركب السيّارة مع صديق. وفي صخب وزحام شوارع المدينة، حيث تقع الحوادث بطريقة آو بأخرى طبقا لقوانين الصدفة، تحرّك القدر مرّة ثانية ليعيد ترتيب الأمور من جديد.
    وقع تصادم بين السيّارة وإحدى الحافلات أدّى إلى انغراس قضيب معدني في بطنها وكسر الفقرتين القطنيّتين الثالثة والرابعة من عمودها الفقري. كما أصيبت بكسور أخرى في عظام الحوض والكتف والقدمين. ولم يوفّر الحادث حتى القدم اليمنى الضعيفة التي سبق وأن عانت من المرض.
    بعد أن أعيد ربط أشلاء الجسد الممزّق، وقفت المرأة لوحدها في الظلام، نظرت في المرآة لثوان، بينما كانت تخيّم على عقلها الهواجس الثقيلة. غير أنها قرّرت أن تتسلّح بإرادة الحياة وأن تتحدّى جميع مظاهر العذاب التي لا يمكن تخيّلها. في ذلك اليوم، ولدت الفنانة فريدا كالو بكلّ ذلك المزيج المتفجّر من الألم والحصار والنظرة المتشائمة إلى العالم. ولدت قويّة، شجاعة ومتحرّرة عن كلّ ما يقيّد النساء ويكسر إرادتهن.



    بعد الحادث بوقت قصير، بدأت فريدا ترسم بسبب شعورها بالملل لبقائها في السرير فترات طويلة. وكانت تتّصف بروح الدعابة حتى في أحلك الظروف. قالت ذات مرّة وهي تمزح إنها صاحبة الرقم القياسي في عدد العملات الجراحية التي أجريت لإنسان. ثم تحوّلت إلى الكحول والعقاقير والتدخين لتخفّف من آلامها الجسدية.
    لقد سكبت فريدا كلّ انفعالاتها في الرسم. كانت تهتمّ في لوحاتها بتصوير نفسها ومعاناتها الشخصية وتوقها العاطفي وارتباطها الحميمي بعالم الطبيعة.
    رسومات فريدا في تلك السنة التي ظلّت فيها طريحة الفراش كانت كلّها عن الحادثة. وبدا أن تلك الرسومات كانت محاولة لإعادة بناء واقع يصعب نسيانه: الاصطدام الرهيب بين السيّارة والحافلة، الأجساد الملقاة على الأرض، جسدها، هي، المغطّى كلّه بالجبس.
    أصبحت، هي نفسها، الملهمة للوحاتها الأولى. لم تكن تعتبر لوحاتها فنّا، بل نوعا من السيرة الذاتية التي كانت تضعها على ورقة الرسم: الملامح الجامدة، الحواجب الثقيلة، النظرات الحائرة. كانت تحاول دائما أن تُظهِر ما يختفي وراء الملامح الصارمة، أي معاناتها ووحدتها وألمها. كان واقعها قاسيا. تلقّت ثلاثين عملية جراحية على مدى السنوات التي تلت الحادثة في محاولة لإعادة بنية العظام المكسورة والملتوية. وكلّ عملية كانت تجلب معها عودة إلى العذاب والمعاناة. قيل لها أنها لن تستطيع المشي ثانية. لكن بنفس القدر من التصميم الذي اعتادت به أن تتجاوز مصائبها، تمكّنت فريدا من المشي مرّة أخرى.
    بعد أن بُعثت إلى الحياة من جديد، أصبحت فريدا كالو جزءا من الحراك الفنّي والثقافي لمدينة مكسيكوسيتي. هنا، تدخّل القدر مرّة أخرى عندما يسّر لها لقاء دييغو ريفيرا الذي سبق وأن رأته في طفولتها.
    كان ريفيرا قد تعلّم في أفضل مدارس أوربّا وكان متأثّرا بكلّ من غوغان وروسو. كان يكبر فريدا بعشرين عاما ويحظى بالشعبية في قارّتين. كما كان يبدو قريناً غريباً لـ فريدا التي كانت تؤمن بأن الطريقة الوحيدة التي يمكن للناس من خلالها أن يكتشفوا جاذبيّتها هي أن تكون امرأة غير عاديّة.


    عندما كانت تمشي في الشارع، كانت تُظهر قدمها المشوّهة للمارّة المحدّقين باندهاش. كانت تردّد: هذه قدم خنزير". ثم تضحك من نفسها. كان آخرون يقولون إن الشيطان وَسَمها في قدمها. في بعض الأحيان، كانت تقصّ شعرها بالكامل وترتدي ملابس رجالية . حتى البورتريهات التي رسمتها لنفسها كانت في الغالب مزاوجة بين الذكر والأنثى في إشارة إلى شخصيّتها المزدوجة. في تلك اللوحات تبدو فريدا كالو أنثى ناعمة، لكن بضربات فرشاة قويّة، حادّة وذكورية.
    في بداياتها الأولى، رسمت فريدا لنفسها صورة شخصية وهي ترتدي فستانا من المخمل. وقد أهدت الصورة لصديق اسمه اليهاندرو كان قد هجرها. ويبدو أنها كانت تتمنّى أن تستعيد محبّته وأن يحتفظ بصورتها في عقله. وقد نجحت الفكرة، غير أن اهتمامه بها لم يدم طويلا. الوقفة الارستقراطية في البورتريه تعكس اهتمام فريدا بلوحات عصر النهضة الايطالي. وربّما تكون قد رسمته وفي ذهنها لوحة بوتيشيللي "فينوس" التي كان صديقها معجبا بها. وقد نقشت فريدا خلف البورتريه عبارة تقول: إلى اليهاندرو من فريدا في سنّ السابعة عشرة، عام 1926م".
    في ما بعد طلب والدا الشابّ منه السفر إلى أوربّا في محاولة لإبعاده عن فريدا. وقبيل سفره أعاد إليها اللوحة كي تحفظها في مكان آمن. وكان البورتريه احد أربع لوحات عرضتها فريدا على ريفيرا في ما بعد لتسأله رأيه حول فنّها. وقد أبدى إعجابه الشديد بهذا البورتريه.
    تصف فريدا اللقاء الأوّل مع ريفيرا بالقول انه كان عارضا. ثم جاء يوم سحب فيه ريفيرا مسدّسه وصوّب رصاصه على جهاز فونوغراف. في تلك اللحظة بالذات – تقول فريدا - بدأت اهتمّ بـ دييغو رغم أني كنت خائفة منه".
    لكن الخوف لم يثنِها عن عرض لوحاتها عليه. وقد رأى في تفجّرات ألوانها الساطعة واستواء أسطحها انعكاسا لعاطفة عظيمة وعذاب لا يمكن لإنسان أن يتحمّله. لم يمتدح لوحاتها فحسب، لكنه أصبح مهتمّا بـ فريدا نفسها، فبدأ يتودّد إليها. اقترح عليها ذات مرّة أن ترتدي ملابس مكسيكية تقليدية. ثم أشار إلى أن لوحاتها تتضمّن تعبيرات بدائية. في ذلك الوقت، كانت الرسومات البدائية تحظى بالشعبية في أوساط الفنّ المكسيكي. اندهشت فريدا من وصفها بالبدائية، بالنظر إلى أصولها الهنغارية وخلفيّتها اليهودية ووظيفتها الأكاديمية.
    صُدمت والدة فريدا وعمّاتها لخبر انجذاب فريدا إلى دييغو ريفيرا. والدتها قالت لها بمرارة انه عجوز طاعن في السنّ وبدين جدّا. كما انه شيوعي، وأسوأ من ذلك انه ملحد.


