:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرومي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الرومي. إظهار كافة الرسائل

الخميس، مايو 08، 2025

أسفار الرومي/6


"في داخلك ينبوع، فلا تتجوّل بدلو فارغ".

في 29 نوفمبر 1244، ظهر شخص غريب في قونية. كان في حوالي الستّين من عمره، يرتدي عباءة مصنوعة من لباد أسود خشن ويلفّ حول رأسه عصابة. وقد اختار أن يقيم في أحد النُزل التي يديرها صنّاع الحلوى وبائعو الأرز داخل منطقة السوق، غير بعيد عن مدرسة الرومي. كان اسمه شمس الدين أو شمس التبريزي.
عشرات السنين من السفر المضطرب في جميع عواصم العالم الإسلامي أكسبت "شمس" لقب "باراندي" أو "الطائر". وقد اختار البقاء متنكّرا بهيئة تاجر، حتى أنه وضع قفلا ضخما على بابه للتلميح إلى أنه يحمل بضائع ثمينة تحتاج إلى حماية، مع أن ما بالداخل لم يكن سوى حصيرة من القشّ.
قال شمس أن العناية الإلهية هي التي دفعته إلى السفر إلى قونية للبحث عن الرومي، الذي سمع عن ذكائه وبلاغته وإخلاصه وموهبته. وما كاد الرومي يراه حتى نزل عن بغلته، تاركا حاشيته وأعرافه الاجتماعية. ولم يكن اللقاء بأقلّ أهمية بالنسبة لشمس الذي قال: لقد أصبحتُ بركة راكدة، وقد حرّكتْ روحُ مولانا روحي فبدأت المياه تتدفّق بفرح وثمر".
سريعاً أدرك شمس، الأكبر سنّاً والأكثر حكمةً، بريق إمكانيات الرومي الحقيقية. كان يكبر جلال الدين بعشرين عاما، وكان الرومي قد أصبح بالفعل مرشدا ومعلّما روحيّا. ووضع شمس أمام الرومي مجموعة من التحدّيات، وطالبه أوّلا أن يضع كتبه جانبا ويتوقّف عن تلاوة مقاطع منها. وقال له: أين صوتك؟ أجبني بصوتك!".
كان الرومي يقتبس الكثير من الأمثال أو القصائد والحكايات. وكان شمس منزعجا من تأمّل الرومي في صفحات مخطوطات والده. وذات مرّة اقتحم المكان بينما كان الرومي يقرأ، وصاح: لا تقرأ! لا تقرأ كلمات أبيك بعد الآن!". كما استنكر شمس شِعر شاعر الرومي العربيّ المفضّل من أيّام دراسته في حلب، المتنبّي. كان الرومي مولعا بقراءة أشعار المتنبّي في المساء "هذا لا يستحقّ القراءة. لا تقرأه مرّة أخرى أبدا!".
تجاهل الرومي تحذيرات شمس تلك. وفي إحدى الليالي، كان جلال الدين يقرأ للمتنبّي، ثم نام ورأى في الحلم "شمس" وهو يمسك بالمتنبّي من لحيته ويسحبه. ثم التفتَ شمس إلى جلال الدين وقال له: هذا هو الرجل الذي تقرأ كلماته!" وتوسّل المتنبّي لجلال الدين بصوت خافت وقال: أرجوك حرّرني من يدي شمس ولا تقرأ أشعاري بعد اليوم!".
وكان هناك شاعر آخر يقرؤه الرومي هو المعرّي؛ السوريّ الكفيف والحزين كالخيّام. لكن حتى شمس نفسه كان معروفاً بترديده بعض أبيات المعرّي من حين لآخر، مع أنه كان يكره الخيّام بشدّة "بسبب كلماته المختلطة والمظلمة".
ولإضاءة قلب الرومي، شعر شمس بالحاجة إلى تحريره، ليس فقط من كتابات والده وشعر المتنبّي، ولكن أيضا من كلّ اللغة والفلسفة التي كانت أساس شهرته في بداية شبابه. ورأى شمس في الكلمات والمنطق "حجابا" يخفي الرومي عن الحقيقة.
وفي إحدى المرّات، أمر شمس الرومي بشراء إبريق من النبيذ وحمله إلى المنزل أمام أعين الجميع قائلا له: إذا أردت أن تتحرّر من قيود التقاليد فعليك أن تتخلّى عن سمعتك الطيّبة!".
وبتوجيهٍ من شمس، أصبح الرومي ممارسا شغوفا للسماع، أي الاستماع العميق والرقص الدائري. وأيقظت الموسيقى إلهامه. وخلال جلسات السماع، كان يرتجل قصائده التي كان أصدقاؤه يدوّنونها على عجل.
كان شمس يفهم "السماع" بمعنى مختلف تماما. فبالنسبة له، لم يكن محور الاهتمام النصوص العلمية، بل الموسيقى والشعر اللذين اعتبرهما وسيلة للوصول إلى الكشف والنشوة الروحية. وكان شمس والرومي يرافقان الموسيقيين ويقضيان ساعات لا تُحصى في الاستماع إلى عزفهم. وكان ذلك بمثابة تحدّ للسلطات الدينية المحافظة التي كانت تعتبر الموسيقى في أحسن الأحوال إلهاءً، وفي أسوأها إثماً.
وقد أصبح "السماع" يعني أيضا الرقص الدائري، وهو ممارسة عبادية مرهِقة ومبهجة علّمها شمس لجلال الدين. وفي "السماع"، يدور الراقص بعكس اتجاه عقارب الساعة حول محور ساقه اليسرى، مستديرا إلى الأبد نحو القلب. وبتوجيه ذراعيه الممدودتين وكفّه اليمنى نحو السماء واليسرى نحو الأرض، يصبح الراقص بمثابة قناة بين السماء والأرض، منخرطا في احتضان كامل للخلق.


كان الرومي يتوق إلى التحرّر من هذا العالم الخانق واللوذ بصديق ورائيّ متحرّر من همومه وصادق وحميم. وكان يشعر بما يدعو إليه في خطبه: التحرّر من قوقعة الذات الضيّقة والاتحاد بحبّ لا حدود له مع الله". وقد تحقّق له ذلك عندما التقى "شمس". كان الأخير مفكّرا حرّا وباحثا مستقلّا وصوفيّا ضليعا. وكان يتمتّع بلسان حادّ وحبّ جارف للموسيقى.
وقد اعتبر البعض "شمس" فظّا ومجدِّفا، ووجد آخرون في صدقه دافعا للتجدّد. لكن شمس لم يكن يبدي اهتماما بالأتباع. ذات مرّة قال: لقد ظلّوا يصرّون على اتّخاذي معلّما. وعندما هربت تبعوني إلى النزل. قدّموا لي الهدايا، لكنّي لم أعرها اهتماما وغادرت". وكما سئم الرومي من الشهرة، ملّ شمس من الوحدة "لقد مللت من نفسي، أردت أن أجد شخصا يشاركني هذا القدر من الإخلاص، شخصا ذا عطش عميق".
فتح شمس قلب الرومي. روحه الجريئة وفهمه العميق للتصوّف وإرشاده السخيّ في الممارسات الروحية كالصيام والإنشاد والسماع مكّنت الرومي من الارتقاء من المفاهيم إلى التجارب المجسّدة لموت الأنا، والاتحاد والنشوة الإلهية، وهي حالات جوهرية في التصوّف.
ورغم أنهما لم يُمضيا معا سوى عامين، إلا أن تأثير شمس لم يضعف أبدا. استمرّ الرومي في تأليف القصائد بقيّة حياته، وأحيانا كان أصدقاؤه يدوّنون كلماته. وقد قال في مدح شمس: لقد حطّمتَ قفصي وجعلتَ روحي تغلي وحوّلتَ عِنَبي إلى نبيذ!". وهكذا أصبح الواعظ الرصين شاعرا منتشياً.
ألّف جلال الدين الرومي حوالي 65,000 بيت شعري جُمعت في كتابين: المثنوي، وهو قصيدة تعليمية سردية في أبيات مقفّاة، وديوان شمس التبريزي، وهو مجموعة ضخمة من الرباعيات الغنائية والغزليات.
وشعره زاخر بقفزات مذهلة من الصور والأفكار والمديح والنقد والاعترافات والدعوات. وفي أشعاره يتجلّى اهتمامه بالإنسانية والتزامه الجوهري بتحرير الإنسان من خلال الحبّ. كما يصف تحوّله الشخصي ويشجّع القارئ على أن يحذو حذوه، متسائلا عن منظومة القيم التي تضع اللصوص على الدرجات العليا وتعطي الأولوية للكسب المادّي على التواصل الروحي وتؤيّد السيطرة على الآخرين بدلا من الرضا المتبادل.
وفي شعر الرومي أيضا، يتجسّد هذا الحبّ الكبير بمختلف الطرق. أحيانا يكون الحبّ ماء الحياة، قوّة تتدفّق من أعماق الروح، تسقي الأرض في دواخلنا وفيما بيننا وتُنبت حدائق بدلا من ساحات المعارك. وأحيانا يكون الحبّ نارا تحرق السرديات والإسقاطات الأنانية التي تحجب إحساسنا بالترابط وتُبقينا منفصلين. "الحبّ جدول ومحيط بلا شاطئ، نبيذ وخبز، معلّم وصديق، شعلة تملأ المنازل بالنور. الحبّ يتحدّانا، يوقظنا من سباتنا، ينير أعيننا العمياء، يأتي من العدم ليغسل ثقل الأيّام".
تقول الأسطورة إن "شمس" اختفى ذات يوم في ظروف غامضة. ولا يُعرف سبب اختفائه أو ما حلّ به حقّا حتى اليوم. قيل، مثلا، أنه بسبب قربه من الرومي والتغيير العميق الذي أحدثه في حياته، فقد حسده الكثيرون وكرهوا علاقتهما. وقيل انه قُتل على يد بعض أتباع الرومي الغيورين ممّن استاءوا من تأثيره على معلّمهم بعد أن استثمروا فيه الكثير، ولم يكن هناك متّسع لمعلّم آخر في ذلك المكان.
لكن لأنه لا توجد أدلّة كافية تشير إلى أن شمس قُتل بالفعل، فقد تكون هذه قصّة مختلقة وبلا أساس أو سند تاريخي. وهناك من يقول ان "شمس" غادر إلى موطنه طواعيةً ليخفّف التوتّرات المتزايدة داخل مجتمع الرومي. فبعد أن انتهى عمله مع الرومي، حان وقت عودته بعد أن لم يبقَ المزيد ممّا يمكن أن يُقال أو يُفعل. وربّما لأنه لم يكن ممكنا تفسير اختفائه، نُسجت حكايات خيالية كثيرة لإضفاء هالة من الغموض عليه.
وسواءً قُتل "شمس" حقّا أم لا، فقد ترك اختفاؤه الرومي حزينا مكسور القلب ودفعه إلى فترة حزن وأسى شديدين. إلا أن هذه الفترة أصبحت أيضا أرضا خصبة للتعبير الروحي والشعري العميق. وبسبب الشعور بالوحدة والفقد، أُجبر الرومي على مواجهة أعماق روحه وتوجيه أشواقه وآلامه في شعره وبدأ كتابة أشعاره الخالدة عن الله وعن الحبّ والحقيقة والحياة.
لم يكن غياب شمس المفاجئ والغامض مجرّد نهاية، بل بداية جديدة عميقة في رحلة الرومي الاستثنائية، وترك علامة لا تُمحى على روحه وإرثه. وبفضل شمس، أصبح الرومي الشاعرَ العظيم الذي نعرفه اليوم. لماذا وصل إلى قونية تحديدا، ولماذا اختفى وكيف اختفى نهائيا، كلّ هذا سيبقى لغزا. ما هو واضح وأكيد هو أن شمس التبريزي لعب دورا مهمّا جدّا في تغيير وتنوير أحد أبرز الشعراء الصوفيين الذين عرفهم العالم.
عاش جلال الدين الرومي حتى بلغ السادسة والستّين من عمره. ولم يعد إلى الوعظ، مع أنه ظلّ ناشطا في مجتمع قونية، يساعد في حلّ النزاعات بين سكّان المدينة ويقدّم الإرشاد والسلوان ويكتب رسائل إلى الحكّام لمساعدة الطلاب الفقراء وغيرهم من المحتاجين. وبالطبع، استمرّ في كتابة الشعر وقضى السنوات الأخيرة من حياته يكمل كتابه "المثنوي"، ويكتب المزيد من الرباعيات والغزليات لديوان "شمس التبريزي"، وينظُم القصائد حتى وهو على فراش الموت.

Credits
rumi.org.uk
sufism.org
lithub.com

الأربعاء، مايو 07، 2025

أسفار الرومي/5


"لم تُخلق لتزحف في هذه الحياة. لديك أجنحة، تعلّم استخدامها وحلّق."

في رسالة كتبها بعد هروبه بفترة وجيزة، رثى ياقوت بأسلوب مفعم بالعاطفة القصورَ والبيوت التي رآها وهي تُمحى من على وجه الأرض "كما تُمحى أسطر الكتابة من الورق، وتصبح مسكنا للبوم والغربان".
لكن بينما كان جنكيز خان يؤسّس دولته الوحشية في آسيا الوسطى، كانت الممارسات الصوفية التي أحياها المهاجرون الخراسانيون، بمن فيهم بهاء الدين وعائلته، تقوى وتتجذّر. وأصبحت المحافل الصوفية مراكز ثقافية للتهذيب، حيث قدّم الشيوخ رسائل الأمل والتعالي والصداقة والحبّ، بالإضافة إلى الحفلات الموسيقية والشعر والرقص. الباحثة الألمانية آن ماري شيمل لخّصت ذلك التباين بقولها: شهدت تلك الفترة أفظع كارثة سياسية، وفي الوقت نفسه أعلى مستويات النشاط الديني والصوفي".
وقد تعاملَ الرومي الأب مع الاضطرابات الناجمة عن غزو المغول، إمّا متجاهلا، أو متألّما بسبب المعاناة التي جلبها لعائلته ومجتمعه. وصاغ القضية بشكل أكثر وضوحا لدائرته من المهاجرين من خراسان بقوله: إذا كنتم خائفين من التتار فأنتم لا تؤمنون بالله".
ولعلّه أدرك العناية والحكمة الإلهية فيما حدث، ونقل إلى ابنه هذا الفهم للأحداث المأساوية. ولم يكن اختياره لمكانه في آسيا الصغرى صدفة، فقد تنقّل واعظا متجوّلا من مدينة إلى أخرى، ومن راع إلى راع، مقتربا دائما من قونية؛ عاصمة سلطنة الروم السلجوقية التي كان يحكمها السلطان علاء الدين كيقباد الأوّل، والتي ربّما زارها لأوّل مرّة في وقت مبكّر من عام 1221. وبالطبع، سمح توقيت هذه الهجرة في أواخر حياته لعائلته بالنجاة من الإعدام المحتمل على يد فاتح العالم المعروف آنذاك. وقد أمضى جلال الدين وعائلته السنوات السبع التالية في وسط الأناضول قبل أن يصلوا أخيرا إلى قونية.
وبحلول ذلك الوقت، لم يكن جلال الدين قد شهد فقط عددا كثيرا من الأسفار، بل عايشَ أيضا مراحل الحياة، مع وفاة والدته وشقيقه الأكبر وزواجه من صديقة طفولته ثم ولادة ابنيه. وسيكتشف في الولادة والتحوّلات المستمرّة لدورة الحياة استعارته المفضّلة عن الحياة الداخلية: مثل طفل في الرحم يتغذّى بالدم، يولد الجميع مرّة واحدة، ولقد ولدت مرّات عديدة".
كانت قونية، حتى في هندستها، أقرب إلى مدن آسيا الوسطى منها إلى مدن آسيا الصغرى. كانت المنازل تمتدّ بين الأسواق وحدائق الزهور، بينما اصطفّت على جانبي الشوارع والأزقّة جداول من الطين المحروق تتدفّق منها المياه، وحُفرت نوافير في جدران المباني العامّة في أحواض مقوّسة الشكل. وكانت الحمّامات العامّة تقع في الوسط، مع أقسام للرجال والنساء.
بعد أن استعان السلطان كيقباد بالأساطير الفارسية لتعزيز مكانته في قونية، ابتكر لنفسه نسَباً مميّزا يختلف عن أسلافه الأتراك الرحّل. ومثل أخيه ووالده، أخذ السلطان اسمه الملكي من الملوك الخياليين العظماء في الملحمة المسمّاة بـ الشاهنامه أو كتاب الملوك. وبالمثل، نقشَ السلطان على أبراج المدخلين الرئيسيين لقلعة قونية رسوما لشخصيات واقتباسات من الملحمة كُتبت بأحرف من ذهب. وفي جميع أنحاء القصور، وُضعت تماثيل لتنّين يرمز لمحارب تركي وصفه الفردوسي في قصيدته بأنه "تنّين خطير أنفاسه من نار!".
كما بنى السلطان خاناً أسماه "خان السلطان" عام 1229. كان الخان مخصّصا للمسافرين على الطريق من قيصري إلى قونية، في منطقة من أراضي الأناضول المُعشبة والمسطّحة التي لا تتخلّلها سوى كتل من الجبال تشبه إلى حدّ كبير سهوب آسيا الوسطى.


