:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميكيل انجيلو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ميكيل انجيلو. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، يوليو 10، 2024

بين دافنشي وميكيل أنجيلو


هناك أوجه شبه متعدّدة بين كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو. فقد اعتُبر الاثنان معلّمَين وممثلين للفنّ الكلاسيكي اليوناني والروماني. كما عملا كفنّانين تجاريَين لدى الكنيسة واستفادا من رعاية رجال الدين ودعمهم لهما. والاثنان أيضا أنتجا فنّاً تحدّى الزمن وعاش مئات السنين وما زال يحظى بتقدير الناس إلى اليوم.
وقيل أيضا أن فنّ دافنشي يّتسم بالكمال، لكنه لا يثير شعورا في نفس المتلقّي. يكفي مثلا أن تنظر إلى الموناليزا أو العشاء الأخير مرّة أو مرّتين فتُعجب بحرفية الرسّام وجمال الرسم، لكن هذا لا يحرّك فيك أيّ شعور ولا يثير بداخلك أيّ أسئلة.
وعلى العكس من ذلك، فإن منحوتات ميكيل انجيلو مليئة بالحركة والدراما والقصص المثيرة. ولهذا سيُكتب لفنّه الخلود والبقاء أكثر من دافنشي الذي شغله انهماكه بالعلوم والفلك والهندسة عن إنتاج فنّ حقيقي يحرّك العقل ويحرّض على الأسئلة.
من ناحية أخرى، كانت شخصيتا الاثنين متعارضتين من عدّة أوجه، فليوناردو كان رجلاً اجتماعيّا يحبّ ارتداء الملابس الأنيقة وحضور مناسبات النبلاء وأعيان المجتمع. لكن ممّا يُعاب عليه تركه العديد من أعماله دون أن يكملها، لأنه كان متعدّد الاهتمامات وكان يحبّ دائما التركيز على أشياء جديدة. أما ميكيل أنجيلو فكان رجلاً مقتصدا وذا شخصية خشنة وغضوبة، ولكن على عكس ليوناردو كان حازما ويتحمّل مجهودا بدنيّا هائلاً لنحت أعماله.
وتخبرنا روايات السيرة التي كُتبت عنهما أن ليوناردو كان ساحرا وأنيقا، بينما لم يكن لدى ميكيل انجيلو سوى القليل من الوقت للتباهي أو متابعة الموضة. وقد استخدم كلاهما أساليب مختلفة للحصول على عملاء مرموقين. وساعدت الكاريزما الشخصية لليوناردو في عرض أعماله على الرعاة الأثرياء كعائلة ميديتشي القويّة في فلورنسا، بينما كان الرعاة يثقون في اجتهاد ميكيل أنجيلو والتزامه، وهو ما بدا أن ليوناردو كان يفتقر إليه أحيانا.


كان ميكيل أنجيلو شخصا منعزلاً وميّالا للقتال وقاسيا وفوضويا ولا يثق في الناس بسهولة. وكان دافنشي دائما شخصا هادئا ولبقا ومرتّبا وودودا مع الجميع تقريبا. ويقال إنهما التقيا بضع مرّات، وفي إحداها طلب دافنشي من ميكيل أنجيلو شرحا لجزء من كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي، إذ كان الأخير مرجعا معروفا في شرح أعمال الشاعر. وبدلا من الردّ على السؤال، انتقد ميكيل أنجيلو دافنشي على "محاولته الفاشلة" صبّ حصان برونزي تكريما لأهل ميلانو، في إشارة ضمنية الى أن دافنشي خدعهم وسرق أموالهم.
وقيل أيضا أنه عندما أنتهى ميكيل أنجيلو من نحت تمثال ديفيد أو داود، تشكّلت لجنة لتحديد المكان الذي يجب أن يوضع فيه التمثال. وكان دافنشي عضوا في تلك اللجنة. وقد اقترح وضع التمثال في المكان المخصّص له في البداية، أي في أعلى جدار الكاتدرائية، بينما كان ميكيل أنجيلو يريد وضعه أمام قصر فيكيو. وفي النهاية انتصرت وجهة نظر ميكيل أنجيلو. وقد اقترح دافنشي أيضا أن تُغطّى الأعضاء الخاصّة بالتمثال، وفعلا أُخذ بمقترحه واستمرّ الحال كذلك لفترة قصيرة من الزمن.
والاختلافات بين الاثنين تمتدّ أيضا الى وجهات نظرهما حول أيّ الأشكال الفنّية يعتبر أعلى من سائر الفنون. ليوناردو كان يعتقد أن الرسم هو أهمّ الأشكال الفنيّة بسبب التنوّع والحريّة التي يمنحهما للفنّان لتمثيل الأشياء، حتى تلك الغير مرئيّة. ونحن نرى تجسيدا لهذه الإمكانية في لوحة الموناليزا، فالاتساع المذهل للمنظر الطبيعي الفانتازي الذي رسمه ليوناردو في خلفية اللوحة لا يمكن أن يكون موجودا إلا في ذهن رسّام عظيم مثله.
من ناحية أخرى، كان ميكيل أنجيلو يعتبر النحت أبا لجميع الفنون. كان الفنّ بالنسبة له أكثر من مجرّد وسيلة لتحقيق الثروة أو الشهرة، بل هو بوّابة للتعبير عن رؤيته للجمال وتجسيدها. وكان يؤمن بفكرة أفلاطونية مفادها أن إنشاء التمثال يعني التحرّر من الحجر الصلب، أي أن الحجر بالنسبة له هو مادّة أو قناع يحمل الشكل. وكان يرى أن التمثال مكتمل بالفعل داخل كتلة الرخام حتى قبل أن يبدأ النحّات عمله، وأن كلّ ما عليه فعله هو إزالة الموادّ الزائدة عن الحاجة.
ومن أشهر أقواله: كلّ كتلة من الحجر بداخلها تمثال، ومهمّة النحّات هي اكتشافه. وقوله: يمكن للمنحوتة العظيمة أن تتدحرج إلى أسفل التلّ دون أن تنكسر. وقوله عن تمثال له يصوّر ملاكا صغيرا: رأيت الملاك في الرخام فنحتّه حتى أطلقت سراحه."
ختاما، كان كلّ من ليوناردو دافنشي وميكيل أنجيلو أستاذين في الفنّ وكانت بينهما أوجه شبه وأوجه اختلاف واضحة في أسلوبهما وفي مجال خبرتهما. لكن ما يزال العالم يحتفل بمساهمات الاثنين وإبداعاتهما المتميّزة في عالم الفنّ حتى يومنا هذا.

Credits
leonardoda-vinci.org
michelangelo.org

الجمعة، أغسطس 11، 2023

متلازمة ستندال


في عام 1817، سافر الكاتب الفرنسي ستندال إلى فلورنسا في إيطاليا. وكان الغرض من هذه الرحلة زيارة كنيسة سانتا كروتش، وهي كاتدرائية مهيبة تضمّ قبور ثلاثة من اهم الشخصيات التي لعبت دورا مهمّا في تاريخ الإنسانية: الفيلسوف ميكيافيللي، والنحّات ميكيل أنجيلو والفلكي غاليليو.
وقد أحدث هؤلاء الثلاثة تأثيرا قويّا على ستندال الشابّ وقتها، حيث ألهموه شكل ومضمون الروايات التي سيكتبها فيما بعد. ولهذا السبب بالذات، ساور الكاتب شعور قويّ وغريب عندما دخل الكنيسة واقترب من المدافن التي بداخلها. يقول في كتابه بعنوان "نابولي وفلورنسا: رحلة من ميلانو إلى ريجيو:"
كنت في حالة نشوة من فكرة أن أكون في فلورنسا، أي بالقرب من الرجال العظماء الذين رأيت قبورهم. وانغمرت في حال من التأمّل المتسامي ووصلت إلى النقطة التي تتصل فيها احاسيس المرء بالسماء. كان كلّ شيء يتحدّث بوضوح إلى روحي. ثم اعتراني خفقان في القلب وأحسست كما لو أن الحياة تتسرّب منّي ومشيت مترنّحاً أحاذر خطر السقوط ".
لم يكن ستندال الشخص الوحيد الذي عانى من هذه الاحاسيس المضطربة وهو بحضور قطع الفنّ والتحف والمنحوتات. ففي عام 2019، خصّصت جريدة نيويورك تايمز مقالاً كاملاً لسرد الحوادث والحالات الطبّية المماثلة التي أبلغت عنها المتاحف الكبرى في فلورنسا. ولم يكن ستندال أوّل من عبّر عن تجربته في كلمات. فقبل قرنين من ذلك التاريخ، وصف لونجينوس إحساسا مماثلا ناتجا عن تعرّضه للجمال والتسامي.
لكن ستندال هو الذي سيصبح اسمه في النهاية مرتبطا بهذه الحالة، حيث صاغ العلماء الإيطاليون ونقّاد الثقافة، الذين شعروا بالإطراء من وصف الكاتب الفرنسي لكنوزهم الوطنية، مصطلح متلازمة ستندال (Stendhal syndrome). وفي حين أن الفكرة المحيّرة القائلة بأن الفنّ أو الأشياء ذات القيمة الجمالية أو التاريخية الكبيرة يمكن أن تجعلنا مرضى جسدياً أو عقليّاً هي بالتأكيد فكرة جذّابة، إلا أن العلماء في الواقع ما زالوا غير متأكّدين من ماهيّة هذه المتلازمة، ناهيك عمّا إذا كانت موجودة فعلا أم لا.
وحتى يومنا هذا، أجريت العديد من الدراسات الأكثر شمولاً حول هذا الموضوع. ففي عام 1989، نشر مستشفى سانتا ماريا نوفا في فلورنسا تقريرا مكتوبا عن جميع حالات الطوارئ البالغ عددها 106 حالات والتي تم إحضارها بواسطة سيّارات الإسعاف من المتاحف والمعارض في جميع أنحاء المدينة. وتراوحت الأعراض المُبلّغ عنها بين الارتباك والدوخة إلى تبدّد الشخصية أو الغربة عن الواقع (depersonalization) الى خفقان القلب والهلوسة وفقدان الهويّة (loss of identity) ونوبات الهلع.
وسارع الباحثون الإيطاليون إلى تعميم "تفسيرهم الوطني" لمتلازمة ستندال إلى بقيّة العالم الأكاديمي. وأدرج مستشفى سانتا ماريا نوفا "الشخصية سريعة التأثّر" كعامل فاعل، إلى جانب ضغوط السفر ورؤية مدينة مثل فلورنسا "التي تؤرّقها أشباح العظماء والموت ومنظور التاريخ". وقد نُصح المرضى بمغادرة إيطاليا حتى تتمكّن أعينهم من "التكيّف مع مظاهر النقص الدنيوي".
واعترضت الأوراق البحثية التي صدرت في ما بعد على فكرة المستشفى بأن المتلازمة مرتبطة بمكان معيّن. وبالتالي لم يكن الفنّ الإيطالي هو الفنّ الوحيد القادر على إثارة ردود فعل نفسية - جسدية. ففي فرنسا عانى مارسيل بروست من نوبات ربو مستمرّة أثناء كتابة روايته "البحث عن الزمن الضائع". وفي روسيا انصبّ تركيز فيدور دوستويفسكي ذات مرّة على لوحة دينية لدرجة أن زوجته كانت تخشى عليه أن ينزلق إلى نوبة صرع.
ولا ترتبط متلازمة ستندال بعصر النهضة الإيطالي فحسب. فالطريقة - التي تربط بها بعض المصادر الأوّلية ما شعر به العديد من الحجّاج القدامى عندما وصلوا إلى وجهاتهم الروحية - تشبه بشكل مخيف ما تضمّنه تقرير المستشفى. فمدينة القدس مثلا تعالج العديد من الأشخاص الذين يعانون من مشاكل طبّية لا يمكن تفسيرها، وهؤلاء يشار الى حالتهم باسم "متلازمة القدس".
وعرّف مقال نُشر عام 2017 في مجلّة "علم النفس والعلوم المعرفية" المتلازمة بأنها "حالة نفسية نادرة تتّسم بنوبات من الدوار أو الذعر أو الجنون الموقّت بسبب رؤية شخص ما لأعمال فنّية أو تاريخية." ثم يبدأ المقال في سرد التفسيرات - المختلفة جذريا ولكن القابلة للتطبيق - لمتلازمة ستندال والتي قُدّمت على مدار العقود الماضية.

وأحد هذه التفسيرات هو أن الأعراض المنسوبة إلى المتلازمة هي في الواقع نتيجة للإرهاق الجسدي. إذ يتطلّب عبور متحف أو أكثر في اليوم كمّيات كبيرة من الطاقة، خاصّةً عندما يكون الشخص مرهقا أصلا أو يعاني من مرض ما. وبالنظر إلى أن معظم الأشخاص الذين دخلوا إلى غرف الطوارئ في فلورنسا كانوا من السيّاح الذين تزدحم جداولهم بالزيارات الكثيرة، فإن هذه النظرية تبدو معقولة تماما.
ويعتقد البعض أن متلازمة ستندال لها علاقة أقلّ بجودة الفن وأكثر بظروف الزائر الذي عادةً ما يكون سائحا وقد سافر لمسافة بعيدة وعلى نطاق واسع لرؤية مكان أو شخص أو عمل فنّي ما.
مؤلّفا كتاب "جغرافيا السياحة والاستجمام" يذكران أن السفر كثيرا ما يضع الأفراد المستقرّين عقليّا في حالة ذهنية أكثر ضعفا وقابلية للتأثّر، ما يجعلهم عرضة للانفجارات الشعورية. ويعتقد الباحثون أن السفر يمكن أن يؤدّي في كثير من الأحيان إلى الانزعاج النفسي والضيق، خاصّة عندما يبحث المرء عن المعرفة والوعي الذاتي والعواطف. ونتيجة لذلك، يعاني العديد من المسافرين من عدم الراحة النفسية وغالبا ما يلتمسون رعاية طبّية.
ومهما كانت مصداقية مثل هذه التفسيرات العاديّة، لا يزال هناك شيء لا يقاوَم حول فكرة أن شيئا ما يمكن أن يكون جميلا لدرجة أن إدراكه يسبّب لنا الألم والاضطراب. وقد فسرّ بروست ودوستويفسكي حالتهما الطبّية على أنها نتاج سلبي لقدرتهما على مراقبة الواقع بتفاصيل أكثر وبكثافة أكبر من أولئك المحيطين بهما، وهي نفس القدرة التي مكّنتهما من كتابة رواياتهما.
المحلّلان النفسيان فرويد ويونغ كتبا عن تجربتهما مع متلازمة ستيندال، فوصف الأوّل مشاعر شديدة من الاغتراب عن الواقع عند زيارته للأكروبوليس في أثينا باليونان. كما أبلغ يونغ عن شلل شديد وشبه غياب عن الوعي عندما وقف امام لوحة موت المسيح لهانز هولبين في بازل بسويسرا.
وكان فرويد قد عرّف عن مفهومه لما يسمّيه بـ "الغرابةuncanny " في مقال نشره عام 1919، حيث وصفه بأنه تجربة للسياقات والأفكار التي تبدو في نفس الوقت غير مألوفة وخارج حدود الفهم، ما يخلق شعورا بالاضطراب.
ومؤخّرا أصيب زائر لمتحف أوفيتزي في فلورنسا بنوبة قلبية أثناء تأمّله لوحة بوتيتشيللي "مولد فينوس". وقد تعافى الرجل في المستشفى واعتُبر مرضه أحدث حالة واضحة لمتلازمة ستندال. وقيل من باب الدعابة أن بوتيتشيللي ربّما أراد أن تكون لوحته تعويذة سحرية. وقيل أيضا أن تمثال ديفيد لميكيل أنجيلو، وهو عمل فلورنسي آخر مهم، قد ألقى عيناً شرّيرة على المدينة منذ أن نُصب فيها في أوائل القرن الخامس عشر.
ويذهب الناقد جوناثان جونز إلى أن وجود عدد كبير من قطع الفنّ العظيم في فلورنسا هو الذي يسبّب مثل هذه المشكلة. فمركز المدينة التاريخي مضغوط في منطقة صغيرة محشوّة بالتماثيل والنوافير واللوحات الجدارية والقباب والأبواب المنحوتة. بل وحتى مستشفى سانتا ماريا نوفا الذي يعالج السيّاح من المتلازمة، والذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر، كان ليوناردو دافنشي يقوم بتشريح الجثث بداخله. وبالنسبة لمحبّي الفن، فإن متعة الوصول إلى مكان يجمع الكثير من قطع الفنّ المشهورة يشبه مقابلة كلّ أبطالك في وقت ومكان واحد. وربّما تضيف الطوابير الطويلة ضغطا إضافيا على أعصاب الزائرين.
وحتى يومنا هذا، بحسب جونز، يقال ان لوحةً "إعجازية" تصوّر قصّة البشارة قد رُسمت "بمساعدة من الملائكة" وكُشف عنها للمتعبّدين في احدى كنائس المدينة. الرسّام ساندرو بوتيتشيللي توفي عام 1510، لكن فنّه ما يزال يفتن بعض الناس بعد مرور أكثر من 500 عام على رحيله. في ذلك الوقت وفي هذا المكان كانت هناك كوكبة فريدة من العباقرة: بوتيتشيللي وليوناردو وميكيل أنجيلو وآخرون. وقد عاش هؤلاء في وقت واحد وتركوا وهجاً ما يزال بإمكانك الشعور به على الرغم من المرشدين السياحيين والمقاهي باهظة الثمن. وإذا لم تشعر بالدوار في فلورنسا، فأنت لم تكن هناك حقّا.
من الناحية النظرية، من المنطقي أن يكون الشخص الذي يقدّر الفنّ معجبا بموناليزا ليوناردو دافنشي، على سبيل المثال، أكثر من شخص لا يعرف شيئا عن الرسم. ومع ذلك، هناك حاجة إلى مزيد من البحث لمعرفة كيفية عمل هذه الاستجابات داخل أدمغتنا. وحتى ذلك الحين، فإن كلّ ما يمكننا قوله بيقين نسبيّ هو أن الأفراد ذوي الخلفيات الكلاسيكية أو الدينية أكثر عرضة للإصابة بمتلازمة ستندال عند زيارتهم فلورنسا.