    وفي إحدى زيارات ريفيرا المتكرّرة إلى منزل عائلة كالو، أخذه والد فريدا جانبا وقال له: ابنتي مريضة وستبقى كذلك دائما. هي ذكيّة لكنها ليست جميلة. أظنّ انك مهتمّ بابنتي، أليس كذلك؟ وعندما ردّ ريفيرا بالإيجاب قال والدها: إنها شيطان. قال ريفيرا: اعرف ذلك. فقال والدها: حسناً، لقد حذّرتك". قالها وهو يغادر الغرفة.
    كان زواج فريدا وريفيرا عاصفا. كانا يحبّان بعضهما كثيرا. لكن ريفيرا كان معروفا بكونه زير نساء كبيرا. وعندما تزوّجا بعد علاقة عاطفية دامت عامين، رفضت والدتها حضور الزواج ووصفته بأنه زواج حمامة من فيل. آخرون قالوا انه زواج ملكة الفراشات من أمير الضفادع! غير أن والد فريدا، الذي كان ملحدا هو الآخر، كان اقلّ اعتراضا وقرّر أن يشارك في مراسم الزواج. كان والدها يعرف أن ريفيرا يملك من المال ما يغطّي احتياجات ابنته الطبّية.
    بعد زواج دييغو من فريدا بدأ فنّها يأخذ شكلا جديدا. رسوم الحياة الساكنة لم تعد ساكنة. الجداران في الخلفية غادرها الفراغ والصمت. الأشياء الثابتة ذابت وحلّ محلّها طاولات مشغولة وطبيعة سوريالية وآلات تجريدية وإحساس بالقوّة والحركة.
    ما سجّلته فريدا في لوحاتها كان شيئا لم يكن ريفيرا قادرا على الإمساك به: الروح الإنسانية المعذّبة التي تحاذر الوقوع في الهاوية العميقة والمظلمة.
    الحياة داخل فريدا نفسها لم تكن ساكنة أبدا. استيقظ جسدها على النداءات المتكرّرة والملحّة لغريزتها الامومية. كانت تريد بيأس أن تُرزق بطفل تمسكه وتغذّيه وترعاه بنفس الطريقة التي ترسم بها حياتها على الورق. في ذلك الوقت، كان الأمريكيون مهتمّين كثيرا بالتطوّر الثقافي لما كان يُسمّى بحركة النهضة المكسيكية. كانت الولايات المتحدة تمثّل مكان جذب للفنّانين المكسيكيين، حيث سوق الفنّ الواسعة وإمكانيات الثراء والشهرة. وكان ريفيرا مصمّما على انتهاز الفرصة.
    في نهاية عام 1930 غادر الزوجان المرتبطان حديثا، فريدا وريفيرا، المكسيك للإقامة في الولايات المتحدة مدّة ثلاث سنوات. وصلا سان فرانسيسكو في بداية أزمة الكساد العظيم. ومع ذلك كان معهما من المال ما يكفي للرسم وإقامة الحفلات والمناسبات العائلية. نخبة المجتمع في سان فرانسيسكو كانت تمجّد ريفيرا، لكنها كانت تتعامل مع فريدا ككائن مثير للفضول. لم تحبّ فريدا المدينة، وتجنّبت الناس الذين كانت تصفهم بأنهم سطحيون ومملّون.
    في الولايات المتحدة استمرّت تحوّلات فريدا. الألوان الغنيّة للأرض أصبحت تمتزج بالأشياء الساكنة في الخلفية. والجذور والأوراق صارت تتشابك مع الأذرع والسيقان. أصبح هناك إحساس مزعج بالاضطراب والشرّ.


    لم يمض طويل وقت حتى أصبحت فريدا حاملا. حدث ذلك أثناء إقامتهما في ديترويت، حيث كُلف ريفيرا برسم سلسلة من الجداريات لمتحف المدينة. فرحت كثيرا للنبأ السعيد وهي التي طالما اشتاقت لأن تنجب طفلا. لكنّ جسدها الكليل غير قادر على تغذية ورعاية طفل. الطفل الذي كانت تريده أجهض تلقائيا وعمره ثلاثة أشهر. بدأت فريدا في رسم إحساسها الذي يجسّد معاناة أمّ فقدت طفلها. رسمت جنينا لولبيا يطفو فوق جسدها المشلول فوق سرير منقوع بالدم.
    استمرّت فريدا في التعبير بعمق عن واقعها المزعج من خلال الألوان والفرشاة، بينما واصل الزوجان المرحلة الأخيرة من رحلتهما الأمريكية والتي ستأخذهما إلى مدينة نيويورك. هناك كان على ريفيرا أن يرسم جدارية لحساب مركز روكفلر. لكنّ العمل اُوقف فجأة. وفي النهاية تمّ إتلاف اللوحة بعد أن اكتشف أصحاب المشروع أن ريفيرا رسم وجه فلاديمير لينين وحوله عدد من العمّال ذوي الوجوه الفولاذية بمطارقهم وآلاتهم اللامعة. أحسّت فريدا بالمرارة والغضب جرّاء التشويه الذي لحق بـ ريفيرا. كانت من قبل تعتقد أن الولايات المتحدة بلد رديء ويفتقر إلى الشخصيّة القويّة. وأصبحت الآن تكرهها وتحتقرها. وامتدّ شعورها بالمرارة ليأخذ شكل فواكه ملوّثة بالدم تخفي داخلها أعضاءً من لحم متهتّك ومشوّه. ومع ذلك، قرّر ريفيرا أن يبقى في نيويورك بعد أن أحسّ بتزايد شعبيّته برغم الفضيحة.
    في بورتريه بعنوان "على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك"، ترسم فريدا نفسها بفستان زهري جميل وهي تقف، مثل تمثال، بين عالمين مختلفين. لقد صوّرت المكسيك كأرض للحضارات والتاريخ والجمال والتواصل الإنساني في مواجهة أمريكا التي لا تذكّرها سوى بالآلات والمكائن وناطحات السحاب وأدخنة المصانع، ما يجعل من أمريكا في نظرها بلدا بعيدا وغير مضياف. الأسلاك الشائكة وأجهزة المراقبة على الحدود الأمريكية يقابلها أزهار ونباتات وفواكه على الجانب المكسيكي من الحدود. العَلم الذي تمسك به في يدها أرادت به تأكيد ولائها لوطنها. في الجانب الأيسر من اللوحة نرى طبيعة مكسيكية قديمة بألوان ترابية تحاكي غنى ودفء الطبيعة. هناك أيضا نباتات غريبة وقطع نحتية تعود إلى حضارة الازتك. على الطرف الأمريكي، ترسم فريد بألوان زرقاء مملّة طبيعة ميّتة تهيمن عليها التكنولوجيا والآلة.