وفي بعض الممرّات الأخرى التي تؤدّي الى المدينة، تُفسح حقول القطن والذرة الطريق لحدائق البرقوق الأصفر، أو مشمش قونية الشهير. وفي الصباحات التي تعقب العواصف الرعدية، تتفتّح المزيد من الورود وتتناثر الخضرة وينتشر عطر أشجار التوت في كلّ مكان. كان الربيع هو الفصل المفضّل في قصائد الرومي، وغالبا ما تكون صوره الربيعية الأناضولية واضحة: حديقة الورود والريحان الشذيّ وظلال الفاوانيا التي تشبه سريرا بنفسجيّا بين التراب".
كانت آسيا الصغرى منفصلة عن البرّ الرئيسي العربي ومعظم سكّانها من المسيحيين اليونانيين والأرمن، لذا سُمح للإسلام بالتطوّر في ظلّ هؤلاء السلاجقة بطريقة أكثر انسجاما مع عالمية ابن عربي. وكان سلاطين السلاجقة يؤمنون بأن أدعية الشيوخ الكبار، من أمثال بهاء الدين، تجلب الرخاء والاستقرار للبلاد.
في صباح أحد أيّام فبراير عام 1231، وعن عمر يناهز الثمانين، توفّي بهاء الدين، بعد أن قاد عائلته آلاف الأميال ونجا معهم من الفناء المحتمل. وقد تبرّع كيقباد الأوّل بأرض في حدائق الورود الخاصّة به كي يُدفن فيها. كانت صحّة بهاء الدين قد بدأت بالتدهور وفقدَ معظم أسنانه وصار صوته مرتجفا. وكان يستقبل أتباعه في منزله ويقول لهم: انتظروا حتى أموت وسترون كيف سيحلّ ابني جلال الدين مكاني ويصبح أعلى شأنا منّي".
ذات يوم، انتهى الى علم جلال الدين أن معلّمه برهان الذي لم يرَه منذ 15 عاما، قد وصل الى قونيه. كان توقيت ظهوره غريبا. وقد عزا برهان سبب مجيئه إلى حثّ بهاء الدين له في المنام. وبلكنته وسلوكه الخراساني، كان يحمل معه أصداء عوالم سمرقند وبلخ المنقرضة. كان برهان يسعى دائما إلى نقل أفكار باطنية يصفها بـ"الأسرار"، وتحْمِل في جوهرها فهما للألوهية كوجود في كلّ شخص. لكن تلك الأفكار لم يكن سهلا التعبير عنها، وكان التصريح بها ينطوي على مخاطر، إذ بدا أنها تتجاوز الخطّ الفاصل بين الإنسان والإله.
كان برهان يستخدم صورا صوفية مألوفة في أحاديثه، مثل اكتشاف لؤلؤة أو انعكاس الضوء في المرآة أو الاحتراق مثل فراشة في اللهب. وكان يقول لطلّابه ومنهم جلال الدين: إن كنت لا تعرف نفسك، فإن كلّ العلوم والمعرفة التي تمتلكها لا طائل من ورائها".
ولم تكن مثل هذه الرسائل عن معرفة الذات غريبة على سكّان الأناضول من اليونانيين. ومنذ شعار "إعرف نفسك" المنقوش على معبد أبوللو في دلفي، ارتبطت المعرفة عند الإغريق القدماء بالدين. وكان الفكر الأفلاطوني المحدث، الذي يؤكّد على المعرفة كمسار صوفيّ، حيّاً في منطقة الأناضول. كان أفلاطون شخصية ساحرة يعامله كلّ من الإغريق والأتراك كقدّيس. وقريباً من قونية، يتدفّق "نبع أفلاطون" حيث يُعتقد أنه عاش. ويزعم البعض أنه مدفون في كنيسة القلعة.
في أحد الأيّام، انتشر الخبر عن وفاة برهان. وفي وقت وفاته تقريبا، توفّيت "جوهر"، زوجة الرومي، في ظروف غامضة ودون أيّ سبب معروف. ومرّة أخرى، عانى الرومي من فقدان رابط وثيق بطفولته في آسيا الوسطى، والأهم من ذلك أن جوهر كانت والدة ابنيه. وقد تزوّج الرومي بعد ذلك بوقت قصير من أرملة تُدعى "كيرا" وتنتمي الى عائلة رومانية تركية في قونية. وكان زوجها السابق متحدّثا أرستقراطيا من إيران. وعلى مدى السنوات القليلة التالية، رُزق الرومي وكيرا بابنهما مظفّر الدين وابنتهما ملكة.
كانت كيرا أكثر وضوحا في الذاكرة من جوهر، حيث لم يكن زواجهما مرتّبا، وعاشت مع الرومي خلال فترة شهرته المتزايدة. وعلى الرغم من أنه لم يكتب عنها أبدا، فقد تذكّرها أولئك الموجودون في دائرته الداخلية، وكانت المرأة فيما بعد مصدرا لبعض الحكايات الأكثر سحرا وخيالا عن زوجها. كان اختيارها مغادرة الأسرة الأرستقراطية لزوجها المتوفّى والزواج من رجل دين يشير إلى ميول روحية. وكانت بالتأكيد تؤمن بالخرافات والجنّ والأرواح الشرّيرة غير المرئية.
كثيرا ما كان الرومي يقع في فخّ التصنيف التقليدي للرجال على أنهم أقوياء وعقلانيون، بينما النساء متقلّبات وعاطفيات. وقد صوّر الزوجات ذات مرّة على أنهنّ اختبارات تطهيرية لفظاظة أزواجهن، فقد "أرانا الله طريقا ضيّقا وخفيّا لتهذيب أنفسنا، وهو طريق الزواج من النساء وتحمّل ظلمهن والاستماع إلى شكاواهن وتركهن يُصدرن الأوامر لنا".
لكن في حالات أخرى، كان الرومي أكثر تعاطفاً، كما في قصيدته في المثنوي الموجّهة للنساء: المرأة شعاع من الله، سماويّ ومحبوب. إنها خالقة ومخلوقة". وكان أيضا ضدّ فرض الحجاب وكان العديد من تلاميذه من النساء، وقد انتُقد لحضوره اجتماعاتهنّ المسائية في إحدى الحدائق.

الثلاثاء، مايو 06، 2025

أسفار الرومي/4


"حيثما يوجد خراب، هناك أمل بالعثور على كنز".

باعتبارها ملتقى للحجّاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كانت مكّة أيضا مركزا للأخبار والمعلومات، حيث كان الرومي وعائلته يتابعون آخر الاخبار من شهود العيان. وفي تلك السنة، أي 1218، كان الخبر العاجل في أوساط المسافرين من آسيا الوسطى يتعلّق بتهديد المغول. فمنذ رحيل عائلة الرومي من خراسان، ازدادت التوتّرات والهجمات بين جنكيز خان وشاه خوارزم. وكان مصير الحجّاج غير واضح وقرار العودة إلى المدن المهدّدة مثل بلخ أو سمرقند غير مؤكّد.
بعد مكّة، رحلت عائلة الرومي إلى دمشق واستغرقت الرحلة بأكملها حوالي شهرين. كانت دمشق وقتها غير مستقرّة أيضا وسوريا لا تزال متأرجحة بسبب الحروب الصليبية. وكان حاكم دمشق هو "المعظّم" الذي كان والده يقاتل في الحملة الصليبية الخامسة.
لم تدُم إقامة جلال الدين ووالده وعائلته طويلا في دمشق. وانتقلوا هذه المرّة من سوريا إلى الأناضول خلال صيف ذلك العام. كانت الأناضول في خيال المسلمين تمثّل الحدود الخارجية لحضارتهم وحدود روما المسيحية أو الروم. وكان مصطلح "رومي" يُستخدم أحيانا كمرادف للمسيحي.
وكان عدد المسلمين في الأناضول يُقدّر بنحو عشرة بالمائة فقط من السكّان. وكانت مالاطية، المدينة الواقعة قرب ملتقى نهر الفرات والتي نزلوا فيها في البداية حامية عسكرية ملحقة بحصن من القرن الثامن الميلادي، وتُمثّل أوّل ساحة دفاع ضدّ البيزنطيين تمتدّ حتى البحر المتوسّط.
وقد وصف ياقوت الحموي المدينة عندما حلّ فيها بأنها جزء من الأراضي اليونانية، إلا أن الأتراك السلاجقة كانوا على ما يبدو مسئولين عنها عندما أقامت عائلة جلال الدين فيها لفترة وجيزة. وأثناء وجوده في مالاطية، أجرى جلال الدين ثاني لقاءاته المشهورة مع رجال بارزين. كان يعيش في المدينة في ذلك الوقت الصوفيّ العربي المولود في إسبانيا ابن عربي، أعظم مفكّري عصره، وقد اتُّهمت آراؤه حول وحدة الوجود بأنها تحريف وثنيّ لعقيدة الإله المتعالي في الإسلام.
وعلى الرغم من أنه كان يُدرّس في دمشق، إلا أن إقامته في سوريا لم تكن مريحة له، فقضى الأعوام من ١٢١٦ إلى ١٢٢٠ في مالاطية. ويقال أنه رُتّب حوار بين والد جلال الدين وابن عربي. وقد أحضر الأبُ جلالَ الدين معه، وعندما غادرا، كان الصبيّ هو من لفت انتباه الصوفيّ العظيم. وعندما رأى ابن عربي الرومي الصغير يقتفي أثر والده في الشارع، علّق قائلا: سبحان الله! محيط يتبع بحيرة!".
كان بهرام شاه، أمير إرزينجان، وزوجته الأميرة عصمتي، أوّل راعيين لوالد جلال الدين في الأناضول. وكانت عاصمتهم تقع في الطرف الأعلى من وادي الفرات. كانت إرزينجان مدينة كبيرة يغلب عليها المسيحيون الأرمن. وغالبا ما أثارت مثل هذه المدن غضب المسلمين الزائرين الذين كانوا يعبّرون عن امتعاضهم من وفرة النبيذ ولحم الخنزير والمواكب الدينية فيها.
وعلى ما يبدو، استقرّ والد جلال الدين في شتاء عام ١٢١٨ في "العصمتيّة"؛ المدرسة التي سُمّيت تيمنّا براعيته الملكية، حيث كان يعطي دروسا عامّة مع لمسة من التصوّف. كان هذا الشاه الصغير، أي أمير إرزينجان، معتادا على رعاية الشخصيات الثقافية البارزة. وكان قد دعمَ في وقت سابق إنتاج قصيدة تعليمية طويلة بعنوان "كنز الأسرار" ألّفها الشاعر نظامي وكُتبت بأسلوب سنائي.
وكان شاعر البلاط الآذاري، أي نظامي، قد كتب أشهر قصّة رومانسية بعنوان "ليلى والمجنون"، وهي تنويع على حكاية عربية كلاسيكية ومشهورة عن الحبّ العذري. وقد ظلّ هذان الحبيبان، أي ليلى والمجنون، في خيال الرومي بمثابة عاشقيه المفضّلين، وقَدّس فيما بعد المجنون المتألّم باعتباره "شهيد الحبّ" الصوفيّ المثاليّ.


مرّ عام تقريبا منذ أن ذهب الرومي وعائلته إلى الحجّ في مكّة. وخلال هذا الوقت، كانوا يتطلّعون ويستمعون بقلق لآخر الأخبار عن الوضع في بلادهم. لم يكن أحد ينعم بالاستقرار حقّا في أيّ مكان. وكانت التقارير التي جلبها المسافرون قاتمة، وسرعان ما صرفت العائلة النظر عن أيّ خطط للعودة في نهاية المطاف، وبدا أن إقامتهم في الأناضول ستطول.
كانت منطقة خراسان، حيث ترك بهاء الدين وراءه والدته المسنّة وابنه وابنته الكبيرين، تسجّل نشاطا خطيرا أشعله حادث حدوديّ صغير. كان بعض من يأتون إلى أراضي شاه خوارزم يشترون الأقمشة ليكسوا أنفسهم. وقد منعهم الشاه وأمر بقتل تجّارهم. كما فرض عليهم الضرائب ومنع تجّاره من السفر إلى أراضيهم. وذهب التتار بتواضع الى ملكهم ليشتكوا له. فطلب الملك عشرة أيّام للنظر في الأمر، ودخل كهفا عميقا في الجبال، حيث صام لأيّام عشرة وتضرّع وصلّى. وجاءته صرخة من الله: لقد سمعت دعاءكم! ستُنصرون أينما ذهبتم!".
كان جنكيز خان ينظر إلى خوارزم باعتبارها شريكا تجاريّا مربحا، وقد أرسل سفراءه للتفاوض على اتفاقية تجارية وتبعتهم قافلة من 450 تاجرا تحمل سلعا فاخرة. وبينما كانت القافلة تعبر إلى كازاخستان، شمال المنزل الذي شهد طفولة جلال الدين، استولى حاكمها، وهو قريب لشاه خوارزم، على البضائع وقتل التجّار باعتبارهم جواسيس.
أرسل جنكيز خان مبعوثين للمطالبة بالاقتصاص من القتلة. لكن بدلا من ذلك، قطع شاه خوارزم رأس أحد المبعوثين وأعاد الآخرين وقد حلق لحاهم بشكل مهين. وتأكيدا لرواية جلال الدين، ذكر المؤرّخ الفارسي عطاء الله الجويني الذي عاصر تلك الأحداث أن جنكيز خان صعد قمّة جبل للصلاة ونزل "مستعدّا للحرب". واستمرّ الغزو العقابي الذي تلا ذلك أربع سنوات، حتى عاد جنكيز خان إلى وطنه منغوليا، تاركا وراءه المدن الكبرى التي عرفها جلال الدين في صباه، بخارى وسمرقند وبلخ وهيرات ومرو ونيشابور، وقد تحوّلت الى أنقاض.
ويصف الجويني نزول القوات المغولية في بخارى بقوله: أُخذ جميع الناس، رجالا ونساء، وطُردوا إلى السهل ثم قُتلوا جميعا ولم يُستثنَ منهم أحد". وفي بلخ، حيث كان بعض أفراد من عائلة بهاء الدين ما يزالون يعيشون، هُدمت جميع التحصينات والجدران، وكذلك القصور. وتكرّرت حقول القتل في تِرمذ. كانت الوحوش البرّية تتغذّى على الجثث، والأسود تتزاوج مع الذئاب دون صراع، والنسور تأكل دون شجار مع الجوارح الأخرى".
يمكننا أن نتخيّل الرومي وهو يسافر عبر مناظر طبيعية مهيبة من صحاري وجبال ومروج وغابات، مستنشقا عبير الزهور البريّة، ومتأمّلا السماء المرصّعة بالنجوم، ومستيقظا على أصوات الطيور، ومتجوّلا في حدائق الورود وبساتين السرو والخوخ وأسواق التوابل العطرية، وكلّ هذه العناصر وجدت طريقها إلى شعره.
بأذن، كان يسمع حكايات شعبية وقصائد ونصوصا مقدّسة وأحاديث قافلة مفعمة بالحيوية. وبالأخرى، يسمع أخبار الفظائع والرعب الذي اجتاح البلاد مع غزو جيوش جنكيز خان للمدن وذبْح سكّانها وتركها أطلالا مشتعلة.
وكانت معاناة نيشابور أشدّ من جميع المدن الأخرى في ذلك الانتقام الدموي. فقد انطلق سهم من وراء أسوار المدينة المحاصرة متسبّبا في مقتل توكوشار صهر جنكيز خان. وسمح الفاتح لابنته الأرملة والحامل بالانتقام. وفي أبريل 1221، قضت بالموت على الجميع، بمن فيهم الكلاب والقطط وأيّ حيوان حيّ، وأمرت بتكديس الجماجم على شكل ثلاثة أهرامات، للرجال والنساء والأطفال.
وذكرت بعض الروايات أن العطّار كان من بين القتلى، وهو مصير محزن لشاعر اتّسم بالرقّة ووُصف بأنه "صوت الألم". وطوال السنوات الثلاث التي سبقت الغزو المغولي، كان الجغرافي ياقوت الحموي يقيم سعيدا في مرو متنقّلا بين مكتباتها العديدة. وقد كتب: لولا المغول لبقيتُ ولعشتُ ومتُّ هناك، لكن بالكاد استطعت الفرار".

