:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ييتس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ييتس. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، مارس 24، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 2 من 2

عالَم ليدا تسكنه الأساطير والآلهة التي تهبط إلى الأرض. لكن العالم الذي تلد فيه أطفالها "أو على الأصح تبيضهم كما تذكر القصّة!" محكوم بالسياسة والسلطة، وليس بالآلهة. وحرب طروادة هي التي مهّدت الطريق لصعود الإمبراطورية الرومانية، وبعد ذلك بزمن طويل، لصعود أوروبّا الحديثة.
والسطران العاشر والحادي عشر من قصيدة ييتس يتضمّنان أهمّ إشارة مباشرة فيها إلى التاريخ اليونانيّ. وهما يصفان إحراق طروادة وما تلاه من قتل لأغاممنون القائد اليونانيّ الأقوى في تلك الحرب. أي أن القصيدة تزعم أن ولادة هيلين أميرة طروادة أدّت إلى كلّ تلك الأحداث المأساوية.
وضمن نفس هذا السياق الأسطوريّ التاريخيّ، فإن فعل الاغتصاب ستكون له نتائج مدمّرة وبعيدة المدى. وهذان الحدثان، أي موت اغاممنون وتدمير طروادة، تحقّقا بسبب الاغتصاب. وفي نفس هذا السياق فإن أطفال ليدا الأربعة من البجعة مسئولون عن الموت والدمار الذي حدث بعد ذلك. أي أن ييتس يساوي هنا بين الفعل المدمّر لاغتصاب الجسد وبين تدمير طروادة.
وإذا قرأت هذه القصيدة بتمعّن فستستنتج أيضا أن أجساد النساء الثلاث، أي ليدا وهيلين وكلايتمنيسترا، كانت هي السبب الأساس في إشاعة الموت والصراع والجريمة انطلاقا من تصرّفاتهن واختياراتهن.
كان وليام ييتس ميّالا لالتقاط لحظات مهمّة من التاريخ. وكانت لديه نظرية كاملة ومعقّدة لتفسير الأحداث. كان، مثلا، يعتقد أن التاريخ يشبه دوّامة أو إعصارا وأنه يتحرّك وفق دورات مختلفة ومتعاقبة. وبناءً على هذه النظرية، فإن قصّة ليدا والبجعة تجري في نقطة تحوّل نموذجية بين اثنتين من هذه الدورات أو اللحظات المحورية في التاريخ: بين العالم القديم الذي سبق حرب طروادة، والعالم الحديث الذي جاء بعدها.
والواقع أن العديد من قصائد ييتس المشهورة الأخرى، مثل "المجيء الثاني" و"عيد الفصح 1916"، تصف هي أيضا نقاط التحوّل هذه في التاريخ.
غير أن ييتس يذكّرنا أيضا، من خلال القصيدة، بأن كلّ شيء، وبطريقة ما، مرتبط بسلسلة كونية من الأسباب والنتائج، وأن أيّ شيء يحدث لا يمكن فصله عن شبكة متكاملة ومترابطة وذات مغزى من الأحداث والوقائع المتّصلة.
لكن ما الذي يمكن أن يكون قد دفع ييتس لتأليف هذه القصيدة؟ ثمّة من يرى بأن الشاعر إنّما كان يعكس في قصيدته تصرّفات بعض النساء اللاتي كان يعرفهنّ في ذلك الوقت. وهناك احتمال انه كان يناقش في القصيدة نتائج تصرّفاته هو.
وهناك رأي آخر يقول إن ييتس كتب القصيدة استجابة للظروف السياسية السائدة آنذاك. وربّما أرادها أن تكون رمزا لسقوط وفساد بلده ايرلندا بموازاة سقوط طروادة. ويمكن أن تكون القصيدة انعكاسا لإحباط ييتس من انهيار ايرلندا التي كان يرى أن ثقافتها تعرّضت لاغتصاب مجازيّ من قبل الانجليز.
نُشرت قصيدة "ليدا والبجعة" لأوّل مرّة عام 1928 ضمن ديوان البرج، الذي يعتبره النقّاد احد أشهر وأهمّ الأعمال الأدبية في القرن العشرين. وقد ظهر الديوان بعد خمس سنوات من نيل ييتس جائزة نوبل للأدب عام 1923. ويبدو أن الشاعر ادّخر أفضل أعماله لنهايات حياته، بدليل أن هذا الديوان يتضمّن قصائد أخرى مشهورة مثل إبحار إلى القسطنطينية و"وسط أطفال المدارس".