    عندما عاد الزوجان إلى المكسيك عام 1935، ألحق ريفيرا بـ فريدا الجرح الأكثر إيلاما وفتكا في حياتها. فقد أقام علاقة عاطفية مع شقيقتها كريستينا. لم يكن ريفيرا مخلصا أبدا أثناء زواجه من فريدا. ومع ذلك كانت تسامحه وتغفر له نزواته وأخطاءه. في إحدى لوحاتها، ترسم فريدا جزءا من ذكرياتها عن نساء في رقّة الأزهار، بينما تظهر سكّين معدنية وهي تشقّ طريقها عميقا إلى قلبها.
    لم يكن الإخلاص الزوجي مسألة مهمّة بالنسبة إلى دييغو ريفيرا. كان دائما يقول: عندما أحبّ امرأة فإنني أرغب أن أؤذيها كلّما أحببتها أكثر"!
    لذا قرّرت فريدا أن تعامله بالمثل وأن تفعل نفس الشيء. وبدأت في إقامة علاقات عاطفية عديدة مع رجال ونساء، وهو الأمر الذي استمرّت تفعله بقيّة حياتها. ربّما خامرها إحساس بأنه إذا كان بإمكان ريفيرا أن يحبّ أكثر من شخص، فإنها هي أيضا تستطيع ذلك، بل إنها تستطيع أن تفعله بشكل أفضل.
    كانت أشهر قصص فريدا علاقتها مع المنشقّ الروسي ليون تروتسكي الذي هرب من بلاده بناءً على تشجيع من ريفيرا نفسه لينتهي به المطاف في المكسيك. وقد رسمت فريدا لوحة لـ تروتسكي ودعمته علنا رغم أعدائه الكثيرين. وبينما تدهورت علاقة ريفيرا بالحزب الشيوعي المكسيكي، فإن علاقة فريدا بالحزب ازدادت قوّة. وقد قالت ذات مرّة: كنت عضوا بالحزب قبل أن التقي ريفيرا. وأنا ماركسية أفضل منه، وعاشقة أفضل منه". وقريبا ستثبت أنها تستطيع منافسته في الفنّ أيضا.
    في عام 1938 وصل إلى مكسيكوسيتي الفنان الفرنسي اندريه بريتون وأصبح مفتونا بأعمال فريدا كالو. وبحكم كونه شخصية رائدة في الجماعة السوريالية، فقد قام بترتيب معرض للوحاتها في نيويورك. كان المعرض ناجحا إذ بيع أكثر من نصف عدد لوحاتها. وقد نصحها بريتون بعد ذلك بالمجيء إلى فرنسا لتعريف الجمهور الأوربّي بفنّها. وعندما وصلت فريدا إلى باريس في ما بعد، وهي التي لا تتحدّث الفرنسية، لم يكلّف بريتون نفسه حتى عناء مساعدتها في إخلاء لوحاتها من الجمارك.
    وفي النهاية أنقذ الوضع مارسيل دُوشان وافتتح المعرض متأخّرا عن موعده ستة أسابيع. لم يكن ناجحا من الناحية المالية، لكن كتبت عنه الصحف باستحسان واشترى اللوفر إحدى اللوحات، ونالت كالو ثناء كلّ من كاندينسكي وبيكاسو.
    لم تكن فريدا مسرورة كثيرا بصحبة أصدقائها الجدد من السورياليين. وقد أشارت إليهم ذات مرّة بقولها: هذه الحفنة من السورياليين المجانين أولاد الكلاب"! ومع ذلك كان السورياليون هم الذين احتضنوها وأعطوا فنّها تفسيرات ومعاني. واستمرّت هي في حضور معارضهم وتلبية دعواتهم لحضور المناسبات الاجتماعية. إلا أن فريدا نفت بشدّة أن تكون لوحاتها سوريالية وقالت في نهايات حياتها: كانوا يعتقدون أنّي سوريالية. وأنا لست كذلك. فأنا لم ارسم الأحلام أبدا. كنت ارسم فقط واقعي الخاص".
    وبدأ واقعها يتكشّف ببطء عندما أخذت صحّتها في التدهور. وخلال الأربعينات أنتجت بعض أفضل أعمالها، لكنها أقدمت على بعض الممارسات الغريبة. فعندما فشلت المحاولة الأولى لاغتيال تروتسكي، اقترح عليه ريفيرا الذهاب إلى الولايات المتحدة لبعض الوقت. في هذه الأثناء، قامت فريدا بتطليق ريفيرا. ولم تمض أيّام حتى اغتيل تروتسكي على يد احد أصدقائها، الأمر الذي احضر الشرطة إلى باب بيتها. ورغم أنها تعرّضت للاستجواب فقط، إلا أنها كانت تحسّ بعدم الارتياح. فطارت إلى سان دييغو لتلتحق بريفيرا. وهناك تزوّجا مرّة أخرى.


