:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيرمير. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فيرمير. إظهار كافة الرسائل

الخميس، سبتمبر 11، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • في إحدى المناطق الشاسعة من المحيط الهادئ، تقع جزيرة مرجانية صغيرة تُسمّى "ايفالوك". بعد الحرب العالمية الثانية، عرضت البحرية الأمريكية أحد أفلام هوليوود على شعب هذه الجزيرة لتسليتهم وتعزيز حسن النيّة معهم. كان الفيلم أكثر شيء عنيف ومروّع شاهده سكّان الجزيرة على الإطلاق. وقد أزعجهم العنف الذي رأوه على الشاشة لدرجة أن بعضهم مرضوا لعدّة أيّام.
    وفيما بعد، جاء أحد علماء الأنثروبولوجيا إلى الجزيرة لإجراء دراسة، وسأله السكّان المحليّون بشكل متكرّر: هل كان ذلك صحيحا؟ هل هناك بالفعل أناس في أمريكا قتلوا أشخاصا آخرين؟!
    يقول بعض العلماء اعتمادا على دراسات أُجريت على قبائل معزولة عن الحياة الحديثة وتتغذّى على النباتات والحيوانات البرّية أن الحرب ليست جزءا فطريّا من الطبيعة البشرية، بل هي سلوك تبنّاه البشر في مراحل متأخّرة من تطوّرهم.
    وافترضَ العلماء أنه منذ حوالي 12 ألف سنة، كان جميع البشر يعيشون في هذا النوع من المجتمعات الذي شكّل حوالي 90 بالمائة من مسارنا التطوّري. ومع انتقال الصيّادين وجامعي الثمار إلى الزراعة، أصبحت المجموعات أكثر إقليمية وصارت بُنيتها الاجتماعية أكثر تعقيدا. ومع استقرار البشر، أصبحت الحرب أكثر هيمنةً وحضورا.
    وذكرت الدراسة أنه إذا ما وُجد أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ عنيفة، فإن العنف في النهاية ثقافي وليس بيولوجيّا. كما دعت إلى وقف النظرة السلبية السائدة للحضارة الحديثة باعتبارها حضارة عنيفة، من خلال إثبات أن بعض مجتمعات ما قبل التاريخ كانت هي أيضا عنيفة بقدر ما ومنخرطة في حروب متكرّرة كانت بعضها مدمّرة للغاية.
    وهناك كتّاب عديدون تناولوا تحديدا استمرار ما أسموه "بالخرافات الخاطئة" التي يردّدها يعض علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الاجتماع حول صلاح البشر البدائيين. فقد وقعت مذابح وعمليات قتل جماعي بين الإسكيمو و"هنود الغراب" وعدد لا يُحصى من الجماعات الأخرى قبل حوالي 13 ألف عام، أي قبل ايّ اتصال بالأوربيّين. كما تمّ القضاء على قبيلة "السكاكين الصفراء" في كندا بسبب المجازر التي ارتكبها هنود آخرون، واختفت تلك القبيلة نهائيا من التاريخ بعد ذلك بوقت قصير.
    وبالمقابل، أقام أحد علماء الاجتماع مع مجموعة قبلية في غينيا الجديدة. وفي هذه المجموعة، كان جميع الرجال يعيشون في منزل كبير، بينما كانت النساء والأطفال يعيشون في أكواخ فردية. ولم يجد الباحث أن الحرب كانت شائعة بينهم كما لم يشهد أي صراع مع الجماعات المنافسة. وقال إنه وجد أن بعض أكثر الشعوب "بدائيةً" على وجه الأرض كانت في الواقع مسالمة إلى حدّ كبير مقارنةً بالدول الحديثة المتقدّمة.
    وأضاف: كثيرا ما تُصوَّر الشعوب القبلية على أنها "متوحّشة وعنيفة". لكن الحرب لم تكن شائعة كثيرا قبل ظهور الزراعة، أي عندما كان معظم البشر، إن لم يكن كلّهم، يعيشون كباحثين عن الغذاء".
  • ❉ ❉ ❉

  • كان الرسّام الفرنسي هوبير روبير يحظى بدعم العديد من الرعاة والنقّاد والفنّانين على حدّ سواء في القرن الثامن عشر. كما حظي بإشادة واسعة في الفترة المسمّاة بالحقبة الجميلة. وقد تمتّع روبير بمديح بعض من أهمّ الشخصيات الأدبية الفرنسية، من الفيلسوف دينيس ديدرو الذي أطلق عليه لقب "روبير الأطلال"، إلى إدمون دي غونكور ومارسيل بروست بعد أكثر من قرن.
    وتمكّن الرسّام من تسلّق السلّم الاجتماعي في فرنسا بفضل مهارته الفطرية كفنّان، وأصبح نجما دائم الظهور في الصالونات والفعاليات الاجتماعية المختلفة. وكانت لوحاته علامة تجارية لما يقرب من 50 عاما. وقد عُرفت صوره باسم "كابريتشي"، وهو مصطلح يشير إلى التقاليد الزخرفية لتصوير الآثار المعمارية الخلابة التي تطوّرت في روما الباروكية وبلغت ذروتها بين الرسّامين الإيطاليين مع جيوفاني باولو بانيني، الذي شعر روبير تجاه أعماله بألفة عميقة.
    لكن القرن العشرين لم يكن كريما معه، فقد مرّ أكثر من 80 عاما منذ أن كان موضوعا لمعرض استعادي كبير. لكن معرضا اُقيم للوحاته مؤخّرا في اللوفر صحّح هذا الوضع وأعاد الى الرسّام بعض الاعتبار.
    في عام ١٧٥٤، وفي سنّ الحادية والعشرين فقط، دُعي روبير للانضمام إلى حاشية الكونت دي ستانفيل في روما، حيث استوعب أكبر قدر ممكن من المدينة الخالدة، وأتيحت له فرصة قبوله في الأكاديمية الفرنسية بروما، وهو تكريم لا يُمنح عادةً إلا للقليلين.
    وقد مكث في المدينة أحد عشر عاما أخرى، وخلال تلك العطلة الرومانية وُضعت أسس مسيرة روبرت الفنّية، وهي ركائز ستظهر وتعاود الظهور على الآثار المعمارية التي ملأَت رسوماته ولوحاته طوال حياته. وتشير صوره لفنّانين في بيئاتهم الرومانسية المتداعية إلى أن عالمي الخيال والواقع كانا على خطّ رفيع بالنسبة له. وقد أصبحت مناظره الخيالية عن الآثار الرومانية التي تُصوَّر في الهواء الطلق علامة مميّزة.
    بالنسبة لديدرو، يمكن ترجمة الآثار المرسومة إلى شعر. وقد سلّطت صور روبير الضوء على "الرعب الجميل" الذي اعتبره ديدرو بالغ الأهمية لقوّة هذه الأعمال.
    وعندما رأى الأخير لوحات روبير لأوّل مرّة في الصالون، كتب يقول: الأفكار التي توقظها الآثار في داخلي عظيمة. كلّ شيء يتلاشى، كلّ شيء يفنى، كلّ شيء يمر. وحده العالم يبقى، وحده الزمن يدوم".
    كان هوبير روبير غزير الإنتاج لدرجة أنه من السهل نسيان عدد أعماله. لكن يبقى شيء واحد مهم وواضح، وهو فهمه وتفسيره المذهل للفناء وهشاشة الحياة. وربّما يكون هذا الشعور بالموت والخوف من الضياع هو الذي غذّى حاجته للتواصل الاجتماعي المستمر.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • استلهم عشرون كاتبا بلجيكيا وهولنديا أفكارا وأشعارا من مجموعة الاعمال الفنّية التي يحتفظ بها متحف ماوريتسهاوس في لاهاي. وقد تأمّلوا بعض لوحات القرن السابع عشر من منظور التاريخ البديل ثم جسّدوها في نصوص قصيرة. إميلي بارييل وجدت في لوحة فيرمير "ديانا وحوريّاتها" موضوعا لخاطرة شعرية قالت فيها: ‬
    تريد ديانا أن تعرف لماذا تحوّلت إحدى حوريّاتها إلى شجرة، فيما أصبح الآن موقف سيّارات مهجور في مبنى مكاتب متهالك يعود تاريخه إلى ستّينيات القرن العشرين. في الماضي، تقف الإلهة ديانا في غابة. تنظر إلى تلك البطّة الغريبة هناك. يقف فيرمير حاملا لوحته تحت الأغصان القريبة ومردّدا لحنا. تقول ديانا: كيف يُعقل أن يصدر هذا الضجيج من فم صغير كهذا؟" تهزّ حورياتها رؤوسهن وهنّ يشحذن سهامهنّ للصيد. يمرّ أبوللو مرتديا ملابس رثّة، بدلة من ثلاث قطع.
    تلاحظ إحدى الحوريات أن أبوللو يضع إكليل غار على رأسه. تفتقد دافني بعض الأغصان. كلّ رسّام على مرّ التاريخ صوّرها هي وحورياتها بأجساد ملفوفة بالقماش. تحت الأغصان القريبة، يمزج فيرمير اللون الأخضر الحمضي ليلبّس مواضيعه فساتين. يهزّ أبوللو كتفيه. تستغرق الأصوات النسائية وقتا أطول للوصول إليه. يراقب فيرمير كلّ ما يحدث، ويصوّر أربع حوريات صامتات يحوّلن نظرهنّ عن ديانا، بينما حورياتها يهززن رؤوسهنّ ويسحبن أقواسهن.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات...
    ○ الفقراء لا يدركون أن وظيفتهم في الحياة هي ممارسة الكرم. جان بول سارتر

    ○ كلّ ما يفعله الإنسان في الحياة، حتى الحب، يحدث في قطار سريع يتجه نحو الموت. "تدخين الأفيون" هو الخروج من القطار وهو لا يزال في طريقه، هو الانشغال بشيء آخر غير الحياة أو الموت. ج. كوكتو

    ○ لا أبحث عن البهجة ولا عن المرح. قلبي، بعد سنوات مرهقة من الحداد على الموتى، لم يعد يتقبّل المرح. ثم إن جدران قلعتي مهدَّمة والريح تهبّ باردةً عبر الأسوار والنوافذ المكسورة. أحبّ الظلال وأرغب في أن أكون لوحدي مع أفكاري. برام ستوكر

    ○ الترياق للغباء الجماعي ليس الذكاء فقط، بل الشجاعة في الاعتراف بأنك لا تعرف. سقراط كان أحد أوائل أبطال التفكير النقدي. قال مرّة: الحقيقة الوحيدة هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئا". ولم يكن هذا انتقاصا من الذات، بل دعوة للبقاء فضوليّا ومتواضعا فكريّا ومستمرّا في السؤال، في مواجهة عالم غامض وواسع.
    الجميع يريدون التحدّث، ولكنْ قليلون يريدون الاستماع. المفارقة هي أن المفكّرين الحقيقيين غالبا ما يكونون هادئين، لأنهم يعلمون أن الحكمة لا تنمو من الضوضاء ولكن من الصمت، من التأمّل. وهذا هو السبب بالتحديد وراء تفكير المفكّرين النقديين. وهؤلاء غالبا ما يهمَّشون ويُتجاهلون في ثقافة تكافئ السرعة. التفكير البطيء فرَصُه ضئيلة، لكن لا ينبغي التخلّي عنه. مارشال ماكلوهان

    ○ الأمان في الغالب خرافة، لا وجود له في الطبيعة. وتجنُّبه ليس أكثر أمانا على المدى البعيد من التعرّض المباشر له. الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء. هيلين كيلر

  • Credits
    artic.edu
    mauritshuis.nl

    الخميس، فبراير 08، 2018

    فيرمير والآخرون


    لماذا تكلّف نفسك عناء الذهاب إلى متحف لرؤية لوحة عظيمة، بينما بإمكانك أن تراها على شاشة حاسوبك وعلى مسافة اقرب ممّا يتيحه الحضور لأيّ متحف؟
    في هولندا القرن السابع عشر، كانت المعارض الفنّية نادرة، وكان الناس بشكل عامّ يرون اللوحات في مجموعات خاصّة، أو وهي معروضة للبيع في معرض، وأحيانا عندما تُقدَّم كجوائز.
    ولو قُدّر للناس في ذلك الوقت أن يروا الإمكانيات الكبيرة التي تُعرض بها الأعمال الفنّية في المتاحف هذه الأيّام لأصيبوا بالدهشة: الغرف الواسعة، وتقنيات الإضاءة الخاصّة، والألوان اللامعة على الجدران، وتزاحم الناس الذين يُطلب منهم أن يبقوا على مسافة.
    صُوَر يوهانس فيرمير كانت تُرسم بطلب من أشخاص، وكان الناس يرونها في فراغات اصغر وأكثر إعتاماً. كانوا يرونها في النهار عندما يكون الطقس مناسبا، وأحيانا كانوا يقدّرونها أكثر في الأضواء الباهتة في وقت ما بعد الظهيرة، أو مضاءةً بالشموع في الأمسيات المظلمة والباردة. وبعض تلك اللوحات كانت تُحمى بستارة أو حاجز أو تؤخذ إلى خارج الغرف لرؤيتها في مكان خاصّ.
    النوعية الخاصّة سمة غالبة في لوحات فيرمير، بمعنى أن فيها دائما شيئا ما يدفع المتلقّي لأن يشعر بأن هذه اللوحة أو تلك رُسمت من اجله فقط.
    ومن هنا يبرز السؤال: ترى ما الذي يغري أيّ شخص لأن يرى تلك اللوحات وسط حشد من الناس في متحف؟ ما الشيء الذي لا يمكن إيصاله في الصور والطبعات المستنسخة؟
    اللوحات الأصلية المعروضة في المتاحف تقدّم لنا أشياء شخصية لا توفّرها الصور المستنسخة. القماش يقدّم لك نفسه، مقاسه يناسب مقاسك، وأنت تقرؤه بشكل طبيعيّ عندما تراه عموديّا أمام عينيك.
    أمام لوحة في معرض، ستفهم كيف حرّك الرسّام يده ليعمل، وكيف قرّبها ثم أبعدها عن القماش، وستلحظ بوضوح تغيير اتجاه الفرشاة وكثافة النسيج وسمك الطلاء.
    وربّما يكون فيرمير قد اخذ هذا من فنّانين آخرين، لكن فنّه مختلف. وبعكس الآخرين، فإن صُوَره تتوهّج على الجدران كما لو أنها مضاءة من داخلها. وشخوصه يجذبوننا أكثر ويحرّضوننا على أن نتوقّف وننظر. وشيئا فشيئا، نبدأ في فهم إيقاع الصورة ونترك أعيننا تتجوّل حيث يسمح لنا الرسّام، نتوقّف حيث يتوقّف، ونتحرّك حيث يتحرّك.
    ثم نبدأ في اكتشاف المعالم الأساسية في اللوحة، ونرى الأشياء المكرّرة ومدى تناسبها مع بُنية التوليف. ثم نرى تحوّلات الألوان من القاتمة إلى الفاتحة وبالعكس. وفي الأثناء، نشعر بنسيم "ديلفت" البارد والخفيف من حولنا ونحسّ بلمعان اللؤلؤ ورهافة الريش والفِراء والحرير.


