:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، سبتمبر 21، 2024

يوساميتي: الفردوس الأمريكي


بفضل لوحات البيرت بيرستادت، أصبح لوادي يوساميتي في كاليفورنيا تاريخ، وباتَ أيقونة للبراري الأمريكية. كان بيرستادت أوّل رسّام أمريكيّ يُمسك بالقوّة الرمزية لجبال سييرا نيڤادا ويوساميتي. وعندما رأى الوادي لأوّل مرّة في صيف عام 1863، ذُهل من جماله وكتب إلى صديق له يصفه بأنه "الفردوس الأمريكي".
لوحاته الخمس والعشرون التي رسمها للمنطقة أصبحت محفّزا لحماية تلك الطبيعة البكر. وأشهرها لوحة تصوّر منظرا مثاليّا تظهر فيه مجموعة من الغزلان وهي ترعى بسلام في المروج. ولا بدّ أن فكرة الجنّة كانت في عقل الفنان، لذا رسم برّية مثالية لا تعيش فيها سوى الحيوانات.
وقد أضاف الى المنظر لمسة لامعة من خلال وهج الشمس الغاربة المصطبغ بالألوان الصفراء والبرتقالية المنعكسة على المكان بأكمله. هذه اللوحة وغيرها أضفت طابعا رومانسيّا على يوساميتي باعتباره مكانا رعويا وفطريا وخالدا وغير مأهول، وخلعت عليه طابعا من القداسة والسموّ.
يوصف وادي ومتنزّه يوساميتي بأنه أحد أعظم مَعابد الطبيعة بسبب جمال وسحر طبيعته. وقد تَشكّلَ الوادي من الأنهار الجليدية التي يصل سمكها الى 4000 قدم منذ ما يقرب من مليون عام. ومن هناك، بدأت القطع الكبيرة من الجليد تتحرّك إلى أسفل مشكّلة الوادي على شكل حرف U.
وتدعم المنطقة أكثر من 400 نوع من الكائنات الحيّة، بما في ذلك الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات. وتضمّ بعضا من أروع الشلالات على وجه الأرض. ووادي يوساميتي معروف بأشجار السيكويا العملاقة التي يُعتقد أن عمر بعضها يبلغ حوالي 3000 عام. ويمكن أن تنمو هذه الأشجار حتى يصل عرضها إلى 30 قدما وارتفاعها إلى أكثر من 250 قدما.
وقد عاش البشر في الوادي منذ ما يقرب من 8000 عام. وأقدم قبيلة قطنت المنطقة من السكّان الأصليين يُطلق عليها اسم "هواهنيتشي". ولم يكن ذلك الشعب هم السكّان الوحيدون في يوساميتي، فقد عاشت فيه شعوب أخرى مثل البايوت والميوك واليوكوت وغيرهم. وقد تفاعلت هذه القبائل مع بعضها وخاضت الحروب فيما بينها وتاجرت وتزاوجت مع بعضها البعض على مرّ قرون.
في الفترة من 1850 إلى 1851، نشبت حرب بين القبائل الهندية في المنطقة، ما أدّى الى دخول أوّل بعثة من الأمريكيين غير الأصليين الى منطقة يوساميتي. وفي ربيع ذلك العام، قام بعض الهنود بمهاجمة موقع البعثة.
وكانت تصرّفات كتيبة ماريبوسا التابعة للحكومة بمثابة بداية النهاية لقبائل يوساميتي ولقبائل أخرى في كاليفورنيا. وكان للإزالة القسرية لهنود المنطقة من أراضيهم وتدمير منازلهم ومصادر غذائهم أثر مدمّر على أسلوب حياتهم. ومات الكثيرون منهم بسبب الجوع والمرض نتيجة النزوح القسري. ويُعدّ هذا الفصل المأساوي في تاريخ يوساميتي بمثابة تذكير بالآثار المدمّرة للاستعمار وإزالة الشعوب الأصلية من أراضيها.
عالِم الطبيعة الأمريكي من أصل أسكتلندي جون موير كان له دور فعّال في إنشاء متنزّه يوساميتي في عام 1890. وأدّى حبّ موير للحياة البرّية وفهمه العميق للعالم الطبيعي إلى أن يصبح واحدا من أكثر علماء الطبيعة والمحافظين على البيئة تأثيرا في عصره. ثم أصبح عضوا مؤسّسا لنادي سييرا ومدافعا قويّا عن الحفاظ على المناطق الطبيعية. وما يزال إرثه في إلهام الناس لحماية الأماكن البرّية وتقديرها مستمرّا الى اليوم.
زار جون موير يوساميتي لأوّل مرّة عام 1868. وقد أعجب بالمكان لدرجة أنه عاد إليه في العام التالي. كان موير روحا حرّة، وقد وجد عملاً كعامل مزرعة وكراعٍ مقابل 30 دولارا شهريا. وبينما كان موير يرشد قطيع أغنامه إلى مروج تولومني في سييرا نيفادا، كان يدرس النباتات والحيوانات ويرسم المناظر الجبلية. ثم سجّل لاحقا هذه التجارب في كتابه "صيفي الأوّل في سييرا".
وهذا الكتاب يعتبر بمثابة مذكّرات يومية. وهو يشبه رسالة حبّ إلى جبال سييرا نيفادا، حيث يتحدّث عن الجوانب المختلفة لجمالها ويُعرّف القارئ على تضاريسها المختلفة بأسلوب شاعري. وهو يصف الأراضي البرّية كما كانت موجودة في أواخر القرن التاسع عشر. ولم يكن أحد سوى السكّان الأصليين يعرف الجبال أفضل من موير الذي كان لديه متّسع من الوقت للتجوال والانغماس في الجبال.
هنا بضع فقرات مترجمة من كتاب جون موير عن مشاهداته وانطباعاته عن جبال سييرا ووادي يوساميتي..