    رغم كلّ أمراضها البدنية الهائلة، كانت فريدا كالو امرأة جميلة. كان لها حواجب كثيفة الشعر. ومع ذلك لم تحاول إخفاءها، بل أكّدت عليها كثيرا في لوحاتها حتى أصبحت علامتها المميّزة والفارقة. كان دييغو ريفيرا يشجّعها على ارتداء الملابس التقليدية وأشرطة الشعر التي تظهر في لوحاتها. وفي اثنتين من لوحاتها يظهر سوار كان قد أهداها إيّاه بيكاسو الذي قابلته بعد زواجها من ريفيرا.
    كان ريفيرا ما يزال ممعنا في خياناته الزوجية. وكانت فريدا تتحمّل ذلك مرغمة. في لوحتها "احتضان الكون"، تحتضن فريدا زوجها كالطفل بينما تطوّقهما معا صورة للأرض والكون. ويبدو أن الرسّامة تحاول أن تتسامى فوق الألم من خلال الرؤى الامومية للطبيعة على هيئة آلهة قديمة وأرواحها من النباتات والحيوانات.
    لوحتها الأخرى المسمّاة "مُرضعتي وأنا" هي امتداد لهذه الرؤية التي تتوسّل من خلالها الشفاء من القوى المتجذّرة في الأرض. وفي اللوحة تتحوّل فريدا نفسها إلى طفل رضيع يمتصّ الحليب من الثدي المزهر للآلهة العظيمة وفق التقاليد الطقوسية القديمة.
    قبل طلاقهما، رسمت فريدا لنفسها بورتريها مزدوجا أسمته "الفريدتان". في الصورة اليمنى تبدو مرتدية ملابس ريفية مكسيكية بينما تمسك بأيقونة صغيرة تحمل صورة ريفيرا. وهناك وريد دم يلتفّ حولها ويتّصل بالصورة الأخرى التي تبدو فيها مرتدية لباسا أوربّيا بينما تمسك بملقط من النوع الذي يستخدمه الأطبّاء لوقف نزيف الدم. ويُفترض أن المرأتين تمثّلان جانبي فريدا نفسها: الجانب الذي يحبّه دييغو ريفيرا والجانب الآخر الذي لا يحبّه. كما أن الصورة يمكن أن تشير إلى ثنائية دمها وإرثها الجرماني المكسيكي المشترك.
    وبعد أن تصالح الاثنان، رسمت فريدا لنفسها لوحة تبدو فيها بعينين دامعتين فيما استقرّت صورة ريفيرا فوق جبينها. ويبدو أنها كانت تريد أن تقول إنها لا تستطيع العيش بدونه ولا تستطيع حتى أن تخرجه من عقلها.
    يمكن القول إن جانبا كبيرا من شهرة فريدا كالو كرسّامة يعود إلى زواجها من ريفيرا. لكن بعد سنوات من بقائها في ظلّه، أصبحت اليوم أكثر شهرة منه. وفي السنوات الأخيرة، باتت جدارياته الضخمة التي تمثّل الواقعية الاشتراكية موضة قديمة وشيئا من الماضي، بينما يعاد الآن اكتشاف فريدا. ومن الواضح أن لوحاتها التي تصوّر فيها معاناتها وألمها تروق للجيل الجديد من الحركات النسوية ولأولئك الذين يهتمّون بالمشاعر الإنسانية أكثر من الأيديولوجيات الكبيرة.


    ريفيرا نفسه من المرجّح انه كان يعرف انه سيأتي يوم تصبح فيه فريدا أكثر خلودا منه. فقبل وفاتها بعام قال في حفل أقيم في مكسيكوسيتي بمناسبة اختياره كأعظم رسّام مكسيكي إن فريدا هي أعظم رسّامي المكسيك. وأتوقّع أن يتضاعف إنتاج نسخ لوحاتها مرّات كثيرة وأن يعرفها العالم كلّه، لأنّ أعمالها شهادة حيّة على حقيقة الإنسان في عصرنا".
    اليوم أصبح وجه فريدا في كلّ مكان: حقائب فريدا المطرّزة، أكواب فريدا، يوميات فريدا، خزانة فريدا، البطاقات البريدية التي تحمل صورها، التقاويم، البرامج الوثائقية، الأفلام السينمائية، المسابقات التي يجري تنظيمها لاختيار النساء الأقرب شبهاً بها. بالإضافة إلى العديد من الكتب التي تتحدّث عن حياة فريدا وفنّها.
    فريدا كالو تبدو اليوم أشبه ما تكون بـ موناليزا القرن العشرين، ولكن دون ابتسامة.
    والحقيقة أن بعض الرجال قد لا يشعرون بالكثير من الارتياح للنظر في الملامح الأنثوذكورية الواضحة في بورتريهات فريدا عن نفسها. شارباها الخفيفان اللذان كانت تبالغ في إبرازهما في رسوماتها، وحاجباها الحادّان اللذان يشبهان جناحي طائر، يتناقضان مع الزخارف الأثيرية والفولكلورية على شعرها وملابسها.
    وعندما نتمعّن في لوحاتها، سرعان ما نكتشف أن فريدا لا تبدو تلك الأنثى الجميلة التي تجتذب نظرات الرجال وكأنّها أداة للمتعة. العكس صحيح تماما. فنظراتها مستفزّة وفولاذية. ثم هناك عنادها الغريب في أن لا ترسم على وجهها أيّ اثر لابتسامة.
    ومع ذلك، فسيرة حياة فريدا كالو وفنّها يوفّران نموذجا للمرأة المكافحة والصابرة، وهو أمر يغري الكثيرات من بنات جنسها بالتماهي مع شخصيّتها ومحاكاتها.
    لكن فريدا أيضا تقمّصت وجسّدت شخصية النظير الذكر في الأساطير المسيحية. في إحدى لوحاتها، ترسم نفسها على هيئة ظبي تخترق جسده السهام. وفي أخرى ترتدي حول عنقها وكتفيها تاجا من الأشواك. أحزان المسيح تتحوّل إلى أحزان فريدا. القبول البطولي للمعاناة في نظراتها يخالطه حزن غامر.
    ومنذ السبعينات وإلى اليوم، تبدو فريدا في عيون النساء أختا مناضلة قادها القدَر والرجل الذي أحبّته وخانها للذبح مثل خروف بريء.
    وهناك احتمال انه ما كان لـ فريدا أن يكون لها هذا التأثير الكاسح لولا انه يُنظر إليها أيضا باعتبارها امرأة متمرّدة.