    نساء فيرمير يقفن في غرف مُشعّة. وهو يمسك بهنّ في لحظات تفكير، أو وهُنّ يبتسمن أو يتحدّثن. وأنت تراقب وتتمعّن متأمّلا أن يكون ما تراه حقيقيّا. وأمام اللوحة، أنت تقف على مسافة قريبة من المكان الذي كان يقف فيه فيرمير عندما رسمها. تُحوّل وجهك باتجاه الضوء المتسرّب من النافذة، وتنتظر أن تتطوّر الصورة في حدقة عينك وأن تترك انطباعا لا يُمحى من ذاكرتك.
    ما الذي تتمنّاه عندما تذهب إلى معرض لترى لوحة لفيرمير؟ ما تتمنّاه غالبا هو أن تُحْدِث الصورة في ذهنك ارتباطا مع شيء ما يدوم ويستمرّ إلى ما لا نهاية.
    فيرمير وزملاؤه الهولنديون الآخرون، مثل جيرارد تير بورش و غيريت دو و بيتر دي هوك و غابرييل ميتسو و فرانز فان ميريس و يان ستين ، كانوا يرسمون أفكارا متجذّرة في حياة عصرهم. لكن الطريقة التي كانوا يقدّمون بها تلك الأفكار تُعزى إلى الرؤى الجمالية المشتركة السائدة في ذلك الوقت.
    تأمّل صُوَر نساء فيرمير بمعاطفهنّ الأنيقة وقصّات شعرهنّ الحديثة. كان يصوّرهن في لحظات حميمة وهنّ يعزفن الموسيقى أو يطرّزن الملابس و يؤدّين أعمالا منزلية أخرى. وكثيرا ما تُربط هذه الموتيفات بفيرمير، لكننا نكتشف أن فيرمير إنّما كان يترّسم خطى تير بورش، وهو رسّام منجِز كان يكبر فيرمير بخمسة عشر عاما على الأقلّ. وكان هو أوّل من استكشف صور النساء في لحظات خاصّة وحالات حميمية.
    وأكثر الرسّامين ابتكارا في ذلك الوقت كانوا يعرفون ماذا كان زملاؤهم من مختلف الأعمار يفعلون. حتى الرسّامين الذين كانوا يعملون في أماكن بعيدة كانوا على تواصل مع زملائهم الآخرين. في ذلك الوقت كان السفر من وإلى حواضر هولندا الصغيرة المساحة سريعا وسهلا نسبيا.
    لذا كان من السهل على الرسّامين أن يروا أعمال بعضهم البعض في المحترفات والمجموعات. ورغم تشابه الموتيفات، إلا أنهم لم يكونوا يقلّدون بعضهم البعض، بل كان كلّ منهم يترجم أفكاره الخاصّة ويركّز على مواطن قوّته المتفرّدة. وأحيانا كانوا يتنافسون على أيّ منهم يستطيع رسم أكثر الملابس جمالا وابتكارا.
    النظر إلى لوحات رسّامين متعدّدين من شانه أن يوسّع فهمنا للطريقة التي كان يعمل بها رسّامو العصر الذهبيّ الهولنديّ. لكن ممّا لا شك فيه أن صُوَر فيرمير بالذات هي التي تسترعي اهتمامنا أكثر من غيرها، رغم جمال أعمال الآخرين وتشابه أفكارها.
    قد يكون السبب هو أن لا احد استطاع تشييد التوليف بمثل دقّة وبراعة فيرمير، ولهذا السبب قُدّر لأعماله أن تستمرّ وأن يُكتب لها الخلود أكثر من غيره.

    Credits
    theartnewspaper.com

    السبت، نوفمبر 25، 2017

    ميتسو: عودة إلى الضوء


    عندما يأتي الحديث عن الرسم الهولنديّ، فإن أسماء مثل رمبراندت وفيرمير وروبنز هي الأسماء التي يعرفها الناس.
    لكن هل سمعت من قبل باسم غابرييل ميتسو؟
    فيرمير وميتسو عاشا في نفس العصر، غير أن ميتسو (1629–1667) كان النجم اللامع في العصر الذهبيّ للرسم الهولنديّ في القرن السابع عشر، واستمرّ كذلك لفترة طويلة.
    وميتسو كان أيضا الفتى الأوّل في القرن التاسع عشر، أمّا فيرمير فلم يُكتشف إلا في بدايات القرن العشرين.
    في أيّامه، كان ميتسو محبوبا كثيرا في مختلف أنحاء أوربّا. وقد رسم في عام 1664 واحدة من أهمّ لوحاته "فوق" واسمها "رجل يكتب رسالة"، ويظهر فيها شابّ وسيم بملابس سوداء وشعر طويل، يجلس للكتابة أمام طاولة مغطّاة بقماش مطرّز.
    كما رسم في نفس ذلك العام لوحة أخرى "الصورة أسفل" بعنوان "امرأة تقرأ رسالة"، وفيها تظهر امرأة ترتدي فستانا اصفر وتنّورة زهرية رُصّعت من منتصفها بالذهب، وعلى رأسها وشاح من النوع الذي لم يكن يلبسه في الماضي إلا الملوك. ويُفترض أن الرسالة التي تقرأها المرأة هي نفسها التي كان يكتبها الشابّ في اللوحة السابقة.
    الملابس الفخمة مرسومة ببراعة وكذلك التفاصيل. والمرأة تبدو منشغلة كثيرا بقراءة الرسالة، لدرجة أنها لم تنتبه إلى أن إحدى فردتي حذائها انزلقت بعيدا.
    في أعماله المبكّرة، رسم ميتسو مناظر دينية بالإضافة إلى صور للحياة اليومية في مدينته الصغيرة ليدن. وعندما انتقل إلى أمستردام عام 1650، رسم مشاهد لأسواق مزدحمة ولأشخاص، في محاولة لمسايرة الذوق الفنّي السائد آنذاك في المدينة المتطوّرة والمزدهرة.


    وأيّا كان الموضوع الذي يرسمه، فإن ميتسو كان يضمّن كلّ لوحة من لوحاته قصّة، رغم أن القصّة ليست واضحة دائما. لكنها في النهاية تصوّر مشاعر وانفعالات حقيقية: امرأة تطرّز الدانتيل ، خادمة تقشّر التفّاح، رجل يدخل غرفة بالقرب من مدفأة، طفل مريض، زوج وزوجته يتناولان إفطارهما و امرأة تعزف الموسيقى بصحبة رجل فضوليّ.
    كان ميتسو حكواتيّا على طريقته، لكنه غالبا لا يفصح عن بداية ووسط أو نهاية القصّة، بل يريدنا أن نتأمّل مناظره ونفهمها، كلّ بحسب ما يرى. ولوحاته هذه كانت مثار نقاش في غرف الرسم في هولندا في القرن السابع عشر.
    ميتسو هو بلا شكّ رسّام سرديّ، وإذا كان لا يخبرنا عن نهاية الفيلم أو القصّة، فإن فيرمير كان أكثر غموضا منه من عدّة أوجه. فتاة فيرمير ذات القرط اللؤلؤيّ، وكذلك نساؤه الأخريات، تبدو حياتهنّ متوقّفة مؤقّتا في لحظة بين اللحظات.
    أما شخوص ميتسو فآتون من مكان ما وذاهبون إلى آخر. وأنت لا تستطيع أن تعرف إلى أين سينتهي بهم الطريق.
    في القرن العشرين أفل نجم ميتسو أو كاد، بينما أصبح رفيقه فيرمير النجم الهولنديّ الأشهر في العالم، بخلفياته المسطّحة وألوانه الباردة ونظرات شخوصه إلى البعيد، بحيث يبدو أكثر تجريدا بالنسبة للمتلقّي الحديث.
    غير أن خبراء الفنّ يتوقّعون لميتسو عودة قويّة ووشيكة إلى مركز الضوء، خاصّة مع تجدّد الاهتمام بفنّه في أوساط الرسم في العالم.

    Credits
    rijksmuseum.nl

    الاثنين، يوليو 17، 2017

    السجّاد الشرقيّ في الرسم الأوربّي

    الشعبية الكبيرة التي اكتسبها في أوربّا السجّاد الشرقيّ المنسوج في العالم الإسلاميّ ابتداءً من القرن الرابع عشر فصاعدا تعكسها التصاوير المتكرّرة لهذا السجّاد في لوحات الرسم الأوربّي.
    وتُعتبر تلك اللوحات مصدرا أساسيّا للخبرة في السجّاد الشرقيّ المبكّر. وهناك مجموعات عديدة من السجاجيد الإسلامية من الشرق الأوسط تُسمّى اليوم بأسماء الرسّامين الأوربّيين الذين رسموها وضمّنوها في لوحاتهم، مثل لورنزو لوتو وهانز هولبين ودومينيكو غيرلاندايو وكارلو كريفيللي وهانز ميملينغ .
    وهؤلاء الرسّامون تُستخدم أسماؤهم اليوم لتصف مجموعات معيّنة من السجّاد المنسوج في تركيا العثمانية على وجه الخصوص.
    منذ عصور المسيحية المبكّرة أصبح امتلاك سجّاد من قماش نفيس من الشرق مرتبطا بالثروة والقداسة. وعندما رسم الفنّان الايطالي دوتشيو قصّة الأشخاص الذين فرشوا سجاجيدهم تحت أقدام المسيح، فإنه إنّما كان ببساطة يجدّد مفهوما ثقافيّا قديما.
    وهناك لوحة من القرن الخامس عشر رسمها جيوفاني دي باولو بعنوان المادونا والطفل مع ملاكين تصوّر سجّادا قديما ونادرا من تركيا مفروشا تحت قدمي العذراء. وتكرّرت صورة ذلك السجّاد كثيرا في ايطاليا من خلال بعض الصور التي كانت تتضمّن موتيفات لحيوانات مصوّرة بدقّة.
    وبحلول القرن السادس عشر، أصبح السجّاد يُرسم في البورتريهات كرمز للبراعة والتعليم والمكانة الاجتماعية والاقتصادية العالية.
    وهناك بورتريه رسمه موريتو دي بريشيا يظهر في أسفله إطار صغير من السجّاد الأناضوليّ المعاصر من تركيا العثمانية. أما تصميم بقيّة البورتريه فقد ظلّ لغزا.
    وبحلول القرن السابع عشر، باتت صور السجّاد في اللوحات الفنّية منظرا مألوفا في جميع أرجاء أوربّا. وهناك عدد من الأمثلة عن "سجّادة لوتو"، وأقدمها تذكّر بالخطّ الكوفيّ.
    وفي أعمال أخرى مثل لوحة يان بريغل وروبنز بعنوان حفل اخيليوس ، نرى قصّة من كتاب التحوّلات لـ أوفيد مرسومة كوليمة معاصرة مع سجّادة جميلة تظهر على قماش مائدة في يمين اللوحة، وهي من تصميم الرسّام لوتو وتصوّر ارابيسك احمر واصفر من وسط تركيا.
    ومثل هذا النمط كان مفضّلا في أوربّا. ففنّان القرن السابع عشر نيكولاس مايس، مثلا، رسم امرأة تقشّر التفاح وتجلس إلى جوار طاولة مغطّاة بسجّادة لوتو فارهة.
    السجّاد المنسوج في سوريا كان نادرا جدّا في أوربّا. لكن هناك لوحة لغابرييل ميتسو عنوانها حفلة موسيقية تُظهر موسيقيَّين، رجلا وامرأة، يجلسان أمام طاولة مغطّاة بسجّاد ذي زخارف هندسية الأشكال من سوريا في بدايات القرن السابع عشر. أما لوحة ميتسو الأخرى بعنوان شابّ يكتب رسالة فتظهر فيها سجّادة ميداليون كبيرة تطلّ من طرف طاولة.
    سجاجيد الميداليون المنسوجة في اوشاك بوسط غرب تركيا كانت أيضا تُرسم بشكل متكرّر في اللوحات الأوربية. في اللوحة الجذّابة لجيرارد بورش الابن بعنوان امرأة تعزف اللوت "أو العود" ، تظهر سجّادة ميداليون صغيرة من غرب الأناضول بتصميم غير مألوف على الطاولة أمام العازفين.
    ورغم أن نتاج الرسّام الهولندي يوهان فيرمير من اللوحات قليل، إلا أن جزءا من أعماله يحتوي على رسومات شرقية. وأشهرها اثنتان، الأولى خادمة نائمة وتتضمّن نوعين مختلفين من السجّاد التركيّ المصنوع في القرن التاسع عشر. بينما تظهر في اللوحة الثانية وهي امرأة مع إبريق ماء سجّادة فارسية ناعمة وذات نسيج سميك فوق الطاولة مع تصميم ارابيسك زهريّ على خلفية حمراء.
    تقليد إظهار سجّاد على طاولات في منازل الطبقة الرفيعة استمرّ حتى القرن الثامن عشر. في لوحة الرسّام الايطالي بييترو لونغي بعنوان حفل موسيقيّ ، نرى قطعة سجّاد من غرب الأناضول موضوعة فوق طاولة في ديكور ايطاليّ جميل.
    وعندما أصبح السجّاد في أوربّا اقلّ تكلفة، تمّ استيراد كميّات كبيرة منه لاستخدامه في تغطية الأرضيّات. الرسّام فرانسيس ويتلي في لوحته عائلة سيثويت يصوّر زوجين ارستقراطيين انجليزيين مع ابنتهما على قطعة فخمة من السجّاد مصنوعة في اوشاك في القرن الثامن عشر.
    وفي فرنسا، في بدايات القرن التاسع عشر، رسم جان دومينيك اوغست آنغر، المعجب بفنّ عصر النهضة، لوحة بعنوان بورتريه جاك لابلانك ، وفيه تظهر طاولة مغطاة بالسجّاد مع كتب ورسالة أو مخطوط مكتوب باليد.
    وهذه التفاصيل تشير إلى تقليد في الرسم الأوربّي يرتبط فيه السجّاد، ليس فقط بالحالة الاقتصادية والاجتماعية، وإنّما أيضا بالعلم والمعرفة. السجّادة الصغيرة الموضوعة على الطاولة مصنوعة في الأناضول وتعود إلى القرن الثامن عشر.
    سجّاد الرسّام لوتو ذو الأنماط والمنسوج باليد أنتج أساسا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر على طول شاطئ ايجه بالأناضول. لكنه كان يُستنسخ في أجزاء أخرى من أوربّا. ويميّزه ارابيسك مزخرف بأرضية صفراء وحمراء وتفاصيل زرقاء عادة.
    وسجّاد لوتو يُقصد به تضمين السجّاد في اللوحات أنماطا متميّزة كان أوّل من ابتكرها رسّام فينيسيا في القرن السادس عشر لورنزو لوتو.
    ويقال أن لوتو كان يمتلك سجّادة كبيرة رغم أن أنماطها غير معروفة. وكانت تلك السجّادة تبدو مختلفة عن سجّاد الرسّام هولبين. لكن يمكن القول أنها تطوير لذلك النوع، إذ يظهر على أطراف الموتيفات فيها أرابيسك يتألّف من نباتات في نهاياتها أغصان.
    وهذا النوع كان شائعا قديما ويُعرف بـ ارابيسك اوشاك . وما يزال بالإمكان رؤيته في لوحات الرسّامَين الاسبانيَّين موريللو وزورباران من القرن السابع عشر وكذلك في بعض اللوحات الهولندية.
    رسومات السجّاد الشرقيّ في اللوحات الأوربّية والأمريكية استمرّت حتى القرن العشرين من خلال لوحات هنري ماتيس والأمريكيّ غلاكينز.
    وما تزال ألوان السجّاد الشرقيّ وأنماطه الفريدة والجميلة تفتن الرسّامين والمصمّمين حتى وقتنا الحاضر.

    Credits
    metmuseum.org

    الثلاثاء، ديسمبر 06، 2016

    رحلة في عالم فيرمير


    مايكل وايت شاعر وأستاذ جامعيّ أمريكيّ، عايش ظروفا عائلية صعبة بعد وفاة زوجته الأولى وطلاقه من الثانية، فحزم أمتعته وتوجّه إلى أمستردام على أمل أن يلتمس فيها بعض العزاء.
    وبينما كان يزور متحف ريكس لمعاينة لوحات رسّامه المفضّل رمبراندت، وجد نفسه وجها لوجه أمام فيرمير، فتملّكه الشغف وأصبح مهجوسا بمناظر الأخير لدرجة انه قرّر أن يطوف متاحف العالم باحثا عن لوحاته.
    ومحصّلة هذه الرحلة الطويلة هي هذا الكتاب الذي يمكن وصفه بأنه قطعة أثرية تذكّر بقصّة غرامية. انه ليس عن الرسم، بقدر ما هو عن الحبّ. وجزء منه هو وصف للرحلة، والجزء الآخر عبارة عن تأمّلات في معنى الفنّ.
    في الكتاب يتحدّث المؤلّف عن قصّته الشخصية كشاعر، وكيف أصبحت لوحات فيرمير بالنسبة له مصدرا للسلوى والنسيان، كما يتحدّث عن زوجته الراحلة ووفائه لها.


    قبل عشر سنوات عشتُ تجربة فريدة مع الرسم، وكنت قد مررت في ذلك العام بحالة من الاكتئاب والحزن جرّاء وفاة زوجتي الأولى ثم طلاقي من زوجتي الثانية. وبصراحة لم يكن في حياتي شيء على ما يرام، وساورني شعور قويّ بالهرب لأضع محيطا ورائي. لذا قرّرت أن آخذ أوّل طائرة إلى أمستردام.
    وبحكم أنّني شاعر، لم يكن لديّ أيّة فكرة عن الفنّ. لكن كنت اعرف على الأقلّ أن رمبراندت هو رسّامي المفضّل. وقد ذهبت إلى متحف ريكس وأنا انوي أن استلقي في ضوء كلّ لوحة من لوحات رمبراندت التي سأجدها هناك. لكن في طريقي قرّرت أن آخذ نظرة عجلى على معرض فرعيّ صغير كان يعرض أربع لوحات ليوهانس فيرمير.
    وأنا امشي إلى داخل الصالة الصغيرة، أتذكّر بوضوح أنني شعرت بقشعريرة تسري في جسدي، كما كتبت في ما بعد في مذكّراتي بعنوان "أسفار مع فيرمير". وعندما وقفت مباشرة أمام اللوحات، خاصّة "خادمة الحليب" و"الزقاق الصغير" و"امرأة بفستان ازرق تقرأ رسالة"، وجدت أن اللوحات صغيرة بشكل لم أتوقّعه. لكن تأثيرها عليّ كان قويّا جدّا، لدرجة انه كان من الصعب عليّ أن أتحرّك أو أتنفّس.