  • الغابات الصنوبرية في متنزّه يوساميتي، وفي سييرا بشكل عام، تتفوّق على كلّ الغابات الأخرى من نوعها في أمريكا وحتى في العالم، ليس فقط من حيث حجم وجمال الأشجار، ولكن أيضا من حيث عدد الأنواع وعظمة الجبال التي تنمو عليها. وعندما نترك الأراضي المنخفضة العادية ونتجوّل في قلب الجبال، نجد عالما جديدا ونقف في صمت وذهول بجوار أشجار الصنوبر والتنّوب والسيكويا المهيبة، وكأننا في حضرة كائنات متفوّقة وصلت حديثا من نجم آخر، فهي هادئة ومشرقة وشبه إلهية.
  • إن الذهاب إلى الغابة هو العودة إلى الوطن، لأنني أفترض أننا أتينا في الأصل من الغابة. ولكن في بعض غابات الطبيعة، يبدو المسافر المغامر مخلوقا ضعيفا غير مرحّب به، حيث تحاول الوحوش البرّية والطقس قتله، بينما تسدّ طريقه النباتات المتشابكة المسلّحة بالرماح والإبر اللاذعة وتجعل الحياة صراعا صعبا.
  • هنا كلّ شيء مضياف ولطيف وكأنه مخطّط لإسعادك، يلبّي كلّ احتياجات الجسد والروح. حتى العواصف تبدو ودودة وتنظر إليك كأخ. وجمالها وجديّتها المصيرية الهائلة ساحرة على حدّ سواء. حتى المكفوفين يجب أن يستمتعوا بهذه الغابات ويتشمّموا عبيرها ويستمعوا إلى موسيقى الرياح في بساتينها ويلمسوا أزهارها وريشها وأقماعها وجذوعها المتعرّجة.
  • قبل بضع دقائق، كانت كل شجرة متحمّسة تنحني للعاصفة الهادرة، تلوّح وتدور وترمي أغصانها بحماس مجيد مثل العبادة. ولكن على الرغم من أن هذه الأشجار صامتة الآن بالنسبة للأذن الخارجية، فإن أغانيها لا تتوقّف أبدا.
  • في كلّ صباح، بعد موت النوم، تبدو النباتات السعيدة وكلّ مخلوقاتنا الحيوانية الكبيرة والصغيرة وحتى الصخور وكأنها تصرخ: استيقظوا، ابتهجوا، تعالوا وأحبّونا وانضمّوا إلى أغانينا!
  • هذه الأيّام الجبلية الشاسعة الهادئة تحثّ على العمل والراحة في آن! إنها أيّام يبدو كلّ شيء في ضوئها إلهيّا بنفس القدر، تفتح ألف نافذة لتُظهر لنا الله. لن يضعف أبدا أيّ شخص، مهما كان متعبا، في الطريق الذي يكتسب فيه بركات يوم جبليّ واحد. وأيّا كان مصيره، حياة طويلة أو قصيرة، عاصفة أو هادئة، فهو غنيّ إلى الأبد.
  • إن النسر المحلّق فوق جرف شديد الانحدار يذكّر بالكائنات الأخرى التي تعيش في عزلة: الغزلان في الغابة التي ترعى صغارها، والدببة القويّة ذات الفراء الجيّد، وحشد السناجب النابض بالحياة، والطيور المباركة الكبيرة والصغيرة التي تحرّك البساتين وتجّملها، وسُحب الحشرات السعيدة التي تملأ السماء بالطنين المبهج كجزء لا يتجزّأ من أشعّة الشمس الغزيرة.
  • ماذا يستطيع البشر المساكين أن يقولوا عن السُحب؟ بينما نحاول وصف قبابها الضخمة المتلألئة وتلالها وخلجانها وأوديتها المظلمة ووديانها ذات الحوافّ الريشية، فإنها تختفي دون أن تترك أيّ أنقاض مرئية. ومع ذلك، فإن هذه الجبال السماوية العابرة لا تقلّ أهميّة عن الاضطرابات الغرانيتية الأكثر ديمومة تحتها. كلاهما يتشكّلان ويموتان، وفي تقويم الله لا يوجد فرق في المدّة.