    من بين ما يلفت الانتباه في لوحات فريدا ظاهرة الحيوانات التي ترافق رسوماتها. عندما تتأمّلها عن قرب، لا بدّ وأن تتخيّل أن من رسمها هو أحد فنّاني الماضي العظام. فهي مملوءة بالحيوية والحركة تحت ضربات فرشاتها المشبعة بالقوى السحرية. بعض تلك الحيوانات من الواضح أن الرسّامة كانت تتّخذ منها رفاقا للعب والتسلية. وقد تكون حلّت محلّ الأطفال الذين حُرمت منهم في حياتها. وكلّها تبدو بهيئة الأصدقاء الودودين الذين يوفّرون للمرأة الجريحة شعورا بالحماية والسلوى والأمان.
    في لوحتها "بورتريه شخصي مع قلادة من الأشواك وطائر طنّان"، يجلس قرد صغير على كتفها الأيمن ويتسلّى بأحد الأغصان مثل طفل بريء لا يعرف الألم. وعلى كتفها الآخر تجلس قطّة سوداء متحفّزة يبدو أن مهمّتها هي ردع شياطين الموت التي تهدّد الفنّانة بنفس مصير الطائر المصلوب على صدرها. الأشواك التي تدمي عنقها هي رمز للألم الذي تشعر به بعد طلاقها من ريفيرا. جناحا الطائر الميّت المتدلّي من القلادة الشوكية يشبهان في شكلهما حاجبيها المتّصلين. والفراشات التي تحوم حول رأسها هي كناية عن الانبعاث وتجدّد الحياة. تقول الأساطير القديمة في أمريكا اللاتينية إن استخدام طائر ميّت في السحر يمكن أن يجلب الحظ السعيد في الحبّ. ومرّة أخرى، تستخدم الرسّامة جدارا من النباتات الاستوائية الضخمة كخلفية.
    إن على المرء أن ينظر مرّة بعد أخرى إلى وجه فريدا ليكتشف سرّ ذلك المزاج الذي يتغيّر باستمرار في لوحاتها: قوّة، إرادة فولاذية، عنف، تمرّد، يأس، فهم عمق للأشياء، ضعف، رؤية روحية.. إلى آخره.
    في إحدى المرّات رسمت لوحة أسمتها "العمود المكسور"، وهي تختلف عن أعمالها الأخرى في كونها تبدو فيها وحيدة. لا قرود ولا قطط ولا خلفية من الأوراق والنباتات. فريدا تقف هنا لوحدها وهي تبكي فوق ارض قاحلة وفسيحة وتحت سماء عاصفة.
    قد تكون هذه طريقتها في القول إنها يجب أن تتعامل مع آلامها الجسدية والنفسية لوحدها. في ذلك العام تدهورت صحّتها إلى الحدّ الذي أوجب عليها أن ترتدي مشدّا من الصلب طوال خمسة أشهر. كانت تصفه بأنه عقاب. وبدا أن أشرطة المشدّ هي التي تمسك جسدها المكسور وتحفظه واقفا. في اللوحة عمود اثري إغريقي آيل للانهيار ومكسور إلى عدّة أجزاء يأخذ مكان عمودها الفقري المعطوب. واضح أن ما يحفظ ظهرها متماسكا هو الأشرطة والمسامير. نمط الخطوط والشقوق في جسدها يتكرّر في الخلفية التي ورائها. المسامير التي تثقب وجهها وجسدها هي أيضا رمز قويّ لألمها. غير أن اكبر المسامير هو ذلك الذي يخترق قلبها، في إشارة إلى الألم العاطفي الذي سبّبه لها ريفيرا.


    وفي لوحتها "الغزال الجريح"، يظهر غزال صغير مصاب بجروح قاتلة من اثر السهام. فريدا هنا تعبّر عن إحباطها بعد فشل العملية الجراحية التي أجريت لها في عمودها الفقري في نيويورك. بعد عودتها إلى المكسيك استمرّت تعاني من ألم جسدها ومن نوبات الاكتئاب الشديد. في اللوحة تصوّر نفسها بجسد غزال يحمل ملامح وجهها بينما ينزف جسده المثقوب بفعل السهام. السماء العاصفة التي يضيئها البرق في البعيد توفّر بصيص أمل. لكنّ الغزال لا يبدو قادرا على الفكاك من قدره المحتوم. فهو محاط بأشجار ومحاصَر، ما يعطي شعورا بالخوف واليأس، إذ لا يبدو أن هناك وسيلة متاحة للهرب من هذا الوضع.
    في ما بعد، رسمت فريدا لوحة بعنوان "دييغو وأنا". كان ريفيرا وقتها يقيم علاقة عاطفية مع إحدى الممثلات. وكانت الممثّلة على علاقة حميمة أيضا بـ فريدا. في اللوحة تكشف الرسّامة عن مشاعرها الحقيقية. تبدو فيها بائسة وباكية. شعرها الطويل يلتفّ حول عنقها، ما يوحي بأنها تشعر بالاختناق بسبب ما حدث. هنا أيضا يصبح شعرها الوسيلة لتي تعبّر من خلالها عن ألمها العاطفي. هاجس فريدا بـ ريفيرا ترمز إليه صورته الصغيرة المحفورة على جبينها. من الواضح انه مصدر كلّ هذا الضيق والحزن الذي تعكسه اللوحة. انفعالات فريدا تتحوّل إلى دموع. لكنّ صورة ريفيرا الصغيرة لا تترك مجالا للشك في أنها كانت ما تزال تحبّه.
    وفي لوحتها "شجرة الأمل"، ترسم الفنانة لنفسها صورتين. الأولى إلى اليسار تمثّل فريدا التي خرجت للتوّ من غرفة العمليات. والثانية تصوّر فريدا ذات الشخصية القويّة والواثقة. اللوحة مقسومة إلى نصفين: أحدهما في الليل والآخر في النهار. الجسد النازف والمشوّه في الشمس يظهر عليه أثر لجرحين يشبهان شكل تضاريس الأرض التي خلفه. الشمس في أساطير الأزتك تُقدّم لها عادةً دماء الضحايا البشرية. فريدا الأخرى تبدو قويّة ومتفائلة. وهي تجلس في ظلّ القمر الذي يرمز للأنوثة. كما أنها تمسك في يدها بالمشدّ الذي يحدوها أمل في تستغني عنه بعد العملية. لسوء الحظ، كانت تلك الجراحة فاشلة وأدّت إلى مضاعفات كثيرة. وقد وُصفت بأنها كانت بداية النهاية بالنسبة إلى الرسّامة.


    استمرّ ريفيرا في غزواته العاطفية بلا هوادة. محاولات فريدا في امتلاكه من جديد تعبّر عن نفسها في اللوحة المسمّاة "دييغو في أفكاري". صورته على جبينها تشير إلى حبّها له والذي بلغ حدّ الوسواس. إنه في أفكارها وفي عقلها دائما. وهي هنا ترتدي نفس اللباس التقليدي الذي كان يحبّه كثيرا. إنها تلبسه لتجذبه إليها وتغريه بالاقتراب منها أكثر. الأوراق التي تتفرّع عن شعرها توحي بنمط بيت العنكبوت الذي يسعى لأن يسجن بداخله طريدته.
    بدأت الشائعات تكثر حول صحّة فريدا التي كانت تزداد وهناً. وقد أجريت لها سلسلة من العمليات الجراحية لإصلاح عمودها الفقري وقدمها المشلولة. وسرت تكهّنات تقول إنها رتّبت تلك الإجراءات المؤلمة في محاولة لجذب اهتمام ريفيرا إليها وصرفه عن علاقاته العاطفية المتعدّدة.
    كان هناك ارتباط وثيق بين صحّة فريدا كالو الجسدية وحالتها العقلية. كان زواجها يمرّ بمصاعب جمّة، ما اثّر كثيرا على حالتها الجسدية والذهنية. وبحلول عام 1950 ازدادت حالتها الصحّية سوءا فأدخلت المستشفى في مكسيكوسيتي وبقيت فيه عاما كاملا. وبسبب تعاطيها المسكّنات والحبوب المنوّمة، أصبحت لوحاتها أكثر قتامة وتشوّشا.
    وبعد خروجها من المستشفى، أصيبت قدمها المشلولة بالغانغرينا. ولم يكن هناك خيار آخر سوى بترها. ورغم أنها تعلّمت المشي ثانية باستخدام ساق اصطناعية، إلا أن المرض كان قد أوهنها وشلّ روحها القتالية. وكانت تقضي وقتها في إعطاء دروس في الرسم أو حضور فعاليات الحزب. إلا أنها أصبحت أكثر هشاشة وضعفا مع كلّ شهر يمرّ.
    وقد شهد شهر يوليو من عام 1954 آخر حضور علني لها عندما شاركت في مظاهرة نُظمّت احتجاجا على إطاحة رئيس غواتيمالا اليساري جاكوبو آربنز. وبعد ذلك بفترة قصيرة، توفيت فريدا كالو عن 44 عاما بينما كانت نائمة في بيتها بسبب انسداد في الشرايين.