كان ييتس في الستّينات من عمره عندما كتب هذه القصيدة. وكان أيضا وقتها عضوا في مجلس الشيوخ الايرلندي. وإذا كنت من هواة سماع الآراء الحدّية والمطلقة، فقد يهمّك أن تعرف أن ناقدا كبيرا واحدا على الأقلّ وصف القصيدة بأنها أعظم قصيدة في القرن العشرين.
لكن لماذا نهتمّ بييتس وهو يعيد رواية هذه القصّة الغريبة والشاطحة؟ بداية يمكن القول أن من الجرأة أن يحاول احد إعادة تمثيل شيء عنيف ومشين مثل الاغتصاب من خلال عدسات الفنّ.
غير أن الأسئلة الأهمّ التي تدعونا هذه القصّة لنتأمّلها هي: ما الذي يمكن للأدب والفنّ أن يتحدّثا عنه؟ وهل هناك مواضيع يجب أن يتجنّب الفنّ تناولها تماما؟ وهل كان يتعيّن على ييتس أن يخفّف من لغته لكي نفهم أن ما تصفه القصيدة هو أمر بغيض وغير أخلاقيّ بالمرّة؟ وهل كون هذه الأسطورة قديمة يجعل اغتصاب ليدا أمرا أكثر قبولا لدى المتلقّي المعاصر؟ هذه هي بعض الأسئلة الكبيرة الجديرة بالتأمّل.
من الواضح أن ييتس كان على علم بالتصويرات الفنّية العديدة للقصّة من قبل فنّانين مثل ميكيل انجيلو وليوناردو دافنشي. وقد صوّر هذان البجعة بطريقة تحاكي الواقع تقريبا، في حين أنها غالبا ما كانت تُصوّر على درجة من الضخامة كي تتفوّق على ليدا.
قصّة ليدا والبجعة كانت تحظى بشعبية كبيرة للغاية في فنّي عصري النهضة والباروك. وفي القرن السادس عشر على وجه الخصوص، كانت شعبيّة الموضوع تعود إلى حقيقة انه كان من المقبول وقتذاك أن تُرسم امرأة في فعل جنسيّ مع بجعة أكثر من أن تُرسم مع رجل.
وبعض المعالجات الفنّية التي تناولت الأسطورة قلّلت من كمّية العنف فيها. بل إن بعضها تشير ضمناً إلى أن ليدا تعرّضت لإغواء زيوس ولم يغتصبها.
في لوحة الرسّام الفرنسي فرانسوا بوشير عن القصّة، تظهر البجعة وكأنها طائر أليف أكثر من كونها إلها يهمّ باغتصاب امرأة. ورغم أن القصّة الأصلية لا تتضمّن أيّة إشارة إلى امرأة ثانية، إلا أن الرسّام أضاف إلى المشهد امرأة أخرى تنافس ليدا في جمالها، مع هرم من اللحم المكشوف والثياب المرفّهة والنفيسة.
قصيدة الشاعر ييتس يمكن اعتبارها، من ناحية أخرى، نموذجا لما يُعرف بـ "تأثير الفراشة"، أي كيف أن تصرّفا واحدا يمكن أن يولّد سلسلة من الآثار والنتائج التي يمكن أن تظهر على مدى عقود أو قرون من الزمن. في هذه الحالة، يحوّل زيوس نفسه إلى بجعة، ويُحبِل ليدا بالقوّة، ثم تولد هيلين التي خيضت حرب طروادة من اجلها أو بسببها.
لكن رُبّ ضارّة نافعة كما يقال. فمِن غير هيلين ما كانت لتقع حرب طروادة، وبالتالي لم تكن لتوجد إلياذة. وعدم وجود إلياذة يعني خسارة أهمّ وأشهر عمل أدبيّ من العصور الكلاسيكية.