Credits
medicalnewstoday.com
theguardian.com

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

الأحد، مايو 07، 2017

إطلالة على جحيم دانتي


في الكوميديا الإلهية، تتحوّل بعض شخصيات الأساطير الكلاسيكية إلى أبالسة وشياطين. وهذا كان أمرا مألوفا في الثقافة المسيحية في القرون الوسطى.
ودانتي في كتابه يتصرّف كقاضٍ أعظم. ومثل ماينوس القاضي المتوحّش الواقف على بوّابة الجحيم، يقرّر دانتي مَن يذهب إلى هناك، وإلى أيّ دائرة من دوائر الجحيم التسع يجب أن ينتهي كلّ عاصٍ أو مذنب.
ماينوس الأصليّ شخصيّة نصفها تاريخيّ ونصفها الآخر أسطوريّ. والمؤرّخون متّفقون على انه كان ملكا عادلا على جزيرة كريت. ولهذا السبب أصبح بعد موته احد قضاة العالم السفليّ.
لكن طبقا للأساطير الكلاسيكية، كان ماينوس ابنا لزيوس ويوصف بأنه طاغية وقاسٍ. وقيل انه انتقم لموت ولده بإجبار الأثينيين على أن يقدّموا سبعة أولاد وسبع فتيات من أبنائهم كقرابين.
وبعض كتب التاريخ تصفه بأنه كان كاهنا ومشرّعا حكيما. وكان هوميروس قد وضعه كقاضٍ للأرواح في هيديز. وربّما لهذا السبب استلهم دانتي شخصية ماينوس ووضعه حارسا وحكما على بوّابة الجحيم.
ودانتي يعطيه مظهر وحش له ذيل أفعى ضخمة. وقد رسم ميكيل انجيلو صورة بليغة له تجسّد الفظائع التي وصفها دانتي في رحلته.
على أطراف الجحيم توجد منطقة تُعرف بالحدّ، وتمثّل الدائرة الأولى من الجحيم. وقد خصّصها دانتي للأشخاص الذين لم تُكتب لهم النجاة أو الخلاص رغم أنهم لم يرتكبوا خطايا أو ذنوبا.
والمنطقة توفّر نوعا من "المَخرج" الذي كان شائعا في التديّن المسيحيّ زمن الكاتب. وفي هذه المنطقة حشر دانتي عددا من الأشخاص الذين اسماهم "الفضلاء من غير المسيحيين" أو "الوثنيين الصالحين".
ومن بين هؤلاء قادة ومفكّرون وفلاسفة من العالم القديم ومن القرون الوسطى، مثل صلاح الدين الأيّوبي وابن سينا وابن رشد. ورغم انه يصف ابن رشد بالحكيم ويثني على تعليقه على أفكار أرسطو، إلا انه يعتبره ممّن ضلّوا سواء السبيل.
عندما كتب دانتي الكوميديا الإلهية، كان ابن رشد احد أكثر الفلاسفة شهرةً في العالم المسيحيّ خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لكن دانتي يسمّيه بـ "المعلّق"، في محاولة للتقليل من شأنه بالتلميح إلى أن دوره لم يتعدَّ التعليق على أفكار أرسطو.
كان ابن رشد معروفا بمحاولة التوفيق بين فلسفة أرسطو العقلانية وبين المعتقدات الإسلامية والمسيحية. وكان يرى أن الفلسفة والدين يمكن أن يتعايشا جنبا إلى جنب وأنه لا يوجد طريقان مختلفان أمام الفرد للوصول إلى الحقيقة.
وقد راج هذا الفهم وانتشر في القرن الثالث عشر. لكنه ولّد ردود فعل رافضة في الأوساط المحافظة من المسلمين والمسيحيين واليهود.
في نفس ذلك الطرف من الجحيم، أي في منطقة الحدّ أو البرزخ الذي يصفه دانتي بـ "المكان الذي يثير الرهبة أكثر من الشهرة"، حشر أيضا مجموعة أخرى من الشعراء والفلاسفة الكلاسيكيين، مثل هوميروس وأوفيد وأفلاطون وسقراط، بالإضافة إلى أرسطو الذي يسمّيه "سيّد أولئك الذين لا يعرفون".
الشيء المزعج هو أن دانتي لا يتردّد في وضع نفسه مكان الله كقاضٍ، وأحيانا يلعب دور الشاهد والقاضي معا. وهو لا يتساءل إن كان ما يراه أو يتخيّله هو حكم الله أم حكمه هو.
هناك أيضا شيء مخيف في جحيم دانتي، هو هذا العذاب والألم الذي يخضع له الضحايا والمعذّبون العالقون أمام أعين دانتي ودليله فرجيل. الجثث العارية والمياه القذرة والعذاب الرهيب الذي لا ينجو منه حتى المنتحرين والمزوّرين.
جحيم دانتي قطعة من العذاب الأبديّ، وكلّ الأشخاص هناك مهزومون ومقهورون كلّ على طريقته. وهو ما يدفع القارئ لأن يتساءل عن أيّ معنى للعدل أو الرحمة.
ودانتي في نصّه المستفزّ يلعب دور الواعظ، لكنه واعظ شديد القسوة وربّما الساديّة. وهو لا يصوّر الخطايا وإنّما الخطّائين. لكن يبدو أن شكل الجحيم كما يصفه ليس أكثر من انعكاس للمفاهيم اللاهوتية التي كانت سائدة في عصره.
عندما ينزل دانتي ومرافقه إلى أعماق الجحيم، تصبح ردود أفعاله عدوانية وشامتة. فهو لا يتوانى عن ركل بعض الأرواح المعذّبة بقدمه، بينما يبدي سروره وتلذّذه بالتعذيب الذي يراه يُرتكب ضدّ آخرين. غير أن هذه القسوة لا تمنعه أحيانا من إظهار بعض الشعور بالشفقة وإشراك القارئ معه في هذا الشعور.
الولوج إلى جحيم دانتي تجربة مؤلمة. لكنّها تعلّمنا كيف أن الخير والشرّ متداخلان، سواءً في أنفسنا أو في الآخرين.
وربّما أراد دانتي أن يشير إلى انه من الصعب على الإنسان أن يتوصّل إلى أيّ قدر من النقاء الأخلاقي من دون مرشد أو دليل. لكن حتى هذه الفكرة ليست نهائية، بل تحتمل الكثير من الأخذ والردّ.

الاثنين، فبراير 20، 2017

عصر النهضة

ما يزال المؤرّخون مختلفين حول ما يعنيه عصر النهضة بالتحديد. لكن ممّا لا شكّ فيه أن شيئا ما غير عاديّ حدث في منتصف الألفية الماضية وغيّر وجه الحضارة الغربية. وممّا لا شكّ فيه أيضا أن عائلة ميدتشي الايطالية كانت راعية ومؤثّرة في إحداث ذلك التغيير الكبير.
بشكل عام، يمكن القول إن عصر النهضة يُقصد به الفترة الممتدّة من عام 1300 إلى عام 1600م والتي تلت القرون الوسطى مباشرةً في أوربّا وشهدت موجة من الابتكارات الفنّية والثقافية التي اكتسحت المجتمع القروسطي وأدخلت الثقافة الأوربّية في العصر الحديث.
في عصر النهضة استُبدل النظام الفلكيّ القديم لبطليموس بنظام كوبرنيكوس وانهار النظام الإقطاعيّ وازدهرت التجارة واختُرع الورق والطباعة والبوصلة والبارود.
وفيه أيضا عاشت أرجاء كثيرة من أوربّا استقرارا سياسيّا ورخاءً اقتصاديّا واكتُشفت قارّات جديدة وازدهرت الفلسفة والآداب والفنون.
وبدأ المبدعون في جميع الميادين، من رسّامين ونحّاتين ومهندسين وكتّاب وشعراء وموسيقيين، يهتمّون بتمجيد الإنسان وبالتصوير الواقعيّ للجسد الإنسانيّ وللطبيعة وبالنظر إلى الفنّان كفرد مستقلّ بذاته.
وفي ذلك العصر أيضا عاش أدباء مشهورون مثل بترارك وبوكاتشيو اللذين نظرا إلى الخلف؛ إلى روما واليونان وسعَيا إلى إنعاش اللغات والقيم والتقاليد الثقافية لتلك الحضارات بعد فترة طويلة من الركود تلت سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن السادس الميلادي.
وفي عصر النهضة لم يعد الناس يتقبّلون تعاليم وإملاءات الكنيسة كيفما اتّفق ولم يعودوا يتسامحون مع فساد وانحلال رجال الدين. وفيه أيضا أصبح الراهب الألمانيّ مارتن لوثر أوّل "زنديق" ينشر نظرياته علنا، فأبطل قرونا طويلة من تقديس الاكليروس ومهّد الطريق لثورة في الإيمان وقسّم العالم المسيحيّ إلى الأبد.
أيضا في عصر النهضة أصبح الناس توّاقين لدراسة عالم الطبيعة واكتشاف أنفسهم من خلال التعرّف إلى أسرار الكون. ثم فاجأ غاليليو المؤسّسة الكاثوليكية بإعلانه أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.
أما في الرسم، فقد انفصل الفنّانون عن التقاليد الدينية لعالم القرون الوسطى، واكتشفوا لأوّل مرّة كيف يرسمون بأبعاد ثلاثة وابتكروا أساليب ثورية في الرسم مثل الرسم بالزيت وتقنيات المنظور، وتزعّم ليوناردو دافنشي علم دراسة التشريح البشريّ وتوظيفه في الرسم.
وفي السياسة، أعيد بعث ومناقشة النصوص القديمة التي لم تُقرأ طوال ألف عام. ومع اكتشاف الطباعة، اكتسحت الأفكار والنظريات أوربّا بسرعة وأشرك الكتّاب والمفكّرون الناس العاديّين في أفكارهم وتصوّراتهم.
وفي كلّ أرجاء ايطاليا ازدهرت الجمهوريات والدوقيات وحوّل الملوك والأمراء الأوربّيون أنظارهم إلى ايطاليا مأخوذين بوهج الانجازات والاختراقات المبدعة. وفي ذلك العصر كتب ميكيافيللي كتابه "الأمير" الذي ضمّنه تصوّراته عن عالم براغماتيّ فيه الغايات تبرّر الوسائل.

ترى هل كان الفنّانون الذين صنعوا فنّ عصر النهضة يعرفون أنهم كانوا يعيشون في "عصر نهضة" فعلا؟ وبعبارة أخرى، هل كانوا واعين بأنهم ينتمون إلى عصر اسمه "عصر النهضة" ويتماهون مع معاني ودلالات ذلك الوصف؟
هذا السؤال مهمّ ومثير للفضول. وبعض المؤرّخين يقولون: لا ونعم. فكما هو الحال دائما في التاريخ، تبدو العملية معقّدة بعض الشيء.
ولكي تتّضح لنا الصورة أكثر، يجب أن نحاول معرفة متى ظهر ذلك المصطلح بالتحديد ومن الذي استخدمه أوّل مرّة ولماذا.
كلمة "نهضة" فرنسية الأصل، تعني الانبعاث أو الولادة الجديدة. وقد دخلت إلى اللغة الانجليزية حوالي عام 1800 لتشير إلى الفترة المذكورة (1300-1600) كإعادة بعث لثقافة وفنّ الأزمنة القديمة في روما واليونان.
لكنّ أوّل ذكر للمصطلح الذي تشير إليه الفكرة أتى قبل ذلك بحوالي ثلاثمائة عام. ففي عام 1550، وفي كتابه "تاريخ الفنّانين"، استخدم المؤرّخ الايطالي جورجيو فاساري الكلمة الايطالية "النهضة" ليصف الأسلوب الفنّي الجديد الذي اتّبعه الفنّانون آنذاك، مثل ليوناردو دافنشي وميكيل انجيلو ورافائيل.
فاساري، الذي يُوصف عادةً بأنه أوّل من أرّخ للفنّ الأوربّي، قسّم فنّاني تلك الفترة إلى ثلاث مراحل: الأولى تتضمّن جيوتو، احد أوائل الرسّامين الايطاليين الذين تخلّوا عن الأساليب القديمة وتبنّوا نهجا أكثر واقعية في رسم البشر والطبيعة والمعمار.
كانت جهود جيوتو مبتكرة، لدرجة أن من جاءوا بعده في القرن الخامس عشر قضوا سنوات يبنون على ابتكاراته الفنّية. وقد امتدحه فاساري بقوله انه أعلن عن ولادة لحظة جديدة في الرسم.
المرحلة الثانية من رسّامي عصر النهضة تتضمّن ماساتشيو ودوناتيللو وغيرهما من الفنّانين الذين كانوا نشطين في القرن الخامس عشر. وهؤلاء كانوا يدفعون عن وعي باتجاه أعراف فنّية جديدة.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، بحسب فاساري، فكانت تغطّي معظم العصر الذي عاش فيه هو، أي النصف الأوّل من القرن السادس عشر. فنّانو تلك المرحلة عملوا بالطريقة الحديثة التي بدأها جيوتو وطوّرها الفنّانون الذين أصبحوا مشهورين أكثر من غيرهم بارتباطهم الوثيق بعصر النهضة، أي تيشيان وليوناردو دافنشي ورافائيل وميكيل انجيلو وكوريجيو.
وخلال تلك الفترة، ربّما كانت كلمة النهضة غير معروفة بعد ولم تَرِد على ألسنة الفنّانين آنذاك الذين أصبحوا يمزجون تحفهم الفنّية بالكثير من الدراما والانفعالات. لكنّهم بالتأكيد كانوا يعرفون أن شيئا ما جديدا كان يحدث.
وبينما كانوا متأثّرين بالفنّ الرومانيّ واليونانيّ الكلاسيكيّ ويعتبرونهما مصدرا للإلهام، إلا أنهم أيضا كانوا مدفوعين بالفكر التنافسيّ ليخلقوا شيئا جديدا ومختلفا عن الأجيال السابقة. وفي نفس الوقت كانوا يمهّدون الطريق للفنّانين الذين أتوا بعدهم لكي يناضلوا بوعي من اجل خلق وابتكار أشياء جديدة ومتجاوزة.