الاثنين، مايو 05، 2025

أسفار الرومي/3


"بِعْ ذكائك واشترِ الحَيرة"!

كان شاعر الجيل السابق الذي تجنّبه العطّار هو عمر الخيّام الذي دُفن بجوار سور حديقة على بعد أميال قليلة من نيشابور، حيث تتناثر بتلات أشجار الكمّثرى والخوخ على قبره. وقد اشتهر الخيّام في حياته بأنه عالم رياضيات وفلك، كما كتب رباعيّات موجزة عن الحياة كمثل قوله: سواءً في نيشابور أو بابل، تستمرّ أوراق الحياة في التساقط واحدة تلو الأخرى". ومع ذلك، فإن رياح الشكّ والتشاؤم المنعشة في شعر عمر أزعجت العطّار "الصوفي".
كانت نيشابور تُعرف باسم "بوّابة الشرق". وبعد المرور عبر تلك البوّابة، تنقسم الطريق الى فرعين. كان المسافرون، مثل عائلة جلال الدين، قد اتخذوا طريق القوافل الشمالي بدلاً من طريق البريد الجنوبي. ويمرّ هذا الطريق بالرّي ويستمرّ إلى بغداد. وعلى طول الطريق، أفسحت الألحان الفارسية الطريق تدريجيّا لأغاني الحبّ العربية. وقد كتب الرومي عن حياة قضاها في التنقّل بين هاتين اللغتين قائلا: تحدّث بالفارسية، على الرغم من أن العربية أجمل".
شُيّدت بغداد كمدخل رئيسيّ إلى مكّة، وكانت المدينة مواجهة تقريبا للقبلة. وقد وصلت عائلة الرومي إلى بغداد في يناير عام 1218، وبذا فاتتها فرصة الاستمتاع بالعصر الذهبي للخلفاء العبّاسيين في بغداد. إذ كان بريق المدينة قد بلغ أوجه في عهد هارون الرشيد في القرن التاسع، وتجلّى ازدهار عاصمته ببذخ في "ألف ليلة وليلة".
أنشأ هارون بلاطاً على الطراز الإمبراطوري الفارسي وشجّع المشاريع الفكرية، حيث ترجم الرهبان النسطوريون النصوص العلمية اليونانية. ورُسمت حدائق قصره حول شجرة مصنوعة من الفضّة مع طيور آليّة مغرّدة، وخلفها امتدّت مدينة عالمية تضمّ ثلاثة جسور عائمة، مثبّتة بسلاسل حديدية على ضفّتي نهر دجلة، بالإضافة إلى آلاف من زوارق العبّارات ومنطقة مسيحية بها كنائس وأديرة وحدائق عامّة لسباق الخيل وحديقة للحيوانات البرّية بها طواويس هندية.
كان الخليفة الناصر يحكم منذ ما يقرب من أربعين عاما، ساعياً للحفاظ على أمجاد "بغداد هارون" ولكن دون قوّة عسكرية موحّدة. وظلّ الخليفة مقيّدا بشاه خوارزم من الشرق والأتراك السلاجقة من الغرب. ومع ذلك، كان يزرع حدائقه وينقل القصور من مدينة هارون الدائرية إلى الضفاف الشرقية لنهر دجلة. الشاعر الخاقاني، أثناء مروره ببغداد، أُغمي عليه عند رؤيته تلك الحدائق الرائعة وشبّه دجلة بدموع مريم العذراء.
كانت بغداد في العصور الوسطى متنوّعة ومتسامحة كثيرا، مع بعض القيود. فقد أصدر بعض الخلفاء مرسوما بأن ترتدي النساء غير المسلمات ملابس صفراء أو زرقاء وأحذية حمراء لتمييزهنّ. ومع ذلك، كانت الأحياء المسيحية من بين أكثر المناطق شعبيةً في بغداد، حيث كان الرهبان يُخمِّرون النبيذ ويوزِّعونه من أديرتهم. وقد كتب أحد المؤرّخين يقول: في يوم ممطر، يا لها من متعة أن تشرب الخمر مع كاهن!".
في وقت زيارة جلال الدين وعائلته لبغداد، كان الجغرافيّ ياقوت الحموي مفتونا بكنيسة نسطورية يونانية في حيّ دير الروم، وذكر أن حشودا من المسلمين كانوا يأتون في أيّام الأعياد "للتحديق في الشمامسة والرهبان الشباب بوجوههم الجميلة والاستمتاع بالرقص والشرب وصنع الملذّات". وباعتبارها مركزا للخلافة، ظلّت بغداد بالنسبة للرومي رمزا للعدالة والقوّة: بغدادك مليئة بالعدل وسمرقندك مليئة بالحلاوة".
أُعجب الرومي بـ"شمس العراق الحارقة"، وانضمّ دجلة والفرات منذ ذلك الحين إلى نهر جيحون العظيم على خريطة خياله. في ذلك الوقت، كانت بغداد مليئة بالخانقاه، أو النزُل الصوفية، التي غالبا ما بُنيت بجوار المقابر، وهي مناسبة للتوق إلى العالم الآخر. ومع ذلك، قيل إن والد الرومي اختار بدلاً من "نزُل" الإقامة في إحدى الكليّات.


ولو لم يكن بهاء الدين قد أقام في الكليّة النظامية، لكان على الأقل قد جال في هذه الجامعة الأعظم في العالم الإسلامي، التي أسّسها الوزير نظام الملك عام ١٠٦٥، قبل أكثر من قرن من تأسيس أكسفورد أو السوربون. كان هذا المعهد، المعروف أيضا باسم "أمّ المدارس"، يقع بالقرب من رصيف على ضفاف نهر دجلة بمحاذاة شارع سوق الثلاثاء الكبير شرق بغداد.
في النظامية، قبل ذلك الوقت بحوالي مائتي عام، أي في القرن الحادي عشر، ألقى العالم الشهير الغزالي محاضرات في قاعات كانت مكتظّة بمئات الطلاب لمدّة أربع سنوات، ثم عانى على ما يبدو من انهيار عصبي وغادر بغداد للتجوّل في صحاري الحجاز. وبدافع الشكّ، دخل في النهاية إلى محفل صوفيّ، حيث كتب أطروحته المؤثّرة عن "العلم الباطني". وفي حياته، وحياة الرومي أيضاً، كان كتابه "إحياء علوم الدين" من أكثر الكتب مبيعاً.
رغم أن بغداد كانت قد فقدت شيئا من رونق الخلافة عندما زارتها عائلة الرومي، إلا أنها كانت لا تزال مختبرا عظيما لتطوّر الصوفية، وهو ما كانته طوال القرون الأربعة السابقة.
كان العطّار قد جمع "سيَر الأولياء" وذكر مجموعة من القصص الشعبية عن الشخصيات المقدّسة، مثل قصّة رابعة، المرأة الصوفية من البصرة، التي قيل إنها عبرت الشوارع بمصباح في يد وإبريق ماء في اليد الأخرى "لإحراق الجنّة وإطفاء نيران جهنم"، حتى لا يُحبّ أحد الله لمجرّد الثواب أو العقاب. ورسَم العطّار أيضا صورة للجنيد، بائع الزجاج، الذي روّج لمدرسة رصينة في بغداد ونصح بالتحدّث بالرموز، ولنظيره بايزيد البسطامي الذي ألهم مدرسة للصوفية.
بالسفر إلى مكّة عام 1218، كان على عائلة الرومي مغادرة بغداد بحلول شهر فبراير على أبعد تقدير. كانت المرحلة الأولى من رحلتهم هي رحلة المائة ميل للانضمام إلى قوافل الحجّاج المغادرة من مدينة الكوفة المبنية من الطوب. واستغرقت القوافل المغادرة من الكوفة ما يقرب من شهر للوصول إلى مكّة. وكتب جلال الدين لاحقاً: الرجل الذي يسافر مع قافلة في ليلة مظلمة ملبّدة بالغيوم لا يعرف أين هو، أو إلى أيّ مدى سافر، أو ما مرّ به. وعند الفجر، يرى نتائج الرحلة، أي أنه سيصل إلى مكان ما. كذلك، من يعمل لمجد الله لا يهلك أبدا وإن أغمض عينيه".
ذكريات جلال الدين الأكثر قسوةً كانت عن المخاوف التي واجهها أثناء السفر الى مكّة. فقد تحدّث عن مسافرين تعرّضوا للهجوم في مكان ما، "فقاموا بتكديس بعض الحجارة فوق بعضها كعلامة، وكأنهم يقولون: هذا المكان خطير".
كان التهديد الأكبر يأتي من قبائل البدو التي كانت تهاجم القوافل. وقد شهد الجغرافي الاندلسي ابن جبير، الذي سافر إلى مكّة قبل عائلة الرومي بثلاثين عاما، حادثة دُهس فيها سبعة حجّاج حتى الموت أثناء تدافعهم على خزّان مياه يستخدمه الناس والإبل. وشبّه الرومي هذه المشاقّ بالجهود الروحية: تتجلّى عظمة الكعبة عندما يتحدّى الحجّاج قاطعي الطريق ويجوبون الصحراء الشاسعة".
وذكر ابن جبير أيضا أنه بين قمّتي الصفا والمروة، يوجد "سوق مليء بالفواكه" بحيث كان من الصعب أن يحرّر الحاجّ أو الزائر نفسه من الزحام الشديد". كما وصف سوقا آخر كبيرا بالقرب من الكعبة تُباع فيه سلع مثل الدقيق والعقيق والقمح واللؤلؤ".
كانت زيارة الكعبة فرضا يجمع الناس من مدن ومناخات عديدة في العالم. وكثيرا ما كان جلال الدين ينقل مكّة إلى المستوى الروحي دون أن يعلّق أبدا على تجربته الشخصية في الحجّ، حتى أنه أشفق على حاجّ فقير تائه في الصحراء المحيطة بقوله: يا من ذهبت للحجّ، أين أنت؟ ها هو الحبيب! ها هو ذا. أنت تائه في الصحراء". وتعكس بعض مشاعره المواقف التي ربّما تعلّمها من العطّار ومتصوّفة بغداد.

الأحد، مايو 04، 2025

أسفار الرومي/2


"عليك أن تستمرّ في كسر قلبك حتى ينفتح."

للسفر من سمرقند إلى بلخ، كان على جلال الدين وعائلته المسير بمحاذاة نهر جيحون. كانت نقطة العبور الطبيعية إلى جانب بلخ من النهر هي مدينة "تِرمذ" المحصّنة، مسقط رأس "برهان" معلّم جلال الدين، الذي قرّر البقاء هناك.
في منتصف الأربعينات من عمره، كان برهان معلّما مكلّفا بمهمّة محدّدة، وهي رعاية جلال الدين علميّا وروحيّا. فكان بذلك شخصيةً محبّبةً ومهمّةً في طفولة الرومي ولم ينافسه في التأثير عليه سوى والده.
في المرحلة الأولى من رحلتهم على طول حدود آسيا الوسطى، كانت قوافل طويلة لا حصر لها من الإبل والبغال تشقّ طريقها عبر الصحاري والسهول المحاطة بالجبال المغطّاة بالثلوج، وتتوقّف في مدن الواحات المحاطة بأشجار النخيل. كانت الأسواق المزدحمة تعجّ بالتجّار الذين يبيعون البطّيخ أو الخيول للمسافرين.
في صباه، استوعب جلال الدين إيقاع تلك الإبل وهي ترسم خطوطها المتعرّجة بين الأعشاب وفي الرمال. كما أصبح يعرف عن ظهر قلب الألحان التي تنتشر في كلّ مكان أثناء الرحلة وتُغنّى لإزجاء الوقت أو تسريع القافلة، مصحوبةً في كلّ خطوة بجلجلة أجراس فضّية تُثبّت بالقرب من آذان الجمال.
وكان سائقو الجمال يردّدون الأغاني التقليدية، غالبا أغاني الحبّ، التي لا تنقطع إلا عند ارتفاع الأذان للصلاة. وكان الناي، أو مزمار القصب، هو الأكثر وضوحا في تلك الألحان، وهو آلة حزينة أصبحت فيما بعد صورة لفنّ الرومي وروحه. "إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين، يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنّ إلى أصلي".
وفي النهاية ستُدمج صور المزامير والإبل والقوافل والنزُل والأهلّة ورمال الصحراء في موضوع الرومي العظيم عن عدم التعلّق، كمثل قوله: أصواتنا مثل أجراس القافلة أو الرعد. أيّها المسافر عندما تتكاثف الغيوم لا تترك قلبك في النُزل".
كانت هذه الرحلة داخلية بقدر ما كانت خارجية، حتى إن كان الرومي ما يزال صبيّا صغيرا ولم يدرك بعد الكثير من تأثيرها. كان يراقب مناظر الطبيعة الخلّابة في جولته في المدن الإسلامية العظيمة آنذاك. والأهم من ذلك أنه كان يتواصل مع أدلّة مهمّة على أصوله الشعرية والثقافية والروحية، لا سيّما في نيشابور وبغداد ومكّة.
كانت نيشابور مركزا جاذبا للشعر التعبّدي وللصوفيين الذين يجاهرون بالفضيحة كممارسة روحية. وكانت بغداد القلب النابض بالحياة الجامعية الإسلامية والتصوّف منذ بداياتهما، ومقرّا للخليفة. وفي مكّة، كان المسلمون من جميع الأعمار يتفكّرون، مرّة واحدة في العمر، في علاقة أرواحهم بالله، وهو أمر شغلَ الرومي منذ نعومة أظفاره كما شغلَ عائلته. وما كان من الممكن تصوّر الرجل الذي أصبح عليه الرومي لولا تلك الأجزاء من هويّته التي اكتشفها في هذه الرحلة التي استمرّت عقدا من الزمان.
كانت المحطّة الأولى لجلال الدين وعائلته نيشابور التي وصلوها على الأرجح في وقت ما من عام 1217. كانت هذه المدينة رابع أكبر عواصم خراسان وأكثرها سكّانا. وكانت أيضا بمثابة استراحة مرغوب بها في مثل هذه الرحلة، إذ كانت الطرق الفرعية من بلخ أكثر تعرّجا وأقلّ صيانةً من الطرق الأوسع المؤدّية إلى بغداد.
كانت العائلة قد مرّت لتوّها عبر مساحات طويلة من الأراضي القاحلة المغبرّة التي أصبحت مخبئاً مزعجاً للخارجين عن القانون، مع سهول لا متناهية لا ينعشها في الربيع إلا حفيف العشب الأخضر المزيّن بالخشخاش الأحمر، بينما تنتشر هنا وهناك بيوت طوب مقبّبة ومخيّمات للرعاة الرحّل.