Credits
aterriblebeautyisborn.com
sparknotes.com
theoi.com

الأحد، مارس 23، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 1 من 2

عندما تتأمّل بعض الحكايات التي كان الأوّلون يتداولونها في ما بينهم لتفسير كيف يعمل العالم، فستحصل على كثير من الأشياء الغريبة: كلاب بثلاثة رؤوس، بشر على هيئة تيوس، رجال ونساء برؤوس بشر وأجساد خيول وبغال، ومخلوقات لها وجوه مشوّهة وبعين واحدة. وهذا فقط ليس سوى غيض من فيض، كما يقال.
الإغريق، بشكل خاصّ، كان عندهم الكثير من هذه القصص الجامحة، وأكثرها يحكي عن آلهة تتصرّف بطريقة رديئة ومتهوّرة.
من أشهر هذه القصص قصّة "ليدا والبجعة" التي ذكرها هوميروس في ملحمة الإلياذة. وليدا في الأسطورة هي امرأة حقيقية من لحم ودم. أمّا البجعة فليست من نوع البجع الذي اعتدت أن تراه وأن تداعبه في الحدائق والبحيرات، كما أن لا علاقة لها بتلك البجعات البريئة التي صوّرها تشايكوفسكي وسان سونس في موسيقاهما. هذه البجعة هبطت إلى الأرض من جبل الأوليمب ولديها مهمّة تريد انجازها. والبجعة ليست في حقيقة الأمر سوى زيوس كبير آلهة الإغريق وهو في حالة تنكّر. أمّا لماذا يتنكّر، فهذا ما سنعرفه بعد قليل.
أسطورة ليدا والبجعة صُوّرت بكيفيّات أدبية وفنّية وفلسفية متعدّدة. وإحدى أشهر المعالجات الفنّية المعروفة لهذه القصّة هي قصيدة الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس بنفس العنوان.
ولكن قبل أن ندخل إلى أجواء قصيدة ييتس، لا بدّ أوّلا من الحديث قليلا عن هذه الأسطورة. ودونما حاجة للدخول في التفاصيل، يكفي أن نعرف أن ليدا كانت فتاة من اليونان القديمة اغتصبها زيوس زعيم الآلهة بعد أن تخفّى بهيئة بجعة جميلة. ونتيجة لذلك، وضعت ليدا طفلة هي هيلين، وابنة أخرى هي كلايتمنيسترا. كما وضعت توأما من المحاربين الأشدّاء هما كاستور وبولوكس.
هيلين أصبحت في زمن تالٍ أجمل امرأة في اليونان القديمة. وقد طلب يدها العديد من الأمراء للزواج. وفي النهاية تزوّجت من مينيلوس، ملك سبارتا، الذي كان أكثر الخاطبين وجاهة وثراءً. وقد أنجبا في ما بعد طفلة. غير أن زواجهما تعرّض للضرر عندما وقع باريس، وهو أمير من طروادة، في هوى هيلين.
ولأن مينيلوس كان غائبا عن القصر حينها، فقد اختطف باريس هيلين "تشير رواية أخرى إلى أنها ذهبت معه بإرادتها" وهربا معا إلى طروادة، الأمر الذي أدّى إلى اشتعال حرب طروادة التي دامت عشر سنوات. وكما هو معروف، كانت تلك الحرب هي الحدث الأساسيّ والكبير في إلياذة هوميروس.
عندما كتب الشاعر وليام ييتس هذه القصيدة عام 1928، كان معظم القرّاء وقتها على علم بقصّة ليدا والبجعة. وكان من المفيد أن ييتس أعطى قصيدته هذا العنوان، أي ليدا والبجعة. وربّما لولا العنوان لما عرفنا عن ماذا يتحدّث الشاعر، ولكنّا ظننّا انه كتب قصيدة ايروتيكية تجري أحداثها في حديقة للطيور مثلا.
العنوان أيضا، أي ليدا والبجعة، يثير مجموعة من الارتباطات من تاريخ الفنّ الغربيّ. فقصّة ليدا مثيرة بحيث لم يستطع الفنّانون مقاومة إغراء تصويرها، سواءً كان ذلك رسما أو نحتا. وكان التحدّي الذي واجههم هو التعامل مع القصّة من منظور جديد. وهذا هو نفس التحدّي الذي واجه الشاعر ييتس أيضا.
في القصيدة، لا نرى سوى لمحات سريعة من هذا الطائر الذي يشبه البجعة. ومن الواضح انه يتحرّك بسرعة كبيرة، وعقله مركّز على شيء واحد.
المكان الذي تجري فيه القصّة/القصيدة مقتطع ومشوّه. ونحن نرى العالم كما لو انه اصطدم للتوّ بجسم ضخم. ويُفترض أن نتخيّل أن ليدا قبل الحادثة كانت تتجوّل في منظر من الطبيعة الخلابة، حديقة أو غابة مثلا. لكنّنا لا نرى مثل هذا المنظر الهادئ، بل سلسلة من الصور التي تذكّرنا بفيلم الطيور لألفريد هيتشكوك.