Credits
visual-arts-cork.com

الخميس، نوفمبر 10، 2016

الإطار في الفنّ والحياة


الإطار الذي توضع بداخله لوحة أو صورة هو نوع من الفنّ. وهو يحقّق أكثر من غرض، إذ يوفّر حماية للأطراف الهشّة من الصورة ويضفي عليها لمسة جمال ويحافظ عليها ويجعل طريقة عرضها أسهل.
ولتوضيح أهمّية الإطار، انظر إلى صورة اعتدت أن تراها داخل إطار، ثم تخيّلها بدون الإطار الذي تعوّدت أن تراها فيه. بالتأكيد ستبدو ناقصة بطريقة ما. وأفضل من وصف أهمّية الإطار للصورة هو فان غوخ الذي قال مرّة إن لوحة بلا إطار كروح بلا جسد.
واختيار الإطار المناسب لصورة ما لا يقلّ أهمّية عن اختيار الصورة نفسها. وأحيانا لا يتعلّق الأمر بما في داخل الإطار، بل بالفراغ الذي يحيطه.
الإطارات الفنّية أجسام حقيقية ذات تاريخ فتّان من حيث الشكل والأسلوب. بعضها يمكن أن يكون غالي الثمن، وبعضها يمكن أن يكون بسيطا حتى لا يصرف الاهتمام عن ما بداخله.
ذات مرّة، أعجب نابليون بإطار باهظ الثمن رآه على لوحة، فأمر بأن يُصنع مثله لجميع اللوحات الموجودة في اللوفر والتي تصوّر أحداثا من تاريخ الإمبراطورية. وأغلى إطار فنّي ظهر حتى اليوم بيع بسبعين ألف دولار، وقد صمّمه صانع أثاث في كوريا.
الإطارات قديمة جدّا وقصّتها جزء من قصّة الفنّ نفسه. وتاريخيّا، يُعتبر المصريون القدماء أوّل من صنع إطارا لصورة. وكان ذلك في القرن الثاني الميلادي عندما اكتُشف بورتريه لمومياء داخل قبر قديم في الفيّوم. وكان البورتريه محاطا بإطار مزخرف من الخشب.
ومنذ ذلك الوقت لم تتغيّر الإطارات كثيرا إلى أن ظهر هذا الفنّ في أوربّا في القرن الثاني عشر. وقد تولّى تصميم الإطارات في البداية صنّاع الأثاث. وتطوّرت هذه الصناعة لتعكس الأذواق وتتوافق مع الأحداث التاريخية وتفضيلات الأساليب والمدارس الفنّية المختلفة.
وبعض مدارس الفنّ كانت تتّبع قواعد صارمة ودقيقة في اختيار الإطارات الفنّية. الانطباعيون كانوا يفضّلون الإطارات البسيطة. وموندريان يقال انه لم يكن يرسم شيئا غير الإطارات. وويسلر كان يصمّم إطاراته بنفسه.
وفي عصر النهضة ظهرت أنواع كثيرة من الإطارات، وكانت تتميّز ببساطتها وتعدّد ألوانها والموادّ المصنوعة منها. وقد استُخدمت في البداية للأيقونات الدينية، وكانت تتضمّن الذهب واللآليء. وكثيرا ما كانت أوراق الأشجار تُحفر على خشب الإطار لإعطائه لمحة زخرفية.
وتقليديا وحتى اليوم، ظلّت الإطارات تُصنع من الخشب غالبا، وأحيانا من الفضّة والبرونز والألمنيوم وغيرها. ويعود الفضل لرموز عصر النهضة مثل ميكيل انجيلو في استكشاف كيف أن الإطار يُعتبر شكلا فنّيا بحدّ ذاته لارتباطه بالعمل الفنّي وبموضوع اللوحة.
لكن في كتب الفنّ، غالبا ما يكون الحديث عن اللوحة وليس الإطار. بل حتى الكتب التي تتحدّث عن تاريخ الإطارات لا يتجاوز عددها اليوم الستّة أو السبعة على أكثر تقدير.
ومن الأشياء الغريبة أن الإطارات ليست لها حقوق ملكية، أي أن بمقدور أيّ احد أن يقلّد أو يستنسخ أيّ إطار يعجبه دون أن يتعرّض للمساءلة.
وبعض الرسّامين يفضّلون صنع إطارات لوحاتهم بأنفسهم. وقد يقوم مالك العمل الفنّي بتغيير الإطار تبعا لذوقه الفنّي. لكن من شأن هذا أن يطمس تاريخ العمل ومن ثمّ يؤثّر على قيمته.
وفي منتصف القرن التاسع عشر، بدأت المتاحف وأصحاب المجموعات الفنّية الخاصّة اهتمامهم بالأصالة التاريخية للأعمال الفنّية، بما في ذلك الإطارات المستخدمة لها.
ومع ظهور التصوير الفوتوغرافي في نفس تلك الفترة، أي في منتصف القرن التاسع عشر، بدأت الطبقة الوسطى في أمريكا وأوربّا تصميم إطارات مصنوعة منزليّا للأعمال الفنّية التي تملكها. وقد ارتبط ذلك ومنذ البداية بالهندسة المعمارية، أي أن الإطار يُصمّم كجزء من الديكور العام، بحيث يتوافق مع الباب والنوافذ وغيرها من التفاصيل.
ترى ما الذي يتغيّر عندما نضع لوحة أو صورة داخل إطار؟ الإطار لا يوفّر دعما وحماية للصورة فحسب، وإنّما وفي كثير من الأحيان يضيف إليها مضمونا ومعنى. صحيح أن الصورة نفسها تظلّ كما هي، لكننا نضفي عليها أهمّية خاصّة بوضعها داخل مكان مميّز وخاص.
إطارات الصور تحيلنا إلى التفكير في الإطارات المختلفة التي نستخدمها في حياتنا، والتي هي أيضا عبارة عن سلسلة من الإطارات.
ترى كيف يمكن أن تبدو حياة كل منّا لو أننا لا نفكّر بشكل مختلف تبعا لنوعية الإطار الذي نضعه حولنا؟ بيتك، ملابسك، ذوقك، طريقة كلامك، القصائد والكتب التي تحبّ قراءتها والموسيقى التي تفضّل سماعها وتعود إليها من وقت لآخر، العمل، العائلة، المكتب، البيت، الزواج، أطوار العمر المتعاقبة، كلّها إطارات تنتظم حياة كلّ منّا وهي تعني لنا أشياء كثيرة وتعلّمنا كيف نحمي أنفسنا ونزيّن عالمنا.
كيف يمكن أن تكون حياتنا لو أننا لا نضعها في سلسلة من الإطارات؟ كيف يمكن للغة أن تؤطّر التجربة، وللقصيدة أن تؤطّر المعنى، وللكتاب أن يعبّر عن زمان ومكان معيّنين؟

Credits
smithsonianmag.com

السبت، مارس 05، 2016

موسى وميكيل انجيلو وفرويد

إلى ما قبل ظهور سيغموند فرويد، كان تاريخ الفنّ عبارة عن توثيق للأعمال الفنّية: كيف ظهرت وإلامَ انتهت، وما هي التأثيرات الثقافية والاجتماعية التي شكّلت دافعا للفنّان في انجاز هذا العمل أو ذاك.
لكن عالم النفس النمساويّ الشهير ابتكر طريقة لاكتشاف كيف ولماذا يؤثّر فينا الفنّ العظيم. ومن خلال دراسة العمل الفنّي سيكولوجيا، وكذلك التحليل النفسي للفنّان صاحب العمل، قدّم لنا فرويد أدوات فعّالة تمكّننا من فهم الإبداع وإدراك القوّة التذكّرية والعاطفية للفنّ بطريقة أفضل.
كان أسلوبه في دراسة الفنّ مشابها إلى حدّ ما لطريقته في تفسير الأحلام. فالصور في الأحلام، وكذلك في الرسم والنحت، ما هي إلا تقطير بصريّ للأفكار والتأثيرات.
كان فرويد متماهيا مع النبيّ موسى. كتابه الأخير كان عنوانه "موسى والتوحيد". والواقع انه كان يرى في نفسه، هو أيضا ومثل موسى، زعيما لجماعة صغيرة، لكن تأثيرها قويّ وواسع.
وكان فرويد يقول لأصدقائه دائما أن روما هي مدينته المفضّلة وأن زياراته لها تسرّه كثيرا. وقد عُرف عنه اهتمامه بالآثار وبجمع التحف. وكان يستخدم الآثار والتنقيب كتعبير مجازيّ عن العقل الباطن والكبت. وروما بطبقاتها المتعدّدة والقديمة من عصور النهضة والباروك والحداثة كانت تفتنه وتثير مخيّلته.
وقد جاء إلى روما أوّل مرّة لزيارة تمثال موسى، ثم عاد مرارا لمعاينة التمثال. دراسته بعنوان "موسى وميكيل انجيلو" لها تاريخ غريب. وقد نشرها عام 1917 باسم مستعار في دورية سيكولوجية.
لكن في البداية، ما هي قصّة تمثال موسى؟
في عام 1505، بدأت فكرة بناء قبر للبابا جوليوس الثاني، عندما كلّف هذا البابا ميكيل انجيلو بتصميم القبر الذي كان عبارة عن ضريح فخم.
وكان من المنتظر أن يوضع التمثال في كنيسة القدّيس بطرس التي كانت آنذاك تحت الإنشاء. وقد أتى الاقتراح ببناء الضريح من "بابا" كان يحبّ نفسه كثيرا، وكلّف للمهمّة نحّاتا شابّا كانت له، هو أيضا، طموحات عالية.
ومنذ البداية، كانت النيّة متّجهة لإقامة ضريح ينافس في الفخامة ضريح الملك الإغريقيّ ماسوليوس الذي يُعتبر إحدى العجائب السبع في العالم القديم. ومن اسم ماسوليوس اشتُقّت كلمة موسوليوم التي تعني باللاتينية "الضريح".
وتمثال موسى لم يكن سوى واحد من أربعين تمثالا داخل القبر. وهو على الأرجح كان أوّل قطعة يتمّ انجازها. وظلّ التمثال يشكّل عبئا ثقيلا على ميكيل انجيلو حتى بعد موت البابا جوليوس عام 1513م بوقت طويل.
فكرة التمثال مأخوذة من سفر الخروج في العهد القديم الذي يذكر أن موسى خرج من مصر مع قومه قاصدا "ارض الميعاد" التي سيؤسّس عليها امّة موحّدة. وعندما وصل موسى إلى سيناء صعد إلى الجبل، وهناك تلقّى الألواح المقدّسة المسمّاة اليوم بالوصايا العشر، والتي تُعتبر أساس الأخلاق المسيحية اليهودية.
لكن موسى يُفاجأ عند نزوله بأن قومه عادوا في غيابه لعبادة الأصنام ووجدهم يرقصون حول عجل ذهبيّ. وقد استولى عليه الغضب ممّا رآه، وهو المعروف بمزاجه العصبيّ، فقام بتحطيم الألواح في نوبة غضب.
خلال عصر النهضة، أصبح كلّ من موسى وعيسى موضوعين مفضّلين للرسّامين. ومن يَزُر كنيسة سيستينا في الفاتيكان سيرى مقاطع مصوّرة من حياة هذين النبيّين تمتدّ من الجدار الشماليّ حتى الجنوبيّ. وأكثر الرسومات المتكرّرة تُظهر موسى ممسكا بالألواح عاليا فوق رأسه بعصبية وهو على وشك تكسيرها في الأرض.
تمثال ميكيل انجيلو عن موسى مختلف. وفرويد كان مفتونا بهذا الفارق. وقد لاحظ في البداية أن التمثال ليس عن موسى وهو على وشك تكسير الألواح. فالتمثال العملاق يصوّر شخصا ينظر ناحية اليسار. وليس هناك من شكّ في غضبه الشديد أو قوّة الانفعال التي يختزنها داخل جسده.
كما لاحظ فرويد لحيته الكثّة واليد اليمنى التي يُمسك بها الألواح، بينما الألواح على وشك أن تنزلق منه. وضعية ساقي الشخص توحي بأنه على وشك أن ينهض من مكانه ويندفع إلى الأمام. ومن المؤكّد أن الألواح ستسقط نتيجة لتلك الحركة.
زار فرويد التمثال ورسمه مرارا، ثم توصّل إلى استنتاج أخير مؤدّاه أن هذا هو موسى فعلا، فالثورة تنطق بها عيناه وكلّ عضلة من جسده الضخم، لكنّ التوتّر في الجسد واللحية يُظهر تردّده.
تمثال موسى هو عبارة عن عملاق ثائر وصعب المزاج في حالة صراع. لكن لماذا هذا الصراع؟ يقول فرويد: صحيح أن أمل موسى في قومه خاب، لكن يجب عليه أن يتذكّر أنهم أتباعه ولا يمكن أن يخاطر بالتخلّي عنهم ونبذهم. كان يعرف انه يجب أن يتحكّم في غضبه وأن يجدّد دين قومه.
يقال أن من بين عيوب التمثال حقيقة أن قدمي ويدي الشخص ضخمة بشكل لا يتناسب مع التمثال ككلّ. لكن هذا كثيرا ما يُفسّر بأن التمثال أريد له أن يُنظر إليه من أسفل. وأحيانا قيل أن هذا خطأ فنّي فرضه شكل عمود الرخام الذي نُحتت منه الأطراف.
وحتى عندما نحت ميكيل انجيلو تمثال بييتا عن المادونا وابنها، قيل وقتها وما يزال يقال إلى اليوم على سبيل النقد، بأن وجه الأمّ أكثر شبابا من وجه ابنها الميّت.
غير أن هذه هي فكرة النحّات لما يعنيه مفهوم الأم، وفي هذا أيضا تلميح لحياته هو. فقد انفصل ميكيل انجيلو عن أمّه عندما وُلد، وعُهد به إلى مربّية في قرية مجاورة. وبعد أن أعيد إلى أمّه، توفّيت بعد ذلك بوقت قصير وعمره لا يتجاوز السادسة. والواقع أن ميكيل انجيلو كان له أمّ لم تكبر في عينيه أبدا. وربّما كان هذا انعكاسا لرغبة الإنسان في أن يعود إلى حضن أمّه التي كانت وقت ولادته.


كان عقل ميكيل انجيلو المرهَق ميدان قتال متواصل. القوى المتعارضة للإيمان الدينيّ والجمال الوثنيّ كانت تتواجه في وعيه. لكنّ هذا ساعده على خلق مجموعة من التحف الفنّية الخالدة.
دراساته التشريحية بارعة في تعبيريّتها وإحكامها، كما أن تصميماته لقبور معاصريه، مثل ميديتشي وجوليوس الثاني، ظلّت على الدوام تُلهم الرهبة وربّما الخوف.
وقد عاش النحّات في زمن مثير تخلّلته غزوات نابليون وإصلاحات الكنيسة وفترات الاضطراب السياسيّ. كان مشهورا بحبّه للعزلة. وكان يطبّق على نفسه حالة امتناع عن المتع الدنيوية، بعد أن قرّر أن يصرف جميع انفعالاته ودوافعه على إبداعه الفنّي.
وممّا لا شكّ فيه أن ميكيل انجيلو بذل جهدا خرافيّا في رسم سقف كنيسة سيستينا، ما أدّى إلى تشويه عموده الفقريّ وإتلاف نظره إلى درجة كبيرة.
وبحسب ما يقوله المؤرّخ الايطاليّ انطونيو فورتشيللينو، كان أسلوب حياته المتقشّف وسيلة لادّخار المال. حتى مادوناته متقشّفات وبسيطات، وقد وضعهنّ في طبيعة قاحلة كردّ على انتقادات الكاهن سافونارولا الذي اتّهم الفنّانين وقتها بتصوير المادونا كبغيّ وذلك بإلباسها ثيابا غير محتشمة.
كان سافونارولا قد جاء إلى السلطة في فلورنسا وأتى معه بجملة من القوانين المتشدّدة التي تحذّر الناس من الفراغ والانشغال "بالاهتمامات التافهة". وطبعا كان من بين تلك الاهتمامات الرسم والنحت والحُليّ والمجوهرات والآلات الموسيقية، لذا اُلقي بها جميعا إلى النيران لتأكلها.
لكن لنعد الآن إلى القصّة الأصلية. بحسب فرويد، صنع ميكيل انجيلو تمثالا؛ ليس عن موسى الغاضب وإنّما عن موسى الزعيم الذي يعيش حالة صراع. انه ممزّق بين الغضب وبين الخوف في أن يتسبّب غضبه في تدمير ما كان قد بدأ عمله.
والحقيقة أن كلا الشخصين، أي النحّات والبابا جوليوس الثاني، كان لهما مزاج غضوب جدّا. وقيل إن وجه التمثال هو وجه البابا نفسه. وممّا يُروى أن البابا في إحدى نوبات ثورته ضرب ميكيل انجيلو بالعصا على ظهره. وردّا على ذلك، ترك الأخير الفاتيكان وغادر إلى فلورنسا تاركا البابا في حالة هياج.
وقد تصالح الرجلان مع بعضهما بعد جهد جهيد في ما بعد. وكان ميكيل انجيلو يعلم بأن عليه أن ينصاع في النهاية لرغبات راعيه.
جدار قبر جوليوس انتهى العمل منه طبقا لمخطّط ميكيل انجيلو عام 1547، أي بعد وفاة البابا جوليوس بأربعة وثلاثين عاما. وهو يمثّل محصّلة لسلسلة من التسويات والمفاوضات.
وعلى مرّ السنين، كان هناك جدل كثير عن النتوءات التي تشبه القرون والبادية على رأس موسى. وقد أضافها النحّات اعتمادا على ما ورد في سفر الخروج الذي يذكر أن موسى عندما تلقّى الوصايا العشر نزل من فوق الجبل وفي رأسه قرون من إثر حديثه إلى الربّ. وكانت تلك القرون تميّزه عن غيره وتمنحه نوعا من المكانة والمجد.
لكن يقال أن فكرة القرون نتجت عن ترجمة مغلوطة لكلمة في النصّ اللاتيني عن قصّة الوصايا على أن معناها "القرون"، بينما يشير معناها في العبرية الأصلية إلى صفة "التألّق أو السطوع".
ومن المثير للاهتمام أن فرويد في كتابه "موسى والوحدانية" طبّق مبدأ علمانيّا، فقال إن النصّ الإنجيلي يعني انه كان لموسى جبين بارز للغاية أو سنام، وعادة ما تقترن هذه الصفة بالذكاء الشديد.
ميكيل انجيلو كان يشعر بأن هذا التمثال كان تحفة حياته. وطبقا للمؤرّخ جورجيو فاساري، فإن يهود روما كانوا يأتون جماعاتٍ وفرادى للنظر إلى التمثال وإظهار الإعجاب به كلّ يوم سبت.
لكن كان هناك أيضا جدل بشأن الصدع الظاهر في الرخام على الركبة اليمنى للتمثال. ويقال أنه عندما فرغ ميكيل انجيلو من إتمامه ضربه بالمطرقة وصاح قائلا: هيّا تكلّم"! وطبعا هذا لم يحدث أبدا ولم ترد هذه القصّة في أيّ مصدر موثوق.
كان فرويد يرى بأن دراسة العمل الفنّي من ناحية سيكولوجية يضيف الكثير إلى فهمنا لذلك العمل. وفي ما بعد وضع دراسة عن ليوناردو دافنشي، مضيفا معيارا آخر مهمّا لفهم العمل الفنّي، وهو العلاقة بين تطوّر الشخصية وتجارب الفنّان من ناحية وبين القطعة الفنّية من ناحية أخرى.
وقد أسهم فرويد في دراسته للعمل الفنّي من منظور علاقته بصانعه في إثراء دراسة الفنّ وتقدير الجمهور للأعمال الفنّية.
الجدير بالذكر أن ميكيل انجيلو توفّي وهو في التاسعة والثمانين من عمره، وكان ما يزال يعمل بنشاطه المعهود ويرتدي زيّ الفنّان المتقشّف. ومع ذلك، كان يُعتبر أكثر فنّاني عصره احتفاءً. شهرته كانت مدويّة في أرجاء أوربّا كلّها. ولهذا خصّته الكنيسة الكاثوليكية بمراسم دفن فخمة تعكس أمجاده الشخصية.
وفي صباح اليوم الذي توفّي فيه، تسلّلت مجموعة من أهالي فلورنسا إلى الكنيسة التي كان جثمانه مسجّى بداخلها، ثم سرقوا الجثمان وقاموا بإخفائه في عربة مدرّعة. وبعد ثلاثة أيّام، وصلوا به إلى فلورنسا حيث خرج في وداعه الآلاف.
ولم يرَ الناس وقتها موكبا بمثل تلك الضخامة عدا ما كان يُختصّ به القدّيسون عادة. كانت المعركة على جنازة ميكيل انجيلو رمزا للعلاقة المتناقضة دائما بين الدين والفنّ والسياسة.