  • البحيرة مرآة مثالية تعكس السماء بنجومها والجبال بأشجارها ومنحوتاتها البديعة. وكلّ عظمتها المكرّرة والمضاعفة صورة رائعة ومؤثّرة، تبدو وكأنها تنتمي إلى السماء أكثر من الأرض. عندما نتأمّل النسيج الحريري للجداول الممتدّة فوق الجبال، نتذكّر أن كلّ شيء يتدفّق، يذهب إلى مكان ما، الحيوانات والصخور التي يُقال إنها بلا حياة، بالإضافة إلى الماء.
  • من الغريب أن يتأثّر زوّار يوساميتي قليلاً بعظمتها الجديدة، وكأن أعينهم معصوبة وآذانهم مسدودة. كان معظم من رأيتهم بالأمس ينظرون إلى أسفل وكأنهم غير مدركين تماما لأيّ شيء يدور حولهم، بينما كانت الصخور السامية تهتزّ مع نغمات المياه المتغيّرة العظيمة التي تجمّعت من جميع الجبال المحيطة، مُصدرةً موسيقى تجذب الملائكة من السماء. الربّ نفسه يبشّر بأسمى عِظاته عن الماء والحجر!
  • يبدو من المستحيل أن يتمكّن أيّ شخص من الفرار من التأثير الإلهي لهذه الغابات السرخسية المقدّسة. ومع ذلك، فقد رأيت هذا اليوم راعيا يمرّ عبر واحدة من أجمل هذه الغابات دون أن يُظهر مشاعر أكثر من مشاعر خِرافِه. الهواء هنا معطّر برائحة البلسم والراتنج والنعناع، وكلّ نفَس منها هديّة من الربّ. وأنا واقف مثل ذبابة على قبّة يوساميتي، أنظر وأرسم وأستمتع، وغالبا ما أستسلم لإعجاب صامت دون أمل واضح في تعلّم الكثير، ولكن مع الشوق والقوّة التي تكمن في داخلي.
  • بعد أن أخبرت مرافقي أنه يجب أن يكون حريصا على ألا يقتل أيّ شيء، لفت نظري لأوّل مرّة الأرنب الصغير الذي يقطع كمّيات كبيرة من نبات الترمس والنباتات الأخرى ويتركها لتجفّ في الشمس لتُستخدم كقشّ، يخزّنها في حظائر تحت الأرض لتدوم طيلة الشتاء المثلج الطويل.
    إن رؤية هذه النباتات المقطوعة حديثا والمكدّسة في أكوام هنا وهناك على الصخور لها تأثير مذهل على الحياة المزدحمة على قمّة الجبل المنعزلة. هؤلاء، صنّاع القش الصغار الموهوبون بعقول لا تختلف كثيرا عن عقولنا، الله هنا يعتني بهم، ويا له من درس.
  • إن المرء ليشعر وكأنه في مسرحية إلهية لا تنتهي. وما أعظم الخطب والموسيقى والتمثيل والمشاهد والأضواء! الشمس والقمر والنجوم والشفق القطبي. إن الخلق بدأ للتوّ ونجمة الصباح ما تزال تغنّي وكلّ أبناء الله يصرخون فرحاً.
  • إن حوض هذا النهر الشهير في يوساميتي صخري للغاية. ويبدو أنه مرصوف بقباب تشبه الشوارع الممهّدة بقطع الحصى الكبيرة. أتساءل عمّا إذا كان سيُسمح لي باستكشافه يوما ما. إنه يجذبني بقوّة، لدرجة أنني على استعداد للتضحية بأيّ شيء لمحاولة قراءته وفهمه. أشكر الله على هذه اللمحة منه. إن سحر هذه المياه الجبلية يستعصي على كلّ منطق وغامض مثل الحياة نفسها.
  • ظلال أشجار السنديان الحيّة واضحة ومميّزة بشكل خاص، وهي في غاية الأناقة والرقّة، تارةً ساكنة وكأنها مرسومة على الحجر، وتارةً تنزلق بهدوء وكأنها تخاف من الضوضاء، وتارةً ترقص وتتمايل في دوّامات سريعة ومبهجة، أو تقفز على الصخور المشمسة وتنزل منها في اندفاعات سريعة مثل تطريز الأمواج على منحدرات شاطئ البحر. كم هو حقيقي وجوهري هذا الجمال الظليل.
  • تتمتّع جبال سييرا نيڤادا بأروع طقس وألمع صخور مصقولة كالجليد وأوفر رذاذ من شلالاتها الرائعة وألمع غابات تنّوب وصنوبر فضّي وألمع نجوم وأصفى مياه. وربّما كانت أكثر بريقا من أيّ سلسلة جبلية أخرى، وبحيراتها العاكسة التي لا تُعدّ ولا تُحصى والتي يصبّ فيها المزيد من الضوء، تلتمع وتتلألأ أكثر من أيّ شيء آخر. وما أجمل اللمعان بعد زخّات المطر الصيفي القصيرة وبعد الليالي الباردة عندما تنثر شمس الصباح أشعّتها البلّورية على قمم الجبال وعلى العشب وأشجار الصنوبر.
  • بدا لي أن سييرا لا ينبغي أن تُسمّى نيڤادا أو سلسلة جبال الثلج، بل سلسلة جبال النور. وبعد عشر سنوات قضيتها في قلبها، مبتهجا ومتعجبا، مغمورا في فيضانات ضوئها المجيد ورؤية أشعّة الشمس في الصباح بين القمم الجليدية وإشراقة الظهيرة على الأشجار والصخور والثلوج، وتوهّج الجبال، وألف شلال رائع، لا تزال تبدو لي أجمل سلسلة جبال رأيتها على الإطلاق.
  • عندما تتشكّل السحب اللؤلؤية والمرمرية الرائعة لهذه العواصف في منتصف النهار، لا أهتم بأيّ شيء آخر. لا يوجد جبل أو سلسلة جبال، مهما كانت مغطّاة بفيض النور لها سحر أكثر ديمومة من تلك الجبال الهاربة من السماء.
  • كنت أسير على شواطئ بحيرة شادو عاما بعد عام دون أن أكتشف أيّ أثر آخر للإنسانية سوى بقايا نار المخيّم الهندي. ولا أشكّ في أن الوقت سيأتي عندما تُحرَث المنطقة بأكملها، ما سيؤدّي إلى ظهور مدن مزدهرة وثروات وفنون وما إلى ذلك. حينها، أفترض أنه لن يتبقّى سوى قِلّة، حتى بين العلماء، ليتأسفوا على انقراض النباتات البدائية.
  • أشعلتُ النار في جذعي صنوبر، والأشجار المجاورة تقترب من دائرتي الساحرة من النور. جذوع الأشجار تعيد ضوءها الذي جُمع ببطء من شمس مائة صيف في خلايا منقطّة وفي حبّات من صمغ العنبر. ومع تدفّق هذا الضوء، تنثال كلّ ثروات حياتها الأخرى وينظر رفاقها الأحياء إلى أسفل كما لو كانوا يشهدون موتهم المثالي والجميل.
  • ولنتذكّر أن هذه الشلالات من مياه الامطار لم تكن تدفّقات صغيرة وعابرة، بل كانت مخلوقات مائية عريضة ونبيلة وسامية في كلّ سماتها. وصخور يوساميتي الجديرة بالثناء تنطلق في رغوة كالسهام من ارتفاع يقارب ثلاثة آلاف قدم، ويمكن سماع أصغرها على بعد عدّة أميال. عاصفة مثالية من الشلالات تنبض بحياتها في أغنية واحدة مذهلة.
  • ركضتُ إلى المنزل في ضوء القمر بخطوات طويلة وثابتة، لأن حبّ الشمس جعلني قويّا. وبين أشجار العرعر والتنّوب، تتلامع بلّورات الصقيع كالنجوم في كلّ السماء أعلاها. كلّ هذا الخبز الجبليّ الضخم ليوم واحد! إنه أحد الأيّام الغنيّة الناضجة التي تطيل حياة المرء. الكثير من الشمس على جانب واحد منها، والكثير من القمر على الجانب الآخر.
  • لا يمكن لأيّ كلمات مكتوبة، مهما جُمعت معا، أن تنقل وصفا مناسبا لعظمة النهر الجليدي ونِسَبه الرائعة وشلالاته وحدائقه وزخارف الغابات والمياه الهادئة بينها والجدار الجليدي الأبيض والأزرق العظيم الممتدّ في المنتصف وقمم الجبال المكلّلة بالثلوج وراءها.
  • إنه يوم مشمس من أيّام يونيو، حيث تتمايل أشجار الصنوبر وتجد نفسك غارقا في الأعشاب والزهور. وإذا نظرت عبر الوادي والبساتين المفتوحة فسترى جدارا من الغرانيت العاري يبلغ ارتفاعه 1800 قدم يرتفع فجأة من بين النباتات الخضراء والصفراء ويسطع بأشعّة الشمس. وأمامه الخريف يلوح مثل وشاح ريشي لامع فضيّ اللون يحترق بضوء الشمس الأبيض. إنه طوفان من الهواء والماء وأشعّة الشمس نُسِج في قماش لترتديه الأرواح.
  • أثناء استيطان البلاد، كان الخبز مطلوبا أكثر من الخشب أو الجمال. وفي عمى الجوع، اعتبر المستوطنون الأوائل، الذين ادّعوا أن السماء دليلهم، أشجار الله مجرّد نوع من الأعشاب الضارّة التي يصعب التخلّص منها. وبالتالي، وبدون النظر إلى المستقبل، شنّ هؤلاء المدمّرون المتديّنون حروبا لا هوادة فيها ولا نهاية لها على الغابات.
  • كلّ المناظر الطبيعية التي في القارّة تقتل الهموم: البحيرات الجميلة المتشكّلة من الأنهار الجليدية، والجبال الشاهقة المغمورة في سماء زرقاء صافية جميلة ومغطّاة بالغابات والأنهار الجليدية، والشلالات المليئة بالطحالب والسراخس في جوفها والتي لا اسم لها ولا عدد، والحدائق المروجية التي تزخر بالأفضل من كلّ شيء. أعطِ شهرا على الأقل لهذا الاحتياطي الثمين. لن يُؤخذ وقت من مجموع حياتك. بدلاً من تقصيرها، سيطيلها إلى أجل غير مسمّى وسيجعلك خالدا حقّا.
  • الآن يأتي الغسَق، يتلاشى لمعان الجبال متحوّلا إلى ظلام ترابي قاتم. لكن لا تدع عادات مدينتك تجذبك بعيدا إلى الفندق. إبقَ على جبل النار الجميل هذا واقضِ الليل بين النجوم، وشاهد بريقها المجيد حتى الفجر. ولسوف تتذكّر هذه المناظر البرّية الجميلة وتنظر بفرح إلى تجوالك في بلاد العجائب القديمة المباركة في "يلوستون".

  • Credits
    gutenberg.org
    albertbierstadt.org

    الخميس، سبتمبر 19، 2024

    بريدجمان: الرحلة الجزائرية


    تأثّر الفنّان الأمريكي فريدريك بريدجمان كثيرا بثقافات وطبيعة الجزائر التي زارها بشكل متكرّر في أواخر القرن التاسع عشر. وغالبا ما تعكس أعماله رؤية رومانسية لطبيعة شمال إفريقيا، بالتقاطها التفاعل الفريد بين الضوء والظلّ الذي يميّز المنطقة.
    وقد اتّسمت الفترة التي قضاها بريدجمان في الجزائر بتحوّلات تاريخية وثقافية كبيرة. إذ كانت البلاد واقعة تحت الحكم الفرنسي منذ عام 1830، مع ما نتج عن ذلك من تغييرات ديموغرافية واجتماعية وسياسية كبيرة. وقد سّافر الرسّام على نطاق واسع في الجزائر وتوفّرت له تجارب مباشرة أثّرت على فنّه. وغالبا ما تصوّر لوحاته الحياة المحلية والهندسة المعمارية والبيئة الطبيعية وما الى ذلك.
    كان وقت بريدجمان في الجزائر مزيجا من الاستكشاف الفنّي والتفاعل الثقافي وتأثيرات الاستعمار. وهو نفسه كان جزءا من الحركة الاستشراقية الأوسع، حيث صوّر الفنّانون الغربيون موضوعات ترتبط بثقافات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
    أعمال بريدجمان الجزائرية ساعدت في ترسيخ مكانته كشخصية بارزة في الفنّ الأمريكي وكمفسّر مهم لبيئات شمال أفريقيا في الفنّ الغربي. وبشكل عام، أثّرت تجربته في الجزائر على ممارسته الفنيّة وشكّلت حياته المهنية، ما سمح له بإنشاء أعمال ثريّة بصريّا وذات صدى ثقافي واضح.
    وقد ألّف بريدجمان كتابا لخّص فيه بعض جوانب تجربته في الجزائر وتناول بعض مشاهداته وانطباعاته أثناء زياراته لذلك البلد. هنا فقرات مترجمة من الكتاب..