    "خادمة الحليب" بشكل خاصّ بدا أنها تثير نوعا من الوخز والإلحاح الذي استمتعت به حتى وإن كان مزعجا. وعلى الفور وخلال ثوان قليلة، عرفت أنني سأكتب عن فيرمير. وككاتب، لم اشعر أبدا بمثل ذلك اليقين أو الاقتناع من قبل، ولم اشكّ فيه أبدا. كانت هناك قوّة غريبة لا يمكن تفسيرها، كانت تناديني لأكتب، واستجبت لها.
    لوحة خادمة الحليب تصوّر امرأة ممتلئة الجسم تصبّ الحليب في وعاء من الفخار. وهي تقف في منتصف عالمها الخاصّ، الذي هو عبارة عن مطبخ بجدران من الجصّ، مع قشور متناثرة من كسر الخبز على الأرضية. عينا المرأة مسبلتان بلطف إلى أسفل وكأنها ملتهية بعالم آخر. ويبدو أنها تنظر خلسة إلى حافّة الحياة، أو في مرآة، وتدير حوارا ساحرا في تلك اللحظة.
    وما فعلته بعد ذلك هو أنني خطوت إلى خارج المتحف وجلست على أوّل مقعد رأيته، ثم رسمت خطّ سير يسمح لي بزيارة معظم لوحات فيرمير في العالم خلال العام التالي.
    وقد قرأت وبحثت وسافرت ثم كتبت عن رحلاتي. كنت أريد أن أدوّن انطباعاتي عن الفنّ طالما أنني استطيع ذلك. وأوّل شيء فعلته بعد عودتي إلى الوطن هو أنني كتبت قصائد عن لوحات فيرمير التي رأيتها، مستخدما المذكّرات الكثيرة التي خربشتها أثناء وقوفي في المعارض.
    وبعد أن كتبت بضع قصائد عن الرحلة، مدينةً مدينة ومتحفاً متحفا، قمت بتضمين الكتاب لقاءات عشوائية أجريتها مع غرباء ووصفا لوجبات لا تُنسى الخ، ظنّا منّي أن ذلك سيضيف إلى الكتابة شيئا من الدراما والإحساس بالفورية. وفي نهاية المطاف ومع تراكم الصفحات، أصبح الكتاب عبارة عن مذكّرات شخصية.
    أن تصبح مهجوسا بفيرمير ليس بالشيء الجديد طبعا. فكلّ شخص، بدءا من بروست إلى تريسي شيفالييه، شعروا بجاذبيّته الغريبة. وأنت تتأمّل في شخوصه، سيُخيّل إليك كما لو أنهم منتزَعون من رواية ساحرة عن الحبّ المفقود والرغبة والشفاء.
    كان فيرمير في زمانه شخصية مهمَلة، لكن نجمه سطع بقوّة في السنوات الأخيرة، خاصّة بعد المعرض الكبير الذي أقيم لأعماله في الولايات المتحدة عام 1995، والذي قيل إن نجم فيرمير طغى بعده على نجم البطل الهولنديّ العظيم رمبراندت.


    عندما أنهيت الكتاب، اتصلت بإحدى دور النشر فوافقت على نشره بعد أن اخترت له عنوان "أسفار مع فيرمير". وبهذه الطريقة حقّقتُ شيئا من حلمي كشاعر. والآن وأنا اتأمّل هذه الحلقة المذهلة من حياتي، أحاول أن احدّد ما الذي اجتذبني في فيرمير لكي اكتب عنه هذا الكتاب دون أيّ تدبّر أو تفكير أو تخطيط مسبق؟!
    في عصرنا الحاضر ومع افتتاننا بالواقع وبما نسمّيه قصص الخيال العلميّ، نجد أنفسنا ملفوفين داخل عالم فيرمير الغامض، خاصّة ما يشاع أحيانا من انه كان يستخدم الأدوات البصرية في لوحاته.
    في لوحة جندي وفتاة مبتسمة ، يرسم الفنّان امرأة ترتدي غطاء رأس ابيض ووجهها يلمع في الضوء المتسرّب من النافذة. يدها ممدودة باتجاه جنديّ يجلس قبالتها ويحتلّ معظم مقدّمة الصورة وظهره إلى الناظر. عينا المرأة مثبّتة على الرجل وتعبيراتها تنمّ عن سعادة. غير أن اللوحة ترفض أن تقدّم تفسيرا لما يجري.
    وفي لوحة "خادمة نائمة"، يرسم فيرمير خادمة بملابس ثمينة تجلس عند طاولة بمفردها، عيناها مغمضتان ورأسها مسنود إلى يدها وخلفها باب موارب يؤدّي إلى غرفة فارغة.
    في تلك الغرفة، كان هناك رجل وكلب. لكن فيرمير رسم فوقهما وأزال أيّ اثر لهما. الغياب يتردّد في زوايا هذه الغرفة مثل سؤال يلفّه السكون والصمت، لحظة من لحظات الحياة التي تستعصي على التفسير. هل هي نائمة حقّا كما يوحي المشهد؟ أم أنها تتظاهر بالنوم لمصلحة الرجل الذي لم يعد موجودا في اللوحة؟!
    وفي لوحة "امرأة تُوقف عزفها فجأة"، يرسم الفنّان امرأة تجلس إلى طاولة وأمامها نوتة موسيقية. لكن انتباهها يتحوّل عن الموسيقى فجأة لتنظر إلى المتلقّي بتعبيرات غامضة.
    أعمال فيرمير تتضمّن مثل هذه الخيوط السردية الفاتنة، لكنها تظلّ في النهاية مجرّد خيوط. وهذه الحالات السردية هي دائما عن الفقد العاطفي وتجدّد الأمل.
    إن الفكرة القائلة بأن صور فيرمير قد تكون نوعا من حيل الصالون الفانتازية وأنها تقليد للطبيعة بفضل تقنية الغرفة المظلمة، وهي نظرية شعبية روّج لها كلّ من ديفيد هوكني وفيليب ستيدمان، لم تسهم سوى في صقل الأسطورة أكثر وجعلها أكثر جاذبيّة ولمعانا.


    وهناك أسرار وألغاز أخرى في فنّ فيرمير يلعب فيها النازيّون ومزوّرو الفنّ وأعمال الدراما الغامضة أدوارا مهمّة. لكن اتّضح أن لا شيء من هذه الأمور كان وثيق الصلة بحالتي، فاهتمامي منذ البداية كان ذا طابع شخصيّ للغاية.
    ومن هذه المسافة في الزمن استطيع أن أقول إن الحالة التي مررت بها بسبب قصّة الطلاق ووفاة زوجتي الأولى كانت دافعي الأوّل للاهتمام بفيرمير والكتابة عنه. وأعتقد أن لوحاته هي قبل كل شيء عبارة عن تشريح للحياة الداخلية والحميمة للناس.
    وبسبب ظروفي الشخصية، كانت تلك اللوحات على مقاسي تماما. فقد جعلتني اشعر بأشياء لم اشعر بها طوال سنوات وبلورت مفهومي للحبّ والعواطف والتي تأكّدت أكثر أثناء زياراتي لمتاحف لاهاي ونيويورك ولندن.
    إنني أتصوّر انه ليس من مهمّة الخبراء أو النقّاد أن يشرحوا لنا كيف كان فيرمير يخلق تأثيراته الغامضة وكيف استخدم فهمه العميق لأسطح الأشياء وللكيفية التي يعمل بها الضوء. يكفي أن تقف أمام لوحة من لوحاته لتدرك انك أمام شخص آخر حقيقيّ وحيّ يعرفك بأفضل ممّا تعرف نفسك ويحدّد لمشاعرك آفاقا ومسارات جديدة.
    وإذا كانت لقاءاتي مع فيرمير نقطة تحوّل لي على المستوى الشخصي، فربّما يمكنني القول أيضا أن كوني شاعرا غنائيّا قد يساعد في توضيح ما يجري داخل فنّه الغنائي.
    إن نساء فيرمير الغامضات وديكوراته الداخلية المشحونة سيكولوجيّا تتيح نوعا من المقابلة التي تختفي فيها اللوحة بالكامل ولا يعود المتلقّي يرى فيها سوى نفسه. وهذا هو سرّ فيرمير الحقيقيّ ومصدر الغموض والفتنة في لوحاته.

    Credits
    michaelwhitepoet.com

    الثلاثاء، مارس 24، 2015

    خواطر في الأدب والفن

    فيرمير والبيوت الهولندية


    صور البيوت الجميلة والنظيفة والمرتّبة في الرسم الهولندي كانت تأكيدا على ولادة أمّة جديدة ومبتهجة يديرها التجّار الموسرون وليس الملوك.
    البيت الهولندي نفسه كان يمثّل بلدا منظّما مرّ بحروب طويلة. وقد رافق موضة رسم منازل الطبقة الوسطى في هولندا عهد من السلام والرخاء بعد توقيع معاهدة مونستار عام 1648 والتي نالت هولندا بموجبها استقلالها عن الحكم الاسباني بعد حرب الثلاثين عاما.
    وطبعا كان من عادة الرسّامين الهولنديين أن يُظهروا براعتهم في التقاط الأضواء الرائعة على الأسطح والنسيج. وأيضا كان من عادتهم أن يتلاعبوا بمخطّطات وديكورات المنازل التي يرسمونها كي تناسب أهواءهم وتفضيلاتهم الخاصّة.
    وبمعنى ما فإن هذه اللوحات هي المعادل النقيض للصخب والضجيج الذي نشعر به في الحياة الحديثة، وهذا احد أسباب جاذبيّتها الساحرة والمستمرّة.
    وفي الواقع لا احد ينافس يوهانس فيرمير في براعته في استدعاء نوعية الصمت والوقت البطيء في مناظره. ولوحاته تستكشف العلاقة بين الداخل والخارج، وبين العامّ والخاصّ.
    في لوحته صانعة الدانتيل ، يُدخل فيرمير إحساسا بالرواية والسرد ويبتعد عن الاستعراض. هذه اللوحة تتميّز بسكونها وجمالها العميق. وهي تصوّر امرأة مستغرقة مع نفسها.
    وبعض تفاصيل اللوحة يمكن اعتبارها تجريدية، مثل البقع المتطايرة من الأبيض والأحمر التي تمثّل الخيوط الملوّنة والتي تنهمر من الأريكة الزرقاء مثل شلالات صغيرة.
    بعض نساء فيرمير اللاتي كان يرسمهن في لوحاته يُخيّل إليك أنهن يدعين المتلقّي لإلقاء نظرة. ومن الغريب أن مثل هذه المناظر ما تزال تفتننا إلى اليوم. وبطبيعة الحال نفترض أنها كانت مرغوبة في ذلك الزمان.
    لكن الكثيرين اليوم قد لا يرتاحون أو لا ينجذبون كثيرا لهذه الصور، باعتبار أنها لم تكن أكثر من تهويمات مبتذلة لطبقة بورجوازية متأنّقة وفخورة ببيوتها وكلّ همّها أن تستعرض مقتنياتها لإظهار كم أنها قويّة ومتنفّذة.

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة قطبية


    هناك احتمال أنه سبق لك من قبل وأن شاهدت فيلما وثائقيا واحدا على الأقلّ يتناول طبيعة المناطق القطبية ونوعية الحياة السائدة هناك. وأنتاركتيكا هي أكثر القارّات صمتا على هذا الكوكب، وهذا يعني "أن بإمكانك أن تسمع صوت الله هناك بشكل أفضل"، على حدّ وصف احد الكتّاب.
    الجمال الغريب للمناطق القطبية ظلّ ولوقت طويل يثير مخيّلة المستكشفين والكتّاب والفنّانين وحتى الناس العاديين.
    في عام 1818، أنهت الكاتبة البريطانية ميري شيللي روايتها المشهورة "فرانكنشتاين" بمشهد للطبيب وهو يطارد المخلوق الغريب في أراضي القطب الشمالي. كما ضمّن ادغار آلان بو القارّة القطبية في سرده لقصّة "آرثر غوردون بيم" عام 1838م.
    المغامرات الاستكشافية في أراضي القطب هي مزيج من الفضول العلمي والمشاعر القومية وروح المغامرة. وكلّ هذه الأشياء نقلها الفيلم الوثائقي ساوث "أو الجنوب" المنتج عام 1919. والفيلم عبارة عن تسجيل لرحلة آرنست شاكلتون عام 1915، مع لقطات تحبس الأنفاس لسفينته التي سحقها الثلج ببطء.
    وفي فيلمه الوثائقي الرائع لقاءات عند نهاية العالم ، واصل فيرنر هيرتزوغ هذا التقليد وأضاف لهذه الملحمة عنصرا جديدا، عندما صوّر النظام البيئيّ الهشّ للقطب وهو يتعرّض للتهديد بسبب الاحتباس الحراري.
    على جبهة الرسم، ثمّة رسّامون كثر صوّروا المناظر الطبيعية في القطب، بدءا من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومثال هذا لوحة الشفق القطبي في استراليا لجورج مارستون الذي رافق شاكلتون في رحلته المشئومة، وكذلك لوحة الرسّام البريطاني جورج تشيمبرز بعنوان مياه القارّة القطبية من عام 1834.
    لكن وليام برادفورد كان أفضل رسّام رسم تلك النواحي. ولأنه كان يزور المناطق القطبية بانتظام محاولا ترجمة تضاريسها غير العاديّة، فقد صوّر بطريقة درامية الأخطار التي يتعرّض لها البشر الذين يغامرون بالدخول إلى ذلك العالم المرعب.
    ومن أهمّ اللوحات الأخرى ذات الصلة بطبيعة القطب لوحة الشفق القطبي لفريدريك تشيرش. وقد أخذ هذا الرسّام التسامي الرومانتيكي بعيدا عن أرضه المألوفة، أي جبال الألب الأوربّية وغرب الولايات المتحدة التي كان يحتفي بها الرسّام البيرت بيرستادت.
    تشيرش سافر إلى أدغال وبراكين أمريكا الجنوبية. وفي عام 1861، انتقل إلى لبرادور ونيوفاوندلاند كي يرسم جبال الجليد ، وكرّر رسم تلك الفكرة مرارا.
    وهناك رسّامون كثيرون ضمّنوا مثل تلك المناظر بشرا يناضلون بطريقة بطولية للتأكيد على عنصري الخطر والشجاعة، بينما كان تشيرش يعبّر عن الرهبة من منظر الطبيعة، وهي القوّة التي تقزّم طموحات البشر.
    ومثل تلك اللوحة مفهومة في سياق ظروف القرن التاسع عشر. لكنها أيضا يمكن أن تعبّر اليوم عن المخاوف البيئية لإنسان العصر الحديث.
    التفاوت في الحجم بين حضور الإنسان وروعة الطبيعة أكثر دراماتيكية في لوحة الشفق القطبي. في هذه اللوحة المدهشة تبدو السفينة مثل خيط باهت في بحر من الألوان الفيروزية والذهبية والحمراء. المروحة الناريّة من الأضواء الملوّنة في السماء والمرتفعة من كتلة مركزية في الظلّ.. مذهلة.