Credits
michelangelo.org
creativecommons.org

الثلاثاء، يوليو 07، 2015

عن الكتب والقراءة


صديقي، الذي يفاخر دائما "ومعه حقّ" بأنه قرأ كتبا أكثر بكثير ممّا قرأت، حدّثني منذ أيّام عن قائمة الكتب التي يقرؤها منذ بداية شهر رمضان. وقد اختار لقراءاته الرمضانية مجموعة من الكتب القديمة والمعروفة، وذكر في ما ذكر كتبا مثل الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب الجمهورية لأفلاطون والقانون في الطبّ لابن سينا وكتاب التواريخ لهيرودوت، بالإضافة إلى كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو.
طبعا أعرف أن صديقي لا يبالغ، وهو بالتأكيد لا يدّعي شيئا ليس فيه، فأنا اعرف انه "دودة كُتُب" من النوع الذي لا يكلّ ولا يملّ من قرض والتهام كلّ ما تقع عليه يده. وهو يقرأ في جميع التخصّصات، ولهذا لا أبالغ إن وصفت ثقافته بأنها موسوعية على مستوى ما.
في اليوم التالي لحديثنا، جلست أفكّر في ما سمعته منه، ومرّت بذهني أسماء بعض الكتب القديمة والمشهورة التي ظللت احلم بقراءتها يوما ما، ولم يتسنّ لي تحقيق ذلك بسبب كثرة الأعمال والمشاغل. وكلّ تلك الكتب التي ذكرها لي صديقي هي من الكتب التي يبدو أنني اكتفيت بالسماع عنها دون أن يسعفني الحظّ والوقت لقراءتها.
ثم خطرت ببالي بعض الأسئلة عن جدوى قراءة مثل هذه النوعية من الكتب الآن، وبعضها قديم جدّا يعود إلى أكثر من ألفي عام، وكيف أن مضمون بعضها قد لا يكون ذا صلة بواقع العالم الذي نعيش فيه اليوم. وبطبيعة الحال فإن مشاكلنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ملحّة جدّا بحيث أنها تتطلّب عمليّا كلّ الوقت والطاقة التي يمكن أن نكرّسها للقراءة المعاصرة والجادّة.
والسؤال ليس عن قيمة الكتب القديمة، إذ قد تكون لها قيمة عند المتخصّصين، ولكن عن جدوى قراءتها هذه الأيّام. مثلا، ما فائدة قراءة كتاب الجمهورية لأفلاطون أو كتاب العقد الاجتماعي أو كتاب هيرودوت في عالم تطوّرت فيه نظريات السياسة وتغيّرت جذريا طبيعة دراسة التاريخ والعلوم التي تتناول دراسة المجتمع والدولة وأنظمة الحكم؟
وما فائدة قراءة كتاب في الطبّ أو في الفلك ألّفه أناس عاشوا قبل أكثر من ألف عام وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم متقادمة بعد أن عفا عليها الزمن ونسختها الطفرات المتسارعة من المعارف والنظريات والابتكارات المستجدّة التي نراها من حولنا كل يوم؟
وأيضا ما جدوى قراءة كتب ابن بطّوطة أو ماركو بولو عن عجائب وأساطير العالم القديم؟ أيّ فائدة معرفية يمكن أن تعود علينا الآن من قراءة مثل هذه النوعية من الكتب التي لا شكّ كانت عظيمة في وقتها، لكنها الآن تُعتبر بسيطة وساذجة بنظر البعض؟ وأليس من الأفضل قراءة كتب لها علاقة بالحاضر وبهموم وقضايا اليوم؟
من بين أهمّ من ناقشوا مثل هذه الأسئلة الكاتب الأمريكي مورتيمر ادلر الذي كان فيلسوفا ومنظّرا في التربية وفي طرق التعليم. تخيّل ادلر ذات مرّة جامعة تتألّف هيئة تدريسها من مشاهير الكتّاب والفلاسفة والمفكّرين. فمثلا هيرودوت وثوسيداديس يدرّسان في هذه الجامعة تاريخ اليونان. وغِيبون يحاضر في سقوط روما. وأفلاطون يعطي دورة في الميتافيزيقيا أو الغيبيات. وفرانسيس بيكون وجون ستيوارت ميل يناقشان منطق العلم. وأرسطو وسبينوزا وإيمانويل كانت يتناولون المسائل الأخلاقية. ومكيافيللي وتوماس هوبز وجون لوك يتحدّثون في السياسة.
وفي هذه الجامعة، يمكنك اخذ سلسلة من الدورات في الرياضيات والفلسفة من اقليدس وديكارت، وسيضاف إليهما كلّ من برتراند راسل ووايتهيد في نهاية المطاف. كما بإمكانك الاستماع إلى توما الاكويني ووليم جيمس وهما يتحدّثان عن طبيعة الإنسان والعقل البشري، وربّما يقوم بالتعليق على محاضراتهما جاك ماريتان.
وإن كنت متخصّصا في الاقتصاد فستستمع إلى محاضرات من كلّ من آدم سميث وريكاردو وكارل ماركس وماكلوهان مارشال. بينما يناقش جون ديوي المشاكل الاقتصادية والسياسية للديمقراطية الأمريكية ويحاضر لينين عن الشيوعية.
وإذا كان تخصّصك في الفنون، فستكون على موعد مع محاضرات في النحت والرسم يلقيها ميكيل انجيلو وليوناردو دا فينشي، ومحاضرات أخرى عن ليوناردو نفسه، حياته وفنّه، يلقيها فرويد!
ثم يتساءل ادلر: تُرى من منّا لا يرغب في الذهاب إلى هذه الجامعة التي تضمّ كلّ هذه الأسماء المفكّرة واللامعة؟


الشرط الوحيد للقبول في هذه الجامعة العظيمة أن تدفع رسما بسيطا. وهذا الرسم لا علاقة له بالمال من قريب أو بعيد، بل يتمثّل في شرط واحد فقط: أن تتوفّر لديك المقدرة والرغبة في القراءة والمناقشة.
والجامعة متاحة للجميع، أي لكلّ من يرغب في أن يتعلّم ويناقش، وهي متوفّرة لكلّ شخص راغب وقادر على أن يتعلّم على يد معلّمين من ارفع مستوى.
ثم ينتقل ادلر لمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا وهو: هل ثمّة جدوى من قراءة "الكتب العظيمة" التي تتعامل مع مشاكل وهموم العصور الغابرة؟ وهل هناك أيّة قيمة، عدا الأهمية التاريخية، في قراءة الكتب التي كُتبت في ثقافات قديمة وبسيطة؟
ويجيب بقوله: الناس الذين يشكّكون، أو حتى يحتقرون دراسة الماضي وأعماله، عادة ما يفترضون أن الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأننا بالتالي لا يمكن أن نتعلّم شيئا مفيدا من الماضي. ولكن هذا غير صحيح، فبإمكاننا أن نتعلّم الكثير من تشابه واختلاف القيم الآن وفي الماضي.
لقد حدث تغيير هائل في ظروف حياة الإنسان وفي معرفتنا بالسيطرة على عالم الطبيعة منذ العصور القديمة. القدماء لم يكن لديهم العون ولا البصيرة التي تتوفّر في بيئتنا التقنية والاجتماعية الحالية، وبالتالي هم لا يملكون مشورة يقدّمونها لنا لتعيننا على حلّ المشاكل التي نواجهها اليوم.
ولكن على الرغم من أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية تختلف باختلاف الزمان والمكان، إلا أن الإنسان يظلّ هو الإنسان. ونحن والقدماء نشترك في نفس الطبيعة البشرية، وبالتالي في بعض التجارب والمشاكل الإنسانية المشتركة.
الإنسان القديم، تماما مثلنا اليوم، كان يرى شروق الشمس وغروبها ويشعر بهبوب الرياح وهطول المطر، وكانت تتملّكه مشاعر الحبّ والرغبة. كما جرّب النشوة والغبطة، فضلا عن الإحباط وخيبة الأمل وعرف الخير والشرّ.
القدماء يتحدّثون إلينا من وراء القرون، وأحيانا بشكل أكثر مباشرة ووضوحا من بعض كتّابنا المعاصرين. والأنبياء والفلاسفة القدامى، من خلال تعاملهم مع المشاكل الأساسية للبشر الذين عاشوا في تلك المجتمعات، ما يزال لديهم شيء يقولونه ويقدّمونه لنا.
ويضيف ادلر قائلا: صحيح أنه لم يحدث في أيّ عصر سابق أن تعرّضت الحياة على الأرض لخطر الإبادة بحرب نووية. غير أن العصور الماضية أيضا عرفت الحروب والإبادة واستعباد شعوب بأكملها. مفكّرو الماضي كانوا يتأمّلون مشاكل الحرب والسلام وقدّموا اقتراحات تستحقّ الاستماع إليها. شيشرون ولوك، مثلا، أثبتا أن الطريقة المثلى في تسوية النزاعات بين البشر هي من خلال المفاوضات والقانون، في حين اقترح دانتي إنشاء حكومة عالمية تسعى لتكريس السلام والوئام بين أمم الأرض.
وصحيح أيضا أن الناس الذين عاشوا في العصور السابقة لم يواجهوا أشكالا معيّنة من الديكتاتورية التي عرفناها في هذا القرن. ولكنهم مرّوا بتجارب مباشرة مع الاستبداد المطلق وقمع الحرّيات السياسية. وأطروحة أرسطو في السياسة تتضمّن تحليلا معمّقا عن الديكتاتوريات، وكذلك توصية بالتدابير التي يجب اتخاذها لتجنّب الأشكال المتطرّفة من الاستبداد والفوضى.
ونحن اليوم أيضا – يضيف ادلر - يمكننا أن نتعلّم من الماضي وذلك من خلال التمعّن في العناصر التي يختلف بها عن الزمن الحاضر. ويمكننا أن نكتشف ما نحن فيه اليوم من خلال ما أصبحنا نعرفه عن أنماط تفكير وتصرّف الشعوب والأمم التي سبقتنا. وجزء من الماضي، أي ماضينا نحن وأيضا ماضي الجنس البشري بأكمله، يعيش في داخلنا دائما.
ويخلص الكاتب إلى القول إن التفضيل الحصري، إمّا للماضي أو الحاضر، هو شكل من أشكال الغباء والتكبّر والإسراف، وأننا يجب أن نسعى لكلّ ما هو صالح ومفيد في أعمال المعاصرين والسالفين. وعندما نفعل ذلك، سنجد أن الشعراء والفلاسفة القدماء هم بقدر ما معاصرون في عالم العقل لأكثر كتّاب العصر الحاضر فطنة وقوّة ملاحظة.
بل ويمكن القول إن العديد من الكتابات القديمة تتحدّث بصورة أكثر مباشرة إلى تجربتنا وأحوالنا وظروفنا اليوم بأفضل ممّا تفعله بعض أكثر الكتب حداثة ورواجا هذه الأيّام.

الأحد، أبريل 19، 2015

خواطر في الأدب والفن

تيشيان: شمس بين الأقمار


ولد الرسّام الايطالي تيشيان في بلدة كادوري الايطالية لعائلة نبيلة. وعندما بلغ العاشرة أظهر ميلا للفنون والرسم، فأرسله والده إلى بيت احد أعمامه في فينيسيا. وقد استطاع الأخير أن يلمس محبّة الصبيّ للرسم، فعهد به إلى الرسّام البارع والمشهور جدّا وقتها جيوفاني بيلليني.
في ذلك الوقت، كانت فينيسيا أغنى مدينة في العالم، وكان الرسم فيها مزدهرا كثيرا. كانت صناعة الرسم في هذه المدينة تضمّ رسّامين وباعة أصباغ وصانعي زجاج وناشري كتب وخبراء ديكور وصانعي أدوات خزفية وما إلى ذلك.
عندما أصبح تيشيان رسّاما يُشار إليه بالبنان، كان من بين تلاميذه جورجيوني. لكن عندما صار عمل التلميذ غير مختلف عن عمل أستاذه، قرّر جورجيوني انه لم يعد راغبا في أن يكون تلميذا لتيشيان واختطّ لنفسه طريقا آخر مختلفا.
لكن تيشيان لم يلبث أن تفوّق على معاصريه في مدرسة فينيسيا للرسم مثل تنتوريتو وفيرونيزي ولوتو. بل لقد تجاوز حتى القيود الثقافية والفنّية لعصر النهضة وأصبح معروفا باعتباره مؤسّس الرسم الحديث الذي هيمن هو عليه خلال حياته الطويلة. وقد عُرف على وجه الخصوص بابتكاريّته واستخدامه البارع للألوان.
وأجمل لوحات تيشيان مستوحاة من الأساطير التي كان يشبّهها بالشعر البصري. ولوحاته تلك تصوّر ضعف وهشاشة الإنسان بأسلوب يتّسم بالرقّة والغنائية.
في إحدى المرّات، وبناءً على تكليف من ماري ملكة المجرّ، رسم تيشيان مجموعة من أربع لوحات تصوّر شخصيات ملعونة في الأساطير: تيتيوس وسيزيف وتانتالوس وليكسيون. وجميع هؤلاء محكوم عليهم باللعنة وبالعذاب الأبديّ لإثارتهم غضب الآلهة.
ومثل ما فعل أسلافه الذين كانوا يرسمون على أواني الزهور، رسم تيشيان في إحدى هذه اللوحات "فوق" البطل الأسطوري سيزيف ببنية قويّة ومفعمة بالحياة، كما أظهره عَزوماً ثابت الخطى.
في اللوحة، كلّ جسد سيزيف منشغل ووجهه مشدود بفعل الثقل الذي يحمله. وهو لا يدفع بالصخرة لأعلى التلّ، وإنما يحملها فوق كتفه بحسب ما ذكره أوفيد في كتاب التحوّلات، وهو عمل أدبيّ كان مألوفا كثيرا لتيشيان، بل وربّما كان نموذجه الصوريّ.
سيزيف يبدو أنه كان شخصا حكيما، وربّما كان نموذجا للإنسان الذي ينافس الآلهة. تقول القصّة أن سيزيف، عندما حضره ملك الموت، قام بخداعه ثم أحكم وثاقه. ونتيجة لذلك، ولفترة من تاريخ الإنسانية، لم يكن احد من البشر يموت، إلى أن تدخّل زيوس كبير الإلهة وأعاد الأمور إلى نصابها.
الروح المتمرّدة وحبّ الحياة هما سمتان إنسانيّتان ضروريتان، وسيزيف كان يجسّدهما. ورغم كلّ الظلام والعدمية في العالم، فقد تخيّل تيشيان سيزيف وهو يقوم بمهمّته تلك إلى قمّة الجبل بعزيمة وثبات.
البير كامو، الكاتب والفيلسوف الفرنسيّ، اختصر القصّة في أن الصراع لبلوغ الأعالي يكفي لأن يملأ قلب الإنسان بالأمل وأن على المرء أن يتخيّل سيزيف وهو سعيد في مهمّته برغم كلّ المشاقّ والمعاناة التي تحمّلها.
أعمال تيشيان الأخيرة، والتي وصفها المؤرّخ جورجيو فاساري بأنها جميلة ومدهشة، نُفّذت بضربات فرشاة جريئة وبخطوط عريضة بحيث لا يمكن رؤيتها إلا من مسافة. وقد قال بعض النقّاد إن قصائده البصريّة تجسيد لعظمة ميكيل انجيلو ورافائيل، كما أنها تعبير عن الألوان الحقيقية للطبيعة.
بمعنى ما، كان تيشيان شمسا وسط أقمار صغيرة. وقد حرّر الرسم من التخطيط الأوّلي وكرّس ضربات الفرشاة باعتبارها أداة تعبير بحدّ ذاتها.
توفّي تيشيان أثناء انتشار وباء الطاعون في فينيسيا، وتوفّي معه في نفس تلك السنة ابنه وذراعه الأيمن اوراتسيو. والحقيقة أنه لم يترك وراءه أيّة رسائل أو مفاتيح تدلّ على حياته الخاصّة أو رؤيته الفنّية. ولوحاته التي يربو عددها على الخمس مائة تشهد على وفائه الأسطوري لمهنته.
نموّ تيشيان الفنّي رافقه حتى مماته، وأصبحت فرشاته في آخر عمره أكثر حرّية وأقلّ وصفية وأكثر تجريدا. "ها أنا أتعلّم أخيرا كيف أرسم".