    لكن حتى في الموت تكثر الشائعات وتنتشر. فقد نُقل عن بعض أصدقائها المقرّبين وأفراد عائلتها أن فريدا وجدت أخيرا وسيلة للانتحار. ففي آخر ورقة من يوميّاتها كتبت تقول: أتطلّع إلى أن تكون النهاية مريحة ولا أتمنّى أن أعود أبدا".
    قد تكون فريدا كالو أحسّت بعدم قدرتها على تحمّل المزيد من المعاناة والألم. وقد قضت حياتها كلّها تنقل آلامها ومعاناتها بالإضافة إلى أجمل رؤاها من خلال الفرشاة. كانت شجاعة ولم تكن تتردّد أبدا في المجاهرة بآرائها.
    ورغم أنها تمنّت ألا تعود أبدا، فقد تركت وراءها هديّة؛ رسالة خالدة لامرأة غير عاديّة كافحت وقهرت الصعاب ولم تتخلّ يوما عن الأفكار التي آمنت بها. .

    Credits
    frida-kahlo-foundation.org
    theartstory.org

    الأربعاء، فبراير 10، 2010

    جدلية العلاقة بين الرسم والموسيقى

    الهارموني "أو التناغم" والريثم "أو الإيقاع" هما مصطلحان موسيقيّان في الأساس. لكننا نستخدمهما عادةً عند الحديث عن خصائص لوحة ما أو عمل تشكيلي معيّن. هذا الاستهلال قد يكون أفضل دليل يوضّح ما بين الرسم والموسيقى من أواصر وعلاقات قربى.
    الناقد جيم لين يفصّل ذلك بقوله: العلاقة بين الرسم والموسيقى وثيقة بل وقديمة جدّا. إذ يمكن القول، مثلا، أن أيّ عمل نحتي ما هو في الواقع سوى لوحة ثلاثية الأبعاد. وهناك أمثلة كثيرة عن نحّاتين رسموا تماثيلهم ورسّامين نحتوا لوحاتهم.
    الأدب، والشعر خاصّة، غالبا ما يقارن بالرسم من حيث أن اللوحة لها خصائص غنائية. واللوحات التي تصوّر الحياة اليومية غالبا ما يكون لها طبيعة سردية. وأحيانا يلجأ الكثير من كتّاب القصص إلى الاستعانة برسومات توضيحية من اجل تعزيز العنصر السردي في أعمالهم. الرقص والدراما، وحتى المعمار، لها نظيراتها في الرسم. وكثيرا ما يرتبط الرسم بذلك النوع من الملاحم والقصص التي تتحدّث عن الأبطال الشعبيّين.
    لكن لا توجد علاقة أقوى من تلك التي تربط الرسم بالموسيقى. وهي علاقة تعود إلى عصور قديمة. زخرفة الخزف اليوناني، مثلا، كانت تستعين بصور الآلات الموسيقية.
    والرسم والموسيقى يشتركان في نفس اللغة تقريبا. الألوان لها ظلال ونغمات، وكلا الفنّين يشار إليهما كتراكيب وتوليفات.
    الرسّامون منذ القدم تنافسوا في رسم لوحات تتضمّن عناصر موسيقية. ومن هؤلاء كارافاجيو و اوراتزيو جينتيليسكي وكونراد كيسل و بيكاسو وجورج فريدريك واتس وجول لوفافْر.
    لكنّ هناك من الرسّامين من خطوا خطوة ابعد مثل كاندينسكي الذي كان يرسم وهو يستمع إلى الموسيقى كي ينقل الإحساس الذي تثيره الأنغام في النفس.
    جيمس ويسلر، الرسّام الأمريكي، اخذ خطوة مماثلة عندما أطلق على لوحاته مسمّيات موسيقية مثل "سيمفونية" و"نوكتيرن". وفي الجهة المقابلة، ألّف الموسيقي الأمريكي جورج غيرشوين مقطوعته الشهيرة "رابسودي إن بلو" التي حاول فيها المزج بين اللون والنغم.
    وهناك رسّامون ترجموا أجواء بعض المقطوعات الموسيقية إلى لوحات، مثل غوستاف كليمت الذي رسم السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن ورافائيل لوبينسكي الذي رسم مقطوعة أخرى لـ بيتهوفن هي فيديليو.
    اللوحات الدينية كانت غالبا تصوّر الملائكة وهم يعزفون الموسيقى. ومع تطوّر رسم الحياة اليومية، أضاف رسّامون مثل بيتر بريغل عناصر موسيقية إلى لوحاتهم التي تصوّر مظاهر من الحياة البسيطة للناس. فالمزارعون يظهرون وهم يعزفون الناي والفلوت احتفالا بمناسباتهم الخاصّة. في حين يُصوَّر أفراد الطبقات الأكثر ثراءً وهم يعزفون اللوت "أو العود".
    وفي العام 1670 رسم فيرمير إحدى لوحاته التي تُظهِر امرأة تعزف على آلة موسيقية شبيهة بالهاربسيكورد وإلى يسارها آلة فيولا، ما يوحي بأن المرأة تتوقّع مجيء شخص آخر كي يشاركها في العزف.
    الفنّان الفرنسي انطوان واتو رسم لوحة بعنوان مباهج الحفلة صوّر فيها مجموعة من الفرنسيين الباحثين عن المتعة وهم يرقصون على أنغام اوركسترا متوارية تحت ظلال ممرّ إحدى الحدائق. المزاج في اللوحة خفيف وعفوي وحيوي تبدو من خلاله أصوات الطبيعة في حالة تناغم مع أصوات الموسيقيين.
    بعد حوالي قرن من ذلك أتى الانطباعيون الذين صوّروا في أعمالهم حياة الليل والموسيقى لمجتمع مقاهي باريس.
    إدغار ديغا، مثلا، رسم أغنية الكلب عام 1876 ، بينما جلب رسّامون آخرون مثل تولوز لوتريك ورينوار وسورا الأصوات الصاخبة في قاعات الموسيقى إلى لوحاتهم.
    في أعماله، يحاول ديغا الإمساك بالضجيج والدخان والإحساس المشوّش الذي تستثيره صالات الموسيقى عادة.
    في ما بعد، أتى الفنّ التعبيري الذي استطاع تحقيق اندماج غير مسبوق بين الرسم والموسيقى. لوحة مارك شاغال بعنوان الزواج التي رسمها عام 1961 هي مثال واضح على هذا. فالعريس والعروس يندمجان في مشهد الزفاف اليهودي ليصبحا كيانا واحدا. والتشيللو يتوحّد مع عازفه كما لو أن الآلة تلاعب نفسها.
    وخلافا لمشهد الموسيقيين المختبئين في لوحة واتو، فإن عازفي الموسيقى في لوحة شاغال يحتلّون على الأقلّ نصف اللوحة. والرسّام يوظّف الألوان الحمراء والبرتقالية في زخارف وتفاصيل الحفل كي يجذب الانتباه إلى الأصوات المسيطرة لدرجة انه يُخيّل للناظر انه يسمع نغمات الموسيقى وهي تتقافز من اللوحة.