    ❉ ❉ ❉

    شتراوس: ملك الفالس


    في بدايات سماعي للموسيقى الكلاسيكية، أذكر أن أوّل مقطوعتين سمعتهما للموسيقيّ النمساوي يوهان شتراوس الابن كانتا معزوفتيه الجميلتين حكايات من غابات فيينا والدانوب الأزرق "فوق". والحقيقة أن المعزوفات الراقصة لهذا الموسيقيّ مألوفة كثيرا ومعروفة في كلّ مكان من العالم تقريبا.
    اسم شتراوس ارتبط بروسيا، حيث قابل هناك في العام 1868 فتاة ثريّة، وغيّر ذلك اللقاء حياته إلى الأبد. لكن تلك قصّة سنأتي على تفاصيلها بعد قليل.
    شتراوس الثاني، كما يُسمّى في أوساط الموسيقى الكلاسيكية، كان يحاول أن يُثبت للعالم انه ملك موسيقى الفالس وأنه أحقّ بهذا اللقب من والده الذي يحمل أيضا نفس الاسم والمعروف في النمسا كواحد من أشهر مؤلّفي الموسيقى الكلاسيكية الموهوبين.
    شتراوس الأب فعل الكثير لموسيقى الفالس واستطاع أن يحصل على شهرة واسعة، ليس فقط في فيينا، وإنّما أيضا في كافّة أنحاء أوربّا.
    أطفاله الذين ولدوا في العائلة لم يكونوا غالبا يرون والدهم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت له خليلة أنجبت له عددا من الأطفال، لكن شتراوس الأب لم يكن يخجل من ذلك أو يشعر بالذنب.
    وقد اقسم الصغير يوهان ذات مرّة أن يتفوّق على والده. كان جريئا ويعمل بجدّ، وقد ثابر على دراسة الموسيقى مخفيا طموحاته عن والده.
    وسرعان ما أصبح الصبيّ عازفا مشهورا. وقد دعاه السفير الروسيّ في فيينا لزيارة سانت بطرسبورغ ليحيي حفلات موسيقية فيها. وسُرّ لعزفه الجمهور هناك، كما دعته العائلات الموسرة في المدينة ليحيي حفلاتها الخاصّة.
    كان الاستماع إلى شتراوس نوعا من التميّز. وهو كان عاشقا حقيقيا للنساء. وقد أعجب بنساء روسيا ومنحهنّ الكثير من وقته. وذات يوم، قابل امرأة ارستقراطية اسمها اولغا سمارنيتسكايا. وقد طلبت منه أن يؤلّف موسيقى تحكي قصصها الغرامية التي تستند فيها إلى قصائد لشعراء روسيا المشهورين. وبسبب ذلك اللقاء ولدت سيمفونيّته المسمّاة "حبّ روسيّ".
    وقد تبادل كلّ من شتراوس وسمارنيتسكايا الرسائل الغرامية، وما تزال حوالي مائة من هذه الرسائل محفوظة إلى اليوم. وبعض مؤلّفاته الموسيقية استوحاها من قصّة الحبّ التي جمعته مع تلك المرأة، مثل وداعاً سانت بطرسبورغ وغيرها.
    كان شتراوس يتوق للزواج من أولغا. لكن عائلتها ظلّت ترفض الفكرة على أساس أن شتراوس لم يكن نبيلا وإنّما أتى من عائلة فقيرة. أما موهبته الموسيقية فعلى ما يبدو لم تكن ذات أهمّية بالنسبة لوالدي الفتاة.
    اولغا الحائرة لم تستطع أن تتصرّف خلافا لرغبة والديها. ومع ذلك طلب منها شتراوس أن تهرب معه إلى فيينا، لكنها رفضت ذلك بإصرار. وعاد هو إلى النمسا بمفرده. لكنه لم يستطع نسيانها أبدا. كان يعاني كثيرا بسبب ولعه بها، وفي نفس الوقت كان يحلم برحلة أخرى إلى روسيا.
    وقد كتب إليها في الأيّام الأولى لفراقهما رسالة يقول فيها: احبّك بجنون. ومن المستحيل أن أعيش بدونك. لا توجد متعة لي في هذه الدنيا ولا أمل اكبر من اللقاء بك".
    وبعد ذلك بعام، عاد إلى روسيا ليرى اولغا، وطلب منها الزواج مجدّدا. لكنها رفضت لأنها لا تريد إغضاب والديها. وغادر هو عائدا إلى النمسا. وبعد أشهر علم أنها تزوّجت من شخص آخر ثريّ يعمل بالمحاماة. ولكي ينسى القصّة، بدأ يواعد النساء، وبعد سنوات بدأت فيينا تتحدّث عن مغامراته.
    وعلى كلّ حال، تزوّج شتراوس في النهاية. كانت زوجته امرأة تكبره بسبع سنوات، ممثّلة وأمّ لعدد من الأطفال. وقد عاشت معه ستّة عشر عاما كانت خلالها الزوجة الوفيّة والمخلصة. وعندما ماتت صُدم، لكنه لم يلبث أن تزوّج من امرأة أخرى. وزوجته الثانية كانت هي أيضا ممثّلة شابّة. واستمرّ زواجه منها حتى وفاته بالالتهاب الرئوي عام 1899.

    ❉ ❉ ❉

    عالم صغير وملل كثيرة


    هذا العالم صغير جدّا، اصغر من أن نتجاهل نحن البشر بعضنا البعض. ومع ذلك فمعظمنا لا يعرف أيّ شيء سوى دينه أو مذهبه الضيّق، ولا يعرف شيئا عن أديان ومعتقدات الآخرين أو عن الدين السائد في المكان الذي يقيم فيه.
    وعندما نروّج للصور النمطية عن البشر الذين يختلفون عنّا (كالقول هؤلاء كفرة عبدة صليب وأولئك مجوس مشركون وهؤلاء مارقون أو أهل بدع وضلالات.. إلى آخر تلك الأوصاف الفجّة والغريبة) بسبب أننا لا نعرف عن معتقداتهم وعنهم الكثير ولا نعي أن الله وحده هو من يحكم على العباد، فإن تلك الصور النمطية تُبقينا محبوسين داخل أقفاصنا وسجوننا.
    وعندما تعمد إلى تصنيف الآخر وإقصائه لأنه مختلف عنك، وليس بالضرورة لأنك أفضل منه أو لأن دينك أو مذهبك اصحّ من دينه أو مذهبه، فإنك بنفس الوقت تحكم على نفسك بالإقصاء والنبذ وتصبح بنظر الأسوياء والعقلاء شخصا متحجّرا ومنغلق العقل.
    كيف يمكن أن تحبّ جيرانك دون أن تعرف وتحترم وتقدّر ما يعتبرونه مقدّسا وعزيزا على أنفسهم؟
    عندما نقترب من الآخرين ونراعيهم ونحترمهم، فإننا نسهم في تعزيز روح السلام والتسامح بين بني الإنسان وفي جعل الأرض مكانا أفضل للعيش.
    وأختم بعبارة قرأتها مؤخّرا وأعجبتني تقول: التسامح ليس معناه ألا يكون لك دين أو معتقد، بل كيف يوجّهك دينك عندما تتعامل مع الناس المخالفين لك".

    Credits
    essentialvermeer.com
    johann-strauss.org.uk

    الجمعة، يوليو 04، 2014

    لوحات وروايات/2

    الكاتبة الأمريكية دونا تارت هي آخر من ألّف رواية تستند في موضوعها إلى لوحة تشكيلية. هذه الرواية هي التي سنتوقّف عندها في هذا الجزء بشيء من التفصيل. عنوان الرواية طائر الحسّون وهي ثالث رواية للكاتبة. وقد نالت عليها جائزة البوليتزر ولاقت صدى طيّبا عند الجمهور والنقّاد. مؤلّف روايات الرعب ستيفن كنغ كتب عن الرواية واصفا إيّاها "بالعمل النادر المكتوب بذكاء والذي يخاطب العقل والقلب معا".
    تدور أحداث الرواية حول بورتريه صغير لطائر حسّون رسمه فنّان هولندي يُدعى كارل فابريتسيوس قبل 350 عاما.
    وبطل الرواية صبيّ مراهق اسمه ثيو يصطحب أمّه ذات يوم إلى متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. وفي إحدى قاعات المتحف يتوقّف الاثنان أمام لوحة الطائر الصغير كي يتأمّلا تفاصيلها. وبينما هما هناك، تنفجر قنبلة فجأة ويروح ضحيّتها عشرة أشخاص من بينهم والدة الصبيّ.
    وأثناء الفوضى التي تلي الانفجار يأخذ ثيو اللوحة ويحملها معه إلى خارج المتحف. وبقيّة الرواية الطويلة تخبرنا ما الذي حدث للصبيّ وللوحة بعد ذلك. يتذكّر الصبيّ، مثلا، ما حدث له منذ الانفجار ويدرك أن قدره أصبح مرتبطا بهذه اللوحة الصغيرة، وأنه كلّما أطال إخفاءها كلّما أصبح اقلّ قدرة على إعادتها.
    يقول البطل في مكان ما من الرواية: بين الواقع والنقطة التي يتلامس فيها مع العقل، ثمّة منطقة وسطى؛ حافّة قوس قزح حيث يمتزج سطحان مختلفان جدّا وتضيع الحدود بينهما ليوفّرا ما لا توفّره الحياة. هذا هو الفضاء الذي يولد فيه الجمال وتوجد فيه كلّ الفنون".
    والسؤال الذي تطرحه الرواية هو: ما الذي يجعل الفنّ فنّا، وما الذي فعلته لوحة عمرها أكثر من 300 عام بطفل صغير؟
    لكن ترى ما الذي لفت انتباه دونا تارت في هذه اللوحة الضئيلة كي تجعلها موضوعا لرواية؟
    اللوحة صغيرة جدّا. ومع ذلك فهي تحتفظ بسحرها الخاصّ رغم وجودها في غرفة تضمّ خمس عشرة لوحة أخرى لفنّانين هولنديين كبار مثل هولس وفيرمير وستين ورمبراندت.
    في لوحة فابريتسيوس هذه، هناك شيء ما غامض؛ شيء لن تجده في طبعاتها المستنسخة، لكنك سرعان ما ستكتشفه عندما تقف أمام النسخة الأصلية من هذه اللوحة المدهشة.
    وفيها نرى طائرا مغرّدا من نوع الحسّون، وهو طائر معروف بلونه الأصفر الفاتح وبرأسه المبقّع بالأحمر وكذلك بجناحيه الأسودين. في زمن فابريتسيوس كان هذا النوع من الطيور يعامل كطائر أليف في المنازل وكان يجري تعليمه الكلام والحيل.
    الطائر يظهر في اللوحة معتليا قفصا خشبيا بينما رُبطت إحدى قدميه بسلسلة. وقد رُسم بطريقة بارعة وبعدد محسوب من ضربات الفرشاة. يمكنك أن تحدّق في اللوحة لعام كامل وتتمعّن في ألوانها وفي أسلوب رسمها، ولا تستطيع أن تعرف كيف رسمها الفنّان ولماذا.
    غير أن وراء هذه اللوحة قصّة لا تخلو من إثارة ومأساوية. فقد رسمها كارل فابريتسيوس في نفس السنة التي مات فيها. وقد قُتل وعمره لا يتجاوز الثانية والثلاثين بانفجار في مستودع للبارود في مدينة ديلفت الهولندية عام 1654م.
    في ذلك الانفجار، دُمّرت معظم لوحاته. وحدها "طائر الحسّون" مع بضع لوحات أخرى هي التي نجت. والشخص الذي يشرح اللوحة لزوّار المتحف في نيويورك يزعم انك لو نظرت إلى سطح اللوحة عن قرب فسترى بعض آثار ذلك الانفجار بوضوح.
    بعض المصادر التي تعود إلى تلك الفترة تذكر أن الانفجار لم يتسبّب فحسب في قتل الرسّام وتدمير محترفه وإتلاف معظم أعماله، وإنما دمّر أيضا ربع مباني المدينة.
    حياة كارل فابريتسيوس كانت قصيرة جدّا. ولوحاته الباقية اليوم قليلة لا يتجاوز عددها العشر، وكلّ واحدة منها تحفة فنّية. كان رسّاما واعدا، وكان أنجب تلاميذ رمبراندت، كما كان له تأثير على فيرمير. اهتمامه بالتأثيرات البصرية، ثمّ حقيقة انه استقرّ في ديلفت، تعني انه كان يُنظر إليه كجسر بين رمبراندت وفيرمير.
    ويقال إن فيرمير نفسه تأثّر بهذه اللوحة الصغيرة عندما كان يعمل على لوحته التي أصبحت في ما بعد أشهر لوحة هولندية، أي "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي".
    والأمر الذي لا خلاف عليه هو أن "طائر الحسّون" لم تفقد شيئا من قوّتها وبريقها خلال القرون الثلاثة الماضية، كما يقول ثيو في آخر صفحات الرواية. "شيء عظيم ورائع أن تحبّ ما لا يستطيع الموت لمسه".

    Credits
    therumpus.net
    literaryreview.co.uk

    الخميس، يوليو 03، 2014

    لوحات وروايات

    أحيانا قد تنظر إلى لوحة أو صورة ما فيساورك إحساس بأنها تحكي عن قصّة أو أنها يمكن أن توفّر أساسا لكتابة قصّة أو رواية. والصورة، أيّة صورة، حتى إن كانت ساكنة ظاهريا، ليست في النهاية سوى تعبير عن حركة وسيرورة الزمن.
    والمعنى أو الطابع السردي الذي نضفيه على صورة ما ليس سوى انعكاس لمخيّلتنا. كما أن الفنّ في نهاية الأمر ليس سوى رمز أو استعادة لشيء ما اكبر.
    وفي السنوات الأخيرة، راجت ظاهرة الروايات الأدبية التي تعتمد على أعمال تشكيلية. وأقرب مثال على ذلك يرد إلى الذهن هو رواية الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة تريسي شيفالييه. هذه الرواية تعتمد على لوحة بنفس الاسم للرسّام الهولنديّ يوهانس فيرمير.
    وكانت شيفالييه قد رأت اللوحة لأوّل مرّة في نيويورك وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز التاسعة عشرة. وقد فُتنت بملامح الفتاة في اللوحة وبابتسامتها الغامضة. ثم اشترت نسخة من اللوحة وعلّقتها في بيتها، قبل أن تبدأ في كتابة روايتها. وقد حقّقت الرواية نجاحا كبيرا ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي حقّق هو الآخر نجاحا واسعا.
    وبالتأكيد عندما تنظر إلى لوحة فيرمير هذه لا بدّ وأن تحبّها. والحقيقة أن الملمح السردي، أي قابلية اللوحة لأن تتحوّل إلى قصّة أو رواية، لا يقتصر على هذه اللوحة فحسب، بل يمكن ملاحظته بوضوح في العديد من اللوحات الهولندية الأخرى التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي إلى العصر الذهبي للرسم الهولندي.
    الكثير من اللوحات الهولندية من ذلك العصر، أي عصر رمبراندت وفيرمير ودي هوك وهولس وفان اوستيد، توفّر لحظات سلام وتستحضر تأمّلا وجدانيّا وروحيّا. ولا يمكن للإنسان إلا أن يُعجَب بها لجمالها وإلهامها وأصالتها وأسلوبها وألوانها والبراعة التي نُفّذت بها.
    أنظر مثلا إلى هذه اللوحة أو هذه . كلّ من هاتين اللوحتين يمكن أن تنبني عليها قصّة أو رواية متخيّلة.
    وكلّ أولئك الرسّامين كانوا من العباقرة. لكن فيرمير، على وجه الخصوص، ظلّ لغزا عصيّا على الفهم. وما كُتب عنه وعن حياته قليل. لكن مناظره، بنسائها المثيرات وأماكنها المتقشّفة وما تستدعيه من هدوء وسكينة، تسمح ببعض الشروحات عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية.
    والنقّاد والروائيون ما يزالون إلى اليوم يبحثون عن قصص ورموز ورسائل خفيّة قد تكون اُودعَت في تلك الصور التي رسمها فيرمير والتي تشبه الأفلام الصامتة أو اللحظات الدرامية في الحياة. وفي هذه الأيّام ترك فيرمير بصمته على كلّ شيء ووجدت لوحاته تعبيرا لها في كلّ اتجاه تقريبا، من الأوبرا إلى الطوابع البريدية والموسيقى والإعلانات.
    اللوحات الروسية هي الأخرى غنيّة بالخصائص السردية. تأمّل مثلا هذه اللوحة لايليا ريبين أو هذه لفالانتين سيروف. كلّ من هاتين اللوحتين تصلح موضوعا لقصّة أو رواية. ولوحتي المفضّلة من هذا النوع من الرسم السردي أو الذي يمكن تكييفه وتحويله إلى عمل أدبيّ هي هذه . أمّا الأسباب فقد أتحدّث عنها في ما بعد.
    بالإضافة إلى رواية تريسي شيفالييه المعتمدة على لوحة فيرمير، ألّف دان براون رواية بعنوان شيفرة دافنشي تبدأ أحداثها بمشهد العثور على شخص مقتول داخل متحف اللوفر بينما يشير وضع الجثة إلى لوحة إنسان فيتروفيوس لليوناردو دافنشي.
    كما كتبت جين كالوغريديس رواية بعنوان موناليزا تجري أحداثها في فلورنسا القرن الخامس عشر وتحكي عن حياة المرأة التي تظهر في اللوحة المشهورة وعن مشاكلها وخيباتها العاطفية.
    وكتبت اليزابيث هيكي رواية بعنوان القبلة المرسومة تحكي من خلالها قصّة الحبّ التي ربطت الرسّام النمساوي غوستاف كليمت بالعارضة ايميلي فلوغي التي ستصبح في ما بعد موديله المفضّلة والتي ستظهر في لوحته المشهورة القبلة.
    سوزان فريلاند الّفت، هي الأخرى، رواية بعنوان فتاة بفستان ازرق نيلي . الكاتبة تنطلق في روايتها من حقيقة معروفة وهي أن فيرمير لم يترك وراءه سوى 35 لوحة فقط. غير أنها تفترض وجود لوحة مفقودة للرسّام، ثم تبدأ بتعقّب اللوحة المزعومة أثناء انتقالها من مالك لآخر.
    وللحديث بقيّة غدا..