القصيدة تبدأ بداية قويّة: ضربة مفاجئة وجناحان عظيمان". الضربة المفاجئة ليست شاهدا فقط على العنف، وإنّما أيضا على الارتجال وانعدام التخطيط من قبل زيوس الذي ارتكب تصرّفا مرعبا وظالما عندما حوّل نفسه إلى مخلوق جميل، ولكن غير سويّ، في محاولته الظفر بامرأة جميلة.
والقصيدة تبدأ بصورة للبجعة وهي تهبط على ليدا. جناحاها الكبيران هما أوّل شيء يصفه الشاعر. وهي تمسك ليدا بمنقارها وتضغط على صدرها. والأسطر الثمانية الأولى تتناول الانطباعات الحسّية التي تشعر بها ليدا، مثل صوت اندفاع أجنحة البجعة وساقيها المتعثّرين وشعورها بأن البجعة تمسك بها من مؤخّرة رقبتها، ثم إحساسها بقدمي البجعة وهما يتقدّمان باتجاه فخذيها.
ثم ينتقل مكان القصيدة إلى المستقبل. ومن مسافة بعيدة، نرى الأسوار المهدّمة لمدينة طروادة بعد أن نُهبت وأحرقت، بينما يتصاعد من المدينة عمود من الدخان الكثيف يتوسّطه وهج برتقاليّ اللون.
بعد ذلك تتحرّك القصيدة إلى بقعة أخرى من المدينة، فنرى البطل اغاممنون وهو ملقى صريعا على أرضية منزله بعد أن قتلته زوجته كلايتمنيسترا بالتعاون مع الرجل الذي اتخذته عشيقا لها خلال سنوات الحرب. "للتذكير: كلايتمنيسترا هي الابنة الثانية التي أنجبتها ليدا بعد اغتصابها".
الأسطر الأخيرة من القصيدة تعيدنا إلى المكان الحالي لليدا، وبالتحديد في الوقت الذي تنفث فيها البجعة قطرات من منقارها.
المتكلّم في قصيدة "ليدا والبجعة" يشبه احد أولئك المراسلين الذين يغطّون أخبار الكوارث الطبيعية على التلفزيون. لكنّه لا يتدخّل للمساعدة. وهو يقدّم شرحا مفصّلا لمحنة ليدا، في حين يبدو كما لو انه يحوم حولها من جميع الزوايا.
ومن الواضح أن المتكلّم يروي قصّة كان يعرف مسبقا نهايتها. وهو أشبه ما يكون بشخص قفز إلى داخل آلة للزمن كي يشاهد نقطة تحوّل بالغة الأهميّة في التاريخ، أي الحمل بهيلين أميرة طروادة. وحتى عندما تكمل البجعة الفعل الجنسي، فإن عقل المتكلّم يذهب سريعا إلى المستقبل كي يتأمّل معناه.
قصيدة ليدا والبجعة هي في جوهرها تصوير للقاء جنسيّ عنيف بين امرأة وطائر. وإذا كنت تجد نفسك متعاطفا مع وجهة نظر اليونانيين القدماء، فقد تعتقد أن اللقاء عبارة عن تجربة إلهية وغامضة. أما إن قاربت القصيدة من منظور أكثر حداثة، فقد تشعر بالرعب. والقصيدة تتجاوب مع وجهتي النظر هاتين معا.
القارئ الحديث قد يجد لغة القصيدة مزعجة لصراحتها وجرأتها. هذا على الرغم من أن القصص التي تحكي عن الجنس مع الحيوانات كانت شائعة في المجتمعات الكلاسيكية مثل اليونان القديمة. وقصّة ليدا والبجعة كانت معروفة جيّدا وقتها.
لغة ييتس تصوّر البجعة على أنها عنيفة وغير مكترثة، ولكنها أيضا غامضة ومغرية. والشاعر يقدّم صورة للحظة الجنس، مشيرا إلى مشهد لا يخلو من الرقّة. وهو يلمّح إلى أن ليدا قد تكون تصرّفت بإرادتها وليس بسبب قوّة قاهرة، وكأنه يوحي بأنها ربّما كانت راضية عمّا جرى. كما انه يصف ثدييها المرتعشين بأنهما عاجزان أو بلا حول ولا قوّة، ما يعني انه لم يكن لها خيار في ما حدث لها، أو أن هذا حدث بسبب غلبة شهوتها.
النقطة التي يثيرها ييتس هنا هي انه لو كانت ليدا تعلم مسبقا عن الدمار الذي ينتظر شعب طروادة بسبب إغواء زيوس لها، فإنها عندئذ تصبح ضالعة مع زيوس في ذلك الإثم.

السبت، ديسمبر 05، 2009

ربّات الإلهام

لمئات السنين، كان وجود الملهمات ضروريا لخلق الفنّ والإبداع.
وجه هيلين أميرة طروادة أطلق ألف سفينة حربية وأشعل حربا دامت عشر سنوات.
ساسكيا فان اويلينبيرغ ألهمت رمبراندت رسم الكثير من تحفه الخالدة.
هوميروس استدعى ملهمة وهو يخطّ أولى كلمات الإلياذة.
اليوم تغيّر الحال كثيرا. توقّف الشعراء والرسّامون والموسيقيون عن استدعاء الملهمات وأصبحوا يكتفون بالخمر والكافيين والابسنث.
الموضوع التالي يتناول تاريخ ودور الملهمات والتغيّرات التي طرأت على هذه الظاهرة عبر العصور المختلفة..

في الأزمنة القديمة كانت الملهمات آلهة. كنّ بنات كبير الإلهة زيوس وزوجته منيموزين.
في البداية، كانت هناك ثلاث ملهمات فقط. الشاعر اليوناني هيسيود زاد عددهنّ إلى تسع.
كان الرومان البيروقراطيون هم الذين حدّدوا وظيفة وتخصّصا معيّنا لكلّ منهن. واحدة للرقص وأخرى للشعر وثالثة للكوميديا .. وهكذا.
في اليونان القديمة كانت الملهمات يقصدن كلّ شاعر واعد ويمنحنه ثلاث هدايا: غصن غار وصولجانا وصوتا جميلا يغنّي به قصائده.
غير أنهنّ كنّ قاسيات مع من يتحدّاهن. في إحدى المرّات طلب شاعر منافستهنّ فأصبنه بالعمى والبكم. وتقول أسطورة أخرى إن السيرانات، وهي مخلوقات خرافية تأخذ الواحدة منها شكل رأس امرأة وجسم طائر، حاولن أن يتنافسن مع الملهمات فهزمنهن. ونتيجة لذلك فقدن أجنحتهنّ وسقطن في البحر.
ملهمة بيكاسو، ماري تيريز والتر، كانت وراء فكرة لوحته الحلم وغيرها من اللوحات.
اوفيد في بداية كتاب "التحوّلات" استدعى جميع الملهمات التسع ثم هتف بأعلى صوته: ألهميني أيتها الآلهة"!
آريادني كانت ملهمة ودليلة في نفس الوقت عندما أعطت ثيسيوس الخيط الذهبي الذي يقود إلى داخل المتاهة حيث يفترض أن يقتل الوحش الأسطوري ثم يتبع اثر الخيط في رحلة عودته إلى النور.