    ❉ ❉ ❉

  • مهما كان شكل البيت العربي، لابدّ أن يتضمّن فناءً مربّعا، وفي بعض الأحيان يكون هناك نافورة في الوسط وأعمدة تحيط بالفناء وتدعم الأعمدة الأصغر، عمود واحد في كلّ زاوية وبينها درابزين مزخرف. الطابق العلوي على شكل أقواس حدوة الحصان، ويتكرّر نفس العدد من الأعمدة والأقواس لدعم السقف، ثم تُبنى الغرف بكلّ الأشكال التي يمكن تصوّرها لتناسب راحة المالك وتضمن الاستفادة القصوى من كلّ شبر من الأرض.
  • عندما استأجرنا غرفنا في الفندق، لفت انتباهنا مجموعة من العرب في ساحة الأسلحة الواسعة المفتوحة والمزروعة بالأشجار والتي تقع قبالة نوافذنا. وأمام محلّ الجِزارة العربي، بجوار مقهى، كان قد سُلخ أسدان قُتلا مؤخّرا في الجوار ونُظّف وقُشّر جلداهما اللذان كانا ما يزالان ساخنين. ومن المؤسف أن جثّتيهما قُطّعتا، وإلا لكانت فرصة نادرة لدراسة علم تشريحيهما. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر، اختفت الأسود وغيرها من الوحوش الشرسة تقريبا. ولا تزال المنطقة محاطة بالغابات والتلال حيث يمكن رؤية معظم الأسود وصيدها.
  • يشكّل بنو مْزَاب، أو المْزابيون، مجموعة إثنية منفصلة تقيم شمال الصحراء الكبرى بولاية غرداية. وهم أمازيغ من عشيرة زناتة ومسلمون على المذهب الإباضي. وتواجدهم في تلك المنطقة يعود إلى العصر الحجري. والمزابيون من صنّاع المال ويمارسون التجارة على نطاق واسع في جميع أنحاء المستعمرة. والعرب الآخرون ينفرون منهم بقدر ما ينفرون من اليهود بسبب ادّخارهم واجتهادهم. وهم يرتدون زيّا مختلفا، عبارة عن ثوب واحد يسمى القندورة، وهو مربّع الشكل بلا أكمام ويصل إلى الركبتين، مع فتحتين كبيرتين للذراعين وفتحة واحدة للرأس.
  • وطموح المزابي هو أن يصبح ثريّاً وأن يعود إلى موطنه الأصلي الذي يقع على بعد أكثر من مائة ميل ويمثّل في حد ذاته نهاية كلّ شيء. ويتطلّب الوصول اليه رحلة شاقّة تستغرق أربعة أو خمسة أيّام في الصحراء. والبلد الذي يتوق المزابي إلى الوصول إليه ويأمل أن ينهي أيّامه فيه هو واحد من أغرب المناطق على وجه الأرض. فهو أكثر بقاع الصحراء جفافاً واحتراقاً، وتحيط به واحة تشبه شبكة هائلة من الصخور وقشور الكهوف السوداء. ويبدو المكان بعيداً للغاية وطموح المزابيين غير مبرّر إلى الحدّ الذي يجعل المرء يتذكّر حكايات ألف ليلة وليلة.


  • عندما ذهبت لزيارة صديقنا بلقاسم وعائلته في بيتهم، كان المطر يتدفّق غزيرا في الفناء المفتوح لمسكنه. وكان أطفاله الخمسة يقفون على أقدامهم العارية مثل الدجاج المبلّل الحزين. وكانت أمّهم تحمل طفلا رضيعا بين ذراعيها. منازل الطبقات الدنيا من اليهود، مثل بلقاسم، متواضعة عموما. حتى الأرضيات والجدران المصنوعة من البلاط المزجّج، والتي يسهل غسلها، تختفي تماما تحت الأوساخ المتراكمة.
    والفوضى في غرف المعيشة لا يمكن وصفها. والتعويض عن هذا العنصر المثير للتعاطف هو استقبال الغرباء بأدب والسماح للفنّانين برسم اسكتشات في أيّ جزء من مساكنهم والتي تختلف قليلاً عن البيوت العربية. وقد جرت العادة أن تُترك الأبواب مفتوحة على مصاريعها وأن تعيش عدّة عائلات في غرف مختلفة تطلّ على الفناء.
  • رأينا جماعة من الناس يقومون بالعديد من حيل السحر التي تُسعد الناظرين، كالوقوف والاستلقاء على حدّ السيف وحمل الجمر المشتعل في أفواههم وحرق وجوههم وأذرعهم الى أن تنبعث منها رائحة اللحم. وأخيرا الحيلة "إن جاز أن نسمّيها حيلة"، وهي التهام أرنب حيّ بشعره ولحمه. ويشارك في هذه الوجبة الفاخرة عربيّان يعضّان الحيوان المسكين بشكل محموم مثل الذئاب ويمزّقانه بأسنانهما وأيديهما وفمهما وأصابعهما التي تفوح منها رائحة دماء الأرنب الساخنة، والذي لا يزال يحاول عبثاً الفرار من بين أيديهما.
  • كان العرب من ذوي الدخل المتوسّط الذين لم يكن بوسعهم شراء فيلات وحدائق كبيرة، يُسكنون زوجاتهم في غرف صغيرة في المدينة. وبسبب دوافع الغيرة أو العيب، لا يُسمح للنساء برؤية ضوء الشارع المفتوح. وبسبب افتقارهنّ إلى التمارين الرياضية، أصبحن بديناتٍ إلى الحدّ الذي جعلهنّ لا يستطعن التحرّك إلا بصعوبة بالغة. وتُعَد السمنة من مظاهر الجمال عند العرب. لكن بصرف النظر عن ذلك، فقد كانت النساء يعانين من عدد من الأمراض والأسقام الناجمة عن الحبس الضيّق.
  • أدرنا ظهورنا للمناظر الطبيعية الجبلية ودرجات الحرارة، وانغمسنا في النباتات الاستوائية. كانت أشجار اللوز والبرتقال والليمون تحيط بالفندق الذي استُقبلنا فيه لتناول الإفطار. لكن الإحساس الذي تغلّب حتى على جوعنا كان متعة تمديد أجسادنا التي أُنهكت لطول ما حُشرنا داخل عربة ضيّقة وعلى وسائد جلدية غير مريحة. ركضنا في ضوء الشمس الساطع ورأينا بحرا من أشجار النخيل التي تشكّل كتلة خضراء داكنة تسرّ العين، وقد أحاطت بالصحراء الصخرية التي تنوء تحت درجة حرارة لاهبة.
  • كانت الأيّام الأولى من شهر مايو تُنذر بدرجة حرارة الصيف المرهقة التي بدأت في إضعاف طاقاتنا واجتهادنا بعد ما عانيناه من ضيق وتعب خلال الشهرين الماضيين. ولكننا كنّا متردّدين في ترك الحياة الهادئة السهلة في الصحراء، متأثّرين بمثال العرب في التمتّع بالوجود ورعاية أنفسهم. فطوينا أدوات الرسم، وفي الساعة الثانية صباحا، وهو وقت تكون فيه الحرارة خانقة بالفعل، أدرنا ظهورنا للواحة النائمة وبدأنا في تسلّق الطريق الطويل إلى جانب الجبل بصعوبة.
  • أبدى فنّان مشهور وصاحب مقهى معروف بكونه ملاذا لمدخّني الحشيش اهتماما معيّنا باسكتشاتي، لكنه أكّد لي أن جهوده في الرسم كانت مصحوبة بصعوبات أكبر بكثير من تلك التي مررت بها، بينما لفت انتباهي إلى نتاجاته الأخيرة على الجدران البيضاء. كان كلّ شيء مرتّبا لإسعاد المدخّنين: حصائر جديدة وطاولات صغيرة عليها جرار زجاجية زرقاء كبيرة تحتوي على ماء وأسماك ذهبية، وأوانٍ ذات أشكال مختلفة مملوءة بالزهور والنباتات، وأعمدة محاطة بشرائط وورق ملوّن مقصوص بتصاميم خيالية.
  • في بداية شهر رمضان كانت الأمسيات تغري السكّان بالخروج من منازلهم وكانت المقاهي تكتظّ بالرجال الذين وضعوا برانيسهم جانباً أو تركوها في المنزل، والذين كانوا يدخّنون ويغنّون ويصفّقون للموسيقيين والراقصين. وكان الأخيرون من الصبية أو النساء الذين يؤدّون عروضاً في الجزء الخلفي من المقاهي المضاء بشكل غريب. وكان قد أُعيد تزيين هذه المنتجعات بلوحات بدائية للسفن والقاطرات والأسود والطيور للاحتفال الكبير بشهر رمضان الذي بدأ للتوّ.