في نيشابور، كان الجغرافيّ والرحّالة ياقوت الحموي، قد زار العديد من المدن نفسها التي زارها جلال الدين وعائلته. وقد وصف المدينة في ذلك الوقت تقريباً بأنها كانت لا تزال تعاني من آثار الزلزال الكبير الذي وقع عام 1145، ومن حصار الأتراك الأويغور للمدينة بعد أن أسرَ أهلُها سلطانَهم العظيم سنجر السلجوقي. وباعتباره باني إمبراطورية، أصبح سنجر يمثّل الحكّام الأقوياء في قصائد جلال الدين الرومي.
كان ياقوت لا يزال يجد عجائب رائعة تلفت انتباهه. وقد أشاد بشكل خاص بمناجم الفيروز وبنهر نيشابور الذي يغذّي عشرات المطاحن بالثلوج المذابة من الجبال القريبة. ومع أن المدينة لم تكن من أكثر الأماكن التي زارتها عائلة الرومي شهرةً أو تميّزا، إلا أنها قدّمت أسلوبها الروحاني المتحرّر وشكّلت مشهدا شعريّا جديدا ورائعا على حدّ سواء، وكشف الرومي في النهاية عن تقارب وجدانيّ معها.
وقد رأى جلال الدين بعض متصوّفة نيشابور، وكان أشهرهم أتباع "الملاماتية" أو "طريق اللوم". كانوا يُخفون تقواهم حتى لا يُنظر إليهم على أنهم قدّيسون، وكانوا يسيرون في الشوارع حفاة ويشربون الخمر ويرتدون الحرير المطرّز ويتصرّفون كما لو كانوا آثمين أو مجانين.
وكان أشهر هؤلاء فريد الدين العطّار الذي كان قد تجاوز آنذاك الثمانينات أو حتى التسعينات من عمره. كما كان قد انتهى من كتابة أروع أعماله "منطق الطير"، وهو حكاية مبتكرة وخيالية مكتوبة شعراً عن سرب من الطيور ينطلق في رحلة بحثاً عن الطائر السماويّ الجاثم على أعلى قمّة في سلسلة جبال البُرز شمال إيران.
كانت قصص هذا الكتاب مناسبةً لصبيّ مثل جلال الدين. وقد استجاب لوزنِها العربيّ البسيط واستخدمه لاحقاً في "مثنويّه" الخاص. وعكست قصائده الكثير ممّا كان غنيّا وآسراً في حساسية نيشابور في تلك اللحظة المزدهرة. وخلال إقامة العائلة هناك، قيل إن جلال الدين رفقةَ والده وجد طريقه إلى متجر الأعشاب الذي يديره العطّار داخل سوق مزدحم.
كما قيل أيضا إن العطّار استشرف ببصيرته النافذة مستقبل الطفل الواقف أمامه وتنبّأ لوالده بنبوغه قائلا: سيُشعل ابنك قريبا ناراً في قلوب جميع محبّي الله في العالم". وكهديّة، قدّم الشاعر للصبيّ نسخة من مؤلّفه "كتاب الأسرار". وفي هذه التأمّلات المجرّدة التي يغلب عليها طابع الحكمة، يكشف العطّار أن أسرار العالم مخفيّة قرب عرش الله، وأن اكتشاف هذه الحقائق الأبدية متاح فقط لمن هم على استعداد "لفقدان عقولهم" وشرب ماء الورد الإلهي".
لم ينظر جلال الدين إلى العطّار كشاعر فحسب، بل تقبّل أيضا السلالة الشعرية التي صنعها لنفسه. كان العطّار قد وجد الإلهام والنموذج الأمثل في شخص الحكيم سنائي، وهو شاعر من الجيل السابق في غزنة. وكان سنائي أوّل شاعر بلاط يتوقّف عن كتابة قصائد التملّق لراعيه حتى يتمكّن من ممارسة الشعر العرفاني.
وفيما بعد، قال جلال الدين الرومي موضحاً نسبه الشعري والروحي لطلّابه: من يقرأ كلمات العطّار بعمق، سيفهم أسرار سنائي. ومن يقرأ كلمات سنائي بإيمان، سيفهم كلماتي بشكل أفضل وسيستفيد منها ويستمتع بها".

السبت، مايو 03، 2025

أسفار الرومي/1


"نحن منسوجون من العدم، نجوم منثورة كالغبار".

في حوالي عام ١٢١٢، سافر الصبيّ جلال الدين الرومي مع عائلته من بلخ إلى سمرقند. ووصلوا إلى المدينة في قافلة والده الشيخ بهاء الدين "أو سلطان العلماء كما كان اتباعه يلقّبونه" عبر سلسلة جبال زرافشان، ومنها الى منطقة يحكمها القراخانيون، إحدى السلالات التركية المتنافسة على حكم المنطقة.
في قصائد الرومي اللاحقة، غالبا ما يظهر هؤلاء المحاربون الأتراك متجمّدين في الزمن بشكل رومانسي؛ بدواً في السهوب يمتطون خيولا برّية، كما في إحدى قصائده الرمضانية: داخل هذا الشهر قمر مخفيّ كالتركي داخل خيمة الصيام".
ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي وصل فيه مع والده وعائلته إلى سمرقند، كان حكّامها الأتراك الجدد، مثل العديد من العشائر المتجوّلة، قد تخلّوا منذ زمن طويل عن ممارساتهم الشامانية القديمة من أجل حياة أكثر حضرية وعالمية، مع تبنّيهم للإسلام السنّي.
كانت سمرقند تقع أيضا على مفترق طرق شعريّ، فقد أُلّفت فيها القصائد المبتكرة وغُنّيت لأوّل مرّة قبل قرنين من الزمان باللغة الفارسية التي تتحدّثها عائلة جلال الدين، بدلاً من الشكل الكلاسيكي الأقدم.
كان شارستان، الحيّ القديم المهيب، الذي يطلّ على أعلى أرض فوق أسوار المدينة المبنية من الطين في عصور ما قبل الإسلام هو أوّل ما تراه أيّ قافلة تعبر نهر زرافشان وتشقّ طريقها عبر بساتين الخوخ المحيطة وأشجار السرو الباسقة المرويّة من قنوات عدّة. ومن المرجّح أن عائلة الرومي استقرّت في حيّ شعبي يقع على ضفّة النهر وتغمره المياه أحيانا في الربيع عند ذوبان الثلوج في الجبال.
بعد خمسين عاما، استحضر جلال الدين هذا الحيّ التجاري بشكل خافت في القصّة الافتتاحية لكتاب المثنوي، قصّة صائغ سمرقند، التي لا تُروى فقط كمثل روحي، ولكن أيضا مع إحساس بنسيج محيطها والشعور بالمكان الذي ينبع من كونك مقيما لا مجرّد زائر.
تدور القصّة حول جارية جميلة يعشقها ملك أكبر منها سنّا. ولأنها لم تستجب لمحاولاته التقرّب منها، أرسل الملك طبيبه الموثوق لتشخيص مرض مفاجئ ألمّ بها. وبذكاء، يقيس الطبيب الملكي نبضها ويطرح أسئلة موجّهة. كان نبضها يدقّ بشكل طبيعي، وفجأة تسارعَ، وتحوّل وجهها إلى اللون الأحمر عندما ذكر لها اسم صائغ من سمرقند. وعندما اكتشف الطبيب سرّ كلّ هذا الألم والبؤس سألها: وأين شارعه وأيّ طريق تقود إليه؟" أجابت: بجانب الجسر في شارع كذا".
كان رواة القصص وسحَرة الثعابين ولاعبو الطاولة ما يزالون يتجوّلون في مساءات سمرقند على ضوء مصابيح الزيت. وكانت منتجات المدينة كثيرة ومتنوّعة. كانت الأنوال تنسج القماش الأحمر والفضّي، بالإضافة إلى الديباج والحرير الخام. وكان النحّاسون يطرقون أواني النحاس الضخمة، والحرفيون يصنعون الركائب والأحزمة والكؤوس، والفلاحون يزرعون الجوز والبندق.
وكان ورق حرير سمرقند، وهو في الأصل منتج صيني، مشهورا عالميّا. كان الورق الناعم، المصنوع يدويّا من لحاء أشجار التوت المصبوغ بألوان عديدة باستخدام الحنّاء أو ماء الورد أو الزعفران، يتمتّع بلمعان نادر وغريب. وكانت قصائد الرودكي، شاعر سمرقند، ما تزال تُغنّى في الساحة وتُقرأ بشغف من ورق سمرقند الفاخر عندما كان الرومي يكبر ويدوّن أشعاره.


ويقال إن الرودكي اخترع شكل الرباعية بناءً على أنشودة كان قد سمعها من أفواه الأطفال وهم يدحرجون الجوز في شوارع بخارى، المدينة التوأم القريبة من سمرقند والمشهورة بمكتبتها، والتي ذكرها جلال الدين الرومي في شعره أيضا: يأتي السكّر من سمرقند، لكن شفتيه وجدت الحلاوة في بخارى". لذلك ظلّت كلمات الرودكي ترنّ في ذهن جلال الدين طوال حياته، مثل أغاني الطفولة.
بعد وصول جلال الدين وعائلته بفترة وجيزة، حوالي عام ١٢١٢، واجهوا أوّل حصار مرعب شنّه شاه خوارزم الذي شعر بأنه مستعدّ وقويّ بما يكفي لضمّ هذه العاصمة الأكثر جاذبية في آسيا الوسطى الى ملكه. وقد تذرّع الشاه بسوء معاملة ابنته؛ إحدى زوجات الحاكم القراخان، وحشدَ جنوده عند أسوار المدينة وبدأ حصارا قاسيا استمرّ ثلاثة أيّام.
كانت هذه أقدم ذكريات الرومي المدوّنة، وقد استعاد الأحداث بعد سنوات في حديث مع طلّابه، متأمّلا تلك المحنة ومفسّرا المشهد بأثر رجعي: كنّا في سمرقند، وكان شاه خوارزم قد حاصر المدينة بجنوده في صفوف. في ذلك الحيّ، كانت هناك سيّدة فائقة الجمال، لا مثيل لها في المدينة كلّها. ظللتُ أسمعها وهي تقول: يا إلهي! كيف تركتني أقع في أيدي هؤلاء الطغاة؟ أعلم أنك لن تسمح بمثل هذا أبدا، أثق بك".
ونهب جند الشاه المدينة وأسروا الجميع، بمن فيهم جواري تلك السيّدة، لكن لم يصبها شيء. ورغم جمالها الفاتن، لم ينظر إليها أحد. لذا، يقول جلال الدين "يجب أن تعلم أن من يتوكّل على الله سينجو من كلّ مكروه".
كان الانطباع الذي تركَته سمرقند في شعر جلال الدين الرومي دافئا وحنونا: إجمع شظايا عقلك بالحبّ حتى تصبح حلوا كسمرقند ودمشق". وكثيرا ما كان يتحدّث عن وطنه بأكمله باسم "خوارزم"، بما في ذلك سمرقند التي أصبحت الآن جزءا من خوارزم. كما علّق أكثر من مرّة على جمال أهلها: هناك الكثير من الجمال في خوارزم الذي بمجرّد أن تراه ستُفتن به".
كان الشابّ جلال الدين يسمع قصص الأنبياء من القرآن والتي ستشكّل المادّة الخام لصلواته وأحاديثه، وبالتأكيد شعره. وكان من بين أصحاب القصص المفضّلين لديه إبراهيم الذي نجا من فرن نمرود الناريّ دون أن يحترق، ونوح الذي مات ابنه المضطرب في الطوفان، ويوسف الذي قطعت بعض نساء مصر الجميلات أيديهنّ بسكاكين العشاء وهنّ يحدّقن في جماله بذهول.
كما أُعجب بقصّة موسى الذي تحوّلت عصاه إلى ثعبان ابتلعَ عصيّ السحرة، ومريم التي وضعت رضيعها تحت شجرة نخيل أسقطت عليها رطبها الناضج، والطفل يسوع الموهوب بالكلام في مهده والقادر على إعطاء الحياة للطيور بأنفاسه، وسليمان بخاتمه السحري. وفيما بعد، تخيّل جلال الدين القرآن الكريم كقماش ديباج فاخر.
في حوالي عام 1216، عندما كان جلال الدين الرومي في التاسعة أو العاشرة من عمره، انطلقت قافلة الجمال التابعة لوالده مرّة أخرى، هذه المرّة باتجاه مكّة. وكان عليهم اجتياز العديد من المدن والأنهار والصحاري، قبل أن يبلغوا مسقط رأس النبيّ محمّد عليه السلام ومدينة الإسلام المقدّسة.

الأحد، أبريل 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في كتابه "الضوء الأخير"، يذكر ريتشارد لاكايو بعض الفنّانين الذين عاشوا طويلا وجعلوا من الشيخوخة مرحلة انتصار وابتكار. وكلود مونيه كان أحد هؤلاء. في العديد من لوحاته التي أنجزها في نهايات حياته، ومن بينها مجموعة من ثماني لوحات كبيرة الحجم لزنابق الماء، استطاع ان يكسر التقاليد المتّبعة في تصوير المناظر الطبيعية.
    في بعض هذه اللوحات تخلّى الرسّام عن المنظور ونقاط التلاشي، وركّز بدلا من ذلك على سطح بركته في بلدة جيفرني، ورسم مشهدا يُظهر الماء دون أيّ أرض تُضفي عليه طابعا محدّدا. ونتيجة لذلك، قد تبدو بعض هذه اللوحات محيّرة وتجريدية.
    كان مونيه يبتكر نوعا جديدا كليّا من الفضاء التصويري. فالبِركة مرآة تُرينا السماء والأشجار التي تعلوها، وفي نفس الوقت هي غشاء تطفو عليه زنابق الماء. كما أنها نافذة على الأعماق تنبض بالحياة وبخيوط طويلة من الطحالب والأعشاب المتموّجة. وكلّ ضربة فرشاة عليها أن تشير إلى بُعد أو أكثر من تلك الأبعاد المتشابكة.
    ونفس هذه الفكرة تنطبق على الإسباني فرانسيسكو دي غويا. فلو كان هذا الرسّام الكبير قد مات في أوائل الستّينات من عمره، لكان ما يزال يُذكر باعتباره فنّانا بارعا في رسم الصور الشخصية فحسب، ولكن ليس باعتباره واحدا من أكثر الفنّانين تأثيرا في جميع العصور.
    من نواحٍ عديدة، أسهم طول العمر في تعزيز استمرارية غويا. وبعض أروع أعماله وأكثرها شهرةً، كلوحاته السوداء الغريبة وسلسلة نقوشه المرعبة عن "كوارث الحرب"، أُنجزت في العقدين الأخيرين من حياته.
  • ❉ ❉ ❉

  • السمة المشتركة الأكثر شيوعا في القصص الخيالية هي انها تبدأ عادةً بالعبارة الافتتاحية "كان يا ما كان"، التي تتجاوز اللغة العربية واللغة الانغليزية (Once upon a time) الى عدد كبير من لغات العالم.
    ويُعزى أوّل ظهور لهذه العبارة في كتب القصص الى قصّة إنغليزية بعنوان" حياة وآلام القدّيسة جوليانا" التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 1225.
    وحقيقة أن كلّ اللغات تقريباً لديها عبارة واحدة مثل هذه، تبدأ بها القصص الخيالية وتزيل من تلك القصص أيّ أثر للحاضر والماضي، ليست مصادفة. بل إنها في الواقع تخدم غرضاً مفيدا، لأنها بحسب الكاتبة ماريا كونيكوفا تخلق "مسافة وغموضاً" وتوفّر "دعوة للخيال والتخيّل" وتتيح للقرّاء أن يعرفوا على الفور أن القصّة ستزدهر بالخيال وستنتهي نهاية سعيدة.
    ومن الأسباب الأخرى لرواج العبارة أن بدء قصص الخيال بكلمات نمطية يجعل القرّاء يدركون على الفور نوع القصّة التي ستدور حولها الأحداث، تماما كالمعلومات التي يتلقّاها المشاهد في الثواني القليلة الأولى من مشاهدة فيلم للرسوم المتحرّكة.
  • ❉ ❉ ❉