دانتي في "الكوميديا الإلهية" تفوّق على الجميع ولم يكتف بالملهمات التسع بل استعان أيضا بـ مينيرفا إلهة الشعر والموسيقى ورئيسة الملهمات جميعا. لكن، في نهاية كتابه الضخم ضعُف حضور الملهمات بفعل أصوات موسيقى المجالات السماوية. الملهمات الوثنيات استُبدلن بالثالوث المقدّس. وهذا بدوره حرّر الإلهام الفنّي وسهّل البحث عن مصادر أكثر ارتباطا بالأرض.
مصدر الإلهام عند دانتي كان شخصا حقيقيا؛ فتاة اسمها بياتريس (أو بياتريتشا بالإيطالية) بورتيناري زعم الشاعر انه رآها لأوّل مرّة في شارع بـ فلورنسا عندما كان عمر الاثنين تسع سنوات. وقد وقع في حبّها، لكنها توفّيت في بداية العشرينات من عمرها. وألّف بعدها أشعارا تمجّد ذكراها. ثم أصبحت المرأة شخصية رئيسية في الكوميديا الإلهية. بياتريس كانت ترمز للحبّ الأرضي وللحقيقة السماوية. أي أن شهوة الشاعر تسامت وتحوّلت إلى شوق روحي.
معاصر دانتي وخليفته المباشر "بترارك" كتب 300 قصيدة إلى امرأة تسمّى لورا. لكنه تجاوز دانتي في مثاليّته عندما جعل ملهمته بعيدة المنال لسببين: الأوّل أنها كانت متزوّجة عندما قابلها. والثاني أنها توفّيت بعد ذلك بأحد عشر عاما. وبذا حرّر الشاعر نفسه من أعباء رغباته الجسدية.
الموت، مثل الأسطورة، يحمي الفنّان من المشاكل ومن هوسه بملهمته.

لكنّ هذا بدأ يتغيّر في عصر النهضة عندما ابتكر الرسّامون عادة تقديس الملهمة. وبينما كانت ملهمات القرن الرابع عشر يأخذن الطبيعة المقدّسة للمادونات اللاتي لا يمكن لمسهن، فإن ملهمات الرسّامين الايطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر كنّ مخلوقات أرضية في الغالب، أي نساءً حقيقيات كنّ يجلسن أمام الرسّامين الذين كانوا بدورهم يصوّرونهنّ كنموذج للأنثى البعيدة المنال.
الموديل التي استخدمها رافائيل في رسم اثنتين من أشهر لوحاته كانت ابنة خبّاز تدعى مارغاريتا وكانت على الأرجح عشيقة للرسّام.
والرسّام فرا ليبي دخل في علاقة اشدّ خطورة مع ملهمة. فقد أغوى راهبة شابّة اسمها لوكريتسيا وذهب ليعيش معها واستخدمها كموديل في العديد من بورتريهاته الدينية.
ثم أتى اندريا ديل سارتو الذي عايش أوّل تجربة سيّئة مع ملهمة في تاريخ الفنّ الغربي. كانت ملهمة سارتو، وزوجته في نفس الوقت، تجسّد الصورة المثالية في عقله. لذا رسم كلّ بورتريهاته الأنثوية على هيئتها. ومع ذلك فقد ضاق ذرعا بمطالبها الكثيرة وغيرتها القاتلة ومغامراتها العاطفية مع تلاميذه. لكنّ كمالها الجسدي هو الذي جعله يسامحها ويغفر لها كلّ شيء.

إحدى الملهمات التسع في الميثولوجيا اليونانية كان تخصّصها الشعر الملحمي. وقد ألهمت هوميروس كتابة ملحمتيه الاوديسا والإلياذة.
ايلينا ايفانوفنا كانت ملهمة الشاعر الفرنسي بول ايلوار. وهي نفسها "غالا" التي أصبحت في ما بعد ملهمة سلفادور دالي وزوجته. كان دالي مجنونا بحبّ تلك المرأة التي عذّبته بغزواتها العاطفية الفاضحة بعد ما قيل عن ميوله الماسوشية ونفوره من الجنس.
البعض يرى أن الملهمة ما هي إلا امتداد أنثوي للفنّان الذكر. وهناك من يقول إنها ليست سوى استمرار لوظيفة محظيّة البلاط وأحيانا عشيقة الملك، وما يرتبط بذلك من مظاهر اللهو والإغراء والإثارة والغموض وكلّ تلك الأشياء اللذيذة والممنوعة.
وفي كلّ هذه الحالات، لا يمكن وصف الملهمة بالعاهرة. كما أنها لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي للكلمة.