    الخميس، فبراير 21، 2013

    رجل الغيم

    للحظات، شعرتُ بالغيرة من الغيوم. لماذا كان يحدّق فيها باحثا عن ملاذ عندما كنت بجانبه؟!
  • كاميلا شمسي، روائية وكاتبة باكستانية

    لزمن طويل، ظلّت الغيوم مصدرا لاهتمام وافتتان البشر، رغم أن تصنيفها من قبل خبراء الأرصاد تمّ فقط في وقت مبكّر من القرن التاسع عشر. ترى، هل الغيوم كائنات؟ هل هي ظواهر؟ شكل من أشكال الإدراك؟
    صحيح أننا أصبحنا اليوم نعرف الكثير من أسرار الغيوم، مثل أنها تتشكّل عندما يرتفع الهواء الرطب إلى طبقات الجوّ العليا ومن ثمّ يبرد ويتكثّف متحوّلا إلى مطر. لكن ازدياد شعبية هواية اكتشاف الغيوم وتعقّبها يوحي بأنها ما تزال تخفي أكثر ممّا يمكن للعين أن تراه.
    الغيوم تجذب العين إلى أعلى، إلى حيث ديناميات الفضاء والسماء الواسعة، مثل الحركة والارتفاع والمسافة. وبالنسبة إلى معظمنا، فإن الغيوم تثير الأفكار والحالات الداخلية المرتبطة بالتسامي والتأمّل والعزلة.
    الغيوم محيّرة، ليس لأنها تتكوّن من مزيج من العناصر، أو لأنها تغيّر شكلها باستمرار، ولكن لأنها تتحدّى الظواهر المرئية.
    نقطة التحوّل في فهم الإنسان لظاهرة الغيوم حدثت في أوائل القرن التاسع عشر، عندما نشر العالم الانجليزي لوك هاوارد تصنيفه المشهور للغيوم كجزء من علم الأرصاد الجوّية الذي كان آنذاك ما يزال في مراحله الجنينيّة.
    هاوارد صنّف الغيوم إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الغيوم الرقيقة، والغيوم الركامية، والغيوم الطبقية. وكلّ غيمة هي تنويع على احد هذه الأنواع الثلاثة أو حالة انتقالية بين نوعين منها.
    الغيوم تؤدّي وظائف كثيرة، فهي وسيط للكشوفات والنبوءات، إذ من خلالها تُظهر الآلهة نفسها. كما أنها ملعب لخيالات البشر، حيت يمكن أن نرى فيها الكثير من الأشكال والمخلوقات. الغيوم يمكن أن تكون موسيقى مزاجية أو خلفية لمشهد من فيلم. الغيوم ظاهرة طبيعية معقّدة تتحدّى قدرة الإنسان على الملاحظة الدقيقة.
    فنّانو وشعراء الحقبة الرومانسية استخدموا الغيوم كرمز للحركة والتحوّل والتلاشي، وأحيانا للحرّية والارتباط بقوى ما فوق الطبيعة. كانت السماء بالنسبة لهم عبارة عن ورشة عمل كبيرة. وأفكار هاوارد، الذي قال بإمكانية التنبّؤ بالطقس من خلال مراقبة حركة الغيوم، كانت مصدر إلهام كبير للشعراء الرومانسيين الانجليز مثل بيرسي شيللي ووليام ووردزوورث.
    شيللي وجد في الغيوم صورة عن الثبات في حالة التغيّر، كما تعبّر عن ذلك قصيدته بعنوان الغيمة والتي يقول فيها:
    أنا ابنة الأرض والمياه وشتلة السماء، أمرّ عبر مسامّ المحيطات والشواطئ، أتغيّر ولكن لا أموت. بعد المطر، يصبح رواق السماء عارياً. أخرج من كهوف المطر مثل طفل خارج من الرحم، مثل شبح من القبر".
    ووردزوورث كتب، هو الآخر، قصيدة بعنوان أزهار النرجس تتضمّن ما يصفه بعض النقّاد بأنه أجمل استهلال لقصيدة في الشعر الإنجليزي. يقول في تلك القصيدة:
    كنت أتجوّل وحيدا مثل غيمة تطفو عاليا فوق الوديان والتلال، عندما رأيت مجموعة من أزهار النرجس البرّي بجانب البحيرة وتحت الأشجار، وهي تصفق وترقص في النسيم".
    الغيوم هي أيضا مصدر مهمّ للعديد من الاستعارات اللغوية المختلفة التي تصف الحالات المزاجية للإنسان. ولسوء الحظ، فإن معظم هذه الاستعارات سلبية، من قبيل عبارة "غيمة صيف"، أو "غيمة مخيّمة في الأفق" كناية عن الأخبار السيّئة، أو النصيحة التي عادة ما نسديها لصديق بأن "يطرد الغيوم بعيدا". وهناك التعبير الآخر الأكثر حداثة الذي ينصحك بأن تتبنّى "تفكير السماء الزرقاء"، أي أن تحكم على الأمور دون أفكار مسبقة أو جاهزة.
    قرأت ذات مرّة عن جماعة أخذت على عاتقها مهمّة تغيير أفكار الناس السلبية عن الغيوم باعتبارها نذيرا للمشاكل والأزمات. وأعجبني وصف الجماعة للغيوم بأنها "شعر الطبيعة" وأنها مألوفة جدّا لدرجة أن جمالها كثيرا ما يتجاهله الناس، وأن الحياة ستصبح رتيبة ومملّة لو أننا نرى كلّ يوم سماءً صافية تخلو من الغيوم.
    كارل يونغ، عالم النفس النمساويّ الشهير، كتب مرّة قصّة بعنوان "صانع المطر" لها علاقة بالموضوع. تقول القصّة انه حدث ذات زمن في الصين أن انقطع المطر لأشهر طويلة، وأدّى الجفاف الشديد إلى موت النباتات ونفوق الكثير من الحيوانات.
    ومع مرور الأيّام أصبح الوضع كارثيّا. وخرج الكاثوليك في مواكب تعبدّية، كما أقام البروتستانت صلوات استسقاء، وأطلق الصينيّون رصاص بنادقهم لطرد وإخافة الشياطين. لكنّ ذلك كلّه لم يحقّق أيّ نتيجة.
    وفجأة خرج من بين الجموع رجل عجوز، وقال: أنا سأجلب المطر". ثم حبس الرجل نفسه في منزل صغير لثلاثة أيّام. وفي اليوم الرابع تجمّعت الغيوم الثقيلة في السماء وهبّت عواصف قويّة، وما لبث المطر أن انهمر بغزارة.
    الإمبراطور الذي كان يراقب ما يحدث بذهول أمر بإحضار الرجل صانع المطر ليسأله كيف فعل ذلك. فقال العجوز: في هذا المكان، لم تكن الأمور على ما يُرام، ولم يكن كلّ شيء مرتّبا بحيث يوافق أوامر السماء. لذا كان عليّ أن انتظر ثلاثة أيّام حتى تعود الأمور إلى نظامها الصحيح، ومن ثمّ نزل المطر بشكل طبيعيّ ودون تدخّل منّي".
    الفكرة التي ساقها العجوز لها أصل في الفلسفة الطاويّة، وهي تنسجم مع الاعتقاد القديم بأن هناك دائما تلازماً وتزامناً ما بين حالة الطقس والحالة الذهنية للإمبراطور أو حاكم البلاد.
    الغيوم لها أيضا حضور قويّ في الرسم. ومن أشهر من رسمها كلّ من كلود مونيه وأوجين بودان وجوزيف تيرنر ويوهانس فيرمير وألبيرت بيرستات وألفريد سيسلي وبيير اوغست رينوار وإل غريكو وإيساك ليفيتان وفان غوخ.
    لكنّ أشهر وأكثر من رسم الغيوم وفُُتن بمناظرها كان الرسّام الانجليزي جون كونستابل، أحد أعظم رسّامي المناظر الطبيعية في تاريخ الفنّ. كان هذا الرسّام مراقبا دقيقا للطبيعة، وكان دائما يرسم ما يراه. وفي رسوماته، لن تعثر على آلهة من زمن الإغريق أو الرومان ولا على أيّ مخلوقات أسطورية.
    ولد جون كونستابل في الريف الذي كان يحبّ طبيعته. ورسوماته عن ريف انجلترا تصوّر مشاهد من حياة الأرياف، مع فلاحين وخيول وماشية وعربات ومنازل وكاثدرائيات وأشجار ومياه وسماء، وقبل هذه وتلك.. غيوم.
    ولم يكن من قبيل الصدفة أن الدراسة الأكثر تفصيلا عن الغيوم التي رسمها كونستابل كانت مستوحاة من خبير أرصاد جوّية. إذ كان الرسّام على معرفة بتصنيفات هاوارد المشهورة للغيوم. وخلال تلك الفترة، وضع كونستابل على الأقل 100 دراسة عن الغيوم وحدها. والعديد من تلك الرسومات كانت مصحوبة بملاحظات حول الوقت من اليوم وجوانب أخرى من الطقس، كاتجاهات الرياح وخصائص الضوء والظلّ وما إلى ذلك. وقد أصبحت تلك الدراسات موضوعا للعديد من الكتب التي ظهرت في ما بعد.
    الغيوم والسماء هما السمتان المهيمنتان على فنّ جون كونستابل، وهما اللتان تحدّدان المزاج الخاصّ لكلّ لوحة من لوحاته. كان الرسم عنده علماً ووسيلة لفحص قوانين الطبيعة. وكان يعتقد بأن الطبيعة هي التمظهر الأسمى والنهائيّ لإرادة الله. ويمكن النظر إلى مشاهده باعتبارها فرعا من الفلسفة الطبيعية التي تتحوّل فيها الصور إلى تجارب وتأمّلات.
    كان كونستابل يرى في الغيوم مشاعر الطبيعة، وكان يصف نفسه بـ "رجل الغيم". الغيوم بالنسبة له هي تعبيرات عن أمزجة الغلاف الجويّ، ويمكن قراءتها مثل قراءة أفكار الإنسان. إنها رمز للجمال الذي يزول سريعا، وتأمّلها يفيد الروح ويرقّق المشاعر.
    اسكتشات كونستابل العديدة عن الغيوم هي تمارين في تمثيل الفراغ والمنظور والكتلة والحالات الذهنية المختلفة التي تعجز اللغة أحيانا عن وصفها. الطقس والمزاج عنده يتمازجان مع دراما السماء. السماء الزرقاء تثير الهدوء، والغيوم الداكنة والمطر والضباب توحي بالأحداث والمشاعر العاصفة. وفي نفس الوقت، فإن غيومه مشبعة بمفردات عصر الثورة الصناعيّة، كالجسور الحديدية وتقنيات الحفر والهندسة الفيكتورية.
  • الخميس، ديسمبر 20، 2012

    عن الكتب والقراءة

    قراءة كتاب جيّد هو احد الأشياء المفضّلة عند الكثيرين، لأن القراءة تعلّم الإنسان وتُكسبه المزيد من المعارف والخبرات. وبعض الناس يتوقون لأن يقرءوا أكثر وأكثر، لكنهم لا يعرفون كيف.
    بداية، لا تقرأ لأنك ينبغي أن تقرأ، بل اقرأ من اجل المتعة. إبحث عن الكتب التي تتحدّث عن قصص وتجارب مثيرة، عن أناس يفتنونك، عن عوالم جديدة ترغب في أن تسافر إليها وتستكشفها. إنسَ الكتب الكلاسيكية، عدا تلك التي تلبّي هذه الشروط.
    حاول أن تختار وقتا مناسبا للقراءة. عادة لا يتوفّر لدينا الوقت الكافي لقراءة المزيد من الكتب، ربّما لأننا نعمل كثيرا، ولدينا المزيد من الارتباطات، كما أننا نقضي وقتا أطول ممّا ينبغي في مشاهدة التلفزيون.
    إبدأ بعشر دقائق فقط إذا كان من الصعب أن تجد وقتا أطول للقراءة. حتى عشر دقائق تعتبر بداية معقولة. ثم حاول أن تقرأ لعشرين أو ثلاثين دقيقة، ولو كان ثمن ذلك إسقاط بضعة أشخاص من جدولك اليومي.
    عندما تبدأ القراءة، ألغِ كافّة الأشياء التي تصرف انتباهك عن الكتاب. إبحث عن مكان هادئ، ولا تفكّر في فعل أشياء أخرى وأنت تقرأ.
    القراءة نوع من السحر وهي كفيلة بتغيير كلّ شيء في حياتك. حاول أن تجعل القراءة عادة اجتماعية. إبحث عن أصدقاء يحبّون القراءة أو تعرّف عليهم في الانترنت. هناك عالم كامل من القرّاء في العالم الافتراضي، ويمكنك التحدّث معهم عن الكتب التي تقرؤها وتلك التي يقرءونها.
    جرّب نادياً للقراءة. صحيح أن القراءة عمل فردي في الأساس، ولكنّها أيضا عادة اجتماعية.
    إجعل القراءة عاملا لكسر روتينك اليومي. واقرأ يوميا وباستمرار حتى لو كانت مدّة القراءة لا تتجاوز الخمس أو العشر دقائق كلّ يوم. وكلّما كنت أكثر انتظاما كلّما تجذّرت لديك عادة القراءة أكثر فأكثر.
    لا تجعل من القراءة عملا روتينيا. ولا تدرجها ضمن قائمة الأعمال التي يتوجّب عليك القيام بها. كما لا يجب أن تكون القراءة جزءا من برنامج تحسين الذات الخاصّ بك، بل جزءا من خطّتك لجعل حياتك أكثر إمتاعا وتميّزا.
    تخلّ عن أيّ كتاب متى ما وجدته مملاً. أنت تقرأ لأن القراءة متعة. وإذا كان الكتاب غير ممتع، فألقه بعيدا. حاول أن تقرأ فصلا منه على الأقل، ولكن إن أحسست انك ما تزال لا تحبّه، فاتركه.
    إكتشف الكتب المدهشة. تحدّث إلى أشخاص آخرين يعشقون الكتب، واقرأ استعراضات الكتب التي تنشرها الصحف ومواقع الانترنت، وحاول اكتشاف محلات بيع الكتب القديمة.
    لا تقلق بشأن سرعتك في القراءة. سرعة القراءة هي شيء جيّد بالنسبة للبعض. ولكنّ القراءة البطيئة عملية عظيمة أيضا. عدد الكتب ومعدّل القراءة لا يهمّان أبدا. المسألة ليست منافسة. أنت تقرأ لكي تستمتع بالكتاب. القراءة تشبه الاستمتاع بالطعام أو الشراب الجيّد. لذا خذ وقتك، واقرأ ببطء ودون تعجّل.

    معظم الناس اليوم يفضّلون قراءة الروايات. الرواية ما يزال لها سحرها الخاص. وهي، بمعنى ما، آلة زمنية تنقلك إلى عقول أشخاص رائعين وتتيح لك متعة السفر عبر العالم. كما أنها استكشاف مذهل للحبّ والموت والجنس وعالم المجرمين والحكايات الخيالية.
    هناك روايات كثيرة ومدهشة يمكن أن تستمتع بقراءتها وتثري بها مكتبتك. وفي ما يلي قائمة ببعض أفضل الروايات العالمية وضعها شخص يعشق القراءة ويمارس الكتابة. هذه القائمة هي لروايات فقط، أي لا مذكّرات ولا قصص قصيرة ولا دواوين شعر. وقد وُضعت بتسلسل عشوائي وليست مرتّبة بحسب أفضليّتها. وبالتأكيد هناك الكثير من الكتب العظيمة التي قد ترى أن القائمة تخلو منها.