  • "على شَفا الفناء التام في الله، هناك منطقة من الارتباك العذب، شعور بالتواجد في أماكن متعدّدة في آن واحد، ونطق لجمل متعدّدة، غموض مذاب وهشّ وشبه فارغ، وجهل عميق يبدو فيه السلوك التقليدي الهادئ ضرباً من الجنون".
    قصائد الرومي ليست حدائق مصغّرة وأنيقة، بل هي أشبه ما تكون "بلوحات على الطراز التركماني، مليئة بالحركة المفاجئة والزهور والشجيرات الغريبة والشياطين والحيوانات الناطقة"، على حدّ وصف المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كان ذئب يلتهم حيوانا قتَلَه، وفجأةً علِقت عظمة صغيرة من اللحم في حلقه، فلم يستطع بلعها. شعر الذئب بألم شديد وراح يركض جيئةً وذهابا وهو يئنّ ويتأوّه باحثا عن شيء يخفّف الألم. وتوسّل لكلّ من قابلهم بأن يُخرجوا العظمة من حلقه قائلا: من يساعدني سأفعل له أيّ شيء يطلبه".
    وأخيرا وافق طائر "كرَكي" على المحاولة، وطلب من الذئب أن يستلقي على جنبه وأن يفتح فكّيه قدر استطاعته. ثم أدخل رقبته الطويلة في حلق الذئب، والتقط العظمة بمنقاره وأخرجها. ثم قال الكركي للذئب: والآن هل تتكرّم بإعطائي المكافأة التي وعدتني بها؟".
    ابتسم الذئب وكشّر عن أنيابه وقال: إرضَ بنفسك، لقد وضعتَ رأسك في فم ذئب وأخرجته سالما، فاشكر الله على ذلك". ومنذ ذلك الوقت والناس يستخدمون عبارة "من فم الذئب"، دلالةً على الشيء الذي ينطوي فعله على مخاطرة كبيرة.
  • ❉ ❉ ❉

  • في العصر الذهبي للفنّ التقليدي "أي الفن الذي يستخدم فيه الفنّان الفرش والألوان بنفسه"، كانت لوحة الموناليزا، بابتسامتها الغامضة، تجتذب الحشود من كلّ حدب وصوب. وكان الناس ينتظرون دورهم بصبر وقلوبهم تنبض بالإثارة لمجرّد الوقوف أمام تلك اللوحة الصغيرة الآسرة. وكانت ضربات ليوناردو دافنشي تحمل في طيّاتها قصّة تكشف عن دقّة الفنّان وإتقانه للعبة الضوء والظلّ.
    كان الفنّ تجربة حميمة تتفاعل معها كلّ الحواسّ. وكانت كلّ ضربة للفرشاة أشبه بضربة على قماش عقل الناظر. وكانت ضربات فينسنت فان غوخ الجريئة والمتموّجة يتردّد صداها في عالمه الداخلي المضطرب، في حين كانت ضربات فرشاة مونيه الدقيقة تدعونا إلى المناظر الطبيعية الهادئة التي يصوّرها خياله. وكان استخدام رمبراندت المعبّر للضوء والظلّ ينقلنا إلى أعماق المشاعر الإنسانية.
    عندما يقف المرء أمام لوحة، يدور حوار بينه وبين العمل الفنّي. حيث تتتبّع العين الخطوط والألوان وتنتبه للتفاصيل الدقيقة وتبحث فيها عن معنى وتتخيّل كيف تتدفّق الألوان المائية وتتداخل معا في تناغم رقيق وكيف يمتصّ الورق حيوية الألوان مثل روح عطشى تتشرّب الجمال، وكيف تنزلق الفرشاة بسلاسة على السطح فتخلق مناظر طبيعية خلابة وصورا آسرة تلتقط جوهر اللحظة.
    كانت زيارة المعارض الفنّية تجربة تتجاوز قطع الفنّ المعروضة لتمتدّ الى الهندسة المعمارية والجوّ الذي يحتضن العمل الفنّي. وأصبحت عظمة المتاحف وقاعاتها الأنيقة مسارح لسيمفونيات من الإبداع، حيث الممرّات المقوّسة والأرضيات المبلّطة وغيرها من العناصر الفنّية الجاذبة.
    الآن تغيّرت تجربة الفنّ. فقد أصبحت المنصّات الرقمية مستودعات ضخمة لعدد لا يُحصى من الرسوم التوضيحية واللوحات والصور الفوتوغرافية التي تُنجز باستخدام الكمبيوتر وبرمجيات الغرافيكس وأدوات مثل أقلام الليزر والكاميرات الرقمية والماسحات الضوئية وغيرها. وبمجرّد تمرير إصبعك، تمرّ الصور أمام عينيك في تتابع سريع ويصبح تأثيرها عابرا وزائلا، ويضيع العمق والملمس مع تَجسُّد الفنّ في شاشات أجهزتنا البكسلية.
    لا شكّ أن اللوحات الرقمية تتمتّع بسحر خاص. فهي تتيح لك الاستمتاع الفوري، مع القدرة على تصحيح الأخطاء بنقرة زرّ واحدة واستكشاف مجموعة واسعة من الأدوات والتأثيرات. كما أنها جعلت الفنّ متاحا لجمهور أوسع. ولكن وسط هذه الراحة، فقدنا شيئا مهمّا، فقد ولّت أيّام التفكير في اللون المثالي وخلط الألوان بعناية لتحقيق اللون المطلوب. ولم يعد بوسعنا أن نتلذّذ بفوضى الإبداع الفنّي التي من شأنها أن تملأ الغرفة بالشغف. لقد حلّت الشاشات الأنيقة والأقلام محلّ التجربة الملموسة للعمل بالوسائط المادّية.
    وبينما نحتضن مزايا الفنّ الرقمي، يتعيّن علينا أن نتوقّف لنتأمّل الكنوز غير المحسوسة التي قد نتركها وراءنا. إن المادّية التي يتّصف بها الفنّ التقليدي، بما يتضمّنه من نسيج ملموس وضربات فرشاة دقيقة وحضور كبير، يتمتّع بجاذبية معيّنة لا يمكن تكرارها في عالم الفنّ الرقمي.
    في سعينا نحو التقدّم، يتعيّن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نفقد شيئا ثمينا عندما ننتقل إلى عالم الرقمية؟ هل نضحّي بثراء الفنّ المادّي ولمسته الإنسانية المتأصّلة والارتباطات العميقة التي يمكن أن يثيرها؟ وبينما نتنقّل في المشهد الفنّي المتطوّر باستمرار، يجب أن نحقّق التوازن ونحافظ على جوهر أشكال الفنّ التقليدية مع احتضان الإمكانات التي يجلبها الفنّ الرقمي.

  • Credits
    worldwidewords.org
    meer.com

    الجمعة، يونيو 21، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • عندما أصبح فريدريك الثاني ملكا على صقليّة، كان قد أتقن تماما القراءة والكتابة باللغة العربية. وكان يحيط نفسه بالعديد من العرب في بلاطه. كان يقدّر كثيرا العلوم والفلسفة العربية، وكان على اتصال دائم بالإسلام. كما واصل احترام التراث الإسلامي في جزيرته، أي صقلّية.
    وعندما زار فريدريك بيت المقدس، أصدر مضيفُه السلطان الكامل أمرا بألا يؤذّن المؤذّن للصلاة مراعاة ومجاملة لضيفه المسيحي. ولما سأل فريدريك القاضي الذي انتدبه السلطان لمرافقته لماذا لم يُرفع صوت الأذان أجاب: فعلنا هذا مراعاة لك واحتراما لزيارتك". فقال له القيصر: من الخطأ أن تغيّروا عاداتكم من أجلي، وإنه ليسعدني كثيرا أن أسمع صوت الأذان وتلاوة القرآن".
    كان فريدريك محبّا للعرب ومثالا في تسامحه وانفتاحه. وكان قد اختار معظم مستشاريه في مملكته من العرب. ويصفه المستشرق الألماني بوركهارت بأنه "أوّل حاكم عصري ومستنير يتبوّأ العرش". اما المستشرقة زيغريد هونكه فتعزو إعجاب فريدريك بالعرب والمشرق إلى ما ورثه في طفولته من أسلافه النورمان من حبّ للعرب وتقدير لحضارتهم.
    في اللوحة فوق، يظهر فريدريك الثاني وهو يحمل صقرا. والصقر كما هو معروف رمز مهمّ من رموز الثقافة العربية. وبالنسبة لفريدريك، لم يكن حمله للصقر مجرّد إشارة لشكل من اشكال الرياضة أو الصيد، بل لما للصقر من رمزية في العالم الإسلامي، من حيث ارتباطه القويّ بفكرة المُلك أو شرعية الحكم.

    ❉ ❉ ❉

  • في عام 1550، ذهب الرسّام بيتر بريغل إلى ايطاليا فوجد دا فنشي ورافائيل وميكيل أنجيلو منشغلين برسم القدّيسين والملائكة. ولما عاد إلى بلده بلجيكا قرّر ألا يحلّق مثلهم في ملكوت الغيب والأرواح وألا يرسم سوى الفقراء وغيرهم من الطبقات المسكينة والمهمّشة.
    كان بريغل يعتبر هؤلاء ملح الأرض الذين سحقهم الإقطاع وهمّشتهم الكنيسة بأوهامها. لذا ليس مستغربا أن نجد لوحاته عامرة بصور الفلاحين في قرى الفلاندرز الفقيرة وهم يرقصون في حفلات زواجهم ويعزفون الموسيقى ويوزّعون الطعام على بعضهم البعض.
    الناقد الإنغليزي جوناثان جونز يصف بريغل بقوله: كان واحدا من أكثر الفنانين إبداعا وإبهارا في تاريخ الرسم. من أشهر لوحاته "صيادون في الثلج"، تلك الصورة التي لا تُنسى للفلاحين البسطاء والأكواخ المتواضعة والمتزلّجين المبتهجين على ثلوج الشتاء. كما رسم لوحة "برج بابل"، وهي رؤية سوريالية لهيكل ضخم يقزّم بُناته والمدينة التي أسفل منه. وإحدى رؤاه الرائعة الأخرى هي لوحته "انتصار الموت" الذي جسّده بجيش من الهياكل العظمية التي تذبح الأحياء بلا رحمة.
    ويضيف: إن عبقرية بريغل ليست فقط في خياله الجامحة، وإنما أيضاً في إحساسه الحادّ بالمناظر الطبيعية والسلوك البشري. عندما سافر إلى إيطاليا، نقل المناظر الطبيعية التي رآها في رحلته، خاصّة أثناء عبوره جبال الألب، إلى لوحاته، ما أضفى عليها طابعاً بانوراميّا يشبه الخريطة. ويبدو أن تفاصيل لوحته "صيّادون في الثلج" تلخّص طبيعة الحياة على الأرض في اكتساحها الجغرافي ونطاقها الأنثروبولوجي. لقد استطاع هذا الرسّام الكبير تصوير مسرح الحياة في مشاهد هزلية، ولكنها مليئة بالصور النفسية المكثّفة. أنظر مثلا إلى الوجوه في لوحته التي فوق "عرس الفلاحين" أو الى توتّرات الحبّ والغيرة في لوحته الأخرى "رقصة الفلاحين".

    ❉ ❉ ❉


  • ❉ ❉ ❉

  • أبناء الرياح هو اللقب الذي أطلق على الشيشيميكاز، وهم شعب هندي كان وما يزال يعيش في شمال المكسيك. قيل إنهم أشجع وأعنف جماعة بشرية وُجدت على الأرض. ولم تستطع أيّة قوّة إخضاعهم أو الانتصار عليهم. وقد حُذّر الإسبان من مجرّد التفكير في غزو أرضهم في القرن السادس عشر. كانوا يريدون احتلال الأرض وتشغيل الهنود كسُخرة في مناجم الفضّة.
    لكنّ الهنود قاوموهم بضراوة طوال ثلاثين عاما واستنزفوهم وأضعفوهم. وكان الإسبان يعرفون أنهم يخوضون مع الشيشيميكاز حربا خاسرة. ولم يكن من عادة الهنود أن يأخذوا أسرى أبدا، بل كانوا يذبحون كل جنديّ اسباني يجدونه في أرضهم. والغريب أن كلّ محاولات الإسبان لاجتثاثهم وقهرهم فشلت، بل وجعلتهم أشدّ بأسا وقوّة. وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي يُهزم فيها جيش أوربّي كامل هزيمة ساحقة على يد شعب أصلي قليل العدد والعدّة.

    ❉ ❉ ❉

  • من أشهر الاقتباسات المنسوبة الى جلال الدين الرومي قوله:
    "خارج مضمار كلّ الأفكار
    وكلّ مفاهيم الخير والشرّ والفضيلة والخطيئة
    هناك مرج واسع بلا نهاية
    سألقاك هناك."
    في هذا الاقتباس، يدعو الرومي البشر إلى مكان يتجاوز قيود الأفكار التقليدية والحكم على الآخرين، حيث يمكن لهم أن يجتمعوا مع بعضهم البعض متحرّرين من اعتبارات الصواب والخطأ. وهذا المكان يوفّر مساحة من الوحدة والفهم والقبول تتجاوز الانقسامات والتمايزات والاختلافات التي خلقتها الأحكام الصارمة والأفكار الثنائية.
    وكلمات الرومي تحثّ كلّ من يقرأها على تجاوز حدود تصوّراته المشروطة وأحكامه المسبقة والذهاب إلى مكان يمكنه فيه التواصل مع الآخرين على مستوى أعمق، متحرّرا من قيود الحكم والتصنيف والتأطير والانقسام.
    كلام الرومي تذكير قويّ بأهميّة النظر إلى ما هو أبعد من الاختلافات والأحكام السطحية، لإيجاد أرضية مشتركة مع الآخرين واحتضان وتعزيز الروابط القائمة على التعاطف والتفاهم والقبول كوسائل ومسارات للتواصل الحقيقي والوحدة والتآلف بين البشر.

    ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن أحد ملوك الصين في غابر الأزمان كان يشكو من شعور بالحزن والضيق، رغم الحياة المنعّمة التي كان يتمتّع بها في قصوره. وقد استدعى حكيما ليسأله كيف يمكن أن يهجره الحزن ويصبح إنسانا سعيدا. فأشار عليه الحكيم بأن ينام ليلة واحدة في قميص رجل سعيد.
    ثم بعث الملك رسله في أرجاء البلاد بحثا عن ذلك الرجل وقميصه. لكنهم لم يقابلوا شخصا واحدا خاليا من هموم الحياة. وقبل أن يعودوا الى الملك، وجدوا في طريقهم رجلا فقيرا يجلس مبتسما أمام كوخ في طرف مزرعة. فسألوه: هل انت سعيد؟ فأجاب: نعم.
    قالوا: نريد قميصك كي ينام فيه الملك، وسيمنحك مالا كثيرا ورزقا وفيرا. فضحك الفلاح وقال: لكنني لا ارتدي قميصا، ألا تلاحظون؟!
    الدرس المستفاد من هذه القصّة هو أن كثرة المال والجاه لا تجلب السعادة بالضرورة. كما أن الشعور بالسعادة لا يأتي بما يملكه الإنسان من ثروة أو سلطان، بل بالسلام الداخلي الذي يأتي من الله.