آلما شيندلر كانت ملهمة الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر وزوجته في ما بعد. كانت آلما مؤلّفة موسيقية هي الأخرى. وقد طلب منها ماهلر في بداية زواجهما أن تنحّي طموحاتها الموسيقية جانبا لأن بيت الزوجية لا يتّسع لأكثر من مبدع واحد. لكن المرأة لم تلبث أن دخلت في علاقات عاطفية مع عدد من الرسّامين، أشهرهم غوستاف كليمت. وكان ماهلر قد أهداها قبل ذلك إحدى سيمفونياته. وعندما هجرته صنع لها دمية على هيئتها ومقاسها وكان يأخذ دميتها معه أينما ذهب.
قصّة حياة آلما شيندلر وعلاقتها الغريبة بـ ماهلر كانت موضوعا للعديد من الأفلام السينمائية والكتب، أشهرها كتاب "عروس الريح" للكاتبة سوزان كيغان.
ملهمات عصر النهضة كنّ خاضعات لرسّاميهنّ وملتزمات بتلبية احتياجاتهم الجمالية والجنسية، بينما كان الفنانون أحرارا في تسلية أنفسهم في كلّ مكان ومع أيّ كان.
أكثر ملهمات العصر الحديث هنّ نساء قويّات، وغالبا مبدعات. جورجيا اوكيف، مثلا، لم تكن فقط مصدر الهام للمصوّر الفريد ستيغليتز، وإنما أثّرت أيضا في اتجاهه الفنّي بعد أن تعلّق بها وتزوّجها.
سوزان فاريل، الراقصة المشهورة وملهمة الفنّان جورج بالانشاين، سمحت له بأن يقع في حبّها بينما رفضت إغراءاته المتكرّرة بأن تمنحه نفسها. لكنها تزوّجت شخصا آخر في نفس اليوم الذي حصل فيه على ورقة الطلاق من زوجته.

بيكاسو قابل ماري تيريز والتر عام 1927 في احد شوارع باريس عندما كان عمرها سبعة عشر عاما. وفي الحال اتّخذ منها عشيقة. وأحيانا كان يأمر سائقه بالانتظار خارج مدرستها الخاصّة ليأخذها إلى محترفه حيث كان يستعين بها كموديل للعديد من لوحاته. وعندما حملت منه بطفلة رفض أن يتزوّجها.
غير أن ثيودورا ماركوفيتش "أو دورا مار" كانت حبّ بيكاسو العظيم. كانت صديقته وملهمته الخالدة التي أوحت له برسم أجمل وأشهر لوحاته.
والواقع أن الإنسان لا بدّ وأن يتساءل كيف وجد بيكاسو وقتا كافيا للرسم في ظلّ وجود هذا العدد الضخم من الملهمات والعشيقات من حوله.
ماري والتر لم تكن تفهم في الرسم كثيرا كما لم يكن بينها وبين بيكاسو نقاط اتفاق كثيرة. لكنها كانت مستعدّة لتلبية جميع طلباته. كانت تعرف شغفه الكبير بالجنس. وهو كان يعتبر نفسه رجلا فحلا وهي الأنثى الراغبة. لكن في اللحظة التي حملت فيها بطفلته الأولى فقدت جاذبيتها عنده كأداة جنسية.
إحدى ملهماته الأخريات كانت الرسّامة فرانسواز جيلو. تزوّجها بعد قصّة حبّ وأنجبت له ابنه كلود وابنته بالوما. لكنها تخلّت عنه بعد سوء معاملته لها. وبفضل علاقاته المهنية الكثيرة، تمكّن من حرمانها من عرض لوحاتها في جميع معارض باريس. بيكاسو كان مدمّرا كبيرا، ليس فقط لمفاهيم وأسس الرسم التقليدي، وإنما لزوجاته وملهماته أيضا. ومن بين نسائه الكثيرات، شنقت ماري تيريز والتر نفسها بعد موته. وعانت دورا مار من انهيار عصبي كامل وتجربة رهيبة مع العلاج. بينما قتلت جاكلين روك نفسها برصاصة في الرأس.

اليزابيث سيدال كانت ملهمة وعشيقة للرسّام الانجليزي دانتي غابرييل روزيتي وظهرت في الكثير من لوحاته. كما استخدمها جون ميليه كموديل في لوحته المشهورة اوفيليا. وقد ماتت سيدال قبل الأوان. ويقال إن جزءا من مأساتها يتمثّل في أنها، هي أيضا، كانت تتوق لأن تصبح فنّانة.
بعد وفاة اليزابيث سيدال اتخذ روزيتي لنفسه ملهمة ورفيقة جديدة هي أليكسا ويلدينغ التي ستظهر في ما بعد في العديد من بورتريهاته ذات المزاج المتأمّل والمسحة الشاعرية.