  • Credits
    frederickarthurbridgman.org
    archive.org

    الثلاثاء، سبتمبر 17، 2024

    إطلالة على عالم بورخيس


    كان خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) أحد أبرز كتّاب أمريكا اللاتينية وأحد أهم الرواة والشعراء في القرن العشرين والكاتب الأرجنتينيّ الأكثر عالميةً.
    "كتاب الرّمل" كان أوّل ما قرأت له، ثم كتاب "الأَلِف وقصص أخرى". وقد أحببت لغته وسرده البديع ومزجه الرائع بين الخيال والفلسفة والسوريالية وما يُسمّى بالواقعية السحرية. وفيما بعد توسّعت قراءتي له بعض الشيء، وصرت أتابع مقابلاته (وبعضها ذات قيمة أدبية كبيرة)، وتوقّفت عند أحاديثه عن الذاكرة وطبيعة الواقع والأحلام والزمن، وكذلك رؤاه المدهشة والمبثوثة في كتاباته عن دلالات المرايا والممرّات والمتاهات الأدبية. وأعجبني خاصّة تأثّره الواضح بالأدب العربي، وخاصّة كتاب ألف ليلة.
    من الأفكار التي كان بورخيس مفتونا بها فكرة التكرار الدائري للتاريخ والطبيعة الهذيانية للعالم. كتب ذات مرّة يقول:
    في مرحلة ما من الماضي أو المستقبل، سأولد من نفس الوالدين مرّة أخرى. وسيُمسك والدي بيدي مرّة أخرى بينما نتجوّل في سوق الأزهار. وسيعلّمني زوج أمّي كيف أشكّل قلائد من الخرَز بينما نجلس على سجّادة بيضاء. وستأخذني أمّي مرّة أخرى إلى أماكن بعيدة كلّ صيف وننطلق إلى الصحراء على حصان عربيّ أسود.
    سأكره المدرسة مرّة أخرى، وسأرسب في كلّ الموادّ الدراسية مرّة أخرى، وسأتعرّض للخيانة من قبل أعزّ أصدقائي. سيدخل كلب إلى حياتي وسأسمّيه "جوي" ولن أحبّ كلبا آخر بهذه الطريقة مرّة أخرى.
    سأشتري طاولة زرقاء صغيرة لأعمل عليها، وأفعل مرّة أخرى كلّ الأشياء التي أقسمت أنني لن أفعلها أبدا وأترك كلّ شيء من أجل الحب. سأجد طريقي إلى كاليفورنيا وأقرّر بألم وبلا هوادة أنها وطني."
    ويكتب في نصّ آخر:
    لا يوجد شيء أستطيع كتابته لم يُكتَب من قبل. ولا شيء أستطيع طهيه أو أكله أو فعله أو قوله أو حتى التفكير فيه. الأمر لا يقتصر على أن كلّ هذا قد تمّ، بل إنني أخشى أن يكون كلّ هذا قد تمّ من قِبَلي، من قِبَل نسخ سابقة منّي. فأنا لست حتى النسخة الأصلية".
    عندما كان بورخيس في الخامسة عشرة من عمره، اضطرّ والده إلى التقاعد بسبب ضعف بصره، وانتقلت الأسرة إلى جنيف حتى يتمكّن والده من استشارة طبيب عيون. وفي جنيف اكتشف بورخيس الأدب الرمزي الفرنسي وشوبنهاور ووالت ويتمان، بل وكوّن بعض الصداقات الأدبية. وعندما بلغ العشرين من عمره، عادت الأسرة إلى بوينس آيرس، ونُشرت مجموعته الأولى بعد بضع سنوات.
    وبعد فترة، تبيّن أن العمى الذي أصاب والده كان وراثيّا. وفي العشرينات من عمره، خضع بورخيس لأوّل عملية جراحية من بين عمليات عديدة لإزالة إعتام عدسة العين، لكن لم تنجح أيّ منها. وبحلول ذلك الوقت كان قد فقد بصره تماما، ومن هنا جاء تعليقه: أتحدّث عن سخرية الله الرائعة عندما منحني في وقت ما 800 ألف كتاب والظلام."
    كانت إصابة بورخيس بالعمى أحد الأسباب التي دفعته للعودة إلى الشعر، وهو الشكل الذي يسهل تأليفه بالكامل في الرأس والاحتفاظ به في الذاكرة. وفي مقابلة معه قال: هناك تطهير في العمى. إنه يطهّر المرء من الظروف المرئية. تضيع الظروف، ويصبح العالم الخارجي - الذي يحاول دائما الاستيلاء علينا - أضعف."
    بعد انتخاب خوان بيرون رئيسا للأرجنتين عام 1946، عُيِّن بورخيس "مفتشاً للدواجن والأرانب!" في الأسواق العامّة، عقابا له على سلسلة المقالات السياسية التي كان يكتبها في انتقاد صعود الفاشيّة. كان ليبرالياً مناهضاً للفاشية، ولكنه كان أيضا مناهضاً للشيوعية. وسرعان ما طُرد من وظيفته. وقد قال واصفا ما حدث: إن الدكتاتوريات تشجّع على الخضوع وعلى القسوة. والأمر الأكثر بشاعةً أنها تشجّع على الغباء. ومحاربة هذه الرتابة الحزينة هي واحدة من الواجبات العديدة التي تقع على عاتق الكتّاب".
    كان بورخيس معجبا كثيرا بالمرايا وخائفا منها في نفس الوقت. وربّما من المستحيل تحديد سبب واحد وراء هذا. وقد ذكر أكثر من مرّة أنه كان مهتمّا بالمرايا منذ صغره. يقول: هناك شيء فظيع في المرايا. في إحدى قصص إدغار آلان بو، يصل البطل إلى المنطقة القطبية الجنوبية، حيث يوجد أشخاص يرون أنفسهم في المرآة ثم يُغمى عليهم. أي أنهم يدركون أن المرآة شيء رهيب. ولا شكّ أن "بو" شعر هو بذلك لأن له مقالا يتحدّث فيه عن كيفية تزيين الغرفة وتجنّب وضع مرايا فيها بطريقة تجعل الشخص الجالس يبدو مكرّرا".
    ولبورخيس قصيدة عنوانها "المرايا" يقول فيها: أنا الذي شعرت برعب المرايا، أسأل نفسي ما هو القدَر الذي جعلني خائفا جدّا من المرآة اللامعة. لقد خلق الله الليل وزوّده بالأحلام والمرايا، ليجعل الإنسان يدرك أنه مجرّد انعكاس وغرور، ومن هنا ربّما جاءت هذه المخاوف".
    ذات مّرة زاره صحفيّ ليجري معه مقابلة. ووصفه بقوله: عندما يدخل بورخيس المكتبة، مرتدياً قبّعة وبدلة رمادية داكنة تتدلّى بشكل فضفاض من كتفيه، يتوقّف الجميع عن الحديث للحظة، ربّما من باب الاحترام، أو من باب التعاطف مع رجل شبه أعمى.
    مشيته متردّدة، ويحمل عصا يستخدمها مثل عصا العرّافة. ملامحه غامضة خفّفها تقدّم العمر ومحاها جزئياً شحوب بشرته. صوته غير واثق، أشبه ما يكون بالطنين، إيماءاته وتعبيراته خاملة، وجفنه متدلٍ لا إراديّاً. ولكن عندما يضحك، وكثيرا ما يفعل، تتجعّد ملامحه إلى ما يشبه علامة استفهام ساخرة.
    ويضيف: بورخيس يتميّز بفصاحته وأسلوبه المميّز في الكلام. وتتخذ أغلب عباراته شكل أسئلة بلاغية. ولكن عندما يطرح سؤالاً حقيقياً، فإنه يُظهِر فضولاً شديدا ثم عدم تصديق مثيرا للشفقة.
    لكن بورخيس خجول في المقام الأوّل. فهو منعزل ويتجنّب التصريحات الشخصية قدر الإمكان ويجيب بطريقة غير مباشرة على الأسئلة التي تدور حول نفسه بالحديث عن كتّاب آخرين، مستخدماً كلماتهم وكتبهم كرموز لفكره هو".