    الأحد، مارس 23، 2008

    كاندينسكي: العين تسمع والأذن ترى


    "كلما كان العالم أكثر إثارة للخوف كلما أصبح الفنّ أكثر تجريدا".
    "من بين كافة أشكال الفنون، فإن الرسم التجريدي هو أصعبها. انه يتطلّب منك أن ترسم جيّدا وأن تتمتّع بحساسية فائقة تجاه التكوين واللون وأن تكون، وهذا هو الأهم، شاعرا حقيقيا".
    - كاندينسكي

    كنت دائما أحاذر الاقتراب من كاندينسكي لصعوبته وتعذّر فهم أو استيعاب لوحاته. ومع ذلك كان هناك شعور يساورني دائما بأنه رغم غموضه فإنه فنّان جدير بأن نقرأه بعمق لمحاولة فهمه والنفاذ إلى عالمه بشكل أفضل ومن ثم تقدير فنّه وريادته. ولهذا الغرض قرأت عن كاندينسكي العديد من المقالات والتحليلات معظمها بالانجليزية. ورغم المحاولات الكثيرة، لم أتمكّن بعد من أن أتكيّف تماما مع لوحاته رغم انه ما يزال هناك الكثير مما يحفّزني لان أحاول ..
    إن لوحات كاندينسكي ليست من ذلك النوع الذي يروق للعين أو يريح الأعصاب أو يبعث على التفاؤل. بل إن بعضها محيّر ومزعج ومشوّش للذهن. والمفارقة هي أن نسخا كثيرة من لوحات هذا الفنّان التي تستعصي على الفهم أو التفسير وجدت طريقها اليوم إلى كلّ مكان تقريبا؛ من ردهات المستشفيات إلى غرف الجلوس بالمنازل إلى المكاتب وحتى إلى جدران المقاهي والمطاعم الكبيرة. ومن السهل التعرّف على لوحات كاندينسكي وتمييزها عن لوحات سواه بدوائرها الملوّنة وزواياها وخطوطها المتعرّجة والمنحنية والمتقاطعة والمتوازية وبأصواتها وغيومها الأثيرية وذبذباتها وهالاتها المضيئة والمتوهّجة.
    وقد قرأت أثناء تحضيري للموضوع كلاما لأحد النقاد قال فيه إن كاندينسكي خبّأ في أكثر من تكوين وجوها شبحية لهتلر ولينين. وحاولت واجتهدت كثيرا أن أتبيّن وجها أو أثرا لوجه من تلك الوجوه في أيّ من لوحات الفنان، لكن دون جدوى.
    الموضوع التالي هو عبارة عن ترجمة لمقال متميّز كنت قد قرأته في وقت سابق في موقع جريدة الديلي تلغراف يحاول فيه كاتبه إلقاء بعض الضوء على حياة كاندينسكي وأسلوبه الفنّي وعلى ظاهرة الإحساس المتزامن التي يقال أن كاندينسكي كان متأثرا بها.