  • Credits
    pieter-bruegel-the-elder.org
    rumi.org.uk

    الاثنين، يونيو 03، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • بينما رجل يمشي ذات يوم، ظهر أمامه فجأة نمر جائع، وأخذ يطارده إلى أن احتجزه على شفا جرف. فقفز الرجل من الجرف لتجنّب الخطر الوشيك. وأثناء سقوطه إلى أسفل تمكّن من الإمساك بغصن شجرة نمت فوق جرف آخر صغير.
    وبينما هو معلّق هناك، لاحظ وجود نمر ثانٍ أسفل منه ينتظر سقوطه إلى سفح الهاوية ليأكله. وعندما بدأ الرجل يفقد قواه لاحظ وجود ثمرة فراولة برّية نمت بالقرب منه. فقطفها ووضعها في فمه وهو يعلم تماما أنها ستكون آخر شيء يأكله على الإطلاق. واكتشف كم كانت تلك الثمرة حلوة ولذيذة.
    المذاق الحلو والمرّ لآخر حبّة فراولة في حكاية الزِن القديمة هذه هو تعبير عن الجمال الكامن في الفترة التي تفصل بين مجيء الحياة وذهابها وبين الفرح والحزن اللذين يشكّلان أقدارنا كبشر.
    وأحد الدروس المستفادة من هذه الحكاية هو أنه إذا كان عقل الإنسان هادئا فيمكنه أن يُبقي نفسه بعيدا عن صخب العالم، على الرغم من أنه يعيش وسط ذلك الصخب.
    وأيضا نحن لا نعرف في الواقع ما الذي سيحدث في اللحظة التالية من حياتنا، مثلما لم نعرف ما الذي انتهت اليه هذه القصّة. ظللنا مع الرجل معلّقين على حافة الجرف. ولم نعرف هل سقط فعلا؟ هل أكله السبع؟ أم حصل أمر مفاجئ أفزع النمر فهرب، وعاش الرجل بعد ذلك ليروي قصّته الرائعة؟ وسواءً أكانت تلك آخر لحظات الرجل على الأرض أم لا، فإن ما نعرفه على وجه التأكيد انه جرّب شيئا ممتعا وكان طعمه حلوا.
    هذه القصّة يمكنك قراءتها على أكثر من وجه. إذ يمكن أن تكون نصيحة لتقدير اللحظة الراهنة، أو أن تكون تحذيرا لكي تنتبه إلى حواسّك وتمتنع عن التمسّك بالمتع. وأيّا ما كان تفسيرك فهو صحيح.
    لكن فلاسفة الزن الذين ابتكروا هذه القصّة يرون أن الحياة معاناة وأننا يمكن أن نموت في ايّ لحظة. والرجل المتشبّث بغصن الشجرة كان يعيش اللحظة الراهنة، لذا أكل الفاكهة وتجاهل الخطر.
    وهناك تفسير آخر للقصّة. فقد يكون النمر الأوّل رمزا لماضي الإنسان وما فيه من صعوبات وصدمات إن لم يتعامل معها بوعي فإنها قد تورثه القلق والمعاناة. أما النمر الآخر المنتظر أسفل السفح فيرمز إلى المستقبل والتحدّيات التي يمكن أن نواجهها في قادم الأيّام.
    إنّنا عادة نركّز على "نمر" الحياة (أي مخاطرها) ونتجاهل ثمرة الفراولة التي هي حولنا في كلّ مكان، لكنّنا لا نركّز بما فيه الكفاية لنراها. هناك ثمار ممتعة كثيرة حولنا: عائلاتنا، حواسّنا، الأزهار، الهواء، المطر، الشمس، الماء الخ.
    وأنت تقرأ هذه القصّة، ربّما فوجئت بتصرّف الرجل وكيف أنه في مثل ذلك الموقف العصيب والمهدّد لحياته خطر بباله أن يأكل ثمرة فاكهة ويستمتع بها. لكن موقفه ليس مستغربا كثيرا.
    فبعض المرضى الذين أُبلغوا بأنهم يعانون من أمراض خطيرة ولا شفاء منها، أصبحت اصوات العصافير عندهم أجمل ومنظر الخضرة والأشجار أروع وصحبة أصدقائهم أفضل وأكثر إمتاعا، خاصّة بعد أن عرفوا أن "النمر"، أي الموت، سيأكلهم في النهاية، وهو "آكلهم" على كلّ حال سواءً بالمرض أو بدونه.
  • يقول الرسّام الهولندي موريتز ايشر معلّقا على لوحته "فوق":
    من المستحيل أن يسير سكّان عوالم مختلفة أو يجلسوا أو يقفوا على نفس الطابق، لأن لديهم مفاهيم مختلفة حول ما هو أفقي وما هو عمودي. لكن من الممكن أن يتشاركوا في استخدام نفس الدرج. على الدرج العلوي، يتحرّك شخصان جنبا إلى جنب وفي نفس الاتجاه.
    ومع ذلك ينزل أحدهما إلى الطابق السفلي والآخر يصعد إلى الطابق العلوي. الاتصال بينهما غير وارد، لأنهما يعيشان في عالمين مختلفين، وبالتالي لا يمكن أن يكون لديهما معرفة عن وجود بعضهما البعض.


  • غالبا ما يجد الأفراد الحكماء أنفسهم وحيدين، ليس لأنهم يفتقرون إلى القدرة على تكوين علاقات، ولكن بسبب عمقهم وفهمهم الجوهريّ للعالم وللطبيعة البشرية. قال ألبيرت أينشتاين ذات مرّة: من الغريب أن أكون شخصا معروفا عالميّا، ومع ذلك أعيش مثل هذه الحياة الانفرادية!"
    والعزلة لا تأتي لكونها قسرية بالضرورة، ولكن لأنها مدفوعة برؤية أوضح للعالم وإدراك أعظم لحقائقه الداخلية. ومن المناسب أن نفكّر هنا في المثل الصيني الذي يقول: ان الحكيم يفهم دون سفر ويرى دون نظر وينجز دون عمل".
    وهذا المثل يدلّ على أن الحكماء يجدون الرضا الذي يحتويه عالمهم الداخلي، وهذا لا يتطلّب بالضرورة تزكية من الخارج أو رفقة ما. وحكمتهم تسمح لهم بالبحث عن إجابات داخل أنفسهم ويقبلون الواقع كما هو.
    ويمكن أن يُنظر الى الأفراد الحكماء في بعض الأحيان على أنهم أشخاص معزولون بسبب حاجز الفهم الذي يمكن أن ينشأ بينهم وبين الآخرين. وكما قال فريدريك نيتشه: الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى يظنّون أن الذين يرقصون مجانين". وبعبارة أخرى فإن الحكيم يرقص على إيقاع الموسيقى الخاصّة به لأولئك الذين لا يستطيعون سماع تلك الموسيقى، مع أن رقص الحكيم قد يبدو غريبا أو غير مفهوم.
    ويمكن أن تكون العزلة رفيقا حلوا ومرّا بنفس الوقت لأنها توفّر لصاحبها، برغم ثقلها أحيانا، مساحة للتفكير والنموّ. وكما قال جلال الدين الرومي: العزلة هي الحديقة التي تُزهر فيها النفوس". وهذا المفهوم ينعكس أيضا في المثل الاسباني الذي يقول: الحكماء يحيَون بقدر ما يتعلّمون وليس بقدر ما يعيشون".
    والحكماء يفهمون أيضا أن الصداقات يمكن ان تكون سريعة الزوال وعابرة أحيانا، ما يحيل إلى كلمات ابيكورس: لا تهجر أصدقائك لما ليس لديهم، بل قدّرهم لما لديهم". والحكمة ليست مرادفة لرفض الصداقة، ولكنها تميل الى فهم أعمق لقيمتها الحقيقية.
    والذين ليس لديهم أصدقاء بالمعنى التقليدي ليسوا بالضرورة غير اجتماعيين، ولكن نظرتهم للعالم وعلاقتهم مع أنفسهم والآخرين هي على مستوى أعمق غالبا، على الرغم من أن هذا قد يكون صعبا فهمه بالنسبة للكثيرين، ولكنه مجرّد جزء فطريّ من الحكمة وانعكاس للفهم العميق الذي يمتلكه الحكماء عن العالم.

  • Credits
    mcescher.com
    wisdomtalespress.com

    الأربعاء، يناير 17، 2024

    محطّات


  • قصّة حياة هذا الرجل تعلّمنا أن البشر لا يولدون وحوشا او سفّاحين بالفطرة. البيئة التي يعيشون فيها هي التي تحوّلهم أحيانا إلى مجرمين. وهذا ينطبق على الصبيّ الجورجي الذكيّ والفخور يوسب، الذي أراد فقط إنهاء الفقر في مسقط رأسه، لكنّه أصبح فيما بعد سببا في موت ملايين الأبرياء.
    والكثيرون لا يعرفون أن يوسب "جوزيف"، أو "ستالين" كما يُلقّب، كان من أصل جورجي، وأنه كان جورجيّا فخورا وحتى قوميّا جورجيا نشطا خلال سنوات مراهقته.
    وفي العادة، ومثل معظم الناس، نشأ ستالين مع والدته وأبيه في مدينة غوري في شرق جورجيا. كانت والدته امرأة صارمة، لأن والده كان مدمنا على الكحول وعنيفا، وكان يسيء معاملتهما لدرجة أن أمّه أخذت يوسب بعيدا، هربا من قسوة الأب.
    وقد نشأ ستالين فقيرا، لكنّه تفوّق في المدرسة. وتربّى في بيئة مسيحية متديّنة للغاية، وكانت والدته امرأة قويّة الإيمان. كان يحبّ قراءة الكتب وكتابة الشعر، وكان معجبا بأعمال الكاتب القومي الجورجي رافائيل إريستافي، وكتب بنفسه العديد من القصائد الوطنية. كما كان رسّاما موهوبا وشاعرا بارزا. وكان يقضي ساعات طويلة من يومه في قراءة الكتب، بل وتعلّم لغات أخرى غير لغته الأم، كالألمانية لغة كارل ماركس.
    وعندما بلغ الثانية عشرة، اختطفه والده وأجبره على العمل في مصنع. ومن هناك تشكّل في ذهنه انطباع سيّئ عن الرأسمالية. وفي مدرسته، اصطحبه معلّمه وبعض الطلاب الآخرين ليشهدوا شنق بعض قطّاع الطرق من الفلاحين الفقراء. وعندما رأى موتهم تعاطف معهم وتمنّى أن يصبح مسئولا كي يصلح مشاكل بلده ويبحث عن حلّ لفقر الناس. وأدّى غضبه وحنقه المكتوم والمبكّر إلى العديد من اعتداءاته وقسوته اللاحقة.
    وعندما سجّل في مدرسة تبليسي، كان الكهّان الذين يعملون هناك من القوميين الروس الذين حظروا اللغة الجورجية والملابس والتعابير التقليدية القوقازية. وهنا بدأ يصبح متمرّدا وأخذ يقرأ الكتب القومية الجورجية، كما قرأ كتاب "رأس المال" لكارل ماركس وكتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع".
    وسرعان ما أصبح ملحدا وأعلن عن نفسه بتلك الصفة. ثم بدأ بسرقة الكتب من المكتبة ونشر الدعاية الماركسية بين زملائه من الطلاب. ثم قرأ رواية "قاتل الأب" للكاتب الجورجي ألكسندر كاسبيجي، وبدأ يطلق على نفسه اسم "كوبا" نسبة إلى البطل قاطع الطريق في الرواية، بل وطلب من أصدقائه أن ينادوه بهذا الاسم.
    وتدريجيا بدأت درجات يوسب تنخفض في الامتحان، وفي النهاية ترك المدرسة اللاهوتية. وأصبح ماركسيّا وانضمّ إلى مجموعة اشتراكية جورجية كانت تعقد اجتماعات سرّية، وكان معظم أعضائها من الروس.
    ومع تزايد نشاطه الماركسي، أصبح مراقَبا من قبل الشرطة السرّية الروسية. ثم قابل الماركسي الروسي فلاديمير لينين، ومع مرور الوقت أصبح رجل عصابات وقرصانا وثوريّا عدوانيّا. ثم بدأ في تنفيذ عمليات سطو وهاجم القوزاق وعقد اجتماعات ماركسية كبيرة في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية. ثم قُبض عليه ونُفي الى سيبيريا، واستطاع أن يهرب من المنفى خمس مرّات.
    وكان يوسب كلّما أصبح أكثر ثورية، صار أقلّ جورجيةً. وعندما طالب البلاشفة الجورجيون بالحكم الذاتي لجورجيا ومقاومة السياسات القومية البلشفية والحفاظ على لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم وتراثهم، عارض يوسب، الذي أصبح الآن "ستالين"، الفكرة وأصبح السبب الرئيسي لسقوط الحكومة الجورجية.
    ولو كانت الحياة أكثر رحمة ورياح التاريخ مختلفة، لكان يوسب رجلاً قوميّا ثوريّا جورجيّا ومقاوما للإمبراطورية الروسية. لكنه بدلاً من ذلك أصبح العامل الوحيد في التحويل القسري لجورجيا كي تصبح سوفيتية.
    وفي وقت تالٍ أصبح ستالين "الدكتاتور السوفييتي" وفعل أشياء فظيعة لإخوانه وقومه في القوقاز، وحتى لمواطنيه الجورجيين. والخوض في الفظائع المنهجية التي ارتكبها هذا الرجل ضدّ عشرات الملايين من الناس في إمبراطوريّته تحتاج لكتب ومجلّدات، وخاصّة تهجيره للشعوب والمجموعات العرقية في القوقاز.
    من القومي الجورجي "كوبا" إلى الماركسي الروسي "ستالين"، ومن مواطن جورجي فخور بقومه إلى ديكتاتور ماركسي سوفييتي يكره موطنه القوقاز! كان الطريق الذي سلكه ستالين طويلا ومليئا بالانحناءات والتعرّجات ونقاط التحوّل.
    والشيء المثير للاستغراب أن ستالين لم يفقد أبدا لهجته الجورجية السميكة أثناء تحدّثه بالروسية. وحتى يومنا هذا، هناك بعض الجورجيين الذين يحبّونه فقط لأنه كان من أصل جورجي، وخاصّة الجيل الشيوعي الأكبر سنّا والمتحدّرين من مسقط رأسه غوري.

  • ❉ ❉ ❉

  • الزمن عامل نسبيّ ومرتبط كثيرا بالظروف والسياقات. فلو سمعت مثلا كاتبا يقول انه كتب روايته في ثمانية او عشره أشهر فغالبا هو يقصد انه كتبها على مدى سنوات قد تكون طويلة. لكن تفاصيل الرواية من أحداث وشخصيات وتواريخ وخلافها لم تتبلور وتتّضح في ذهنه بشكل كامل الا في اخر عشرة أشهر أو نحوها.
    وأحيانا قد يعيش رجل مع زوجته بسعادة رغم انهما تزوّجا في سنّ متأخّرة. وربّما تمنّيا لو أن الله كتب لهما أن يلتقيا قبل زواجهما بعشرين عاما كي ينعما بالسعادة لفترة أطول. والحقيقة انهما قبل عشرين عاما لم يكن لديهما من خبرات وتجارب الحياة ما يتمتّعان به اليوم، وبالتالي ربّما ما كانا قد تآلفا وتزوّجا في ذلك الوقت. وفي الغالب فإن صعوبات ومشاقّ الحياة وتمكّن الزوجين من تجاوزها معا هو ما يقوّي العلاقة ويجعلهما يتمسّكان ببعضهما البعض بالرغم من كلّ المشاكل والتحديّات.
  • يقول نصّ بابليّ قديم: ليس المنفى هو الانتقال بين الحدود والجغرافيا واللغات. بل المنفى الحقيقيّ هو أن يصادَر الحاضر منك وتصبح مجبرا على تأمّل ماضيك او منشغلا بما سيحصل لك في المستقبل". وهناك اليوم شعوب بأكملها منفيّة في أوطانها لأن حاضرها مصادَر لسبب أو لآخر.
  • من أروع ما يُروى عن جلال الدين الرومي قوله: دخلت الى قلبي لأرى كيف هو، ووجدت شيئا ما هناك جعلني اسمع كل العالم يبكي". وغالبا يشير الشاعر الى كميّة الظلم الفادح المنتشر في هذا العالم نتيجة غياب العدالة والانسانية.
    ثم يقول في اقتباس رائع آخر: الذين يستسلمون للجوهر الإلهي يعيشون في طمأنينة وسلام حتى عندما يتعرّض العالم بأسره للاضطراب". والمعنى هو ان الذين يسلّمون أمرهم إلى الله هم الذين يعيشون في طمأنينة. ومهما اضطرب العالم من حولهم فإنهم يحتفظون بسلامهم الداخلي لأنهم في حمى الحقّ سبحانه.
  • وأخيرا للشاعر الآذاري جامي جملة بديعة يصف فيها الرومي بقوله: لم يكن نبيّا، لكنّه أُوتي كتاباً".