    هناك روائيون تتردّد في كتاباتهم أصداء من بورخيس، من حيث التشابه في الأسلوب وفي تناول نفس الموضوعات، كالخيال الميتافيزيقي والبُنى السردية المبتكرة والمزج بين الخيال التاريخي والسرد المعقّد والموضوعات الفكرية واستكشاف الذاكرة والحالة الإنسانية والأفكار الوجودية والعبثية. ومن أهم هؤلاء غارسيا ماركيز وإيتالو كالفينو وخوليو كورتازار وفرانز كافكا وأومبرتو إيكو وغيرهم.
    قضى بورخيس جزءاً كبيراً من شبابه في جنيف، ثم عاد إليها في نهاية حياته. وفي يونيو 1986، توفّي عن عمر يناهز 86 عاما بعد إصابته بسرطان الكبد، ودُفن في مقبرة الملوك في جنيف.
    الفقرات التالية هي عبارة عن مجموعة مختارة من بعض عبارات بورخيس المستقاة من كتبه ومن الحوارات والمقابلات التي أجريت معه في أوقات متفرّقة وضمّنها بعض تصوّراته وأفكاره عن الأدب والفنّ والحياة..

  • باستثناء الإنسان، كلّ المخلوقات خالدة، لأنها تجهل الموت.
  • لا أتحدّث عن الانتقام أو التسامح، فالنسيان هو الانتقام الوحيد والغفران الأوحد.
  • ارتكبت أسوأ خطيئة يمكن أن يرتكبها المرء. لم أكن سعيدا.
  • هذا العالم غريب جدّا لدرجة أن أيّ شيء يمكن أن يحدث أو لا يحدث. كوني "لاأدريّا" يجعلني أعيش في عالم أكبر وأكثر روعة وغموضا تقريبا، ويجعلني أكثر تسامحا.
  • لست متأكّداً من أيّ شيء، لا أعرف أيّ شيء. هل يمكنك أن تتخيّل أنني لا أعرف حتى تاريخ وفاتي؟!
  • كلّ ما يحدث لنا، حتى إذلالنا ومصائبنا وعارنا، كلّ شيء إنّما يُعطى لنا كمادّة خام مثل الطين، حتى نتمكّن من تشكيل فنّنا.
  • نحن نقبل الواقع بسهولة، ربّما لأننا نشعر أنه لا يوجد شيء حقيقي.
  • ليفتخر الآخرون بعدد الصفحات التي كتبوها. أنا أفضّل التباهي بما قرأته.
  • لست متأكّدا من وجودي في الواقع. أنا كلّ الكتّاب الذين قرأتهم، وكلّ الأشخاص الذين قابلتهم، وكلّ النساء اللاتي أحببتهن، وكلّ المدن التي زرتها. كلّ ما نواجهه طوال حياتنا ينتهي به الأمر إلى أن يصبح جزءا منّا.
  • الأبوّة والمرايا مكروهة لأنهما تُضاعفان عدد البشر.
  • ما تقدّره حقا هو ما تفتقده، وليس ما لديك.
  • في حياتي القادمة سأحاول ارتكاب المزيد من الأخطاء.
  • الشعراء مثل العميان يستطيعون الرؤية في الظلام.
  • أسوأ متاهة ليست ذلك الشكل المعقّد الذي يمكن أن يحاصرنا إلى الأبد، بل هو خطّ مستقيم واحد ودقيق.
  • عندما يموت الكتّاب يصبحون كُتبا، وهذا في نهاية المطاف ليس تجسيدا سيّئا.
  • إن كنتُ غنيّا بشيء، فبالحيرة لا باليقين.
  • لقد وقّعت على العديد من النسخ من كتبي. وفي اليوم الذي أموت فيه، ستكون للنسخ التي لا تحمل توقيعي قيمة أكبر.
  • عليك أن تكون حذرا عند اختيار أعدائك، لأنك في النهاية ستشبههم.
  • نحن ذاكرتنا، ذلك المتحف الوهمي للأشكال المتقلّبة، تلك الكومة من المرايا المكسورة.
  • الموت هو الحياة التي نعيشها. والحياة هي الموت الذي يأتي.
  • دع كلّ رجل يبني كاتدرائيته الخاصّة. لماذا نعيش على أعمال الآخرين وعلى الأعمال الفنّية القديمة؟
  • عادة البحث عن المعنى في الكتب هي عادة خرافية وعبثية، تشبه البحث عن المعنى في الأحلام أو في الخطوط الفوضوية للأيدي.
  • هناك هزائم أكثر كرامة من النصر.
  • هناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا طيور، وهناك من لا يستطيع أن يتخيّل عالماً بلا ماء. أما أنا فلا أستطيع أن أتخيّل عالماً بلا كتب.
  • لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة.
  • رأيت كلّ مرايا الأرض ولم يعكسني أيّ منها.
  • لا يوجد شيء في العالم ليس غامضا. ولكن الغموض يظهر في أشياء معيّنة أكثر من أخرى: في البحر، في عيون المسنّين، في اللون الأصفر وفي الموسيقى.
  • ننسى أننا جميعا أموات نتحدّث مع أموات.
  • كرة القدم تحظى بشعبية لأن الغباء شائع.
  • الحقيقة المركزية في حياتي كانت وجود الكلمات وإمكانية نسج تلك الكلمات وتحويلها الى شعر.
  • لا أستطيع أن أسير في الضواحي في عزلة الليل دون أن أفكّر في أن الليل يسعدنا لأنه يقمع التفاصيل الخاملة، كما تفعل ذاكرتنا.
  • أنا قارئ مستمتع، ولم يسبق لي أن قرأت كتابا لمجرّد أنه قديم. أقرأ الكتب لما تقدّمه لي من مشاعر جمالية وأتجاهل التعليقات والانتقادات.
  • أودّ أن أكون كاتبا آخر غير بورخيس. فأنا لا أحبّ ما أكتب. ولو كنت أكثر حذرا لقرأت أكثر ولما أرتكبت حماقة الكتابة.
  • من بين جميع أدوات الإنسان، الأداة الأكثر روعةً هي بلا شك الكتاب. أما الأدوات الأخرى فهي امتدادات لجسده. فالمجهر والتلسكوب هما امتدادان لبصره. والهاتف امتداد لصوته، ومن ثم لجسده. والمحراث والسيف امتدادان لذراعه. لكن الكتاب شيء آخر مختلف، الكتاب امتداد للذاكرة والخيال.
  • لم أقرأ كتابا واحدا من كتبي، ولا كتابا واحدا كُتب عنّي. ولو أعدت قراءة أعمالي، فقد أشعر بالإحباط.
  • إزرع حديقتك الخاصّة وزيّن روحك بدلاً من انتظار شخص ما ليحضر لك الزهور.
  • المستقبل لا مفرّ منه، لكنه قد لا يحدث. الله يكمن في الفجوات.
  • هل نحن جميعا عالقون في تعلّم نفس الدروس حتى بعد أن تعلّمناها، ومضطرون إلى التسامح مع نفس الأشخاص الذين لن نفهمهم أبدا، ومعتادون على أن نسافر إلى نفس الأماكن كما لو كانت أماكن جديدة؟!
  • لا أشرب الخمر ولا أدخّن ولا أستمع إلى الراديو ولا أتعاطى المخدّرات. أودّ أن أقول إن رذائلي الوحيدة هي دون كيشوت والكوميديا الإلهية.
  • كان والدي يعتقد أن علم النفس علم تافه للغاية. لا أفهم الأشخاص الذين يزعمون أنهم أتقنوا علم النفس. وأشعر بالشفقة عليهم لاهتمامهم بذواتهم إلى هذا الحدّ وبتحليل أنفسهم. أنا بالكاد أعرف نفسي، لا أحد يعرفني.
  • الشعر الجيّد لا يجوز أن يُقرأ بصوت منخفض أو بصمت.
  • ليست هناك حاجة لبناء متاهة عندما يكون الكون بأكمله متاهة.