❉ ❉ ❉

بترارك ودي نوفيس


ألّف فرانشيسكو بترارك، شاعر عصر النهضة الايطالي، عدّة قصائد عبارة عن تأمّلات حول طبيعة الحبّ. وقد كتبها من وحي علاقته العاطفية مع ملهمته لاورا دي نوفيس التي كان لها تأثير كبير على حياته وأشعاره.
في إحدى تلك القصائد، يتأمّل الشاعر في الحالة المحيّرة التي وضعه فيها حبّه لتلك المرأة. فهو في حبّه لها يشعر بأنه مسجون وفي نفس الوقت حرّ، وبأنه محترق بالنار وفي الوقت نفسه مغمور بالثلج. وفي قصيدة أخرى يصف حالة الجمال والصفاء في حبّه وأثر ذلك على السماء والطبيعة.
الموسيقيّ "فرانز ليست" قد تكون سوناتات "أو رباعيّات" بترارك حرّكت مشاعره، لذا ترجم بعضها موسيقيّا على البيانو بطريقة جميلة أمسك من خلالها بجوّ ومشاعر كلمات الشاعر. ومن أشهر ما ألّفه من وحي ديوان بترارك الرباعيّة رقم 104 . المعروف أن "ليست" قضى سنوات في ايطاليا، ألّف خلالها أيضا مقطوعات موسيقية أخرى من وحي بعض الأعمال التشكيلية التي رآها هناك مثل زواج العذراء لرافائيل وتمثال لورينزو دي ميديتشي لميكيل انجيلو وغيرهما.
المرأة التي ألهمت بترارك، أي لاورا دي نوفيس، كانت زوجة للكونت هيوز دي ساد الذي يُعتبر من أسلاف الماركيز دي ساد. غير أن المعلومات التاريخية المتوفّرة عنها قليلة. لكن معروف أنها ولدت في افينيون بفرنسا عام 1310 وكانت تكبر بترارك بستّ سنوات.
وقد رآها الشاعر للمرّة الأولى في إحدى الكنائس وذلك بعد زواجها بعامين، فوقع في حبّها من النظرة الأولى وأصبح مهجوسا بجمالها بقيّة حياته. وقضى السنوات التالية في فرنسا يغنّي لها حبّه الأفلاطوني ويتبع خطاها إلى الكنيسة وفي مشاويرها اليومية.
ديوان بترارك المسمّى كتاب الأغاني ألّفه في مديحها واتّبع فيه أسلوب الشعراء المتجوّلين أو التروبادور. ولم يتوقّف عن الكتابة عن لاورا بعد وفاتها، بل كتب عنها قصيدة دينية في رثائها.
دي نوفيس توفّيت عام 1348، أي بعد واحد وعشرين عاما من رؤية بترارك لها. كان عمرها آنذاك لا يتجاوز الثامنة والثلاثين. ولا يُعرف سبب وفاتها. لكن ربّما كان السبب إصابتها بالطاعون أو السلّ، بعد أن وضعت احد عشر طفلا.
وبعد وفاتها بعدّة سنوات عُثر على قبرها واكتُشف بداخله صندوق من الرصاص يحتوي على ميدالية منقوش عليها صورة امرأة وتحتها إحدى قصائد بترارك التي نظمها فيها.

❉ ❉ ❉

بورودين: قصّة حبّ مغولية


من سمات موسيقى المؤلّف الروسي الكسندر بورودين أنها تمتلئ بالأنغام التي يسهل تذكّرها وتعلق بالذهن بسهولة. من بين مقطوعاته الموسيقية المفضّلة لديّ هذه القطعة بعنوان "في سهوب آسيا الوسطى".
مفردة "السهوب" في العنوان تحيل تلقائيا إلى منغوليا وجنكيزخان والقبيلة الذهبية. والكلمة توازيها في المعنى كلمة "براري" في اللغة العربية.
هذه الموسيقى هي جزء من مسرحية بعنوان الأمير إيغور تتحدّث عن قصّة حبّ بين أمير روسيّ وإحدى نساء المغول.
الانطباع السائد لدى الكثيرين عن المغول هو أنهم قوم قساة متوحّشون ومتعطّشون للحروب وسفك الدماء. لكن المسرحية تقدّمهم بشكل مغاير، فهم في العموم لا يختلفون عن غيرهم من حيث المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكلّ ما في هذه القطعة، من بناء وتوليف وأنغام، شرقيّ الطابع، وبالتحديد روسي. وقد وظّف فيها المؤلّف عددا من الأنغام الروسية. وهي تبدأ بعزف رقيق لآلتي الكمان والكلارينيت المفرد، ثمّ يتطوّر النغم شيئا فشيئا مع دخول الآلات الوترية.
وأنت تستمع إلى هذه الموسيقى ستتخيّل انك تشاهد قافلة تجارية وهي تقترب شيئا فشيئا. والموسيقى تعطيك هذا الانطباع بمرور موكب من الناس والحيوانات. وربّما مع شيء من التركيز قد تشعر بإحساس بالمشي وبوقع أقدام.
وأكثر ما يثير الانتباه في النغم الأوّل الذي يعزفه الكلارينيت هو كيف أنه يتطوّر ويتداخل مع العناصر الموسيقية الشرقية، وفي النهاية ينتهي بالفلوت والبيانو، ثم يتلاشى النغم، ويُخيّل للسامع انه يرى القافلة وهي تبتعد شيئا فشيئا إلى أن تتحوّل إلى نقطة صغيرة في الأفق البعيد.
إن أعجبتك هذه المقطوعة وأردت سماع شيء مختلف لبورودين أكثر رومانتيكية وقدرة على مخاطبة العواطف، فأظن أن لا شيء أجمل من معزوفته الليلية المشهورة "نوكتورن". توجد توزيعات كثيرة لهذه المعزوفة، لكن التوزيع الذي اعتبره الأفضل هو الموجود هنا ..

❉ ❉ ❉

فيلاسكيز: بورتريه اوليفاريز


هذا هو أشهر بورتريه فروسي رسمه دييغو فيلاسكيز عام 1634، ويصوّر فيه كونت اوليفاريز الذي كان وقتها أقوى رجل في مملكة اسبانيا؛ أقوى حتى من الملك نفسه.
وقد أراد فيلاسكيز التعبير عن كبرياء الرجل فرسمه فوق صهوة حصان، وهو شرف لا يناله غالبا سوى الملوك وزعماء الدول.
كان اوليفاريز مشهورا بحبّه للخيل. وهو يظهر هنا بقبّعة وعصا ودرع مزيّن بالذهب، بينما يجلس فوق حصانه هابطا من مكان عال، وشخصه يملأ كامل مساحة اللوحة.
الجواد الرائع الكستنائي اللون يميل برأسه في الاتجاه الآخر وينظر إلى أسفل اللوحة حيث تدور معركة ويرتفع دخان نار وذخيرة فوق السهل تحت.
اللوحة لا تصوّر معركة بعينها، بل تشير إلى المهارة العسكرية للرجل الذي كان يقود جيوش الملك من نصر إلى نصر.
الزاوية اليسرى إلى أسفل تظهر فيها ورقة بيضاء مثبّتة في حجر. لم يكن من عادة فيلاسكيز أن يوقّع لوحاته أو يسجّل عليها تواريخ. ورغم ذلك ترك هذه الورقة البيضاء في الصورة ولم يكتب عليها شيئا.
شغل اوليفاريز منصب الوزير الأوّل في اسبانيا بدءا من عام 1623. وطوال أكثر من عشرين عاما كان هو الحاكم المطلق للبلاد.
وقد انتهز توسّع حرب الثلاثين عاما كفرصة، ليس فقط لاستئناف الأعمال العدائية ضدّ الهولنديين، ولكن أيضا من اجل محاولة استعادة السيطرة الاسبانية على أوربّا بالتعاون مع أسرة هابسبيرغ.
وفي مرحلة تالية حاول اوليفاريز أن يفرض على الدولة نمط إدارة مركزيّا. لكن تلك الخطوة تسبّبت في اندلاع ثورة ضدّه في كاتالونيا والبرتغال أدّت في النهاية إلى سقوطه.
وأخيرا، إن كان سبق لك أن رأيت لوحة الفرنسي جاك لوي دافيد التي يصوّر فيها نابليون على ظهر حصانه فلا بدّ وأن تلاحظ الشبه الكبير بين تلك اللوحة وبين لوحة فيلاسكيز هذه. وأغلب الظن أن دافيد رسم نابليون بتلك الكيفية وفي ذهنه هذه اللوحة التي يبدو انه كان معجبا بها كثيرا.

Credits
titian-tizianovecellio.org
petrarch.petersadlon.com
diego-velazquez.org

الاثنين، سبتمبر 22، 2014

لوحة لها تاريخ

لوحة رافائيل "مادونا دير سان سيستو"، أو "عذراء كنيسة سيستين" كما تُسمّى أحيانا، اعتُبرت دائما ذات مكانة خاصّة بين الأعمال التشكيلية العالمية. وعلى مرّ القرون، أضفي على اللوحة طابع من القداسة والتبجيل، وكُتب عنها الكثير من المقالات والدراسات والأشعار.
وهناك العديد من الأساطير التي تحيط بهذه اللوحة. يقال مثلا أن رافائيل رسمها بعد أن رأى تفاصيلها في حلم، وأن بعض مرضى فرويد مرّوا بحالة من النشوة الدينية بعد أن رأوها. وكان للوحة تأثيرها على كلّ من غوته وفاغنر ونيتشه. كما اعتبرها دستويفسكي "كشفا مهمّا عن الروح الإنسانية".
في عام 1768، وكان غوته وقتها ما يزال طالبا يدرس القانون ولم يصبح بعد فيلسوفا وشاعرا مشهورا، دخل لأوّل مرّة إلى متحف الفنّ الجديد في دريسدن حيث توجد اللوحة. وقد وصف ما رآه هناك بقوله: الصمت العميق كان مخيّما على المكان. كان الأمر أشبه ما يكون بذلك الإحساس العميق بالهدوء والطمأنينة الذي ينتابك عندما تدخل دارا للعبادة. وهذا الشعور يتعمّق أكثر فأكثر كلّما تأمّلت الصورة التي على الجدار".
بالنسبة لغوته، كانت رؤية هذه الصورة نوعا من التجربة الدينية. ولا بدّ وأنه تعامل معها بقدر من القدسيّة والتأمّل الصوفي. كان يتأمّل مثل هذه القطع الفنّية في سياق الطقوس الدينية الفعلية. وبالنسبة له، لم تكن المادونا مجرّد عمل فنّي، بل كانت وقبل كلّ شيء صورة تعبّدية لها غايات طقوسية معيّنة.
ولكن، كيف اكتسبت اللوحة كلّ هذه الأهميّة بعد النسيان التام الذي عانته في سنواتها المبكّرة عندما كانت لوحة متواضعة في دير بإيطاليا؟!
لنبدأ القصّة من أوّلها..
ولد رافائيل "واسمه الأصلي رافائيلو سانشيو" في اوربينو، وهي مدينة تقع وسط ايطاليا. وقد درس الرسم على يد بييترو بيروجينو الذي منح رافائيل لقب معلّم واعتبره رسّاما ناضجا وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة آنذاك.
بعد أن أصبح رافائيل مشهورا في جميع أرجاء ايطاليا، دعاه البابا جوليوس الثاني لزيارة روما وكلّفه برسم جدارية في مكتبته في قصر الفاتيكان.
كانت حظوظ رافائيل في روما أفضل من حظوظ ميكيل انجيلو الذي استغرق وقتا أطول قبل أن يعرفه الناس. ولهذا السبب، قيل إن ميكيل انجيلو كان يضمر شيئا من الحسد والكراهية لرافائيل، حتى قبل أن يقابله، بل لقد اتّهمه بالسرقة والتآمر ضدّه.

البعض يشبّه رافائيل بفيدياس النحّات الاثيني الذي أشرف على بناء معبد البارثينون، الرمز الباقي لليونان القديمة. الإغريق يرون أن فيدياس لم يبتكر شيئا من عنده، بل جمع ومزج كلّ ما ابتكره الذين أتوا قبله لينجز في النهاية مستوى عاليا من التناغم والإحكام. وهذا هو بالضبط ما حقّقه رافائيل في أعماله التي كانت تبدو جديدة ومبتكرة بالنسبة لمعاصريه.
في عام 1511، تلقّى رافائيل تكليفا من البابا جوليوس كي يرسم جدارية في دير سان سيستو في بياتشينسا، شرط أن تتضمّن شخصيّات مثل القدّيس سيستوس البابا السابع للكنيسة، والقدّيسة باربرا وهي امرأة عاشت في القرن الثالث للميلاد واستشهدت بسبب دفاعها عن معتقداتها، ويعرفها مسيحيّو الشرق باسم "باربارة" ولها عيد سنويّ باسمها.
وبالفعل بدأ الفنّان تنفيذ المهمّة، فرسم جدارية تظهر فيها المادونا وهي تمسك بطفلها بينما تقف على بساط من الغيم. ثم رسم على يمينها سيستوس وهو ينظر إليهما ويشير إلى الناظر، بينما تاجه المثلّث موضوع عند قدميه، في إشارة إلى تواضعه إذ يرفض رمزا من رموز السلطة.
من الأشياء اللافتة في هذه الصورة أن المادونا تبدو غير مبالية أو مكترثة بالناظر. ما من شكّ في أن ملامحها جميلة وأن الفنّان رسمها بطريقة ناعمة، غير أنها اقلّ الشخصيات في اللوحة إثارة للاهتمام.
ومن الأسئلة التي تثار دائما: لماذا المادونا وطفلها يبدوان في مزاج حزن وحداد؟ ربّما يكمن السبب في أن الطفل كان يرى موته وأن أمّه ستكون شاهدة على تلك النهاية الحزينة.
وإلى يمين اللوحة، تظهر القدّيسة باربرا ذات الملامح الجميلة والهادئة وهي تجثو على ركبتيها لتلقي نظرة على أروع شخصيات اللوحة، أي الملاكين الصغيرين عند قدميها.
الملاكان المجنّحان الصغيران يُعتبران لوحدهما قصّة مثيرة للاهتمام. وقد تحوّلا إلى أشهر ملاكين في تاريخ الرسم، وصارت لهما حياة خاصّة بمعزل عن اللوحة منذ أصبحا يُستنسخان لوحدهما على الورق والبورسيلين منذ نهاية القرن الثامن عشر. ويبدو أن الثقافة الحديثة جعلت الملاكين الصغيرين هما ما يربط الناس باللوحة. إذ يمكن العثور عليهما اليوم مطبوعين على الأدوات المكتبية والمنزلية وعلى ورق التغليف والسيراميك والصيني في العديد من الأماكن حول العالم.