    يعود الفضل لـ فاسيلي كاندينسكي في رسم أوّل لوحات تجريدية في تاريخ الفنّ ليصبح بعد ذلك رائد التجريدية في العالم بل ومنظّرها الأوّل بلا منازع . لكن طموح كاندينسكي الفنّي ذهب به إلى ابعد من ذلك، فقد أراد استدعاء الصوت من خلال حاسّة الإبصار ومن ثم إيجاد معادل فنّي لسيمفونية لا تثير فقط العين وإنما الأذن أيضا.
    ويعتقد أن كاندينسكي كان يمرّ بظاهرة يسمّيها علماء النفس الإحساس المتزامن Synaesthesia، وهي كلمة يونانية الأصل تشير إلى حالة تسمح للشخص بأن يقدّر الأصوات والألوان والكلمات بحاسّتين أو أكثر في نفس الوقت.
    وفي هذه الحالة، فإن الألوان والعلامات المرسومة تثير أصواتا خاصّة أو نغمات موسيقية. ويقال أن المقدرة اللاإرادية على "سماع" اللون و"رؤية" الموسيقى أو حتى "تذوّق" الكلمات هي ظاهرة ناتجة عن تداخل إشارات في الدماغ بشكل عرضي، وهي حالة لا تحدث إلا لشخص من بين كلّ 2000 إنسان كما أنها تحدث في النساء أكثر من الرجال.
    وتعزى أول حالة موثّقة عن ظاهرة الإحساس المتزامن إلى الفيلسوف والمفكّر الانجليزي جون لوك John Locke الذي تحدّث في العام 1690 عن رجل كان يزعم انه كان يرى لونا قرمزيا كلما سمع عزفا على آلة البوق.
    لكنّ فكرة ارتباط الموسيقى بالفنون البصرية تعود إلى اليونان القديمة، ويذكر أن أفلاطون كان أوّل من تحدّث عن الأنغام والموسيقى وعلاقتها بالرسم.
    ومثلما هو الحال في لغة النوتات الموسيقية، ظلت الألوان الطيفية ولزمن طويل تنتظم في سلالم متدرّجة. ويشار في هذا الصدد إلى أن بيتهوفن كان يسمّي الـ B minor المفتاح الأسود، والـ D major المفتاح البرتقالي. كما كان شوبيرت يرى الـ E minor على هيئة فتاة عذراء ترتدي فستانا ابيض بياقة من الزهري والأحمر.
    لكن ما يزال من غير الواضح ما إذا كان المؤلفان الموسيقيّان قد خبرا، فعلا، شيئا من حالة الإحساس المتزامن أم أنهما كانا فقط واقعين تحت تأثير ما كتبه كلّ من غوته وشوبنهاور ورودولف شتاينر عن نظريات الألوان وامتزاج الحواسّ.
    غير أن المتشكّكين يرفضون نظرية الإحساس المتزامن على أساس أنها ليست أكثر من اختراع شخصي. لكن مؤخّرا تمكّنت مجموعة من أطبّاء الأعصاب من إثبات أن الأفراد الذين قالوا بأنهم مرّوا بهذه الحالة يمكن أن يروا الأصوات فعلا. فقد أظهرت سلسلة من عمليات المسح الدماغي أجريت على بعض الأشخاص، بعد أن ُعصبت عيونهم، حدوث "نشاط بصري" في أدمغتهم عند سماعهم بعض الأصوات. وتتّجه النيّة الآن إلى محاولة العثور على المورّث المسئول عن هذه الظاهرة.
    ورغم نقص الأدلة عن حالة كاندينسكي، فإن المعروف أن هذا الفنان انشغل لفترة طويلة بدراسة العلاقة المتبادلة بين الصوت واللون. ويتذكّر كاندينسكي انه كان يسمع "هسيسا" غريبا عندما كان يقوم بمزج الألوان في طفولته. وعندما أصبح عازف تشيللو متمكّنا، في ما بعد، قال انه كان يرى اللون الأزرق الغامق أثناء عزفه.
    يقول شين رينبيرد أمين متحف تيت البريطاني: اشعر أن كاندينسكي كان شخصا طبيعيا. لقد رسم أضخم لوحاته، أي التكوين رقم 7 ، خلال ثلاثة أيّام فقط وهذا يثبت أن هذه اللغة متجسّدة فيه.
    اكتشف كاندينسكي تأثّره بحالة الإحساس المتزامن أثناء حضوره حفلا في موسكو عزفت خلاله موسيقى لـ ريتشارد فاغنر.
    وقد قال معلقا على تلك الحادثة: لقد رأيت جميع الألوان منعكسة أمامي على مرآة الروح". وفي عام 1911، بعد أن درس واستقرّ في المانيا، تحرّكت مشاعره من جديد واعتراه نفس الإحساس القديم وهو يستمع إلى حفل للموسيقي ارنولد شونبيرغ. وبعد يومين من ذلك الحفل انتهى من رسم لوحته انطباع 3 . ومن يومها أصبح الرسام كاندينسكي والموسيقي شونبيرغ صديقين.
    ولو افترضنا أن كاندينسكي كان يفضّل لونا محدّدا فلا بدّ وأن ذلك اللون كان الأزرق. يقول: كلما كان الأزرق داكنا كلما دعا الإنسان بقوّة لان يدخل في اللانهائي وكلما أيقظ فيه الرغبة في الصفاء ومن ثم الدخول إلى عالم ما فوق الطبيعة. وكلما كان الأزرق أكثر سطوعا كلما فقد "صوته" إلى أن يتحوّل إلى "سكون صامت" ثم يصبح ابيض".
    كان كاندينسكي يؤمن بأن الكون واقع تحت تأثير ذبذبات صادرة عن قوى ما فوق الطبيعة وعن هالات الضوء والطاقة و"أشكال من الأفكار". وهي نفس آراء بعض الحركات الغامضة وشبه الدينية مثل الثيوصوفية التي تمارس طقوسا من التأمّل الروحي والفلسفي. ومع ذلك فإن قناعات كاندينسكي وإيمانه بالإمكانات الانفعالية للفن ما تزال مقنعة حتى اليوم.
    أن استجابتنا للوحات كاندينسكي يفترض أنها تعكس تقديرنا للموسيقى وأنها تأتي من دواخلنا وليس من مضاهاتها بالعالم المنظور. يقول: إن اللون هو لوحة المفاتيح. والعين هي المطرقة. والروح هي البيانو بأوتاره المتعدّدة. والفنان هو اليد التي – بملامستها هذا المفتاح أو ذاك – تهزّ الروح وتبعث فيها الحركة والحيوية".
    لقد أنجز كاندينسكي تجريدا صافيا عندما استبدل القلاع والأبراج العالية التي كانت تظهر في مناظره الطبيعية بكتل لونية أو بـ "أنغام وجمل موسيقية تؤلف معا أغنية "بصرية"، كما كان يراها.
    وبهذه الطريقة نفسها رسم تكويناته الملتفّة مستخدما ضربات "متعدّدة الأصوات والنغمات" قوامها الأصفر الدافيء ذو التدرّجات الداكنة الذي تمّت موازنته برُقع من الأزرق "الرنّان" أو الأسود "الصامت".
    ويصف رينبيرد كيف أن كاندينسكي كان يستخدم مفردات موسيقية "كي يهدم الجدران الخارجية لفنّه الخاص".
    بعد العام 1900 قام الفنان بتجزئة أعماله إلى ثلاث فئات: انطباعات، أعمال مرتجلة، وتكوينات. وغالبا ما كان يضيف عناوين موسيقية لبعض اللوحات مثل Fugue و Opposing Chords و Funeral March .
    كما وضع ثلاث مسرحيات زاوج فيها بين فنون الرسم والموسيقى والمسرح والرقص بطريقة توحّد بين جميع الحواسّ.
    إن مما لا شكّ فيه أن اقتران كاندينسكي بظاهرة الإحساس المتزامن كان مثارا لنقاشات كثيرة وترك بصمة مميّزة على مسيرة الفن الأوربي المعاصر. لكن هناك أمثلة أخرى كثيرة عن تأثير الأصوات في الفنّ والشعر الحديث مثل لوحة الصرخة لـ مونك Munch’s The Scream ونوكتيرن لـ ويسلر Whistler’s Nocturnes وأناشيد إيزرا باوند Ezra Pound’s Cantos ورباعيات تي اس اليوت T. S. Eliot’s Quartets .
    غير أن موهبة كاندينسكي الغريبة والخاصة في سماع الألوان وترجمتها على اللوحة في شكل موسيقى بصرية وتوظيفه للمصطلح الذي صاغه الناقد روجر فراي Roger Fry عام 1912، كلّ ذلك منح العالم أسلوبا آخر في تقدير الفن سيرثه في ما بعد العديد من الشعراء والفنانين التجريديين طوال ما تبقّى من سنوات القرن العشرين.
    وأنت تقف أمام لوحات كاندينسكي حاول أن تعير أذنيك للموسيقى وأن تفتح عينيك على اللوحة وأن تتوقف عن التفكير للحظات..
    ثم اسأل نفسك ما إذا كان العمل قد ساعدك على الدخول إلى عوالم لم تكن تعرفها من قبل.
    فإذا كانت الإجابة بـ نعم، فما الذي تريده أكثر؟!


    Credits
    wassilykandinsky.net