  • Credits
    borges.pitt.edu

    الأحد، سبتمبر 15، 2024

    حياة مع بيكاسو


    في مذكّراتها بعنوان "الحياة مع بيكاسو"، تروي الرسّامة الفرنسية فرانسواز جيلو جوانب من قصّتها مع الرسّام بابلو بيكاسو الذي تزوّجته وعاشت معه عشر سنوات أنجبا خلالها ولدا وبنتا.
    عندما التقى الإثنان لأوّل مرّة، كانت جيلو شخصيّة مستقلّة تماما. كانت تبلغ من العمر 21 عاما فقط، بينما كان بيكاسو في الـ 61. وكانت والدتها قد علّمتها تقنيات الرسم بالألوان المائية.
    كتبت جيلو مذكّراتها عن علاقاتها ببيكاسو بعد طلاقهما، وأحدثت تلك المذكّرات ضجّة، ليس فقط بسبب رواية جيلو الصريحة لعلاقتها التي استمرّت عشر سنوات مع الفنّان العصبي، بل أيضاً بسبب الدعاوى القضائية الثلاث التي رفعها بيكاسو عليها وخسرها جميعا في محاولته منع نشر كتابها. وتوصّلت المحكمة الى أن الكتاب بعيد عن تشويه سمعة الرسّام الكبير لأنه يصوّره "كرجل يتمتّع بثراء داخلي مذهل وشخصية جذّابة للغاية".
    كان ردّ فعل بيكاسو عصبيّا كما هو متوقّع، فقطَع كلّ علاقة له بجيلو وبطفليها منه. ثم شرع في تدمير مسيرتها الفنّية، فتحدّث عنها بالسوء في كلّ مكان ورفض عرض أعماله في أيّ معرض للوحاتها. وقد تسبّب الكتاب أيضا في استعداء مجموعة من أصدقاء بيكاسو والمقرّبين منه، فقاموا بحرق نُسخ منه في حفلاتهم معتبرين بيكاسو العبقريّ الوحيد في القرن العشرين.
    وبالرغم من ذلك، حظيت المذكّرات باستقبال جيّد للغاية وأصبحت من أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم. وبعد الانفصال، واصل بيكاسو وأصدقاؤه المؤثّرون شنّ حرب على جيلو في الدوائر الفنّية والفكرية الفرنسية، ما أجبرها في النهاية على مغادرة فرنسا والاستقرار في الولايات المتحدة، حيث أعادت بناء حياتها ومسيرتها المهنية واستمرّت في الرسم حتى وفاتها عام 2023 عن عمر ناهز الـ 101 عام.
    هنا بضع فقرات مترجمة من مذكّرات فرانسواز جيلو عن فنّها وعن حياتها مع بيكاسو..

    ❉ ❉ ❉

  • لا أحد لا يستغني عن الآخرين. أنت تتخيّل أنك ضروري للشخص الآخر وأنه سيصبح تعيسا للغاية إذا تركته. لكن تأكّد أنك إذا تركته، فخلال ثلاثة أشهر سيكون قد وضع مكانك شخصا آخر وسترى أن لا أحد سيعاني بسبب غيابك. يجب أن تشعر بالحرّية في فعل ما تشعر أنه الأفضل لك. أن تكون ممرّضا لشخص ما ليست الطريقة المثلى للعيش، إلا إذا كنت غير قادر على فعل أيّ شيء آخر.
  • أخبرني بابلو في أوّل ظهيرة زرته فيها بمفردي في فبراير 1944 أنه شعر أن علاقتنا ستجلب النور إلى حياتنا. قال إن مجيئي إليه بدا وكأنه نافذة مفتوحة وأراد أن تظلّ مفتوحة. لقد فعلت ذلك أيضا طالما سمحت للضوء بالدخول.
    وعندما لم يعد الأمر كذلك، أغلقتها على غير رغبة منّي. ومنذ تلك اللحظة، أحرق هو كلّ الجسور التي ربطتني بالماضي الذي شاركتُه معه. لكنه أيضا دفعني لاكتشاف نفسي وبالتالي البقاء على قيد الحياة. لذا لن أتوقّف أبدا عن الامتنان له على ذلك.
  • أرسم مثلما يكتب بعض الناس سيرتهم الذاتية. فاللوحات، سواءً أكانت مكتملة أم لا، هي صفحات يوميّاتي. ولديّ انطباع بأن الزمن يمضي بسرعة. فأنا أُشبه نهرا متدفّقا يجرّ معه الأشجار التي تنمو على مقربة من ضفّتيه أو العجول الميّتة التي قد يلقيها الناس فيه أو أيّ نوع من الميكروبات التي تنمو فيه.
    وفي بعض لوحاتي أستطيع أن أقول بكلّ تأكيد إن الجهد قد وصل إلى ثقله الكامل ونتيجته، لأنني تمكّنت هناك من إيقاف تدفّق الزمن من حولي. لديّ وقت أقلّ وأقلّ، ومع ذلك لديّ المزيد والمزيد لأقوله، وما لديّ لأقوله له علاقة بما يحدث في حركة فكري. لقد وصلت إلى اللحظة التي أصبحت فيها حركة فكري تثير اهتمامي أكثر من الفكر نفسه.