  • الحبّ في زمن الكوليرا للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: رواية مشوّقة عن حبّ رجل لامرأة أثمر بعد انتظار دام 50 عاما. من خلال نثره الشاعريّ والفخم، يتحدّث ماركيز عن العلاقات الإنسانية وعن الحبّ والزواج والشيخوخة.
  • مهد القطّة للكاتب الأمريكي كيرت فونيغوت: لا يمكن أن تملّ من قراءة مؤلفات هذا الكاتب البارع. ومهد القطّة هي ولا شكّ أفضل كتبه. الرواية هزلية وساخرة، وفكرتها الأساسية تقول إن عالمنا كلّه مقام على الخداع والنظريات الزائفة وأنه برغم الاختراقات العلمية والتكنولوجية الكثيرة ما يزال هذا العالم لغزا وسيظلّ كذلك.
  • الرجل البطيء للكاتب الاسترالي جون كويتسي: هذا الكاتب يُعتبر احد أعظم الكتاب الأحياء اليوم. وبإمكانك أن تختار أيّا من كتبه وتطمئنّ إلى انك اخترت كتابا ممتازا. رواية الرجل البطيء عبارة عن حكاية تدور أحداثها على الحدود الفاصلة ما بين الواقع والخيال ويناقش فيها الكاتب مسائل مثل الحبّ والموت ومعنى الوطن والخير من خلال شخصيات صيغت بعمق وفهم.
  • صورة الفنّان في شبابه للكاتب الايرلندي جيمس جويس: رواية حداثية عظيمة كتبت بلغة راقية. ما يميّز هذه الرواية أيضا براعة الراوي في سرد الأحداث.
  • غاتسبي العظيم للكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد: هذا الكاتب شاعري بامتياز. وروايته هذه، الصغيرة نسبيّاً، تتضمّن الكثير من القوّة والجمال. غاتسبي العظيم تتناول قصّة حبّ عن أمريكا تجري أحداثها في عشرينات القرن الماضي.
  • آنا كارينينا للكاتب الروسي ليو تولستوي: واحدة من أعظم الروايات في جميع العصور. كارينينا عبارة عن قصص متشابكة بشكل لا يُصدّق يحكيها راوٍ متجوّل وذو معرفة لا تحدّها حدود.
  • خفّة الكائن التي لا تُحتمل للكاتب التشيكي ميلان كونديرا: رواية كلاسيكية عظيمة تدور أحداثها في تشيكوسلوفاكيا في أواخر ستّينات القرن الماضي. كونديرا يستكشف في روايته هذه عبثية الوجود الإنساني بلغة جميلة ومكثّفة.
  • المتكهّن العصبي للكاتب الأمريكي وليام غيبسون: رواية خيالية رائعة يتخيّل فيها الكاتب عالما تحكمه الشركات الكبرى ومنظمّات الجريمة بدلا من الشعوب. إقرأ هذه الرواية إن كنت من محبّي روايات الخيال العلمي التي تتحدّث عن الكمبيوتر والسايبرسبيس.
  • اسم الوردة للكاتب الايطالي امبيرتو ايكو: رواية فلسفية تدور أحداثها في دير ايطالي في العام 1327م. الدير يضمّ كنزا من نفائس الكتب المخبّأة خلف متاهة من الأسرار والحكايات الغامضة.
  • النوم الكبير للكاتب الأمريكي ريموند تشاندلر: إحدى أفضل روايات الجاسوسية. في هذا الكتاب يأخذ تشاندلر هذا النوع من الكتابة إلى آفاق جديدة. وهناك أجيال من الكتّاب الذين ترسّموا خطاه، لكنّه يظلّ الأفضل، وكتاباته ما تزال وثيقة الصلة بالواقع اليوم.
  • بجعات برّية للكاتبة الصينية يونغ تشانغ: هذه الرواية تتناول أجزاء من التاريخ الحديث للصين من خلال قصّة ثلاثة أجيال من النساء الصينيات. كما تناقش الكاتبة تأثير حكم ماو تسي تونغ على الصين ونضال النساء في ظلّ قيود الثورة الثقافية واستبداد الحزب الشيوعي. بيع من هذه الرواية أكثر من 10 ملايين نسخة وترجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة. تشانغ كرّست عشر سنوات من حياتها لكتابة هذه الرواية وكانت شاهد عيان على الجانب المتوحّش واللاإنساني للشيوعية.
  • الفتاة ذات القرط اللؤلؤي للكاتبة الأمريكية تريسي شيفالييه: تجري أحداث الرواية في هولندا في القرن السابع عشر وتتمحور حول لوحة للرسّام الهولندي المشهور فيرمير. نُشرت الرواية عام 2000 وأصبحت أفضل الكتب مبيعا. تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة ثم تحوّلت إلى فيلم سينمائي.
  • جنرال الجيش الميّت للكاتب الألباني إسماعيل قادري: تأمّلات عن النتائج الكارثية للحروب. بطل الرواية ضابط ايطالي ترسله بلاده لاستعادة جثث الايطاليين الذين قتلوا على الأرض الألبانية أثناء الحرب العالمية الثانية. الرواية تتذكّر بحزن قتلى الحروب وضحاياها، لكنها أيضا تكشف عن براعة وجمال أسلوب هذا الكاتب الذي يُعتبر اليوم احد أهمّ الروائيين في أوربا والعالم.
  • الأزتيك للكاتب الأمريكي غاري جينينغز: رواية مدهشة من روايات الخيال التاريخي. جينينغز درس موضوع روايته بعناية وبإلمام كبير بالتفاصيل. إذا أعجبتك هذه الرواية فاقرأ روايته الأخرى والتي لا تقلّ إمتاعا بعنوان "الرحّالة" عن أسفار ماركوبولو.
  • إسمي أحمر للكاتب التركي اورهان باموك: رواية مثيرة تجمع بين الغموض والرومانسية والفلسفة وتدور أحداثها في اسطنبول في القرن السادس عشر أثناء حكم السلطان العثماني مراد الثالث. تُرجمت الرواية إلى أكثر من 20 لغة ونالت العديد من الجوائز العالمية.
  • أن تقتل عصفورا بريئا للكاتبة الأمريكية نيللي هاربر لي: قصّة جميلة تجري أحداثها في بلدة جنوبية صغيرة مع شخصيّات لا تنسى. نُشرت الرواية عام 1960 وحقّقت نجاحا كبيرا ونالت عليها الكاتبة جائزة بوليتزر لذلك العام.
  • كافكا على الشاطيء للكاتب الياباني هاروكي موراكامي: هذا الكاتب واسع الخيال جدّا وروايته هذه مختلفة كثيرا عن معظم كتب الخيال العلمي. يمكنك أن تتخيّل حدوث أيّ شيء وأنت تقرأ لـ موراكامي.
  • مولد فينوس للكاتبة البريطانية سارة دونانت: تحكي الرواية عن قصّة حبّ تجري أحداثها في فلورنسا في القرن الخامس عشر. الرواية احتلّت قائمة أفضل الروايات مبيعا في بريطانيا عام 2003م.
  • لا تدعني أذهب أبدا للكاتب الياباني كازو ايشيجورو: من الصعب وصف كتابة ايشيجورو، فهو يتلاعب بأدوات السرد التقليدية ويستغلّ فضول القارئ لاستكشاف ما سيحدث لاحقا. هذه الرواية يمكن تصنيفها ضمن أدب الخيال العلمي لأن أحداثها تجري في المستقبل، مع أنها لا تتضمّن الكثير من الخيال.
  • الإخوة كارامازوف للكاتب الروسي دستويفكسي: رواية كلاسيكية رائعة يستكشف فيها الكاتب دواخل النفس البشرية تحت الظروف الصعبة. دستويفكسي يعالج مسائل وجودية قبل أن تظهر الوجودية.
  • فتاة بفستان أزرق كحلي للكاتبة الأمريكية سوزان فريلاند: رواية تاريخية قويّة تتضمّن 8 حكايات تروي فيها الكاتبة قصّة أستاذ جامعي يدعو احد زملائه إلى بيته ليريه لوحة ضائعة لـ فيرمير بنفس الاسم تصوّر امرأة شابّة تنظر عبر نافذة وترتدي ثوبا ازرق كحلياً. معظم الحكايات في الرواية مجلّلة بالحزن والتوق، وصورة الفتاة تمثّل شيئا ما مفقودا أو لا يمكن بلوغه.
  • حضرة المحترم للكاتب المصري نجيب محفوظ: رواية رائعة تتحدّث عن مساوئ البيروقراطية كما يجسّدها رجل يضحّي بكلّ فرصه في أن يعيش حياة طبيعية وسعيدة ويركّز كلّ اهتمامه على الوظيفة والترقية. مع الأيّام يتحوّل اهتمام الرجل بالسلطة والمكانة الاجتماعية إلى هاجس فينتظر موت رئيسه ليصعد السلّم ويجلس مكانه. وينتهي به الأمر في عالم الغانيات والأشرار ويدرك متأخّرا بأن حياته لم يكن لها معنى أو هدف.
  • الخلق للكاتب الأمريكي غور فيدال: يتتبّع الكاتب في هذه الرواية خطى دبلوماسي فارسيّ متخيّل من الحقبة الإخمينية يُدعى سايروس "أو قوروش" يلتقي الفلاسفة الكبار في ذلك الوقت، من سقراط إلى زارادشت ومن بوذا إلى كونفوشيوس ولاو تسو وغيرهم. .
  • النمر الأبيض للكاتب الهندي ارافيند ادياغا: رواية ساخرة أثارت كثيرا من الجدل بتسليطها الضوء على جوانب مظلمة من تاريخ الهند الحديث. الكاتب يصوّر الهند كمجتمع يهيمن عليه الفساد والتمييز والعبودية. ورغم أن ارافيند فاز بجائزة البوكر على هذه الرواية، إلا أنها أثارت عليه حنق الهنود وسخطهم.
  • بيرسيبوليس للكاتبة الإيرانية مرجانة ساترابي: سرد جميل لحكايات من زمن الثورة الإيرانية. كما تروي الكاتبة قصّة مغادرتها القسرية إلى خارج البلاد بعد الثورة ومن ثمّ عودتها إلى إيران بعد سنوات طويلة في المنفى. ساترابي تتناول في هذا الكتاب تاريخ إيران الحديث بأسلوب مؤثّر وساخر.

  • Credits
    modernlibrary.com
    quora.com

    الأحد، مارس 04، 2012

    رسالة حبّ إلى لوحة

    بعض اللوحات ترفض أن تبقى ساكنة على الحائط. الأشخاص فيها ينزلقون إلى خارج الإطار، يلغون اللحظة الثابتة في الصورة ويدفعوننا إلى تخيّل أحوالهم وقصص حياتهم.
    وعلى غرار رواية ايريس موردوك عن لوحة تيشيان الحبّ المقدس والحبّ الدنيوي، ورواية تريسي شيفالييه عن لوحة فيرمير الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، تتتبّع مؤرّخة الفنّ كارولا هيكس في كتابها فتاة بفستان اخضر، تاريخ إحدى أكثر اللوحات في العالم شهرة وغموضا.
    وهيكس تستخدم مهارتها في الطبّ الشرعي في محاولة لفكّ غموض هذه اللوحة وتروي كيف أنها نجت، طوال أكثر من أربعة قرون، من الحرائق والمعارك والرحلات البحرية الخطرة. كما تتحدّث عن دور اللوحة بوصفها مرآة تعكس ثقافة وتاريخ الزمن الذي ظهرت فيه.
    بورتريه الزوجين ارنولفيني للرسّام الهولندي يان فان آيك يحيّر كلّ من يراه. الخبراء والعامّة، على حدّ سواء، يتساءلون عن معنى هذا الجوهرة المؤرّقة من فنّ القرون الوسطى. الزوجان الغامضان في اللوحة يبدو أنهما ينقلان لنا رسالة من وراء القرون. لكن ما هي؟ هل اللوحة احتفال بالزواج أو الحمل؟ محاولة لإحياء ذكرى زوجة شابّة توفّيت أثناء ولادتها لطفلها؟ بيان عن الموضة في ذلك الزمان؟ أم أنها رمز للمكانة أو الوجاهة الاجتماعية للرجل والمرأة الظاهرين فيها؟
    الزوجان ارنولفيني كان لهما حياة أخرى حافلة بالأحداث في الخيال. فقد كانا دائما موضوعا لسجالات النقّاد وسخرية رسّامي الكاريكاتير. احد الكتّاب افترض أن الفتاة ذات المظهر الرقيق تخبّئ خلف طيّات ثوبها طفلا. وقال آخر إن اللوحة ربّما تتحدّث عن زواج بالإكراه. وكانت آخر مرّة ظهرت فيها اللوحة في المسلسل المعروف زوجات يائسات.
    كارولا هيكس تلخّص هذا التاريخ اللزج للوحة، ولكنها لا تضيف إليه الشيء الكثير. غرضها في الأساس هو أن تتحقّق من مضامين اللوحة، وتدقّق في ديكورها الذي رسمه الفنّان بدقّة فائقة. كما ترصد المؤلّفة مسار اللوحة خلال أربعمائة عام انتقلت خلالها بين عدد من البيوت المالكة الأوروبية ونُهبت كغنيمة حرب، قبل أن تصل أخيرا إلى ملاذها الآمن بالقرب من ساحة الطرف الأغرّ في لندن.
    تقول هيكس: الفنّ بحاجة إلى مال. كما انه يتبع السلطة. ولهذا السبب سرعان ما أصبحت لوحة فان آيك لعبة ملكية. في البداية، كانت اللوحة جزءا من تراث عائلة هابسبيرغ. ثم وقعت في يد فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي كان يفضّل هيرونيموس بوش على فان آيك.
    سليل فيليب، أي كارلوس الثالث، وضع اللوحة في مخزن مهجور. لكنّها انتُشلت في ما بعد، أو على الأصح اشتُريت من قبل أحد جنود ويلينغتون بعد معركة فيتوريا عام 1813.
    وبهذه الطريقة جُلبت اللوحة إلى لندن. وقد ابتاعها الناشيونال غاليري، الوليد آنذاك؛ أي عام 1842م، بمبلغ ستّمائة جنيه، وهو سعر زهيد نسبيّا.
    ومن هناك ترسّخت شهرة اللوحة بعد أن احتفى بها الرسّامون ما قبل الرافائيليين. ولم يمضِ وقت كثير حتى دخلت اللوحة حيّز الوعي الفنّي الأوسع.
    الكاتبة تنقل الحقائق المعروفة كما هي. لكنّها لا تقدّم كشوفا أو تفسيرات جديدة. كما أنها لا تشير إلى السبب الذي جعلها تختار هذه اللوحة بالذات لكتابها، ولا ما الذي تعنيه لها اللوحة وما الذي يجعلها عملا أيقونيّا.
    ماذا عن الزوجين ارنولفيني؟ ما هو سرّ تقطيب الرجل الذي تشبه ملامحه ملامح فلاديمير بوتين؟ من هم ضيوف الزوجين الذين نلمح صورهم منعكسة في المرآة على الحائط الخلفي؟ وما سرّ وجود سرير في غرفة الاستقبال؟
    من الواضح أن كارولا هيكس تعشق هذه اللوحة كثيرا. ويصحّ اعتبار كتابها هذا رسالة حبّ إلى اللوحة. لكنّ المؤسف أن المؤلّفة رحلت عنّا في سنّ صغيرة نسبيّا وقبل أن تكمل كتابها الذي يبدو انه لم يُطبخ تماما.
    وهذا الكتاب، في النهاية، هو تذكير لنا بأننا لا نعيش داخل بيت هذا التاجر، أي ارنولفيني، الذي يشبه عالم بيت الدمية الذي لا يمكن بلوغه أو سبر أسراره.
    صحيح أن الكتاب يتضمّن الكثير عن التاريخ اللاحق للوحة. لكنه لا يتحدّث سوى عن القليل جدّا من أسرارها الداخلية. "مترجم".

    الاثنين، أغسطس 08، 2011

    مشاهد من الحياة اليومية


  • وليام ميريت تشيس، ساعات خاملة، 1894
    بين عامي 1891 و 1902، عثر وليام تشيس على مواضيع جديدة للوحاته خارج الأبواب وفي الهواء الطلق في ساوثهامبتون بـ لونغ آيلاند، حيث كان يشرف على المدرسة الصيفية للفنون في شينيكوك هيلز.
    في هذا المشهد الذي التقطه من فوق الكثبان الرملية الوعرة على طول خليج شينيكوك، رسم الفنّان أربعة نماذج متكرّرة: امرأة تعتمر قلنسوة حمراء "ربّما كانت زوجته"، واثنتين من بناته، بالإضافة إلى إحدى شقيقات زوجته. وتشيس يدعو الناظر لملء الأشكال غير الواضحة ومحاولة إكمال القصّة المتضمّنة في اللوحة.
    "ساعات خاملة" هي لوحة نموذجية عن سكّان الحواضر الذين يستمتعون بخلواتهم في الضواحي. كما أن فيها تلميحا إلى ازدياد أوقات الفراغ نتيجة ازدياد وتيرة التحضير والتصنيع. في ذلك الوقت أصبحت النساء يشكّلن غالبية روّاد المنتجعات الصيفية. وكنّ يفضّلن قضاء وقت التسلية على الشطان الآمنة، بينما كان أزواجهن منصرفين للاهتمام بأعمالهم في المدينة.
    السرد في هذه الصورة بسيط مثل بساطة ملاحظة منسوبة إلى هنري جيمس قال فيها: "ظهيرة صيفية. بالنسبة إليّ هاتان الكلمتان هما الأكثر جمالا في اللغة الإنجليزية".