  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • منذ القدم ارتبطت الحيوانات بمعانٍ رمزية وكان الانسان يقارن نفسه بها ويرى لها شبيها في الأشياء من حوله. وبدورهم أحبّ الرسّامون الحيوانات وضمّنوها في أعمالهم.
    ومن أشهر اللوحات التي تتضمّن صورا لحيوانات لوحة جورج ستبس "ويسل جاكيت" او سترة الصافرة، وهو اسم لحصان مشهور. وقد رسمه الفنّان بحجم طبيعي، ويظهر في اللوحة وهو يرتفع بجسمه الضخم على قائمتيه الخلفيتين أمام خلفية من لون بنّي بالكامل. ونظرا لأن الخلفية فارغة، فقد اعتقد الناس أن اللوحة غير مكتملة، لكن من المرجّح أن الفنّان رسمها متعمّدا بهذه الطريقة. وقد اشتهر ستبس بلوحاته عن الخيول، وكان يُدخل في صوره تفاصيل كثيرة كما يفعل معظم الفنّانين في تصاويرهم.
    وهناك أيضا لوحة دا فنشي "بورتريه سيسيليا جاليراني". كانت هذه المرأة خطيبة لدوق ميلانو، وهي التي كلّفت الفنّان برسم هذه اللوحة. كان دافنشي وقتها يعمل في بلاط الدوق. والحيوان الذي تمسك به المرأة هو من فصيلة ابن عرس، ومن فرو هذا الحيوان تُصنع المعاطف الشتوية الفاخرة، وأصبح استخدامه يرمز للطهر وضبط النفس، وهما الصفتان اللتان أراد الدوق أن ترتبط بهما خطيبته. وقد تمّ تكبيره للتأكيد على صفاته الرمزية. وقيل أيضا إن الحيوان رُسم ليكون إشارة إلى الدوق نفسه، وربّما رُسم ايضا كي يغطّي بطن المرأة الحامل.
    وهناك أيضا لوحة "الأرنب الصغير" لالبيرت ديورر المرسومة بالألوان المائية قبل أكثر من 500 عام. عندما رسم الفنّان اللوحة لم يكن العالم قد عرف التحنيط بعد، لذا كان على ديورر إما رسم العديد من الاسكتشات الأوّلية للأرانب البرّية أو الرسم من أرنب حيّ أو ميّت. ويقال أن بالإمكان رؤية انعكاس إطار نافذة في عين الأرنب، وهو ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن الحيوان كان يعيش في محترف الرسّام عندما رسمه.
    "كنيسة سيستين الخاصّة بالقدماء" وصف أطلق على واحدة من أكبر مجموعات الفنّ الصخري في العالم والتي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في غابات الأمازون المطيرة. وقد عثر علماء الآثار على عشرات الآلاف من اللوحات التي تصوّر بشرا وحيوانات رُسمت قبل ما يقرب من 12500 عام في المنحدرات القريبة من كولومبيا. وتضمّ الصور العديد من الحيوانات المعروفة، وحتى المخلوقات التي تُعتبر منقرضة مثل الباليولاما والمستودون وغيرهما.
    الرسّام الألماني فرانز مارك كان إنسانا ذا حسّ مرهف. وكان يجد في الطبيعة المكان الذي يُشعِره بالهدوء والسكينة. لوحاته تعكس التوتّرات التي عاشتها أوربّا في مطلع القرن الماضي بعد الحرب. لكنه كرّس جزءا من فنّه لدراسة تشريح الحيوانات التي كان يرى فيها رمزا مثاليا للحقيقة والنقاء والجمال. الثيران نادرا ما تُصوّر على أنها حيوانات مسالمة وضعيفة، ولكن في لوحة مارك هذه يمكننا رؤية الجانب الأكثر ليونةً من الحيوان الذي اعتدنا رؤيته وهو يقاوم بشجاعة عنف وقسوة الانسان.

  • Credits
    suite101.com

    السبت، أكتوبر 14، 2017

    الروميّ بعيون أمريكية


  • سلام على أولئك الذين رأوا جدار روحك يوشك أن ينقضّ، فأقاموه ولم يفكّروا في أن يتّخذوا عليه أجرا.
    - الروميّ

    أصبح محمّد بن جلال الدين البلخيّ، المعروف بالروميّ، الشاعر الأكثر انتشارا والأفضل مبيعا في الولايات المتحدة اعتبارا من عقد التسعينات.
    والأقوال المنسوبة إليه تتردّد يوميّا على شبكات التواصل الاجتماعيّ بوصفها أفكارا محفّزة وإضاءات على طريق الرحلة الروحية..
  • إستمع إلى صوت الناي كيف يبثّ آلام الحنين. يقول مذ قُطعتُ من الغاب وأنا احنّ إلى أصلي.
  • لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلّل إلى باطنك.
  • وضع الله أمامنا سلّما علينا أن نصعده درجة درجة. لديك قدمان فلمَ التظاهر بالعرج؟!
  • بالأمس كنت ذكيّا فأردت أن أغيّر العالم. واليوم أنا حكيم ولذلك سأغيّر نفسي.
  • قد تجد الحبّ في كلّ الأديان. لكنّ الحبّ نفسه لا دين له.
  • ما تبحث عنه يبحث عنك.
  • دع الماء يسكن، وسترى نجوما وقمرا ينعكس في كيانك.
  • مهمتّك ليست البحث عن الحبّ، بل البحث بداخلك عن تلك الجدران والحواجز التي تبقيه بعيدا عن روحك.
  • هذه الحياة اقصر من شهقة وزفيرها، فلا تغرس بها سوى بذور المحبّة.
  • لكَمْ تمنّيت أن أشدو حرّا مثل هذه الطيور، غير مبالٍ بكيفية تلقّي الناس لما أقول ولا بأيّ نغم أصوغه.
  • أينما كان النور فأنا الشغوف، وأينما كانت الزهرة فأنا الفراشة، وأينما كان الجمال فأنا العاشق، وأينما كانت الحكمة فهي ضالّتي.
  • ❉ ❉ ❉

    إن كنت قرأت الرومي في الولايات المتّحدة بترجمة انجليزية، فأغلب الظنّ أن ما قرأته كان بترجمة كولمان باركس. وباركس شاعر وأستاذ جامعيّ من تينيسّي، كما انه يزاول التدريس في جامعة جورجيا.
    والواقع أن معظم مترجمي الأعمال الأدبية، والشعرية خاصّة، لم يحظوا بشهرة عالمية. لكن باركس لمع نجمه في العديد من المناسبات والمنتديات الأدبية، وقام برحلة إلى أفغانستان حيث ولد الروميّ، وإلى إيران التي عاش فيها شطرا من حياته. وقد مُنح باركس درجة دكتوراة فخرية من جامعة طهران تقديرا له على الثلاثين عاما التي قضاها في الاشتغال على ترجمة أشعار الروميّ.
    الجاذبية الكبيرة للروميّ في الولايات المتحدة يمكن أن تُعزى إلى ترجمات باركس بالذات. وقد بيع أكثر من نصف مليون نسخة من كتبه، بينما من النادر أن يباع أكثر من عشرة آلاف نسخة من أيّ كتاب للشعر سواءً كان أصليّا أو مترجما.
    بدأ كولمان باركس ترجمته للروميّ عام 1976، عندما سلّمه معلّمه الشاعر والمترجم روبرت بلاي نسخة من ترجمة للروميّ أعدّها أ. اربري قائلا له: هذه القصائد بحاجة إلى من يحرّرها من أقفاصها". وكان يقصد أن تلك الأشعار المترجمة ذات صبغة أكاديمية جافّة، وهي بحاجة إلى من يعيد تكييفها بحيث تصبح مفهومة كي تروق للذوق الشعبيّ العام.


    قبل ذلك لم يكن باركس قد سمع باسم الروميّ، أي أن قصّته مع الشاعر بدأت خلال لقاء بالصدفة. ويقول انه عندما بدأ ترجمته للروميّ رأى في الحلم معلّما صوفيّا اخبره بأن يستمرّ في عمله.
    وبعد سنتين على بدء عمله قُدّم إلى المعلّم الذي كان قد رآه في الحلم. ولم يكن ذلك المعلّم سوى باوا محيي الدين، وهو صوفيّ سريلانكي يعيش ويدرّس في فيلادلفيا. وينسب باركس فهمه للصوفية وعشقه لشعر الروميّ لهذا الرجل، حيث كان يزوره أربع أو خمس مرّات في العام إلى حين وفاة محيي الدين في عام 1986.
    والبعض يشبّه علاقة باركس بمحيي الدين بعلاقة الروميّ وشمس التبريزي التي كانت علاقة غامضة بين أستاذ وطالب أو بين عاشق ومعشوق أو بين عارف ومُريد.
    والمعروف أن الروميّ لم يبدأ حياته كمتصوّف، وإنّما كشاعر. وهو يوصف عادةً كداعية وعالم مسلم، تماما كما كان والده وجدّه. لكن في سنّ السابعة والثلاثين، قابل شمس الذي ربطته به علاقة صداقة متينة لثلاث سنوات.
    وبعد وفاة شمس التبريزي، مقتولا على الأرجح، بدأ الروميّ كتابة الشعر. ومعظم شعره الذي بين أيدينا اليوم نظمه ما بين سنّ السابعة والثلاثين والسابعة والستّين. وقد كتب معظم قصائده إلى الرسول الكريم وإلى شمس نفسه. وديوانه "المثنوي" ما يزال يُتلى ويُغنّى ويُستخدم كمصدر للإلهام في الروايات والأشعار والأفلام والموسيقى.
    يقول باركس إن ترجماته لأشعار الروميّ تجتذب الجمهور الحديث لأنها تقرّبهم من روح الرومي. غير أن منتقديه يتساءلون: هل هي روح الروميّ فعلا أم روح باركس التي ترى في أشعار الروميّ نوعا من الروحانية الحديثة؟
    وبنظر هؤلاء، فإن باركس اغرق السوق بـ "روميّ" مختلف أصبح يرمز إلى شخص لا يلتزم بأيّ تراث خاصّ ويبحث عن الحبّ قبل بحثه عن الإيمان. وهذه السّمة مألوفة كثيرا في الأدب الأمريكيّ خاصّة.
    ويبدو أن ترجماته المعدّلة لأشعار الرومي صُنعت كي تناسب أذواق الجمهور الواسع والباحث عن حلول روحية سريعة. والنتيجة، كما يقول منتقدوه، ظهور شاعر من العصر الجديد متخفّف من إسلام القرن الثالث عشر ومن أفكار وصور العصر الذهبيّ للشعر الفارسيّ الكلاسيكيّ.
    غير أن ما يترجمه، برأي البعض، ليس الروميّ. وهو لا "يفبرك" الترجمات كما هو شأن العديد من المترجمين الشعبيين الذين يستلهمون أعمال شعراء فارس الكلاسيكيين كالخيّام وحافظ. فترجمات باركس يمكن تصنيفها على أنها ترجمات ثانوية، أي أنها إعادة تصوير لترجمات أوّلية عن النصوص الأصلية.
    ولهذا السبب، يقول باركس أن ترجمته للروميّ اقلّ أكاديميةً وأكثر عاطفية. وهو بهذا، كما يقول منتقدوه، يحرّر نفسه من قيود النصّ الأصليّ، بينما يسمح لنفسه بالاستفادة مادّيّا من اسم الروميّ.
    لي شميت مؤلّف كتاب "أرواح حائرة" الذي يناقش فيه الروحانية في أمريكا يضع باركس في سياق سرديّ يتضمّن البروتستانتية وشعراء التسامي الأمريكيين أمثال ويتمان وثورو وإيمرسون.
    وشميت يعلّل شعبية ترجمات باركس للروميّ بالقول أنها تتماهى مع أفكار أيّ شاعر من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أكثر من كونها تعبيرا حقيقيا عن أفكار الروميّ الأصلية.
    ترجمات باركس تقدّم حلولا للجوع الروحيّ في أمريكا، لأنها تجرّد شعر الروميّ من تعقيداته. لكن هذا لم يكن بلا ثمن. فأحد النقّاد كتب مؤخّرا يقول إن ترجمات باركس كانت مشوّهة، إذ انه أزال المفردات الغريبة من النصّ الأصليّ وحوّل مولانا، أي الروميّ، إلى شخص آخر مختلف.
    وقيل أيضا أن باركس فعل مثل الكثير من الشعراء الذين تعمّدوا تبسيط ترجماتهم كي يفهمها الناس العاديّون، بدلا من أن يبحثوا عن جوهر شعريّ عالميّ. والنتيجة انه قلّص النَفَس الشعريّ المميّز للروميّ بتحويل شعره إلى معالجات روحية مألوفة ومتفائلة وجاهزة.
    لكن بصرف النظر عما يقال، فإنه بفضل باركس أصبح الروميّ الشاعر المفضّل والأكثر شعبية عند الأمريكيين. وفي وسائل الإعلام يعتبره الكثيرون الرجل الذي قدّم الروميّ إلى الغرب.

    Credits
    colemanbarks.com
    openculture.com

    الثلاثاء، أكتوبر 25، 2016

    فنّ الأشياء المكسورة


    كينتسوكوروي كلمة يابانية تعني إصلاح الأواني المكسورة ولحمها أو ترميمها بالذهب المذاب وأحيانا بالفضّة أو البلاتين. والفكرة المرتبطة بهذا الفنّ هي أن الجمال يكمن في الأشياء المكسورة أو المعطوبة، بمعنى أن الإناء يصبح أكثر جمالا لأنه انكسر. كما أن الكسر ليس نهاية الأشياء بالضرورة، بل يمكن أن يكون بداية لبعثها إلى الحياة من جديد.
    وهذه الفكرة تذكّرنا، مع الفارق، بما يقال أيضا عن التماثيل القديمة المكسورة، أي تلك التي تظهر بلا اذرع أو أنوف، وكيف أن جمالها الحقيقيّ يكمن في أنها معيبة أو غير كاملة.
    والكينتسوكوروي، أو الكينتوجي كما يُسمّى أحيانا، ليست له دلالات روحية معيّنة، لكنه نوع من تقبّل الأشياء المعيبة التي قد تبدو، برغم العيوب، أكثر جمالا من هيئتها الأصلية. انه يقول لنا لا تصلحوا الشيء بإخفاء عيوبه، بل بإظهارها بحيث يبدو أكثر قيمة وقوّة وجمالا ممّا كان قبل الكسر، أو على الأصحّ لأنه كُسِر.
    صحيح أن قطعة الرخام أو السيراميك أو الخزف عندما تنكسر تتعرّض لبعض التلف ويلحق بها صدوع وتشقّقات قد تكون واضحة أحيانا، لكن إصلاحها ولحمها بالذهب أو الفضّة هو بحدّ ذاته احتفاء بالقطعة وتحسين لها وكأننا بذلك نمنحها حياة جديدة.
    فنّ الكينتسوكوروي عمره حوالي خمسمائة عام. وعقلية اليابانيين المعروفين بتفكيرهم الايجابي كانت تعتبر أن الكسر والجبر الذي يلحق بآنية هو جزء من ماضيها أو تاريخها الذي لا يجب إخفاؤه، وأن هذه الصدوع أو العيوب هي مجرّد رمز لحدث حصل في حياة الإناء أكثر من كونه سببا في تلفه.
    وأصل هذه الفكرة يعود إلى القرن الخامس عشر، عندما بعث احد حكّام اليابان بإبريق شاي مكسور إلى الصين لإصلاحه. لكن عندما أعيد الإبريق بعد أن أُصلح بدا قبيحا، الأمر الذي دفع الحرفيين اليابانيين للبحث عن طريقة إصلاح أخرى تكون أكثر فنّا وجمالا.
    وكان فضولهم وحماسهم إيذانا بولادة هذا الفنّ. ويقال أنهم كانوا مسرورين كثيرا بهذا الابتكار لدرجة أنهم اخذوا يهشّمون الأواني الغالية الثمن عمدا كي يصلحوها بالذهب والفضّة.
    هذه الفلسفة التي تجد الجمال في الأشياء المكسورة والمعيبة تقابلها عند الغربيين فكرة تعتبر أن الأشياء المكسورة هي نقود ضائعة ومن ثمّ ينبغي التخلّص منها برميها بعيدا.