لكن إذا كانت الملهمة تستطيع أن تنفخ نفحة من الهواء الإلهي في خيال الفنان، فإنها يمكن أيضا أن توقد في نفسه وروحه شعلة الاهتمام والعمل الجادّ.
الشاعر الانجليزي وليام بتلر ييتس ربطته بالثائرة الايرلندية مود غون علاقة الهام خالطها قدر كبير من التعاسة والخراب. كانت غون امرأة ذات جمال أخّاذ يميّزه شعر أحمر وملامح وجه دقيقة. وقد قابل ييتس المرأة عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. وعندما تعرّف عليها بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى حياته.
رفضت غون جميع عروض الشاعر بالزواج منها على أساس انه لم يكن ثوريا حقيقيا ولا كاثوليكيا مخلصا. وبعد عشرين عاما، انتهى دورها كملهمة في اللحظة التي نامت في سريره لأوّل مرّة. وقد كتب ييتس بمرارة عن تلك العلاقة ووصف تأثيرها الفوضوي والمدمّر على حياته بعد أن مرّ وقت ليس بالقصير على لقاء الحبّ اليتيم بينهما.
الكاتبة الايرلندية الليدي كارولين بلاكوود تزوّجت على التوالي من رسّام وملحّن موسيقي وشاعر قبل أن تموت في سنّ السبعين. كانت بلاكوود نموذجا للأنثى القاتلة بجمالها النادر وعينيها الخضراوين الكبيرتين. لحظات صمتها الغامض كانت تثير الرجال وتدفعهم إلى ملء الفراغات التي كان يتركها هدوؤها الأنيق والمحيّر. اندرو هارفي الشاعر الذي تزوّجها في ما بعد وصفها بقوله: كانت تخلق أشياءها الخاصّة. كانت ملهمة ومحرّضة على الإبداع وكان قدرها أن تلعب ذلك الدور ببراعة".
سيرة حياة كارولين بلاكوود كانت موضوعا لكتاب الّفته نانسي شوبيرغر بعنوان "الملهمة الخطيرة".
يقول كارل يونغ العالم النفسي المشهور: الملهمة تمثّل توق الإنسان الذكر للخلود. وهي تتخفّى تحت الأسماء الكثيرة التي نعطيها للأفكار والدوافع الإبداعية.
فرجيل، من جهته، يرى أن الملهمات هنّ رمز للحقيقة واليقين. وهذا يوفّر للفنّان فرصة لأن يعرف نفسه أكثر ويوسّع وعيه وإدراكه.

الشاعر الفارسي عمر الخيّام كان معروفا بميله لحياة التأمّل والعزلة. ولم يكن يشغله سوى شيئين: ديوان شعره المسمّى بالرباعيّات وحبّه لـ جَهَان ملهمته وزوجته. في آخر الرباعيّات يخصّص الشاعر أبياتا حزينة يرثي فيها جَهَان التي تذكر بعض الروايات أنها ماتت مقتولة. ويقال إنها كانت هي الأخرى شاعرة.
الخيّام كان شاعرا عظيما، ولا بدّ وأن من ألهمته كتابة تلك القصائد الجميلة والخالدة كانت، هي أيضا، امرأة عظيمة.
لويز فون سالومي كانت امرأة روسية مثقّفة وكانت لها اهتماماتها بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم النفس. وقد اشتهرت بعلاقتها الحميمة مع الشاعر الألماني رينر فون ريلكا.
كانت صديقته وملهمته على الرغم من أنها كانت تكبره بخمس عشرة سنة. وقد علّمته اللغة الروسية كي يقرأ بها تولستوي ثم اصطحبته في ما بعد لزيارة روسيا.
وبحكم اهتماماتها الفكرية المتعدّدة، كانت ترتبط بعلاقات صداقة مع كلّ من نيتشه وفرويد والموسيقي ريتشارد فاغنر.

عالم الملهمات تقلّص اليوم كثيرا. ربّما لا يزال للعديد من الفنّانين ملهمات. لكن ذلك النوع من العلاقة الأسطورية لم يعد موجودا. قد يكون السبب شيوع الثقافة الفردية التي لا يقبل فيها احد بأن يكون زاداً أو صدى لمخيّلة إنسان آخر. وقد يكون لذلك علاقة برفض الحركات النسوية لأن تكون المرأة مجرّد سلعة أو متاع. ويمكن أن يكون هذا هو السبب في أن الملهمات العصريات اليوم يوجدن فقط كحضور عام.
دور الملهمة ربّما تلعبه اليوم، مع الفارق، المغنّيات والممثّلات وحتى عارضات الأزياء والمذيعات المشهورات اللاتي يظهرن على جماهير الناس ويستقطبن اهتمامهم وإعجابهم أحيانا. خذ، مثلا، انجيلينا جولي، نيكول كيدمان، بيونسي، اوبرا وينفري، جينيفر انيستون، باريس هيلتون، ايشواريا راي، بريتني سبيرز، جينيفر لوبيز .. إلى آخر القائمة.
ربّما يناسب هذا مزاج عصرنا الجديد الذي تتواضع فيه الأحلام وتتضاءل الطموحات.


Credits
theguardian.com
wsj.com

الخميس، أكتوبر 16، 2008

إيماءات بعيدة

"دون دليل أو ضوء
غير تلك النار التي كانت تضطرم في أعماق قلبي
قادتني النار إلى فوق
كان لمعانها اشدّ من وهج شمس منتصف النهار
وصلت إلى حيث كان ما يزال ينتظر
كان مكانا لا يستطيع أحد آخر أن يبلغه"..