  • ❉ ❉ ❉


  • جون سينغر سارجنت، في حدائق لوكسمبور، 1879
    في هذا المنظر، المقدّم بحرّية والعفوي إلى حدّ ما، يرسم جون سارجنت الحوض الكبير في قلب حدائق لوكسمبور في باريس.
    ونظرا إلى انه كان متأثّرا بأسلوب الانطباعيين الفرنسيين، فإن الرسّام يلتقط منظر الشفق في صيف باريس التي تظلّلها سماء برّاقة بلون الخزامى.
    الوتيرة البطيئة لحركة الزوّار الذين يأتون إلى هذا المكان عادة يمثّلها زوجان أنيقان يمشيان باتجاه المنتزه الواقع على الضفّة اليسرى للنهر. ووضعية المرأة والرجل لا تشي بأيّ قصّة واضحة.
    الحياة الحضرية الحديثة كانت موضوعا جوهريا ومثاليا للانطباعيين الذين كانوا يجسّدون في أعمالهم الطبيعة الديناميكية والمتغيّرة لعصرهم.
    كانت باريس آنذاك قد شهدت تحوّلات كبيرة في ما عُرف بعهد الإمبراطورية الثانية (1852-1870). فقد أصبحت هذه المدينة أكثر اتساعا وأكثر حداثة. كما بُني المزيد من حدائقها وأعيد تشكيل البعض الآخر استجابة لازدياد عدد قاطنيها ونموّ وتوسّع خدماتها ومرافقها.

  • ❉ ❉ ❉


  • توماس ويلمر ديونغ، قراءة، 1897
    استجابة لذوق جامعي الفنّ الأثرياء في مطلع القرن الماضي، وكانوا غالبا من الذكور، كان رسّامون أمريكيون كثر يصوّرون النساء ككائنات بديعة ومرتبطة بالبحث عن القيم الجمالية. بعض صورهم كانت تلمّح إلى المبادئ والأفكار الرائجة التي كان يتبنّاها الدكتور وير ميتشل، وهو طبيب أعصاب متنفّذ من فيلادلفيا، كان يصف العزلة والسكون المطلق كعلاج لاضطرابات الجهاز العصبيّ عند النساء.
    وتوماس ديونغ يرسم في لوحته هنا امرأتين ترتديان ملابس أنيقة في إحدى غرف منزله الصيفي الجديد في ولاية نيوهامبشاير.
    وتبدو المرأتان محصورتين ضمن جدران غرفة بلا نوافذ وتجلسان إلى طاولة ضخمة، بينما تحدّق إحداهما في كتاب وتمسك الأخرى بغصن زهرة.
    وقد اظهر فحص بالأشعّة اُجري على اللوحة في ما بعد أن ديونغ رسم المرأة إلى اليسار وهي تومئ لرفيقتها بينما تردّ عليها الأخرى بنظرة مبهمة.
    لكنه لاحقا عدّل في اللوحة كي يضفي بعض الغموض على عنصر السرد فيها وكأنه يدعو الناظر إلى التأمّل في سلبية ولامبالاة المرأتين ومغزى وجودهما في هذا المكان الخانق.

  • ❉ ❉ ❉


  • وليام باكستون، أوراق الشاي، 1909
    في صالون بلا نوافذ يغمره ضوء ناعم وأجواء حالمة، تُمضي سيّدتان أنيقتان وقتهما بعمل القليل جدّا، أو أنهما لا تفعلان شيئا على الإطلاق.
    وليام باكستون يلمّح إلى قصّة ما. لكنّه يطلب من الناظر أن يبتكرها وكأنه يحاكي غموض لوحات فيرمير الذي كان معجبا به.
    كان باكستون يميل في الغالب إلى تصوير نساء أنيقات، مثل زوجات وبنات رُعاته، في أوقات فراغهنّ داخل منازل بوسطن الجميلة. وهنّ يظهرن في هذه اللوحات بمظهر المحافظات على الثقافة والتقاليد لأنهنّ هنّ من يزيّنّ المنازل ويشغلنها.
    ومن خلال مساواة النساء بالأشياء الجمالية الثمينة التي تحيط بهن، كان باكستون يؤكد على أفكار الروائي هنري جيمس الذي كان يصوّر النساء كعنصر مكمّل لعناصر الثقافة المحلية الأخرى.
    أعمال باكستون تتفق أيضا مع آراء عالم الاجتماع ثورستين فيبلين، الذي ضمّن كتابه "نظرية الطبقة المرفّهة" ملاحظة قال فيها إن وجود المرأة الفارغة دليل يؤشّر على ثراء أبيها أو زوجها.

  • ❉ ❉ ❉


  • وليام غلاكنز، المتسوّقون، 1908
    على غرار الشركات التي كانت تعيد تعريف الزراعة والصناعة الأميركية في أواخر القرن التاسع عشر، بادرت المتاجر إلى إعادة تعريف مفهوم التسويق تجاوبا مع الفكرة.
    هذا المشهد ربّما تمّ رسمه في مركز تجاري ضخم في نيويورك حيث كان غلاكنز يعيش مع عائلته. وكما يعرض المتجر بضاعته، رسم الفنان عدّة زبائن حسني الهندام داخل المتجر. زوجته، التي تظهر في الوسط، تبدو منهمكة في تفحّص الملابس المعروضة. وزوجة زميل الرسّام، إلى اليمين، توجّه نظراتها إلى المشاهد.
    كثرة المتسوّقين تشير إلى وفرة منتجات العصر المادّية وتنوّع الاتجاهات التسويقية المتطوّرة.
    كان من عادة نساء الطبقة المتوسطة أن يتوجّهن إلى المخازن العصرية لشراء ما يحتجنه من لوازم وضرورات.
    العلامة الفارقة في اللوحة هي أناقة لباس النساء المتسوّقات. وهذا العنصر يشير إلى واقعية الرسّام وفهمه لطبيعة التكوين الاجتماعي في عصره.

  • ❉ ❉ ❉


  • جون سينغر سارجنت، شارع في فينيسيا، 1882
    اشتُهرت فينيسيا بغرائبيّتها وعزلتها عن التطورّات الحديثة. كما أن وتيرة الحياة البطيئة فيها كانت تروق للسيّاح الذين كانوا يبحثون عن مهرب من ضجيج وصخب الحياة في أوربّا أواخر القرن التاسع عشر.
    وقد أسهمت أزقّة المدينة المائية وبنيتها ومعمارها المحكم في تعزيز التجارب الجديدة للرسّامين. أصبح هؤلاء يهتمّون بتصوير اللون والضوء الزائل بدلا من دراسة الفنّ في العصور القديمة واقتفاء اثر الرسّامين الأوائل، على نحو ما كان يفعله الفنّانون الذين طالما اجتذبتهم المدينة في أوقات مبكّرة.
    في هذه اللوحة يمسك سارجنت بألوان فينيسيا الباردة والمظلمة وبالمنظور الغريب لساحاتها المنعزلة وممرّاتها الضيقة. وهو يصوّر لمحة عابرة لشخصين، رجل وامرأة، وهما يخرجان من متجر للنبيذ في شارع جانبي رثّ ومعتم.
    ربّما كان سارجنت متأثّرا بالتصوير الفوتوغرافي، من حيث انه ركّز على رؤية لحظية. ومن الملاحظ انه قام بطمس المباني المحصورة مُحيلا الساحة الصغيرة إلى مجرّد شريحة من جدار يضيئه نور الشمس. "مترجم".
  • الاثنين، يونيو 20، 2011

    أوليمبيا و مانيه

    بلوحة واحدة وصادمة تصوّر مومساً في حالة استرخاء، دشّن إدوار مانيه العالم العاري والجريء للفنّ الحديث.
    لم تكن مثل أيّ سيّدة متخففة تمّ رسمها من قبل. لم تكون حوّاء في الجنّة أو فينوس على سرير من الأمواج. ولم تكن إلهة أو ملاكا أو امرأة تغتسل بخجل وتراها العين على حين غرّة.
    كانت امرأة معاصرة، لا تبدو خجولة أو مغطّاة، كما أنها ليست رمزا أو استعارة لشيء. كان اسمها فيكتورين موران. لكن إدوار مانيه كان يسمّيها اوليمبيا. وقد غيّرت كلّ شيء.
    للوهلة الأولى، قد يتساءل المرء عن سبب كلّ هذه الضجّة. مانيه كان يعتبر نفسه رسّام طبيعة صامتة. وربّما هذا هو السبب في أن أوليمبيا تبدو بمثل هذا الغموض الصامت. هي تتمدّد بهدوء، بدون ثياب وبشكل صارخ، لكنّها ترتدي زينة كلاسيكية. فهناك وشاح أسود حول رقبتها وفردة نعال واحدة في قدمها اليسرى. الفردة الأخرى انزلقت بلا مبالاة. في أذنها زهرة قرنفل. يدها مثبّتة فوق حضنها. الزوايا الخارجية لفمها مرفوعة قليلا وكأنها على وشك الابتسام أو السخرية. عيناها ناعستان. لكنّ وضعية جلوسها متنبّهة بما لا يدع مجالا للشكّ. قارن بينها وبين أي أيّ حورية ساخنة ومبتذلة من عصر الباروك او الروكوكو. وسيتبيّن لك أنها رزينة بشكل ايجابي.
    لكنّ هناك شيئا مختلفا في هذه الأنثى. فمن ناحية، هي لا تفعل شيئا. كما أنها تتجاهل باقة الورد التي تقدّمها لها خادمتها السمراء . وقطّتها الصغيرة، خاصّة ذيلها الموحي، تبرز من سفح سريرها. إنها لا تستحمّ ولا تحلم ولا تخلع ملابسها. ونحن في صحبتها، ندرك أنها امرأة متجردة وفي السرير، لنفس السبب الذي تجلس فيه أيّ امرأة متجردة في السرير. وهي تحيّي الناظر بنظرة نصفها دعوة ونصفها جرأة. إنها عشيقة، أو على الأرجح بغيّ. لكنّها يقيناً ليست شبحا اسمه الربيع.
    ربّما كان مانيه أوّل فنّان صدم العالم. ونفوذه يتعدّى السمعة السيّئة التي ألصقت به. فهو كان مهذّبا وأنيقا ونبيلا. وقد روّعه ردّ الفعل القويّ على "أوليمبيا" بنفس القدر الذي روّعت فيه اللوحة النقّاد. كان مانيه رسّاما تدرّب على التقاليد الأكاديمية الرصينة. ولكن اندفاعه جعله غير متقيّد بها. كان يستلهم الواقعية الجريئة لـ غوستاف كوربيه والظلمة الأخروية للرسّامين الإسبان الكبار أمثال فيلاسكيز وغويا. وحتما، انجذب الشابّ مانيه إلى المواضيع الأقلّ تقليدية.
    صحيح أن أسلوبه لم يكن يرتاح لرسم الملاك السمين. لكن هذا لا يعني أن مانيه كان ينظر إلى نفسه على انه لا منتمٍ. فقد كان يؤكّد على انه يرسم ببساطة ما كان يراه. وكان يعرض أعماله على الناس لأنه كان يبحث عن القبول. وما حصل عليه كان المزيد من النقد اللاذع، والمزيد من الشهرة والقوّة الدائمة التي ما كان ليحلم بها أبدا.
    عندما عُرضت "أوليمبيا" في صالون باريس عام 1865 أشعلت فضيحة في أوساط الفنّ والأدب لم يسبق لها مثيل. انتزع النقّاد اللوحة من مكانها. والجمهور فعل تقريبا نفس الشيء.
    انطوان بروست أشار في وقت لاحق إلى أنه "إن لم تكن اللوحة قد دُمرّت، فإن سبب ذلك كان الاحتياطات التي اتخذتها إدارة المعرض".
    الأفكار الفيكتورية لم تكن مقتصرة على البريطانيين فقط. ولم يجرؤ فنّان جادّ على أن يرسم امرأة بمثل تلك السمعة السيّئة دون أن يلفّها على الأقلّ بذلك الرداء الغريب الذي يُلفّ به الحريم عادة. ومع ذلك كان هناك من نظر إلى اوليمبيا على أنها محاكاة ساخرة للوحة تيشيان "فينوس أوربينو". لكنها لم تكن كذلك. فـ مانيه لم يعرض فقط مجرّد بغيّ على أعين العالم. بل كانت لديه الجرأة لعبادتها أيضا. وكان هذا نوعا من التجديف. لكن من سوء حظّ منتقدي مانيه أن الصورة كانت أيضا رائعة.
    القصّة تبدأ مع المرأة نفسها، مع الوجه الفتّان لـ فيكتورين موران. كانت موران موديل مانيه المفضّلة منذ وقت طويل. وكانت ملهمته ورفيقته وموضوعا للعديد من لوحاته. ولأكثر من عشر سنوات ابتكرها مانيه مرارا وتكرارا، مرّة كمصارعة ثيران ذات وجه صبياني، ومرّة كموسيقية شوارع، وثالثة كسيّدة كريمة ترتدي جلبابا ورديا.
    في العام 1863، وهو العام نفسه الذي تزوّج فيه زوجته سوزان، رسم مانيه لوحتين عاريتين لـ موران، أشهرهما غداء على العشب، التي عرضها في الصالون، لكنّها رُفضت. فمنظر موران العارية في رحلة نزهة اعتُبر منظرا غريبا وغير لائق.


    وربّما بسبب غضبه من ردود الفعل على اللوحة، انتظر مانيه سنتين كي يعرض العارية الأخرى. غير أن اوليمبيا تسبّبت في إحداث ضجّة اكبر .
    ما الذي اغضب الناس في اللوحة؟ قد يكون السبب أنها بدت غير متأثّرة ولا مبالية. فهي تحدّق بهدوء في الناظر وتضعه في الدور غير السهل لزبون يقف على باب بغيّ مغرية.
    مانيه كان يسكن عالما كان يفترض فيه العامّة أن وظيفة المرأة هي التغذية وإشاعة الراحة وأن تكون مصدر إلهام أو إثارة، أي كلّ ما يتعلّق بدورها ومكانتها في المجتمع والأسرة.
    لكن أوليمبيا، لسهولة الوصول إليها، تبدو مكتفية ذاتيا بشكل صارخ. ولا يوجد فيها شيء متواضع. بالنسبة لهواة جمع الفنّ والنساء، الذين يعتبرون الصنفين ممتلكات لهم، فإن اوليمبيا جرّدتهم من أوهامهم. جسدها قد نضج وحان قطافه. لكنّ كلّ شيء آخر، بما في ذلك المعنى الكامن وراء تلك الابتسامة الغامضة، تحتفظ به لنفسها.
    من بين الأعمال العظيمة في تاريخ الفنّ، لا يوجد سوى القليل من تلك اللوحات التي تظهر فيها امرأة وهي تصوّب نظراتها المتحدّية وغير المساوِمة بشكل مباشر. الموناليزا تنظر بخجل إلى يسارها. وكذلك فتاة فيرمير ذات العقد اللؤلؤي. وفينوس بوتيتشيللي تنظر بطريقة حالمة إلى منتصف المسافة بينما تغرق في أفكارها الخاصّة. في حين أن مدام إكس لـ سارجنت تشيح برأسها بعيدا تماما. وعشرات المادونات تنظرن إلى الملائكة فوقهن بطريقة مفعمة بالنشوة، أو إلى أطفالهن أسفل منهنّ بحنان.
    عندما تكون المرأة في مواجهة الناظر مباشرة في لوحة، فيُحتمل أن تكون ملكة وليست محظيّة. أوليمبيا تواجهنا عيناً لِعَين. إنها طريقة مبتكرة ومربكة. وهي، إلى حدّ ما، انتقام من طرف الفنّان.
    النقّاد الذين لم يعتادوا على قلب الطاولات في وجوههم سارعوا إلى الرفض. فقد كرهوا الموضوع، وكرهوا الأسلوب المسطّح والبدائي، وكرهوا كلّ شيء في اللوحة. كتب احدهم يقول: ما هذه الجارية ذات البطن الأصفر، هذه الموديل الخسيسة، من التقطها ومن تمثّل؟" وقال آخر: هذا ابتذال لا يُصدّق". وأعلن ثالث: الفنّ الوضيع لا يستحقّ حتى اللوم".
    مانيه أحسّ بالدمار. اشتكى لصديقه الشاعر بودلير قائلا: الإهانات تنهال عليّ كالمطر". لكن بينما نظر الكثيرون إلى اوليمبيا كرمز للفساد والتفسّخ، رأى فيها آخرون رمزا للانتصار. اميل زولا اعتبرها تحفة مانيه والتعبير المتميّز عن موهبته القويّة".
    وسأل مانيه نفسه: لماذا يتعيّن عليّ أن أكذب، لماذا لا أقول الحقيقة؟" لكن الحقيقة جاءت بكلفة عالية. ورغم أنه واصل الرسم وعرض لوحاته بقيّة حياته، إلا أنه ظلّ هدفا لهجوم وازدراء العامّة. لم يكن مانيه يسعى للإساءة. كان ببساطة يرسم بأفضل طريقة كان يعرفها. تقنياته المبتكرة واختياراته غير التقليدية لمواضيعه أنتجت في نهاية المطاف جيلا جديدا من الفنّانين.
    وعلى الرغم من انه رفض أن يُصَوّر نفسه كمعلّم، إلا أن من أتوا بعده أشادوا به باعتباره الأب الروحي للانطباعية. وكان في طليعة الرسّامين الذين مجّدوا، ليس فقط الشخصيات الأسطورية، وإنما أيضا وهَج شاربي الابسنث والبغايا.
    أثناء حياة الرسّام، لم تنل أوليمبيا أبدا الثناء الذي تستحقّه. لكنها ظلّت تكبر مع الأيّام. وبعد سنوات من وفاة مانيه، عرض كلود مونيه اللوحة على الحكومة الفرنسية، وأصبحت منذ ذلك الحين منظرا ثابتا في المتحف الباريسي. كان مانيه سيُسرّ لو علم بذلك. وكان يقول: الزمن نفسه يعمل على اللوحات بصورة تدريجية".
    يحتاج المرء فقط لأن يتشمّس في الجمال المُسْكر لـ أوليمبيا، والظلال بين أصابعها، ومنحنيات بطنها، وتباينات الضوء والظلام، كي يفهم عمق موهبة مانيه. وعندما ننظر بشكل أعمق إلى تعقيدات وتناقضات وجمال ووحشية عمله، فإن عبقريته الحقيقية سرعان ما تظهر. لم يكن الفنّ بالنسبة لـ مانيه قصّة عن الآلهة أو القدّيسين أو الملوك. كان الفنّ عنده عن الحياة الحقيقية والعادية للناس.
    لقد اظهر مانيه إلى الضوء العالم الخفيّ للحياة اليومية وجعله ملحوظا. وتعاطفه يبدو جليّا في كلّ ضربة فرشاة وفي كلّ خط في هذه اللوحة. اوليمبيا ربّما تحاول أن تحجب قلبها. لكننا، نحن الذين لا حيلة لنا، ما نزال واقعين تحت تأثير سحرها وغموضها. .