لكن صورة الملاكين مطبوعة أيضا في عقول الكثيرين بنظراتهما الحالمة المتّجهة إلى السماء. ويقال أن رافائيل استلهمهما من صورة صبيّين رآهما في الشارع وهما يتسوّلان الطعام. لكن يقال أيضا أن الموديل التي قامت بدور القدّيسة كان لها طفلان وكانت تجلبهما معها إلى محترف الفنّان بينما كان يرسمها. النظرات الملولة على وجهيهما ربّما توحي بإحساسهما بالسأم وهما يريان أمّهما تجلس لساعات طويلة أمام الرسّام.
الأطفال الصغار بأجنحة يمكن رؤيتهم بوفرة في لوحات عصر النهضة وعصري الباروك والروكوكو. ووجود ملاك صغير في لوحة هو رمز للحبّ، سواءً كان حبّا إلهيا أو ذا طبيعة أرضية. وبطبيعة الحال، لا يمكن أن ترى ملاكا دميما، فهو دائما جميل جدّا لدرجة انك تريد أحيانا أن تحتضنه.
الأشخاص الثلاثة الرئيسيون في هذه اللوحة يظهرون في فراغ تخيّلي محاط بستارة ثقيلة تفتح على مشهد سماويّ. والثلاثة تجمعهم علاقة صورية متوازنة ومتناغمة، بينما يحتلّ كلّ منهم فضاءه الخاصّ. ونسب الوجوه الثلاثة محسوبة بعناية كي تنتج تأثيرا جماليّا، وهي سمة تعزّزها مهارة رافائيل في تمثيل درجات البشرة باستخدام تقنية "الكياروسكورو"، أو التباين القويّ بين الضوء والظلّ.
رداء القدّيس يتألّف من اللونين الذهبي والأبيض، أي لوني البابا والكنيسة. وفي الخلفية تظهر قلعة وراء الستارة، وهي إشارة إلى أن القدّيسة حُبست في قلعة بسبب إيمانها.
وهناك هالات حول رؤوس الشخصيات، لكنها لا تّرى إلا بالكاد بسبب بَهَتان وتقادم الألوان بعد مرور كلّ هذه السنوات الطوال. وهناك خلفية وراء الشخصيات رُسمت بنعومة ويظهر فيها ملائكة صغار وهم يمتزجون بالغيم.
أيضا تتبدّى براعة رافائيل في رسم الستائر المنسدلة. وألوان عصر النهضة توجّه اهتمام الناظر وتضيف دفئا وغنى إلى التوليف.
في عام 1754، أزيلت اللوحة من مكانها في دير سان سيستو وحُملت عبر جبال الألب لتستقرّ أخيرا في بلاط اوغستوس الثالث ملك بولندا ودوق ليثوانيا.
كان من المفروض ألا تُنقل اللوحة إلا عندما يحلّ فصل الربيع. لكن عندما تمّت صفقة البيع، لم تمنع ثلوج وأمطار جبال الألب وكلاء اوغستوس من المضيّ في مهمّة نقل اللوحة الثمينة.

كان اوغستوس مصرّا على أن يضيف هذه اللوحة إلى مجموعته الفنّية. وكان بحوزته لوحات عديدة لرسّامين كثر. لكن كانت تنقصه لوحة لرافائيل. ويقال انه دفع مقابلها مبلغا كبيرا بمقاييس تلك الأيّام.
وصلت اللوحة إلى عاصمة اوغستوس الثالث في ديسمبر من عام 1754. وفي العام التالي، عُلّقت في غرفة منفردة في متحف دريسدن الملكيّ.
لكن عند عرضها لأوّل مرّة، كانت لوحة لأنطونيو دا كوريجيو مثار اهتمام الناس في ألمانيا وقتها. لذا تمّ تخزين لوحة مادونا دي سان سيستو بعيدا عن الأنظار طوال المائتي عام التالية. وقبل ذلك لم يكن احد، غير رهبان الدير، قد رأى اللوحة بعد أن أتمّ رافائيل رسمها في العام 1512. حتى جورجيو فاساري مؤرّخ حياة الرسّامين الايطاليين لم يكتب عنها في كتابه سوى سطر واحد يصفها فيه بأنها "عمل نادر وغير عاديّ".
ومع بداية القرن التاسع عشر، كانت اللوحة قد أصبحت مشهورة، بل وغدت أشهر المادونات جميعا وأشهر لوحة لرافائيل في أوربّا. وبين وقت وآخر، كانت تثير نقاشا لا ينتهي حول علاقة الفنّ بالدين.
وقد نجت اللوحة من القصف الذي تعرّضت له مدينة دريسدن أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كانت مخزّنة مع أعمال فنّية أخرى في نفق بسويسرا إلى أن عثر عليها الجيش الأحمر.
وفي عام 1946، أي بعد انتهاء الحرب، نُقلت المادونا إلى متحف بوشكين للفنون في موسكو. وفي عام 1955، أي بعد موت ستالين، قرّر الروس إعادتها إلى ألمانيا كبادرة حسن نيّة وبهدف تحسين العلاقات بين البلدين.
"لا مادونا دي سان سيستو" يمكن اعتبارها قطعة من التاريخ وتحفة فنّية من ذروة عصر النهضة الايطالي. وهي اليوم إحدى أكثر اللوحات المألوفة للعين، بالنظر إلى أنها استُنسخت عددا لا يُحصى من المرّات وكان لها تأثير على أجيال متعاقبة من مؤرّخي الفنّ وعلى الناس العاديين. وقد احتفل متحف دريسدن الألماني قبل عامين بذكرى مرور 500 عام على رسم اللوحة.

Credits
visual-arts-cork.com
historyofpaintings.com

الاثنين، أغسطس 18، 2014

ديغا والحياة الحديثة

ما أن يُذكر اسم إدغار ديغا حتى تخطر في الذهن تابلوهاته الفخمة التي تصوّر فتيات صغيرات يتحرّكن كالفراشات وهنّ يتعلّمن فنّ رقص الباليه.
كان ديغا محبّا لمظاهر الحياة الحديثة. وقد رسم النساء كثيرا في لوحاته، وخاصّة نساء الطبقة العاملة وهنّ يمارسن الأعمال المنزلية اليومية من غسيل وتنظيف وكوي وخلافه. وهؤلاء النساء لم يكنّ من طبقته هو. كان هو محسوبا على الطبقة البورجوازية الباريسية آنذاك.
ورسوماته عن الطبقات الاجتماعية والمهن والسلوكيات المرتبطة بها تُعتبر من بين أفضل الأعمال التشكيلية التي تؤرّخ لتلك الفترة، أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
على المستوى الشخصي، كان ديغا شخصا عصبيّا بطبيعته. وكان نظره قصيرا جدّا لدرجة أنه كان يخاف من فقدان البصر. لكن، وربّما لهذا السبب بالذات، كان مخلوقا متقبّلا للآخرين وذا حساسية عالية، بحسب ما كتبه عنه الكاتب والناقد الفنّي الفرنسي إدمون دو غونكور.
كان ديغا يعرف طبيعته الصعبة. وقد اعترف ذات مرّة لزميله الرسّام بيير أوغست رينوار بقوله: لديّ عدوّ واحد رهيب لا يمكنني التوافق معه. هذا العدوّ، بطبيعة الحال، هو نفسي".
وقد عَرف ديغا من خلال أولئك الذين ارتبطوا به كيف يضبط مشاعره الانفعالية. "على العشاء، سيكون هناك طبق مطبوخ لي من دون زبدة. لا زهور على الطاولة، ومع القليل جدّا من الضوء. عليك أن تُخرس القط، وليس لأحد أن يجلب معه كلبا. وإذا كان هناك نساء بين الحاضرين، فاطلب منهنّ أن لا يضعن على أنفسهنّ روائح. لا لزوم للعطور عندما تكون هناك أشياء لها رائحة طيّبة كالخبز المحمّص مثلا. ويجب أن نجلس إلى المائدة في تمام الساعة السابعة والنصف".
صرامة ديغا وانضباطيّته العالية دفعت كلّ أصدقائه تقريبا لأن يهجروه، بحسب رينوار. "كنت واحدا من آخر الذين كانوا يزورونه، ومع ذلك حتى أنا لم أستطع البقاء حتى النهاية".
كان البعض يعتبر ديغا شخصا كارها للنساء، رغم أن قائمة أصدقائه كانت تضمّ الرسّامتين ميري كاسات وبيرتا موريسو، بالإضافة إلى كبار مغنيّات الأوبرا وراقصات الباليه في زمانه. وعندما اتّهم بأنه شخص منعزل نفى ذلك. "لست كارها للبشر، بل أنا ابعد ما أكون عن هذه الصفة، ولكن من المحزن أن تعيش محاطا بالأوغاد".
وعلى الرغم من شخصيّته غير المهادنة، إلا أن ديغا كان يحظى بالاحترام من أقرانه الذين كانوا يخشونه. وكانت شعبيّته عالية لدى نقّاد الفنّ ومشتري الأعمال الفنّية. "كنت، أو هذا ما بدا لي، صارما مع الجميع وذلك بسبب ميلي لنوع من الخشونة التي تداخلت مع شكوكي ومزاجي السيّئ".
ولد إدغار ديغا في باريس خلال نفس العقد الذي ولد فيه إدوار مانيه وبول سيزان وكلود مونيه. وكانت لديه العديد من الفرص. كانت سنواته الأولى متميّزة على الرغم من الحزن الذي شابها ورافقه طوال حياته. "كنت عابسا مع العالم كلّه ومع نفسي". وتحت ضغط والده وافق على دراسة القانون. ولكن سرعان ما تخلّى عن ذلك وقرّر أن يدرس الفنّ بحماس أقنع والده بدعمه.
كانت أعمال ديغا المبكّرة عبارة عن لوحات تاريخية رسمها بالأسلوب الكلاسيكي. وفي بدايات تدريبه استوعب أساليب أوغست دومينيك آنغر وأوجين ديلاكروا وغوستاف كوربيه. وكان يطمح لأن يرسم مثل ميكيل أنجيلو ورافائيل.
ولكن بدءا من 1861، تخلّى عن رسم المواضيع التاريخية وبدأ يرسم مشاهد من الحياة اليومية. وبينما كان يستنسخ أعمال فيلاسكيز في متحف اللوفر، التقى مانيه الذي أصبح صديقه والذي أدخله إلى دائرة الرسّامين الانطباعيين. وعلى الرغم من أن ديغا عرض معهم بعض أعماله، إلا انه لم يقدّم نفسه كفرد من أفراد الحركة. "ما أفعله هو نتيجة دراسة أعمال الرسّامين العظام، وأنا لا اعرف شيئا عن الإلهام والعفوية والمزاج".
وعلى عكس أصدقائه الانطباعيين، كان إدغار ديغا رسّام مناظر حضرية وكان يحبّ رسم الأماكن المغلقة مثل العروض المسرحية والأنشطة الترفيهية وأماكن المتعة. ولم يكن مهتمّا بآثار الضوء في المناظر الطبيعية، بل كان يفضّل رسم الأشخاص ويمقت الرسم في الهواء الطلق. "يجب على رجال الدرك أن يطلقوا النار على حوامل اللوحات التي يراها الناس مبعثرة في أنحاء الريف".
كان ديغا يسعى دائما إلى الكمال. كان يعيد رسم كلّ صورة ويدرس ويكرّر التفاصيل حتى يتقنها ويحفظها. وقد جرّب العديد من الوسائط، من بينها الباستيل الذي كان يخفّفه على البخار إلى أن يصبح عجينة. وكان يكره تألّق ولمعان الألوان الزيتية. ولهذا السبب كان يزيل الزيت ويستخدم بديلا عنه التربنتين المستخرج من أشجار الصنوبر. وغالبا ما كان يرسم على الورق بدلا من القماش.
للحديث تتمّة غدا..

الاثنين، مارس 24، 2014

لقاء بين امرأة وطائر 2 من 2

عالَم ليدا تسكنه الأساطير والآلهة التي تهبط إلى الأرض. لكن العالم الذي تلد فيه أطفالها "أو على الأصح تبيضهم كما تذكر القصّة!" محكوم بالسياسة والسلطة، وليس بالآلهة. وحرب طروادة هي التي مهّدت الطريق لصعود الإمبراطورية الرومانية، وبعد ذلك بزمن طويل، لصعود أوروبّا الحديثة.
والسطران العاشر والحادي عشر من قصيدة ييتس يتضمّنان أهمّ إشارة مباشرة فيها إلى التاريخ اليونانيّ. وهما يصفان إحراق طروادة وما تلاه من قتل لأغاممنون القائد اليونانيّ الأقوى في تلك الحرب. أي أن القصيدة تزعم أن ولادة هيلين أميرة طروادة أدّت إلى كلّ تلك الأحداث المأساوية.
وضمن نفس هذا السياق الأسطوريّ التاريخيّ، فإن فعل الاغتصاب ستكون له نتائج مدمّرة وبعيدة المدى. وهذان الحدثان، أي موت اغاممنون وتدمير طروادة، تحقّقا بسبب الاغتصاب. وفي نفس هذا السياق فإن أطفال ليدا الأربعة من البجعة مسئولون عن الموت والدمار الذي حدث بعد ذلك. أي أن ييتس يساوي هنا بين الفعل المدمّر لاغتصاب الجسد وبين تدمير طروادة.
وإذا قرأت هذه القصيدة بتمعّن فستستنتج أيضا أن أجساد النساء الثلاث، أي ليدا وهيلين وكلايتمنيسترا، كانت هي السبب الأساس في إشاعة الموت والصراع والجريمة انطلاقا من تصرّفاتهن واختياراتهن.
كان وليام ييتس ميّالا لالتقاط لحظات مهمّة من التاريخ. وكانت لديه نظرية كاملة ومعقّدة لتفسير الأحداث. كان، مثلا، يعتقد أن التاريخ يشبه دوّامة أو إعصارا وأنه يتحرّك وفق دورات مختلفة ومتعاقبة. وبناءً على هذه النظرية، فإن قصّة ليدا والبجعة تجري في نقطة تحوّل نموذجية بين اثنتين من هذه الدورات أو اللحظات المحورية في التاريخ: بين العالم القديم الذي سبق حرب طروادة، والعالم الحديث الذي جاء بعدها.
والواقع أن العديد من قصائد ييتس المشهورة الأخرى، مثل "المجيء الثاني" و"عيد الفصح 1916"، تصف هي أيضا نقاط التحوّل هذه في التاريخ.
غير أن ييتس يذكّرنا أيضا، من خلال القصيدة، بأن كلّ شيء، وبطريقة ما، مرتبط بسلسلة كونية من الأسباب والنتائج، وأن أيّ شيء يحدث لا يمكن فصله عن شبكة متكاملة ومترابطة وذات مغزى من الأحداث والوقائع المتّصلة.
لكن ما الذي يمكن أن يكون قد دفع ييتس لتأليف هذه القصيدة؟ ثمّة من يرى بأن الشاعر إنّما كان يعكس في قصيدته تصرّفات بعض النساء اللاتي كان يعرفهنّ في ذلك الوقت. وهناك احتمال انه كان يناقش في القصيدة نتائج تصرّفاته هو.
وهناك رأي آخر يقول إن ييتس كتب القصيدة استجابة للظروف السياسية السائدة آنذاك. وربّما أرادها أن تكون رمزا لسقوط وفساد بلده ايرلندا بموازاة سقوط طروادة. ويمكن أن تكون القصيدة انعكاسا لإحباط ييتس من انهيار ايرلندا التي كان يرى أن ثقافتها تعرّضت لاغتصاب مجازيّ من قبل الانجليز.
نُشرت قصيدة "ليدا والبجعة" لأوّل مرّة عام 1928 ضمن ديوان البرج، الذي يعتبره النقّاد احد أشهر وأهمّ الأعمال الأدبية في القرن العشرين. وقد ظهر الديوان بعد خمس سنوات من نيل ييتس جائزة نوبل للأدب عام 1923. ويبدو أن الشاعر ادّخر أفضل أعماله لنهايات حياته، بدليل أن هذا الديوان يتضمّن قصائد أخرى مشهورة مثل إبحار إلى القسطنطينية و"وسط أطفال المدارس".