مستحيل أن تسمع هذه الأغنية دون أن تؤثر فيك أو تحرّك مشاعرك أو تثير في نفسك بعض الأفكار والأسئلة.
صوت لورينا ماكينيت مذهل، يأخذ الأنفاس، يصهر المشاعر ويتسلل إلى الزوايا العميقة والمعتمة من الروح. وهي سبق وأن غنت أشعارا لـ شكسبير و ييتس و تينيسون، لكنها في هذه الأغنية ترتفع بالشعر إلى أعلى الذرى من خلال الصور التي يستحضرها صوتها من توق، حنين، رهبة وإحساس غامض بالأزلية.
كلمات أغنية ليل الروح المعتم The Dark Night of the Soul تعتمد على نصّ من قصيدة للشاعر الصوفي الاسباني القدّيس جون اوف ذي كروس الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي.
إنها أغنية عن حبّ الإنسان لله، عن النقاء الروحي وعن التأمّلات والخطرات الصوفية.
ورغم أن عنوان الأغنية يثير إحساسا بالانقباض والتشاؤم، فإن جوّها رومانسي إلى حدّ ما كما أن كلماتها توحي بأننا إزاء قصّة عشق أرضي. بل إن المقطع الأوّل من الأغنية يحتوي على صورة لا تخلو من ايروتيكية رغم أن القصيدة تحكي عن تجربة القدّيس الصوفية واتصاله مع الله.
كتب القدّيس جون القصيدة وهو في السجن. ويقال انه ُسجن بعد أن أغضبت أفكاره الإصلاحية زملاءه من الكهنة. أما المصطلح نفسه، أي "الليل المعتم"، فيشير إلى مرحلة من مراحل الرحلة الصوفية على طريق التوحّد مع الله. وهناك قصص كثيرة عن متصوّفة من الشرق والغرب مرّوا بنفس هذه التجربة التي يحسّ فيها المتصوّف أو العارف بأن العبادة أصبحت متعبة وغير مجدية وبلا غاية وأن الله تخلى عنه وتركه وحيدا.
بعضهم ينتهي به الأمر إلى الإلحاد وإنكار الدين بل وحتى نفي وجود الله. والبعض الآخر يواصل رحلته إلى أن يتحقق له الصفاء الروحي والاندماج في ذات الله.
القدّيس جون دام "ليله المعتم" أكثر من أربعين عاما ظلّ خلالها نهبا لمشاعر الشكّ وانعدام اليقين قبل أن تطمئن نفسه وتهدأ روحه.
القصيدة هي إحدى أغاني ألبوم "القناع والمرآة" وهي توفر نموذجا لطبيعة المضامين والأفكار الإنسانية والفلسفية التي تختارها لورينا ماكينيت لأغانيها، كالحبّ والحياة والموت والوطن والهويّة الخ..
وماكينيت ليست مجرّد مغنية فحسب. إن شغفها بالأدب والشعر والفلسفة ليس له حدود. ولعلّ هذا هو السبب في أنها تهتمّ كثيرا باختيار عناوين أغانيها: محطات القوافل، صلاة دانتي، حلم المتصوّف، سوق ليلي بالمغرب، شجرتان، بوّابات اسطنبول، بين الظلال، الطرق القديمة، انكسار الصمت، الفصول، أشجار الصنوبر القديمة، حديقة شتائية وأحلام متوازية. . إلى آخره.
ولأمر ما حرصت لورينا ماكينيت على أن يتضمّن غلاف ألبومها "كتاب الأسرار" عبارة ذات مغزى اقتبستها من الحكيم الصيني لاو تسو تقول: إن المسافر الجيّد لا يجب أن يحتفظ بخطط ثابتة ولا أن يكون في ذهنه أن يصل إلى مكان محدّد". وفي هذا إشارة إلى ضرورة أن يتخلى الإنسان عن أفكاره المسبقة والجاهزة كي يكون أكثر قدرة على اكتشاف الأسرار الحقيقية للأمكنة والأشياء والظواهر.
وهذا يفسّر شغف المغنية بالسفر والتعلم من خلال اكتشاف الثقافات والحضارات المختلفة.
وأغانيها ذات النكهات المتنوّعة من وثنية وشرق أوسطية وهندية وإسلامية ويهودية هي أشبه ما تكون بالموزاييك الذي جمعت أجزاؤه قطعة قطعة ثم وضعت جميعها في إطار واحد جميل الشكل متناسق الألوان.
يخيّل إليك وأنت تستمع إلى هذه الأغنية انك أمام لوحة فنية تتجاور فيها عناصر الضوء والظل والعتمة بانسجام وتناغم. ولا بدّ وأن يثير اهتمامك في الأغنية صوت لورينا المقدّس الذي يشبه الضباب في الجبال والندى في الأشجار. ثم هناك الأداء الشجيّ للكمان المنفرد الذي يستدعي جوّا من الحزن والغموض، وكذلك صوت الغيتار والنغمات الخفيفة لآلة السيدار الهندية التي تتخلل الأغنية من مستهلها إلى نهايتها.
تسمع هذه الأغنية وأنت مغمض العينين فتذكّرك ترانيمها وإيماءاتها البعيدة ببدايات التكوين وتأخذك إلى شرفات تطل على غيم وشطآن مغسولة المدى وحقول من حنين وشجن.
يمكن سماع الأغنية هنا أو هنا ..