    أما اليابانيون فيؤكّدون على إصلاح هذه الأشياء مع الحرص على إظهار آثار التشقّقات والكسور فيها لأنها تضفي على الشيء جاذبية جمالية وقيمة فنّية أكبر. وهذا المفهوم الذي يؤكّد على نقاط الضعف والنقص في الأشياء أصبح له في ما بعد تأثير كبير على فنّ الحداثة.
    وجزء من شعبية هذا الفنّ، أي الكينتسوكوروي، يمكن أن تُعزى إلى انه يمثّل صدى لأحداث حياتنا كما انه رمز للحالة الإنسانية بشكل عام، لأنه يتناول الإصلاح والولادة من جديد. كما انه يوحي بأن الحظوظ السيّئة في الحياة وأخطائها الكثيرة يمكن تجاوزها والسموّ بها بنفس الطريقة.
    وهناك نقطة أخرى، وهي أن الأشياء الجديدة واللامعة والكاملة لا تتضمّن عادة قصصا يمكن أن تقال أو تُروى. القصص نجدها في الشقوق التي يتسرّب منها الضوء. وما تراه أنت جرحا قد يكون النافذة التي يدخل منها النور إلى روحك"، بحسب ما يقوله لنا الشاعر الصوفيّ جلال الدين الرومي.
    فكرة الكينتسوكوروي تتضمّن أيضا معنى رفض الاستسلام. كما أنها تتحدّث عن القبول والتسامح، وعن أهمّية التعلّم والنموّ، وعن القوّة التي تكمن في الضعف، وعن الأمل والجمال.
    وعلى مستوى آخر فإننا، نحن البشر، نشبه هذه الأواني. فكلّنا مكسورون بدرجة ما، لكنّنا لا ندرك ذلك. وكإنسان، فإن جروحك ثم شفاءك من تلك الجروح، كلّ ذلك جزء لا يتجزّأ من ماضيك ومن هويّتك.
    ولهذا عليك ألا تتخلّص من شيء عندما ينكسر وألا تحرص على إصلاحه بإعادته إلى نفس حالته الأصلية لكي تخفي عيوبه. وبدلا من ذلك حاول أن تملأ الفراغات بشكل جماليّ وأن تتقبّل عدم الكمال، ليس لأن الكمال يستحيل بلوغه، وإنما أيضا لأنه من الصعب تعريفه. وحتى الأشكال المثالية التي تحدّث عنها الفلاسفة كثيرا غير موجودة في عالم الواقع.
    أن تكون مكسورا يعني أن تصبح أكثر جمالا. هذه باختصار هي الرمزية التي ينطوي عليها هذا الفنّ. وهي تذكير لنا بأننا نصبح أكثر جمالا عندما ندرك نقاط ضعفنا ونسمح لها بأن "تُملأ"، أي أن تُرشّد.
    إن الضعف أحيانا هو مصدر قوّتك. وضعفك هو ما يجعلك في كثير من الأحيان أكثر قوّة وجمالا. هناك أناس كثر حزانى ومحبطون في هذا العالم لكثرة ما أصابهم من خيبات ومشاكل، ومع ذلك لم يتأثّر حسّهم الإنسانيّ ولا درجة تعاطفهم مع الإنسان في كلّ مكان.
    شيء آخر يعلّمنا إيّاه فنّ الكينتسوكوروي وهو أن علينا أن لا نخاف من تجارب الحياة وأن نتقبّل المخاطر والفشل بصبر وشجاعة. وعندما تصبح الأمور صعبة علينا أن نجد "ذهبنا" كي نصلح أنفسنا ونستفيد من أخطائنا.

    Credits
    psychologytoday.com

    الثلاثاء، فبراير 24، 2015

    محطّات

    ايفازوفسكي في الشرق


    الشكر الجزيل لكلّ من كتب يسأل عن توقّف المدوّنة خلال الأشهر القليلة الماضية. والواقع انه لم يكن هناك سبب غير الرغبة في التقاط الأنفاس والابتعاد عن الانترنت ومواقع التواصل لبعض الوقت.
    أحيانا يحسّ الإنسان بالملل من كلّ شيء، فيبحث عن بعض التغيير الذي يمكن أن يكسر الرتابة ويضفي على الحياة بعض التنوّع والتجديد. ولمن سأل عن تويتر أقول أنني كنت أقوم بتعليق حسابي هناك شهرا بعد شهر. ويبدو أنني نسيت تنشيطه قبل انتهاء مهلة الثلاثين يوما الأخيرة، فتمّ إلغاؤه تلقائيا وتعيّن عليّ التسجيل هناك بحساب جديد. ومرّة أخرى شكرا لكلّ من اهتمّ أو سأل.
    في هذه المدوّنة وفي المدوّنة الأخرى، تحدّثت أكثر من مرّة عن فنّ الرسّام الأرمني ايفان ايفازوفسكي. كنت اعرف انه زار تركيا غير مرّة، ثم قرأت في ما بعد انه زار مصر أيضا.
    وقد ذهب ايفازوفسكي إلى مصر بصحبة إحدى بناته بعد أن تلقّى دعوة من الخديوي لحضور حفل افتتاح قناة السويس. وهناك رسم عدّة لوحات للنيل والواحات ولأهرامات الجيزة ومُنح شرف أن يكون أوّل رسّام يرسم القناة. وكما هو الحال في جميع أعماله، فإن لوحاته عن مصر مشبعة بالضوء الذي يُضفي على الطبيعة إحساسا عاطفيا وحالما.
    ذهب ايفازوفسكي أيضا إلى تركيا زائرا بدعوة من السلطان عبدالحميد. وقد زار اسطنبول بعد ذلك سبع مرّات ورسم فيها بورتريهات للمدينة وكذلك للسلاطين وحاشيتهم. ثم تلقّى ميدالية ذهبية من السلطان العثماني، لكنه رفضها احتجاجا على مذبحة الأرمن عام 1895.
    وبعض لوحاته التي رسمها بعد ذلك يمكن اعتبارها احتجاجا على سوء معاملة الأتراك للأرمن. وهناك اليوم أكثر من ثلاثين عملا من أعماله موجودة في القصر الامبراطوري العثماني وفي عدد من المتاحف التركية.
    ايفازوفسكي مشهور أيضا بكونه الرسّام المفضّل لمزوّري اللوحات. ولو زرت ييريفان عاصمة أرمينيا، سترى تمثالا طويلا من البرونز لايفازوفسكي في احد ميادين هذه المدينة. وعلى مسافة من التمثال يقع ضريحه الذي نُقشت على شاهده الرخامي عبارة تقول: هنا يرقد ايفان ايفازوفسكي الذي وُلد إنسانا فانيا وترك إرثا خالدا".

    ❉ ❉ ❉

    ماذا تقرأ أو تشاهد؟


    خطّ يدك، طريقة مشيك، والألوان التي تختارها، كلّ ذلك يشي بطبيعة شخصيّتك ويدلّ عليك. وكلّ شيء تقوله أو تفعله هو بورتريه شخصيّ أو مفكّرة شخصيّة عنك.
    أيضا جزء من شخصيّتك، قد يزيد أو ينقص، تشكّله نوعية قراءاتك. أي أن كلّ ما نقرؤه يصبح مع مرور الوقت جزءا من قناعاتنا وسلوكياتنا ويصوغ مواقفنا وقراراتنا في الحياة سواءً كانت سلبا أم إيجابا.
    والحقيقة أن ما ينطبق على القراءة ينطبق على ما نشاهده في التلفزيون أو غيره من وسائل الإعلام والثقافة المختلفة، وحتى على ما نطالعه في الانترنت من أفكار وتصوّرات.
    ولهذا السبب، ينبغي ألا نستثمر وقتنا إلا في ما ينفعنا ويثري وعينا ويرقّي سلوكياتنا ويرقّق مشاعرنا. مثلا حاول أن لا تُكثر من مشاهدة نشرات الأخبار التي تعرضها المحطّات الفضائية هذه الأيّام والتي لا تحمل إلا صور عمليات القتل والذبح والتدمير التي يمارسها غالبا مجرمون يتخفّون بلباس الدين.
    وعلى جانب القراءة، من الأفضل أن لا نصرف وقتنا في قراءة كتاب ندرك بعد قراءة صفحات منه انه سيترك بصمة سيّئة علينا. وليس المقصود طبعا أن نمتنع عن قراءة الكتب التي تدفعنا إلى مراجعة قناعاتنا وأفكارنا، بل أن نتجنّب ما يعكّر صفونا ويخرّب مزاجنا ويزيد من مساحة التشاؤم في نفوسنا.
    ومن وقت لآخر، حاول أن تستمع لموسيقى هادئة أو اقرأ قصيدة شعر وأبهج ناظريك برؤية صورة أو لوحة جميلة.

    ❉ ❉ ❉

    سحر الرومي

    "لا أعرف من أنا، لست مسيحيّا ولا يهوديّا ولا زرادشتيّا، ولست حتى مسلما. لا ارض تمتلكني، لا بحر معروفا أو مجهولا. مكان مولدي هو اللامكان وعلامتي أن لا يكون لي علامة".
    وصل جلال الدين الرومي إلى مكان لا ينافَس في عالميّته التي تجاوزت كافّة العقائد والأديان. "قد تجد الحبّ في كلّ الأديان، لكن الحبّ نفسه لا دين له". قصائده مستمرّة في الانهمار مثل مطر أخضر. وقراءتها أو سماعها مغنّاة تجعل الإنسان أكثر حكمة وتواضعا وتسامحا وتفتح عينيه وتساعده على أن يرى العالم بطريقة مختلفة.
    "في بيت العاشقين، لا تتوقّف الموسيقى أبدا. الجدران مصنوعة من الأغاني، والأرض ترقص".

    ❉ ❉ ❉

    شيلا: الفنّ العنيف


    كان إيغون شِيلا لا يجد سلواه أو راحته في الكلمات رغم انه كان إنسانا شاعريّا. وعندما كانت زوجته تموت بسبب الأنفلونزا، لم يكن قادرا على وصف مشاعره بدقّة. وقد كتب رسالة إلى أمّه يتكهّن فيها بأن زوجته لن تعيش طويلا على الأرجح. لكنه استخدم الفنّ للتعبير عن إحساسه بالفجيعة، فعمل عدّة مخطوطات أوّلية لزوجته خلال آخر عامين من حياتها.
    كانت الخطوط في تلك الرسومات سائلة والألوان باهتة. وهذه السمات كانت غريبة على أسلوب شيلا الفنّي المعتاد. وكانت تعكس استقراره العاطفي الذي وجده في حياته مع زوجته. وآخر لوحة له كانت عبارة عن بورتريه لها. وقد ماتت في اليوم التالي، وكانت حاملا في شهرها السادس. وتوفّي هو بعدها بثلاثة أيّام.
    وحتى قبل تجربته القاتلة مع الانفلونزا، كان إيغون شيلا قد عرف التعاسة مرارا. فسنواته المبكّرة اتسمت بعلاقته المتوتّرة مع أمّه وبضعفه التعليمي وموت والده الذي كان يعمل مديرا لمحطّة قطار، ثمّ بمعاناة ايغون من مرض السفلس عندما كان في الرابعة عشرة من عمره.
    شيلا الأب كان قد أخفى مرضه بالسفلس عن خطيبته، أي والدة إيغون ذات السبعة عشر عاما وقتها. وأوّل ثلاثة أطفال حملت بهم ولدوا ميّتين. أما الطفل الرابع فقد توفّي في سنّ العاشرة بسبب مرض التهاب السحايا، أحد مضاعفات الإصابة بالسفلس.
    وكان إيغون أوّل ولد تُكتب له الحياة. وقد كتب إلى أمّه مرّة يقول لها: سأكون الفاكهة التي بعد أن تتحلّل ستترك وراءها حياة خالدة. لذا ينبغي أن تكوني مبتهجة لأنك حملتِ بي".
    ملامحه الجسدية، كما تظهر في بورتريهاته التي رسمها لنفسه في مراحل مبكّرة، دفعت البعض إلى الاعتقاد انه هو أيضا ربّما كان مصابا بالسفلس.
    عاش إيغون شيلا حياته بوتيرة سريعة. وقد بدأ الرسم وهو طفل، ثم التحق بأكاديمية فيينا للفنون وهو في سنّ السادسة عشرة. ثم أصبح تلميذا لغوستاف كليمت. وفي ما بعد، عندما ضربت الانفلونزا كليمت، رسم له إيغون عددا من البورتريهات وهو على سرير الموت.
    وفي مرحلة تالية، خدم في الجيش، ثم عاش قصّة حبّ تحدّث عنها الناس. ثم اعتُقل وأودع السجن، وقبل أن يموت قبل الأوان دخل في علاقة زواج مثمرة.
    كان شيلا ينمو دائما كفنّان. واتّبع أسلوبا تعبيريّا يركّز على المشاعر وتفسيرها. كما كان منجذبا إلى كلّ فكرة جدلية وغير تقليدية. والمئات من بورتريهاته الشخصية كانت مزعجة، ولكن عميقة وبليغة في مضمونها.
    خطوطه المبالغ فيها وأشكاله غير الواقعية وألوانه المتوتّرة تستدعي حالات إنسانية وجدها الكثيرون مربكة ومؤرّقة.
    وخلال مهنته القصيرة في الرسم، كان شيلا منعزلا وهشّا في ذروة احتدام الحرب العالمية الأولى وتفشّي وباء الأنفلونزا. وأشهر بورتريه رسمه لنفسه ربّما كان ذلك الذي يظهر فيه مع نبتة الكريز الأرضي. وقد رسم هذه اللوحة عندما كان في أوج عطائه وإبداعه، أي في عام 1912 عندما أصبح أسلوبه التعبيري في غاية النضج.
    هذا البورتريه يمكن قراءته من تعبيرات الوجه والحركات. وفيه قصّ شيلا ذراعيه وجسده. فقط الرأس والكتفان ظاهرة. التحديق بعين واحدة يتحدّى الناظر، وكذلك الشفتان. ربّما يتضمّن هذا البورتريه بعض الأدلّة المبعثرة عن الشخصية. غير أن هناك شيئا واحدا لن نعرفه أبدا، هو ما الذي كان سيحدث لو لم يمت شيلا في سنّ الثامنة والعشرين.
    على مرّ العصور، تمكّن الأدب والفنّ من الإمساك بالتوتّر الدرامي العنيف الذي يخلّفه الموت والأمراض الخطيرة عبر التاريخ. وإيغون شيلا أنجز حصّته الخاصّة من هذا بتخليده وجوه وملامح الأشخاص الذين أحبّهم.

    Credits
    archive.org
    artrenewal.org