كان ييتس في الستّينات من عمره عندما كتب هذه القصيدة. وكان أيضا وقتها عضوا في مجلس الشيوخ الايرلندي. وإذا كنت من هواة سماع الآراء الحدّية والمطلقة، فقد يهمّك أن تعرف أن ناقدا كبيرا واحدا على الأقلّ وصف القصيدة بأنها أعظم قصيدة في القرن العشرين.
لكن لماذا نهتمّ بييتس وهو يعيد رواية هذه القصّة الغريبة والشاطحة؟ بداية يمكن القول أن من الجرأة أن يحاول احد إعادة تمثيل شيء عنيف ومشين مثل الاغتصاب من خلال عدسات الفنّ.
غير أن الأسئلة الأهمّ التي تدعونا هذه القصّة لنتأمّلها هي: ما الذي يمكن للأدب والفنّ أن يتحدّثا عنه؟ وهل هناك مواضيع يجب أن يتجنّب الفنّ تناولها تماما؟ وهل كان يتعيّن على ييتس أن يخفّف من لغته لكي نفهم أن ما تصفه القصيدة هو أمر بغيض وغير أخلاقيّ بالمرّة؟ وهل كون هذه الأسطورة قديمة يجعل اغتصاب ليدا أمرا أكثر قبولا لدى المتلقّي المعاصر؟ هذه هي بعض الأسئلة الكبيرة الجديرة بالتأمّل.
من الواضح أن ييتس كان على علم بالتصويرات الفنّية العديدة للقصّة من قبل فنّانين مثل ميكيل انجيلو وليوناردو دافنشي. وقد صوّر هذان البجعة بطريقة تحاكي الواقع تقريبا، في حين أنها غالبا ما كانت تُصوّر على درجة من الضخامة كي تتفوّق على ليدا.
قصّة ليدا والبجعة كانت تحظى بشعبية كبيرة للغاية في فنّي عصري النهضة والباروك. وفي القرن السادس عشر على وجه الخصوص، كانت شعبيّة الموضوع تعود إلى حقيقة انه كان من المقبول وقتذاك أن تُرسم امرأة في فعل جنسيّ مع بجعة أكثر من أن تُرسم مع رجل.
وبعض المعالجات الفنّية التي تناولت الأسطورة قلّلت من كمّية العنف فيها. بل إن بعضها تشير ضمناً إلى أن ليدا تعرّضت لإغواء زيوس ولم يغتصبها.
في لوحة الرسّام الفرنسي فرانسوا بوشير عن القصّة، تظهر البجعة وكأنها طائر أليف أكثر من كونها إلها يهمّ باغتصاب امرأة. ورغم أن القصّة الأصلية لا تتضمّن أيّة إشارة إلى امرأة ثانية، إلا أن الرسّام أضاف إلى المشهد امرأة أخرى تنافس ليدا في جمالها، مع هرم من اللحم المكشوف والثياب المرفّهة والنفيسة.
قصيدة الشاعر ييتس يمكن اعتبارها، من ناحية أخرى، نموذجا لما يُعرف بـ "تأثير الفراشة"، أي كيف أن تصرّفا واحدا يمكن أن يولّد سلسلة من الآثار والنتائج التي يمكن أن تظهر على مدى عقود أو قرون من الزمن. في هذه الحالة، يحوّل زيوس نفسه إلى بجعة، ويُحبِل ليدا بالقوّة، ثم تولد هيلين التي خيضت حرب طروادة من اجلها أو بسببها.
لكن رُبّ ضارّة نافعة كما يقال. فمِن غير هيلين ما كانت لتقع حرب طروادة، وبالتالي لم تكن لتوجد إلياذة. وعدم وجود إلياذة يعني خسارة أهمّ وأشهر عمل أدبيّ من العصور الكلاسيكية.

Credits
aterriblebeautyisborn.com
sparknotes.com
theoi.com

الاثنين، ديسمبر 30، 2013

علاقة الأشكال الفنّية بالحواسّ

منذ القدم، كان يُنظر إلى حاسّة البصر على أنها النموذج في اكتساب المعرفة ومن ثمّ استيعابها من قبل العقل. أرسطو ركّز على هذا وقارن عملية التذكّر بالنظر إلى لوحة مرارا. وسان اوغستين قال إنه لا غنى عن البصر في التأمّل الروحي والفكري.
ومع ذلك فالأساطير القديمة حافلة بأمثلة وصور عن القلق المتولّد من حاسّة البصر، مثل قصص نرسيس وميدوسا وأورفيوس. وفي أساطير أخرى، ترتبط حاسّة اللمس غالبا بالقوى الايجابية والواهبة للحياة، كما في أسطورة بيغماليون وبروميثيوس.
أما أرسطو فقد حذّر من القوى الخطيرة المرتبطة بالوهم عند استخدام البصر. بينما أثنى، هو وتوما الاكويني، كثيرا على اللمس وقالا إن هذه الحاسّة هي أساس المعرفة التي يحصل عليها الإنسان من جميع الحواسّ.
وهناك اليوم دراسات عديدة عن دور ووظيفة اللمس في أعمال فنّانين مثل سيزان وكاندنسكي والسورياليين.
علماء الانثروبولوجيا وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا بدءوا في تثمين حواسّ غير البصر في دراساتهم وتجاربهم. وبعض هؤلاء اقترحوا حاسّة الشمّ كبديل ممكن لما يرون انه مضامين أبوية لظاهرة التركيز على البصر في الثقافة المعاصرة.
فولتير وديدرو ولوك قالوا إن اللمس حاسّة أساسية في اكتساب المعرفة التجريبية عن العالم وأن البصر ما هو إلا وسيلة ثانوية في تأكيد تلك المعرفة.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر ظهرت لوحات تصوّر انهماك أشخاص في لمس منحوتات، كما في لوحة الرسّام الاسباني جوسيبي دي ريبيرا (1591-1652) بعنوان "حاسّة اللمس" التي تصوّر رجلا أعمى يتفحّص بيديه تمثالا نصفيا بينما تستقرّ لوحة زيتية صغيرة بإهمال على طاولة بجانبه.
وهناك لوحة أخرى لنفس هذا الرسّام بعنوان "النحّات الأعمى" تحمل نفس الفكرة، ويظهر فيها رجل أعمى وهو يتحسّس بيديه تمثالا نصفيّا.
فكرة اللقاء بين رجل أعمى وعمل نحتي ظهرت أيضا في بعض الكتابات. في بداية القرن السابع عشر، مثلا، زعم كاتب ايطاليّ أن ميكيل انجيلو بعد أن تقدّمت به السنّ وضعف بصره كان يعتمد على اللمس وحده في الحكم على مزايا الأعمال النحتية القديمة أو المعاصرة. كما يقال أن الرسّام الفرنسي إدغار ديغا لجأ إلى النمذجة النحتية وأصبح يهتمّ بها أكثر من الرسم عندما بدأ بصره يضعف.
لوحتا دي ريبيرا المشار إليهما آنفا كانتا ضمن سلسلة من اللوحات المشهورة التي خصّصها الفنّان لتناول الحواسّ الخمس. السلسلة تدفع المتلقّي للتفكير في دور الحواسّ وتأثيرها على الأفراد. وقد رسم اللوحات عندما كان يعيش في روما في وقت ما من القرن السابع عشر.
في لوحة "حاسّة اللمس"، استدعى الرسّام مقارنة بين الصفات الوصفية واللمسية للرسم والنحت، أي بين الفرشاة والإزميل. وهو يبرهن على أنه من خلال حاسّة اللمس يمكن للرجل الأعمى أن يتعرّف على الأعمال النحتية.
هذه اللوحة، من بين جميع لوحات السلسلة، مشهورة بشكل خاص بسبب سخريتها المزعجة. فالرجل الكفيف يقف وجها لوجه مع تمثال نصفي. وهو يريد أن يحسّ بالتمثال الرخامي ذي الأبعاد الثلاثة على الرغم من قربه منه، في حين أن اللوحة ذات السطح المستوي والموضوعة خلفه على الطاولة تذكّر الناظر أن هناك بعض المعلومات التي لا يمكن إيصالها حتى عن طريق اللمس.
تذكّرنا هذه اللوحة مرّة أخرى بمحدودية الاتصال البشري وبالفجوة بين العالم الحقيقي وعالم الصور. الرأس المنحوتة قد تكون رأس ابوللو. أما الشخص الذي يتفحّصها فربّما يكون النحّات الايطالي الأعمى جيوفاني غونيللي، وقد يكون الفيلسوف الإغريقي كارنيديس الذي قيل انه كان يتعرّف على التماثيل النصفية من خلال تحسّسها ولمسها بيده وذلك بعد أن فقد حاسّة البصر. وقد كان من عادة الفنّانين آنذاك أن يربطوا صور الفلاسفة القدماء باستعارات عن الحوّاس.
ترى هل أراد الرسّام أن يقول إن الإنسان الكفيف يمكن أن يتعرّف على النحت، بينما لا يمكن أن يتعرّف على الرسم سوى الإنسان المبصر؟ في ذلك الوقت كان يثور نقاش حول المنافسة بين الأشكال الفنّية من معمار ورسم ونحت وأدب وموسيقى. وبالتالي يبدو أن دي ريبيرا أراد من خلال اللوحة التأكيد على تفوّق الرسم على النحت.
كان هذا الفنّان يرفض الرمز والاستعارة في أعماله ويتعامل مع ما يراه ويلمسه بنفسه. ويبدو أنه لم يخترع من مخيّلته أشخاصا يمثّلون كلّ حاسّة، بل فضّل أن يختارهم من الشارع ورسمهم من واقع الحياة.

الفيلسوف الألماني يوهان هيردر (1744-1803) تحدّث مرّة عن فضائل النحت وخلع عليه هالة من الرومانسية عندما ميّز ما بين الرؤية واللمس. وقد روى هيردر عدّة قصص عن أشخاص مكفوفين ليبرهن على أننا نرى العمل النحتيّ كسطح ثلاثيّ الأبعاد لأننا كبرنا ونحن نستخدم حاسّتي اللمس والبصر في وقت واحد ومتزامن. ويضيف انه لولا حاسّة اللمس لكانت حاسّة البصر مجرّد حقل من الألوان والأشكال.
وهو يرى بأن جوهر النحت شكل جميل ووجود فعليّ وحقيقة ملموسة. وعندما نفهم النحت على انه رؤية فقط، فإن هذا يُُعدّ تدنيسا للنحت واستهانة خطيرة بإمكانياته.
وعلاوة على ذلك، دعا هيردر إلى الفصل ما بين الرسم والموسيقى، في ما بدا وكأنه اعتراض على أعمال فنّانين مثل كاندينسكي وموندريان اللذين قدّما لوحات "موسيقية"، وعلى أعمال بعض الملحّنين الرومانسيين الذين سعوا لرسم صور من خلال موسيقاهم.
وهيردر يميّز ما بين الرسم والنحت. انه يربط الرسم بالرؤية وبعالم الأحلام، بينما يدّعي أن النحت هو مصدر الحقيقة. طبعا هو يقصد النحت الكلاسيكي الذي كان يعرفه في عصره. وبالتالي قد يتساءل المرء عمّا يمكن أن يقوله هيردر لو انه عاش إلى اليوم ورأى النحت التكعيبي الذي ابتعد كثيرا عن التمثيل الدقيق للأشكال في لحظة واحدة وأصبح ينظر إلى الأشياء ذات الحقائق المتعدّدة والمتحرّكة عبر الزمن، وكيف سيتعامل مع التقليلية مثلا ومع غيرها من الظواهر التي تؤكّد استحالة التنبّؤ باتجاهات ونزعات الفنّ.
المعروف أن الرسّام جوسيبي دي ريبيرا كان تلميذا وتابعا لكارافاجيو. وقد قضى معظم حياته في روما وفي نابولي التي كانت في ذلك الوقت أعظم مدن ايطاليا ومركزا مهمّا للفنّ. وكان زملاؤه من الرسّامين الايطاليين يلقّبونه بالاسبانيّ الصغير.
كانت مملكة نابولي وقتها جزءا من الإمبراطورية الإسبانية. وكانت تُحكم من قبل سلسلة من نوّاب الملك الإسباني. أصول دي ريبيرا الاسبانية أعطته الحقّ بأن يصبح مرتبطا بالطبقة الاسبانية الحاكمة في المدينة وبمجتمع التجّار الهولنديين فيها.
كان الفنّان يرسم مثل معاصره وأستاذه كارافاجيو، وتحوّل بعيدا عن التقاليد والنماذج العتيقة والموضوعات المستوحاة من المثل الكلاسيكية العليا. ورسم بدلا من ذلك الحياة البشرية كما تبدو فعلا. وهي في كثير من الأحيان قبيحة وبشعة. وقد صوّر الفنّان كلّ هذا بواقعية كانت تصدم الجمهور وتروق له في الوقت نفسه.
صور دي ريبيرا المروّعة عن التعذيب والمعاناة التي كانت تمارَس في زمانه كانت تحيّر الجمهور والنقّاد معا. وهو كان موهوبا في إظهار الرؤوس والوجوه والأيدي بطريقة اللمس. بنية الجلد والعظام في رسوماته واقعية بحيث أن العديد من مشاهده يمكن أن تؤذي مشاعر الأفراد ذوي الحساسية الشديدة.
ومن الواضح أن دي ريبيرا لم يكن يقصد الإساءة لأحد. ولكن الوحشية لم تكن تصدّه عن تصوير مظاهرها وهو دائما ما كان يتبع مصادر إلهامه. وكان الجمهور قد أصبح معتادا على تصوير حزن الإنسان وبؤسه بتلك الطريقة.
ولـ دي ريبيرا صورة أخرى مشهورة اسمها الشحّاذ العجوز الأعمى يظهر فيها رجل أعمى مسنّ مع مرشده الشابّ. وهذه اللوحة لها علاقة بفكرة التشرّد التي كانت رائجة في الأدب الإسباني آنذاك. لكن الرسّام أراد منها أساسا أن تكون موعظة عن الخيرية المسيحية.
وقد استلهم موضوع اللوحة من رواية بعنوان حياة لازاريللو دي تورميس نُشرت لأوّل مرّة عام 1554 من قبل كاتب مجهول. بطلا الرواية هما رجل أعمى متسوّل وقاسي الطبع وصبيّ مراوغ يضطرّ باستمرار لأن يخدع سيّده كي يحصل على حصّة أكبر من الطعام والصدقات.
وعلى الرغم من أن دي ريبيرا لم يعد أبدا إلى إسبانيا، إلا أن العديد من لوحاته أعيدت إلى هناك من قبل أعضاء الطبقة الحاكمة الإسبانية وعن طريق بعض التجّار. ويمكن رؤية تأثيره في فيلاسكيز وموريللو، بل وفي معظم الرسّامين الإسبان الآخرين من تلك الفترة.
بعد وفاته، دخلت أعمال دي ريبيرا حيّز التجاهل والنسيان، ربّما بسبب سمعته التي كان يخالطها عنف وقسوة. فقد رسم أهوال الواقع ومظاهر توحّش البشر وأظهر انه يقدّر الحقيقة أكثر من المثالية.
لكن بدأت إعادة تأهيل اسمه وفنّه من خلال معرضين أقيما لأعماله في لندن عام 1982 وفي نيويورك عام 1992. ومنذ ذلك الحين اكتسبت لوحاته المزيد من اهتمام النقّاد والدارسين.