  • أخبرني بابلو مرّة أنه من الآن فصاعدا، فإن كلّ ما أفعله وكلّ ما يفعله له أهميّة قصوى، وأيّ كلمة تقال أو أدنى لفتة ستكتسب معنى. وكلّ ما يحدث بيننا سوف يغيّرنا باستمرار. ثم قال: لهذا السبب، أتمنّى لو أستطيع إيقاف الوقت في هذه اللحظة وإبقاء الأشياء عند هذه النقطة بالضبط، لأنني أشعر أن هذه اللحظة هي البداية الحقيقية.
    إن لدينا كمية محدّدة من الخبرة تحت تصرّفنا. وبمجرّد أن تدور الساعة الرملية، سيبدأ الرمل في النفاد. وبمجرّد أن يبدأ، لا يمكن أن يتوقّف حتى يختفي كلّه. لهذا السبب أتمنّى لو كان بإمكاني إيقافه في البداية.
  • قال بيكاسو: يجب أن نقوم بأقلّ قدر من الإيماءات، وأن ننطق بأقلّ قدر من الكلمات، بل ونرى بعضنا البعض بأقلّ قدر ممكن، إذا كان من شأن هذا أن يطيل الأمور. نحن لا نعرف مقدار كلّ شيء أمامنا، لذلك يتعيّن علينا اتخاذ أقصى الاحتياطات حتى لا ندمّر جمال ما لدينا. كلّ شيء موجود بكمّية محدودة، وخاصّة السعادة.
    وإذا كان الحبّ سيأتي، فكلّ شيء مكتوب في مكان ما، وكذلك مدّته ومحتواه. إذا كان من المفترض أن تحتفظ أجنحة الفراشة بلمعانها، فلا يجب أن تلمسها. لا يجب أن نسيء استخدام شيء من شأنه أن يجلب الضوء إلى حياتنا. كلّ شيء آخر في حياتي يثقلني ويحجب الضوء. ويبدو هذا الشيء معك وكأنه نافذة تنفتح، وأريدها أن تظلّ مفتوحة".
  • ذات يوم عندما ذهبت لرؤية بيكاسو، كنّا ننظر إلى الغبار المتراقص في شعاع من ضوء الشمس المتسلّل عبر إحدى النوافذ العالية. وقال لي: لا أحد له أيّ أهميّة حقيقية عندي. بالنسبة لي، الأشخاص الآخرون يشبهون تلك الذرّات الصغيرة من الغبار التي تطفو في ضوء الشمس. لا يتطلّب الأمر سوى دفع المكنسة حتى تخرج.
    وأخبرته أنني لاحظت كثيرا في تعاملاته مع الآخرين أنه يعتبر بقيّة العالم مجرّد ذرّات صغيرة من الغبار. ثم قلت لنفسي: أنا أيضا ذرّة صغيرة من الغبار، لكني موهوبة بالحركة المستقلّة ولا أحتاج بالتالي إلى مكنسة. يمكنني الخروج من تلقاء نفسي.
  • قصص بابلو العديدة وذكرياته عن أولغا وميري تيريز ودورا مار، فضلاً عن وجودهنّ المستمر في حياتنا معا، جعلتني أدرك تدريجيّا أنه كان يعاني من نوع من عقدة اللحية الزرقاء التي جعلته يرغب في قطع رؤوس جميع النساء اللواتي جمعهنّ في متحفه الخاص.
    لكنّه لم يقطع الرؤوس بالكامل، بل فضّل أن تستمرّ الحياة وأن تظلّ كلّ هؤلاء النساء اللواتي شاركن حياته في لحظة أو أخرى يطلقن صيحات الفرح أو الألم ويتصرّفن ببعض الإيماءات مثل الدمى المفكّكة، فقط لإثبات أن هناك بعض الحياة المتبقية فيهن، وأنها معلّقة بخيط، وأنه يمسك بالطرف الآخر من الخيط. من وقت لآخر، كنّ يقدّمن جانبا فكاهيا أو دراميّا أو مأساويّا للأشياء، وكان هذا كلّه مادّة خامّا لمطحنته.
    وعندما سُئل مرّة عن أسباب انفصالنا بعد أن تركته قال: في كلّ مرّة أغيّر فيها زوجتي، يجب أن أحرق آخر زوجة. بهذه الطريقة سأتخلّص منهن. لن يكنّ موجودات الآن لتعقيد حياتي. ربّما سيعيد ذلك شبابي أيضا. أنت بقتلك المرأة، تمحو الماضي الذي تمثّله.
  • عندما سمع بيكاسو عن نيّتي زيارة محترف الرسّام بيير بونار انفجر غاضباً وأثار ذلك جدالاً كبيراً بيننا. قال إنه يكره بونار ولا يريدني أن أزوره. فأجبته بأن من حقّي أن أفعل ما أشاء من دون إذنه. لكن الجدال احتدم أكثر، وفي النهاية رضخت لرأيه.
  • ذات يوم، أخذ بيكاسو السيغارة التي كان يدخّنها ووضعها على خدّي الأيمن وأمسك بها هناك. كان يتوقّع منّي أن أبتعد عنه، لكنني كنت عازمة على عدم إرضائه. وقد خلّد بيكاسو، بطريقة لا تخلو من ساديّة ذكرى ذلك الحدث من خلال لوحته "المرأة ذات القلادة الصفراء" (1946)، والتي أظهرُ فيها وعلى خدّي ما يبدو وكأنه شامة جميلة، في حين أنها في الواقع أثر الندبة التي خلّفتها السيغارة.
  • في سبتمبر 1953 قرّرتُ أن أخرج من حياة بيكاسو نهائيّا، فجمعت أغراضي وغادرت إلى أرض جديدة. وقلت له قبيل مغادرتي: احترس، لأنني أتيت الى هنا عندما أردتَ أنت ذلك، لكنّي سأغادر عندما أريد. فردّ عليّ: لا أحد يترك رجلاً مثلي". فقلت: سنرى". فقال ساخرا: هل تتخيّلين أن الناس سيهتمّون بك؟ لن يفعلوا ذلك أبدا من أجلك فقط. وحتى لو كنت تعتقدين أن الناس يحبّونك، فلن يكون ذلك سوى نوع من الفضول الذي يشعرون به تجاه شخص كانت حياته مرتبطة بي بشكل وثيق".

    لم تستطع فرانسواز جيلو الاستمرار مع شخص "لم يوفّر حتى أحبّاءه" ورفضت أن تكون مجرّد ملهمة أخرى لبيكاسو. وقيل إن موهبتها الخاصّة وتقديرها العالي لذاتها وشغفها المستمر بالفنّ لعبت دورا في انفصالها عنه. كان بيكاسو في البداية قد شبّهها بزهرة جميلة، بينما وصفته هي في كتابها الجريء بـ "اللحية الزرقاء".
    وبعد أن تركَت بيكاسو، بدأت جيلو فصلا جديدا من حياتها بزواجها من عالم أحياء شهير. وكان ذلك بمثابة شهادة على قوّتها وقدرتها على الصمود وعلى العثور على الحبّ والدعم بعد ماضٍ مضطرب.
    كما واصلت مسيرتها الفنّية ووسّعت تجربتها لتشمل الخزف والنحت، وحظيت أعمالها بالتقدير في متاحف كبرى كمتحف المتروبوليتان في نيويورك ومركز بومبيدو في باريس. كما حصلت على العديد من الأوسمة والجوائز اعترافا بإنجازاتها الفنّية.
    كانت جيلو أيضا مدافعة متحمّسة عن العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان ومؤيّدة صريحة لحقوق المرأة وحركة السلام. وعندما توفّيت تركت وراءها إرثا غير عادي كفنّانة وكاتبة وكامرأة حطّمت الحواجز وتحدّت الأعراف وشقّت لنفسها طريقا مميّزا في الحياة.

  • Credits
    francoisegilot.com
    pablopicasso.org