    Credits
    musee-orsay.fr
    thecrimson.com

    الأحد، يونيو 05، 2011

    أناقة متكلّفة


    إذا صحّ أن لكلّ رسّام علامة أو سمة تميّزه عن سائر الفنّانين، فإن العلامة الفارقة للرسّام الايطالي انيولو برونزينو هي اهتمامه الكبير بإبراز جمال وأناقة أيدي الأشخاص الذين يرسمهم. جمال الأيدي ودقّة الأصابع في لوحات هذا الرسّام هي ممّا يسترعي الانتباه والملاحظة. هذا الملمح الجمالي الخاصّ لن تراه في أعمال فيرمير ولا رافائيل ولا حتى دافنشي، برغم معرفة هؤلاء الأكيدة بالتشريح وبراعتهم في تصوير تفاصيل الجسد الإنساني في لوحاتهم.
    تأمّل مثلا لوحة برونزينو التي فوق. المرأة التي تصوّرها اللوحة هي شاعرة ايطالية مشهورة عاشت في ذلك العصر واسمها لورا باتيفيري. كانت شخصية عامّة ومحترمة بسبب تديّنها وثقافتها. كما كانت صديقة للرسّام وكان يجمعهما معا حبّ الأدب والشعر. برونزينو نفسه كان شاعرا وقد اشتهر بمزاوجته بين السوناتات التي يقتفي فيها آثار بترارك وبين القوافي الهزلية التي كانت سائدة في ذلك العصر.
    تعابير المرأة في اللوحة تبدو باردة، وقد تعكس قدرا من اللامبالاة والانفصال عن ما حولها. لكنّ نظراتها تشي بالثقة والاعتداد بالنفس. ربّما كان السبب هو انتماؤها لواحدة من اعرق الأسر في فلورنسا. باتيفيري تبدو في اللوحة وهي تمسك بكتاب يضمّ أشعار بترارك، بينما تشيح بوجهها بعيدا عن الناظر. أنفها المدبّب وعنقها الطويل ونظراتها القويّة تذكّرنا بالهيئة التي يظهر عليها الشاعر دانتي في الرسم.
    شخصيّة هذه المرأة أكثر غموضا ممّا يشي به مظهرها الخارجي. فقد كانت في زمانها تجسيدا للجمال النبيل والطهراني.
    الكثير من التفاصيل في هذا البورتريه تجذب العين وتسترعي الاهتمام: الخمار الناعم المنسدل على رأس المرأة وصدرها، السلسلة الذهبية، الكتاب..
    لكن ما يلفت الانتباه أكثر من غيره في الصورة هو الطريقة الأنيقة التي رسم بها برونزينو تقاطيع يدي المرأة وأصابعها التي تمسك بالكتاب.


    الطابع التمثالي للوحة هو ملمح آخر يميّز معظم أعمال برونزينو الأخرى بالنظر إلى عشقه لفنّ النحت وإيمانه بوجود علاقة وثيقة وقديمة بين الشعر والنحت والرسم. ثم هناك أيضا حقيقة أن برونزينو كان معاصرا لأهمّ نحّاتَين في زمانه وهما ميكيل انجيلو ولوكا مارتيني.
    هاجس برونزينو الدائم كان رسم الأيدي والأصابع بطريقة مفرطة في الأناقة والجمال. وكان يتعمّد اختيار ألوان داكنة للخلفية ويتحكّم في نسب الضوء والظل كي يبرز جمال الأطراف وأناقتها. وهو لم يشذّ عن طريقته هذه حتى وهو يرسم لوحة للشاعر دانتي ولعدد آخر من أصدقائه الشعراء والرسّامين والنحّاتين.
    لكن لماذا كان برونزينو يفعل هذا؟ قد يكون السبب هو انه كان شاعرا. والشاعر أحيانا يميل إلى تأكيد جمال الأشياء ويرى ما لا يراه غيره. لكن هناك سببا آخر لا يقلّ أهمية. فـ برونزينو كان منتميا لمدرسة في الفنّ عُرفت باسم الماناريزم. وكان أتباعها من الرسّامين والنحّاتين يميلون إلى المبالغة في تطويل الأشكال وتصوير الأطراف بطريقة لا تخلو من الأناقة المتكلّفة والجمال المبالغ فيه. كان هؤلاء، وفي طليعتهم برونزينو، متأثّرين بالواقعية الصارمة وبالتفاصيل الدقيقة التي كانت تطبع أعمال ميكيل انجيلو ودافنشي ورافائيل.
    وقد أصبحت أعمال برونزينو محطّ أنظار النخب الارستقراطية في فلورنسا. كما اختارته عائلة ميديتشي الحاكمة رسّاما للبلاط.
    بعض النقّاد اليوم يعتبرون بورتريه لورا باتيفيري من بين أفضل البورتريهات النسائية التي رُسمت في كافّة العصور. وفيه يبرهن برونزينو على ميله للغموض وعلى تدريبه العالي وبراعته الفنّية التي يترجمها من خلال نسيج الملابس ولمعان الألوان.


    الأربعاء، ديسمبر 22، 2010

    ميغرين: مزوّر اللوحات الأشهر

    وُلد هان فان ميغرين في هولندا عام 1889 وكان مفتونا بالرسم منذ طفولته. كان من عادته أن ينفق كلّ ما في جيبه من نقود على شراء مستلزمات وعدّة الرسم. وقد كوفيء وهو صبيّ على موهبته الفنّية بمنحه ميدالية ذهبية بعد انتهائه من رسم ديكور إحدى الكنائس.
    وفي احد الأيّام رأته زوجته وهو يستنسخ لوحة كي يبيعها على أساس أنها أصلية. وقد ثنته الزوجة عن ذلك العمل. لكن تلك الحادثة كانت أوّل مؤشّر على اهتمام ميغرين الجدّي بالتزوير.
    وانتقل ميغرين وزوجته بعد ذلك إلى لاهاي حيث درس فيها ونال درجة البكالوريوس في الفنّ عام 1914م. وخلال العشر سنوات التالية كان يرسم ويبيع لوحاته بأثمان معقولة. وكانت رسوماته وقتها عبارة عن مناظر داخلية ولوحات دينية وأحيانا بورتريهات.
    وكان اتجاهه السياسي كاثوليكيا ومعاديا لليهود ومتحفّظا إلى درجة الفاشيّة. كما كان معارضا لكافّة الاتجاهات الحديثة في الفنّ. ورغم انه لم يكن غير ناجح كفنّان، إلا أن النقّاد كانوا سلبيين تجاه أعماله. لذا نفر منهم وأصبح يشعر بالمرارة تجاههم وتجاه مروّجي الرسم الحديث.
    وبعد فترة أدرك ميغرين انه لن يحقّق كرسّام ما كان يصبو إليه من نجاح ومجد. لذا قرّر أن يحترف تزوير اللوحات الفنّية. والغريب أن مهنته الجديدة جلبت له قدرا كبيرا من الثروة والشهرة.
    واليوم يقترن اسمه بشكل وثيق باسم يوهانس فيرمير الرسّام الهولندي الذي كان ميغرين يقلّد لوحاته.
    لكن لماذا فيرمير بالذات؟ السبب هو انه لم يكن يُعرف الكثير عن حياة فيرمير. فتاريخ مولده ووفاته على وجه الدقّة ما يزال مجهولا. ثم إن فيرمير لم يحصل في زمانه على التقدير الذي كان يستحقّه. وهناك سبب آخر وهو أن الناس مختلفون حول عدد مجموعته الكاملة من اللوحات. وظلّ العدد يتغيّر باستمرار إلى أن استقرّ في مطلع القرن الماضي عند خمس وثلاثين لوحة.
    كان ميغرين يدرك أن الناس في شوق لرؤية المزيد من لوحات فيرمير المجهولة. وكانت جميع لوحاته لا تحمل تواريخ. وهذا بالضبط هو حلم أيّ مزور. وصور فيرمير المشهورة والتي رسمها في ستّينات القرن السابع عشر، مثل الفتاة ذات القرط اللؤلؤي وصانعة الدانتيل وامرأة تمسك بميزان، كانت تتضمّن علامة فيرمير الفارقة وأسلوبه المميّز والذي يحمل بصمة معلّم قديم.
    كانت مهمّة ميغرين فعّالة دون شك. وقد أخذ دروسا ساعدته على أن ينجح في أولى لوحاته المزوّرة والمنسوبة لـ فيرمير بعنوان سيّدة ورجل أمام ارغن. وتلقّى على اللوحة ثناءً فوريّا من مؤرّخ الفنّ البروفيسور ابراهام بريديوس الذي قال عن اللوحة أنها عمل أصيل من أعمال فيرمير.
    في السنوات الأربع التالية، كان ميغرين يعيل نفسه من خلال رسم البورتريهات. لكنه كان أيضا يدرس تقنيّات الطلاء الذي كان مستخدما في فنّ القرن السابع عشر وأنماط التشقّقات التي عادة ما تظهر بشكل طبيعي على أسطح اللوحات التي تعود لتلك الفترة. وقد تمكّن من إتقان التكنيك الذي وظّفه في عمليات التزوير الكبرى التي أجراها على فيرمير.

    Meegeren paints Christ

    استراتيجية ميغرين من وراء تلك العملية كانت ذكيّة. فقد سمع بعض النقّاد آنذاك يتحدّثون عن احتمال أن يكون فيرمير رسم لوحات دينية في بدايات حياته وأنها قد تظهر في المستقبل وأن فيرمير قد يكون ذهب إلى ايطاليا لدراسة هذا النوع من اللوحات.
    وقد انتهز ميغرين الفرصة وحقّق للنقاد أحلامهم عندما رسم لوحة "المسيح في ايموس" التي يظهر فيها واضحا تأثير كارافاجيو، ومن ثمّ نسبَها إلى فيرمير.
    وزيادة في الإقناع، اخترع ميغرين قصّة عائلة ايطالية فقيرة كانت تحتفظ بتلك اللوحة لأجيال. وزعم أن العائلة رفضت الكشف عن هويّتها. ثم قدّم اللوحة إلى احد متعهدّي الفنّ الهولنديين. وعندما رآها الناقد ابراهام بريديوس سقط في حبّها على الفور ونشر خبرا عن "هذه اللحظة الرائعة في حياة محبّ للفنّ"، كما كتب في إحدى المجلات. وأضاف: إن أمامنا لوحة تقول لنا بوضوح إن كل إنش فيها ينطق باسم فيرمير. إننا لا يمكن أن نجد في أيّ لوحة من لوحات المعلّم العظيم مثل هذه العاطفة والفهم العميق لقصّة الإنجيل التي لا يمكن أن يعبّر عنها سوى الفنّ الرفيع".
    لكن كانت هناك شكوك حول اللوحة في بعض الأوساط. فقد وصفها احد متعهدّي الفنّ في نيويورك بأنها "تزوير متعفّن". لكن بفضل شهادة بريديوس عن أصالة اللوحة فقد بيعت إلى متحف بـ روتردام لقاء مبلغ مذهل قدره مليونا دولار أمريكي.
    في تلك المرحلة، بدأ ميغرين يشعر بمعنى الثراء، فانغمس في تناول الكحول والمخدّرات وأصبح مدمنا على المورفين. ورغم انه كان يتوق للاعتراف بعمليات التزوير كي يذلّ النقّاد الذين تجاهلوه، إلا انه قرّر أن يزوّر لوحتين أخريين لـ فيرمير أثناء سنوات الحرب.
    لكن لسوء حظّه، تمّ القبض عليه بعد أيّام من نهاية الحرب العالمية الثانية، لا بسبب كونه مزوّرا وإنما بتهمة اخطر هي بيع الكنوز الوطنية الهولندية إلى العدوّ. فقد أخذت إحدى لوحاته المنسوبة كذبا إلى فيرمير طريقها إلى المجموعة الشخصية للزعيم النازي هيرمان غورنغ.
    ولكي ينقذ ميغرين نفسه من احتمال الحكم عليه بالتعامل مع العدوّ النازي، فقد اعترف انه مذنب بالجريمة الأقلّ خطرا، أي التزوير. كما اقرّ بأنه زوّر أربع لوحات حقيقية لـ فيرمير. لكنّ اعترافاته تلك ووجهت بعدم التصديق.
    وقد شُكّلت لجنة للنظر في الأمر. بينما اقترح ميغرين نفسه القيام برسم لوحة جديدة لـ فيرمير وهو ما يزال في السجن بانتظار المحاكمة. واتضح بعد ذلك أن اللوحة رُسمت بنفس اليد التي رسمت اللوحات الأخرى المزوّرة.
    وقد اجتذبت محاكمته وقتها تغطية عالمية واسعة. وصوّر ميغرين نفسه أثناءها كرجل محبّ للرسم، كما وضع اللوم على "النقّاد الخبثاء" الذين أرادوا تدمير مستقبله.
    وفي النهاية حُكم عليه بالسجن سنة واحدة في نوفمبر 1947م. لكن نتيجة لانغماسه في حياة الترف والمجون ومعاناته من مرض القلب، تعرّض ميغرين إلى نوبة قلبية أودت بحياته في ديسمبر من نفس السنة.
    عندما نتمعّن اليوم في اللوحات التي زوّرها ميغرين، فإننا لا يمكن أن نقارنها بلوحات فيرمير، ربّما باستثناء لوحة أو اثنتين. فنوعية الوجوه في هذه اللوحات تذكّر بالصور الفوتوغرافية . كما أن التشريح الدقيق فيها يذكّر أكثر بالتعبيريين الألمان في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وليس بعصر فيرمير.
    إن قصّة ميغرين، بما تتضمّنه من عناصر الغرابة والجشع والتباهي والسذاجة والمهارة الفنّية والخبث وحتى الدعابة، تناولت بعض الإشكاليات التي ما تزال تؤرّق عالم الفنّ إلى اليوم.
    ربّما لم يكن هان فان ميغرين رسّاما عظيما. لكنّه، من خلال ما فعل، جعل الناس يفكّرون بشكل أعمق في الأسئلة التي تتعلّق بماهيّة الفنّ والأسباب التي تدعو الناس إلى تقدير الأعمال الفنّية وتقييمها بشكل صحيح.

    Credits
    en.wikipedia.org