Credits
archive.org
artble.com

الخميس، يونيو 20، 2013

أنف ميكيل أنجيلو

في عام 1490، كان لورينزو دي ميديتشي واحدا من أغنى وأقوى الرجال في فلورنسا. كان راعيا ومشجّعا للفنون ومشرفا على أكاديمية الفنون التي كان ميكيل أنجيلو احد تلاميذها.
وفي احد الأيّام، وبينما كان يمشي في حديقة متحفه المسمّى سان ماركو، رأى لورينزو الشابّ ميكيل أنجيلو وهو يصنع نسخة من رخام لمنحوتة قديمة. وقد أعجب لورينزو كثيرا بعمل وتفاني الصبيّ لدرجة انه قرّر أخذه معه إلى قصره.
وهناك خصّص لورينزو له غرفة، وأمر له بمكافأة وبأن تُلبّى جميع احتياجاته الضروريّة. كما أبدى اهتمامه بأن يتابع دراسته في النحت على نفقته.
كان ميكيل أنجيلو معروفا بمزاجه الحادّ. وكان من عادته أن ينتقد الآخرين بطريقة هجومية وخاطئة. وفي ذلك الوقت، كان يُنظر إليه باعتباره النجم الجديد الساطع في سماء الفنّ، وكان هو يدرك ذلك جيّدا. زميله بييترو توريجيانو كان أيضا شخصا ذا مزاج عنيف، مع ميلٍ لاختلاق المعارك والشجارات مع زملائه.
وفي احد الأيّام، وبينما كان الطلاب ينسخون لوحات جدارية في إحدى الكنائس، كان ميكيل أنجيلو منهمكا في انتقاد أعمال زملائه من الطلبة الآخرين. ويبدو أن توريجيانو لم يتحمّل قيام ميكيل أنجيلو بدور الأستاذ والناقد، فوجّه إلى أنف الأخير لكمة بلغ من قوّتها أنها حطّمت أنفه وشوّهت وجهه بشكل دائم.
كان توريجيانو طالبا كبيرا في السنّ، وقد تسبّبت ضربته القويّة تلك في تغييب ميكيل أنجيلو عن الوعي لفترة. وعندما حمله زملاؤه إلى مقرّ إقامته لم يُبدِ الصبيّ أيّ استجابة، لدرجة أنهم خافوا من احتمال أن يكون قد أصيب بجروح قاتلة.
غضِب لورينزو على توريجيانو عندما علم بأمر اعتدائه على ميكيل أنجيلو. وقد غادر الأخير فلورنسا خوفا من العواقب وتجنّبا لانتقام لورينزو.
في ما بعد، قال توريجيانو لصديق واصفا ما حدث: كان ميكيل أنجيلو مواظبا على إزعاجي. وفي ذلك اليوم كنت أغلي غضبا من تصرّفاته وأفكّر في الانتقام. وقد استجمعت قواي وشددت على قبضتي ثمّ وجّهت له ضربة خاطفة على أنفه. في تلك اللحظة شعرت بأن العظم والغضروف ينهاران تحت قبضة يدي كما لو أنهما مصنوعان من رقاقة هشّة. تلك الوصمة التي ألحقتها به ستعيش معه وتصاحبه حتى يوم موته".
استعاد ميكيل أنجيلو وعيه وعاد بعد فترة لمواصلة دراسته. لكن صورة وجهه المشوّه ظلّت تؤرّقه بقيّة حياته. وكان منزعجا بشكل خاصّ من ليوناردو دا فينشي، الذي كان أصغر منه سنّا. كان الشابّ ليوناردو يتمتّع بموهبة تشبه تلك التي لـ ميكيل أنجيلو. غير أن شكل وجه ليوناردو شبه المثاليّ أسهم في زيادة وعي ميكيل أنجيلو، وبطريقة مؤلمة، بحقيقة ما حدث لوجهه المحطّم.
بعد مرور سنوات طويلة على الحادثة، كُلّف ميكيل أنجيلو برسم سقف كنيسة سيستين. وقد أنجز تلك المهمّة وهو مستلقٍ على ظهره ويتنفّس من خلال فمه. كان منظر أنفه مرعبا. كانت "مهروسة لدرجة أن جبينه أصبح متدليّا فوق فمه"، على حدّ وصف احد المؤرّخين من تلك الفترة. ومن الواضح أن اللكمة لم تكسر أنفه فحسب، وإنّما سحقتها.
استمرّ ميكيل أنجيلو في إثبات تفوّقه في روما وفلورنسا إلى أن حقّق العظمة التي كان يستحقّها. أما توريجيانو فقد تابع مسيرته المهنيّة كنحّات، وكان معروفا طوال حياته بأنه الرجل الذي شوّه وجه الفنّان الكبير والمبجّل. وقد ذهب في ما بعد إلى انجلترا، وهناك حظي برعاية شخص كان مفتونا، هو الآخر، بالخصومة والقتال. ولم يكن راعيه الجديد سوى الملك الطاغية هنري الثامن.
عندما تقدّمت به السنّ، عاش ميكيل أنجيلو منعزلا كما يعيش النُسّاك، ما عدا تلك الأوقات التي كان يتحتّم عليه فيها، بحكم طبيعة عمله كرسّام ونحّات، أن يتواصل مع الآخرين. وقد رسم لنفسه عددا من البورتريهات في فترات متفرّقة، كما نحت صورته كشخصيّة صغيرة على بعض الأعمال التي كُلّف بها.
في انجلترا، ما لبثت حياة توريجيانو أن تغيّرت إلى الأسوأ. وفي عام 1522، ذهب ليعمل في إسبانيا. وفي اشبيلية، عكف على صنع منحوتة تمثّل العذراء وطفلها. غير أن الراعي الذي كلّفه بنحت تلك القطعة رفض أن يدفع له المبلغ المتّفق عليه. لذا وقع الفنّان فريسة للغضب مرّة أخرى وانقضّ على التمثال الرخاميّ وحطّمه. لكن لأنه أتلف صورة مقدّسة، فقد استدعته محاكم التفتيش للمثول أمامها، ثم لم تلبث أن حكمت عليه بالإعدام بعد اتهامه بالزندقة. وقد توفّي في ما بعد في السجن بعد أسابيع من قراره بالإضراب عن الطعام احتجاجا على الحكم.
عندما توفّي ميكيل أنجيلو عام 1564 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين، كان قد ترك إرثا يتضمّن بعض أعظم التحف الفنّية في العالم، بالإضافة إلى صورته التي استقرّت في أذهان الناس عنه باعتباره النحّات الخالد صاحب الأنف المكسورة.

الخميس، مايو 09، 2013

المكتبة في الليل

البيرتو مانغويل مفكّر وكاتب ومترجم أرجنتيني ومؤلّف عدد من الكتب، أشهرها تاريخ القراءة وقاموس الأماكن المتخيّلة ومدينة الكلمات .
"المكتبة في الليل" هو آخر كتب مانغويل، وهو عبارة عن رحلة مشوّقة في العديد من الأماكن والأزمنة لاستكشاف تاريخ المكتبات ومجموعات الكتب الخاصّة والأشخاص الذين كانوا وراءها والكتب التي تضمّها.
مانغويل نفسه خبير لامع في كلّ ما له علاقة بالقراءة والمكتبات. وهو يمتلك مكتبة واسعة ومتنوّعة أسّسها في طرف مزرعة في منطقة اللوار الفرنسية يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر.
عنوان الكتاب استمدّه المؤلّف من كونه يفضّل الجلوس في المكتبة ليلا بعد أن يكون الظلام قد خيّم على الكون في الخارج. يقول موضّحا هذه النقطة: في الليل يتغيّر الجوّ وتصبح الأصوات مكتومة والأفكار يصير صوتها أعلى. الوقت يبدو أقرب إلى تلك اللحظة في منتصف الطريق بين اليقظة والنوم. بِرَك الضوء التي تتسرّب من المصابيح تشعرني بالدفء. وفي رائحة الرفوف الخشبية وعطر المسك المنبعث من الأغلفة الجلدية ما يكفي لتهدئة الأعصاب وإعداد الإنسان نفسه للنوم".
في المقدّمة يشرح مانغويل علاقته الوثيقة بعالم الكتب والمكتبات. يقول: في شبابي الأحمق، عندما كان أصدقائي يحلمون بالأعمال البطولية في عالم الهندسة والقانون والماليّة والسياسة الوطنية، كنت أحلم بأن أصبح أمين مكتبة". ويضيف: بعد أن بلغت السادسة والخمسين، وهي السنّ التي تبدأ فيها الحياة الحقيقيّة بحسب دستويفكسي، عادت إليّ تلك الفكرة المثالية، أي أن أصبح أمين مكتبة. لقد عشت طوال عمري بين أرفف الكتب التي ظلّت تتزايد باستمرار إلى أن أصبحت اليوم تهدّد بطمس حدود البيت نفسه. وعنوان هذا الكتاب كان ينبغي أن يكون "رحلة ليليّة حول غرفتي". لكن ممّا يؤسف له أن غزافييه دو مِستر سبقني إلى هذا العنوان قبل أكثر من قرنين من الزمان عندما اختاره لأحد كتبه".
يتضمّن كتاب المكتبة في الليل خمسة عشر فصلا يتحدّث المؤلّف في كلّ منها عن تمظهر أو وظيفة ما للمكتبة. مثلا، هناك فصل بعنوان "المكتبة كأسطورة"، وآخر بعنوان "المكتبة كظِلّ" وثالث بعنوان "المكتبة كعقل"، ورابع بعنوان "المكتبة كنظام"، وخامس بعنوان "المكتبة كشكل"، وسادس بعنوان "المكتبة كجزيرة"، وهكذا.. ثمّ يربط الكاتب كلّ فصل بتجربته الحياتية في ترتيب ونقل وقراءة الكتب في مكتبته الخاصّة.
وقد جمع مانغويل في هذه الفصول عددا من الحكايات المسلّية والقراءات الموثّقة والصور الفوتوغرافية في قالب أشبه ما يكون بسيرة ذاتيّة مصغرّة للكاتب. وهو ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا والعكس، ويتحرّك باستمرار من فكرة لأخرى، وأثناء ذلك ينقل قصصا لا تُعدّ ولا تُحصى.
يتحدّث مثلا عن كتاب الفهرست، وهو فهرس مشروح للأدب العربيّ جمعه ابن النديم ابتداءً من العام 987. ثمّ يتناول النزاع بين ميكيل أنجيلو والبابا كليمنت السابع على تصميم المكتبة الكبيرة في فلورنسا. ثمّ يعرّج على المكتبة التي جرفتها المياه إلى الشاطئ مع روبنسون كروزو في رواية دانيال ديفو المشهورة.
وعبر صفحات الكتاب تتناثر بعض المقاطع والأفكار الجميلة التي تمنح هذا الكتاب سحرا خاصّا، كقول مانغويل مثلا:
"في الضوء، نقرأ ابتكارات الآخرين، وفي الظلام نبتكر قصصنا الخاصّة".
"الكتب القديمة التي عرفنا عنها ولم نمتلكها تعبر طريقنا وتدعو نفسها ثانية. والكتب الجديدة تحاول إغواءنا يوميّا بالعناوين المثيرة والأغلفة المحيّرة".
"في الليل، عندما تُضاء مصابيح المكتبة، يختفي العالم الخارجيّ ولا يعود موجودا سوى فراغ الكتب".
"في الظلام، بينما النافذة مضاءة وصفوف الكتب تتألّق، تصبح المكتبة مساحة مغلقة، كوناً لا شكل له".
"كلّ واحد من كتبي هرب، إمّا من النار أو الماء أو غبار الزمن أو من القرّاء المهملين أو يد الرقيب، وأتى إلى هنا كي يحكي لي قصّته".
"في الليل، هنا في المكتبة، يصبح للأشباح أصوات".
"عندما تقرأ كتابا وأنت جالس داخل دائرة فأنت لا تقرؤه بنفس الطريقة عندما تكون جالسا داخل مربّع أو في غرفة سقفها منخفض أو في أخرى ذات عوارض خشبية عالية".
"كلّ قارئ ما هو إلا فصل واحد في حياة كتاب. وما لم ينقل ما عرفه للآخرين فكأنّه حكم على ذلك الكتاب بالموت حرقا".
"الكتّاب يكتبون لأنهم بالأساس قرّاء ملتزمون، وهم يفعلون ذلك في غرف تصطفّ على جنباتها الكتب".

عقل مانغويل النشط والمتحفّز يقرأ ويتذكّر، وأثناء ذلك يخلق ارتباطات وصورا ذهنية لا تخلو من طرافة. انه يتخيّل الكتب وهي تتحدّث مع بعضها وتغنّي وترقص، وأحيانا تغادر الأرفف ويواجه بعضها بعضا على الأرضية، حيث تتبادل الإهانات واللكمات ويمزّق كلّ منها صفحات الآخر. وعندما تُطفأ الأنوار تستقرّ وتهدأ لتمارس الحبّ، وبالتالي تتناسل كتبا أخرى. "كلّ كتاب ينادي على الآخر بشكل غير متوقّع. ونصف سطر يمكن أن يتردّد صداه في سطر آخر لأسباب قد لا تكون واضحة في ضوء النهار. وإذا كانت المكتبة في النهار صدى للنظام والترتيب الشديد والمطلوب في العالم، فإن المكتبة في الليل تبدو فرحة بالتشوّش المبهج للأشياء في الخارج".
فهرس الكتاب يكشف عن قراءات المؤلّف وثقافته المتنوّعة والواسعة، من اسخيليوس وستيفان تسفايغ وإميل زولا إلى آنّا اخماتوفا، وخوان دي زوماراغا الذي كان مسئولا عن إنشاء أوّل مطبعة في العالم الجديد، وفي نفس الوقت عن تدمير معظم كتب إمبراطورية الأزتيك.
ويشير مانغويل إلى انه خارج اللاهوت والأدب الفانتازيّ، لا يوجد سوى القليلين الذين يمكن أن يشكّكوا في أن الملمح الرئيسيّ لهذا الكون هي خلوّه من أيّ معنى أو غرض. ومع ذلك ما يزال الجنس البشريّ يقدّس المعرفة ويسعى إليها ويوظّفها في محاولته ترتيب وفهم الكون.
ويضيف: الكتاب المقدّس يعلن أن غايته إيصال الحقيقة النهائية والمطلقة إلى البشر. لكنّ المكتبات الشخصيّة التي نجمع محتوياتها قطعة قطعة تمثّل اقتناعنا بأن الحقيقة جزئيّة ونسبيّة، وهي بناء تعاونيّ وليست كلاما تنطق به قوّة علوية".
ثمّ يصحب المؤلّف القارئ في رحلة عبر الزمان والمكان متذكّرا برج بابل الذي اغتالته ذات مرّة يد إله غاضب، ومكتبة الإسكندرية التي أحرقت عن طريق الخطأ عندما أضرم يوليوس قيصر النار في سفنه. كما يذكّرنا بأن المكتبات ظلّت تُبنى باستمرار من قبل البشر كي تؤوي أفكار بشر آخرين. وقد كان هذا هو الحال دائما منذ عهد الملك الآشوري آشور بانيبال الذي أمر بجمع الألواح الطينية من جميع أنحاء إمبراطوريّته كي تُدوّن عليها الكتب.
ويحفر مانغويل عميقا بحثا عن الدروس المستفادة من القصص الكلاسيكية، من قبيل تحليله القويّ لملحمة غلغامش ودراسته الممتعة لـ دون كيشوت وللسياق الاجتماعي والثقافي الذي كتب فيه ميغيل دي ثيرفانتيس تلك الرواية.
ثم يسرد قصّة من التاريخ البعيد. يقول: في العام 336، كان راهب قد رأى ربّه ورسم مشاهد من حياة بوذا على جدران احد الكهوف. وعلى مدى ألف عام، حوّلت الصدفة هذا الكهف وغيره من الكهوف القريبة إلى مستودعات من المخطوطات والأدوات الدينية. وبعد ما يقرب من ألف عام بعد ذلك، أدّت الصدفة إلى إعادة اكتشاف الموقع الذي يُعرف اليوم باسم كهوف موغاو أو كهوف الألف بوذا بالصين.
ويعلّق على ذلك بقوله: القصص هي ذاكرتنا، والمكتبات هي مستودعات تلك الذاكرة، والقراءة هي الحرفة التي نستطيع من خلالها إعادة تشكيل تلك الذاكرة بترجمتها إلى تجاربنا الخاصّة".
غير أن الرحلة التي يأخذنا إليها المؤلّف ليست سعيدة دائما. إذ يتحدّث في جزء من الكتاب عن العديد من المكتبات والكتب المفقودة، من مكتبة الإسكندرية، إلى النصوص الضائعة لبعض كتّاب الإغريق القدماء، إلى التدمير الرهيب للكثير من الأعمال والكتب في الأمريكتين على يد الإسبان. المسيحيون الكاثوليك دمّروا مكتبات كبيرة في المكسيك وأمريكا الوسطى وقضوا على تاريخ حضارات ضاع تراثها إلى الأبد. والعثمانيون دمّروا في القرن السادس عشر مكتبة كورفينا العظمى، التي قيل إنها كانت واحدة من دُرَر التاج الهنغاري.
ثم يتطرّق إلى الكتب الممنوعة، ومجموعات الكتب السرّية التي جُمعت في معسكرات الاعتقال وحافظت على حرّية الفكر في مواجهة الاستبداد، والمكتبات الخيالية أو الكتب التي لم تُكتب بعد مثل تلك التي حملها الكونت دراكيولا ووحش فرانكنشتاين. كما يشير أكثر من مرّة إلى تدمير مكتبات حضارتي المايا والأزتيك من قبل الغزاة والمبشّرين. ويعلّق بقوله: عندما يكون محتوى الكتب متوافقا مع الكتب المقدّسة، تصبح الكتب زائدة عن الحاجة. وإذا كانت غير متوافقة، تصبح غير مرغوب فيها. وفي كلا الحالتين ينبغي أن تُحرق. ويضيف: إن كتابا ممنوعا أو محروقا يمكن أن يكون أكثر تخريبا من كتاب سليم لأنه، بغيابه، ينال نوعا من الخلود".
مانغويل يرى أن المكتبة الرقمية هي بالنسبة للمكتبة التقليدية كالتصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم. غير انه يشدّد على افتتانه بالمباني ورفوف الكتب وخطط ترتيبها وبالشخصيات الإنسانية التي تنتشر في مشهد المكتبة. المكتبة، عنده، ليست قاعدة بيانات فقط. إنها مكان يسمح لحكمة الإنسان وخياله أن يزدهرا. والمكتبة ليست شيئا مادّيّا، بل هي جوّ وثقافة وتاريخ متراكم يغرق في عمق الجدران والأرفف. وهو يرى أن الكتاب الذي يُقرأ على شاشة ولا نستطيع أن نملكه ولا أن نحبّه أو نمسك به بأيدينا، لا يمكن أن نهضمه أو نستوعبه في عقولنا.

Credits
stuckinabook.com